كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً ، قَاتَلَ فِيهَا فِي تِسْعِ سِنِينَ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ ، وَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَايَا ، وَلَمْ يَتَّفِقْ فِي كُلِّهَا قِتَالٌ } فَلْنَذْكُرْ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَرَهَا .
فَفِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ هِجْرَتِهِ لَمْ يَغْزُ ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى فِي الثَّانِيَةِ ، وَأُحُدٌ ثُمَّ بَدْرٍ الصُّغْرَى ، ثُمَّ بَنِي النَّضِيرِ فِي الثَّالِثَةِ ، وَالْخَنْدَقِ فِي الرَّابِعَةِ ، وَذَاتُ الرِّقَاعِ ، ثُمَّ دَوْمَةُ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْخَامِسَةِ ، وَالْحُدَيْبِيَةُ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي السَّادِسَةِ ، وَخَيْبَرَ فِي السَّابِعَةِ ، وَمُؤْتَةَ وَذَاتُ السَّلَاسِلِ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَحُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ فِي الثَّامِنَةِ ، وَتَبُوكُ فِي التَّاسِعَةِ عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الْكُفْرِ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا كَفَرَ بِاَللَّهِ نَبِيٌّ قَطُّ } وَفِي عِصْمَتِهِمْ قَبْلَهَا مِنْ الْمَعَاصِي خِلَافٌ ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ بَعْدَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِالْمُرُوءَةِ ، وَكَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَلَوْ سَهْوًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَأَوَّلُوا الظَّوَاهِرَ الْوَارِدَةَ فِيهَا ، وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ صُدُورَهَا عَنْهُمْ سَهْوًا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ : كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَعَبَّدُ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دِينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ انْتَهَى .
وَصَحَّحَ الْوَاحِدِيُّ الْأَوَّلَ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ ، وَاقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ

صَاحِبِ الْبَيَانِ .
وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَيْ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ ( وَقِيلَ ) كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ ( عَيْنٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ، وَقَائِلُهُ قَالَ : كَانَ الْقَاعِدُونَ حُرَّاسًا لِلْمَدِينَةِ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَعَيُّنِ الْإِجَابَةِ .
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَنْصَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ .
قَالَ شَاعِرُهُمْ : نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا وَقَدْ يَكُونُ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ أَحَاطَ عَدُوٌّ بِالْمُسْلِمِينَ كَالْأَحْزَابِ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِتَعَيُّنِ جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ حَالَانِ ، خِلَافَ مَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ .

وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ
( وَأَمَّا بَعْدَهُ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ ) مُسْتَقِرِّينَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدِينَ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ( فَفَرْضُ كِفَايَةٍ ) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ لَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ ( إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَتَعْبِيرُهُ بِالسُّقُوطِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَقَوْلُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَلَوْ قَامَ بِهِ مُرَاهِقُونَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ أَهْلِ الْفُرُوضِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَسَقَطَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْأُنُوثَةِ ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِي بَيَانُهَا .

تَنْبِيهٌ : أَقَلُّ الْجِهَادِ مَرَّةٌ فِي السَّنَةِ كَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } قَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ وَلِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أُمِرَ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكَذَا بَدَلُهَا ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ ، وَأَقَلُّ مَا وَجَبَ الْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ .
فَإِنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَيَحْصُلُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِأَنْ يَشْحَنَ الْإِمَامُ الثُّغُورَ بِمُكَافِئِينَ لِلْكُفَّارِ مَعَ إحْكَامِ الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ وَتَقْلِيدِ الْأُمَرَاءِ ، أَوْ بِأَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ دَارَ الْكُفْرِ بِالْجُيُوشِ لِقِتَالِهِمْ ، وَوُجُوبُ الْجِهَادِ وُجُوبُ الْوَسَائِلِ لَا الْمَقَاصِدِ ، إذَا الْمَقْصُودُ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الشَّهَادَةِ ، وَأَمَّا قَتْلُ الْكُفَّارِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْهِدَايَةِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِغَيْرِ جِهَادٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَحِلُّهُ فِي الْغَزْوِ .
وَأَمَّا حِرَاسَةُ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ فَمُتَعَيِّنَةٌ فَوْرًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، ذَكَرَ مِنْهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَدَفْنَهُ ، وَفِي اللَّقِيطِ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ ، وَذَكَرَ هُنَا الْجِهَادَ .
ثُمَّ اُسْتُطْرِدَ إلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ .

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ .
فَقَالَ ( وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ ) الْعِلْمِيَّةِ ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَعَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ ، وَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْمَعَادِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَجِ الْقَهْرِيَّةِ بِالسَّيْفِ لَا بُدَّ مِمَّنْ يُقِيمُ الْبَرَاهِينَ وَيُظْهِرُ الْحُجَجَ وَيَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ وَيَحِلُّ الْمُشْكِلَاتِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ ( وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ ) وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ دَفْعُ شُبْهَةٍ أَدْخَلَهَا بِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَدِلَّةَ الْمَعْقُولِ وَيَعْلَمَ دَوَاءَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَحُدُودَهَا وَأَسْبَابَهَا كَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ ، وَأَنْ يَعْرِفَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْعُلُومِ لَا دَقَائِقِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ فَرَائِضِ الدِّينِ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَشُرُوطِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا قَبْلَهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَعَلُّمِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ الْفِعْلِ وَكَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَشُرُوطِهِ وَتَعَلُّمِهَا عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ وَكَالزَّكَاةِ إنْ مَلَكَ مَالًا ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ يَكْفِيه الْأَمْرَ ، وَأَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَّجِرَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ بَيْعَ الْخُبْزِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ خُبْزِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ وَلَا بِدَقِيقِهِ ، وَعَلَى مَنْ يُرِيدُ الصَّرْفَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا أُصُولُ الْعَقَائِدِ فَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَفَرْضُ عَيْنٍ .

وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُتَرْجَمُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَلَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَوْ كَانَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي صَفْوَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا أَوْجَبْنَا التَّشَاغُلَ بِهِ ، وَرُبَّمَا نُهِينَا عَنْهُ ، وَأَمَّا الْآنَ وَقَدْ ثَارَتْ الْبِدْعَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهَا تَلْتَطِمُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْدَادِ مَا يُدْعَى بِهِ إلَى الْمَسْلَكِ الْحَقِّ وَتُحَلُّ بِهِ الشُّبْهَةُ فَصَارَ الِاشْتِغَالُ بِأَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَحَلُّ الشُّبْهَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ ، وَقَالَ : لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَغُّلِ فِيهِ .

وَأَمَّا تَعَلُّمُ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ وَالسِّحْرِ فَحَرَامٌ ، وَالشِّعْرُ مُبَاحٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُخْفٌ أَوْ حَثٌّ عَلَى شَرٍّ وَإِنْ حَثَّ عَلَى التَّغَزُّلِ وَالْبَطَالَةِ كُرِهَ .

وَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ ، وَالْفُرُوعِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ .
( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الْقِيَامُ ( بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ ) وَسَبَقَ مَعْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا ( وَالْفُرُوعِ ) الْفِقْهِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ( بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ) وَالْفُتْيَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ اُحْتِيجَ فِي التَّعْلِيمِ إلَى جَمَاعَةٍ لَزِمَهُمْ ، وَيَجِبُ لِكُلِّ مَسَافَةٍ قَصْرٍ مُفْتٍ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى قَطْعِهَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ ؛ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ بِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَتَكَرُّرِهَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِنْ كَثِيرِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاءِ فِي الْوَقَائِعِ ، وَلَوْ لَمْ يُفْتِ الْمُفْتِي وَهُنَاكَ مَنْ يُفْتِي وَهُوَ عَدْلٌ لَمْ يَأْثَمْ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِفْتَاءُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ كَذَلِكَ .
ا هـ .
وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نَظِيرِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ وَالشُّهُودِ بِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِهِ ثُمَّ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي .
أَمَّا تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْفُرُوعِ فَفَرْضُ عَيْنٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .

تَنْبِيهٌ : مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِلْمُ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِمُعَالَجَةِ الْأَبَدَانِ ، وَالْحِسَابِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ ، وَالنَّحْوِ ، وَاللُّغَةُ ، وَالتَّصْرِيفُ ، وَأَسْمَاءُ الرُّوَاةِ وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقُهُمْ ، وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنَّ مَنْ جَهِلَهُ لَا وُثُوقَ بِعِلْمِهِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ ، وَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَعَرَّفَ أَيْ الْمُصَنِّفُ الْفُرُوعَ : أَيْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ دُونَ مَا قَبْلَهُ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ : أَيْ : وَهُوَ قَوْلُهُ : " بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ : لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا ، وَهُنَا مُؤَاخَذَةٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَهِيَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : " وَالْفُرُوعِ " مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى تَفْسِيرٍ ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِإِقَامَةِ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اقْتَضَى أَنَّ الْفُرُوعَ لَيْسَتْ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَقَدْ يُخْتَارُ الْأَوَّلُ .
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَافَ اسْتِقْصَائِيَّةٌ .

فَائِدَةٌ : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ : التَّكْلِيفُ ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي الْقَضَاءَ : أَيْ حُرًّا ذَكَرًا لَا عَبْدًا وَامْرَأَةً ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَلِيدًا ، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ ، وَيَدْخُلُ الْفَاسِقُ فِي الْفَرْضِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ ، وَفِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا الدُّخُولُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ

وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .

( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ( الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ) مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرْعِ ( وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ) مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُرْتَكِبَ يَزِيدُ فِيمَا هُوَ فِيهِ عِنَادًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ : فِي الْإِحْيَاءِ كَإِمَامِهِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْوُلَاةِ : بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَلِلصَّبِيِّ ذَلِكَ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَدَالَةُ ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ : وَعَلَى مُتَعَاطِي الْكَأْسَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْجُلَّاسِ ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : يَجِبُ عَلَى مَنْ غَصَبَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا أَمْرُهَا بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنْهُ .
ا هـ .
وَالْإِنْكَارُ يَكُونُ بِالْيَدِ .
فَإِنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ ، وَيَرْفُقُ بِمَنْ يَخَافُ شَرَّهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً ، فَإِنْ عَجَزَ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي .
فَإِنْ عَجَزَ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعَ الْقَوْلِ ، بَلْ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَلَا أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى نَفْسَهُ .
فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يُنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا عَالِمٌ ، فَلَيْسَ لِلْعَوَامِّ ذَلِكَ ، وَلَا يُنْكِرُ الْعَالِمُ إلَّا مُجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ ، لَا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْفَاعِلَ تَحْرِيمَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحَنَفِيّ يَحُدُّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ مَعَ أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَدِلَّةَ عَدَمِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ وَاهِيَةٌ ، وَبِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ حَدِّنَا

الشَّارِبَ بِهِ وَعَدَمِ حَدِّنَا الْوَاطِئَ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ ، وَإِنْ نُدِبَ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ بِرِفْقٍ فَحَسَنٌ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ أَوْ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ حِينَئِذٍ .
وَلَيْسَ لِكُلٍّ مِنْ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ وَاقْتِحَامُ الدُّورِ بِالظُّنُونِ : بَلْ إنْ رَأَى شَيْئًا غَيَّرَهُ ، نَعَمْ إنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِمَنْ اخْتَفَى بِمُنْكَرٍ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ اقْتَحَمَ لَهُ الدَّارَ وَتَجَسَّسَ وُجُوبًا .

تَنْبِيهٌ : يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصَبَّ مُحْتَسِبًا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ كَانَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالْمُحْتَسِبِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهَا ، وَكَذَا بِصَلَاةِ الْعِيدِ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ الْإِمَامُ : مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ ، وَلَا يُقَاسُ بِالْوَالِي غَيْرُهُ ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ بِصَوْمِهِ صَارَ وَاجِبًا ، وَلَا يَأْمُرُ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَهُ ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ أَوْ سُنَّةً لَهُمْ ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ كَعِمَارَةِ سُوَرِ الْبَلَدِ وَشِرْبِهِ وَمَعُونَةِ الْمُحْتَاجِينَ ، وَيَجِبُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ مَالٌ ، وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَنْهَى الْمُوسِرَ عَنْ مَطْلِ الْغَنِيِّ إنْ اسْتَعْدَاهُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ ، وَيَنْهَى الرَّجُلَ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي طَرِيقٍ خَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ رِيبَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَعَهَا فِي طَرِيقٍ يَطْرُقَهُ النَّاسُ ، وَيَأْمُرُ النِّسَاءَ بِإِيفَاءِ الْعِدَدِ ، وَالْأَوْلِيَاءَ بِنِكَاحِ الْأَكْفَاءِ ، وَالسَّادَةَ بِالرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ ، وَأَصْحَابَ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا ، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَسَرَّ فِي صَلَاةٍ جَهْرِيَّةٍ أَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ وَعَكَسَهُمَا ، وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِعْدَاءِ مِنْ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْبِسُ وَلَا يَضْرِبُ لِلدَّيْنِ ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ إنْ احْتَجَبُوا عَنْ الْخُصُومِ أَوْ قَصَّرُوا فِي النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَعَلَى أَئِمَّةِ

الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ إنْ طَوَّلُوا الصَّلَاةَ كَمَا أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ ذَلِكَ ، وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ مِنْ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ لِمَا يَخْشَى فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسُ عَلَى مَذْهَبِهِ .

وَإِحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ .

( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ( إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ ) وَالْمَوَاقِفِ الَّتِي هُنَا ( كُلَّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ ) مَرَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالزِّيَارَةِ كُلَّ سَنَةٍ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، فَلَا يَكْفِي إحْيَاؤُهَا بِالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ ، وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ وَلَا بِالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ ، إذْ لَا يَحْصُلَ مَقْصُودَ الْحَجِّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ الْحَجُّ فَكَانَ بِهِ إحْيَاؤُهَا ، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ كُلَّ سَنَةٍ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْفَرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ : بَلْ الْفَرْضُ أَنْ يَحُجَّهَا كُلَّ سَنَةٍ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ .
قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُتَّجَهُ اعْتِبَارُهُ مِنْ عَدَدٍ يَظْهَرُ بِهِمْ الشِّعَارُ .
ا هـ .
وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ ؟ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، فَكُلُّ وَفْدٍ يَجِيئُونَ كُلَّ سَنَةٍ لِلْحَجِّ فَهُمْ يُحْيُونَ الْكَعْبَةَ ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ حَصَلَ ، بِمَا أَتَى بِهِ سُقُوطُ فَرْضِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ كَانَ قَائِمًا بِفَرْضِ كِفَايَةٍ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ حَجُّ التَّطَوُّعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا جِهَتَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ : جِهَةُ التَّطَوُّعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ ، وَجِهَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ بِإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَطَوُّعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَأَنْ يُقَالَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِحْيَاءُ ، وَبِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْيَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ الْعِبَادَةِ فَرْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَسْقُطُ بِالْمَنْدُوبِ كَاللَّمْعَةِ الْمُغْفَلَةِ فِي الْوُضُوءِ تُغْسَلُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ ،

وَإِذَا سَقَطَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ أَوْلَى ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ ، وَلَوْ قِيلَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبِيدِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِين ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ جَوَابًا .

وَدَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ كَكِسْوَةِ عَارٍ ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِزَكَاةٍ ، وَبَيْتِ مَالٍ .

( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ( دَفْعُ ضَرَرِ ) الْمَعْصُومِينَ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى ( الْمُسْلِمِينَ ) وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُوسِرِينَ ( كَكِسْوَةِ عَارٍ ) مِنْهُمْ ( وَإِطْعَامِ جَائِعٍ ) مِنْهُمْ ( إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ ) ضَرَرُهُمْ ( بِزَكَاةٍ وَ ) لَا ( بَيْتِ مَالٍ ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَإِلَّا فَفِي مَعْنَاهُمَا سَهْمُ الْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِ كَوَقْفٍ عَامٍّ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَوَصِيَّةٍ صِيَانَةً لِلنُّفُوسِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِسْوَةِ سَتْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَدَنُ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا شَكٍّ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَتَعْبِيرُ الرَّوْضَةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مُعْتَرَضٌ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُوَاسَاةِ بِمَا زَادَ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ بِمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنَافِيه مَا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ وُجُوبِ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ ، فَإِنَّ هَذَا فِي الْمُحْتَاجِ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَذَاكَ فِي الْمُضْطَرِّ ، وَهَلْ يَكْفِي سَدُّ الضَّرُورَةِ أَمْ يَجِبُ تَمَامُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الْأَطْعِمَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ .
وَالْأَوْجَهُ تَرْجِيحُ الثَّانِي ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ ، وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْمُوسِرِينَ فَكُّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِمْ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ابْتِيَاعِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ

الْكِتَابِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَسِيرٍ تُعَذِّبُهُ الْكُفَّارُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ لَكِنْ فِي بَابِ الْهُدْنَةِ أَنَّ الْفِدَاءَ مُسْتَحَبٌّ ، وَبِهَذَا الْحَمْلِ يُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْ الرَّوْضَةِ أَيْضًا .
أَمَّا أُسَارَى الذِّمِّيِّينَ فَفِيهِمْ احْتِمَالَانِ : وَالْأَوْجَهُ فِيهِمْ التَّفْصِيلُ .

وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ ، وَأَدَاؤُهَا ، وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ ، وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ

( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ إعَانَةُ الْقُضَاةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَ ( تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ ) إنْ حَضَرَ الْمُتَحَمِّلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ دَعَا الشَّاهِدَ لِلتَّحَمُّلِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا إنْ دَعَاهُ قَاضٍ أَوْ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ ( وَأَدَاؤُهَا ) إذَا تَحَمَّلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصَابٍ ، فَإِنْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَالْأَدَاءُ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ مَعَ مَزِيدِ إيضَاحٍ .
تَنْبِيهٌ : التَّحَمُّلُ يُفَارِقُ الْأَدَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّحَمُّلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى النَّاسِ ، وَالْأَدَاءَ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ : وَفَرْضُ الْأَدَاءِ أَغْلَظُ مِنْ فَرْضِ التَّحَمُّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } الْآيَةَ ( وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ ) كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْحِجَامَةِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ } وَفَسَّرَهُ الْحَلِيمِيُّ بِاخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْحِرَفِ .
تَنْبِيهٌ : عَطْفُ الصَّنَائِعِ عَلَى الْحِرَفِ يَقْتَضِي تَغَايُرَهُمَا مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الصِّحَاحِ فَسَّرَ الصِّنَاعَةَ بِالْحِرْفَةِ ، فَعَلَى هَذَا عَطَفَهَا عَلَيْهَا كَعَطْفِ رَحْمَةٍ عَلَى صَلَوَاتٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : الصِّنَاعَاتُ هِيَ الْمُعَالَجَاتُ كَالْخِيَاطَةِ وَالتِّجَارَةِ ، وَالْحِرَفُ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ فَتُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ صُنَّاعًا وَيُدَوْلِبُهُمْ وَلَا يَعْمَلُ فَهِيَ أَعَمُّ .
( وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ ) الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ

وَالْحِرَاثَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ { سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ : لَا تَقُلْ هَكَذَا لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّاسِ .
قَالَ فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ قُلْ : اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى شِرَارِ خَلْقِكَ .
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ شَرُّ خَلْقِهِ ؟ .
قَالَ : الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا أُمِنُوا وَإِذَا مُنِعُوا عَابُوا } { وَسَمِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ فَقَالَ : سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ } وَسَمِعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَجُلًا يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا تُحَوِّجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ : هَذَا رَجُلٌ تَمَنَّى الْمَوْتَ .

وَ جَوَابُ سَلَامٍ عَلَى جَمَاعَةٍ .

( وَ ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ( جَوَابُ سَلَامٍ ) لِمُسْلِمٍ عَاقِلٍ وَلَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا ( عَلَى جَمَاعَةٍ ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ .
أَمَّا كَوْنَهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وَأَمَّا كَوْنَهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد " يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ " وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ وَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ أَجَابُوا كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ ، سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَمْ مُتَرَتِّبِينَ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِرَدِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الصَّحِيحِ ، فَإِنْ قِيلَ : سَقَطَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالصَّبِيُّ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ السَّلَامِ الْأَمَانُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِرَدِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ السَّلَامَ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَرَدَّتْ هَلْ يَكْفِي ؟ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُشْرَعُ لَهَا الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا ؟ فَحَيْثُ شُرِعَ لَهَا كَفَى جَوَابُهَا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا ، وَمِثْلُهَا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا الْخُنْثَى ، وَاحْتَرَزَ بِالْجَمَاعَةِ عَنْ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ أَوْ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ أُنْثَى مُشْتَهَاةً وَالْآخَرُ رَجُلًا وَلَا مَحْرَمِيَّةٌ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ هُوَ حَرُمَ عَلَيْهَا .
أَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ نَحْوُ مَحْرَمِيَّةٍ كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا ، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ يُبَاحُ نَظَرُهُ إلَيْهَا فَيَجِبُ الرَّدُّ ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى جَمْعِ نِسْوَةٍ أَوْ عَجُوزٍ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ، بَلْ

يُنْدَبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ وَعَكْسَهُ ، وَيَجِبُ الرَّدُّ كَذَلِكَ ، وَالْخُنْثَى مَعَ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ مَعَهَا ، وَمَعَ الرَّجُلِ كَالْمَرْأَةِ مَعَهُ وَمَعَ الْخُنْثَى كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ اتِّصَالُهُ بِالِابْتِدَاءِ لِاتِّصَالِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي الْعَقْدِ ، فَلَوْ سَلَّمَ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَلَى وَاحِدٍ فَقَالَ : وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَجْزَأَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَمِيعِ : كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ صَلَاةً وَاحِدَةً كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ وَأَقَرَّهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَكْفِهِ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا خِلَافُهُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَهُوَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا سَلَّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً .
أَمَّا لَوْ سَلَّمُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَانُوا كَثِيرِينَ فَلَا يَحْصُلَ الرَّدُّ لِكُلِّهِمْ إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ شَرْطَ حُصُولِ الْوَاجِبِ أَنْ يَقَعَ مُتَّصِلًا بِالِابْتِدَاءِ .
وَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ وَإِنْ شَمَلَتْهُمَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ، وَكَذَا فَاسِقٌ وَنَحْوِهِ كَمُبْتَدَعٍ إنْ كَانَ فِي تَرْكِهِ زَجْرٌ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا ، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ : سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ فَإِذَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ لَزِمَهُ الرَّدُّ ، وَهَلْ صِيغَةُ إرْسَالِ السَّلَامِ مَعَ الْغَيْرِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ يَكْفِي سَلِّمْ لِي عَلَى فُلَانٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا مَرَّ ؟ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التَّتِمَّةِ الثَّانِي ، وَعِبَارَتُهُ أَنَّهُ لَوْ نَادَاهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ وَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ : سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ

فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ الرِّسَالَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْغَائِبِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمُنَادَاةِ أَوْ الْكِتَابِ أَوْ الرِّسَالَةِ ا هـ .
وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصَمُّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ ، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَلِيَحْصُلَ بِهَا الْإِفْهَامُ ، وَيَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ ، وَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِنْ رَدَّ عَلَيْهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْإِفْهَامُ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالنَّظَرِ إلَى فَمِهِ لَمْ تَجِبْ الْإِشَارَةُ وَهُوَ مَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَسَلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ مُعْتَدٌّ بِهِ وَكَذَا رَدُّهُ ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ لَهُ وُجُوبًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : وَعَلَيْكَ فَقَطْ ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ { إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : السَّامُ عَلَيْكَ فَقُولُوا وَعَلَيْكَ } وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَانَ سُفْيَانُ يَرْوِي عَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَهَا صَارَ قَوْلُهُمْ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ وَإِذَا ذَكَرَهَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ مَعَهُمْ وَالدُّخُولُ فِيمَا قَالُوهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، إذْ الْمَعْنَى : وَنَحْنُ نَدْعُو عَلَيْكُمْ بِمَا دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا ، عَلَى أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا السَّامَ بِالْمَوْتِ فَلَا إشْكَالَ لِاشْتِرَاكِ الْخَلْقِ فِيهِ .

فَرْعٌ : لَوْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ وَرَضِيَ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الرَّدِّ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
وَيَأْثَمُ بِتَعْطِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِتَعْطِيلِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَإِنْ بَعُدَ عَنْ الْمَحِلِّ ، وَكَذَا يَأْثَمُ قَرِيبٌ مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا بِكِبَرِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَإِنْ قَامَ بِهِ الْجَمِيعُ فَكُلُّهُمْ مُؤَدٍّ فَرْضَ كِفَايَةٍ ، وَإِنْ تَرَتَّبُوا فِي أَدَائِهِ ، قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ : وَالْقِيَامُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْعَيْنِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُ وَعَنْ الْأُمَّةِ ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ .

وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ .
( وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ ) أَيْ السَّلَامِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى عَلَى الصَّبِيِّ ، وَهُوَ سُنَّةُ عَيْنٍ إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ وَاحِدًا ، وَسُنَّةُ كِفَايَةٍ إنْ كَانَ جَمَاعَةً .
أَمَّا كَوْنُهُ سُنَّةً فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِلْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد السَّابِقِ .
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِهِ ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ ، وَهُوَ مَا لَوْ أَرْسَلَ سَلَامَهُ إلَى غَائِبٍ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ يَلْزَمُ الْمُرْسَلَ أَنْ يُبَلِّغَهُ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاؤُهَا وَيَجِبُ الرَّدُّ كَمَا مَرَّ ، وَيُسَنُّ الرَّدُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي فَتَاوِيهِ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضٍ ، وَنَظِيرُهُ إبْرَاءُ الْمُعْسِرِ سُنَّةٌ وَإِنْظَارُهُ فَرْضٌ وَإِبْرَاؤُهُ أَفْضَلُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْقَاضِي : لَيْسَ لَنَا سُنَّةُ كِفَايَةٍ غَيْرَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْجَمَاعَةِ أُورِدَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ .
مِنْهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأَكْلِ ، وَمِنْهَا الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ ، وَمِنْهَا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ، وَمِنْهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ .

لَا عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ وَآكِلٍ وَفِي حَمَّامٍ ، وَلَا جَوَابَ عَلَيْهِمْ .
وَ ( لَا ) يُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ ( عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ ، وَلِأَنَّ مُكَالَمَتَهُ بَعِيدَةٌ عَنْ الْأَدَبِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاجَةِ حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ ، وَلَا عَلَى الْمُجَامِعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَ ) لَا عَلَى ( آكِلٍ ) - بِالْمَدِّ - لِشَغْلِهِ بِهِ ( وَ ) لَا عَلَى مَنْ ( فِي حَمَّامٍ ) لِاشْتِغَالِهِ بِالِاغْتِسَالِ ، وَهُوَ مَأْوَى الشَّيَاطِينَ ، وَلَيْسَ مَوْضِعُ تَحِيَّةٍ .
وَاسْتَثْنَى مَعَ ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً ، مِنْهَا الْمُصَلِّي ، وَمِنْهَا الْمُؤَذِّنُ ، وَمِنْهَا الْخَطِيبُ ، وَمِنْهَا الْمُلَبِّي فِي النُّسُكِ ، وَمِنْهَا مُسْتَغْرِقُ الْقَلْبِ بِالدُّعَاءِ ، وَبِالْقِرَاءَةِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَمِنْهَا النَّائِمُ أَوْ النَّاعِسُ ، وَمِنْهَا الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ ؛ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ لَا تُنَاسِبُهُ .
وَالضَّابِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى حَالَةٍ لَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ الْقُرْبُ مِنْهُ ( وَلَا جَوَابَ ) وَاجِبٌ ( عَلَيْهِمْ ) لَوْ أُتِيَ بِهِ لِوَضْعِهِ السَّلَامَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لِعَدَمِ سَنِّهِ .
وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ مِنْ الْأَكْلِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ وَقَبْلَ وَضْعِ لُقْمَةٍ أُخْرَى فَيُسَنُّ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ ، وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَحِلِّ نَزْعِ الثِّيَابِ فِي الْحَمَّامِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الْجَمِيعِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يُكْرَهُ الرَّدُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ ، وَيُنْدَبُ لِمَنْ يَأْكُلُ أَوْ فِي حَمَّامٍ ، وَكَذَا الْمُصَلِّي وَنَحْوَهُ بِالْإِشَارَةِ .

وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ لَمْ يَجِبْ حَتَّى يَفْرُغَ ، وَهَلْ الْإِجَابَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ ؟ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي الرَّدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ مُطْلَقًا ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى حَاضِرِ الْخُطْبَةِ وَقُلْنَا بِالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ ، فَفِي الرَّدِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَصَحُّهَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وُجُوبُ الرَّدِّ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ .
وَالثَّانِي اسْتِحْبَابُهُ .
وَالثَّالِثُ جَوَازُهُ ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْخَطِيبِ .
أَمَّا هُوَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ قَطْعًا لِاشْتِغَالِهِ ، وَالْقَارِئُ كَغَيْرِهِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ وَوُجُوبِ الرَّدِّ بِاللَّفْظِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي إلَّا مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ كَمَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ .

تَنْبِيهٌ : صِيغَةُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ قَالَ : عَلَيْكُمْ السَّلَامُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَيَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ ، وَإِنْ بَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ عَدَمَ الْوُجُوبِ ، وَكَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ .
أَمَّا لَوْ قَالَ : وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَلَيْسَ سَلَامًا فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ ، وَتُنْدَبُ صِيغَةُ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً ، وَيَكْفِي الْإِفْرَادُ لِلْوَاحِدِ - وَيَكُونُ آتِيًا بِأَصْلِ السُّنَّةِ - دُونَ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكْفِي ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ بِيَدٍ أَوْ نَحْوِهَا بِلَا لَفْظٍ لَا يَجِبُ لَهَا رَدٌّ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ أَفْضَلُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى اللَّفْظِ ، وَصِيغَتُهُ رَدًّا : وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ، أَوْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ لِلْوَاحِدِ ، وَلَوْ تَرَكَ الْوَاوُ فَقَالَ : عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ ، وَلَوْ قَالَ : وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَفَى ، فَإِنْ قَالَ : وَعَلَيْكُمْ وَسَكَتَ عَنْ السَّلَامِ لَمْ يَكْفِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ ، وَقِيلَ : يُجْزِئُ .
فَإِنْ قِيلَ : يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَزِدْ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ ثَمَّ السَّلَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ ، بَلْ الْغَرَضُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ وَيَكْفِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ابْتِدَاءً ، وَعَلَيْكُمْ سَلَامٌ جَوَابًا ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِمَا أَفْضَلُ ، وَزِيَادَةُ : " وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " عَلَى السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا أُكْمِلُ مِنْ تَرْكِهَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَكْفِي وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ، وَإِنْ أَتَى الْمُسَلِّمُ

بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ .
قَالَ : ابْنُ شُهْبَةَ : وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ } الْآيَةَ ، وَلَوْ سَلَّمَ كُلٌّ مِنْ اثْنَيْنِ تَلَاقِيًا عَلَى الْآخِرِ مَعًا لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا الرَّدُّ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُحَصِّلُ الْجَوَابُ بِالسَّلَامِ ، أَوْ مُرَتَّبًا كَفَى الثَّانِي سَلَامُهُ رَدًّا إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الِابْتِدَاءُ فَلَا يَكْفِي كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِصَرْفِهِ عَنْ الْجَوَابِ .

فُرُوعٌ : يُنْدَبُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى الْوَاقِفِ ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْجَمْعُ الْقَلِيلُ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي حَالِ التَّلَاقِي فِي طَرِيقٍ ، فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يُكْرَهْ ، أَمَّا إذَا وَرَدَ مَنْ ذُكِرَ عَلَى قَاعِدٍ أَوْ وَاقِفٍ أَوْ مُضْطَجِعٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يُبْدَأُ ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَغِيرًا أَمْ لَا ، قَلِيلًا أَمْ لَا ، وَيُكْرَهُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ مِنْ الْجَمْعِ بِالسَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا .

وَلَوْ سَلَّمَ بِالْعَجَمِيَّةِ جَازَ إنْ أَفْهَمَ الْمُخَاطَبُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ ، وَيَجِبُ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى سَلَامًا .
وَيَحْرُمُ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشَّخْصُ ذِمِّيًّا لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، فَإِنْ بَانَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا فَلْيَقُلْ لَهُ نَدْبًا : اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، أَوْ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي كَمَا فِي الْأَذْكَارِ تَحْقِيرًا لَهُ ، وَيَسْتَثْنِيه بِقَلْبِهِ إنْ كَانَ بَيْنَ مُسْلِمِينَ ، وَلَا يَبْدَأُ بِتَحِيَّةٍ غَيْرِ السَّلَامِ أَيْضًا كَأَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ ، أَوْ صُبِّحْت بِالْخَيْرِ إلَّا لِعُذْرٍ ، وَإِنْ كَتَبَ إلَى كَافِرٍ كَتَبَ نَدْبًا السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى .

وَلَوْ قَامَ عَنْ مَجْلِسٍ فَسَلَّمَ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ ، وَمَنْ دَخَلَ دَارًا نُدِبَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ ، وَإِنْ دَخَلَ مَوْضِعًا خَالِيًا عَنْ النَّاسِ نُدِبَ أَنْ يَقُولَ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُسَمِّيَ قَبْلَ دُخُولِهِ ، وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ ثُمَّ يُسَلِّمَ بَعْدَ دُخُولِهِ ، وَأَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ ، وَإِنْ كَانَ مَارًّا فِي سُوقٍ وَجَمْعٍ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ السَّلَامُ الْوَاحِدُ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَلِيه أَوَّلَ مُلَاقَاتَهُ ، فَإِنْ جَلَسَ إلَى مَنْ سَمِعَهُ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ ، أَوْ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ سَلَّمَ ثَانِيًا ، .

وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ لِخَوْفِ عَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِتَكَبُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَالتَّحِيَّةُ مِنْ الْمَارِّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِنَحْوِ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ أَوْ السَّعَادَةِ ، أَوْ طَابَ حَمَّامُكَ ، أَوْ قَوَّاك اللَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ وَلَا جَوَابَ لِقَائِلِهَا ، فَإِنْ أَجَابَ بِالدُّعَاءِ فَحَسَنٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَأْدِيبَهُ لِتَرْكِهِ السَّلَامَ فَتَرْكُ الدُّعَاءِ لَهُ أَحْسَنُ .
وَأَمَّا التَّحِيَّةُ بِالطَّلْبَقَةِ وَهِيَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَقِيلَ بِكَرَاهَتِهَا .
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ : كَمَا قَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ أَوْ الْعِلْمِ ، أَوْ مِنْ وُلَاةِ الْعَدْلِ فَالدُّعَاءُ لَهُ بِذَلِكَ قُرْبَةٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ ، وَحَنْيُ الظَّهْرِ مَكْرُوهٌ ، وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ .

وَتَقْبِيلُ الْيَدِ لِزُهْدٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَكِبَرِ سِنٍّ وَشَرَفٍ وَصِيَانَةٍ مُسْتَحَبٌّ ، وَتَقْبِيلُهَا لِدُنْيَا أَوْ ثَرْوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَشَوْكَةٍ وَوَجَاهَةٍ مَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ ، وَتَقْبِيلُ خَدِّ طِفْلٍ لَا يُشْتَهَى وَلَوْ لِغَيْرِهِ ، وَتَقْبِيلُ كُلٍّ مِنْ أَطْرَافِهِ شَفَقَةً وَرَحْمَةً سُنَّةٌ .

وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِلتَّبَرُّكِ ، وَيُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ ، أَوْ شَرَفٍ ، أَوْ وِلَادَةٍ ، أَوْ رَحِمٍ ، أَوْ وِلَايَةٍ مَصْحُوبَةٍ بِصِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَيَكُونُ هَذَا الْقِيَامُ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الدَّاخِلِ مَحَبَّةَ الْقِيَامِ لَهُ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَسْتَمِرُّوا قِيَامًا لَهُ كَعَادَةِ الْجَبَابِرَةِ ، أَمَّا مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَلَا يُتَّجَهُ كَمَا قَالَ : شَيْخُنَا تَحْرِيمُهُ .

وَتُنْدَبُ الْمُصَافَحَةُ مَعَ بَشَاشَةِ الْوَجْهِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا لِلتَّلَاقِي ، وَلَا أَصْلَ لِلْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاتَيْ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهَا فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا .

وَإِنْ قَصَدَ بَابًا لِغَيْرِهِ مُغْلَقًا نُدِبَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَسْتَأْذِنَ ، فَإِنْ لَمْ يُجَبْ أَعَادَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ أُجِيبَ فَذَاكَ ، وَإِلَّا رَجَعَ ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ مَنْ أَنْتَ ؟ نُدِبَ أَنْ يَقُولَ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُكَنِّيَ نَفْسَهُ ، أَوْ يَقُولَ الْقَاضِي فُلَانٌ .
أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ إلَّا بِذَلِكَ ، وَيُكْرَهُ اقْتِصَارُهُ عَلَى قَوْلِهِ : أَنَا ، أَوْ الْخَادِمُ .

وَتُنْدَبُ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ ، وَالْجِيرَانِ غَيْرِ الْأَشْرَارِ ، وَالْإِخْوَانِ وَالْأَقَارِبِ وَإِكْرَامُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَنْ يَزُورُوهُ ، وَأَنْ يُكْثِرُوا زِيَارَتَهُ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ .

وَتُنْدَبُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى ، وَأَنْ يَضَعَ مَنْ جَاءَهُ الْعُطَاسُ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ أَوْ نَحْوَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، وَيُخَفِّفُ صَوْتَهُ مَا أَمْكَنَ ، وَأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَ عُطَاسِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَسَرَّ بِهِ ، أَوْ فِي حَالَةِ بَوْلٍ ، أَوْ جِمَاعٍ أَوْ نَحْوِهِ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى شُمِّتَ إلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا دُعِيَ لَهُ بِالشِّفَاءِ وَيُذَكَّرُ بِالْحَمْدِ إنْ تَرَكَهُ ، وَالتَّشْمِيتُ لِلْمُسْلِمِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، أَوْ رَبُّكَ ، وَيَرُدُّ بِيَهْدِيكُمْ اللَّهُ ، أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ، وَابْتِدَاؤُهُ وَرَدُّهُ سُنَّةُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ وَإِلَّا فَكِفَايَةٌ .
وَتَشْمِيتُ الْكَافِرِ بِيَهْدِيك اللَّهُ وَنَحْوه ، لَا بِيَرْحَمُك اللَّهُ تَعَالَى .

وَيُنْدَبُ رَدُّ التَّثَاؤُبِ مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ غَلَبَهُ سَتَرَ فَمَهُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرَهَا ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَحِّبَ بِالْقَادِمِ الْمُسْلِمِ ، وَأَنْ يُلَبِّيَ دُعَاءَهُ .
أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا ، وَأَنْ يُخْبِرَ أَخَاهُ بِحُبِّهِ لَهُ فِي اللَّهِ ، وَأَنْ يَدْعُوَ لِمَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ لِلرَّجُلِ الْجَلِيلِ فِي عِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ نَحْوِهِ : جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، أَوْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ، وَدَلَائِلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ .

وَلَا جِهَادَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَ امْرَأَةٍ وَمَرِيضٍ وَذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ ، وَأَقْطَعَ ، وَأَشَلَّ ، وَ عَبْدٍ وَعَادِمِ أُهْبَةِ قِتَالٍ ، وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ مَنَعَ الْجِهَادَ إلَّا خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ ، وَكَذَا مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّحِيحِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي مَوَانِعِ الْجِهَادِ .
فَقَالَ : ( وَلَا جِهَادَ ) وَاجِبٌ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُرْتَدٍّ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ بَالِغٍ ، عَاقِلٍ ، ذَكَرٍ ، مُسْتَطِيعٍ لَهُ ، حُرٍّ وَلَوْ سَكْرَانَ ، وَاجِدٍ أُهْبَةَ الْقِتَالِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الْجِزْيَةَ لِيُذَبَّ عَنْهُ لَا لِيَذُبَّ عَنَّا ، وَلَا ( عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ ) لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } الْآيَةَ ، قِيلَ هُمْ الصِّبْيَانُ لِضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ ، وَقِيلَ الْمَجَانِينُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ جَمَاعَةً اسْتَصْغَرَهُمْ ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَ عُمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَجَازَهُ فِي الْخَنْدَقِ } وَكَذَا اتَّفَقَ لِسَعْدِ بْنِ حَبَّةَ : بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ الْأَنْصَارِيّ ، { وَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يُقَاتِلُ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ قَالَ : أَسْعَدَ اللَّهُ جَدَّكَ اقْتَرِبْ مِنِّي ، فَاقْتَرَبَ مِنْهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ } ، فَكَانَ عَمًّا لِأَرْبَعِينَ ، وَخَالًا لِأَرْبَعِينَ ، وَجَدًّا لِعِشْرِينَ ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُ ( وَ ) لَا عَلَى خُنْثَى ، وَلَا ( امْرَأَةٍ ) لِضَعْفِهَا ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْصَرِفُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالْخُنْثَى مِثْلُهَا .
وَأَحْسَنَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّدًا فَظُهُورُهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامُ ( وَ ) لَا عَلَى ( مَرِيضٍ ) يُتَعَذَّرُ قِتَالُهُ أَوْ تَعْظُمُ مَشَقَّتُهُ وَلَا عَلَى أَعْمَى ( وَ ) لَا ( ذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ ) وَلَوْ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }

فَلَا عِبْرَةَ بِصُدَاعٍ وَوَجَعِ ضِرْسٍ وَضَعْفِ بَصَرٍ إنْ كَانَ يُدْرِكُ الشَّخْصَ وَيُمْكِنُهُ اتِّقَاءُ السِّلَاحِ ، وَلَا عَرَجٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ الْمَشْيَ وَالْعَدْوَ وَالْهَرَبَ ( وَ ) لَا عَلَى ( أَقْطَعَ ) يَدٍ بِكَمَالِهَا أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا ، بِخِلَافِ فَاقِدِ الْأَقَلِّ ، أَوْ فَاقِدِ الْأَنَامِلِ ، أَوْ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ إنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ بِغَيْرِ عَرَجٍ بَيِّنٍ ( وَ ) لَا عَلَى ( أَشَلَّ ) يَدٍ أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْجِهَادِ الْبَطْشُ وَالنِّكَايَةَ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِيهَا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ ( وَ ) لَا عَلَى ( عَبْدٍ ) وَلَوْ مُبَعَّضًا أَوْ مُكَاتَبًا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } وَلَا مَالَ لِلْعَبْدِ وَلَا نَفْسَ يَمْلِكُهَا فَلَمْ يَشْمَلْهُ الْخِطَابُ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ، وَلَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقْتَضِي التَّعَرُّضَ لِلْهَلَاكِ ( وَ ) لَا عَلَى ( عَادِمِ أُهْبَةِ قِتَالٍ ) مِنْ نَفَقَةٍ وَسِلَاحٍ ، وَكَذَا مَرْكُوبٌ إنْ كَانَ سَفَرَ قَصْرٍ ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَزِمَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ فَاضِلٌ ذَلِكَ عَنْ مُؤْنَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ كَمَا فِي الْحَجِّ ، وَلَوْ مَرِضَ بَعْدَ مَا خَرَجَ أَوْ فَنِيَ زَادُهُ أَوْ هَلَكَتْ دَابَّتُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ أَوْ يَمْضِيَ ، فَإِنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الصَّحِيحِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِتَالُ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ فَالْأَصَحُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ الرَّمْيُ بِهَا عَلَى تَنَاقُضٍ وَقَعَ لَهُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ حَوْلَهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُؤَنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِاشْتِرَاطِ مِلْكِهِ الْأُهْبَةَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْعَدَمِ عَدَمَ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ ، وَلَوْ بُذِلَ

لِعَادِمِ الْأُهْبَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا .
ثُمَّ أَشَارَ لِضَابِطٍ يَعُمُّ مَا سَبَقَ وَغَيْرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ ) كَفَقْدِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ ( مَنَعَ الْجِهَادَ ) أَيْ وُجُوبَهُ ( إلَّا خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ ) فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ جَزْمًا لِبِنَاءِ الْجِهَادِ عَلَى مُصَادَمَةِ الْمَخَاوِفِ ( وَ كَذَا ) خَوْفٌ ( مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ ) لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا السَّفَرِ وَقِتَالُ اللُّصُوصِ أَهَمُّ وَأَوْلَى ، وَالثَّانِي ، يَمْنَعُ كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْنَفُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْوُجُوبِ فِي الصُّورَتَيْنِ إذَا كَانَ لَهُ قُوَّةٌ تُقَاوِمُهُمْ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْذُورٌ .

وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يُحَرِّمُ سَفَرَ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ ، وَالْمُؤَجَّلُ لَا ، وَقِيلَ يَمْنَعُ سَفَرًا مَخُوفًا .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوَانِعِ الْجِهَادِ الْحِسِّيَّةِ شَرَعَ فِي مَوَانِعِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَالَ : ( وَالدَّيْنُ الْحَالُّ ) عَلَى مُوسِرٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ( يُحَرِّمُ ) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ ( سَفَرَ جِهَادٍ وَ ) سَفَرَ ( غَيْرِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ، وَالْجِهَادُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { الْقَتْلُ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ } ( إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ ) وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ الْجَائِزِ الْإِذْنِ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَالْحَبْسِ إنْ امْتَنَعَ .
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ .
أَمَّا غَيْرُ جَائِزِ الْإِذْنِ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ ، فَلَا يَأْذَنُ لِمَدِينِ الْمَحْجُورِ فِي السَّفَرِ وَكَالْمَدْيُونِ وَلِيُّهُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالِبُ .
وَلَوْ اسْتَنَابَ الْمُوسِرُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ جَازَ لَهُ السَّفَرُ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ بِخِلَافِ مَالِهِ الْغَائِبِ قَدْ لَا يَصِلُ ، وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَيْسَ لِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، إذْ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْحَالِ .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ جَاهَدَ بِالْإِذْنِ قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : لَا يَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ وَلَا يَتَقَدَّمُ أَمَامُ الصُّفُوفِ : بَلْ يَقِفُ فِي وَسَطِهَا وَحَوَاشِيهَا لِيَحْفَظَ الدَّيْنَ بِحِفْظِ نَفْسِهِ .
( وَ ) الدَّيْنُ ( الْمُؤَجَّلُ لَا ) يُحَرِّمُ السَّفَرَ مُطْلَقًا ، فَلَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّيْنِ ، وَإِنْ قَرُبَ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ حُلُولِهِ وَهُوَ الْآنَ مُخَاطَبٌ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ الْخُرُوجَ مَعَهُ إنْ شَاءَ لِيُطَالِبَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ ( وَقِيلَ يَمْنَعُ سَفَرًا مَخُوفًا ) كَالْجِهَادِ وَرُكُوبِ الْبَحْرِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْغَرِيمِ .

وَيَحْرُمُ جِهَادٌ إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ ، لَا سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ وَكَذَا كِفَايَةٍ فِي الْأَصَحِّ

( وَيَحْرُمُ ) عَلَى رَجُلٍ ( جِهَادٌ ) بِسَفَرٍ وَغَيْرِهِ ( إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " { أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ .
فَقَالَ : أَلَكَ وَالِدَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَلَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَانْطَلِقْ إلَيْهَا فَأَكْرِمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا } رَوَاهُ الْحَاكِمُ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ الْحَيُّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَجَمِيعَ أُصُولِهِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ وَجَدَ الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ وَأَذِنَ ، سَوَاءٌ كَانُوا أَحْرَارًا أَمْ أَرِقَّاءَ ، ذُكُورًا أَمْ إنَاثًا ؛ لِأَنَّ بِرَّهُمْ مُتَعَيِّنٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ ، وَكَذَا الْمُنَافِقُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا اُعْتُبِرَ إذْنُ سَيِّدِهِ لَا وَالِدَيْهِ كَمَا قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَلْزَمُ الْمُبَعَّضَ اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ ، وَالسَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ ( لَا سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ ) حَيْثُ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ أَوْ تَوَقَّعَ زِيَادَةَ فَرَاغٍ أَوْ إرْشَادٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كَحَجٍّ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَضَيَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ ( وَكَذَا ) سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ ( كِفَايَةٍ ) فَيَجُوزُ أَيْضًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَأَنْ خَرَجَ طَالِبًا لِدَرَجَةِ الْإِفْتَاءِ ، وَفِي النَّاحِيَةِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحَبْسَهُ بَعِيدٌ ، وَالثَّانِي لَهُمَا الْمَنْعُ كَالْجِهَادِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِيهِ خَطَرٌ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاحِيَةِ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفْتَاءِ ، وَلَكِنْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ فَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ الْمَنْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقُومُ بِالْمَقْصُودِ ، وَالْخَارِجُونَ قَدْ لَا يَظْفَرُونَ

بِالْمَقْصُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنٍ ، وَلَا مَنْعَ لَهُمَا قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْخُرُوجِ يَدْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ كَالْفَرْضِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ ، وَقَيَّدَ الرَّافِعِيُّ الْخَارِجَ وَحْدَهُ بِالرَّشِيدِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : أَنْ لَا يَكُونَ أَمْرَدَ جَمِيلًا يُخْشَى عَلَيْهِ .
قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ وَجَبَ اسْتِئْذَانُهُمَا وَلَوْ كَافِرَيْنِ إلَّا أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ ، وَقَضِيَّتُهُ كَمَا قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ إذَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ كَذَلِكَ إنْ كَانَ الْفَرْعُ أَهْلًا لِلْإِذْنِ ، وَهَذَا يُلْغِزُ بِهِ ، فَيُقَالُ وَالِدٌ لَا يُسَافِرُ إلَّا بِإِذْنِ وَلَدِهِ .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ : أَيْ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَسَافَرَ فِي بَقِيتِهِ كَانَ كَالْمَدْيُونِ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ .

تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتِّجَارَةِ ، وَحُكْمُهُ إنْ كَانَ قَصِيرًا فَلَا مَنْعَ مِنْهُ بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا ، فَإِنْ غَلَبَ الْخَوْفُ فَكَالْجِهَادِ وَإِلَّا جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ ، وَالْوَالِدُ الْكَافِرُ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ كَالْمُسْلِمِ مَا عَدَا الْجِهَادَ كَمَا مَرَّ .

فَإِنْ أَذِنَ أَبَوَاهُ وَالْغَرِيمُ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَ الرُّجُوعُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ ، فَإِنْ شَرَعَ فِي قِتَالٍ حَرُمَ الِانْصِرَافُ فِي الْأَظْهَرِ .

( فَإِنْ أَذِنَ ) لِرَجُلٍ ( أَبَوَاهُ وَالْغَرِيمُ ) فِي جِهَادٍ ( ثُمَّ رَجَعُوا ) بَعْدَ خُرُوجِهِ وَعَلِمَ بِذَلِكَ ( وَجَبَ ) عَلَيْهِ ( الرُّجُوعُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ ) ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِذْنِ عُذْرٌ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ ، فَكَذَا طَرَيَانُه كَالْعَمَى وَالْمَرَضِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَصْلُهُ الْكَافِرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ وَعَلِمَ الْفَرْعُ الْحَالَ فَكَالرُّجُوعِ عَنْ الْإِذْنِ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَلَامِهِ مَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ خَافَ انْكِسَارَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ بِرُجُوعِهِ ، أَوْ خَرَجَ مَعَ الْإِمَامِ بِجُعْلٍ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ تَبَعًا لِلنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ ، بَلْ لَا يَجُوزُ فِي مُعْظَمِ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِمَوْضِعٍ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْجَيْشُ فَيَرْجِعَ مَعَهُمْ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِقَامَةُ وَلَا الرُّجُوعُ فَلَهُ الْمُضِيُّ مَعَ الْجَيْشِ ، لَكِنْ يَتَوَقَّى مَظَانَّ الْقَتْلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( فَإِنْ ) حَضَرَ الصَّفَّ وَ ( شَرَعَ فِي قِتَالٍ ) بِأَنْ الْتَقَى الصَّفَّانِ ، ثُمَّ رَجَعَ مَنْ ذُكِرَ وَعَلِمَ بِرُجُوعِهِ ( حَرُمَ الِانْصِرَافُ فِي الْأَظْهَرِ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ لِوُجُوبِ الْمُصَابَرَةِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } وَلِأَنَّ الِانْصِرَافَ يُشَوِّشُ أَمْرَ الْقِتَالِ وَيَكْسِرُ الْقُلُوبَ ، وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ ، بَلْ يَجِبُ الِانْصِرَافُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الَّذِي بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّيْقِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَقِفُ مَوْقِفَ طَلَبِ الشَّهَادَةِ ، بَلْ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَحْرُسُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَحَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ : فَإِنْ حَضَرَ الصَّفَّ كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الِانْصِرَافِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِتَالِ حَقِيقَةً ، بَلْ الْتِقَاءُ الصَّفَّيْنِ كَافٍ فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ .

فُرُوعٌ : لَوْ خَرَجَ بِلَا إذْنٍ وَشَرَعَ فِي الْقِتَالِ حَرُمَ الِانْصِرَافُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ ، وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إنْ خَرَجَ بِلَا إذْنٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ وَاجِبٌ ، وَبَعْدَهُ مَنْدُوبٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ بَعْدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ .

وَلَوْ مَرِضَ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ أَوْ عَرِجَ عَرَجَا بَيِّنًا أَوْ تَلِفَ زَادُهُ أَوْ دَابَّتُهُ فَلَهُ الِانْصِرَافُ ، وَلَوْ مِنْ الْوَقْعَةِ إنْ لَمْ يُورِثْ فَشَلًا فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ انْصِرَافُهُ مِنْهَا ، وَلَا يَنْوِي الْمُنْصَرِفَ مِنْ الْوَقْعَةِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ فِرَارًا .
فَإِنْ انْصَرَفَ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ مُقَارِفَتِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَا بَعْدَهُ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ لِلْجِهَادِ ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْخُصْلَةِ ا الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ مَنْ شَرَعَ فِي تَعَلُّمِ عِلْمٍ لَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ ، وَإِنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ الرُّشْدَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ غَالِبًا .
قَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُخْتَارُ لُزُومُ إتْمَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِفَرْضٍ ، وَلَوْ شُرِعَ لِكُلِّ شَارِعٍ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إضَاعَةِ الْعِلْمِ .
وَأَجَابَ السُّبْكِيُّ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْجِهَادِ بِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ لَهُ بَاعِثٌ نَفْسِيٌّ عَمَّنْ يُحِثُّهُ عَلَى دَوَامِ الِاشْتِغَالِ بِهِ لِمَحَبَّةِ ثَمَرَتِهِ ، وَالْمُقَاتِلَ مَيْلُهُ إلَى الْحَيَاةِ يُبَاعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ لِكَرَاهَةِ الْمَوْتِ وَشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ ، فَوُكِلَ الْمُشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ إلَى مَحَبَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهُومٌ لَا يَشْبَعُ ، وَكُلِّفَ الْمُقَاتِلُ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ الْمَمَاتِ الَّذِي مِنْهُ يُفَزَّعُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِدَادُ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ } .

الثَّانِي يَدْخُلُونَ بَلْدَةً لَنَا فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَأَهُّبٌ لِقِتَالٍ وَجَبَ الْمُمْكِنُ حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ وَوَلَدٍ وَمَدِينٍ وَعَبْدٍ بِلَا إذْنٍ ، وَقِيلَ : إنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ اُشْتُرِطَ إذْنُ سَيِّدِهِ ، وَإِلَّا فَمَنْ قُصِدَ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمُمْكِنِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ أَخَذَ قُتِلَ ، وَإِنْ جَوَّزَ الْأَسْرَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَالِ ( الثَّانِي ) مِنْ حَالَيْ الْكُفَّارِ ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( يَدْخُلُونَ بَلْدَةً لَنَا ) أَوْ يَنْزِلُونَ عَلَى جَزَائِرَ أَوْ جَبَلٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ بَعِيدًا عَنْ الْبَلَدِ ( فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ ) مِنْهُمْ ، وَيَكُونُ الْجِهَادُ حِينَئِذٍ فَرْضَ عَيْنٍ ، وَقِيلَ كِفَايَةً ، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : إنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ لَهُ ( فَإِنْ أَمْكَنَ ) أَهْلَهَا ( تَأَهُّبٌ ) أَيْ اسْتِعْدَادٌ ( لِقِتَالٍ وَجَبَ ) عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ( الْمُمْكِنُ ) أَيْ الدَّفْعُ لِلْكُفَّارِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ ( حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ ) بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ( وَوَلَدٍ وَمِّ دِينٍ ) وَهُوَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ( وَعَبْدٍ بِلَا إذْنٍ ) مِنْ أَبَوَيْنِ وَرَبِّ دَيْنٍ وَمِنْ سَيِّدٍ ، وَيَنْحَلُّ الْحَجْرُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ خَطْبٌ عَظِيمٌ لَا سَبِيلَ إلَى إهْمَالِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَدِّ فِي دَفْعِهِ بِمَا يُمْكِنُ ، وَفِي مَعْنَى دُخُولِهِمْ الْبَلْدَة مَا لَوْ أَطَلُّوا عَلَيْهَا ، وَالنِّسَاءُ كَالْعَبِيدِ إنْ كَانَ فِيهِنَّ دِفَاعٌ ، وَإِلَّا فَلَا يَحْضُرْنَ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَحْتَاجَ الْمَرْأَةُ إلَى إذْنِ الزَّوْجِ ( وَقِيلَ : إنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ اُشْتُرِطَ ) فِي عَبْدٍ ( إذْنُ سَيِّدِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْأَحْرَارِ غُنْيَةً عَنْهُمْ وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : هُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَالْأَصَحُّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ الْأَوَّلُ لِتَقْوَى الْقُلُوبِ وَتَعْظُمَ الشَّوْكَةُ وَتَشْتَدَّ النِّكَايَةُ فِي الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْ هُجُومِهِمْ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ أَهْلَ الْبَلْدَةَ التَّأَهُّبُ لِقِتَالٍ بِأَنْ هَجَمَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً ( فَمَنْ قُصِدَ ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَلَوْ عَبْدًا ، أَوْ امْرَأَةً ، أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ ( دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ) الْكُفَّارَ ( بِالْمُمْكِنِ ) لَهُ ( إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ أُخِذَ قُتِلَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا ( وَإِنْ جَوَّزَ ) الْمُكَلَّفُ الْمَذْكُورُ (

الْأَسْرَ ) وَالْقَتْلَ ( فَلَهُ ) أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَ ( أَنْ يَسْتَسْلِمَ ) لِقَتْلِ الْكُفَّارِ إنْ كَانَ رَجُلًا ؛ لِأَنَّ الْمُكَافَحَةَ حِينَئِذٍ اسْتِعْجَالٌ لِلْقَتْلِ ، وَالْأَسْرَ يَحْتَمِلُ الْخَلَاصُ ، هَذَا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ قُتِلَ ، وَإِلَّا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ عَلِمَتْ امْتِدَادُ الْأَيْدِي إلَيْهَا بِالْفَاحِشَةِ فَعَلَيْهَا الدَّفْعُ وَإِنْ قُتِلَتْ ؛ لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ لَا تُبَاحُ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَإِنْ لَمْ تَمْتَدَّ الْأَيْدِي إلَيْهَا بِالْفَاحِشَةِ الْآنَ ، وَلَكِنْ تَوَقَّعَتْهَا بَعْدَ السَّبْيِ اُحْتُمِلَ جَوَازُ اسْتِسْلَامِهَا ثُمَّ تَدْفَعُ إذَا أُرِيدَ مِنْهَا ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا ، ثُمَّ مَا مَرَّ حُكْمُ أَهْلِ بَلْدَةٍ دَخَلَهَا الْكُفَّارُ ، وَأَشَارَ لِغَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ .

وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ مِنْ الْبَلْدَةِ كَأَهْلِهَا ، وَمَنْ عَلَى الْمَسَافَةِ يَلْزَمُهُمْ الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيهِمْ .
قِيلَ : وَإِنْ كَفَوْا .
( وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ مِنْ الْبَلْدَةِ ) الَّتِي دَخَلَهَا الْكُفَّارُ حُكْمُهُ ( كَأَهْلِهَا ) فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمُضِيُّ إلَيْهِمْ إنْ وَجَدُوا زَادًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَرْكُوبُ لِقَادِرٍ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى الْأَصَحِّ ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ الَّتِي دَخَلُوهَا كِفَايَةٌ ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ إذَا قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَلْبَثُوا إلَى لُحُوقِ الْآخَرِينَ ( وَمَنْ ) أَيْ : وَاَلَّذِينَ هُمْ ( عَلَى الْمَسَافَةِ ) لِلْقَصْرِ فَأَكْثَرَ ( يَلْزَمُهُمْ ) فِي الْأَصَحِّ إنْ وَجَدُوا زَادًا وَمَرْكُوبًا ( الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيهِمْ ) دَفْعًا عَنْهُمْ وَإِنْقَاذًا لَهُمْ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الْخُرُوجَ ، بَلْ إذَا صَارَ إلَيْهِمْ قَوْمٌ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ ( قِيلَ : وَإِنْ كَفَوْا ) أَيْ أَهْلُ الْبَلَدِ وَمَنْ يَلِيهِمْ يَلْزَمُ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ مُوَافَقَتُهُمْ مُسَاعَدَةً لَهُمْ ، وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ .
تَنْبِيهٌ : قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يُوجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ بِلَا ضَبْطٍ حَتَّى يَصِلَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْا ، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ : وَمَنْ عَلَى مَسَافَةٍ .
قِيلَ يَلْزَمُهُمْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، وَالْأَصَحُّ إنْ كَفَى أَهْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُمْ .

وَلَوْ أَسَرُوا مُسْلِمًا فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ النُّهُوض إلَيْهِمْ لِخَلَاصِهِ إنْ تَوَقَّعْنَاهُ .
( وَلَوْ أَسَرُوا ) أَيْ الْكُفَّارُ ( مُسْلِمًا فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ النُّهُوضِ إلَيْهِمْ ) وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا دَارَنَا ( لِخَلَاصِهِ إنْ تَوَقَّعْنَاهُ ) بِأَنْ يَكُونُوا قَرِيبِينَ كَمَا نَنْهَضُ إلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ دَارَنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الدَّارِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ إزْعَاجِ الْجُنُودِ لِخَلَاصِ أَسِيرٍ بَعِيدٌ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهُ بِأَنْ لَمْ يَرْجُوهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ جِهَادُهُمْ ، بَلْ يَنْتَظِرُ لِلضَّرُورَةِ ، وَذَكَرَ فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ فَكَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ الذِّمِّيِّينَ .
تَتِمَّةٌ : لَا تَتَسَارَعُ الطَّوَائِفُ وَالْآحَادُ مِنَّا إلَى دَفْعِ مَلِكٍ مِنْهُمْ عَظِيمِ شَوْكَتُهُ دَخَلَ أَطْرَافَ بِلَادِنَا لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْخَطَرِ .

[ فَصْلٌ ] يُكْرَهُ غَزْوٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ .
[ فَصْلٌ ] فِيمَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَزْوِ ، وَمَنْ يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ قَتْلُهُ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِهِ ( يُكْرَهُ غَزْوٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ) تَأَدُّبًا مَعَهُ ، وَلِأَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَصَالِحِ الْجِهَادِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ التَّغْرِيرِ بِالنُّفُوسِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجِهَادِ .
وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ : الْأَذْرَعِيُّ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْمُتَطَوِّعَةِ أَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْصَدُونَ لِمُهِمَّاتٍ تَعْرِضُ لِلْإِسْلَامِ يَصْرِفهُمْ فِيهَا الْإِمَامُ ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأُجَرَاءِ .
تَنْبِيهٌ : اسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الْكَرَاهَةِ صُوَرًا .
إحْدَاهَا : أَنْ يَفُوتَهُ الْمَقْصُودُ بِذَهَابِهِ لِلِاسْتِئْذَانِ .
ثَانِيهَا : إذَا عَطَّلَ الْإِمَامُ الْغَزْوَ وَأَقْبَلَ هُوَ وَجُنُودُهُ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا كَمَا يُشَاهَدُ .
ثَالِثُهَا : إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْذَنَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ .

وَيُسَنُّ إذْ بَعَثَ سَرِيَّةً أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذَ الْبَيْعَةَ بِالثَّبَاتِ .

( وَيُسَنُّ ) لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ( إذْ بَعَثَ سَرِيَّةً ) لِبِلَادِ الْكُفَّارِ ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعُمِائَةٍ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَسْرِي فِي اللَّيْلِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خُلَاصَةِ الْعَسْكَرِ وَخِيَارُهُ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَخَيْرُ الْجَيْشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، وَلَنْ تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَزَادَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ " إذَا صَبَرُوا وَصَدَقُوا " ( أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ ) أَمِيرًا مُطَاعًا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ ( وَيَأْخُذَ ) عَلَيْهِمْ ( الْبَيْعَةَ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ : الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ( بِالثَّبَاتِ ) عَلَى الْجِهَادِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَأَنْ يَبْعَثَ الطَّلَائِعَ ، وَيَتَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْكُفَّارِ .
قَالَ : الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْأُمِّ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ الْغَزْوَ إلَّا ثِقَةً فِي دِينِهِ ، شُجَاعًا فِي بَدَنِهِ ، حَسَنَ الْإِنَابَةِ ، عَارِفًا بِالْحَرْبِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْهَرَبَ وَيَتَقَدَّمُ عِنْدَ الطَّلَبِ ، وَأَنْ يَكُونَ ذَا رَأْيُ فِي السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِيَسُوسَ الْجَيْشَ عَلَى اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ فِي الطَّاعَةِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ .
وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ النَّهَارِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَأَنْ يَبْعَثَ الطَّلَائِعَ ، وَيَتَجَسَّسَ أَخْبَارَ الْكُفَّارِ ، وَيَعْقِدَ الرَّايَاتِ ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ فَرِيقٍ رَايَةٍ وَشِعَارًا .
رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ حم لَا يُنْصَرُونَ } قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ : حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يُنْصَرُونَ ، وَأَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَرْهَبُ ، وَأَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ : عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ ، وَعِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } وَيَسْتَنْصِرُ بِالضُّعَفَاءِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ } ، وَيُكَبِّرَ بِلَا إسْرَافٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ ، وَيَجِبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا إنْ عَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، وَإِلَّا اُسْتُحِبَّ ، وَجَازَ بَيَاتُهُمْ .
قَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْرِفَ الْغُزَاةُ الْآدَابَ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا وَمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ ، وَمَنْ يُسْهِمُ وَمَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ .

وَلَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِكُفَّارٍ تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُمْ ، وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوْ انْضَمَّتْ فِرْقَتَا الْكُفْرِ قَاوَمْنَاهُمْ .

( وَلَهُ الِاسْتِعَانَةُ ) عَلَى الْكُفَّارِ ( بِكُفَّارٍ ) مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُمْ ) .
قَالَ : فِي الرَّوْضَةِ : وَأَنْ يُعْرَفَ حُسْنُ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ .
وَالرَّافِعِيُّ جَعَلَ مَعْرِفَةَ حُسْنِ رَأْيِهِمْ مَعَ أَمْنِ الْخِيَانَةِ شَرْطًا وَاحِدًا .
وَثَانِيهمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوْ انْضَمَّتْ فِرْقَتَا الْكُفْرِ قَاوَمْنَاهُمْ ) أَيْ إنَّهُمْ إذَا انْضَمُّوا إلَى الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ ، فَإِنْ زَادُوا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الضِّعْفِ لَمْ تَجُزْ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ ، وَشَرَطَ الْعِرَاقِيُّونَ قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا الشَّرْطُ وَمَا قَبْلَهُ : أَيْ هُوَ مُقَاوَمَةِ الْفَرِيقَيْنِ كَالْمُتَنَافِيَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَلُّوا حَتَّى احْتَاجُوا لِمُقَاوَمَةِ فِرْقَةٍ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْأُخْرَى كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمَا مَعًا ؟ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَا مُنَافَاةَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ فِرْقَةً يَسِيرَةً لَا يَكْثُرُ الْعَدَدُ بِهِمْ كَثْرَةً ظَاهِرَةً .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : وَفِيهِ لِينٌ .
ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا كَانُوا مِائَتَيْنِ مَثَلًا وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَفِيهِمْ قِلَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِاسْتِوَاءِ الْعَدَدَيْنِ ، فَإِذَا اسْتَعَانُوا بِخَمْسِينَ كَافِرًا فَقَدْ اسْتَوَى الْعَدَدَانِ ، وَلَوْ انْحَازَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسُونَ إلَى الْعَدُوِّ فَصَارُوا مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَمْكَنَ الْمُسْلِمِينَ مُقَاوَمَتِهِمْ لِعَدَمِ زِيَادَتِهِمْ عَلَى الضِّعْفِ .
قَالَ : وَأَيْضًا فَفِي كُتُبِ جَمْعٍ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ اعْتِبَارُ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْقِلَّةِ ، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ فَلَا يَتَنَافَى الشَّرْطَانِ انْتَهَى .
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى وَأَقَرَّهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
تَنْبِيهٌ : يَفْعَلُ الْإِمَامُ

بِالْمُسْتَعَانِ بِهِمْ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً مِنْ إفْرَادِهِمْ بِجَانِبِ الْجَيْشِ أَوْ اخْتِلَاطِهِمْ بِهِ بِأَنْ يُفَرِّقَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْقَرُ لَهُمْ ، وَيَرُدَّ الْمُخْذِلَ وَهُوَ مَنْ يُخَوِّفُ النَّاسُ كَأَنْ يَقُولَ : عَدُوُّنَا كَثِيرٌ وَجُنُودُنَا ضَعِيفَةٌ ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ ، وَيَرُدَّ الْمُرْجِفَ ، وَهُوَ مَنْ يُكْثِرُ الْأَرَاجِيفَ كَأَنْ يَقُولَ : قُتِلَتْ سَرِيَّةُ كَذَا ، وَلَحِقَ مَدَدٌ لِلْعَدُوِّ مِنْ جِهَةِ كَذَا ، أَوْ لَهُمْ كَمِينٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا ، وَيَرُدَّ أَيْضًا الْخَائِنَ ، وَهُوَ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُمْ وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى الْعَوْرَاتِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فِي الْغَزَوَاتِ ، وَهُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ مَعَ ظُهُورِ التَّخْذِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَقْوِيَاءَ فِي الدِّينِ لَا يُبَالُونَ بِالتَّخْذِيلِ وَنَحْوِهِ ، أَوْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطَّلِعُ بِالْوَحْيِ عَلَى أَفْعَالِهِ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِكَيْدِهِ ، وَيَمْنَعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ حَتَّى سَلَبِ قَتِيلِهِمْ .

وَ بِعَبِيدٍ بِإِذْنِ السَّادَةِ وَ مُرَاهِقِينَ أَقْوِيَاءَ .
( وَ ) الِاسْتِعَانَةُ ( بِعَبِيدٍ بِإِذْنِ السَّادَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِمْ فِي الْقِتَالِ .
وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالْمُكَاتَبَ كِتَابَةً صَحِيحَةً فَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُ سَيِّدِهِمَا .
قَالَ : شَيْخُنَا : وَفِيمَا قَالَهُ فِي الْمُكَاتَبِ وَقْفَةٌ .
ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ ( وَ ) لَهُ أَيْضًا الِاسْتِعَانَةُ بِأَشْخَاصٍ ( مُرَاهِقِينَ أَقْوِيَاءَ ) فِي قِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ كَسَقْيِ مَاءٍ وَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى لِمَا مَرَّ .
وَيَصْحَبُ أَيْضًا النِّسَاءَ لِمِثْلِ ذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ وَأَصْنَعُ لَهُمْ الطَّعَامَ ، وَأُدَاوِي لَهُمْ الْجَرْحَى ، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى } .
تَنْبِيهٌ : الْخَنَاثَى وَالنِّسَاءُ إنْ كَانُوا أَحْرَارًا كَالْمُرَاهِقِينَ فِي اسْتِئْذَانِ الْأَوْلِيَاءِ ، أَوْ أَرِقَّاءَ فَكَالْعَبِيدِ فِي اسْتِئْذَانِ السَّادَاتِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ .
أَمَّا إحْضَارُ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِبْيَانِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ بِلَا تَرْجِيحٍ ، وَرَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ الْجَوَازَ وَقَالَ : إنَّهُ مَجْزُومٌ بِهِ فِي الْأُمِّ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ اعْتِبَارُ الْإِذْنِ فِي الْعَبِيدِ دُونَ الْمُرَاهِقِينَ ، وَيُشْبِهُ كَمَا قَالَ : ابْنُ شُهْبَةَ اعْتِبَارَ إذْنِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا إذْنَهُ فِي الْبَالِغِ فَفِي الْمُرَاهِقِ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالْمُرَاهِقِينَ تَغْرِيرٌ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَا أَثَرَ لِرِضَاهُمْ وَرِضَا الْأَوْلِيَاءِ بِذَلِكَ لِغَرَضِ الشَّهَادَةِ كَمَا لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي إتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ أَثَرًا ظَاهِرًا ، وَهُوَ تَمَرُّنُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ .

وَلَهُ بَذْلُ الْأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِهِ .
( وَلَهُ ) أَيْ الْإِمَامِ ( بَذْلُ الْأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِهِ ) إعَانَةً لِلْغَازِي ، وَلِلْإِمَامِ ثَوَابُ إعَانَتِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا } وَأَمَّا ثَوَابُ الْجِهَادِ فَلِمُبَاشِرِهِ ، وَلِلْآحَادِ بَذْلُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَهُمْ ثَوَابُ إعَانَتِهِمْ ، وَثَوَابُ الْجِهَادِ لِمُبَاشِرِهِ كَمَا مَرَّ ، وَمَحِلُّهُ فِي الْمُسْلِمِ .
أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا ، بَلْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى اجْتِهَادٍ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَخُونُ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذُكِرَ مَحِلُّهُ إذَا بَذَلَ ذَلِكَ ، لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْغَزْوُ لِلْبَاذِلِ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ .
( وَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ ) ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْهُ ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُرْتَزِقَةُ مِنْ الْفَيْءِ ، وَالْمُتَطَوِّعَةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ لَهُمْ ، بَلْ هُوَ مُرَتَّبُهُمْ وَجِهَادُهُمْ وَاقِعٌ مِنْهُمْ ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ جَمَاعَةً عَلَى الْغَزْوِ لَمْ يَسْتَحِقُّوا أُجْرَةً لِوُقُوعِ غَزْوِهِمْ لَهُمْ ، قَالَ : الْبَغَوِيّ : هَذَا إنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ ، وَإِلَّا فَلَهُمْ الْأُجْرَةُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى حُضُورِ الْوَقْعَةِ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ حَسَنٌ فَلْيُحْمَلْ إطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ .
.

وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ لِلْإِمَامِ .
قِيلَ : وَلِغَيْرِهِ .

تَنْبِيهٌ : قَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ، وَذَكَرَ هَهُنَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ ( وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ ) وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ ( لِلْإِمَامِ ) حَيْثُ تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ وَلَوْ بِأَكْثَرِ مِنْ سَهْمٍ لِرَاجِلٍ أَوْ فَارِسٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْهُ .
فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ الدَّوَابِّ ، وَاغْتَفَرَتْ الْجَهَالَةُ لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْقِتَالُ ، وَلِأَنَّ مُعَاقَدَةَ الْكُفَّارِ يُحْتَمَلُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي مُعَاقَدَةِ الْمُسْلِمِينَ ( قِيلَ : وَلِغَيْرِهِ ) مِنْ الْآحَادِ كَالْأَذَانِ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَا تَتَوَلَّاهَا الْآحَادُ ، وَالْأَذَانُ الْأَجِيرُ فِيهِ مُسْلِمٌ ، وَهَذَا كَافِرٌ لَا يُؤْتَمَنُ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ صِحَّةُ اسْتِئْجَارِ الذِّمِّيِّ وَنَحْوِهِ بِأَيْ مَالٍ كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، أَوْ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ إنَّمَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسَمًّى أَوْ أُجْرَةَ مِثْلٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ غَنِيمَةِ قِتَالِهِ لَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ، وَلَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْضَرُ لِلْمَصْلَحَةِ ، لَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِمَجْهُولٍ كَأَنْ قَالَ : أُرْضِيكَ أَوْ أُعْطِيكَ مَا تَسْتَعِينُ بِهِ وَقَاتِلْ وَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْ كَنَظَائِرِهِ ، وَإِنْ قَهَرَ الْكُفَّارَ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ فَهَرَبُوا قَبْلَ وُقُوعِهِمْ فِي الصَّفِّ ، أَوْ خَلَّى سَبِيلَهُمْ قَبْلَهُ فَلَهُمْ أُجْرَةُ الذَّهَابِ فَقَطْ وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُمْ فِي الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ حِينَئِذٍ كَيْفَ شَاءُوا وَلَا حَبْسَ وَلَا اسْتِئْجَارَ ، وَإِنْ رَضُوا بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَعِدْهُمْ بِشَيْءٍ رَضَخَ لَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهَا ، وَتُفَارِقُ الْأُجْرَةَ بِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ طَامِعًا بِلَا مُسَمًّى

فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمُجَاهِدِينَ فَجُعِلَ فِي الْقِسْمَةِ مَعَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَضَرَ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهَا عِوَضٌ مَحْضٌ وَنَظَرُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا فَجُعِلَتْ فِيمَا يَخْتَصُّ بِيَدِ الْإِمَامِ وَتَصَرُّفِهِ وَلَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ الْغَانِمُونَ .
أَمَّا إذَا خَرَجُوا بِلَا إذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّبِّ عَنْ الدِّينِ بَلْ مُتَّهَمُونَ بِالْخِيَانَةِ وَالْمَيْلِ إلَى أَهْلِ دِينِهِمْ سَوَاءٌ أَنَهَاهُمْ عَنْ الْخُرُوجِ أَمْ لَا ، بَلْ لَهُ تَعْزِيرُهُمْ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ إنْ رَآهُ .

وَيُكْرَهُ لِغَازٍ قَتْلُ قَرِيبٍ وَ مَحْرَمٍ أَشَدُّ .
قُلْتُ : إلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَيُكْرَهُ لِغَازٍ قَتْلُ قَرِيبٍ ) لَهُ كَافِرٍ ؛ لِأَنَّ الشَّفَقَةَ قَدْ تَحْمِلُ عَلَى النَّدَامَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَعْفِهِ عَنْ الْجِهَادِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الرَّحْمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَإِنْ اقْتَضَتْ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ( وَ ) قَتْلُ قَرِيبٍ ( مَحْرَمٍ ) لَهُ ( أَشَدُّ ) كَرَاهَةً ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قَتْلِ وَلَدِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمَنَعَ أَبَا حُذَيْفَةَ مِنْ قَتْلِ أَبِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ ( قُلْتُ : إلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ ) أَوْ يَعْلَمَ بِطَرِيقٍ يَجُوزُ لَهُ اعْتِمَادُهُ أَنَّهُ ( يَسُبُّ اللَّهَ ) تَعَالَى ( أَوْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بِأَنْ يَذْكُرَهُ بِسُوءٍ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) بَلْ يَنْبَغِي الِاسْتِحْبَابُ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ } زَادَ مُسْلِمٌ { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَكَذَا لَا كَرَاهَةَ إذَا قَصَدَ هُوَ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ .

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى مُشْكِلٍ .
( وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ ) وَمَنْ بِهِ رِقٌّ ( وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى مُشْكِلٍ ) لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَأُلْحِقَ الْمَجْنُونُ بِالصَّبِيِّ ، وَالْخُنْثَى بِالْمَرْأَةِ لِاحْتِمَالِ أُنُوثَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ : الْأُولَى : إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُضْطَرُّ سِوَاهُمْ فَلَهُ قَتْلُهُمْ وَأَكْلُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ مِنْ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا قَاتَلُوا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ، وَقَدْ اسْتَثْنَاهَا فِي الْمُحَرَّرِ .
الثَّالِثَةُ : حَالُ الضَّرُورَةِ عِنْدَ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي .
الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَتْ النِّسَاءُ مِنْ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَالدَّهْرِيَّةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَامْتَنَعْنَ مِنْ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : فَيُقْتَلْنَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
الْخَامِسَةُ : إذَا سَبَّ الْخُنْثَى أَوْ الْمَرْأَةُ الْإِسْلَامَ أَوْ الْمُسْلِمِينَ لِظُهُورِ الْفَسَادِ ، وَيُقْتَلُ مُرَاهِقٌ نَبَتَ الشَّعْرُ الْخَشْنُ عَلَى عَانَتِهِ ؛ لِأَنَّ إنْبَاتَهُ دَلِيلُ بُلُوغِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْحَجْرِ لَا إنْ ادَّعَى اسْتِعْجَالَهُ بِدَوَاءٍ وَحَلَفَ أَنَّهُ اسْتَعْجَلَهُ بِذَلِكَ فَلَا يُقْتَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِنْبَاتَ لَيْسَ بُلُوغًا بَلْ دَلِيلُهُ ، وَحَلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ وَإِنْ تَضَمَّنَ حَلِفَ مَنْ يَدَّعِي الصِّبَا لِظُهُورِ أَمَارَةِ الْبُلُوغِ فَلَا يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ .

وَيَحِلُّ قَتْلُ رَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَشَيْخٍ وَأَعْمَى وَزَمِنٍ لَا قِتَالَ فِيهِمْ وَلَا رَأْيٍ فِي الْأَظْهَرِ ، فَيُسْتَرَقُّونَ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ .
( وَيَحِلُّ قَتْلُ رَاهِبٍ وَأَجِيرٍ ) وَمُحْتَرِفٍ ( وَشَيْخٍ ) وَلَوْ ضَعِيفًا ( وَأَعْمَى وَزَمِنٍ ) وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الصَّفَّ ، وَ ( لَا قِتَالَ فِيهِمْ وَلَا رَأْيَ فِي الْأَظْهَرِ ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَلِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُكَلَّفُونَ فَجَازَ قَتْلُهُمْ كَغَيْرِهِمْ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا ، فَإِنْ قَاتَلُوا قُتِلُوا قَطْعًا ، وَالْمُرَادُ بِالرَّاهِبِ عَابِدُ النَّصَارَى ، فَيَشْمَلُ الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : لَا رَأْيَ فِيهِمْ عَمَّا إذَا كَانَ فِيهِمْ رَأْيٌ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ قَطْعًا ، وَقَوْلُهُ لَا قِتَالَ فِيهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ فِي الشَّيْخِ وَمَنْ بَعْدَهُ ؛ فَإِنَّ الرَّاهِبَ وَالْأَجِيرَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الْقِتَالُ ، وَيَجُوزُ قَتْلُ السُّوقَةِ لَا الرُّسُلِ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِجَرَيَانِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ ، وَإِذَا جَازَ قَتْلُ الْمَذْكُورِينَ ( فَيُسْتَرَقُّونَ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ ) وَصِبْيَانُهُمْ وَمَجَانِينُهُمْ ( وَ ) تُغْنَمُ ( أَمْوَالُهُمْ ) وَإِذَا مَنَعْنَا قَتْلَهُمْ رَقُّوا بِنَفْسِ الْأَسْرِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُهُ عَلَى سَبْيِ النِّسَاءِ يُوهِمُ أَنَّ صِبْيَانَهُمْ وَمَجَانِينَهُمْ لَا تُسْبَى ، وَهُوَ وَجْهٌ .
وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ كَمَا تَقَرَّرَ .

وَيَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ وَإِرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيقَ
( وَيَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ ) وَالْحُصُونِ ( وَالْقَلَّاعِ ، وَإِرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ ، وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ ) وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ هَدْمِ بُيُوتِهِمْ ، وَقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ ، وَإِلْقَاءِ حَيَّاتٍ أَوْ عَقَارِبَ عَلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ " أَنَّهُ نَصَبَ عَلَيْهِمْ الْمَنْجَنِيقَ " ، وَقِيسَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَعُمُّ الْإِهْلَاكُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى كَلَامِهِ جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَاحْتُمِلَ أَنْ يُصِيبَهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ السَّبْيِ ؛ لِأَنَّهُمْ غَنِيمَةٌ ، وَمَحِلُّ جَوَازِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا ، فَلَوْ تَحَصَّنَ بِهَا أَوْ بِمَوْضِعٍ مِنْ حَرَمِهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى طَائِفَةٌ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ بِمَا يَعُمُّ كَمَا نَقَلَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ الْمَجْمُوعِ عَنْ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ إتْلَافُهُمْ بِمَا ذُكِرَ وَإِنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ بِدُونِهِ .
قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : وَبِهِ صَرَّحَ الْبَنْدَنِيجِيُّ .
نَعَمْ يُكْرَهُ حِينَئِذٍ إذْ لَا نَأْمَنُ أَنْ نُصِيبَ مُسْلِمًا مِنْ الْجَيْشِ نَظُنُّهُ كَافِرًا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأُمِّ .

وَتَبْيِيتُهُمْ فِي غَفْلَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَ ) يَجُوزُ ( تَبْيِيتُهُمْ فِي غَفْلَةٍ ) وَهُوَ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ لَيْلًا وَهُمْ غَافِلُونَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَسُئِلَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ } .
تَنْبِيهٌ : اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ .
قَالَ : فَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى يُدْعَوْا إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ضُمِنَ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَصْحَابُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِثْنَائِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِأَصْلِ الْقِتَالِ ( فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ ) أَوْ نَحْوُهُ ( جَازَ ذَلِكَ ) أَيْ الرَّمْيُ بِمَا ذُكِرَ وَغَيْرِهِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْجِهَادُ بِحَبْسِ مُسْلِمٍ عِنْدَهُمْ وَقَدْ لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ أُصِيبَ رُزِقَ الشَّهَادَةَ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْجَوَازِ لَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ سَوَاءٌ اُضْطُرُّوا إلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ، وَمُلَخَّصُ مَا فِي الرَّوْضَةِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ : الْمَذْهَبُ إنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً كُرِهَ تَحَرُّزًا مِنْ إهْلَاكِ الْمُسْلِمِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَظْهَرِ ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً كَخَوْفِ ضَرَرِهِمْ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ فَتْحُ الْقَلْعَةِ إلَّا بِهِ جَازَ قَطْعًا وَكَالْمُسْلِمِ الطَّائِفَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ الْجَوَازِ إذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ .

وَلَوْ الْتَحَمَ حَرْبٌ فَتَتَرَّسُوا بِنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ جَازَ رَمْيُهُمْ ، وَإِنْ دَفَعُوا بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ فَالْأَظْهَرُ تَرْكُهُمْ وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ تَرَكْنَاهُمْ ، وَإِلَّا جَازَ رَمْيُهُمْ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَوْ الْتَحَمَ حَرْبٌ فَتَتَرَّسُوا بِنِسَاءٍ ) وَخَنَاثَى ( وَصِبْيَانٍ ) وَمَجَانِينَ مِنْهُمْ ( جَازَ ) حِينَئِذٍ ( رَمْيُهُمْ ) إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ ، وَنَتَوَقَّى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ الْجِهَادِ وَطَرِيقًا إلَى الظَّفَرِ بِالْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّا إنْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ لِأَجْلِ التَّتَرُّسِ بِمَنْ ذُكِرَ لَا يَكُفُّونَ عَنَّا فَالِاحْتِيَاطُ لَنَا أَوْلَى مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِمَنْ ذُكِرَ ( وَإِنْ دَفَعُوا بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ فَالْأَظْهَرُ تَرْكُهُمْ ) وُجُوبًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى قَتْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ قَتْلِهِمْ ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ جَوَازُ رَمْيِهِمْ كَمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْقَلْعَةِ وَإِنْ كَانَ يُصِيبُهُمْ ، وَلِئَلَّا يَتَّخِذُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ أَوْ حِيلَةً إلَى اسْتِبْقَاءِ الْقِلَاعِ لَهُمْ ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ عَظِيمٌ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ دَفَعُوا بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَمَّا إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَكْرًا وَخَدِيعَةً لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ شَرْعَنَا يَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ حِصَارِهِمْ وَلَا الِامْتِنَاعَ مِنْ رَمْيِهِمْ وَإِنْ أَفْضَى إلَى قَتْلِ مَنْ ذُكِرَ قَطْعًا .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ : فِي الْبَحْرِ : وَشَرْطُ جَوَازِ الرَّمْيِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّوَصُّلَ إلَى رِجَالِهِمْ ( وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ ) وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ ذِمِّيِّينَ كَذَلِكَ ( فَإِنْ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ تَرَكْنَاهُمْ ) وُجُوبًا صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَفَارَقَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مَحْقُونَا الدَّمِ لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَالْعَهْدِ فَلَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ حُقِنُوا لِحَقِّ الْغَانِمِينَ فَجَازَ رَمْيُهُمْ بِلَا ضَرُورَةٍ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ دَعَتْ

ضَرُورَةٌ إلَى رَمْيِهِمْ بِأَنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ حَالَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ بِحَيْثُ لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا وَكَثُرَتْ نِكَايَتُهُمْ ( جَازَ رَمْيُهُمْ ) حِينَئِذٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ، وَنَقْصِدُ بِذَلِكَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَنَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الذِّمَّةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْإِعْرَاضِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِقْدَامِ ، وَيُحْتَمَلُ هَلَاكُ طَائِفَةٍ لِلدَّفْعِ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَمُرَاعَاةِ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ إذَا لَمْ يَتَأَتَّ رَمْيُ الْكُفَّارِ إلَّا بِرَمْيِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَكَالذِّمِّيِّ الْمُسْتَأْمَنُ .

تَنْبِيهٌ : إذَا رَمَى شَخْصٌ إلَيْهِمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا ، وَكَذَا الدِّيَةُ إنْ عَلِمَهُ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا ، أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَوَقِّيه وَالرَّمْيُ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ تَجْوِيزِ الرَّمْيِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَحَيْثُ تَجِبُ فِي الْحُرِّ دِيَةٌ تَجِبُ فِي الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِمَالِ مُسْلِمٍ أَوْ رَكِبَ مَرْكُوبَهُ فَرَمَاهُ مُسْلِمٌ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ إلَّا إنْ اُضْطُرَّ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الِالْتِحَامِ الدَّفْعُ إلَّا بِإِصَابَتِهِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ ، وَإِنْ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ عِنْد الضَّرُورَةِ ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ فِي نَحْوِ قَلْعَةٍ عِنْدَ مُحَاصَرَتِهَا فَلَا نَرْمِي التُّرْسَ ؛ لِأَنَّا فِي غُنْيَةٍ عَنْ رَمْيِهِ .

وَيَحْرُمُ الِانْصِرَافُ عَنْ الصَّفِّ إذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْنَا إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا ، وَيَجُوزُ إلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ فِي الْأَصَحِّ .

( وَيَحْرُمُ ) عَلَى مَنْ لَزِمَهُ الْجِهَادُ عِنْدَ الْتِقَاءِ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ ( الِانْصِرَافُ عَنْ الصَّفِّ ) وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ قُتِلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ } وَعَدَّ مِنْهَا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَخَرَجَ بِمَنْ لَزِمَهُ الْجِهَادُ مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَرِيضٍ وَامْرَأَةٍ ، وَبِالصَّفِّ مَا لَوْ لَقِيَ مُسْلِمٌ مُشْرِكَيْنِ فَلَهُ الِانْصِرَافُ وَإِنْ طَلَبَاهُ ، وَكَذَا إنْ طَلَبَهُمَا فَقَطْ فَلَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَإِنْ قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : إنْ الْأَظْهَرَ وَمُقْتَضَى نَصِّ الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْصِرَافُ ، هَذَا ( إذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْنَا ) بِأَنْ كَانُوا مِثْلَيْنَا أَوْ أَقَلَّ ، قَالَ : تَعَالَى : { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ : أَيْ لِيَصْبِرْ مِائَةٌ لِمِائَتَيْنِ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } إذْ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقَعْ ، بِخِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ، وَالْمَعْنَى فِي وُجُوبِ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الضَّعْفِ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقْتَلَ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَسْلَمَ فَيَفُوزَ بِالْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ ، وَالْكَافِرَ يُقَاتِلُ عَلَى الْفَوْزِ بِالدُّنْيَا ( إلَّا ) مُنْصَرِفًا عَنْهُ ( مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ ) وَأَصْلُ التَّحَرُّفِ الزَّوَالُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَضِيقٍ إلَى مُتَّسَعٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِتَالُ أَوْ يَتَحَوَّلُ عَنْ مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ أَوْ الرِّيحِ الَّذِي يَسُفُّ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ إلَى مَوْضِعٍ وَاسِعٍ .
قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مُعْطَشٍ ، فَانْتَقَلَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مَاءٌ (

أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ ) أَيْ طَائِفَةٍ قَرِيبَةٍ تَلِيه مِنْ الْمُسْلِمِينَ ( يَسْتَنْجِدُ بِهَا ) لِلْقِتَالِ يَنْضَمُّ إلَيْهَا وَيَرْجِعُ مَعَهَا مُحَارِبًا فَيَجُوزُ انْصِرَافُهُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ } وَالتَّحَيُّزُ أَصْلُهُ الْحُصُولُ فِي حَيِّزٍ وَهُوَ النَّاحِيَةُ وَالْمَكَانُ الَّذِي يَحُوزُهُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذَّهَابُ بِنِيَّةِ الِانْضِمَامِ إلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعَ مَعَهُمْ مُحَارِبًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ لِيُقَاتِلَ مَعَ الْفِئَةِ الْمُتَحَيِّزِ إلَيْهَا عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ عَزْمَهُ الْعَوْدَ لِذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ الِانْصِرَافَ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْجِهَادُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ الصَّرِيحِ كَمَا لَا تَجِبُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ ، فَفِي الْعَزْمِ أَوْلَى ( وَيَجُوزُ ) التَّحَيُّزُ ( إلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ، لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ وَجُنُودُهُ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَلِأَنَّ عَزْمَهُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْقِتَالِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ قُرْبُهَا لِيُتَصَوَّرَ الِاسْتِنْجَادَ بِهِمْ فِي هَذَا الْقِتَالِ .
تَنْبِيهٌ : مَنْ عَجَزَ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ كَغَلَبَةِ عَقْلٍ بِلَا إثْمٍ أَوْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ جَازَ لَهُ الِانْصِرَافُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَكَذَا إذَا حَضَرَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ : بَلْ يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ ذَهَبَ سِلَاحُهُ وَأَمْكَنَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ الصَّفِّ كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ هُنَا ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ صَحَّحَ الِانْصِرَافَ ، وَإِنْ ذَهَبَ فَرَسُهُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ رَاجِلًا جَازَ لَهُ الِانْصِرَافُ ، وَيُنْدَبُ لِمَنْ فَرَّ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ قَصْدُ التَّحَيُّزِ أَوْ التَّحَرُّفِ لِيَخْرُجَ عَنْ صُورَةِ الْفِرَارِ الْمُحَرَّمِ ، وَإِذَا عَصَى بِالْفِرَارِ

هَلْ يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقِتَالِ أَوْ يَكْفِيه أَنَّهُ مَتَى عَادَ لَا يَنْهَزِمُ إلَّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي .

وَلَا يُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إلَى بَعِيدَةٍ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ، وَيُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إلَى قَرِيبَةٍ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إلَى ) فِئَةٍ ( بَعِيدَةٍ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ تَفُوتُ بِبُعْدِهِ .
أَمَّا مَا غَنِمُوهُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ فَيُشَارِكُ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ( وَيُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إلَى ) فِئَةٍ ( قَرِيبَةٍ ) الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِبَقَاءِ نُصْرَتِهِ فَهُوَ كَالسَّرِيَّةِ الْقَرِيبَةِ تُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَهُ ، وَالثَّانِي لَا يُشَارِكُهُ لِمُفَارَقَتِهِ ، وَيُشَارِكُ فِيمَا غَنِمَ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ الْقَرِيبَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ غَوْثَهَا الْمُتَحَيِّزُ عَنْهَا عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ وَالْمُتَحَرِّفُ يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيمَا غَنِمَ بَعْدَهَا نَصَّ عَلَيْهِ : أَيْ إذَا بَعُدَ ، وَمَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْعُدْ كَمَا فَصَّلَ فِي الْفِئَةِ .

فَرْعٌ : لَوْ ادَّعَى الْهَارِبُ التَّحَرُّفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إنْ عَادَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ، وَيَسْتَحِقُّ مِنْ الْجَمِيعِ إنْ حَلَفَ وَإِلَّا فَفِي الْمَحُوزِ بَعْدَ عَوْدِهِ فَقَطْ .
قَالَهُ الْبَغَوِيّ : وَرَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ ، وَالْجَاسُوسُ إذَا بَعَثَهُ الْإِمَامُ لِيَنْظُرَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ ، وَيَنْقُلَ أَخْبَارَهُمْ إلَيْنَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِيمَا غَنِمَ فِي غَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَصْلَحَتِنَا وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّبَاتِ فِي الصَّفِّ .

فَإِنْ زَادَ عَلَى مِثْلَيْنِ جَازَ الِانْصِرَافُ إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ انْصِرَافُ مِائَةِ بَطَلٍ عَنْ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدٍ ضُعَفَاءَ فِي الْأَصَحِّ .

( فَإِنْ زَادَ ) عَدَدُ الْكُفَّارِ ( عَلَى مِثْلَيْنِ ) مِنَّا ( جَازَ الِانْصِرَافُ ) عَنْ الصَّفِّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } الْآيَةَ ( إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ انْصِرَافُ مِائَةِ بَطَلٍ ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ ( عَنْ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدٍ ضُعَفَاءَ ) مِنْ الْكُفَّارِ ( فِي الْأَصَحِّ ) اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ لَوْ ثَبَتُوا ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْعَدَدُ عِنْدَ تَقَارُبِ الْأَوْصَافِ ، وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ .
تَنْبِيهٌ : الْخِلَافُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ ، وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يُغَلِّبُ الظَّنَّ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى مِثْلَيْهِمْ وَيَرْجُونَ الظَّفَرَ بِهِمْ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنَى يُخَصِّصُهُ أَوْ لَا ، وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ كَمَا خُصِّصَ عُمُومُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ الْقِتَالُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الْغَلَبَةُ دَائِرٌ مَعَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا مَعَ الْعَدَدِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ ، وَالْخِلَافُ جَارٍ فِي عَكْسِهِ وَهُوَ فِرَارُ مِائَةٍ مِنْ ضُعَفَائِنَا عَنْ مِائَةٍ وَتِسْعِينَ مِنْ أَبْطَالِهِمْ ، وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ ، وَنُسِبَ لِسَبْقِ الْقَلَمِ .
قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : تَجُوزُ الْهَزِيمَةُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ الْمِثْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فُرْسَانًا وَالْكُفَّارُ رَجَّالَةً ، وَيَحْرُمُ مِنْ الْمِثْلَيْنِ وَإِنْ كَانُوا بِالْعَكْسِ ، قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ : أَيْ الضُّعَفَاءِ مَعَ الْأَبْطَالِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعْنَى أَوْ بِالْعَدَدِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : مَا صَحَّحَهُ مِنْ إدَارَةِ الْحَالِ عَلَى الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ الَّتِي احْتَجَّ عَلَيْهَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ .
.

وَتَجُوزُ الْمُبَارَزَةُ فَإِنْ طَلَبَهَا كَافِرٌ اُسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ مِمَّنْ جَرَّبَ نَفْسَهُ وَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ .
فَرْعٌ : إذَا زَادَتْ الْكُفَّارُ عَلَى الضِّعْفِ وَرَجَى الظَّفَرَ بِأَنْ ظَنَنَّاهُ إنْ ثَبَتْنَا اُسْتُحِبَّ لَنَا الثَّبَاتُ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا الْهَلَاكُ بِلَا نِكَايَةٍ وَجَبَ عَلَيْنَا الْفِرَارُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } أَوْ بِنِكَايَةٍ فِيهِمْ اُسْتُحِبَّ لَنَا الْفِرَارُ ( وَتَجُوزُ ) بِلَا نَدْبٍ وَكُرِهَ ( الْمُبَارَزَةُ ) وَهِيَ ظُهُورُ اثْنَيْنِ مِنْ الصَّفَّيْنِ لِلْقِتَالِ ، مِنْ الْبُرُوزِ وَهُوَ الظُّهُورُ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَابْنَ عَفْرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَإِنْ طَلَبَهَا كَافِرٌ اُسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ) أَيْ لِمُبَارَزَتِهِ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ الضَّعْفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالتَّقْوِيَةِ لِلْكَافِرِينَ ( وَإِنَّمَا تَحْسُنُ ) أَيْ تُنْدَبُ الْمُبَارَزَةُ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا كَوْنُهَا ( مِمَّنْ ) أَيْ شَخْصٍ ( جَرَّبَ نَفْسَهُ ) بِأَنْ عَرَفَ مِنْهَا الْقُوَّةَ وَالْجَرَاءَةَ ، وَإِلَّا فَتُكْرَهُ لَهُ ابْتِدَاءٍ وَإِجَابَةً ( وَ ) الشَّرْطُ الثَّانِي كَوْنُهَا ( بِإِذْنِ الْإِمَامِ ) أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي تَعْيِينِ الْأَبْطَالِ .
فَإِنْ بَارَزَ بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ .
قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَدْخُلَ بِقَتْلِهِ ضَرَرٌ عَلَيْنَا بِهَزِيمَةٍ تَحْصُلُ لَنَا لِكَوْنِهِ كَبِيرَنَا .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ : وَأَنْ لَا يَكُونَ عَبْدًا وَلَا فَرْعًا وَلَا مَدْيُونًا مَأْذُونًا لَهُمْ فِي الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالْإِذْنِ فِي الْبِرَازِ ، وَإِلَّا فَيُكْرَهُ لَهُمْ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ تَبَارَزَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمَ وَلَا الْكَافِرُونَ الْكَافِرَ إلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ أَوْ كَانَ عَدَمُ الْإِعَانَةِ عَادَةً فَقَتَلَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ أَوْ وَلَّى أَحَدُهُمَا مُنْهَزِمًا أَوْ أُثْخِنَ الْكَافِرُ جَازَ لَنَا قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ إلَى انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَدْ انْقَضَى ، وَإِنْ شُرِطَ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لِلْمُثْخَنِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ شُرِطَ الْأَمَانُ إلَى دُخُولِهِ الصَّفَّ وَجَبَ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِنْ فَرَّ الْمُسْلِمُ عَنْهُ فَتَبِعَهُ لِيَقْتُلَهُ أَوْ أَثْخَنَهُ الْكَافِرُ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَتْلِهِ .
وَقَتَلْنَا الْكَافِرَ ، وَإِنْ خَالَفْنَا شَرْطَ تَمْكِينِهِ مِنْ إثْخَانِهِ لِنَقْضِهِ الْأَمَانَ فِي الْأُولَى ، وَانْقِضَاءِ الْقِتَالِ فِي الثَّانِيَةِ .
فَإِنْ شُرِطَ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْ قَتْلِهِ فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَهَلْ يَفْسُدُ أَصْلُ الْأَمَانِ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ .
فَإِنْ أَعَانَهُ أَصْحَابُهُ قَتَلْنَاهُمْ وَقَتَلْنَاهُ أَيْضًا إنْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ عَدَمَ الْإِعَانَةِ وَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ مُطْلَقًا ، وَيُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهَا مِنْ بِلَادِهِمْ إلَى بِلَادِنَا ، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أَنْكَرَ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَقَالَ : لَمْ يَفْعَلْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا رُوِيَ مِنْ حَمْلِ رَأْسِ أَبِي جَهْلٍ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي ثُبُوتِهِ ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنَّمَا حُمِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ ، لَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ لِيَنْظُرَ النَّاسَ إلَيْهِ فَيَتَحَقَّقُوا مَوْتَهُ .
نَعَمْ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نِكَايَةٌ لِلْكُفَّارِ لَمْ يُكْرَهْ كَمَا قَالَهُ : الْمَاوَرْدِيُّ وَالْغَزَالِيّ ، وَإِنْ قَالَ : الرَّافِعِيُّ : لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْجُمْهُورُ .

وَيَجُوزُ إتْلَافُ بِنَائِهِمْ وَشَجَرِهِمْ لِحَاجَةِ الْقِتَالِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُرْجَ حُصُولُهَا لَنَا ، فَإِنْ رُجِيَ نُدِبَ التَّرْكُ .
( وَيَجُوزُ ) لَنَا ( إتْلَافُ بِنَائِهِمْ ) بِالتَّخْرِيبِ ( وَشَجَرِهِمْ ) بِالْقَطْعِ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ ( لِحَاجَةِ الْقِتَالِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } وَسَبَبُ نُزُولِهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ .
فَقَالَ : وَاحِدٌ مِنْ الْحِصْنِ إنَّ هَذَا لَفَسَادٌ يَا مُحَمَّدُ ، وَإِنَّكَ تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ فَنَزَلَتْ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
فَإِنْ تَوَقَّفَ الظَّفَرُ عَلَى إتْلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ كَمَا قَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَكَذَا ) يَجُوزُ إتْلَافُهُ ( إنْ لَمْ يُرْجَ ) أَيْ يُظَنُّ ( لَهَا ) أَيْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ ( لَنَا ) مُغَايَظَةً لَهُمْ وَتَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ قَالَ : تَعَالَى : { وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } ( فَإِنْ رُجِيَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ حُصُولُهَا لَنَا ( نُدِبَ التَّرْكُ ) وَكُرِهَ الْإِتْلَافُ حِفْظًا لِحَقِّ الْغَانِمِينَ وَلَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ شَيْئًا فَيَظْهَرُ خِلَافُهُ .
أَمَّا إذَا غَنِمْنَاهَا بِأَنْ فَتَحْنَا دَارَهُمْ قَهْرًا وَصُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَنَا أَوْ لَهُمْ أَوْ غَنِمْنَا أَمْوَالَهُمْ وَانْصَرَفْنَا فَيَحْرُمُ إتْلَافُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ غَنِيمَةً لَنَا .

وَيَحْرُمُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ إلَّا مَا يُقَاتِلُونَا عَلَيْهِ لِدَفْعِهِمْ أَوْ ظَفْرٍ بِهِمْ أَوْ غَنِمْنَاهُ وَخِفْنَا رُجُوعَهُ إلَيْهِمْ وَضَرَرَهُ .
( وَيَحْرُمُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ ) الْمُحْتَرَمِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إلَّا لِأَكْلِهِ ، وَخَالَفَ الْأَشْجَارَ ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَتَيْنِ : حَقُّ مَالِكِهِ ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَةُ الْمَالِكِ لِكُفْرِهِ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الْخَالِقِ فِي بَقَائِهِ ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ مَالِكُ الْحَيَوَانِ مِنْ إجَاعَتِهِ وَعَطَشِهِ بِخِلَافِ الْأَشْجَارِ ( إلَّا ) حَيَوَانًا مَأْكُولًا فَيُذْبَحُ لِلْأَكْلِ خَاصَّةً لِمَفْهُومِ الْخَبَرِ الْمَارِّ ، أَوْ ( مَا يُقَاتِلُونَا عَلَيْهِ ) أَوْ خِفْنَا أَنْ يَرْكَبُوهُ لِلْغَدْرِ كَالْخَيْلِ فَيَجُوزُ إتْلَافُهُ ( لِدَفْعِهِمْ أَوْ ظَفَرٍ بِهِمْ ) ؛ لِأَنَّهَا كَالْآلَةِ لِلْقِتَالِ ، وَإِذَا جَازَ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِهِمْ فَالْخَيْلُ أَوْلَى ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي السِّيَرِ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ( أَوْ ) إلَّا إذَا ( غَنِمْنَاهُ وَخِفْنَا رُجُوعَهُ إلَيْهِمْ وَضَرَرَهُ ) لَنَا فَيَجُوزُ إتْلَافُهُ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَمُغَايَظَةً لَهُمْ .
أَمَّا إذَا خِفْنَا الِاسْتِرْدَادَ فَقَطْ فَلَا يَجُوزُ عَقْرُهَا وَإِتْلَافُهَا ، بَلْ تُذْبَحُ لِلْأَكْلِ كَمَا مَرَّ ، وَإِنْ خِفْنَا اسْتِرْدَادَ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَنَحْوِهِمَا مِنَّا لَمْ يُقْتَلُوا لِتَأْكِيدِ احْتِرَامِهِمْ .

تَتِمَّةٌ : مَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ الْكُفْرِيَّةِ وَالْمُبَدَّلَةِ وَالْهَجْرِيَّةِ وَالْفَحْشِيَّةِ لَا التَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَكُتُبِ الشِّعْرِ وَالطِّبِّ وَاللُّغَةِ يُمْحَى بِالْغَسْلِ إنْ أَمْكَنَ مَعَ بَقَاءِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَإِلَّا مُزِّقَ ، وَإِنَّمَا نُقِرُّهُ بِأَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ لِاعْتِقَادِهِمْ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَنُدْخِلُ الْمَغْسُولَ وَالْمُمَزَّقَ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَخَرَجَ بِتَمْزِيقِهِ تَحْرِيقُهُ فَهُوَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ لِلْمُمَزَّقِ قِيمَةً وَإِنْ قَلَّتْ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ جَمَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ وَأَحْرَقَهُ أَوْ أَمَرَ بِإِحْرَاقِهِ لَمَّا جَمَعَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْصُلُ بِالِانْتِشَارِ هُنَاكَ أَشَدُّ مِنْهَا هُنَا .
أَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ كَالْخِنْزِيرِ وَالْخُمُورِ فَيَجُوزُ إتْلَافُهَا ، لَا أَوَانِي الْخُمُورِ الثَّمِينَةِ ، فَلَا يَجُوزُ إتْلَافُهَا ، بَلْ تُحْمَلُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمِينَةً بِأَنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا عَلَى مُؤْنَةِ حَمْلِهَا أُتْلِفَتْ ، هَذَا إذَا لَمْ يَرْغَبْ أَحَدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فِيهَا ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِ وَلَا تُتْلَفَ ، وَإِنْ كَانَ الْخِنْزِيرُ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَجَبَ إتْلَافُهُ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ .
قَالَ : فِي الْمَجْمُوعِ : ظَاهِرُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُتَخَيَّرُ .
قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : بَلْ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ تُرَاقُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَدُوٌّ .

[ فَصْلٌ ] نِسَاءُ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانُهُمْ إذَا أُسِرُوا رَقُّوا ، وَكَذَا الْعَبِيدُ .
[ فَصْلٌ ] فِي حُكْمِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ( نِسَاءُ الْكُفَّارِ ) أَيْ النِّسَاءِ الْكَافِرَاتُ وَالْخَنَاثَى ( وَصِبْيَانُهُمْ ) وَمَجَانِينُهُمْ ( إذَا أُسِرُوا رَقُّوا ) بِفَتْحِ الرَّاءِ : أَيْ صَارُوا أَرِقَّاءَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ ، فَالْخُمْسُ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْخُمْسِ ، وَالْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ ، ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ السَّبْيَ كَمَا يُقَسِّمُ الْمَالَ ، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْيِ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ تَنْبِيهٌ : مَنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ ، الْعِبْرَةُ فِيهِ بِحَالِ الْأَسْرِ كَمَا بَحَثَهُ الْإِمَامُ وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ ( وَكَذَا الْعَبِيدُ ) لِلْكُفَّارِ ، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ أَوْ مُسْلِمِينَ صَارُوا أَرِقَّاءَ لَنَا .
تَنْبِيهٌ : عَطْفُ الْعَبِيدِ هُنَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَرِقُّ ، فَالْمُرَادُ اسْتِمْرَارُهُ لَا تَجْدِيدُهُ ، وَمِثْلُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ الْمُبَعَّضُونَ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يُقْتَلُ مَنْ ذُكِرَ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُمَا .
فَإِنْ قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ وَلَوْ لَشَرِّهِمْ وَقُوَّتِهِمْ ضَمِنَ قِيمَتَهُمْ لِلْغَانِمِينَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .

وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي الْأَحْرَارِ الْكَامِلِينَ ، وَيَفْعَلُ الْأَحَظَّ ، لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلٍ وَمَنٍّ وَفِدَاءٍ بِأَسْرَى أَوْ مَالٍ وَاسْتِرْقَاقٍ ، فَإِنْ خَفِيَ الْأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ .
( وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ ) أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ ( فِي ) أَسْرَى الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ ( الْأَحْرَارِ الْكَامِلِينَ ) وَهُمْ الذُّكُورُ الْبَالِغُونَ الْعَاقِلُونَ ( وَيَفْعَلُ ) فِيهِمْ وُجُوبًا بَعْدَ أَسْرِهِمْ ( الْأَحَظَّ ) لِلْإِسْلَامِ كَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ ، وَالْأَحَظَّ ( لِلْمُسْلِمِينَ ) مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ مَذْكُورَةٍ فِي قَوْلِهِ ( مِنْ قَتْلٍ ) بِضَرْبِ رَقَبَةٍ لَا بِتَحْرِيقٍ وَتَغْرِيقٍ ( وَمَنٍّ ) عَلَيْهِمْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ ( وَفِدَاءٍ ) بِكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ الْمَدِّ وَبِفَتْحِهَا مَعَ الْقَصْرِ ( بِأَسْرَى ) مُسْلِمِينَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ رِجَالٌ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ أَهْلِ ذِمَّةٍ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا ( أَوْ مَالٍ ) يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَوْ مِنْ مَالِنَا فِي أَيْدِيهمْ ( وَاسْتِرْقَاقٍ ) لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَرْبَعَةِ ، وَقَالَ : تَعَالَى : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وَقَالَ : تَعَالَى : { حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أَيْ بِالِاسْتِرْقَاقِ تَنْبِيهٌ : شَمَلَ إطْلَاقُهُ الِاسْتِرْقَاقَ اسْتِرْقَاقَ كُلِّ شَخْصٍ ، وَكَذَا بَعْضُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : بِنَاءً عَلَى تَبْعِيضِ الْحُرِّيَّةِ فِي وَلَدِ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، وَإِذَا مَنَعْنَا اسْتِرْقَاقَ بَعْضِهِ فَخَالَفَ رِقَّ كُلِّهِ ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ لَنَا صُورَةٌ يَسْرِي فِيهَا الرِّقُّ كَمَا يَسْرِي فِيهَا الْعِتْقُ ( فَإِنْ خَفِيَ ) عَلَى الْإِمَامِ ( الْأَحَظُّ ) السَّابِقُ ( حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ ) لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاجْتِهَادِ لَا إلَى التَّشَهِّي فَيُؤَخَّرُ لِظُهُورِ الصَّوَابِ .

وَقِيلَ لَا يُسْتَرَقُّ وَثَنِيٌّ وَكَذَا عَرَبِيٌّ فِي قَوْلٍ .
لَوْ بَذَلَ الْأَسِيرُ الْجِزْيَةَ فَفِي قَبُولِهَا وَجْهَانِ .
قَالَ : صَاحِبُ الْبَيَانِ : الَّذِي يَقْتَضِيه الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَالٌ أَوْ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْلَى .
قَالَ : فِي الشَّامِلِ : إذَا بَذَلَ الْجِزْيَةَ حَرُمَ قَتْلُهُ وَتَخَيَّرَ الْإِمَامُ فِيمَا عَدَا الْقَتْلَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ .
ثُمَّ مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّخْيِيرِ هُوَ فِيمَنْ لَهُ كِتَابٌ .
أَمَّا غَيْرُهُ فَأَشَارَ إلَى خِلَافٍ فِي اسْتِرْقَاقِهِ بِقَوْلِهِ ( وَقِيلَ لَا يُسْتَرَقُّ وَثَنِيٌّ ) كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ بِالْجِزْيَةِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وَيُفَادَى جَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ كَالْكِتَابِيِّ ( وَكَذَا عَرَبِيٌّ ) لَا يَجُوزُ أَيْضًا اسْتِرْقَاقُهُ ( فِي قَوْلٍ ) قَدِيمٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ ، وَقَدْ سَبَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهَوَازِنَ وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ الرِّقَّ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

تَنْبِيهٌ : لَا تُرَدُّ أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا عَلَيْهِمْ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لَنَا : كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نَبِيعَهُمْ السِّلَاحَ وَنَرُدَّهَا لَهُمْ بِأُسَارَى مِنَّا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ : اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِمْ وَلِأَنَّ مَا نَأْخُذُهُ خَيْرٌ مِمَّا نَبْذُلُهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُمْنَعُ كَمَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِمَالٍ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ الْمُرْتَدُّونَ فَيُطَالِبُهُمْ الْإِمَامُ بِالْإِسْلَامِ ، فَإِنْ امْتَنَعُوا فَالسَّيْفُ .

فَرْعٌ : مَنْ اسْتَبَدَّ بِقَتْلِ أَسِيرٍ ، إنْ كَانَ بَعْدَ حُكْمِ الْإِمَامِ بِقَتْلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى التَّعْزِيرِ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ ، وَإِنْ أَرَقَّهُ الْإِمَامُ ضَمِنَهُ الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ وَيَكُونُ غَنِيمَةً ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ فِي مَأْمَنِهِ ضَمِنَ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ هُدِرَ دَمُهُ ، وَإِنْ فَدَاهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْإِمَامِ فِدَاءَهُ ضَمِنَ دِيَتَهُ لِلْغَنِيمَةِ ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَإِطْلَاقِهِ إلَى مَأْمَنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَسْرِهِ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى مَأْمَنِهِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .

وَ لَوْ أَسْلَمَ أَسِيرٌ عَصَمَ دَمَهُ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي ، وَفِي قَوْلٍ يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ وَإِسْلَامُ كَافِرٍ قَبْلَ ظَفَرٍ بِهِ ، يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَصِغَارَ وَلَدِهِ

( وَلَوْ أَسْلَمَ أَسِيرٌ ) مُكَلَّفٌ لَمْ يَخْتَرْ الْإِمَامُ فِيهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ مَنًّا وَلَا فِدَاءً ( عَصَمَ ) الْإِسْلَامُ ( دَمَهُ ) فَيَحْرُمُ قَتْلُهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } " وَقَوْلُهُ : وَأَمْوَالَهُمْ " مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْأَسْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : " إلَّا بِحَقِّهَا " .
وَمِنْ حَقِّهَا أَنَّ مَالَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَسْرِ غَنِيمَةٌ ( وَبَقِيَ ) فِيهِ ( الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي ) مِنْ خِصَالِ التَّخْيِيرِ السَّابِقَةِ ، وَهُوَ الْمَنُّ وَالْإِرْقَاقُ وَالْفِدَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَشْيَاءَ إذَا سَقَطَ بَعْضُهَا لِتَعَذُّرِهِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي كَالْعَجْزِ عَنْ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ إذَا كَانَ عَزِيزًا فِي قَوْمِهِ ، أَوْ لَهُ فِيهِمْ عَشِيرَةٌ وَلَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ فِي دِينِهِ وَلَا نَفْسِهِ .
أَمَّا إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ قَبْلَ إسْلَامِهِ الْمَنَّ أَوْ الْفِدَاءَ انْتَهَى التَّخْيِيرُ وَتَعَيَّنَ مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ ( وَفِي قَوْلٍ يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ ) بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَسِيرٌ يَحْرُمُ قَتْلُهُ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِيهِمْ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ ( وَإِسْلَامُ كَافِرٍ ) مُكَلَّفٍ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فِي دَارِ حَرْبٍ أَوْ إسْلَامٍ ( قَبْلَ ظَفَرٍ بِهِ ) وَهُوَ أَسْرُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَلَا يُخَالِفُهُ قَوْلُ الرَّوْضَةِ قَبْلَ أَسْرِهِ وَالظَّفَرِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ ( يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ ) لِلْخَبَرِ الْمَارِّ ( وَ ) يَعْصِمُ ( صِغَارَ وَلَدِهِ ) الْأَحْرَارِ عَنْ السَّبْيِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالْحَدُّ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لِمَا مَرَّ ، وَوَلَدُهُ أَوْ وَلَدُ

وَلَدِهِ الْمَجْنُونُ كَالصَّغِيرِ ، وَلَوْ طَرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِمَا مَرَّ أَيْضًا ، وَيَعْصِمُ الْحَمْلَ تَبَعًا لَهُ ، لَا إنْ اُسْتُرِقَّتْ أُمُّهُ قَبْلَ إسْلَامِ الْأَبِ فَلَا يُبْطِلُ إسْلَامُهُ رِقَّهُ كَالْمُنْفَصِلِ وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ .
أَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ فَلَا يَعْصِمُهُ إسْلَامُ الْأَبِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِالْإِسْلَامِ .

لَا زَوْجَتَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، فَإِنْ اسْتَرَقَّتْ انْقَطَعَ نِكَاحُهُ فِي الْحَالِ ، وَقِيلَ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا اُنْتُظِرَتْ الْعِدَّةَ فَلَعَلَّهَا تَعْتِقُ فِيهَا .
وَ ( لَا ) يَعْصِمُ إسْلَامُ الزَّوْجِ ( زَوْجَتَهُ ) عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) الْمَنْصُوصِ لِاسْتِقْلَالِهَا وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ لَا تَسْتَرِقُّ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا كَافِرًا ثُمَّ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِحَالٍ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ مَنَعَ إرْقَاقَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ الْبَالِغَةِ فَكَانَ الْإِسْلَامُ أَوْلَى .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِقْلَالُ الشَّخْصِ بِهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ ، وَالْبَالِغَةُ تَسْتَقِلُّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ ( فَإِنْ اسْتَرَقَّتْ ) أَيْ إنْ قُلْنَا بِأَنَّ زَوْجَةَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الظَّفَرِ أَنَّهَا تَرِقُّ ( انْقَطَعَ نِكَاحُهُ فِي الْحَالِ ) أَيْ حَالِ السَّبْيِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ ؛ لِامْتِنَاعِ إمْسَاكِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لِلنِّكَاحِ كَمَا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءً نِكَاحُهَا ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ { أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ } وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَاتِ زَوْجٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهَا زَوْجٌ ( وَقِيلَ إنْ كَانَ ) اسْتِرْقَاقُهَا ( بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا اُنْتُظِرَتْ الْعِدَّةَ فَلَعَلَّهَا تَعْتِقُ فِيهَا ) فَيَدُومُ النِّكَاحُ كَالرِّدَّةِ ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْفَرْقِ كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ يَقْطَعُ النِّكَاحَ فَأَشْبَهَ الرَّضَاعَ .

وَيَجُوزُ إرْقَاقُ زَوْجَةِ ذِمِّيٍّ ، وَكَذَا عَتِيقُهُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَيَجُوزُ إرْقَاقُ زَوْجَةِ ذِمِّيٍّ ) إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً : أَيْ تَرِقُّ بِنَفْسِ الْأَسْرِ وَيَنْقَطِعُ بِهِ نِكَاحُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ : إنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا بَذَلَ الْجِزْيَةَ عَصَمَ نَفْسَهُ وَزَوْجَتَهُ مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الزَّوْجَةُ الْمَوْجُودَةُ حِينَ الْعَقْدِ فَيَتَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ ، وَالْمُرَادُ هُنَا الزَّوْجَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلُهَا ، أَوْ يُحْمَلُ مَا هُنَاكَ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْقُدْرَةِ حِينَ الْعَقْدِ ، وَمَا هُنَا عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ ( وَكَذَا عَتِيقُهُ ) الْحَرْبِيُّ يَجُوزُ إرْقَاقُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ اسْتَرَقَّ فَعَتِيقُهُ أَوْلَى .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ الْوَلَاءِ .

لَا عَتِيقَ مُسْلِمٍ
( لَا عَتِيقَ مُسْلِمٍ ) الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَسْتَرِقُّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَفِعُ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا حَالَ الْعِتْقِ أَمْ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَسْرِ الْعَتِيقِ .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : وَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْفَرْعِ : أَيْ وَهُوَ مَا إذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ ، وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ اسْتِرْقَاقَهُ ، إذْ يَصْدُقُ أَنَّهُ لَيْسَ عِتْقَ مُسْلِمٍ .

وَزَوْجَتُهُ الْحَرْبِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِذَا سُبِيَ زَوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ إنْ كَانَا حُرَّيْنِ قِيلَ أَوْ رَقِيقَيْنِ .

( وَ ) لَا ( زَوْجَتُهُ ) أَيْ الْمُسْلِمِ ( الْحَرْبِيَّةُ ) فَلَا تَسْتَرِقُّ إذَا سُبِيَتْ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ الْجَوَازَ فَإِنَّهُمَا سَوِيًّا فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْأَصْلِيَّ أَقْوَى مِنْ الْإِسْلَامِ الطَّارِئِ .
قَالَ : ابْنُ كَجٍّ : وَلَوْ تَزَوَّجَ بِذِمِّيَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ الْتَحَقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا تَسْتَرِقُّ قَوْلًا وَاحِدًا ( وَإِذَا سُبِيَ زَوْجَانِ ) مَعًا ( أَوْ أَحَدُهُمَا ) فَقَطْ ( انْفَسَخَ النِّكَاحُ ) بَيْنَهَا ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ ( إنْ كَانَا حُرَّيْنِ ) لَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا يَوْمَ أَوْطَاسٍ مِنْ وَطْءِ السَّبَايَا ؛ لِأَنَّ لَهُنَّ أَزَوْجًا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } أَيْ الْمُتَزَوِّجَاتُ { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَحَرَّمَ الْمُتَزَوِّجَاتِ إلَّا الْمَمْلُوكَاتِ بِالسَّبْيِ ، فَدَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ ، وَإِلَّا لَمَا حَلَلْنَ ، وَلِعُمُومِ خَبَرِ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ } إذَا لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْمَنْكُوحَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا مَرَّ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ إذَا حَدَثَ زَالَ مِلْكُهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَلَأَنْ تَزُولَ الْعِصْمَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ أَوْلَى .
تَنْبِيهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَحِلُّ الِانْفِسَاخِ فِي سَبْيِ الزَّوْجِ إنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ كَامِلًا ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ رِقَّهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ أَوْ الْمَنَّ عَلَيْهِ اسْتَمَرَّتْ الزَّوْجِيَّةُ ، وَمَحِلُّهُ فِي سَبْيِ الزَّوْجَةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ كَافِرًا ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ تُسْبَى أَوْ لَا ؟ ثَانِيهمَا : التَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِمَا حُرَّيْنِ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْفِسَاخِ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخِرُ رَقِيقًا ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَهُوَ رَقِيقٌ وَسُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ

مَعَهُ انْفَسَخَ أَيْضًا ، وَالْحُكْمُ فِي عَكْسِهِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَوْ مُكَلَّفًا وَأَرَقَّهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي انْفِسَاخِ النِّكَاحِ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَزَوْجَتُهُ كَذَلِكَ ( قِيلَ : أَوْ رَقِيقَيْنِ ) فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِحُدُوثِ السَّبْيِ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ إذْ لَمْ يَحْدُثْ رِقٌّ ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْ مَالِكٍ إلَى آخَرَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَا أَمْ لَا .

تَنْبِيهٌ : لَوْ اسْتَأْجَرَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا فَاسْتَرَقَّ أَوْ دَارِهِ فَغَنِمَتْ كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ مُدَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْوَالِ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا تَامًّا مَضْمُونَةً بِالْيَدِ كَأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ ، وَكَمَا لَا تُغْنَمُ الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ لِلْمُسْلِمِ لَا تُغْنَمُ الْمَنَافِعُ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ ، بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ فَإِنَّهَا تُسْتَبَاحُ وَلَا تُمْلَكُ مِلْكًا تَامًّا ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ .

وَإِذَا أُرِقَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَسْقُطْ فَيُقْضَى مِنْ مَالِهِ إنْ غَنِمَ بَعْدَ إرْقَاقِهِ .

( وَإِذَا أُرِقَّ ) حَرْبِيٌّ ( وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ) لِغَيْرِ حَرْبِيٍّ ( لَمْ يَسْقُطْ ) ؛ لِأَنَّ شَغْلَ الذِّمَّةِ قَدْ حَصَلَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي إسْقَاطَهُ .
أَمَّا إذَا كَانَ لِحَرْبِيٍّ فَيَسْقُطُ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ دَيْنُ غَيْرِ الْحَرْبِيِّ ( فَيُقْضَى مِنْ مَالِهِ ) حَيْثُ كَانَ لَهُ مَالٌ ( إنْ غَنِمَ بَعْدَ إرْقَاقِهِ ) وَلَوْ حُكِمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالرِّقِّ كَمَا أَنَّ دَيْنَ الْمُرْتَدِّ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ وَإِنْ حُكِمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْغَنِيمَةِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّ دَيْنَهُ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَعْتِقَ وَيُوسِرَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ إرْقَاقِهِ مَا إذَا غَنِمَ قَبْلَهُ فَلَا يُقْضَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهُ ، وَكَذَا مَا غَنِمَ مَعَ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَالِ وَحَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ ، وَهَلْ يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِالرِّقِّ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَوْتَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ وَيَقْطَعُ النِّكَاحَ .
تَنْبِيهَانِ : أَحَدُهُمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْحَرْبِيِّ لِلسَّابِي قَالَ : الشَّيْخَانِ : فَفِي سُقُوطِهِ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَمَلَكَهُ : أَيْ فَيَسْقُطُ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ : الْإِسْنَوِيُّ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ وَأَمَّا الْخُمْسُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْقِطَ مَا يُقَابِلُهُ قَطْعًا ، وَلِهَذَا عَدَلَ ابْنُ الْمُقْرِي عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَقَالَ : فَلَوْ مَلَكَهُ الْغَرِيمُ سَقَطَ .
ا هـ .
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُهُ .
الثَّانِي : لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِحَرْبِيٍّ عَلَى غَيْرِ حَرْبِيٍّ فَرَّقَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يُوقَفُ فَإِنْ عَتَقَ فَلَهُ ، وَإِنْ مَاتَ رَقِيقًا

فَفَيْءٌ .

وَلَوْ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ قَبِلَا جِزْيَةً دَامَ الْحَقُّ .
( وَلَوْ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ ) مَالًا ( أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ) شَيْئًا بِمَالٍ ( ثُمَّ أَسْلَمَا ) مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا ( أَوْ ) لَمْ يُسْلِمَا .
بَلْ ( قَبِلَا جِزْيَةً ) أَوْ حَصَل لَهُمَا أَمَانٌ ، أَوْ حَصَلَ أَحَدُهُمَا لِأَحَدِهِمَا وَغَيْرُهُ لِلْآخَرِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( دَامَ الْحَقُّ ) فِي ذَلِكَ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ ، وَخَرَجَ بِالْمَالِ نَحْو الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِمَّا لَا يَصِحُّ طَلَبُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ قَبِلَ جِزْيَةً دُونَ الْآخَرِ لَا يَدُومُ الْحَقُّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا فِي إسْلَامِ صَاحِبِ الدَّيْنِ قَطْعًا وَفِي إسْلَامِ الْمَدْيُونِ فِي الْأَظْهَرِ .

وَلَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَرْبِيٌّ فَأَسْلَمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) الْحَرْبِيُّ ( لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَرْبِيٌّ ) آخَرُ شَيْئًا أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ ( فَأَسْلَمَا ) أَوْ أَسْلَمَ الْمُتْلِفُ أَوْ الْغَاصِبُ أَوْ قَبِلَا الْجِزْيَةَ ( فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا ، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَهَرَ حَرْبِيًّا عَلَى مَالٍ مَلَكَهُ ، وَالْإِتْلَافُ نَوْعٌ مِنْ الْقَهْرِ ، وَلِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ عِنْدَهُمْ .

فَصَلِّ وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا غَنِيمَةٌ ، وَكَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِسَرِقَةٍ ، أَوْ وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ وَجَبَ تَعْرِيفُهُ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ ، فَقَالَ : ( وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا ) عَلَيْهِمْ حَتَّى سَلَّمُوهُ أَوْ تَرَكُوهُ وَانْهَزَمُوا ( غَنِيمَةٌ ) لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ قَسْمِهَا ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : الْمَالُ الَّذِي أَخَذْنَاهُ لِيُخْرِجَ مَا أَخَذَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ ، فَلَيْسَ بِغَنِيمَةٍ ، وَإِنَّمَا أَعَادَ ذَلِكَ هُنَا لِضَرُورَةِ التَّقْسِيمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( وَ كَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِسَرِقَةٍ ) أَوْ نَحْوِهَا وَلَمْ يَدْخُلْهَا بِأَمَانٍ ( أَوْ ) لَمْ يُؤْخَذْ سَرِقَةً ، بَلْ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ ضَائِعٍ ( وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ ) فَأَخَذَهُ شَخْصٌ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ فَإِنَّهُ فِي الْقِسْمَيْنِ غَنِيمَةٌ ( عَلَى الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ دَارَ الْحَرْبِ وَتَغْرِيرَهُ بِنَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْقِتَالِ ، وَالثَّانِي هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً ، وَادَّعَى الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ سَبَبُ الْوُصُولِ إلَى اللُّقَطَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ هُرُوبَهُمْ خَوْفًا مِنَّا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَإِنَّهَا فَيْءٌ قَطْعًا وَأَمَّا إذَا كَانَ بِقِتَالِنَا لَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ قَطْعًا .
ثُمَّ مَا سَبَقَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ ، ( فَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ ) أَيْ الْمُلْتَقَطِ ( لِمُسْلِمٍ ) بِأَنْ كَانَ ثَمَّ مُسْلِمٌ ( وَجَبَ تَعْرِيفُهُ ) فَإِذَا عَرَّفَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ يَكُونُ غَنِيمَةً .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يُصَحِّحْ الشَّيْخَانِ شَيْئًا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ ، بَلْ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُعَرِّفُهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، قَالَ : وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ : يَكْفِي بُلُوغُ التَّعْرِيفِ إلَى الْأَجْنَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ سِوَاهُمْ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى احْتِمَالِ مُرُورِ التُّجَّارِ ، وَعَنْ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ يُعَرِّفُهُ سَنَةً .
ا هـ .
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّرْجِيحِ ، فَاعْتَمَدَ الْبُلْقِينِيُّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَنَقَلَهُ عَنْ

نَصِّ الْأُمِّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، وَقَالَ : إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ اللُّقَطَةِ ، فَتُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ إطْلَاقِ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ سَنَةً فِي غَيْرِ الْحَقِيرِ .
وَقَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَوَّلِ : أَيْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى الْخَسِيسِ ، وَقَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ لُقَطَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي التَّعْرِيفِ .
ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .

وَلِلْغَانِمِينَ التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَخْذِ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ وَلَحْمٍ وَشَحْمٍ وَكُلِّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عُمُومًا ، وَعَلَفُ الدَّوَابِّ تِبْنًا وَشَعِيرًا وَنَحْوَهُمَا ، وَذَبْحُ مَأْكُولٍ لِلَحْمِهِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْفَاكِهَةِ ، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمَذْبُوحِ ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجِ إلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْغَنِيمَةِ ، فَقَالَ : ( وَلِلْغَانِمِينَ ) مِمَّنْ يُسْهِمُ لَهُمْ أَوْ يَرْضَخُ وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ( التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ ) قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ( بِأَخْذِ الْقُوتِ ) مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ لَا التَّمْلِيكِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْآخِذُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ ، وَوَقَعَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ : أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَلَا يُصْرَفُ لِغَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : نَبَّهَ بِالْقُوتِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الْأَمْوَالِ ، كَسِلَاحٍ وَدَابَّةٍ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْمَلْبُوسِ لِبَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَلْبَسَهُ الْإِمَامُ لَهُ ، إمَّا بِالْأُجْرَةِ مُدَّةَ الْحَاجَةِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْمَغْنَمِ ، أَوْ يَحْسِبُهُ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ ، ( وَ ) لِلْغَانِمِينَ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِأَخْذِ ( مَا يَصْلُحُ بِهِ ) الْقُوتُ ، كَزَيْتٍ وَسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَمِلْحٍ ( وَلَحْمٍ ) لَا لِكِلَابٍ وَبَازَاتٍ ( وَشَحْمٍ ) لَا لِدَهْنِ الدَّوَابِّ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَكْلِ ، فَلَوْ قَالَ : كَلَحْمٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا لِمَا يَصْلُحُ بِهِ لَكَانَ أَوْلَى ( وَ ) لَهُمْ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِأَخْذِ ( كُلِّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ ) لِلْآدَمِيِّ ( عُمُومًا ) أَيْ عَلَى الْعُمُومِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : { كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ } .
وَالْمَعْنَى فِيهِ عِزَّتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ غَالِبًا لِإِحْرَازِ أَهْلِهِ لَهُ عَنَّا ، فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ مُبَاحًا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ نَقْلُهُ ، وَقَدْ تَزِيدُ مُؤْنَةُ نَقْلِهِ عَلَيْهِ .
قَالَ : الْإِمَامُ : وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِمْ سُوقًا وَتَمَكَّنَ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ جَازَ التَّبَسُّطُ أَيْضًا إلْحَاقًا لِدَارِهِمْ فِيهِ بِالسَّفَرِ فِي الرُّخْصِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّا لَوْ جَاهَدْنَاهُمْ فِي دَارِنَا امْتَنَعَ التَّبَسُّطُ ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى مَحِلٍّ لَا يَعِزُّ فِيهِ الطَّعَامُ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : عُمُومًا عَمَّا

يُحْتَاجُ إلَيْهِ نَادِرًا : كَالسُّكَّرِ وَالْفَانِيدِ وَالْأَدْوِيَةِ ، فَلَا يَلْحَقُ بِالْأَطْعِمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، فَإِنْ احْتَاجَ مَرِيضٌ مِنْهُمْ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْطَاهُ لَهُ الْإِمَامُ بِقِيمَتِهِ أَوْ يَحْسِبُهُ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ ، فَإِنْ احْتَاجَ شَخْصٌ مِنْهُمْ إلَى الْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَيَرُدُّهُ إلَى الْمَغْنَمِ بَعْدَ زَوَالِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِعْمَالٌ ، وَلَوْ اضْطَرَّ إلَى الْمَرْكُوبِ فِي الْقِتَالِ فَلَهُ رُكُوبُهُ بِلَا أَجْرٍ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا كَالْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ .
( وَ ) لَهُمْ ( عَلَفُ الدَّوَابِّ ) الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي الْحَرْبِ ، كَفَرَسِهِ وَدَابَّةٍ تَحْمِلُ سِلَاحَهُ وَلَوْ كَانَتْ عِدَدُ الْوَاحِدِ ( تِبْنًا وَشَعِيرًا وَنَحْوَهُمَا ) كَفُولٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَيْهِ كَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ .
أَمَّا مَا يَسْتَصْحِبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلْفُرْجَةِ كَفُهُودٍ وَنُمُورٍ ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : الْعَلَفُ هُنَا بِفَتْحِ اللَّامِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا تَأْكُلُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةً ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ( وَ ) لَهُمْ ( ذَبْحُ ) حَيَوَانٍ ( مَأْكُولٍ لِلَحْمِهِ ) عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً ، فَهُوَ كَاللَّحْمِ ، وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِنُدْرَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ رَدُّ جِلْدِهِ إلَى الْمَغْنَمِ إلَّا مَا يُؤْكَلُ مَعَ اللَّحْمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ الْجِلْدِ سِقَاءً وَلَا خُفًّا وَلَا غَيْرَهُمَا ، فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَ رَدُّ الْمَصْنُوعِ كَذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ ، وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ إنْ نَقَصَتْ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ ( وَالصَّحِيحُ ) الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُور ( جَوَازُ ) أَكْلِ ( الْفَاكِهَةِ ) رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا لِلْخَبَرِ الْمَارِّ فِي الْعِنَبِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِنُدْرَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا

.
قَالَ : الْإِمَامُ : وَالْحَلْوَاءُ ، كَالْفَاكِهَةِ ( وَ ) الصَّحِيحُ ( أَنَّهُ لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمَذْبُوحِ ) لِأَجْلِ أَكْلِ لَحْمِهِ كَمَا لَا يَجِبُ قِيمَةُ الطَّعَامِ الْمَأْخُوذِ ، وَالثَّانِي يَجِبُ ؛ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَرَدَ فِي الطَّعَامِ ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِطَعَامٍ ، وَالصَّحِيحُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ فِيهِمَا ( أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجِ إلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ ) بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ ، بَلْ يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَالثَّانِي يَخْتَصُّ بِالْمُحْتَاجِ لِاسْتِغْنَاءِ غَيْرِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ قَلَّ الطَّعَامُ وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ ، نَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ : أَنَّ الْإِمَامَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمُهُ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ .
قَالَ : الْبَغَوِيّ : وَلَهُمْ التَّزَوُّدُ لِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا يَجُوزُ التَّبَسُّطُ وَالتَّزَوُّدُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، فَمَنْ أَكَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ لَزِمَهُ بَدَلُهُ .
قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : بِهِ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ ، وَأَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمَغْنَمِ .
( وَ ) الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ ( أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ) أَيْ التَّبَسُّطُ الْمَذْكُورُ ( لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ ) انْقِضَاءِ ( الْحَرْبِ ، وَ ) بَعْدَ ( الْحِيَازَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمْ كَغَيْرِ الضَّيْفِ مَعَ الضَّيْفِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ لِمَظِنَّةِ الْحَاجَةِ وَعِزَّةِ الطَّعَامِ هُنَاكَ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ تُفْهِمُ جَوَازَ التَّبَسُّطِ فِيمَا إذَا لَحِقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ ، وَعِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ تَقْتَضِي الْمَنْعَ لِغَيْرِ شَاهِدِ الْوَقْعَةِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ .
فَرْعٌ : لَوْ ضَيَّفَ بِمَا فَوْقَ حَاجَتِهِ الْغَانِمِينَ جَازَ ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَحَمُّلُ التَّعَبِ عَنْهُمْ ، فَإِنْ ضَيَّفَ بِهِ غَيْرَهُمْ : فَكَغَاصِبٍ ضَيَّفَ غَيْرَهُ بِمَا غَصَبَهُ فَيَأْثَمُ بِهِ ، وَيَلْزَمُ الْآكِلَ ضَمَانُهُ ، وَيَكُونُ الْمُضِيفُ لَهُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ ( وَ ) الصَّحِيحُ وَجَعَلَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هَذَا الْخِلَافَ أَقْوَالًا ( أَنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ) أَوْ دَارِ يَسْكُنُهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ أَوْ الْعَهْدِ ، وَهِيَ فِي قَبْضَتِنَا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ( وَمَعَهُ بَقِيَّة ) مِمَّا تُبْسَطُ بِهِ ( لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمَغْنَمِ ) أَيْ الْغَنِيمَةِ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مُبَاحٌ ، وَالْأَوَّلُ قَالَ : بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الرَّدِّ إلَى الْمَغْنَمِ مَا لَمْ تُقَسَّمْ الْغَنِيمَةُ ، فَإِنْ قُسِّمَتْ رَدَّ إلَى الْإِمَامِ ، ثُمَّ إنْ كَثُرَ قُسِّمَ ، وَإِلَّا جُعِلَ فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ قَالَ : الْإِمَامُ : وَلَا رَيْبَ أَنَّ إخْرَاجَ الْخُمْسِ مِنْهُ مُمْكِنٌ ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ .

وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ ، وَكَذَا مَا لَمْ يَصِلْ عُمْرَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ ) أَيْ أَهْلِ الْحَرْبِ جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِزَّةِ ( وَكَذَا ) مَحِلُّ الرُّجُوعِ ( مَا لَمْ يَصِلْ ) إلَى ( عُمْرَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصَحِّ ) لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَإِنْ وَصَلَهُ انْتَهَى التَّبَسُّطُ لِزَوَالِهَا .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ دَارُ الْحَرْبِ ، وَقَدْ خَرَجُوا عَنْهَا .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِعِمْرَانِ الْإِسْلَامِ مَا يَجِدُونَ فِيهِ حَاجَتَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ ، فَلَوْ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا ذَلِكَ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مَنْعِ التَّبَسُّطِ فِي الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ الْمَعْنَى ، وَكَدَارِ الْإِسْلَامِ بَلَد أَهْلِ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مُعَامَلَتِنَا ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ فِي قَبْضَتِنَا بِمَثَابَتِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ ، نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ .

فُرُوعٌ : لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِنَا فِي مَوْضِعِ يَعِزُّ الطَّعَامُ وَلَا يَجِدُونَهُ بِشِرَاءٍ جَازَ لَهُمْ التَّبَسُّطُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيمَا تُزَوِّدُوهُ مِنْ الْمَغْنَمِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ ، فَلَوْ أَقْرَضَ مِنْهُ غَانِمٌ غَانِمًا آخَرَ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَغْنَمِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ رَدَّهُ مِنْ الْمَغْنَمِ صَارَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِهِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ قَرْضًا مُحَقِّقًا ؛ لِأَنَّ الْآخِذُ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ ، فَلَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَأْخُذهُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَمْلُوكِ لَا يُقَابَلُ بِالْمَمْلُوكِ ، وَإِنْ فَرَغَ الطَّعَامُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ أَوْ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَعِزَّ الطَّعَامُ رَدَّهُ الْمُقْتَرِضُ إلَى الْإِمَامِ لِانْقِطَاعِ حُقُوقِ الْغَانِمِينَ عَنْ أَطْعِمَةِ الْمَغْنَمِ ، فَإِنْ بَقِيَ غَيْرُ الْمُقْتَرَضِ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ ، وَلَوْ تَبَايَعَ غَانِمَانِ مَا أَخَذَاهُ صَاعًا بِصَاعٍ أَوْ بِصَاعَيْنِ فَكَتَنَاوُلِ الضَّيْفَيْنِ لُقْمَةً بِلُقْمَةٍ أَوْ بِلُقْمَتَيْنِ ، فَلَا يَكُونُ رِبًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُحَقَّقَةٍ ، بَلْ يَأْكُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا صَارَ إلَيْهِ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ .

وَلِغَانِمٍ رَشِيدٍ وَلَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسِ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ بَعْدَ فَرْزِ الْخُمُسِ وَجَوَازِهِ لِجَمِيعِهِمْ ، وَبُطْلَانُهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَسَالِب .

( وَلِغَانِمٍ ) حُرٍّ ( رَشِيدٍ وَلَوْ ) هُوَ مَرِيضًا أَوْ سَكْرَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَوْ ( مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْغَنِيمَةِ ) أَيْ عَنْ حَقِّهِ مِنْهَا سَهْمًا كَانَ أَوْ رَضْخًا ( قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ مِنْ الْجِهَادِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالذَّبُّ عَنْ الْمِلَّةِ ، وَالْغَنَائِمُ تَابِعَةٌ ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَقَدْ جَرَّدَ قَصْدَهُ لِلْغَرَضِ الْأَعْظَمِ .
تَنْبِيهٌ : صُورَةُ الْإِعْرَاضِ : أَنْ يَقُولَ أَسْقَطْتُ حَقِّي مِنْ الْغَنِيمَةِ ، فَإِنْ قَالَ : وَهَبْتُ نَصِيبِي فِيهَا لِلْغَانِمِينَ وَقَصَدَ الْإِسْقَاطَ فَكَذَلِكَ ، أَوْ تَمْلِيكَهُمْ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُفْلِسُ كَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ بِمَحْضِ جِهَادِهِ لِلْآخِرَةِ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ كَابْتِدَاءِ الِاكْتِسَابِ ، وَالْمُفْلِسُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِالْحُرِّ الَّذِي قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ الْعَبْدُ ، فَالْإِعْرَاضُ إنَّمَا هُوَ لِسَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ .
نَعَمْ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ قَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : فَلَا يَظْهَرُ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ فِي حَقِّهِمَا .
قَالَ : شَيْخُنَا : وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ ، وَبِالرَّشِيدِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ، فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُمَا عَنْ الرَّضْخِ ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُمَا مُلْغَاةٌ ، وَلَا إعْرَاضُ وَلِيِّهِمَا لِعَدَمِ الْحَظِّ فِي إعْرَاضِهِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ صَحَّ إعْرَاضُهُ .
تَنْبِيهٌ : التَّقْيِيدُ بِالرُّشْدِ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْرَاضُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : الْإِمَامُ : إنَّهُ الظَّاهِرُ ، وَاقْتَصَرَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُ وَأَقَرَّاهُ ، وَقَالَا : لَوْ فُكَّ حَجْرُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ صَحَّ إعْرَاضُهُ .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا إنَّمَا فَرَّعَهُ

الْإِمَامُ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَسِيطِ ، فَقَالَ : وَالسَّفِيهُ يَلْزَمُ حَقُّهُ عَلَى قَوْلِنَا يَمْلِكُ ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا : إنَّهُ لَا يَمْلِكُ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِاخْتِيَارٍ ، فَيَكُونُ الْأَصَحُّ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ ، وَكَذَا قَالُوا : لَا يَجِبُ مَالٌ فِيمَا إذَا عَفَا السَّفِيهُ عَنْ الْقِصَاصِ وَأَطْلَقَ ، وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْقَوَدُ عَيْنًا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَلْبُ الْمَالِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ ، وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ هُنَاكَ ، فَيَنْبَغِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا هُنَا .
وَقَالَ : فِي الْمُهِمَّاتِ : الرَّاجِحُ صِحَّةُ إعْرَاضِهِ .
وَقَالَ : الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ .
قَالَ : ابْنُ شُهْبَةَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ اخْتِيَارُ تَمَلُّكِ حَقٍّ مَالِيٍّ ، وَلَا يَجُوزُ لِلسَّفِيهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ : كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسِّرْجِينِ ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَهُوَ مَحْضُ عُقُوبَةٍ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي ، فَلِهَذَا مَلَكَ الْعَفْوَ عَنْهُ .
ا هـ .
وَهَذَا يُقَوِّي كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ ، وَفِي قِيَاسِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَاصِلٌ يُرِيدُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَقِيسِ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَمَّا بَعْدَهَا لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ، وَ لَوْ قَالَ : قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَبْلَ الْقِسْمَةِ اخْتَرْتُ الْغَنِيمَةَ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلِهَذَا قَدَّرْتُ فِي كَلَامِهِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ ( وَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( جَوَازُهُ ) أَيْ إعْرَاضِ الْحُرِّ الرَّشِيدِ ( بَعْدَ فَرْزِ الْخُمْسِ ) وَقَبْلَ قِسْمَةِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ إفْرَازَ الْخُمْسِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ

، وَالثَّانِي مَنْعُهُ لِتَمَيُّزِ حَقِّ الْغَانِمِينَ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( جَوَازُهُ ) أَيْ الْإِعْرَاضِ ( لِجَمِيعِهِمْ ) أَيْ الْغَانِمِينَ ، وَيُصْرَفُ حَقُّهُمْ مَصْرِفَ الْخُمْسِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُصَحِّحَ لِلْإِعْرَاضِ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمِيعَ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ مَصَارِفَ الْخُمْسِ غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( بُطْلَانُهُ ) أَيْ الْإِعْرَاضِ ( مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ) الْمَذْكُورِينَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ إعْرَاضَ بَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمَهُمْ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ ، بَلْ هُوَ مِنْحَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ ( وَ ) مِنْ ( سَالَبَ ) وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ كَالْمُتَعَيَّنِ بِالْقِسْمَةِ ، وَالثَّانِي صِحَّتُهُ مِنْهُمَا كَالْغَانِمِينَ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّة أَهْلِ الْخُمْسِ كَالْيَتَامَى ؛ لِأَنَّهَا جِهَاتٌ عَامَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إعْرَاضُ كَالْفُقَرَاءِ .

وَالْمُعْرِضُ كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ، وَمَنْ مَاتَ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ ، وَلَا تُمْلَكُ إلَّا بِقِسْمَةٍ .
( وَالْمُعْرِضُ ) مِنْ الْغَانِمِينَ عَنْ حَقِّهِ حُكْمُهُ ( كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ) فَيَضُمُّ نَصِيبَهُ إلَى الْمَغْنَمِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُرْتَزَقَةِ وَأَهْلِ الْخُمْسِ ، وَقِيلَ يَضُمُّ إلَى الْخُمْسِ خَاصَّةً ( وَمَنْ ) لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الْغَنِيمَةِ ، وَ ( مَاتَ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ فَيَطْلُبُهُ أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ ( وَلَا تُمْلَكُ ) الْغَنِيمَةُ ( إلَّا بِقِسْمَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ كَالِاصْطِيَادِ ، وَالتَّحَطُّبِ لَمْ يَصِحَّ إعْرَاضُهُمْ ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ ، وَلَوْ مَلَكُوا لَمْ يَصِحَّ إبْطَالُ حَقِّهِمْ مِنْ نَوْعٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ حَصْرَ مِلْكِهَا فِي الْقِسْمَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ تُمْلَكُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا .
وَإِمَّا بِالْقِسْمَةِ بِشَرْطِ الرِّضَا بِهَا ، وَلِذَا قَالَ : فِي الرَّوْضَةِ .
وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْقِسْمَةُ لِتَضَمُّنِهَا اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ .
ا هـ .
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا كَحَقِّ الشُّفْعَةِ كَمَا قَالَ .

وَلَهُمْ التَّمَلُّكُ ، وَقِيلَ يَمْلِكُونَ ، وَقِيلَ إنْ سَلِمَتْ إلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَالْمَنْقُولِ .
( وَلَهُمْ ) أَيْ الْغَانِمِينَ بَيْنَ الْحِيَازَةِ وَالْقِسْمَةِ ( التَّمَلُّكُ ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ ثَبَتَ لَهُمْ ( وَقِيلَ يَمْلِكُونَ ) الْغَنِيمَةَ بَعْدَ الْحِيَازَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِلْكًا ضَعِيفًا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ ( وَقِيلَ ) الْمِلْكُ فِي الْغَنِيمَةِ مَوْقُوفٌ ( إنْ سَلِمَتْ إلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ ) أَيْ الْغَانِمِينَ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ تَلِفَتْ ، أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهَا ( فَلَا ) يَمْلِكُونَهَا ( وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالِاسْتِيلَاءِ ) عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } الْآيَةَ ، وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ ( كَالْمَنْقُولِ ) لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْعَقَارِ بِالِاسْتِيلَاءِ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَنْقُولِ كَذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ : وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِمَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَنْقُولُ كَانَ أَوْضَحَ ، وَخَرَجَ بِالْعَقَارِ مَوَاتُهُمْ فَلَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ إذْ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْإِحْيَاءِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ .

وَلَوْ كَانَ فِيهَا كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ وَأَرَادَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنَازَعْ أُعْطِيَهُ ، وَإِلَّا قُسِّمَتْ إنْ أَمْكَنَ ، وَإِلَّا أُقْرِعَ .
( وَلَوْ كَانَ فِيهَا ) أَيْ الْغَنِيمَةِ ( كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ ) لِصَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( وَأَرَادَهُ بَعْضُهُمْ ) أَيْ الْغَانِمِينَ مِنْ أَهْلِ خُمْسٍ أَوْ جِهَادٍ ( وَلَمْ يُنَازَعْ ) فِيهِ بِفَتْحِ الزَّايِ بِخَطِّهِ ( أُعْطِيَهُ ) إذْ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ نَازَعَهُ غَيْرُهُ ( قُسِّمَتْ ) تِلْكَ الْكِلَابُ عَدَدًا ( إنْ أَمْكَنَ ) قِسْمَتُهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ ( أُقْرِعَ ) بَيْنَهُمْ فِيهَا دَفْعًا لِلنِّزَاعِ .
أَمَّا مَا لَا تَنْفَعُ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا .

وَالصَّحِيحُ أَنْ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً وَقُسِّمَ ثُمَّ بَذَلُوهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَخَرَاجُهُ أُجْرَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .

( وَالصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ ( أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ ) مِنْ الْبِلَادِ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ أَزْيَدُ مِنْ الْعِرَاقِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا كَمَا قَالَهُ : الْمَاوَرْدِيُّ : وَسُمِّيَ سَوَادًا لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْبَادِيَةِ فَرَأَوْا خُضْرَةَ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ الْمُلْتَفَّةِ ، وَالْخُضْرَةُ تُرَى مِنْ الْبُعْدِ سَوَادًا .
فَقَالُوا مَا هَذَا السَّوَادُ ، وَلِأَنَّ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ تَقَارُبًا فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرَ ( فُتِحَ ) فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ( عَنْوَةً ) بِفَتْحِ الْعِينِ : أَيْ قَهْرًا وَغَلَبَةً ( وَقُسِّمَ ) بَيْنَ الْغَانِمِينَ ( ثُمَّ ) بَعْدَ قِسْمَتِهِ وَاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهِ ( بَذَلُوهُ ) بِمُعْجَمَةٍ : أَيْ أَعْطَوْهُ لِعُمَرَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ( وَوُقِفَ ) بَعْدَ اسْتِرْدَادِهِ دُونَ أَبْنِيَتِهِ الْآتِي فِي الْمَتْنِ حُكْمُهَا ( عَلَى الْمُسْلِمِينَ ) ؛ لِأَنَّهُ خَافَ تَعَطُّلَ الْجِهَادِ بِاشْتِغَالِهِمْ بِعِمَارَتِهِ لَوْ تَرَكَهُ بِأَيْدِيهِمْ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ قَطْعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ رَقَبَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ وَأَجَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ إجَارَةً مُؤَبَّدَةً بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَجُوِّزَتْ كَذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ .
قَالَ : الْعُلَمَاءُ : لِأَنَّهُ بِالِاسْتِرْدَادِ رَجَعَ إلَى حُكْمِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا لَا يَجُوزُ فِي أَمْوَالِنَا كَمَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَرَاءَةِ ، وَالرَّجْعَةِ وَغَيْرِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يُمْكِنُ بَذْلُهُ كَالْغَانِمِينَ وَذَوِي الْقُرْبَى إنْ انْحَصَرُوا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَهْلِ الْخُمْسِ فَلَا يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِي وَقْفِ حَقِّهِمْ إلَى بَذْلٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِهِ ( وَخَرَاجُهُ ) الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِ ( أُجْرَةٌ ) مُنَجَّمَةٌ ( تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ) الْأَهَمِّ

فَالْأَهَمِّ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ السَّوَادِ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ لِكَوْنِهِ صَارَ وَقْفًا ، وَلَهُمْ إجَارَتُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَا مُؤَبَّدَةً كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي إجَارَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ سَاكِنِهِ إزْعَاجُهُمْ عَنْهُ وَيَقُولُ : أَنَا أَسْتَغِلُّهُ وَأُعْطِي الْخَرَاجَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا بِالْإِرْثِ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدِ بَعْضِ آبَائِهِمْ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ .

تَنْبِيهٌ : كَانَ قَدْرُ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ ، وَجَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةٌ ، وَجَرِيبِ شَجَرٍ وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةٌ ، وَجَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةٌ ، وَجَرِيبِ كَرْمٍ عَشْرَةٌ وَجَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَالْجَرِيبُ عَشْرُ قَصَبَاتٍ ، كُلُّ قَصَبَةٍ سِتَّةُ أَذْرُعٍ بِالْهَاشِمِيِّ ، كُلُّ ذِرَاعٍ سِتُّ قَبَضَاتُ ، كُلُّ قَبْضَةٍ أَرْبَعُ أَصَابِعَ ، فَالْجَرِيبُ مَسَّاحَةٌ مُرَبِّعَةٌ ، بَيْنَ كُلِّ جَانِبَيْنِ مِنْهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا هَاشِمِيًّا .
وَقَالَ : فِي الْأَنْوَارِ : الْجَرِيبُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : وَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعُ خَرَاجِ السَّوَادِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَنَاقَصَ إلَى أَنْ بَلَغَ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لِظُلْمِهِ وَغَشَمِه فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ارْتَفَعَ بِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى إلَى ثَلَاثِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إلَى سِتِّينَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ : إنْ عِشْتُ لَأَزِيدَنَّهُ إلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ .

وَهُوَ مِنْ عَبَّادَانَ إلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ طُولًا ، وَمِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى حُلْوَانَ عَرْضًا قُلْتُ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْبَصْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ إلَّا فِي مَوْضِعِ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا وَمَوْضِعِ شَرْقِيِّهَا .

( وَهُوَ ) أَيْ سَوَادُ الْعِرَاقِ بِاتِّفَاقِ مُصَنِّفِي الْفُتُوحِ وَالتَّارِيخِ زَمَنَ عُرِفَ أَسْمَاءُ الْبُلْدَانِ ( مِنْ ) أَوَّلِ ( عَبَّادَانَ ) بِمُوَحَّدَةِ مُشَدَّدَةٍ : مَكَانٌ قُرْبَ الْبَصْرَةِ ( إلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ( طُولًا ) وَقُيِّدَتْ الْحَدِيثَةُ بِالْمَوْصِلِ لِإِخْرَاجِ حَدِيثَةِ أُخْرَى عِنْدَ بَغْدَادَ ، سُمِّيَتْ الْمَوْصِلَ ؛ لِأَنَّ نُوحًا وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْجُودِيِّ أَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا قَدْرَ الْمَاءِ الْمُتَبَقَّى عَلَى الْأَرْضِ فَأَخَذُوا حَبْلًا وَجَعَلُوا فِيهِ حَجَرًا ثُمَّ دَلَّوْهُ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغُوا مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ ، فَلَمَّا وَصَلَ الْحَجَرُ سُمِّيَتْ الْمَوْصِلَ .
ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ عَرْضِ السَّوَادِ بِقَوْلِهِ ( وَمِنْ ) أَوَّلِ ( الْقَادِسِيَّةِ ) اسْمُ مَكَان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ نَحْوَ مَرْحَلَتَيْنِ ، وَبَيْنَ بَغْدَادَ نَحْوَ خَمْسِ مَرَاحِلَ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْمًا مِنْ قَادِسَ نَزَلُوهَا ( إلَى ) آخِرَ ( حُلْوَانَ ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ ( عَرْضًا ) هَذَا مَا فِي الْمُحَرَّرِ .
وَقَالَ : فِي الشَّرْحِ : فِيهِ تَسَاهُلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَبِخَةً أَحْيَاهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْدَ فَتْحِ الْعِرَاقِ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ اسْتَدْرَكَ الْمُصَنِّفُ عَلَى إطْلَاقِ الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ ( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( الصَّحِيحُ أَنَّ الْبَصْرَةَ ) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْفَتْحِ أَفْصَحُ : مَدِينَةٌ بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ زَمَنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَلَمْ يُعْبَدْ بِهَا صَنَمٌ قَطُّ ، وَيُقَالُ لَهَا قُبَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَهِيَ أَقْوَمُ الْبِلَادِ قِبْلَةً ، وَهِيَ ( وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ السَّوَادِ ) الْمُضَافِ إلَى الْعِرَاقِ ( فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ غَرْبِيِّ دِجْلَتِهَا ) بِكَسْرِ الدَّالِ : نَهْرٌ مَشْهُورٌ بِالْعِرَاقِ ( وَ ) إلَّا ( فِي

مَوْضِعِ شَرْقِيِّهَا ) يُسَمَّى الْفُرَاتَ ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنْهَا فَمَوَاتٌ أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَأَنَّ مَا فِي السَّوَادِ مِنْ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
تَنْبِيهٌ : مَا فِي أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ مِنْ الْأَشْجَارِ ثِمَارُهَا لِلْمُسْلِمِينَ يَبِيعُهَا الْإِمَامُ ، وَيَصْرِفُ أَثْمَانَهَا أَوْ يَصْرِفُهَا نَفْسَهَا مَصَارِفَ الْخَرَاجِ ، وَهُوَ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا مَرَّ ( وَ ) الصَّحِيحُ ( أَنَّ مَا فِي السَّوَادِ مِنْ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) إذْ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ، وَلِهَذَا لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ ، وَلِأَنَّ وَقْفَهَا يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا .
نَعَمْ إنْ كَانَتْ آلَتُهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَمَا قَالَهُ : الْأَذْرَعِيُّ تَفَقُّهًا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ النَّصِّ ، وَقَطَعَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الدُّورِ حَالَ الْفَتْحِ وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ كَالْمَزَارِعِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْيَوْمَ أَنْ يَقِفَ أَرْضَ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ عَقَارَاتِهَا أَوْ مَنْقُولَاتِهَا جَازَ إنْ رَضِيَ الْغَانِمُونَ بِذَلِكَ كَنَظِيرِهِ فِيمَا مَرَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، لَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ خَشِيَ أَنَّهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ الْجِهَادِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ ، لَكِنْ يَقْهَرُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ، وَلَا يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَى الْكُفَّارِ إلَّا بِرِضَا الْغَانِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا .

وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا ، فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعُ .

( وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا ) لَا عَنْوَةً ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ } الْآيَةَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } أَيْ بِالْقَهْرِ : قِيلَ الَّتِي عَجَّلَهَا لَهُمْ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ ، وَاَلَّتِي لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا غَنَائِمُ مَكَّةَ ، وَمَنْ قَالَ : فُتِحَتْ عَنْوَةً ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ دَخَلَ مُسْتَعِدًّا لِلْقِتَالِ لَوْ قُوتِلَ .
قَالَهُ الْغَزَالِيُّ : ( فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعُ ) إذْ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَهَا ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمَّا قَالَ : لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ } وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ وَطَالِبٌ دُونَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ ، وَلَا يُورَثُ إلَّا مَا كَانَ الْمَيِّتُ مَالِكًا لَهُ ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْعِهَا .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَيُكْرَهُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَنَازَعَهُ الْمُصَنِّفِ فِي مَجْمُوعِهِ ، وَقَالَ : إنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٍ ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ : هُوَ الْمَنْصُوصُ ، بَلْ اعْتَرَضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ وَالشِّطْرَنْجِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِمَا نَهْيٌ مَقْصُودٌ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ نَفْسِ الْأَرْضِ .
أَمَّا الْبِنَاءُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا خِلَافٍ : أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَاءِ أَرْضِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ فِي بِنَاءِ السَّوَادِ ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالْفَاءِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ كَوْنِهَا مِلْكًا عَلَى الصُّلْحِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ

مُقْتَضَى الصُّلْحِ أَنَّهَا وَقْفٌ ؛ لِأَنَّهَا فَيْءٌ وَهُوَ وَقْفٌ : إمَّا بِنَفْسِ حُصُولِهِ وَإِمَّا بِإِيقَافِهِ وَمُقْتَضَى تَعْبِيرِهِ أَنَّهَا عَلَى الْعَنْوَةِ لِلِاتِّبَاعِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَفْتُوحَ عَنْوَةً غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ ، بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقَرَّ الدُّورَ بِيَدِ أَهْلِهَا عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ " وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً .
تَتِمَّةٌ : الصَّحِيحُ أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَضَعَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ ، وَفِي وَصِيَّةِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَكَانَ اللَّيْثُ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا : وَقِيلَ فُتِحَتْ صُلْحًا .
ثُمَّ نَكَثُوا فَفَتَحَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ثَانِيًا عَنْوَةً ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْخِلَافِ عَلَى هَذَا ، فَمَنْ قَالَ : فُتِحَتْ صُلْحًا نَظَرَ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ ، وَمَنْ قَالَ عَنْوَةً نَظَرَ لِآخَرِ الْأَمْرِ ، وَأَمَّا الشَّامُ فَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الرُّويَانِيِّ : أَنَّ مُدُنَهَا فُتِحَتْ صُلْحًا وَأَرْضَهَا عَنْوَةً ، وَلَكِنْ رَجَّحَ السُّبْكِيُّ أَنَّ دِمَشْقَ فُتِحَتْ عَنْوَةً .

فَصْل يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ أَمَانُ حَرْبِيٍّ وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ فَقَطْ .

[ فَصْلٌ ] فِي الْأَمَانِ ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَرْكُ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ ، هُوَ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَمَصَالِحِهِ ، وَالْعُقُودُ الَّتِي تُفِيدُهُمْ الْأَمْنَ ثَلَاثَةٌ : أَمَانٌ وَجِزْيَةٌ وَهُدْنَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَلَّقَ بِمَحْصُورٍ فَالْأَمَانُ ، أَوْ بِغَيْرِ مَحْصُورٍ ، فَإِنْ كَانَ إلَى غَايَةٍ فَالْهُدْنَةُ وَإِلَّا فَالْجِزْيَةُ ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالْإِمَامِ بِخِلَافِ الْأَمَانِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمَانِ آيَةُ { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا - أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ وَالْحُرْمَةُ وَالْحَقُّ ، وَأَمَّا الذِّمَّةُ فِي قَوْلِهِمْ ثَبَتَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فَلَهَا مَعْنَى آخَرَ مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْبَيْعِ .
( يَصِحُّ ) وَلَا يَجِبُ ( مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ ) وَلَوْ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ امْرَأَةً ( أَمَانُ حَرْبِيٍّ ) وَاحِدٍ غَيْرِ أَسِيرٍ ، سَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا ، فِي حَالِ الْقِتَالِ أَمْ لَا ، عَيَّنَ الْإِمَامُ قَتْلَهُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَمْ لَا ( وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ ) مِنْهُمْ كَأَهْلِ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ ( فَقَطْ ) فَخَرَجَ بِالْمُسْلِمِ الْكَافِرُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ ، وَ لَيْسَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ لَنَا ، وَبِالْمُكَلَّفِ غَيْرُهُ لِإِلْغَاءِ عِبَارَتِهِ ، وَيَلْحَقُ بِالْمُكَلَّفِ السَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَبِالْمُخْتَارِ الْمُكْرَهُ ، وَبِالْمَحْصُورِ غَيْرُهُمْ كَأَهْلِ بَلَدٍ أَوْ نَاحِيَةٍ ، فَلَا يُؤَمِّنُهُمْ الْآحَادُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْجِهَادُ فِيهَا بِأَمَانِهِمْ .
قَالَ : الْإِمَامُ : وَلَوْ أَمَّنَ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنْهُمْ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لَمْ يُؤَمِّنْ إلَّا وَاحِدًا ، لَكِنْ إنْ ظَهَرَ انْسِدَادٌ وَانْتِقَاضٌ

فَأَمَانُ الْجَمِيعِ مَرْدُودٌ .
قَالَ : الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ أَمَّنُوهُمْ دُفْعَةً .
فَإِنْ وَقَعَ مُرَتَّبًا فَيَنْبَغِي صِحَّةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إلَى ظُهُورِ الْخَلَلِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ : وَقَالَ : إنَّهُ مُرَادُ الْإِمَامِ .

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ ) أَوْ غَيْرِهِمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَالثَّانِي يَصِحُّ لِدُخُولِهِ فِي الضَّابِطِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَسِيرِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَحْبُوسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا ؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ بِأَيْدِيهِمْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَمَانِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْمُؤَمَّنُ .
وَلَيْسَ الْأَسِيرُ آمِنًا .
أَمَّا أَسِيرُ الدَّارِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَمَانُهُ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : إنَّمَا يَكُونُ مُؤَمِّنُهُ آمِنًا بِدَارِ الْحَرْبِ لَا غَيْرَ إلَّا أَنْ يُصَرَّحَ بِالْأَمَانِ فِي غَيْرِهَا ، وَبِغَيْرِ الْأَسِيرِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : بِغَيْرِ الَّذِي أَسَرَهُ .
أَمَّا الَّذِي أَسَرَهُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُهُ إذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ الْإِمَامُ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَفِي عَقْدِ الْأَمَانِ لِلْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالًا وَجْهَانِ : أَرْجَحُهُمَا كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ الْجَوَازُ .

وَيَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ مَقْصُودُهُ ، وَبِكِتَابَةٍ وَرِسَالَةٍ .
( وَيَصِحُّ ) إيجَابُ الْأَمَانِ ( بِكُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ مَقْصُودُهُ ) صَرِيحًا كَأَجَّرْتُك وَأَمَّنْتُك أَوْ لَا تَفْزَعْ كَأَنْتِ عَلَى مَا تُحِبُّ ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ ( وَ ) يَصِحُّ ( بِكِتَابَةٍ ) بِالْفَوْقِيَّةِ لِأَثَرٍ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ ، أَوْ لَا تَخَفْ ، أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ ، أَوْ فِي أَمَانِي ، أَوْ أَنْتَ مُجَارٌ ، وَلَا فَرْقَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ كَمَا مَرَّ وَبَيْنَ الْعَجَمِيِّ كَمَتْرَسٍ : أَيْ لَا تَخَفْ ، أَوْ كِنَايَةٍ مَعَ النِّيَّةِ ( وَرِسَالَةٍ ) ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّسُولُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي حَقْنِ الدَّمِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا جَوَازُ الرَّسُولِ صَبِيًّا ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَكْلِيفِهِ كَالْمُؤَمَّنِ .

تَنْبِيهٌ : يَصِحُّ إيجَابُ الْأَمَانِ بِالتَّعْلِيقِ بِالْغَرَرِ كَقَوْلِهِ : إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ ، لِمَا مَرَّ أَنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ ، وَبِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَبُولِ ، فَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَمَّنَهُ فَجَاءَنَا فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ بِهَا بَلَّغْنَاهُ مَأْمَنَهُ وَلَا نَغْتَالُهُ لِعُذْرِهِ .
فَإِنْ مَاتَ الْمُشِيرُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ فَلَا أَمَانَ وَلَا اغْتِيَالَ فَيُبَلَّغُ الْمَأْمَنَ ، وَمَنْ دَخَلَ رَسُولًا أَوْ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ فَهُوَ آمِنٌ لَا لِتِجَارَةٍ ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ الدُّخُولَ لِلتِّجَارَةِ أَمَانٌ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ بُلِّغَ الْمَأْمَنَ وَإِلَّا اُغْتِيلَ ، وَلِلْإِمَامِ لَا لِلْآحَادِ جَعْلُهَا أَمَانًا إنْ رَأَى فِي الدُّخُولِ لَهَا مَصْلَحَةً ، وَلَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الْأَمَانَ إلَّا إذَا طَلَبَهُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَجِبُ قَطْعًا ، وَلَا يُمْهَلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، بَلْ قَدْرَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيَانُ .

وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ .
( وَيُشْتَرَطُ ) لِصِحَّةِ الْأَمَانِ ( عِلْمُ الْكَافِرِ بِالْأَمَانِ ) كَسَائِرِ الْعُقُودِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا أَمَانَ لَهُ كَمَا قَالَاهُ ، وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ : فَتَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إلَى قَتْلِهِ وَلَوْ مِنْ الْمُؤَمِّنِ .

فَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْأَصَحِّ .
( فَإِنْ ) عَلِمَ الْكَافِرُ بِأَمَانِهِ وَ ( رَدَّهُ بَطَلَ ) جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَالْهِبَةِ ( وَكَذَا ) يَبْطُلُ ( إنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْأَصَحِّ ) كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ ، وَالثَّانِي يَكْفِي السُّكُوتُ لِبِنَاءِ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْأَصَحِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَيْنِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرَدُّدٌ لِلْإِمَامِ ، وَالتَّرْجِيحُ بَحْثٌ لَهُ ، وَالْمَنْقُولُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ الِاكْتِفَاءُ بِالسُّكُوتِ .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ : وَهُوَ قَضِيَّةُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْقَبُولَ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ ، وَلِمَا مَرَّ مِنْ بِنَاءِ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ السُّكُوتِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُولِ .
وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْقِتَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ .

وَتَكْفِي إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ .
( وَتَكْفِي ) وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ ( إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ ) لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهَا كِنَايَةً مِنْ الْأَخْرَسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِفَهْمِهَا فَطِنُونَ .
فَإِنْ فَهِمَهَا كُلُّ أَحَدٍ فَصَرِيحَةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ الطَّلَاقِ .
تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا : قَدْ يُوهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَكْفِي فِي إيجَابِ الْأَمَانِ وَالْمَذْهَبُ الِاكْتِفَاءِ كَمَا مَرَّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ عَنْ النُّطْقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا حَقْنُ الدِّمَاءِ فَكَانَتْ الْإِشَارَةُ شُبْهَةً ، وَاحْتَرَزَ بِالْمُفْهِمَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ ، فَلَا يَصِحُّ بِهَا أَمَانٌ .
الثَّانِي أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْقَبُولِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اسْتِيجَابٌ .
فَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ لَمْ يُحْتَجْ لِلْقَبُولِ جَزْمًا .

وَيَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً .
( وَيَجِبُ أَنْ لَا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) فِي الْأَظْهَرِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْهُدْنَةِ .
فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا بَطَلَ فِي الزَّائِدِ ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْأَصَحِّ تَخْرِيجًا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْأَمَانَ حُمِلَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَيَبْلُغُ بَعْدَهَا الْمَأْمَنَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَجَحَا فِي الْهُدْنَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ قَالَا : حُكْمُ الْأَمَانِ حُكْمُ الْهُدْنَةِ حَيْثُ لَا ضَعْفَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّ بَابَهُ أَوْسَعُ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْآحَادِ بِخِلَافِهَا ( وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ ) أَكْثَرُ مِنْهَا ( مَا لَمْ تَبْلُغْ ) مُدَّتُهُ ( سَنَةً ) كَالْهُدْنَةِ .
أَمَّا السَّنَةُ فَمُمْتَنِعَةٌ قَطْعًا .
تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي أَمَانِ الرِّجَالِ .
أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِنَّ إلَى تَقْيِيدِ مُدَّةٍ ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْتَأْمَنَةَ إذَا كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُمْنَعْ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِمُدَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا هِيَ لِلْمُشْرِكِينَ الرِّجَالِ ، وَمُنِعُوا مِنْ السَّنَةِ لِئَلَّا تُتْرَكَ الْجِزْيَةُ ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
الثَّانِي سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ الْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ الْمُؤَمَّنُ فِيهِ إشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِتَقْيِيدِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ .

وَلَا يَجُوزُ أَمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ .
( وَلَا يَجُوزُ ) وَلَا يَصِحُّ ( أَمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ كَجَاسُوسٍ ) وَطَلِيعَةٍ لِخَبَرِ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ : الْإِمَامُ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ تَبْلِيغَ الْمَأْمَنِ فَيُغْتَالُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ مِثْلِهِ خِيَانَةٌ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَ الْأَمَانِ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ دُونَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ ، وَإِنْ رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ : أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْمَصْلَحَةِ .
ثُمَّ قَالَ : لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ فِي أَمَانِ الْآحَادِ .
أَمَّا أَمَانُ الْإِمَامِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ ، نَصَّ عَلَيْهِ .
ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَلَا لِغَيْرِهِ ، وَلَوْ أَمَّنَ آحَادًا عَلَى مَدَارِجِ الْغُزَاةِ وَعَسُرَ بِسَبَبِهِ سَيْرُ الْعَسْكَرِ وَاحْتَاجُوا إلَى نَقْلِ الزَّادِ رُدَّ لِلضَّرُورَةِ ، وَفِي مَعْنَى الْجَاسُوسِ مَنْ يَحْمِلُ سِلَاحًا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوه مِمَّا يُعِينُهُمْ .

وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَبْذُ الْأَمَانِ إنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً .
( وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ) وَلَا لِغَيْرِهِ ( نَبْذُ الْأَمَانِ إنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً ) ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِنْ خَافَهَا نَبَذَهُ كَالْهُدْنَةِ وَأَوْلَى ، جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ لِيَنْبُذَهُ مَتَى شَاءَ .

وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ مَالُهُ وَأَهْلُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَا مَا مَعَ هـ مِنْهُمَا فِي الْأَصَحِّ إلَّا بِشَرْطٍ .

( وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ ) لِحَرْبِيٍّ بِدَارِنَا ( مَالُهُ وَأَهْلُهُ ) مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ ( بِدَارِ الْحَرْبِ ) جَزْمًا ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَمَانِ تَحْرِيمُ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ وَمُفَادَاتُهُ ، لَا أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، فَيَجُوزُ اغْتِنَامُ أَمْوَالِهِ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِ الْمُخَلَّفِينَ هُنَاكَ ( وَكَذَا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حِيَازَتِهِ ( فِي الْأَصَحِّ إلَّا بِشَرْطٍ ) لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ ، وَالثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطٍ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مُدَّةَ أَمَانِهِ .
أَمَّا الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي حِرْفَتِهِ مِنْ الْآلَاتِ وَمَرْكُوبِهِ إنْ لَمْ يُسْتَغْنَ عَنْهُ ، هَذَا إذَا أَمَّنَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ .
فَإِنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ دَخَلَ مَا مَعَهُ بِلَا شَرْطٍ ، وَلَا يَدْخُلُ مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَّا بِشَرْطٍ مِنْ الْإِمَامِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْأَمَانُ لِلْحَرْبِيِّ بِدَارِهِمْ ، فَقِيَاسُ مَا ذُكِرَ أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ بِدَارِهِمْ دَخَلَا وَلَوْ بِلَا شَرْطٍ إنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ ، وَإِنْ أَمَّنَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ أَهْلُهُ وَلَا مَا لَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِشَرْطٍ ، بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُهُ فَيَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَإِنْ كَانَا بِدَارِنَا دَخَلَا إنْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَا غَيْرُهُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّف يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي مَعَهُ لِغَيْرِهِ لَا يَدْخُلُ قَطْعًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ .
فَائِدَةٌ : لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ وَهِيَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمِّنُ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَالْمُؤَمَّنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِدَارِنَا جُمْلَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ .
ثُمَّ مَالُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَوْ لَا ، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ .
ثُمَّ الَّذِي مَعَهُ :

إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ أَوْ لَا ، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ بِسِتَّةَ عَشَرَ .
ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ : إمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ بِشَرْطٍ أَوْ لَا ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ فِي سِتَّةَ عَشَرَ بِأَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ .
ثُمَّ الَّذِي مَعَهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، اضْرِبْ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ بِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ فَاسْتَفِدْهُ ، فَإِنِّي اسْتَخْرَجْته مِنْ فِكْرِي الْفَاتِرِ .

وَالْمُسْلِمُ بِدَارِ الْحَرْبِ إنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ ، وَإِلَّا وَجَبَتْ إنْ أَطَاقَهَا ، وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ حَرُمَ ، فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ فَلْيَدْفَعْهُمْ وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ ، أَوْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ .

ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ حُكْمِ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِ .
فَقَالَ : ( وَالْمُسْلِمُ ) الْمُقِيمُ ( بِدَارِ الْحَرْبِ إنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ أَوْ لِأَنَّ لَهُ عَشِيرَةً يَحْمُونَهُ وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ ( اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ ) إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ أَوْ يَكِيدُوهُ أَوْ يَمِيلَ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ اسْتِحْبَابِهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ .
فَإِنْ رَجَاه فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِزَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ بِهَا ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إسْلَامٍ ، فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ ، نَعَمْ إنْ رَجَا نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُهَاجِرَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
ثُمَّ فِي إقَامَتِهِ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَدْعُوهُمْ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَلَا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِيهِ ( وَجَبَتْ ) عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا ( إنْ أَطَاقَهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ } وَسُمِّيَتْ هِجْرَةً ؛ لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ وَلَا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ تَرْكِ الزَّادِ ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ عُدِمَ الْوُجُوبُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْوُجُوبِ مَنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ إسْلَامَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ ، وَكَانَ يَكْتُمُهُ وَيَكْتُبُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْبَارِ

الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَثِقُونَ بِهِ ، وَكَانَ يُحِبُّ الْقُدُومَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُقَامَكَ بِمَكَّةَ خَيْرٌ ثُمَّ أَظْهَرَ إسْلَامَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَلْتَحِقُ بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ مَنْ أَظْهَرَ حَقًّا بِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِهِ فَتَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ مِنْ تِلْكَ ، نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ فِيهَا ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ مِثْلَهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بِبَلَدٍ تُعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاصِي وَلَا يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ الْهِجْرَةُ إلَى حَيْثُ تَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فَإِنْ اسْتَوَتْ جَمِيعُ الْبِلَادُ فِي عَدَمِ إظْهَارِ ذَلِكَ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَلَا وُجُوبَ بِلَا خِلَافٍ ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ الْهِجْرَةَ فَلَا وُجُوبَ حَتَّى يُطِيقَهَا فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْهِجْرَةُ .
( وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ ) فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ ( عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ ) لِخُلُوصِهِ بِهِ مِنْ قَهْرِ الْأَسْرِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَمْ لَا كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ تَصْحِيحِ الْإِمَامِ وَإِنْ جَزَمَ الْقَمُولِيُّ وَغَيْرُهُ بِتَقْيِيدِهِ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ ( وَلَوْ أَطْلَقُوهُ ) مِنْ الْأَسْرِ ( بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ ) قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذَ مَالٍ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ ، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ فَإِذَا صَارَ إلَيْهِ قَتَلَهُ ( أَوْ ) أَطْلَقُوهُ ( عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ ) وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( حَرُمَ ) عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَمَّنُوهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ ، فَلَوْ قَالُوا أَمَّنَّاك

وَلَا أَمَانَ لَنَا عَلَيْكَ جَازَ لَهُ اغْتِيَالُهُمْ كَمَا فِي نَصِّ الْأُمِّ ( فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ ) مِنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ ( فَلْيَدْفَعْهُمْ ) وُجُوبًا ( وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ ) كَالصَّائِلِ فَيُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الصَّائِلِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِذَلِكَ ( أَوْ ) أَطْلَقُوهُ وَ ( شَرَطُوا ) عَلَيْهِ ( أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ ) نُظِرَتْ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ ( لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ ) بِالشَّرْطِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إنْ أَمْكَنَهُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الدِّينِ ، وَالْتِزَامُ مَا لَا يَجُوزُ لَا يَلْزَمُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ لَمْ يَحْرُمْ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبَّةٌ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ حَلَّفُوهُ وَلَوْ بِالطَّلَاقِ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِهِ ، فَإِنْ قَالُوا : لَا نُطْلِقُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تَخْرُجُ فَحَلَفَ ، فَأَطْلَقُوهُ فَخَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا : كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا لَا نَتْرُكُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّكَ لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا فَحَلَفَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينُ إكْرَاهٍ وَإِنْ حَلَفَ لَهُمْ تَرْغِيبًا ، وَلَوْ قَبْلَ الْإِطْلَاقِ حَنِثَ بِخُرُوجِهِ ، وَلَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ وَجَدَهُ عِنْدَهُمْ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ مِنْ الْغَاصِبِ لِيَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَأُدِيمَ حُكْمُهُ .
فُرُوعٌ : لَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً وَهُوَ مُخْتَارٌ ، أَوْ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ ، وَسُنَّ لَهُ الْوَفَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي الْتَزَمَهُ لِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ الْأُسَرَاءِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّهُ

الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمَالُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ فِدَاءٌ لَا يَمْلِكُونَهُ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ أَوْ اقْتَرَضَ ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ ، أَوْ مُكْرَهًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ، وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظُ بَيْعٍ بَلْ قَالُوا : خُذْ هَذَا وَابْعَثْ إلَيْنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ فَقَالَ : نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا ، وَلَوْ وَكَّلُوهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ لَهُمْ بِدَارِنَا بَاعَهُ وَرَدَّ ثَمَنَهُ إلَيْهِمْ .

وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ عِلْجًا يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ جَازَ فَإِنْ فُتِحَتْ بِدَلَالَتِهِ أُعْطِيَهَا ، أَوْ بِغَيْرِهَا فَلَا فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَقِيلَ إنْ لَمْ يُعَلِّقْ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ ، أَوْ بَعْدَ الظَّفَرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجَبَ بَدَلٌ ، أَوْ قَبْلَ ظَفَرٍ فَلَا فِي الْأَظْهَرِ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ بَدَلٍ ، وَهُوَ أُجْرَةُ مِثْلٍ ، وَقِيلَ قِيمَتُهَا .

( وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ ) أَوْ نَائِبُهُ ( عِلْجًا ) وَهُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ ، سُمِّيَ بِهِ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِقُوَّتِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعِلَاجُ عِلَاجًا لِدَفْعِهِ الدَّاءَ ، وَفِي الْحَدِيثِ { الدُّعَاءُ وَالْبَلَاءُ يَتَعَالَجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أَيْ يَتَصَارَعَانِ ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ( يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ ) تُفْتَحُ عَنْوَةً ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا : الْحِصْنُ ، إمَّا لِأَنَّهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا طَرِيقُهَا ، أَوْ لِيَدُلَّنَا عَلَى طَرِيقٍ خَالٍ مِنْ الْكُفَّارِ ، أَوْ سَهْلٍ ، أَوْ كَثِيرِ الْمَاءِ ، أَوْ الْكَلَأِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ جَازَ ) ذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ ابْتِدَاءُ الشَّرْطِ مِنْ الْعِلْجِ أَمْ مِنْ الْإِمَامِ ، وَهِيَ جَعَالَةٌ بِجُعْلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ اُحْتُمِلَتْ لِلْحَاجَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُعَيَّنَةً أَوْ مُبْهَمَةً ، حُرَّةً أَمْ أَمَةً ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ تَرِقُّ بِالْأَسْرِ وَالْمُبْهَمَةَ يُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ وَيُجْبَرُ الْعِلْجُ عَلَى الْقَبُولِ ، وَسَوَاءٌ حَصَلَ بِالدَّلَالَةِ كُلْفَةٌ أَمْ لَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَازِلًا تَحْتَ قَلْعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا فَقَالَ : مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةِ كَذَا فَلَهُ جَارِيَةٌ فَقَالَ : الْعِلْجُ هِيَ هَذِهِ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْجَعَالَةِ عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا التَّعَبَ وَلَا تَعَبَ هُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّعَبَ هُنَا ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْعِلْجُ : الْقَلْعَةُ بِمَكَانِ كَذَا وَلَمْ يَمْشِ وَلَمْ يَتْعَبْ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا هُنَا ، وَقَدْ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى كَلِمَةِ ( لَا تَتْعَبْ ) مَسْأَلَةَ الْعِلْجِ لِلْحَاجَةِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمُبْهَمَةِ ، وَهُوَ مَا فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي

حَامِدٍ ، وَلَعَلَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أُبْهِمَ فِي قِلَاعٍ مَحْصُورَةٍ ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ ، بَلْ الْجُمْهُورُ إنَّمَا صَوَّرَهُ بِالْمُعَيَّنَةِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ يَكْثُرُ فِيهَا الْغَرَرُ ، لَكِنْ مَعَ الْحَمْلِ الْمَذْكُورِ يَخِفُّ فَيَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ ، وَخَرَجَ بِالْعِلْجِ مَا لَوْ عَاقَدَ مُسْلِمًا بِمَا ذُكِرَ فَإِنْ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْإِمَامِ عَدَمُ الصِّحَّةِ ، وَتَبِعَهُ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنْوَاعَ غَرَرٍ فَلَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ وَاحْتُمِلَتْ مَعَ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ قِلَاعِهِمْ وَطُرُقِهِمْ غَالِبًا ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالدَّلَالَةُ نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْعِرَاقِيُّونَ الْجَوَازُ ، وَقَالَ : فِي الْبَحْرِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ ، وَقَالَ : الْأَذْرَعِيُّ إنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ كَشَرْطِ النَّفْلِ فِي الْبَرَاءَةِ وَالرَّجْعَةِ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْغَنِيمَةِ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ عَمَّا إذَا قَالَ : الْإِمَامُ وَلَهُ جَارِيَةٌ مِمَّا عِنْدِي مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ كَسَائِرِ الْجَعَالَاتِ ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْجَارِيَةِ مِثَالٌ ، وَلَوْ قَالَ : جُعْلٌ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ لِكَانَ أَشْمَلَ ( فَإِنْ فُتِحَتْ ) أَيْ الْقَلْعَةُ عَنْوَةً بِمَنْ عَاقَدَهُ ( بِدَلَالَتِهِ ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتَحَهَا وَفِيهَا الْجَارِيَةُ الْمُعَيَّنَةُ أَوْ الْمُبْهَمَةُ حَيَّةً وَلَمْ تُسْلِمْ قَبْلَ إسْلَامِهِ ( أُعْطِيَهَا ) وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سِوَاهَا عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالشَّرْطِ قَبْلَ الظَّفَرِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ يُعْطَاهَا مَتَى فُتِحَتْ بِدَلَالَتِهِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَأَنْ تَرَكْنَاهَا ثُمَّ عُدْنَا إلَيْهَا وَهُوَ كَذَلِكَ ( أَوْ ) فُتِحَتْ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَاقَدَهُ وَلَوْ بِدَلَالَتِهِ أَوْ

مِمَّنْ عَاقَدَهُ لَكِنْ ( بِغَيْرِهَا ) أَيْ دَلَالَتِهِ ( فَلَا ) شَيْءَ لَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِانْتِفَاءِ مُعَاقَدَتِهِ مَعَ مَنْ فَتَحَهَا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ الْقَصْدَ الدَّلَالَةُ الْمُوصِلَةُ إلَى الْفَتْحِ وَلَمْ تُوجَدْ .
وَالثَّانِي يَسْتَحِقُّهَا لِدَلَالَتِهِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى ذَلِكَ ( فَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ ) تِلْكَ الْقَلْعَةُ ( فَلَا شَيْءَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مُقَيَّدٌ بِشَيْئَيْنِ : الدَّلَالَةُ وَالْفَتْحُ ( وَقِيلَ : إنْ لَمْ يُعَلِّقْ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلٍ ) لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ تَسْلِيمَهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْفَتْحِ فَالشَّرْطُ مُقَيَّدٌ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظًا .
أَمَّا إذَا عَلَّقَ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا كَانَ الْجُعْلُ مِنْ الْقَلْعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ : الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَتْحُهَا بِلَا خِلَافٍ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ ) أَصْلًا ( أَوْ ) كَانَتْ وَلَكِنْ ( مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ) لِفَقْدِ الْمَشْرُوطِ ( أَوْ ) مَاتَتْ ( بَعْدَ ) الْعَقْدِ وَ ( الظَّفَرِ ) بِهَا ( وَجَبَ بَدَلٌ ) عَنْهَا جَزْمًا ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، فَالتَّلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ ( أَوْ ) مَاتَتْ ( قَبْلَ ظَفَرٍ ) بِهَا ( فَلَا ) بَدَلَ عَنْهَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا ، وَالثَّانِي تَجِبُ ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ عُلِّقَ بِهَا وَ هِيَ حَاصِلَةٌ ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا ، وَهُرُوبُهَا قَبْلَ الظَّفَرِ بِهَا كَمَوْتِهَا ( وَإِنْ أَسْلَمَتْ ) دُونَ الْعِلْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ ظَفَرٍ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ ( فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ بَدَلٍ ) لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِهَا لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ شِرَاءِ الْكَافِرِ مُسْلِمًا .
قَالَ : الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا الْبِنَاءُ مَرْدُودٌ بَلْ يَسْتَحِقُّهَا قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالظَّفَرِ وَقَدْ كَانَتْ

إذْ ذَاكَ كَافِرَةً فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهَا ، كَمَا لَوْ مَلَكَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، لَكِنْ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ ، بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، لَكِنْ هُنَاكَ يَقْبِضُهُ لَهُ الْحَاكِمُ ، وَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ بِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَهُنَا جَعَالَةٌ جَائِزَةٌ مَعَ الْمُسَامَحَةِ فِيهَا مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا فَلَا تَلْحَقُ بِغَيْرِهَا .
أَمَّا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ ، وَبِأَنَّهَا قَدْ فَاتَتْهُ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِيه ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّف بِغَيْرِ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ اسْتِحْقَاقَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا ( وَهُوَ ) أَيْ الْبَدَلُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَيْثُ وَجَبَ ( أُجْرَةُ مِثْلٍ ) فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الْإِمَامِ ( وَقِيلَ قِيمَتُهَا ) وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَمَحِلُّهُ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ، وَلَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ .
وَأَمَّا الْمُبْهَمَةُ فَإِنْ وَجَبَ الْبَدَلُ فِيهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ قَطْعًا لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِ الْمَجْهُولِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : تُسَلَّمُ إلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ تُسَلَّمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ الشَّيْخَانِ .
وَالثَّانِي أَوْجَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ .
أَمَّا إذَا فُتِحَتْ الْقَلْعَةُ صُلْحًا بِدَلَالَتِهِ فَيُنْظَرُ إنْ دَخَلَتْ الْجَارِيَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْأَمَانِ وَلَمْ يَرْضَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ ، وَلَا رَضِيَ الْعِلْجُ بِعِوَضِهَا ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ نَقَضْنَا الصُّلْحَ وَبُلِّغُوا الْمَأْمَنَ بِأَنْ يُرَدُّوا إلَى الْقَلْعَةِ ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْقِتَالُ ، وَإِنْ رَضِيَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا بِقِيمَتِهَا دَفَعْنَا لَهُمْ الْقِيمَةَ ، وَهَلْ هِيَ مِنْ

سَهْمِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الرَّضْخُ ؟ وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْأَمَانِ بِأَنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ مِنْهُمْ سُلِّمَتْ إلَى الْعِلْجِ .

خَاتِمَةٌ : فِيهَا مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ : لَوْ صَالَحَ زَعِيمُ قَلْعَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِهَا عَلَى أَمَانِ مِائَةٍ مِنْهُمْ صَحَّ وَإِنْ جُهِلَتْ أَعْيَانُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَإِنْ عَدَّ مِائَةً غَيْرَ نَفْسِهِ جَازَ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْمِائَةِ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاصَرَ مَدِينَةً فَصَالَحَهُ دُهْقَانُهَا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ الْمَدِينَةَ وَيُؤَمِّنَ مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا ، فَقَالَ : أَبُو مُوسَى : اللَّهُمَّ أَمِّنْهُ نَفْسَهُ ، فَلَمَّا عَزَلَهُمْ قَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى أَفَرَغْت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَأَمَّنَهُمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الدُّهْقَانِ ، فَقَالَ : أَتَغْدِرُنِي وَقَدْ أَمَّنْتَنِي قَالَ : أَمَّنْتُ الْعِدَّةَ الَّتِي سَمَّيْتَ وَلَمْ تُسَمِّ نَفْسَكَ ، فَنَادَى بِالْوَيْلِ ، وَبَذَلَ مَالًا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ وَقَتَلَهُ ، وَيَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ حَدُّ الزِّنَا عَنْهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ لِآيَةِ { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ لَهُ تَعَالَى ، وَلَا تَسْقُطُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ كَالدَّيْنِ ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ رَدُّ مَالِ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَوْ بِدَارِ الْحَرْبِ .
فَإِنْ غَنِمْنَاهُ وَلَوْ مَعَ أَمْوَالِهِمْ رُدَّ لِمَالِكِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ لِوَاحِدٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ رَدَّهُ أَيْضًا لِمَالِكِهِ وَغَرِمَ لَهُ الْإِمَامُ بَدَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ .
وَلَوْ اسْتَوْلَدَ الْكَافِرُ جَارِيَةَ مُسْلِمٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغُنْمِ أَخَذَهَا وَوَلَدَهَا مَالِكُهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا ، وَيُنْدَبُ لَهُ عَدَمُ أَخْذِهَا .

وَلَوْ نَكَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمَةً ، أَوْ أَصَابَهَا بِشُبْهَةٍ وَوَلَدَتْ مِنْهُ لَحِقَهُ الْوَلَدُ لِلشُّبْهَةِ ، ثُمَّ إنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ لَمْ يَرِقَّ الْوَلَدُ كَأُمِّهِ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لَهَا ، وَلَوْ وُجِدَ أَسِيرٌ بِدَارِنَا فَادَّعَى الْإِسْلَامَ أَوْ الذِّمَّةَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، بِخِلَافِ أَسِيرٍ وُجِدَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَوْ غَنِمْنَا رَقِيقًا مُسْلِمًا اشْتَرَاهُ كَافِرٌ مِنْ مُسْلِمٍ رُدَّ لِبَائِعِهِ وَرَدَّ بَائِعُهُ الثَّمَنَ لِلْكَافِرِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ .

وَفِدَاءُ الْأَسِيرِ مَنْدُوبٌ لِلْآحَادِ ، فَلَوْ قَالَ : شَخْصٌ لِلْكَافِرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَسِيرِ : أَطْلِقْهُ وَلَك عَلَيَّ كَذَا لَزِمَهُ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَسِيرِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ إذَا غَرِمَهُ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرُّجُوعَ كَقَوْلِ الْمَدِينِ لِغَيْرِهِ اقْضِ دَيْنِي ، وَلَوْ قَالَ : الْأَسِيرُ لِلْكَافِرِ : أَطْلِقْنِي بِكَذَا ، أَوْ قَالَ : لَهُ الْكَافِرُ : افْدِ نَفْسَكَ بِكَذَا فَقَبِلَ لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ مَالًا لِيُطْلِقُوهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَمِنْ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَهُ خُذْ هَذَا وَابْعَثْ لَنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ فَقَالَ : نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ .
وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا مَرَّ فِي الْأُولَى صُورَتُهُ أَنْ يُعَاقِدَهُ عَلَى أَنْ يُطْلِقَهُ لِيَعُودَ إلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَالًا كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الدَّارِمِيُّ ، وَهُنَا عَاقَدَهُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ عَيْنًا .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا عَقْدَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ .

وَ لَوْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا اُفْتُدِيَ بِهِ الْأَسِيرُ لَزِمَهُمْ رَدُّهُ لِلْمُفَادِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ ، وَأَمَانُهُ مُخْتَصٌّ بِبَلَدٍ بُلِّغَ مَأْمَنَهُ ، فَإِنْ كَانَ أَمَانُهُ عَامًّا لَمْ يَجِبْ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ بِبِلَادِنَا مِنْ بِلَادِهِمْ مِنْ مَحِلِّ أَمَانِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمَانَ .

كِتَابُ الْجِزْيَةِ صُورَةُ عَقْدِهَا : أُقِرُّكُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَذِنْتُ فِي إقَامَتِكُمْ بِهَا عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا جِزْيَةً وَتَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ ذِكْرِ قَدْرِهَا ، لَا كَفِّ اللِّسَانِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ .

( كِتَابُ ) عَقْدِ ( الْجِزْيَةِ ) لِلْكُفَّارِ لَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَقَّبَهُ بِالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا الْقِتَالَ بِهَا بِقَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } الْآيَةَ ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ ، وَعَلَى الْمَالِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُجَازَاةِ لِكَفِّنَا عَنْهُمْ ، وَقِيلَ مِنْ الْجَزَاءِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أَيْ لَا تَقْضِي ، وَيُقَالُ : جَزَيْتُ دَيْنِي : أَيْ قَضَيْتُهُ ، وَجَمْعُهَا جِزًى كَقَرْيَةِ وَقُرًى ، وَلَيْسَتْ هِيَ مَأْخُوذَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَلَا التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ ، بَلْ هِيَ نَوْعُ إذْلَالٍ لَهُمْ وَمَعُونَةٌ لَنَا ، وَرُبَّمَا يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ الدَّاعِيَةِ إلَى مَعْرِفَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } الْآيَةَ ، وَقَدْ أَخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَمِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَالَ إنَّهُ مُنْقَطِعٌ .
وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ : صِيغَةٌ ، وَعَاقِدٌ ، وَمَعْقُودٌ لَهُ ، وَمَكَانٌ ، وَمَالٌ .
وَقَدْ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ ( صُورَةُ عَقْدِهَا ) مِنْ الْمُوجِبِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ نَحْوُ ( أُقِرُّكُمْ ) كَأَقْرَرْتُكُمْ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوْ الْمُضَارِعِ ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ : لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِالْمُضَارِعِ الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ لِيَنْسَلِخَ عَنْ مَعْنَى الْوَعْدِ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ الْقَرَائِنِ يَكُونُ لِلْحَالِ

.
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صِيَغَ الْمُضَارِعِ تَأْتِي لِلْإِنْشَاءِ كَأَشْهَدُ وَنَحْوِهِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( بِدَارِ الْإِسْلَامِ ) لَيْسَ بِقَيْدٍ فَقَدْ يُقِرُّهُمْ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ( أَوْ أَذِنْتُ فِي إقَامَتِكُمْ بِهَا ) غَيْرَ الْحِجَازِ كَمَا سَيَأْتِي ( عَلَى أَنْ تَبْذُلُوا ) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ تُعْطُوا بِمَعْنَى تَلْتَزِمُوا ( جِزْيَةً ) هِيَ كَذَا فِي كُلِّ حَوْلٍ .
قَالَ الْجُرْجَانِيِّ : وَيَقُولُ : أَوَّلَ الْحَوْلِ أَوْ آخِرَهُ ( وَتَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ) فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ دُونَ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنِكَاحِ الْمَجُوسِ ، وَقَدْ فُسِّرَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ بِالْتِزَامِهَا ، وَالصَّغَارُ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِنَا .
قَالُوا : وَأَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيَضْطَرُّ إلَى احْتِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَعَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ كَالْعِوَضِ عَنْ التَّقْرِيرِ فَيَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَكْفِي فِيهَا الِانْقِيَادُ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ ، إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا .
تَنْبِيهٌ : لَا تَنْحَصِرُ صِيغَةُ إيجَابِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ ابْتِدَاءً : أَقْرِرْنِي بِكَذَا فَقَالَ الْإِمَامُ أَقْرَرْتُك كَفَى ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيجَابَ كَالْقَبُولِ ( وَالْأَصَحُّ ذِكْرُ اشْتِرَاطِ قَدْرِهَا ) أَيْ الْجِزْيَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّهَا كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ .
وَالثَّانِي وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا خِلَافُ مَا يُفْهِمهُ كَلَامُهُ لَا يُشْتَرَطُ ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ عِنْد الْإِطْلَاقِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ تَخْصِيصُهُ الْخِلَافَ بِذِكْرِ قَدْرِهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الِانْقِيَادِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ

ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْإِمَامُ فِيهِ خِلَافًا : لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ ، وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ ( لَا كَفُّ اللِّسَانِ ) مِنْهُمْ ( عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ ) فَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ لِدُخُولِهِ فِي شَرْطِ الِانْقِيَادِ ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ ، إذْ بِهِ تَحْصُلُ الْمُسَالَمَةُ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .

وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ قَبُولٍ ، وَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ بِدَارِنَا فَقَالَ دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ رَسُولًا ، أَوْ بِأَمَانِ مُسْلِمٍ صُدِّقَ ، وَفِي دَعْوَى الْأَمَانِ وَجْهٌ .

( وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ ) لِلْجِزْيَةِ ( مُؤَقَّتًا عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ فَلَا يَجُوزُ مُؤَقَّتًا كَعِقْدِ الْإِسْلَامِ وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ يَصِحُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّأْقِيتِ بِمَعْلُومٍ كَسَنَةٍ .
أَمَّا الْمَجْهُولُ كَأُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ زَيْدٌ ، أَوْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ ، فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ } فَإِنَّمَا جَرَى فِي الْمُهَادَنَةِ حِينَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ ، لَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ ، بَلْ يَجُوزُ الْإِطْلَاقُ ، وَهُوَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ ، وَلَوْ قَالَ : أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُمْ صَحَّ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ نَبَذَ الْعَقْدِ مَتَى شَاءُوا فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ لَا تَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ عَقْدَهَا عَنْ مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُؤَقَّتًا إلَى مَا يُحْتَمَلُ تَأْبِيدُهُ الْمُنَافِي لِمُقْتَضَاهُ .
( وَيُشْتَرَطُ ) فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ مِنْ النَّاطِقِ ( لَفْظُ قَبُولٍ ) كَقَبِلْت أَوْ رَضِيتُ بِذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ .
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَيَكْفِي فِيهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ نُطْقِهِ ، وَتَكْفِي الْكِتَابَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ كَالْبَيْعِ ، بَلْ أَوْلَى ، وَكَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْأَمَانِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتُوا عَنْ شَرْطِ اتِّصَالِ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ ، وَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : يَقْرَبُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ ( وَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ بِدَارِنَا فَقَالَ : دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ ) قَالَ دَخَلْتُ ( رَسُولًا ) وَلَوْ عَبْدًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا ( أَوْ ) قَالَ

دَخَلْتُ ( بِأَمَانِ مُسْلِمٍ ) يَصِحُّ أَمَانُهُ ( صُدِّقَ ) فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لِاحْتِمَالِ مَا يَدَّعِيهِ ، وَقَصْدُ ذَلِكَ يُؤَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَأْمِينٍ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : دَخَلْتُ لِأُسْلِمَ ، أَوْ لِأَبْذُلَ جِزْيَةً .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنْدنَا أَسِيرًا ، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَفِي دَعْوَى الْأَمَانِ وَجْهٌ ) أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ ، بَلْ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِهَا غَالِبًا .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ ، فَإِنْ اُتُّهِمَ حَلَفَ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ كَجٍّ فِي مُدَّعِي الرِّسَالَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي غَيْرِهِ .

وَيُشْتَرَطُ لِعِقْدِهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ، وَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبُوا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْعَاقِدُ ، فَقَالَ ( وَيُشْتَرَطُ لِعِقْدِهَا الْإِمَامُ ، أَوْ نَائِبُهُ ) فِيهَا خُصُوصًا أَوْ عُمُومًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعِظَامِ فَتَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهَا مِنْ غَيْرِهِمَا ، لَكِنْ لَا يُغْتَالُ الْمَعْقُودُ لَهُ ، بَلْ يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَقَامَ سَنَةً فَأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَغْوٌ ( وَعَلَيْهِ ) أَيْ عَاقِدِهَا ( الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبُوا ) عَقْدَهَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا هُمْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ }

إلَّا جَاسُوسًا نَخَافُهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْأَسْرِ .
فَأَمَّا الْأَسِيرُ إذَا طَلَبَ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ ( إلَّا ) إذَا طَلَبَ عَقْدَهَا شَخْصٌ يُخَافُ كَيْدُهُ كَأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ ( جَاسُوسًا نَخَافُهُ ) فَلَا نُجِيبُهُ لِلضَّرَرِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ ، بَلْ لَا نَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْهُ ، وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ : كَمَا أَنَّ النَّامُوسَ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ .
.

وَلَا تُعْقَدُ إلَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ شَكَكْنَا فِي وَقْتِهِ وَكَذَا زَاعِمُ التَّمَسُّكِ بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ لَهُ فَقَالَ ( وَلَا تُعْقَدُ ) الْجِزْيَةُ ( إلَّا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ) مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الَّذِينَ لَمْ يُعْلَمْ دُخُولُهُمْ فِي ذَلِكَ الدِّينِ بَعْدَ نَسْخِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى أَنْ قَالَ : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } ( وَالْمَجُوس ) { ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْهُمْ ، وَقَالَ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَلِأَنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ ( وَأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ قَبْلَ النَّسْخِ ) لِدِينِهِ وَلَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَنِبُوا الْمُبْدَلَ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا ذَبِيحَتُهُمْ كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْمَيْتَاتِ التَّحْرِيمُ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالنَّسْخِ نَسْخُ التَّوْرَاةِ بِالْإِنْجِيلِ فِي الْيَهُودِ ، وَنَسْخُ الْإِنْجِيلِ فِي النَّصَارَى بِبَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُعْقَدُ لِأَوْلَادِ مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ بَعْدَ النَّسْخِ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا ، أَوْ تَهَوَّدَ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى كَآبَائِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ بَاطِلٍ وَسَقَطَتْ فَضِيلَتُهُ ( أَوْ ) أَيْ وَتُعْقَدُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ كَأَنْ ( شَكَكْنَا فِي وَقْتِهِ ) أَيْ التَّهَوُّدِ أَوْ التَّنَصُّرِ فَلَمْ نَعْرِفْ أَدَخَلُوا قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ كَالْمَجُوسِ ، وَبِذَلِكَ حَكَمَتْ الصَّحَابَةُ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُمْ نَهَرَا وَتَنُوخُ وَبَنُو تَغْلِبَ تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَغَيْرِهِمْ ، وَانْفَرَدَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَة عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَاهُمْ وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ خَوَلًا : أَيْ عَبِيدًا ، وَسُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي

طَالِبٍ كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِإِسْقَاطِهَا .
فَقَالَ : لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الصَّابِئَةُ وَالسَّامِرَةُ فَتُعْقَدُ لَهُمْ الْجِزْيَةُ إنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ ، وَإِلَّا فَلَا تُعْقَدُ لَهُمْ ، وَكَذَا تُعْقَدُ لَهُمْ لَوْ أَشْكَلَ أَمْرُهُمْ ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالشَّمْسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ كَمَنْ يَقُولُ إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ فَلَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ، سَوَاءٌ فِيهِمْ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَجَمِ مِنْهُمْ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( وَكَذَا ) يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ ( زَاعِمُ التَّمَسُّكِ بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ ) وَكَذَا صُحُفُ شِيثٍ وَهُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمَا صُحُفًا ، فَقَالَ : { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } وَتُسَمَّى كِتَابًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَانْدَرَجَتْ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَقِيلَ لَا تُعْقَدُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا مَوَاعِظُ لَا أَحْكَامَ لَهَا ، فَلَيْسَ لَهَا حُرْمَةُ الْأَحْكَامِ ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبِيحَتُهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ( وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيٌّ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ ) تُعْقَدُ لَهُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) وَإِنْ كَانَ الْكِتَابِيُّ أَمَةً تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ ، وَتُحْرَمُ مُنَاكَحَتُهُ وَذَبِيحَتُهُ احْتِيَاطًا ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا تُعْقَدُ لَهُ كَمَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ رَاجِعٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِلَى الَّتِي قَبْلَهَا .

وَلَوْ ظَفِرْنَا بِقَوْمٍ وَادَّعَوْا أَوْ بَعْضُهُمْ التَّمَسُّكَ تَبَعًا لِتَمَسُّكِ آبَائِهِمْ بِكِتَابٍ قَبْلَ النَّسْخِ ، وَلَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ صَدَّقْنَا الْمُدَّعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعُقِدَ لَهُمْ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ .
فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِكَذِبِهِمْ : فَإِنْ كَانَ قَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ قِتَالُهُمْ إنْ بَانَ كَذِبُهُمْ اغْتَلْنَاهُمْ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ : نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : عَنْ النَّصِّ لِتَلْبِيسِهِمْ عَلَيْنَا .

وَلَوْ تَوَثَّنَ نَصْرَانِيٌّ بَلَغَ الْمَأْمَنَ .
ثُمَّ أَطْفَالٌ الْمُتَوَثِّنِينَ مِنْ أُمِّهِمْ النَّصْرَانِيَّةِ نَصَارَى ، وَكَذَا أَطْفَالُ النَّصَارَى مِنْ أُمِّهِمْ الْوَثَنِيَّةِ فَتُعْقَدُ الْجِزْيَةُ لِمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ عَلَقَةُ التَّنَصُّرِ ، فَلَا تَزُولُ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدُ .

وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَخُنْثَى ، وَمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَصَبِيٍّ

( وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَهُوَ خِطَابُ الذُّكُورِ ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ " .
تَنْبِيهٌ : لَوْ طَلَبَ النِّسَاءُ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ أَعْلَمَهُنَّ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ .
فَإِنْ رَغِبْنَ فِي بَذْلِهَا فَهِيَ هِبَةٌ لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ( وَ ) لَا عَلَى ( خُنْثَى ) لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ أُنْثَى ، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ ، وَقَدْ عُقِدَ لَهُ الْجِزْيَةُ طَالَبْنَاهُ بِجِزْيَةِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ عَمَلًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا وَبَقِيَ مُدَّةً ثُمَّ اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ لَا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا مَضَى لِعَدَمِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَهُ ، وَالْخُنْثَى كَذَلِكَ إذَا بَانَتْ ذُكُورَتُهُ وَلَمْ تُعْقَدْ لَهُ الْجِزْيَةُ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ صَحَّحَ الْأَخْذَ مِنْهُ ، وَمَنْ صَحَّحَ عَدَمَهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ : ( وَ ) لَا عَلَى ( مَنْ فِيهِ رِقٌّ ) ، فَمَنْ كُلُّهُ رَقِيقٌ أَوْلَى وَلَوْ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَالْعَبْدُ مَالٌ وَالْمَالُ لَا جِزْيَةَ فِيهِ ، وَكَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لَا تَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ بِسَبَبِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا وَجَبَتْ عَلَى الْمُبَعَّضِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ كَمَنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ فَإِنَّ إفَاقَتَهُ تُلَفَّقُ كَمَا سَيَأْتِي .
وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجُنُونَ وَالْإِفَاقَةَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ( وَ ) لَا عَلَى ( صَبِيٍّ ) { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ - أَيْ مُحْتَلِمٍ - دِينَارًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى

الرِّجَالِ أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ مَا يُؤَدُّونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ جَازَ وَلَزِمَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ لَمْ يَجُزْ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .

وَمَجْنُونٍ ، فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ قَلِيلًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ لَزِمَتْهُ ، أَوْ كَثِيرًا كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ فَالْأَصَحُّ تُلَفَّقُ الْإِفَاقَةُ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتْ ، وَلَوْ بَلَغَ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَلَمْ يَبْذُلْ جِزْيَةً أُلْحِقَ بِمَنَامِهِ ، وَإِنْ بَذْلَهَا عُقِدَ لَهُ ، وَقِيلَ عَلَيْهِ كَجِزْيَةِ أَبِيهِ ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا عَلَى زَمِنٍ وَشَيْخٍ هَرِمٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ وَأَجِيرٍ وَفَقِيرٍ كَسْبٍ فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ .

( وَ ) لَا عَلَى ( مَجْنُونٍ ) أَطْبَقَ جُنُونُهُ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ ( فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ ) وَكَانَ ( قَلِيلًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ لَزِمَتْهُ ) وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الزَّمَنِ الْيَسِيرِ ، وَكَذَا لَا أَثَرَ لِيَسِيرِ زَمَنِ الْإِفَاقَةِ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا ( أَوْ كَثِيرًا كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ ، فَالْأَصَحُّ تُلَفَّقُ الْإِفَاقَةُ ) أَيْ زَمَنُهَا ( فَإِذَا بَلَغَتْ ) أَزْمِنَةُ الْإِفَاقَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ ( سَنَةً ) فَأَكْثَرَ ( وَجَبَتْ ) جِزْيَةٌ اعْتِبَارًا لِلْأَزْمِنَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ بِالْأَزْمِنَةِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَالثَّانِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِنُقْصَانِهِ كَالْبَعْضِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا أَمْكَنَ التَّلْفِيقُ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْجُنُونِ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا هَذَا إذَا تَعَاقَبَ الْجُنُونُ وَالْإِفَاقَةُ ، فَلَوْ كَانَ عَاقِلًا فَجُنَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَكَمَوْتِ الذِّمِّيِّ فِي أَثْنَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فِي أَثْنَائِهِ اسْتَقْبَلَ الْحَوْلَ حِينَئِذٍ ( وَلَوْ بَلَغَ ابْنُ ذِمِّيٍّ ) وَلَوْ بِنَبَاتِ عَانَتِهِ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ ( وَلَمْ يَبْذُلْ ) بِالْمُعْجَمَةِ : أَيْ يُعْطِ ( جِزْيَةً ) بَعْدَ طَلَبِنَا لَهَا مِنْهُ ( أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ ) سَوَاءٌ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ذِمِّيٌّ أَمْ مُسْلِمٌ ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَتِيقَ الْمُسْلِمِ لَا تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحُرْمَةِ وَلَائِهِ ( وَإِنْ بَذْلَهَا ) مَنْ ذُكِرَ ( عُقِدَ لَهُ ) وَلَا يَكْفِي عَقْدُ أَبٍ وَسَيِّدٍ ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَدْخَلَهُ فِي عَقْدِهِ إذَا بَلَغَ أَوْ عَتَقَ كَأَنْ قَالَ قَدْ الْتَزَمْتُ هَذَا عَنِّي وَعَنْ ابْنِي إذَا بَلَغَ ، أَوْ عَبْدِي إذَا عَتَقَ ( وَقِيلَ عَلَيْهِ ) أَيْ الصَّبِيِّ ( كَجِزْيَةِ أَبِيهِ ) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ اكْتِفَاءً بِعَقْدِ أَبِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فَيُعْقَدُ لَهُ عَقْدٌ مُسْتَأْنَفٌ ، وَيُسَاوَمُ كَغَيْرِهِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِالْكَمَالِ وَلِوُجُوبِ جِزْيَةٍ أُخْرَى ، وَمَرَّ أَنَّ إعْطَاءَهَا فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْتِزَامِهَا ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ

حَوْلَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ وَاحِدًا لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ أَخَذُ الْجِزْيَةِ ، وَيَسْتَوْفِيَ مَا لَزِمَ التَّابِعَ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ الَّذِي اتَّفَقَ الْكَمَالُ فِي أَثْنَائِهِ إنْ رَضِيَ التَّابِعُ بِذَلِكَ أَوْ يُؤَخِّرَهُ إلَى الْحَوْلِ الثَّانِي فَيَأْخُذَهُ مَعَ جِزْيَةِ الْمَتْبُوعِ فِي آخِرِهِ ، لِئَلَّا يَخْتَلِفَ أَوَاخِرُ الْأَحْوَالِ ، وَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَهُمَا بِحَوْلٍ فَيَأْخُذُ مَا لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا فَعَقَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ عَقَدَ لَهُ وَلِيُّهُ بِدِينَارٍ صَحَّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ حَقْنِ الدَّمِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْحَقْنَ مُمْكِنٌ بِدِينَارٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَالَحَ السَّفِيهَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ صَحَّ صِيَانَةً لِرُوحِهِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ صَوْنَ الدَّمِ فِي الْجِزْيَةِ يَحْصُلُ بِالدِّينَارِ ، وَصَوْنُ الرُّوحُ لَا يَحْصُلُ فِي الْقِصَاصِ إلَّا بِالزِّيَادَةِ ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ قَبُولُ الدِّينَارِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ قَبُولُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ اخْتَارَ السَّفِيهُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْمَأْمَنِ لَمْ يَمْنَعْهُ وَلِيُّهُ ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَى مَالِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ ( وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهَا عَلَى زَمِنٍ وَشَيْخٍ هَرِمٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ وَأَجِيرٍ ) ؛ لِأَنَّهَا كَأُجْرَةِ الدَّارِ ، فَيَسْتَوِي فِيهَا أَرْبَابُ الْأَعْذَارِ وَغَيْرُهُمْ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ إنْ قُلْنَا لَا يُقْتَلُونَ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ( وَ ) عَلَى ( فَقِيرٍ عَجَزَ عَنْ كَسْبٍ ) وَلَوْ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ كَالْغَنِيِّ فِي حَقْنِ الدَّمِ وَالسُّكْنَى ( فَإِذَا تَمَّتْ سَنَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ ) وَكَذَا حُكْمُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا كَمَا تَعَامَلَ الْمُعْسِرُ ، وَيُطَالَبُ إذَا أَيْسَرَ ، وَفِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ إنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عَطْفِ الْمُصَنِّفِ لَهُ عَلَى الزَّمَنِ يَقْتَضِي

أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ طَرِيقَانِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَا عَنْ تَفْسِيرِ الْفَقِيرِ هُنَا ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَالرَّازِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ أَحَدُهُمَا مُسْتَحِقُّ الزَّكَاةِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَشْبَهُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ : مَنْ لَا يَمْلِكُ فَاضِلًا عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ آخِرَ الْحَوْلِ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ .
.

وَيُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ مِنْ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ ، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا ، وَقِيلَ لَهُ الْإِقَامَةُ فِي طُرُقِهِ الْمُمْتَدَّةِ ، وَلَوْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَخْرَجَهُ وَعَزَّرَهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ ، مِنْهُ فَإِنْ اسْتَأْذَنَ أَذِنَ إنْ كَانَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِسَالَةٍ وَحَمْلِ مَا نَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ لَمْ يَأْذَنْ إلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْقَابِلُ لِلتَّقْرِيرِ .
فَقَالَ ( وَيُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ مِنْ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِجِزْيَةٍ أَمْ لَا لِشَرَفِهِ ، وَلِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ { آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ الْحِجَازِ } وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَخَبَرِ مُسْلِمٍ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْحِجَازُ الْمُشْتَمِلَةُ هِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ الْجَزِيرَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَجَلَاهُمْ مِنْ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ فِي الْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بِالْإِقَامَةِ بَدَلَ الِاسْتِيطَانِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ لَكَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِهَا مَنْعُ الِاسْتِيطَانِ وَلَا عَكْسَ ، فَلَوْ أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يَتَّخِذَ دَارًا بِالْحِجَازِ وَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَمْ يَسْتَوْطِنْهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ حُرِّمَ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي وَآلَاتِ الْمَلَاهِي ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ : وَلَا يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا ( وَهُوَ ) أَيْ الْحِجَازُ ( مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ ، وَمَرْحَلَتَيْنِ مِنْ الطَّائِفِ : قِيلَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَارِيَةٍ زَرْقَاءَ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَكَانَتْ تَسْكُنُهَا ( وَقُرَاهَا ) أَيْ الثَّلَاثَةِ كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ لِمَكَّةَ وَخَيْبَرَ لِلْمَدِينَةِ ( وَقِيلَ لَهُ ) أَيْ الْكَافِرِ ( الْإِقَامَةُ فِي طُرُقِهِ ) أَيْ الْحِجَازِ ( الْمُمْتَدَّةِ ) بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْإِقَامَةُ فِيهَا عَادَةً ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مُجْتَمَعِ النَّاسِ وَلَا مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ

لِلْبُقْعَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ حَرَمِ مَكَّةَ ، فَأَمَّا الْبِقَاعُ الَّتِي مِنْ الْحَرَمِ ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهَا قَطْعًا ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ إقَامَةٍ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي جَزَائِرِهِ وَسَوَاحِلِهِ الْمَسْكُونَةِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : وَقَالُوا بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ حِجَازًا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ ، وَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ ، وَفِي الْعَرْضِ مِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ ، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ بَحْرِ الْحَبَشَةِ وَبَحْرِ فَارِسَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ بِهَا ( وَلَوْ دَخَلَهُ ) كَافِرٌ ( بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أَخْرَجَهُ ) مِنْهُ لِعَدَمِ إذْنِهِ لَهُ ( وَعَزَّرَهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ) لِجَرَاءَتِهِ وَدُخُولِ مَا لَيْسَ لَهُ دُخُولُهُ .
فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ أُخْرِجَ وَلَمْ يُعَزَّرْ ( فَإِنْ اسْتَأْذَنَ ) كَافِرٌ الْإِمَامَ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ ( أَذِنَ ) لَهُ ( إنْ كَانَ ) فِي دُخُولِهِ ( مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِسَالَةٍ ) يُؤَدِّيهَا وَعَقْدِ ذِمَّةٍ وَهُدْنَةٍ ( وَحَمْلِ مَا نَحْتَاجُ ) نَحْنُ ( إلَيْهِ ) مِنْ طَعَامٍ وَمَتَاعٍ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ ( فَإِنْ كَانَ ) دُخُولُهُ ( لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ ) كَالْعِطْرِ ( لَمْ يَأْذَنْ ) لَهُ الْإِمَامُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ ( إلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ مَتَاعِهَا ، وَقَدْرُ الْمَشْرُوطِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ الْقِبْطِ إذَا تَجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ عُشْرَ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ كَالْقَطِيفَةِ ، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي حَمْلِهَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمَا .

وَلَا يُقِيمُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .

وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ حَرْبِيٍّ دَخَلَ دَارَنَا رَسُولًا أَوْ بِتِجَارَةٍ نُضْطَرُّ نَحْنُ إلَيْهَا .
فَإِنْ لَمْ نُضْطَرَّ ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ أَخَذَ شَيْءٍ ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِهَا جَازَ وَيَجُوزُ دُونَهُ ، وَفِي نَوْعٍ أَكْثَرَ مِنْ نَوْعٍ وَلَوْ أَعْفَاهُمْ جَازَ .
فَإِنْ شَرَطَ عُشْرَ الثَّمَنِ أُمْهِلُوا إلَى الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تِجَارَتِهِمْ ، وَمَا يُؤْخَذُ فِي الْحَوْلِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مَرَّةً وَلَوْ تَرَدَّدَ ، وَوُلَاةُ الْمِكَاسَةِ تَفْعَلُ بِالْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ ، وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ تِجَارَةِ ذِمِّيِّ وَلَا ذِمِّيَّةٍ إلَّا إنْ شُرِطَ مَعَ الْجِزْيَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِ مُتَّجِرٍ دَخَلَ بِأَمَانٍ وَإِنْ دَخَلَ الْحِجَازَ ، وَيُكْتَبُ لِمَنْ أُخِذَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ حَتَّى لَا يُطَالَبَ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ الْحَوْلِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِي الدُّخُولِ لِلتِّجَارَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ خَصَّهُ الْبُلْقِينِيُّ بِالذِّمِّيِّ ، وَقَالَ إنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ لِلتِّجَارَةِ ( وَ ) إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الدُّخُولِ ( لَا يُقِيمُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) فَأَقَلَّ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلَا يَحْسِبُ مِنْهَا يَوْمَيْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ كَمَا مَرَّ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا ، وَيَشْتَرِطُ الْإِمَامُ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَا يُؤَخَّرُ لِقَضَاءِ دَيْنٍ ، بَلْ يُوَكِّلُ مَنْ يَقْضِي عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .
أَمَّا لَوْ أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى آخَرَ ، وَهَكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْوَافِي : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ مَوْضِعَيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَإِلَّا فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ .

وَيُمْنَعُ دُخُولَ حَرَمِ مَكَّةَ ، فَإِنْ كَانَ رَسُولًا خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبٌ يَسْمَعُهُ .
( وَيُمْنَعُ ) الْكَافِرُ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ ( دُخُولَ حَرَمِ مَكَّةَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ بِدَلِيلِ ، قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أَيْ فَقْرًا بِانْقِطَاعِ التِّجَارَةِ عَنْكُمْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَلْبَ إنَّمَا يُجْلَبُ لِلْبَلَدِ لَا إلَى الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَعُوقِبُوا بِالْمَنْعِ مِنْ دُخُولِهِ بِكُلِّ حَالٍ ( فَإِنْ كَانَ رَسُولًا ) وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ ( خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبٌ يَسْمَعُهُ ) إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إلَّا إلَيْهِ ، وَإِلَّا بَعَثَ إلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ وَيُنْهِي إلَيْهِ ، وَإِنَّ طَلَبَ مِنَّا الْمُنَاظَرَةَ لِيُسْلِمَ خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ دُخُولِهِ إلَيْهِ بَيْنَ حَالِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهَا ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ .

وَإِنْ مَرِضَ فِيهِ نُقِلَ ، وَإِنْ خِيفَ مَوْتُهُ فَإِنْ مَاتَ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ ، فَإِنْ دُفِنَ نُبِشَ وَأُخْرِجَ ، وَإِنْ مَرِضَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحِجَازِ وَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ تُرِكَ وَإِلَّا نُقِلَ ، فَإِنْ مَاتَ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ دُفِنَ هُنَاكَ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ بَذَلَ الْكَافِرُ عَلَى دُخُولِهِ الْحَرَمَ مَالًا لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ ، فَإِنْ أُجِيبَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ ثُمَّ إنْ وَصَلَ الْمَقْصَدَ أُخْرِجَ وَثَبَتَ الْمُسَمَّى ، أَوْ دُونَ الْمَقْصَدِ فَبِالْقِسْطِ مِنْ الْمُسَمَّى .
قَاعِدَةٌ : كُلُّ عَقْدٍ فَسَدَ يَسْقُطُ فِيهِ الْمُسَمَّى إلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ ، وَلَيْسَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ فَرَجَعَ إلَى الْمُسَمَّى ( وَإِنْ مَرِضَ فِيهِ ) أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ ( نُقِلَ ) مِنْهُ ( وَإِنْ خِيفَ مَوْتُهُ ) مِنْ النَّقْلِ ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِدُخُولِهِ ( فَإِنْ مَاتَ ) فِيهِ ( لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ ) تَطْهِيرًا لِلْحَرَمِ مِنْهُ ( فَإِنْ دُفِنَ ) فِيهِ ( نُبِشَ وَأُخْرِجَ ) مِنْهُ إلَى الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ نَبْشِهِ إذَا لَمْ يَتَهَرَّ ، فَإِنْ تَهَرَّى تُرِكَ ، وَلَا يَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِاخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ ، وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ الْكُفَّارَ مَسْجِدَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَقَدِمَ الْوَفْدُ عَلَيْهِ سَنَةَ عَشْرٍ وَفِيهِمْ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فَأَنْزَلَهُمْ مَسْجِدَهُ وَنَاظَرَهُمْ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ ( وَإِنْ مَرِضَ فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ حَرَمِ مَكَّةَ ( مِنْ الْحِجَازِ وَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي نَقْلِهِ ) سَوَاءٌ خِيفَ مَعَ ذَلِكَ مَوْتُهُ أَمْ لَا ( تُرِكَ ) مُرَاعَاةً لِأَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي الْجُمْلَةِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ تَعْظُمْ الْمَشَقَّةُ فِيهِ ( نُقِلَ ) مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الدَّارِ ( فَإِنْ مَاتَ ) فِيهِ ( وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ ) إلَى الْحِلِّ لِتَقَطُّعِهِ مَثَلًا ( دُفِنَ هُنَاكَ ) لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ لَمْ يُدْفَنْ هُنَاكَ ، فَإِنْ دُفِنَ تُرِكَ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذُكِرَ فِي الذِّمِّيِّ .
أَمَّا الْحَرْبِيُّ أَوْ الْمُرْتَدُّ فَلَا يُدْفَنُ فِيهِ ، بَلْ تُغْرَى الْكِلَابُ عَلَى جِيفَتِهِ ، فَإِنْ

تَأَذَّى النَّاسُ بِرِيحِهِ وَوُرِيَ كَالْجِيفَةِ .
.

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ ، وَهُوَ الْمَالُ مُتَرْجِمًا لَهُ بِفَصْلٍ فَقَالَ : فَصْلٌ : ( أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ ) : عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمُعَافِرِ } وَهِيَ ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ أَقَلَّهَا دِينَارٌ أَوْ مَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ ، وَبِهِ أَخَذَ الْبُلْقِينِيُّ ، وَالْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَقَلَّهَا دِينَارٌ ، وَعَلَيْهِ إذَا عَقَدَ بِهِ جَازَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ مَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَقْدُهَا بِمَا قِيمَتُهُ دِينَارٌ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ قَدْ تَنْقُصُ عَنْهُ آخِرَ الْمُدَّةِ ، وَمَحَلُّ كَوْنِ أَقَلِّهَا دِينَارًا عِنْدَ قُوَّتِنَا ، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ الدَّارِمِيُّ عَنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ ، نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِانْقِضَاءِ السَّنَةِ .
وَقَالَ الْقَفَّالُ : اخْتَلَفَ قَوْمُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ أَوْ تَجِبُ بِانْقِضَائِهِ ، وَبُنِيَ عَلَيْهِمَا إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ هَلْ تَسْقُطُ ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْعَقْدِ لَمْ تَسْقُطْ وَإِلَّا سَقَطَتْ حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْأَسْرَارِ ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الْجِزْيَةِ .

وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُمَاكَسَةٌ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ مُتَوَسِّطٍ دِينَارَيْنِ وَغَنِيٍّ أَرْبَعَةً .
( وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُمَاكَسَةٌ ) أَيْ مُشَاحَّةُ الْكَافِرِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى دِينَارٍ ، بَلْ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْقِدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَ بِدُونِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ ، وَيُسَنُّ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهُمْ ( حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ مُتَوَسِّطٍ دِينَارَيْنِ ، وَ ) مِنْ ( غَنِيٍّ أَرْبَعَةً ) وَمِنْ فَقِيرٍ دِينَارًا اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُتَصَرِّفٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاطَ لَهُمْ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُهَا إلَّا كَذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ .
فَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ ، وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخَانِ اسْتِحْبَابَ الْمُمَاكَسَةِ ، فَأَخَذَ شَيْخُنَا مِنْ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْمُمَاكَسَةَ كَمَا تَكُونُ فِي الْعَقْدِ تَكُونُ فِي الْأَخْذِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْأَصْحَابِ : يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الْمُمَاكَسَةُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ الْغَنِيِّ إلَخْ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ : أَيْ إذَا مَاكَسَهُمْ فِي الْعَقْدِ فَيَأْخُذُ إلَخْ ، فَإِنْ أَبَى الْكَافِرُ عَقْدَهَا إلَّا بِدِينَارٍ .
أُجِيبَ ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ ، وَمَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ أَنَّ السَّفِيهَ لَا يُمَاكَسُ هُوَ وَلَا وَلِيُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ .

وَلَوْ عُقِدَتْ بِأَكْثَرَ ثُمَّ عَلِمُوا جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ ، فَإِنْ أَبَوْا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ نَاقِضُونَ .
( وَلَوْ عُقِدَتْ ) لِلْكَافِرِ ذِمَّةٌ ( بِأَكْثَرَ ) مِنْ دِينَارٍ ( ثُمَّ عَلِمُوا ) بَعْدَ الْعَقْدِ ( جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ ) كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ثُمَّ عَلِمَ الْغَبَنَ ( فَإِنْ أَبَوْا ) بَذْلَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ نَاقِضُونَ ) لِلْعَهْدِ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ أَصْلِ الْجِزْيَةِ ، فَيُبَلَّغُونَ الْمَأْمَنَ كَمَا سَيَأْتِي ، وَالثَّانِي لَا ، وَيَقْنَعُ مِنْهُمْ بِالدِّينَارِ كَمَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ بِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ بَلَغُوا الْمَأْمَنَ ، ثُمَّ عَادُوا وَطَلَبُوا الْعَقْدَ بِدِينَارٍ أُجِيبُوا إلَيْهِ كَمَا لَوْ طَلَبُوهُ أَوَّلًا .
.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51