كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

ذَكَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ( اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ( وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ ( اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا ) أَيْ دَلَّنَا عَلَى طَاعَتِهِ بِالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا ) مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي خُطْبَةِ الْمَتْنِ ( لَهُ الْمُلْكُ ) أَيْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا لِغَيْرِهِ ( وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ ) أَيْ قُدْرَتِهِ ( الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ) مُمْكِنٍ ( قَدِيرٌ ) لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ دِينًا وَدُنْيَا .
قُلْت : وَيُعِيدُ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ) السَّابِقَيْنِ ( ثَانِيًا وَثَالِثًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِزِيَادَةِ بَعْضِ أَلْفَاظٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَتْنُ وَنَقْصِ بَعْضٍ .
وَقَوْلُهُ : بِيَدِهِ الْخَيْرُ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : لَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَكِنْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبُوَيْطِيِّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الدُّعَاءُ بِأَمْرِ الدِّينِ يَكُونُ مَنْدُوبًا مُتَأَكِّدًا لِلتَّأَسِّي وَبِأَمْرِ الدُّنْيَا مُبَاحًا كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ ا هـ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت { اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } غَافِرٍ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، وَإِنِّي أَسْأَلُك كَمَا هَدَيْتَنِي إلَى الْإِسْلَامِ أَنْ لَا تَنْزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا ( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يَمْشِيَ ) عَلَى هِينَتِهِ ( أَوَّلَ السَّعْيِ وَآخِرَهُ ، وَ ) أَنْ ( يَعْدُوَ ) الذَّكَرُ ، أَيْ يَسْعَى سَعْيًا ، شَدِيدًا فَوْقَ الرَّمَلِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ (

فِي الْوَسَطِ ) الَّذِي بَيْنَهُمَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَمَوْضِعُ النَّوْعَيْنِ ) أَيْ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ ( مَعْرُوفٌ ) هُنَاكَ فَيَمْشِي حَتَّى يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِرُكْنِ الْمَسْجِدِ عَلَى يَسَارِهِ قَدْرُ سِتَّةِ أَذْرُعٍ فَيَعْدُو ، فَإِنْ عَجَزَ تَشَبَّهَ حَتَّى يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ بِجِدَارِ دَارِ الْعَبَّاسِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ بِرِبَاطِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَرْوَةِ ، فَإِذَا عَادَ مِنْهَا إلَى الصَّفَا مَشَى فِي مَحِلِّ مَشْيِهِ وَسَعَى فِي مَحِلِّ سَعْيِهِ أَوَّلًا .
أَمَّا الْأُنْثَى فَتَمْشِي فِي الْكُلِّ ، وَقِيلَ : إنْ خَلَتْ بِاللَّيْلِ سَعَتْ كَالذَّكَرِ ، وَالْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْأُنْثَى كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْأَحْدَاثِ عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ وَأَقَرَّهُ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الذَّكَرُ فِي عَدْوِهِ وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْخُنْثَى فِي مَحِلِّهِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ .
.

تَنْبِيهٌ : سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَنْ السِّتْرِ وَالطَّهَارَةِ مَعَ اشْتِرَاطِهِ لَهُمَا فِي الطَّوَافِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ وُجُوبِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ فَيُسَنَّانِ .
وَيُسَنُّ أَيْضًا الْمُوَالَاةُ فِي مَرَّاتِ السَّعْيِ ، وَكَذَا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَاشِيًا إلَّا لِعُذْرٍ ، فَإِنْ رَكِبَ بِلَا عُذْرٍ لَمْ يُكْرَهْ اتِّفَاقًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَمَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَ السَّعْيَ رَاكِبًا إلَّا لِعُذْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُكْرَهُ لِلسَّاعِي أَنْ يَقِفَ فِي سَعْيِهِ لِحَدِيثٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ مَرَّاتِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ كَمَا مَرَّ فِي الطَّوَافِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ ثِقَةٍ أَخْبَرَهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ خِلَافَهُ كَمَا مَرَّ فِي الطَّوَافِ أَيْضًا ثُمَّ بَعْدَ السَّعْيِ إنْ كَانَ مُعْتَمِرًا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَصَارَ حَلَالًا وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ .
.

فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَوْ مَنْصُوبِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِمَكَّةَ فِي سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ خُطْبَةً فَرْدَةً ، يَأْمُرُهُمْ فِيهَا بِالْغُدُوِّ إلَى مِنًى ، وَيُعَلِّمُهُمْ مَا أَمَامَهُمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ ، وَيَخْرُجُ بِهِمْ مِنْ الْغَدِ إلَى مِنًى وَيَبِيتُونَ بِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَصَدُوا عَرَفَاتًا .
قُلْت : وَلَا يَدْخُلُونَهَا بَلْ يُقِيمُونَ بِنَمِرَةَ بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ يَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الزَّوَالِ خُطْبَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا .
وَيَقِفُوا بِعَرَفَةَ إلَى الْغُرُوبِ ، وَيَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ

( فَصْلٌ ) فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ ( يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ ) الْأَعْظَمِ إنْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ ( أَوْ مَنْصُوبِ ) الْمُؤَمَّرِ عَلَيْهِمْ إنْ لَمْ يَخْرُجْ الْإِمَامُ ( أَنْ يَخْطُبَ بِمَكَّةَ فِي سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا ، الْمُسَمَّى بِيَوْمِ الزِّينَةِ لِتَزْيِينِهِمْ فِيهِ هَوَادِجَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَخْطُبُ ( بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ) أَوْ الْجُمُعَةِ إنْ كَانَ يَوْمَهَا ( خُطْبَةً فَرْدَةً ) وَلَا يَكْفِي عَنْهَا خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا التَّأْخِيرُ عَنْ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا التَّعْلِيمُ لَا الْوَعْظُ وَالتَّخْوِيفُ فَلَمْ تُشَارِكْ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْكُسُوفِ ( يَأْمُرُهُمْ فِيهَا بِالْغُدُوِّ ) الْيَوْمَ الثَّامِنَ الْمُسَمَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَرَوُّونَ فِيهِ الْمَاءَ ( إلَى مِنًى ) بِكَسْرِ الْمِيمِ تُصْرَفُ وَلَا تُصْرَفُ وَتُذَكَّرُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ وَقَدْ تُؤَنَّثُ وَتَخْفِيفُ نُونِهَا أَشْهَرُ مِنْ تَشْدِيدِهَا ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى - أَيْ يُرَاقُ فِيهَا مِنْ الدِّمَاءِ ، وَيَفْتَتِحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا وَإِلَّا فَبِالتَّكْبِيرِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَقَرَّهُ ( وَيُعَلِّمُهُمْ ) فِيهَا ( مَا أَمَامَهُمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ ) قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكِهِمْ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، فَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ فَقِيهًا قَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ ، وَتَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنَّ خُطَبَ الْحَجِّ أَرْبَعٌ : هَذِهِ ، وَخُطْبَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، وَكُلُّهَا فُرَادَى وَبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ فَثِنْتَانِ ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ بِمَا بَيْنَ

أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْخَبَرُ السَّابِقُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ إلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى ، وَلَا مُنَافَاةَ ، إذْ الْإِطْلَاقُ بَيَانٌ لِلْأَكْمَلِ وَالتَّقْيِيدُ بَيَانٌ لِلْأَقَلِّ ، وَيَأْمُرُ فِيهَا أَيْضًا الْمُتَمَتِّعِينَ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالْمَكِّيِّينَ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ وَبَعْدَ إحْرَامِهِمْ كَمَا اقْتَضَاهُ نَقْلُ الْمَجْمُوعِ لَهُ عَنْ الْبُوَيْطِيِّ وَالْأَصْحَابِ ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ الْآفَاقِيَّيْنِ لَا يُؤْمَرَانِ بِطَوَافِ وَدَاعٍ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَحَلَّلَا مِنْ مَنَاسِكِهِمَا لَيْسَتْ مَكَّةُ مَحَلَّ إقَامَتِهِمَا ( وَيَخْرُجُ ) نَدْبًا ( بِهِمْ مِنْ الْغَدِ ) بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إنْ لَمْ يَكُنْ جُمُعَةً ( إلَى مِنًى ) فَيُصَلُّونَ بِهَا الظُّهْرَ وَبَاقِيَ الْخَمْسِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، فَإِنْ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ خَرَجَ بِهِمْ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَوْمَهَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ حَرَامٌ ، فَمَحِلُّهُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إقَامَتُهَا بِمِنًى ، فَإِنْ حَدَثَ فِيهَا قَرْيَةٌ وَاسْتَوْطَنَهَا أَرْبَعُونَ كَامِلُونَ صَلَّوْا فِيهَا الْجُمُعَةَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ إقَامَتِهَا وَإِنْ حَرُمَ الْبِنَاءُ ثَمَّ ، وَيَجُوزُ خُرُوجُهُمْ بَعْدَ الْفَجْرِ وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ بِعَرَفَةَ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ( وَيَبِيتُونَ ) نَدْبًا ( بِهَا ) فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ .
وَمِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ إيقَادِ الشُّمُوعِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُنْكَرَاتٍ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ : يُسَنُّ الْمَشْيُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا إلَى انْقِضَاءِ

الْحَجِّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَقْصِدَ مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُكْثِرَ التَّلْبِيَةَ قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا وَيُصَلِّيَ مَكْتُوبَاتِ يَوْمِهِ وَصُبْحَ غَدِهِ فِي مَسْجِدِهَا ( فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ) عَلَى ثَبِيرٍ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ : جَبَلٌ كَبِيرٌ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ ( قَصَدُوا عَرَفَاتٍ ) مَارِّينَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُطِلُّ عَلَى مِنًى وَيَعُودُونَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ ، وَهُوَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ السَّائِرُ : اللَّهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْت ، وَإِلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ أَرَدْت ، فَاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا وَحَجِّي مَبْرُورًا ، وَارْحَمْنِي وَلَا تُخَيِّبْنِي إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنْ يَعُودَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ ( قُلْت ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( وَلَا يَدْخُلُونَهَا بَلْ يُقِيمُونَ بِنَمِرَةَ ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ ، وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا مَعَ فَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا : مَوْضِعٌ ( بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بِنَمِرَةَ لِلْوُقُوفِ ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ذَهَبُوا إلَى مَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ : إنَّهُ أَحَدُ أُمَرَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ ، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ بَابُ إبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ ، وَصَدْرُهُ مِنْ عُرَنَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَآخِرُهُ مِنْ عَرَفَةَ وَتُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا صَخَرَاتٌ كِبَارٌ فُرِشَتْ هُنَاكَ .
قَالَ الْبَغَوِيّ : وَصَدْرُهُ مَحِلُّ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ ( ثُمَّ يَخْطُبُ الْإِمَامُ ) أَوْ مَنْصُوبُهُ ( بَعْدَ الزَّوَالِ ) قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ( خُطْبَتَيْنِ ) خَفِيفَتَيْنِ يُعَلِّمُهُمْ فِي الْأُولَى الْمَنَاسِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى إكْثَارِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِالْمَوْقِفِ ، وَيَجْلِسُ بَعْدَ فَرَاغِهَا بِقَدْرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ، وَحِينَ يَقُومُ إلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ أَخَفُّ

مِنْ الْأُولَى يُؤَذَّنُ لِلظُّهْرِ فَيَفْرَغُ مِنْ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْأَذَانِ .
فَإِنْ قِيلَ الْأَذَانُ يَمْنَعُ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ أَوْ أَكْثَرِهَا فَيَفُوتُ مَقْصُودُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُطْبَةِ مِنْ التَّعْلِيمِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأُولَى .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ ، وَشُرِعَتْ مَعَ الْأَذَانِ قَصْدًا لِلْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ ( ثُمَّ ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ ( يُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا ) تَقْدِيمًا لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَيَقْصُرُهُمَا أَيْضًا ، وَالْقَصْرُ وَالْجَمْعُ هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي بِالْمُزْدَلِفَةِ لِلسَّفَرِ لَا لِلنُّسُكِ فَيَخْتَصَّانِ بِسَفَرِ الْقَصْرِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ الْكُبْرَى مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِلنُّسُكِ ، فَيَأْمُرُ الْإِمَامُ الْمَكِّيِّينَ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ سَفَرُهُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِالْإِتْمَامِ وَعَدِمِ الْجَمْعِ ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ السَّلَامِ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ سَفَرُهُ قَصِيرٌ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ : إنَّ الْحُجَّاجَ إذَا دَخَلُوا مَكَّةَ وَنَوَوْا أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَرْبَعًا لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ ، فَإِذَا خَرَجُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى وَنَوَوْا الذَّهَابَ إلَى أَوْطَانِهِمْ عِنْدَ فَرَاغِ مَنَاسِكِهِمْ كَانَ لَهُمْ الْقَصْرُ مِنْ حِينِ خَرَجُوا ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْشَئُوا سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ ، يَذْهَبُونَ إلَى الْمَوْقِفِ وَيُعَجِّلُونَ السَّيْرَ إلَيْهِ ، وَأَفْضَلُهُ لِلذِّكْرِ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ الْمُفْتَرِشَةِ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَةَ ، وَيُقَالُ لَهُ إلَالٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِوَزْنِ هِلَالٍ ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَالْمَشْهُورُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ

الْأَوَّلُ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهَا لِزَحْمَةٍ قَرُبَ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَبَيْنَ مَوْقِفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ نَحْوُ مِيلٍ .
أَمَّا الْأُنْثَى فَيُنْدَبُ لَهَا الْجُلُوسُ فِي حَاشِيَةِ الْمَوْقِفِ ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى ( وَ ) يُسَنُّ أَنْ ( يَقِفُوا ) أَيْ الْإِمَامُ أَوْ مَنْصُوبُهُ وَالنَّاسُ ( بِعَرَفَةَ إلَى الْغُرُوبِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ حَتَّى تَزُولَ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا .
فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ : وَيَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ وَيُكْثِرُوا التَّهْلِيلَ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَصَدُوا مُزْدَلِفَةَ .
الْمُصَنِّفُ يَقِفُوا مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى يَخْطُبَ فَيَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُقُوفِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ مَعَ أَنَّهُ وَاجِبٌ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَيَّدَ الْوُقُوفَ بِالِاسْتِمْرَارِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى الصَّحِيحِ ( وَ ) أَنْ ( يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ ) بِإِكْثَارٍ وَيُكْثِرُوا التَّهْلِيلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ { اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } وَيُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّفُ - السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ ، وَلَا بَأْسَ بِالسَّجْعِ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا ، أَوْ قَالَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ ، وَيُسَنُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ .
قَالَ فِي الْبَحْرِ : - قَالَ أَصْحَابُنَا : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فِي عَرَفَةَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ذَلِكَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ، وَفِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

مَرْفُوعًا { مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - أَلْفَ مَرَّةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ } وَيُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ ، وَأَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُتَطَهِّرًا ، وَالْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا عَلَى الْأَظْهَرِ .
وَأَمَّا صُعُودُ الْجَبَلِ فَلَا فَضِيلَةَ فِي صُعُودِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ أَنَّهُ مَوْقِفُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَمِنْ أَدْعِيَتِهِ الْمُخْتَارَةِ { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } .
الْآيَةَ .
{ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، اللَّهُمَّ اُنْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ ، وَاكْفِنِي بِحَلَالِك عَنْ حَرَامِك ، وَاغْنِنِي بِفَضْلِك عَمَّنْ سِوَاك ، وَنَوِّرْ قَلْبِي وَقَبْرِي ، وَاهْدِنِي ، وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ ، وَاجْمَعْ لِي الْخَيْرَ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْهُدَى وَالتُّقَى ، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى } وَالْحَذَرَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ ، وَالْمَوْقِفُ أَعْظَمُ الْمَجَامِعِ ، يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَوْلِيَاءُ وَالْخَوَاصُّ ، وَيَكْثُرُ الْبُكَاءُ مَعَ ذَلِكَ ، فَهُنَاكَ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ ، وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلتَّوْفِيقِ فِي دُعَائِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ } ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَغْفِرُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، وَلْيُحْسِنْ الْوَاقِفُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَقَدْ نَظَرَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إلَى بُكَاءِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ سَارُوا

إلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دَانِقًا أَكَانَ يَرُدُّهُمْ ؟ فَقَالُوا لَا فَقَالَ : وَاَللَّهُ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ إجَابَةِ رَجُلٍ بِدَانِقٍ .
وَرَأَى سَالِمٌ مَوْلَى بْنِ عُمَرَ سَائِلًا يَسْأَلُ النَّاسَ فِي عَرَفَةَ فَقَالَ يَا عَاجِزًا فِي هَذَا الْيَوْمِ يَسْأَلُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ : إذَا وَافَقَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ أَهْلِ الْمَوْقِفِ أَيْ بِلَا وَاسِطَةٍ وَغَيْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِوَاسِطَةٍ : أَيْ يَهَبَ مُسِيئُهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي دُعَائِهِ لِخَبَرِ تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ : عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالْمَوْقِفَيْنِ ، وَالْجَمْرَتَيْنِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِمَا الرَّأْسَ ، وَلَا يُفْرِطُ فِي الْجَهْلِ بِالدُّعَاءِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَالْأَفْضَلُ لِلْوَاقِفِ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ بَلْ يَبْنِي لِلشَّمْسِ ، إلَّا لِعُذْرٍ .
.

( فَرْعٌ ) التَّعْرِيفُ بِغَيْرِ عَرَفَةَ ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِلسَّلَفِ فِيهِ خِلَافٌ ، فَفِي الْبُخَارِيِّ " أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخَذَ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالضَّرَاعَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ عَرَفَةَ ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ : أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْحَسَنُ وَجَمَاعَاتٌ ، وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَمَنْ جَعَلَهُ بِدْعَةً لَمْ يُلْحِقْ بِفَاحِشِ الْبِدَعِ ، بَلْ يُخَفِّفُ أَمْرَهُ : أَيْ إذَا خَلَا عَنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ أَفْحَشِهَا .

وَيُكْثِرُوا التَّهْلِيلَ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَصَدُوا مُزْدَلِفَةَ وَأَخَّرُوا الْمَغْرِبَ لِيُصَلُّوهَا مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ جَمْعًا ، وَوَاجِبُ الْوُقُوفِ حُضُورُهُ بِجُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ ، وَإِنْ كَانَ مَارًّا فِي طَلَبِ آبِقٍ وَنَحْوِهِ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْقِيَادَةِ لَا مُغْمًى عَلَيْهِ ، وَلَا بَأْسَ بِالنَّوْمِ ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ الزَّوَالِ يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَالصَّحِيحُ بَقَاؤُهُ إلَى الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلَوْ وَقَفَ نَهَارًا ثُمَّ فَارَقَ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَعُدْ أَرَاقَ دَمًا اسْتِحْبَابًا ، وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ ، وَإِنْ عَادَ فَكَانَ بِهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ فَلَا دَمَ ، وَكَذَا إنْ عَادَ لَيْلًا فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ وَقَفُوا الْيَوْمَ الْعَاشِرَ غَلَطًا أَجْزَأَهُمْ ، إلَّا أَنْ يُقِلُّوا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ فَيَقْضُونَ فِي الْأَصَحِّ .

( فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ) يَوْمَ عَرَفَةَ ( قَصَدُوا مُزْدَلِفَةَ ) مَارِّينَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَهُوَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَعَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، وَمَنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ ، وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ الْحَرَمِ ، وَحَدُّهَا مَا بَيْنَ مَأْزَمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الِازْدِلَافِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَنْفِرُونَ مِنْهَا إلَى مِنًى ، وَالِازْدِلَافُ التَّقَرُّبُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } أَيْ قُرِّبَتْ ، وَقِيلَ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ بِهَا ، وَالِاجْتِمَاعُ الِازْدِلَافُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ } أَيْ جَمَعْنَاهُمْ ، وَقِيلَ لِمَجِيءِ النَّاسِ إلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنْ اللَّيْلِ : أَيْ سَاعَاتٍ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا جَمْعًا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الصَّلَوَاتِ ، وَقِيلَ لِاجْتِمَاعِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِهَا ( وَأَخَّرُوا الْمَغْرِبَ لِيُصَلُّوهَا مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ جَمْعًا ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
هَذَا إنْ أَمِنُوا فَوَاتَ وَقْتِ اخْتِيَارِ الْعِشَاءِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا أَلَا جَمَعُوا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَعَلَّ إطْلَاقَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ( وَوَاجِبُ الْوُقُوفِ ) بِعَرَفَةَ ( حُضُورُهُ ) أَيْ الْمُحْرِمُ أَدْنَى لَحْظَةٍ بَعْدَ زَوَالِ يَوْمِ عَرَفَةَ ( بِجُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَوَقَفْت هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَحَدُّ عَرَفَةَ مَا جَاوَزَ وَادِي عَرَفَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ ، وَلَيْسَ مِنْهَا وَادِي عُرَنَةَ وَلَا نَمِرَةَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ ، فَخَبَرُ { الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ

كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
وَلَيْلَةُ جَمْعٍ هِيَ لَيْلَةُ مُزْدَلِفَةَ كَمَا مَرَّ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْمُكْثُ بِهَا كَمَا قَالَ ( وَإِنْ كَانَ مَارًّا فِي طَلَبِ آبِقٍ وَنَحْوِهِ ) كَدَابَّةٍ شَارِدَةٍ ، وَلَا أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا الْبُقْعَةَ أَوْ الْيَوْمَ ، وَلَكِنْ ( يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ) مُحْرِمًا ( أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ ) إذَا أَحْرَمَ بِنَفْسِهِ ( لَا مُغْمًى عَلَيْهِ ) جَمِيعَ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يُجْزِئُ وُقُوفُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْعِبَادَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ ، فَإِنْ أَفَاقَ لَحْظَةً كَفَى كَمَا فِي الصَّوْمِ ، وَالسَّكْرَانُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ وَالْمَجْنُونُ أَوْلَى مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ لَهُمْ أَنْ لَا يَقَعَ فَرْضًا وَلَكِنْ يَصِحُّ حَجُّهُمْ نَفْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي الْمَجْنُونِ وَفِي حَجِّ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ لِصِحَّةِ حَمْلِهِ عَلَى فَوَاتِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا مَنْ أَحْرَمَ وَلِيُّهُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا ذُكِرَ ، وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ لَا يُكْتَفَى بِوُقُوفِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا زِدْته ( وَلَا بَأْسَ بِالنَّوْمِ ) وَلَوْ مُسْتَغْرِقًا جَمِيعَ الْوَقْتِ كَمَا فِي الصَّوْمِ ( وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ ) حِينِ ( الزَّوَالِ ) لِلشَّمْسِ ( يَوْمَ عَرَفَةَ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ كَذَلِكَ وَقَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَتَابَعَهُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
وَفِي وَجْهٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بَعْدَ مُضِيِّ إمْكَانِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعًا وَإِمْكَانِ خُطْبَتَيْنِ ، كَمَا قَالُوا بِمِثْلِهِ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفْ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَرَدَّ هَذَا النَّفَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ الزَّوَالِ لَا غَيْرُ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوُقُوفِ مُرَاعَاةً لِفَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْهَا بِالْوُقُوفِ ( وَالصَّحِيحُ بَقَاؤُهُ إلَى الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ ) لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ { الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ : أَيْ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ بِمُزْدَلِفَةَ { مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ } وَالتَّفَثُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ إزَالَةِ شَعْثٍ وَوَسَخٍ وَحَلْقِ شَعْرٍ وَقَلْمِ ظُفْرٍ ( وَلَوْ وَقَفَ نَهَارًا ) بَعْدَ الزَّوَالِ ( ثُمَّ فَارَقَ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَعُدْ ) إلَيْهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ، وَ ( أَرَاقَ دَمًا اسْتِحْبَابًا ) خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ( وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ ) لِتَرْكِهِ نُسُكًا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالْأَصْلُ فِي تَرْكِ النُّسُكِ إيجَابُ الدَّمِ إلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ ( وَإِنْ عَادَ ) لِعَرَفَةَ ( فَكَانَ بِهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ فَلَا دَمَ ) عَلَيْهِ جَزْمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( وَكَذَا إنْ عَادَ ) إلَيْهَا ( لَيْلًا ) فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا مَرَّ ، وَصَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ الْقَطْعَ بِهِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ الدَّمُ ، لِأَنَّ النُّسُكَ الْوَارِدَ الْجَمْعُ بَيْنَ آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِ اللَّيْلِ وَقَدْ فَوَّتَهُ ( وَلَوْ وَقَفُوا الْيَوْمَ الْعَاشِرَ غَلَطًا ) نَظُنُّ أَنَّهُ التَّاسِعُ كَأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَأَكْمَلُوا بِمُدَّةِ ذِي الْقِعْدَةِ ثَلَاثِينَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْهِلَالَ أَهَلَّ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَلَوْ

كَانَ وُقُوفُهُمْ بَعْدَ تَبَيُّنِ أَنَّهُ الْعَاشِرُ ، كَمَا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ الْعَاشِرُ لَيْلًا وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الْوُقُوفِ ( أَجْزَأَهُمْ ) الْوُقُوفُ لِلْإِجْمَاعِ وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد مُرْسَلًا { يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُ النَّاسُ فِيهِ } وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا الْقَضَاءَ لَمْ يَأْمَنُوا وُقُوعَ مِثْلِهِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً عَامَّةً ( إلَّا أَنْ يُقِلُّوا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ فَيَقْضُونَ فِي الْأَصَحِّ ) لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ الْعَامَّةِ وَالثَّانِي لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْغَلَطِ الْمُرَادِ لَهُمْ مَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحِسَابِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ .
قَالَ الدَّارِمِيُّ : وَإِذَا وَقَفُوا الْعَاشِرَ غَلَطًا حُسِبَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى حِسَابِ وُقُوفِهِمْ فَلَا يُقِيمُونَ بِمِنًى إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَاصَّةً .
تَنْبِيهٌ : لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَالُ بَعْدَ الْعَاشِرِ أَوْ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الْوُقُوفِ .
فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَوَقَفُوا عَالِمِينَ .
فَقَالَ الْبَغَوِيّ : الْمَذْهَبُ لَا يُحْسَبُ ، وَأَنْكَرَهُ الرَّافِعِيُّ .
وَقَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَصَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ غَلَطًا مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ لِيَشْمَلَ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ .
وَأَمَّا إذَا جُعِلَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِمَعْنَى غَالِطِينَ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ، لِأَنَّ وُقُوفَهُمْ فِيهَا لَمْ يُقَارِنْهُ غَلَطٌ ، .

وَإِنْ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ وَعَلِمُوا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَجَبَ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ ، وَإِنْ عَلِمُوا بَعْدَهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْأَصَحِّ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا لَيْلَةَ الْحَادِيَ عَشَرَ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِنْ بَحَثَ السُّبْكِيُّ الْإِجْزَاءَ كَالْعَاشِرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ ، وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَوَقَفَ قَبْلَهُمْ لَا مَعَهُمْ أَجْزَأَهُ ، إذْ الْعِبْرَةُ فِي دُخُولِ وَقْتِ عَرَفَةَ وَخُرُوجِهِ بِاعْتِقَادِهِ ، وَهَذَا كَمَنْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ( وَإِنْ وَقَفُوا فِي ) الْيَوْمِ ( الثَّامِنِ ) غَلَطًا بِأَنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ ثُمَّ بَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ ( وَعَلِمُوا قَبْلَ ) فَوْتِ ( الْوُقُوفِ وَجَبَ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ ) تَدَارُكًا لَهُ ( وَإِنْ عَلِمُوا بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ فَوْتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ ( وَجَبَ الْقَضَاءُ ) لِهَذِهِ الْحِجَّةِ فِي عَامٍ آخَرَ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِنُدْرَةِ الْغَلَطِ فِي التَّقَدُّمِ ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِسَابِ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْغَلَطَ بِالتَّقْدِيمِ يُمْكِنُ احْتِرَازٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ لِلْغَلَطِ فِي الْحِسَابِ وَلِلْخَلَلِ فِي الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَقْدِيمِ الْهِلَالِ ، وَالْغَلَطُ بِالتَّأْخِيرِ قَدْ يَكُونُ بِالْغَيْمِ الْمَانِعِ مِنْ الرُّؤْيَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا غَلِطُوا بِالتَّأْخِيرِ .
قَالَ فِي الْبَيَانِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَفَوْقَ الْأَوَّلِ بِمَا مَرَّ ، وَلَوْ غَلِطُوا بِيَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ أَوْ فِي الْمَكَانِ لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا لِنُدْرَةِ ذَلِكَ .
.

فَصْلٌ : وَيَبِيتُونَ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَمَنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَهُ وَعَادَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي أَرَاقَ دَمًا ، وَفِي وُجُوبِهِ الْقَوْلَانِ ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى مِنًى ، وَيَبْقَى غَيْرُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ مُغَلِّسِينَ ثُمَّ يَدْفَعُونَ إلَى مِنًى وَيَأْخُذُونَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ حَصَى الرَّمْلِ

( فَصْلٌ ) فِي الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالدَّفْعِ مِنْهَا وَفِيمَا يُذْكَرُ مَعَهَا ( وَيَبِيتُونَ بِمُزْدَلِفَةَ ) بَعْدَ دَفْعِهِمْ مِنْ عَرَفَةَ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَلِلسُّبْكِيِّ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ رُكْنٌ ، وَيَكْفِي فِي الْمَبِيتِ بِهَا الْحُصُولُ بِهَا لَحْظَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، فَيَكْفِي الْمُرُورُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَمْكُثْ ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ مُعْظَمَ اللَّيْلِ فِي مَبِيتِ مِنًى لِوُرُودِ التَّعْبِيرِ بِالْمَبِيتِ ثُمَّ بِخِلَافِهِ هُنَا ، وَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى الْوُجُوبِ اشْتِرَاطَ الْمُعْظَمِ هُنَا ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَهَا حَتَّى يَمْضِيَ نَحْوُ رُبْعِ اللَّيْلِ مَعَ جَوَازِ الدَّفْعِ مِنْهَا بَعْدَ النِّصْفِ ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ ( وَمَنْ دَفَعَ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ( بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ) وَلَمْ يَعُدْ ( أَوْ قَبْلَهُ ) وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ( وَعَادَ ) إلَيْهَا ( قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا دَمَ عَلَيْهِ .
أَمَّا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ { أَفَاضَتَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ بِإِذْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا وَلَا مَنْ كَانَ مَعَهُمَا بِدَمٍ } .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَكَمَا لَوْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا قَبْلَ الْفَجْرِ ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي ) سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ( أَرَاقَ دَمًا وَفِي وُجُوبِهِ ) أَيْ الدَّمِ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ ( الْقَوْلَانِ ) السَّابِقَانِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْبِنَاءِ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ

فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ .
لَكِنْ رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا عَدَا الْمِنْهَاجَ مِنْ كُتُبِهِ الْوُجُوبَ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّهُ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَالصَّحِيحُ جِهَةُ الْمَذْهَبِ : أَيْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ ، وَمَحِلُّ الْقَوْلَيْنِ حَيْثُ لَا عُذْرَ ، أَمَّا الْمَعْذُورُ بِمَا سَيَأْتِي فِي مَبِيتِ مِنًى فَلَا دَمَ عَلَيْهِ جَزْمًا وَمِنْ الْمَعْذُورِينَ .
مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَاشْتَغَلَ بِالْوُقُوفِ عَنْهُ ، وَمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مَكَّةَ وَطَافَ لِلرُّكْنِ وَفَاتَهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ : أَيْ بِلَا مَشَقَّةٍ فَإِنْ أَمْكَنَهُ وَجَبَ جَمْعًا بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَمِنْهُ مَا لَوْ خَافَتْ الْمَرْأَةُ طُرُوَّ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَبَادَرَتْ إلَى مَكَّةَ بِالطَّوَافِ ( وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى مِنًى ) لِيَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ زَحْمَةِ النَّاسِ ، وَلِمَا مَرَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ ( وَيَبْقَى غَيْرُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ ) بِمُزْدَلِفَةَ ( مُغَلِّسِينَ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَلَيْسَ التَّغْلِيسُ بِالصُّبْحِ خَاصًّا بِمُزْدَلِفَةَ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كُلَّ يَوْمٍ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لِيَتَّسِعَ الْوَقْتُ لِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَعْمَالِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَنْبَغِي الْحِرْصُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ هُنَاكَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : فُرِضَ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ مَعَ الْإِمَامِ الَّذِي يُقِيمُ الْحَجَّ بِمُزْدَلِفَةَ قَالَ : وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا حَجَّ

لَهُ ( ثُمَّ يَدْفَعُونَ ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ ( إلَى مِنًى ) وَشِعَارُهُمْ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ التَّلْبِيَةُ وَالتَّكْبِيرُ تَأَسِّيًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( وَيَأْخُذُونَ ) مَعْطُوفٌ عَلَى يَبِيتُونَ لِيَعُمَّ الضَّعَفَةَ وَغَيْرَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَطَفَ عَلَى يَدْفَعُونَ فَإِنَّهُ يُقْصَرُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى غَيْرِ الضَّعَفَةِ وَالنِّسَاءِ ( مِنْ مُزْدَلِفَةَ ) نَدْبًا ( حَصَى الرَّمْيِ ) لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ : الْتَقِطْ لِي حَصًى قَالَ : فَلَقَطْت لَهُ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ } وَلِأَنَّ بِهَا جَبَلًا فِي أَحْجَارِهِ رَخَاوَةٌ ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنَّهُ إذَا أَتَى إلَى مِنًى لَا يُعَرِّجُ عَلَى غَيْرِ الرَّمْيِ ، فَسُنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ مُزْدَلِفَةَ حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَخْذُ جَمِيعِ مَا يُرْمَى بِهِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ سَبْعُونَ حَصَاةٍ ، وَهُوَ وَجْهٌ جَزَمَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ وَأَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّصْحِيحِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْمَنَاسِكِ الْكُبْرَى ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ اسْتِحْبَابُ الْأَخْذِ لِيَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ سَبْعًا ، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَزِيدَ فَرُبَّمَا سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيَكُونُ الْأَخْذُ لَيْلًا كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لِفَرَاغِهِمْ فِيهِ ، وَإِنْ قَالَ الْبَغَوِيّ : نَهَارًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَرَجَّحَ الْإِسْنَوِيُّ .

، وَلَوْ أَخَذَ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ مُزْدَلِفَةَ جَازَ كَوَادِي مُحَسِّرٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَسَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ مَوْضِعِ أَخْذِ حَصَى الْجِمَارِ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ : تُؤْخَذُ مِنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : لَا تُؤْخَذُ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ إلَّا مِنْ مِنًى نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ بِالْأَخْذِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَيُكْرَهُ أَخْذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ حِلٍّ لِعُدُولِهِ عَنْ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ وَمِنْ مَسْجِدٍ كَمَا ذَكَرَاهُ لِأَنَّهَا فَرْشُهُ ، وَمِنْ حَشٍّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَشْهَرُ مِنْ ضَمِّهَا ، وَهُوَ الْمِرْحَاضُ لِنَجَاسَتِهِ ، وَكَذَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ نَجِسٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَمِمَّا رَمَى بِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمَقْبُولَ يُرْفَعُ وَالْمَرْدُودَ يُتْرَكُ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَسُدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فَإِنْ رَمَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ ، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جَازَ الرَّمْيُ بِحَجَرٍ رَمَى بِهِ دُونَ الْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَوَضَّأَ بِهِ ؟ .
قُلْنَا : فَرَّقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ إتْلَافٌ لَهُ كَالْعِتْقِ فَلَا يُتَوَضَّأُ بِهِ مَرَّتَيْنِ كَمَا لَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ عَنْ الْكَفَّارَةِ مَرَّتَيْنِ ، وَالْحَجَرُ كَالثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَوَاتٍ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ أَخْذِ حَصَى الْمَسْجِدِ قَدْ خَالَفَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْغُسْلِ فَجَزَمَ بِتَحْرِيمِ إخْرَاجِ الْحَصَى مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : " وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسْجِدِ كَحَصَاةٍ وَحَجَرٍ وَتُرَابٍ ، وَجَزَمَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِ الْمَسْجِدِ ، قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَإِذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَهُ هُنَا وَهُنَاكَ قَضَيْت عَجَبًا مِنْ مَنْعِهِ التَّيَمُّمَ وَتَجْوِيزِ أَخْذِ الْحَصَى ، وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ ، وَجَمَعَ الْأَذْرَعِيُّ بَيْنَهُمَا

بِأَنَّ كَلَامَهُ هُنَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَصَى وَالتُّرَابُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسْجِدِ ، وَكَلَامُهُ هُنَا مُنَزَّلٌ عَلَى مَا جُلِبَ إلَيْهِ مِنْ الْحَصَى الْمُبَاحِ وَفُرِشَ فِيهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ .

فَإِذَا بَلَغُوا الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَقَفُوا وَدَعَوْا إلَى الْإِسْفَارِ ، ثُمَّ يَسِيرُونَ فَيَصِلُونَ مِنًى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَيَرْمِي كُلُّ شَخْصٍ حِينَئِذٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ إلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ .

( فَإِذَا ) دَفَعُوا إلَى مِنًى ، وَ ( بَلَغُوا الْمَشْعَرَ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَشْهُورِ ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا : جَبَلٌ صَغِيرٌ آخِرَ مُزْدَلِفَةَ اسْمُهُ قُزَحٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالزَّايِ وَسُمِّيَ مَشْعَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّعَارِ وَهِيَ مَعَالِمُ الدِّينِ ( الْحَرَامَ ) أَيْ الْمُحَرَّمَ ( وَقَفُوا ) عَلَيْهِ نَدْبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ وَوُقُوفُهُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ وَقُوفُهُمْ بِغَيْرِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَمِنْ مُرُورِهِمْ بِهِ بِلَا وُقُوفٍ وَذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى ( وَدَعَوْا إلَى الْإِسْفَارِ ) مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلِأَنَّ الْقِبْلَةَ .
أَشْرَفُ الْجِهَاتِ ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إصْعَادُ الْجَبَلِ فَلْيَقِفْ بِجَنْبِهِ ، وَلَوْ فَاتَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ لَمْ تُجْبَرْ بِدَمٍ ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ دُعَائِهِ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ : اللَّهُمَّ كَمَا أَوْقَفْتَنَا فِيهِ وَأَرَيْتَنَا إيَّاهُ فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِك كَمَا هَدَيْتَنَا ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِك وَقَوْلُك الْحَقُّ { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمِنْ جُمْلَةِ ذِكْرِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ( ثُمَّ يَسِيرُونَ ) قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ ، وَشِعَارُهُمْ التَّلْبِيَةُ وَالذِّكْرُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السَّيْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَإِذَا وَجَدُوا فُرْجَةً أَسْرَعُوا فَإِذَا بَلَغُوا وَادِي مُحَسِّرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَرَاءٍ : مَوْضِعٌ فَاصِلٌ بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَسُمِّيَ بِهِ ، لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حُسِرَ فِيهِ - أَيْ أَعْنِي أَسْرَعَ فِي

مَشْيِهِ إنْ كَانَ مَاشِيًا ، وَحَرَّكَ دَابَّتَهُ مَنْ كَانَ رَاكِبًا بِقَدْرِ رَمْيَةِ حَجَرٍ حَتَّى يَقْطَعُوا عُرْضَ الْوَادِي لِلِاتِّبَاعِ فِي الرَّاكِبِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقِيَاسًا عَلَيْهِ فِي الْمَاشِي ، وَلِنُزُولِ الْعَذَابِ فِيهِ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ الْقَاصِدِينَ هَدْمَ الْبَيْتِ ، وَلِأَنَّ النَّصَارَى كَانَتْ تَقِفُ فِيهِ فَأُمِرْنَا بِمُخَالَفَتِهِمْ ، وَيُسَمَّى وَادِيَ النَّارِ أَيْضًا يُقَالُ إنَّ رَجُلًا صَادَ فِيهِ صَيْدًا ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ : وَادِي مُحَسِّرٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ا هـ .
وَيَقُولُ الْمَارُّ بِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَاقَتِي تَعْدُو إلَيْك مُسْرِعَةً فِي طَاعَتِك قَلِقًا وَضِينُهَا ، وَالْوَضِينُ حَبْلٌ كَالْحِزَامِ مِنْ كَثْرَةِ السَّيْرِ وَالْإِقْبَالِ التَّامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَالِغِ فِي طَاعَتِك ، وَالْمُرَادُ صَاحِبُ النَّاقَةِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ : يُسَنُّ لِلْمَارِّ بِوَادِي مُحَسِّرٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَعْدَ قَطْعِهِمْ وَادِي مُحَسِّرٍ يَسِيرُونَ بِسَكِينَةٍ ( فَيَصِلُونَ مِنًى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وَارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ ( فَيَرْمِي كُلُّ شَخْصٍ ) مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ وُصُولِهِ ( سَبْعَ حَصَيَاتٍ إلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهُوَ تَحِيَّةُ مِنًى فَلَا يَبْتَدِئُ فِيهَا بِغَيْرِهِ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى ، وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى بَلْ حَدُّ مِنًى مِنْ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ جِهَةَ مَكَّةَ وَالسُّنَّةُ لِرَامِي هَذِهِ الْجَمْرَةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا ، وَيَجْعَلَ مَكَّةَ يَسَارَهُ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ ، وَقَالَ : إنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ وَإِنْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْجَمْرَةَ وَيَسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةَ .
هَذَا فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ .
أَمَّا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْجَمَرَاتِ وَيَحْسُنُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ : إذَا وَصَلَ إلَى مِنًى أَنْ يَقُولَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ : اللَّهُمَّ هَذِهِ مِنًى قَدْ أَتَيْتُهَا وَأَنَا عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك أَسْأَلُك أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِمَا مَنَنْت بِهِ عَلَى أَوْلِيَائِك : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْحِرْمَانِ وَالْمُصِيبَةِ فِي دِينِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَمَّا رَمَيَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَالَا : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا ( وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ مُلَبِّيًا حَتَّى رَمَاهَا .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ .
هَذَا إذَا جَعَلَهُ أَوَّلَ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ كَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ .
أَمَّا إذَا قَدَّمَ الطَّوَافَ أَوْ الْحَلْقَ ، عَلَيْهِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مِنْ وَقْتِهِ لِأَخْذِهِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ ، وَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْإِحْرَامِ ، وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ تَحَلُّلِهَا ( وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ) بَدَلَ التَّلْبِيَةِ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَيَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْمِيَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى رَافِعًا لَهَا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبِطَيْهِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى فَلَا تَرْفَعُ وَلَا يَقِفُ الرَّامِي لِلدُّعَاءِ عِنْدَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ ، وَشُرُوطُ الرَّمْيِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ أَخَّرَهَا الْمُصَنِّفُ إلَى الْكَلَامِ عَلَى رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .

ثُمَّ يَذْبَحُ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ ، وَتُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ ، وَالْحَلْقُ نُسُكٌ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ حَلْقًا أَوْ تَقْصِيرًا أَوْ إحْرَاقًا أَوْ قَصًّا ، وَمَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ يُسْتَحَبُّ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ طَوَافَ الرُّكْنِ ، وَسَعَى إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى ، وَهَذَا الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ يُسَنُّ تَرْتِيبُهَا كَمَا ذَكَرْنَا ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، وَيَبْقَى وَقْتُ الرَّمْيِ إلَى آخِرِ يَوْمٍ وَلَا يَخْتَصُّ الذَّبْحُ بِزَمَنٍ قُلْت : الصَّحِيحُ اخْتِصَاصُهُ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ بَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى الصَّوَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا آخِرَ لِوَقْتِهَا ، وَإِذَا قُلْنَا : الْحَلْقُ نُسُكٌ فَبِفِعْلِ اثْنَيْنِ : مِنْ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ ، وَحَلَّ بِهِ اللُّبْسُ وَالْحَلْقُ وَالْقَلْمُ ، وَكَذَا الصَّيْدُ وَعَقْدُ النِّكَاحِ فِي الْأَظْهَرِ .
قُلْتَ : الْأَظْهَرُ لَا يَحِلُّ عَقْدُ النِّكَاحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَإِذَا فَعَلَ الثَّالِثَ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي ، وَحَلَّ بِهِ ، بَاقِي الْمُحَرَّمَاتِ

( ثُمَّ ) بَعْدَ الرَّمْيِ يَنْصَرِفُونَ ، فَيَنْزِلُونَ مَوْضِعًا بِمِنًى وَالْأَفْضَلُ مِنْهَا مَنْزِلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَارَبَهُ .
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ : وَمَنْزِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمِنًى عَنْ يَسَارِ مُصَلَّى الْإِمَامِ ثُمَّ ( يَذْبَحُ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ ) بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ فِي الْأُولَى وَتَشْدِيدِهَا فِي الثَّانِيَةِ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى لِمَكَّةَ وَحَرَمِهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَعَمٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ نَذْرًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ اسْمٌ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ( ثُمَّ يَحْلِقُ ) الذَّكَرُ ( أَوْ يُقَصِّرُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } وَلِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَوَّلِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالثَّانِي فِي مَعْنَاهُ ( وَ ) لَكِنَّ ( الْحَلْقَ ) لَهُ ( أَفْضَلُ ) إجْمَاعًا ، وَلِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنْ الْعَرَبَ تَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ وَالْأَفْضَلِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ } وَيُنْدَبُ أَنْ يَبْدَأَ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فَيَسْتَوْعِبَهُ بِالْحَلْقِ ثُمَّ يَحْلِقُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْمَحْلُوقُ الْقِبْلَةَ ، وَأَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ فَرَاغِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ وَأَغْفَلَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ غَرِيبٌ وَأَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ خُصُوصًا الشَّعْرَ الْحَسَنَ لِئَلَّا يُؤْخَذَ لِلْوَصْلِ ، وَأَنْ يَسْتَوْعِبَ الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ .
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ : وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ .
قَالَ فِي الْخِصَالِ : وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَمَالِ الرَّمْيِ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ مِثْلُهُ فِيمَا ذُكِرَ غَيْرَ التَّكْبِيرِ .
نَعَمْ التَّقْصِيرُ

أَفْضَلُ إنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَوْ حَلَقَ فِيهِ جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَسْوَدَّ رَأْسُهُ مِنْ الشَّعْرِ نَقَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ عَنْ النَّصِّ ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ فِيمَا لَوْ قَدَّمَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِحَلْقِ بَعْضِ رَأْسِهِ فِي الْحَجِّ وَبَعْضِهِ فِي الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْقَزَعُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خُلِقَ لَهُ رَأْسَانِ وَحَلَقَ أَحَدَهُمَا فِي الْعُمْرَةِ وَالْآخَرَ فِي الْحَجِّ لَمْ يُكْرَهْ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَبْلُغَ بِالْحَلْقِ إلَى الْعَظْمَاتِ مِنْ الْأَصْدَاغِ ، وَأَنْ لَا يُشَارِطَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ظُفْرِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ ، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ فَرَاغِهِ : اللَّهُمَّ آتِنِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً ، وَامْحُ عَنِّي سَيِّئَةً ، وَارْفَعْ لِي بِهَا دَرَجَةً ، وَاغْفِرْ لِي وَلِلْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَحَلُّ أَفْضَلِيَّةِ الْحَلْقِ إذَا لَمْ يَنْذِرْهُ ، فَإِنْ نَذَرَهُ وَجَبَ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى ، وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْحَلْقِ إنْ نَذَرَ الِاسْتِيعَابَ أَوْ عَبَّرَ بِالْحَلْقِ مُضَافًا وَإِنْ أَطْلَقَ كَفَاهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ وَلَا يُجْزِئُهُ قَصٌّ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يُسَمَّى حَلْقًا كَنَتْفٍ إذْ الْحَلْقُ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ بِالْمُوسَى وَلَا يَبْقَى الْحَلْقُ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ النُّسُكَ إنَّمَا هُوَ إزَالَةُ شَعْرٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ مَا لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا فَرَكِبَ وَنَذْرُ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى التَّقْصِيرَ كَنَذْرِ الرَّجُلِ الْحَلْقَ فِيمَا ذُكِرَ ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَلْبَسَ ثِيَابَهُ ( وَتُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ ) وَلَا تُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ إجْمَاعًا بَلْ يُكْرَهُ لَهَا الْحَلْقُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَقِيلَ : يَحْرُمُ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَتَشَبُّهٌ بِالرِّجَالِ ، وَمَالَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْمُزَوَّجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ حَيْثُ لَا يُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ .
نَعَمْ يَحْرُمُ حَلْقُهَا لَهَا عِنْدَ

الْمُصِيبَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ ، وَيُنْدَبُ لَهَا أَنْ تُقَصِّرَ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ رَأْسِهَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَالْمُتَّجَهُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَنْتَهِ إلَى سِنٍّ يُتْرَكُ فِيهِ شَعْرُهَا كَالرَّجُلِ فِي اسْتِحْبَابِ الْحَلْقِ .
قَالَ فِي التَّوَسُّطِ : وَهَذَا غَلَطٌ صَرِيحٌ لِعِلَّةِ التَّشْبِيهِ ، وَلَيْسَ الْحَلْقُ بِمَشْرُوعٍ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ا هـ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ إذَا أَسْلَمَتْ لَا تَحْلِقُ رَأْسَهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ ثُمَّ اغْتَسِلْ } فَمَحْمُولٌ عَلَى الذَّكَرِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُسْتَثْنَى حَلْقُ رَأْسِ الصَّغِيرَةِ يَوْمَ سَابِعِ وِلَادَتِهَا لِلتَّصَدُّقِ بِزِنَتِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ الْعَقِيقَةِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ كَرَاهَةِ الْحَلْقِ لِلْمَرْأَةِ صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : إذَا كَانَ بِرَأْسِهَا أَذًى لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ إلَّا بِالْحَلْقِ كَمُعَالَجَةِ حَبٍّ وَنَحْوِهِ الثَّانِيَةُ : إذَا حَلَقَتْ رَأْسَهَا لِتُخْفِيَ كَوْنَهَا امْرَأَةً خَوْفًا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا يُبَاحُ لَهَا لُبْسُ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْأُنْثَى ( وَالْحَلْقُ ) أَيْ إزَالَةُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ التَّقْصِيرُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فِي وَقْتِهِ ( نُسُكٌ عَلَى الْمَشْهُورِ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْأَظْهَرُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ لِلذَّكَرِ ، وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُبَاحَاتِ ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِكُلِّ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَعَلَى هَذَا هُوَ رُكْنٌ كَمَا سَيَأْتِي .
وَقِيلَ وَاجِبٌ .
وَالثَّانِي : هُوَ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لَا ثَوَابَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ

فِي الْإِحْرَامِ فَلَمْ يَكُنْ نُسُكًا كَلُبْسِ الْمَخِيطِ ( وَأَقَلُّهُ ) أَيْ إزَالَةِ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ التَّقْصِيرِ ( ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } أَيْ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يُحْلَقُ ، وَالشَّعْرُ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ كَذَا اسْتَدَلُّوا بِهِ ، وَمِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ إذَا كَانَ مُضَافًا كَانَ لِلْعُمُومِ ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا .
نَعَمْ الطَّرِيقُ إلَى تَوْجِيهِ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقَدَّرَ لَفْظُ الشَّعْرِ مُنَكَّرًا مَقْطُوعًا عَنْ الْإِضَافَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ شَعْرًا مِنْ رُءُوسِكُمْ ، أَوْ تَقُولُ قَامَ الْإِجْمَاعُ كَمَا نَقَلَهُ الْمَجْمُوعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ فَاكْتَفَيْنَا فِي الْوُجُوبِ بِمُسَمَّى الْجَمْعِ ا هـ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا شَعْرَةٌ وَجَبَ إزَالَتُهَا كَمَا فِي الْبَيَانِ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الشَّعَرَاتِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا دُفْعَةً أَوْ فِي دُفُعَاتٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَنَاسِكِ لَكِنَّ حَاصِلَ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا تَصْحِيحُ مَنْعِ التَّفْرِيقِ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ عَدَمِ تَكْمِيلِ الدَّمِ بِإِزَالَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَيُجَابُ عَنْ الْبِنَاءِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاتِّحَادُ فِي الصَّحِيحِ .
نَعَمْ يَزُولُ بِالتَّفْرِيقِ الْفَضِيلَةُ ، وَلَا يَأْتِي التَّصْحِيحُ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ الْمَأْخُوذَةِ بِدُفُعَاتٍ ، وَإِنْ سَوَّى أَصْلُ الرَّوْضَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدُ : وَمَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ شَعْرِ الْبَدَنِ وَإِنْ اسْتَوَى الْجَمِيعُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ ، وَيَجُوزُ مِمَّا يُحَاذِي الرَّأْسَ قَطْعًا وَكَذَا مِنْ الْمُسْتَرْسِلِ النَّازِلِ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ ، وَيَكْفِي فِي

الْإِزَالَةِ أَخْذُ الشَّعْرِ ( حَلْقًا أَوْ تَقْصِيرًا أَوْ نَتْفًا أَوْ إحْرَاقًا أَوْ قَصًّا ) أَوْ أَخْذُهُ بِنُورَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِزَالَةُ ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَرِيقٌ إلَيْهَا .
نَعَمْ مَنْ نَذَرَ الْحَلْقَ ، وَقُلْنَا بِوُجُوبِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ تَعَيَّنَ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِهِ ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَزَالَ بِغَيْرِهِ أَثِمَ وَأَجْزَأَهُ ( وَمَنْ لَا شَعْرَ ) كَائِنٌ ( بِرَأْسِهِ ) أَوْ بِبَعْضِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ بِأَنْ حَلَقَ كَذَلِكَ أَوْ كَانَ قَدْ حَلَقَ ، وَاعْتَمَرَ مِنْ سَاعَتِهِ كَمَا مَثَّلَهُ الْعِمْرَانِيُّ ( يُسْتَحَبُّ ) لَهُ ( إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَيْهِ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ تَشْبِيهًا بِالْحَالِقِينَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْإِمْرَارُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِجُزْءِ آدَمِيٍّ فَسَقَطَ بِفَوَاتِهِ كَغَسْلِ الْيَدِ فِي الْوُضُوءِ .
وَأَمَّا خَبَرُ { الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ } فَضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى النَّدْبِ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسُ وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ فَقْدِ شَعْرِهِ الْوُجُوبُ هُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْضَ ثَمَّ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ ، وَهُنَا بِشَعْرِهِ .
وَبِأَنَّ مَنْ مَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ يُسَمَّى مَاسِحًا .
وَمَنْ مَرَّ بِالْمُوسَى عَلَيْهِ لَا يُسَمَّى حَالِقًا وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إنَّ هَذَا لِلرَّجُلِ دُونَ الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى .
وَيُسَنُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ شَيْئًا لِيَكُونَ قَدْ وَضَعَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى .
وَالْمُوسَى بِأَلِفٍ فِي آخِرِهِ وَتُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ : آلَةٌ مِنْ الْحَدِيدِ ( فَإِذَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ طَوَافَ الرُّكْنِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالسَّنَةُ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ ثُمَّ يَنْحَرَ ثُمَّ يَحْلِقَ ثُمَّ يَطُوفَ ضَحْوَةً .
وَهَذَا الطَّوَافُ لَهُ أَسْمَاءٌ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَهِيَ طَوَافُ

الْإِفَاضَةِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافُ الْفَرْضِ .
وَقَدْ يُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ بِفَتْحِ الدَّالِ ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ .
وَيُسَمَّى طَوَافَ الرُّكْنِ الْفَرْضِ لِتَعَيُّنِهِ وَالْإِفَاضَةِ لِإِتْيَانِهِمْ بِهِ عَقِبَ الْإِفَاضَةِ مِنْ مِنًى وَالزِّيَارَةِ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ مِنْ مِنًى زَائِرِينَ الْبَيْتَ وَيَعُودُونَ فِي الْحَالِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفُوا يَوْمَ النَّحْرِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَشْرَبَ بَعْدَهُ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ مِنْ زَمْزَمَ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ ( وَسَعَى ) بَعْدَهُ ( إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى ) بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ كَمَا مَرَّ ، وَهَذَا السَّعْيُ رُكْنٌ كَمَا سَيَأْتِي ( ثُمَّ يَعُودُ ) مِنْ مَكَّةَ ( إلَى مِنًى ) قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِحَيْثُ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِهَا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى وَصَلَّى ثَانِيًا إمَامًا لِأَصْحَابِهِ كَمَا صَلَّى بِهِمْ فِي بَطْنِ نَخْلٍ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً بِطَائِفَةٍ وَمَرَّةً بِأُخْرَى ، فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ صَلَاتَهُ بِمِنًى ، وَجَابِرٌ صَلَاتَهُ بِمَكَّةَ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى اللَّيْلِ } ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَخَّرَ طَوَافَ نِسَائِهِ وَذَهَبَ مَعَهُنَّ ( وَهَذَا ) الَّذِي يُفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ ، وَهِيَ ( الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ يُسَنُّ تَرْتِيبُهَا كَمَا ذَكَرْنَا ) وَلَا يَجِبُ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَقْت

قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، فَقَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، فَقَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَوْمَئِذٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } ( وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا ) إلَّا ذَبْحَ الْهَدْيِ ( بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ ) لِمَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أُمَّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَرَمَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَفَاضَتْ } وَقِيسَ بِالرَّمْيِ الْآخَرَانِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ ، وَوُجِّهَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الرَّمْيَ بِمَا قَبْلَ الْفَجْرِ وَهُوَ صَالِحٌ لِجَمِيعِ اللَّيْلِ ، وَلَا ضَابِطَ لَهُ ، فَجُعِلَ النِّصْفُ ضَابِطًا ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ لِلدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَلِأَذَانِ الصُّبْحِ ، فَكَانَ وَقْتًا لِلرَّمْيِ كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ .
وَيُسَنُّ تَأْخِيرُهَا إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلِاتِّبَاعِ .
أَمَّا إذَا فَعَلَهَا بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْوُقُوفِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا .
وَأَمَّا ذَبْحُ الْهَدْيِ الْمَسُوقِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَيَبْقَى وَقْتُ الرَّمْيِ إلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ ) لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ إنِّي رَمَيْت بَعْدَمَا أَمْسَيْت ، فَقَالَ : لَا حَرَجَ } وَالْمَسَاءُ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ : أَنَّهُ لَا يَكْفِي بَعْدَ الْغُرُوبِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ لِعَدَمِ وُرُودِهِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ يَقَعُ أَدَاءً ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ وَقْتَهُ لَا يَخْرُجُ بِالْغُرُوبِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ .

وَأُجِيبَ بِحَمْلِ مَا هُنَا عَلَى وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ، وَمَا هُنَاكَ عَلَى وَقْتِ الْجَوَازِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ وَقْتَ الْفَضِيلَةِ لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ يَنْتَهِي بِالزَّوَالِ ، فَيَكُونُ لِرَمْيِهِ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ : وَقْتُ فَضِيلَةِ إلَى الزَّوَالِ ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إلَى الْغُرُوبِ ، وَوَقْتُ جَوَازٍ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( وَلَا يَخْتَصُّ الذَّبْحُ ) لِلْهَدْيِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ ( بِزَمَنٍ ) لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ ، بِخِلَافِ الضَّحَايَا فَتَخْتَصُّ بِالْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( قُلْت : الصَّحِيحُ اخْتِصَاصُهُ ) بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ ، ( وَسَيَأْتِي ) لِلْمُحَرَّرِ ( فِي آخِرِ بَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى الصَّوَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ وَوَقْتُهُ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، هَذَا بَنَاهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ بِالْهَدْيِ هُنَا : الْمُسَاقُ تَقَرُّبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَاعْتَرَضَهُ هُنَا وَفِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ .
وَاعْتَرَضَ الْإِسْنَوِيُّ الْمُصَنِّفَ بِأَنَّ الْهَدْيَ يُطْلَقُ عَلَى دَمِ الْجُبْرَانَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، وَفِي قَوْلِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَذْبَحُ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، وَعَلَى مَا يُسَاقُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَصُّ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ بَابِ ، مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ ، فَلَمْ يَتَوَارَدْ الْكَلَامَانِ عَلَى مَحِلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُعَدَّ ذَلِكَ تَنَاقُضًا ، وَقَدْ أَوْضَحَ الرَّافِعِيُّ ، ذَلِكَ فِي بَابِ الْهَدْيِ مِنْ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ، فَذَكَرَ أَنَّ الْهَدْيَ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ ، وَأَنَّ الْمَمْنُوعَ فِعْلُهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ هُوَ مَا يَسُوقُهُ الْمُحْرِمُ لَكِنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ فِي الْمُحَرَّرِ عَنْ الْمُرَادِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْكَبِيرِ ، فَظَنَّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَاحِدَةٌ فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يَجِيءُ الِاسْتِدْرَاكُ مَعَ تَصْرِيحِ الرَّافِعِيِّ هُنَاكَ بِمَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ ا هـ .
أَيْ

فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَهُ هُنَا عَلَى كَلَامِهِ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْمَحْمَلِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَيْثُ أَمْكَنَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ ظَاهِرُهُمَا التَّنَاقُضُ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِرَاضِ ( وَالْحَلْقُ ) الْمَعْنَى السَّابِقُ أَوْ التَّقْصِيرُ ( وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ) إنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ بَعْدَ طَوَافَ قُدُومٍ ( لَا آخِرَ لِوَقْتِهَا ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْقِيتِ وَيَبْقَى مَنْ هِيَ عَلَيْهِ مُحْرِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ فِعْلُهَا يَوْمَ النَّحْرِ .
وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِهِ وَعَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدَّ كَرَاهَةً ، وَعَنْ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدَّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهَا عَنْ أَيَّامِ الْحَجِّ .
فَإِنْ قِيلَ : بَقَاؤُهُ عَلَى إحْرَامِهِ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِمْ : لَيْسَ لِصَاحِبِ الْفَوَاتِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى إحْرَامِهِ لِلسَّنَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِحْرَامِ كَابْتِدَائِهِ وَابْتِدَاؤُهُ لَا يَجُوزُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي تِلْكَ لَا يَسْتَفِيدُ بِبَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ شَيْئًا غَيْرَ مَحْضِ تَعْذِيبِ نَفْسِهِ لِخُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَحَرُمَ بَقَاؤُهُ عَلَى إحْرَامِهِ وَأُمِرَ بِالتَّحَلُّلِ .
وَأَمَّا هُنَا فَوَقْتُ مَا أَخَّرَهُ بَاقٍ فَلَا يَحْرُمُ بَقَاؤُهُ عَلَى إحْرَامِهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّحَلُّلِ ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ثُمَّ مَدَّهَا بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ .
فَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْوَدَاعِ وَخَرَجَ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْفَرْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِلْوَدَاعِ وَلَا غَيْرِهِ لَمْ يَسْتَبِحْ النِّسَاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِبَقَائِهِ مُحْرِمًا ( وَإِذَا قُلْنَا : الْحَلْقُ نُسُكٌ ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ ( فَفَعَلَ اثْنَيْنِ مِنْ الرَّمْيِ ) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ ( وَالْحَلْقَ ) أَوْ التَّقْصِيرَ ( وَالطَّوَافَ ) الْمَتْبُوعَ بِالسَّعْيِ إنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ قَبْلُ ( حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ ) مِنْ

تَحَلُّلَيْ الْحَجِّ ( وَحَلَّ بِهِ اللُّبْسُ ) وَسَتْرُ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ وَالْوَجْهِ لِلْمَرْأَةِ ( وَالْحَلْقُ ) إنْ لَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ نُسُكًا ( وَالْقَلْمُ ) وَالطِّيبُ بَلْ يُسَنُّ التَّطَيُّبُ .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالدَّهْنُ مُلْحَقٌ بِالتَّطَيُّبِ ، وَكَذَا الْبَاقِي بِجَامِعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ ( وَكَذَا ) يَحِلُّ ( الصَّيْدُ وَعَقْدُ النِّكَاحِ ) وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، كَالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا يُوجِبُ تَعَاطِيهَا إفْسَادًا ، فَأَشْبَهَتْ الْحَلْقَ ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ( قُلْت : الْأَظْهَرُ لَا يَحِلُّ عَقْدُ النِّكَاحِ ) وَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ " إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ " وَهَذَا مَا نَسَبَهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ إلَى تَصْحِيحِ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ : إنَّ قَوْلَهُمْ أَوْفَقُ لِكَلَامِ النَّصِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَنَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ( وَإِذَا فَعَلَ الثَّالِثَ ) بَعْدَ الِاثْنَيْنِ ( حَصَلَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي وَحَلَّ بِهِ بَاقِي الْمُحَرَّمَاتِ ) بِالْإِجْمَاعِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ كَمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَيُطْلَبُ مِنْهُ التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ ، لَكِنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ ، وَهُنَاكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ .
وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ عَنْ بَاقِي أَيَّامِ الرَّمْيِ لِيَزُولَ عَنْهُ أَثَرُ الْإِحْرَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ { أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } .

أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ لِلْحَاجِّ تَرْكُ الْجِمَاعِ لِمَا ذُكِرَ ، وَمَنْ فَاتَهُ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ بِأَنْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَزِمَهُ بَدَلُهُ تَوَقَّفَ التَّحَلُّلُ عَلَى الْبَدَلِ وَلَوْ صَوْمًا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ .
فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُحْصَرِ إذَا عَدِمَ الْهَدْيَ فَإِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ تَوَقُّفِ التَّحَلُّلِ عَلَى بَدَلٍ وَهُوَ الصَّوْمُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُحْصَرَ لَيْسَ لَهُ إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ ، فَلَوْ تَوَقَّفَ تَحَلُّلُهُ عَلَى الْبَدَلِ لَشَقَّ عَلَيْهِ الْمُقَامُ عَلَى سَائِرِ مُحَرَّمَاتِ الْحَجِّ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ وَاَلَّذِي يَفُوتُهُ الرَّمْيُ يُمْكِنُهُ الشُّرُوعُ فِي التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ حَلَّ لَهُ مَا عَدَا النِّكَاحَ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَعَقْدَهُ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْبَدَلِ هَذَا فِي تَحَلُّلِ الْحَجِّ .
أَمَّا الْعُمْرَةُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَطُولُ زَمَنُهُ وَتَكْثُرُ أَعْمَالُهُ فَأُبِيحَ بَعْضُ مُحَرَّمَاتِهِ فِي وَقْتٍ ، وَبَعْضُهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْحَيْضُ وَالْجَنَابَةُ لَمَّا طَالَ زَمَنُ الْحَيْضِ جُعِلَ لَارْتِفَاعِ مَحْظُورَاتِهِ مَحِلَّانِ : انْقِطَاعُ الدَّمِ وَالِاغْتِسَالُ ، وَالْجَنَابَةُ لَمَّا قَصُرَ زَمَنُهَا جُعِلَ لِارْتِفَاعِ مَحْظُورَاتِهَا مَحِلٌّ وَاحِدٌ .
.

فَصْلٌ إذَا عَادَ إلَى مِنًى بَاتَ بِهَا لَيْلَتَيْ التَّشْرِيقِ ، وَرَمَى كُلَّ يَوْمٍ إلَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ كُلَّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، فَإِذَا رَمَى الْيَوْمَ الثَّانِيَ وَأَرَادَ النَّفْرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جَازَ ، وَسَقَطَ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمَى يَوْمَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ وَجَبَ مَبِيتُهَا وَرَمَى الْغَدَ ، وَيَدْخُلُ رَمْيُ التَّشْرِيقِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ وَيَخْرُجُ بِغُرُوبِهَا وَقِيلَ يَبْقَى إلَى الْفَجْرِ .

( فَصْلٌ ) فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( إذَا عَادَ إلَى مِنًى ) بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ قُدُومٍ ( بَاتَ بِهَا ) حَتْمًا ( لَيْلَتَيْ ) يَوْمَيْ ( التَّشْرِيقِ ) وَالثَّالِثَةَ أَيْضًا لِلِاتِّبَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَعَ خَبَرِ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَالْوَاجِبُ مُعْظَمُ اللَّيْلِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيتُ بِمَكَانٍ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِسَاعَةٍ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي مُزْدَلِفَةَ كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَقَعَ فِيهَا بِخُصُوصِهَا ، إذْ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالنِّصْفِ ، وَهِيَ كَثِيرَةُ مَشَقَّةٍ ، فَسُومِحَ فِي التَّخْفِيفِ لِأَجْلِهَا ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِإِشْرَاقِ نَهَارِهَا بِنُورِ الشَّمْسِ وَلَيْلِهَا بِنُورِ الْقَمَرِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّ النَّاسَ يُشَرِّقُونَ اللَّحْمَ فِيهَا فِي الشَّمْسِ ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ هِيَ الْمَعْدُودَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } فَهِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ( وَرَمَى كُلَّ يَوْمٍ ) مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ وَتَالِيَاهُ ( إلَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ ) وَالْأُولَى مِنْهَا تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، وَهِيَ الْكُبْرَى ، وَالثَّانِيَةُ الْوُسْطَى ، وَالثَّالِثَةُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى ، بَلْ مِنًى تَنْتَهِي إلَيْهَا ، وَيَرْمِي ( كُلَّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ) لِلِاتِّبَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، فَمَجْمُوعُ الْمَرْمِيِّ بِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ حَصَاةً .
وَيُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْجَمَرَاتِ ( فَإِذَا رَمَى الْيَوْمَ ) الْأَوَّلَ ، وَ ( الثَّانِيَ ) مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( وَأَرَادَ النَّفْرَ ) مَعَ النَّاسِ ( قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ) فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ( جَازَ

وَسَقَطَ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمَى يَوْمَهَا ) وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَلِإِتْيَانِهِ بِمُعْظَمِ الْعِبَادَةِ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ إذَا بَاتَ اللَّيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ .
فَإِنْ لَمْ يَبِتْهُمَا لَمْ يَسْقُطْ مَبِيتُ الثَّالِثَةِ وَلَا رَمْيُ يَوْمِهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الرُّويَانِيِّ عَنْ الْأَصْحَابِ وَأَقَرَّهُ ، وَكَذَا لَوْ نَفَرَ بَعْدَ الْمَبِيتِ وَقَبْلَ الرَّمْيِ كَمَا يُفْهِمُهُ تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ بِبَعْدِ الرَّمْيِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْعِمْرَانِيُّ عَنْ الشَّرِيفِ الْعُثْمَانِيِّ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا النَّفْرَ غَيْرُ جَائِزٍ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّجَهٌ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالرَّمْيِ .
قَالَ الْأَصْحَابُ : وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ النَّفْرِ إلَى الثَّالِثِ ، لَا سِيَّمَا لِلْإِمَامِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِعُذْرٍ كَغَلَاءٍ وَنَحْوِهِ ، بَلْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ : لَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ ، فَلَا يَنْفِرُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْمَنَاسِكِ حَكَاهُ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيَتْرُكُ حَصَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْ يَدْفَعُهَا لِمَنْ لَمْ يَرْمِ وَلَا يَنْفِرُ بِهَا .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهَا فَلَا أَصْلَ لَهُ ( فَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا : أَيْ يَذْهَبْ .
وَأَصْلُهُ لُغَةً : الِانْزِعَاجُ ( حَتَّى غَرَبَتْ ) أَيْ الشَّمْسُ ( وَجَبَ مَبِيتُهَا وَرَمْيُ الْغَدِ ) لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ ، وَلَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ فَلَهُ النَّفْرُ ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ حَلَّ الرَّحْلِ وَالْمَتَاعِ مَشَقَّةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ارْتَحَلَ وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْ مِنًى فَإِنَّ لَهُ

النَّفْرَ ، وَهَذَا مَا جَزَمَ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَا فِي مَنَاسِكِ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ النَّفْرُ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّ مَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ غَلَطٌ ، وَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى زَائِرًا أَوْ مَارًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَمْ بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلَا رَمْيُ يَوْمِهَا بَلْ لَوْ بَاتَ هَذَا مُتَبَرِّعًا سَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ لِحُصُولِ الرُّخْصَةِ لَهُ بِالنَّفْرِ وَيَجِبُ بِتَرْكِ مَبِيتِ لَيَالِي مِنًى دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمَبِيتَ الْوَاجِبَ كَمَا يَجِبُ فِي تَرْكِ مَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ دَمٌ ، وَفِي تَرْكِ مَبِيتِ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ وَاللَّيْلَتَيْنِ مُدَّانِ مِنْ طَعَامٍ ، وَفِي تَرْكِ الثَّلَاثِ مَعَ لَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ دَمَانٍ لِاخْتِلَافِ الْمَبِيتَيْنِ مَكَانًا ، وَيُفَارِقُ مَا يَأْتِي فِي تَرْكِ الرَّمْيَيْنِ بِأَنَّ تَرْكَهُمَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ ، وَتَرْكُ الرَّمْيَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ إلَّا تَرْكَ زَمَانَيْنِ ، فَلَوْ نَفَرَ مَعَ تَرْكِ مَبِيتِ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، أَوْ الثَّانِي لَزِمَهُ دَمٌ لِتَرْكِهِ جِنْسَ الْمَبِيتِ بِمِنًى فِيهِمَا ، وَيَسْقُطُ مَبِيتُ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَالدَّمُ عَنْ الرِّعَاءِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ إنْ خَرَجُوا مِنْهُمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ أَنْ يَتْرُكُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى ، وَقِيسَ بِمِنًى مُزْدَلِفَةَ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا حِينَئِذٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا قَبْلَ الْغُرُوبِ بِأَنْ كَانُوا بِهَا بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ مَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَالرَّمْيُ مِنْ الْغَدِ .
وَأَمَّا أَهْلُ السِّقَايَةِ ، وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ : مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَيُجْعَلُ فِي حِيَاضٍ يُسَبَّلُ لِلشَّارِبِينَ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الْمَبِيتُ ، وَلَوْ نَفَرُوا بَعْدَ

الْغُرُوبِ وَكَانَتْ السِّقَايَةُ مُحْدَثَةً لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى لِأَجْلِ السِّقَايَةِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَغَيْرُ الْعَبَّاسِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ فِي مَعْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَبَّاسِيًّا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِمْ قَبْلَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الرِّعَاءِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي السِّقَايَةِ الْحَادِثَةِ هُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْمَنْعِ ، وَلِرِعَاءِ الْإِبِلِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ يَوْمًا فَقَطْ وَيُؤَدُّونَهُ فِي تَالِيهِ قَبْلَ رَمْيِهِ لَا رَمْيَ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَإِلَّا فَقَدْ مَرَّ أَنَّ وَقْتَ الْجَوَازِ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ : قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ : لَا يُرَخَّصُ لِلرِّعَاءِ فِي تَرْكِ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ : أَيْ فِي تَأْخِيرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ، وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ وَعَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ خَائِفٌ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَوْتِ أَمْرٍ يَطْلُبُهُ كَآبِقٍ أَوْ ضَيَاعِ مَرِيضٍ بِتَرْكِ تَعَهُّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ ذُو عُذْرٍ فَأَشْبَهَ الرِّعَاءَ وَأَهْلَ السِّقَايَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِأَهْلِ السِّقَايَةِ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْغُولَ بِتَدَارُكِ الْحَجِّ عَنْ مَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ وَمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ لِيَطُوفَ لِلْإِفَاضَةِ أَنَّهُ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ ، وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا حُكْمَ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْمَبِيتِ وَمَنْ يُعْذَرُ فِيهِ ، ثُمَّ يَخْطُبُ بِهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى خُطْبَةَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلِاتِّبَاعِ ، وَيُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ

النَّفْرِ فِيهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِ ، وَيُوَدِّعُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِخَتْمِ الْحَجِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَاتَانِ الْخُطْبَتَانِ لَمْ نَرَ مَنْ يَفْعَلُهُمَا فِي زَمَانِنَا ( وَيَدْخُلُ رَمْيُ ) كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ ( التَّشْرِيقِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ ) مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَيُسَنُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَمَحِلُّهُ مَا لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ وَإِلَّا قَدَّمَ الصَّلَاةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَيُؤَخِّرَهَا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ( وَيَخْرُجُ ) أَيْ وَقْتُهُ اخْتِيَارِيٌّ ( بِغُرُوبِهَا ) مِنْ كُلِّ يَوْمٍ .
أَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَمِمَّا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِغُرُوبِهَا مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ( وَقِيلَ يَبْقَى إلَى الْفَجْرِ ) كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَمَحِلُّ هَذَا الْوَجْهِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ .
أَمَّا هُوَ فَيَخْرُجُ وَقْتُ رَمْيِهِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ جَزْمًا لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ ، .

وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ وَكَوْنُ الْمَرْمِيِّ حَجَرًا ، وَأَنْ يُسَمِّيَ رَمْيًا فَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى ، وَلَا كَوْنُ الرَّامِي خَارِجًا عَنْ الْجَمْرَةِ ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ اسْتَنَابَ ، وَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ فِي الْأَظْهَرِ .

وَلِلرَّمْيِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ ( وَيُشْتَرَطُ ) فِي رَمْيِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ ( رَمْيُ ) الْحَصَيَاتِ ( السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً ) لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالْمُرَادُ بِسَبْعِ رَمَيَاتٍ فَيُجْزِئُ وَإِنْ وَقَعْنَ مَعًا أَوْ سَبَقَتْ الْأَخِيرَةُ الْأُولَى فِي الْوُقُوعِ .
فَلَوْ رَمَى السَّبْعَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، أَوْ حَصَاتَيْنِ كَذَلِكَ إحْدَاهُمَا بِيَمِينِهِ وَالْأُخْرَى بِيَسَارِهِ لَمْ يُحْسَبْ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ تَعَاقَبَ الْوُقُوعُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى إنْسَانٍ فَجُلِدَ بِمِائَةٍ مَشْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِائَةً ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنْ الضَّرَبَاتِ الْإِيلَامُ وَهُوَ حَاصِلٌ ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ رَمَى حَصَاةً وَاحِدَةٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ لَمْ يَكْفِ وَهُوَ وَجْهٌ رَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : إنَّهُ الْأَقْوَى ، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ اتِّبَاعٍ وَتَعَبُّدٍ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ الْجَوَازُ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ ، وَلَوْ رَمَى جُمْلَةَ السَّبْعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَجْزَأَهُ ، وَكَلَامُ الْمَتْنِ يُفْهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ كَالْمُحَرَّرِ : وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ الْحَصَيَاتِ السَّبْعِ فِي سَبْعِ دُفُعَاتٍ لَكَانَ أَوْلَى ( وَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاحِدَتُهَا جَمْرَةٌ بِسُكُونِهَا بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، وَهِيَ أُولَاهُنَّ مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَوْ بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الْوُسْطَى ، ثُمَّ الَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ حَصَلَتْ فَقَطْ ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَشَكَّ فِي مَحِلِّهَا جَعَلَهَا مِنْ الْأُولَى احْتِيَاطًا فَيَرْمِي بِهَا إلَيْهَا وَيُعِيدُ رَمْيَ الْجَمْرَتَيْنِ ، إذْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الرَّمْيِ فِي الْجَمَرَاتِ لَا تَجِبُ ، وَإِنَّمَا تُسَنُّ

فِيهِ كَمَا فِي الطَّوَافِ ، لَوْ تَرَكَ حَصَاتَيْنِ لَا يَعْلَمُ مَوْضِعَهُمَا احْتَاطَ وَجَعَلَ وَاحِدَةً مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَوَاحِدَةً مِنْ ثَالِثَةٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيِّ جَمْرَةٍ كَانَتْ أَخْذًا بِالْأَسْوَأِ ( وَ ) يُشْتَرَطُ ( كَوْنُ ) الرَّمْيِ بِالْيَدِ ، وَكَوْنُ ( الْمَرْمِيِّ حَجَرًا ) لِلِاتِّبَاعِ فَلَا يَكْفِي الرَّمْيُ عَنْ قَوْسٍ ، وَلَا الرَّمْيُ بِالرِّجْلِ ، وَلَا بِالْمِقْلَاعِ ، وَلَا بِالرَّمْيِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَلُؤْلُؤٍ وَإِثْمِدٍ وَزَرْنِيخٍ وَجِصٍّ وَجَوْهَرٍ ، وَيُجْزِئُ الْحَجَرُ بِأَنْوَاعِهِ كَيَاقُوتٍ وَحَجَرِ حَدِيدٍ وَبِلَّوْرٍ وَعَقِيقٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ، وَيُجْزِئُ حَجَرُ نُورَةٍ لَمْ يُطْبَخْ بِخِلَافِ مَا طُبِخَ مِنْهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُسَمَّى حَجَرًا بَلْ نُورَةً ( وَأَنْ يُسَمَّى رَمْيًا فَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ ) فِي الْمَرْمَى لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى رَمْيًا ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَارِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : ذِكْرُ اشْتِرَاطِ الرَّمْيِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ سِيقَ لِبَيَانِ التَّعَدُّدِ لَا لِلْكَيْفِيَّةِ فَنَصَّ عَلَيْهِ هُنَا احْتِيَاطًا ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا قَصْدُ الْجَمْرَةِ بِالرَّمْيِ ، فَلَوْ رَمَى إلَى غَيْرِهَا كَأَنْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَكْفِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَمَى إلَى الْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ فِي الْجَمْرَةِ أَوْ الْحَائِطِ الَّتِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَأَصَابَهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَا يُجْزِئُ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ بِفِعْلِهِ مَعَ قَصْدِ الرَّمْيِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالثَّانِي مِنْ احْتِمَالَيْهِ أَقْرَبُ ا هـ .
بَلْ الْأَقْرَبُ إلَى كَلَامِهِمْ الْأَوَّلُ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْمَرْمَى حَدًّا مَعْلُومًا ، غَيْرَ أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ

عَلَيْهَا عَلَمٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ تَحْتَهُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلَا يَبْعُدَ عَنْهُ احْتِيَاطًا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى لَا مَا سَالَ مِنْ الْحَصَى ، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَهُ أَجْزَأَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَحَدَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ : مَوْضِعُ الرَّمْيِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ إلَّا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ ، وَرَمْيُ كَثِيرِينَ مِنْ أَعْلَاهَا بَاطِلٌ ا هـ .
وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ( وَالسُّنَّةُ ) فِي رَمْيِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ ( أَنْ يَرْمِيَ ) الْجَمْرَةَ لَا بِحَجَرٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ جِدًّا بَلْ ( بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ ) وَهُوَ دُونَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا فِي قَدْرِ الْبَاقِلَّاءِ ، فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهُ أَوْ بِأَصْغَرَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ ، وَهَيْئَةُ الْخَذْفِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنْ يَضَعَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِ الْإِبْهَامِ وَيَرْمِيَهُ بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَرْمِيهِ عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ حَصَى الْخَذْفِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ الذَّكَرُ يَدَهُ بِالرَّمْيِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبِطِهِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي رَمْيِ التَّشْرِيقِ ، وَأَنْ يَرْمِيَ رَاجِلًا لَا رَاكِبًا إلَّا فِي يَوْمِ النَّفْرِ ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ رَاكِبًا لِيَنْفِرَ عَقِبَهُ ، وَأَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي كَمَا مَرَّ فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ عُلْوٍ ، وَأَنْ يَدْنُوَ مِنْ الْجَمْرَةِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ حَصَى الرَّامِينَ ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَدْعُو وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِقَدْرِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةَ ، وَكَذَا بَعْدَ رَمْيِ الثَّانِيَةِ لَا الثَّالِثَةِ ، بَلْ يَمْضِي بَعْدَ

رَمْيِهَا لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
إلَّا بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ( وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى ) فَلَا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ لِحُصُولِ اسْمِ الرَّمْيِ ( وَلَا كَوْنُ الرَّامِي خَارِجًا عَنْ الْجَمْرَةِ ) فَلَوْ وَقَفَ بِبَعْضِهَا وَرَمَى إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهَا صَحَّ لِمَا مَرَّ مِنْ حُصُولِ اسْمِ الرَّمْيِ ، وَلَوْ رَمَى الْحَجَرَ فَأَصَابَ شَيْئًا كَأَرْضٍ أَوْ مَحْمَلٍ فَارْتَدَّ إلَيْهِ الْمَرْمِيُّ لَا بِحَرَكَةِ مَا أَصَابَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِحُصُولِهِ فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ لَا بِمُعَاوَنَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ بِحَرَكَةِ مَا أَصَابَهُ ، وَلَوْ رَدَّتْ الرِّيحُ الْحَصَاةَ إلَى الْمَرْمَى أَوْ تَدَحْرَجَتْ إلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَضُرَّ إلَّا إنْ تَدَحْرَجَتْ مِنْ ظَهْرِ بَعِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ كَعُنُقِهِ وَمَحْمَلٍ فَلَا يَكْفِي ، وَيُشْتَرَطُ إصَابَةُ الْمَرْمَى يَقِينًا فَلَوْ شَكَّ فِيهَا لَمْ يَكْفِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهِ وَبَقَاءُ الرَّمْيِ عَلَيْهِ ، وَصُرِفَ الرَّمْيُ بِالنِّيَّةِ لِغَيْرِ النُّسُكِ كَأَنْ رَمَى إلَى شَخْصٍ أَوْ دَابَّةٍ فِي الْجَمْرَةِ كَصَرْفِ الطَّوَافِ بِهَا إلَى غَيْرِهِ فَيَنْصَرِفُ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ بَحَثَ فِي الْمُهِمَّاتِ إلْحَاقَ الرَّمْيِ بِالْوُقُوفِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ وَحْدَهُ كَرَمْيِ الْعَدُوِّ فَأَشْبَهَ الطَّوَافَ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ .
وَأَمَّا السَّعْيُ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَخْذًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَالْوُقُوفِ ( وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ ) لِعِلَّةٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ فَوْتِ وَقْتِ الرَّمْيِ كَمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ ( اسْتَنَابَ ) مَنْ يَرْمِي عَنْهُ وُجُوبًا كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ الْمُتَّجَهُ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ حَلَالًا كَانَ النَّائِبُ أَوْ مُحْرِمًا ، لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ جَائِزَةٌ فِي النُّسُكِ ، فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِهِ ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى الْيَأْسِ ، كَمَا فِي اسْتِنَابَةِ الْحَجِّ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَبْسِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَمْ لَا

كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ فِي الْحَبْسِ بِحَقٍّ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَصُورَةُ الْمَحْبُوسِ بِحَقٍّ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَوَدٌ لِصَغِيرٍ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الصُّورَةَ .
وَأَمَّا إذَا حُبِسَ بِدَيْنٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِعَاجِزٍ عَنْ الرَّمْيِ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي النَّائِبِ أَنْ يَكُونَ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا فَلَوْ لَمْ يَرْمِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَصْلِ الْحَجِّ وَيُنْدَبُ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى وَيُكَبِّرَ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَنَاوَلَهَا النَّائِبُ وَكَبَّرَ بِنَفْسِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ النَّائِبُ بِإِغْمَاءِ الْمُسْتَنِيبِ كَمَا لَا يَنْعَزِلُ عَنْهُ وَعَنْ الْحَجِّ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ زِيَادَةٌ فِي الْعَجْزِ الْمُبِيحِ لِلْإِنَابَةِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهَا وَفَارَقَ سَائِرَ الْوَكَالَاتِ بِوُجُوبِ الْإِذْنِ هُنَا ، فَلَوْ نَوَى فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الرَّمْيِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ لَكِنَّهَا تُسَنُّ ، أَمَّا إغْمَاءُ النَّائِبِ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ شُرُوطِ الرَّمْيِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ يَأْتِي فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ ( وَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ ) أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا ( تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ ) مِنْهَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) بِالنَّصِّ فِي الرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ ، وَبِالْقِيَاسِ فِي غَيْرِهِمْ ، إذْ لَوْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلرَّمْيِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَكَذَا يَتَدَارَكُ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ إذَا تَرَكَهُ ، وَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا فِي الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ ، وَالثَّانِي أَوْ الْأَوَّلَيْنِ فِي الثَّالِثِ وَالثَّانِي لَا كَمَا يَتَدَارَكُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
تَنْبِيهٌ : إذَا قُلْنَا بِالتَّدَارُكِ فَتَدَارَكَ فَالْأَظْهَرُ

أَنَّهُ أَدَاءٌ ، وَالْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لَهُ وَقْتُ اخْتِيَارٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَدَارَكَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِالْأَيَّامِ ، وَالْأَيَّامُ حَقِيقَةً لَا تَتَنَاوَلُ اللَّيَالِيَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ وَالْمَنَاسِكِ وَاقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ مِنْ الْمَنْعِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ أَيْضًا الْإِجْزَاءُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي شَامِلِهِ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِمَا ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِمُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْمَنْعَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ رَمْيٌ فَصَارَ كَاللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ ، وَالْمَنْعَ فِي الثَّانِي بِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةُ النَّهَارِ كَالصَّوْمِ مَمْنُوعٌ فِي التَّدَارُكِ ، فَجُمْلَةُ أَيَّامِ مِنًى بِلَيَالِيِهَا كَوَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَكُلُّ يَوْمٍ لِرَمْيِهِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيُ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى زَوَالِ شَمْسِهِ كَمَا مَرَّ .
وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمْيِ يَوْمِ التَّدَارُكِ بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَعَ عَنْ الْمَتْرُوكِ .
فَلَوْ رَمَى إلَى كُلِّ جَمْرَةٍ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَبْعًا عَنْ أَمْسِهِ وَسَبْعًا عَنْ يَوْمِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ يَوْمِهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّائِبَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ مُنِيبِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا اقْتَضَاهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ جَوَازِ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ وَوُقُوعِهِ أَدَاءً بِالتَّدَارُكِ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِمْ لِلْمَعْذُورِينَ أَنْ يَدَعُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ ، وَأَنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ

هُنَا فِي تَدَارُكِهِ مَعَ الْبَيَاتِ بِمِنًى ، وَالْكَلَامُ الَّذِي سَبَقَ فِي الرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ ، فَامْتِنَاعُ تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ فِي حَقِّهِمْ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالْمَبِيتِ لَيْلَتَيْنِ ، وَرَمْيِ يَوْمَيْنِ ، فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ الشِّعَارِ فِي الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ مَنْ أَتَى بِالْبَيْتِ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَى بِشِعَارِهِ فَسُومِحَ بِتَأْخِيرِ الرَّمْيِ يَوْمَيْنِ ، هَذَا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَا تَقَدَّمَ فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَمَا هُنَا فِي وَقْتِ الْجَوَازِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَا يُنَافِي الْأَدَاءَ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ .
فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ عَدَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا .

وَلَا دَمَ ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَالْمَذْهَبُ تَكْمِيلُ الدَّمِ فِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ .
( وَلَا دَمَ ) مَعَ التَّدَارُكِ سَوَاءٌ أَجَعَلْنَاهُ أَدَاءً أَمْ قَضَاءً لِحُصُولِ الِانْجِبَارِ بِالْمَأْتِيِّ بِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ ( فَعَلَيْهِ دَمٌ ) فِي رَمْيِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ مَعَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الرَّمْيِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الرَّأْسِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ طُرُقًا وَاخْتِلَافًا كَثِيرًا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَالْمَذْهَبُ تَكْمِيلُ الدَّمِ فِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ ) لِوُقُوعِ الْجَمْعِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ أَزَالَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مُتَوَالِيَةً كَمَا سَيَأْتِي .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ } وَفِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ مُدَّانِ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
أَمَّا لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِبُطْلَانِ مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ كَمَا مَرَّ .
وَقِيلَ إنَّمَا يَكْمُلُ الدَّمُ فِي وَظِيفَةِ جَمْرَةٍ كَمَا يَكْمُلُ فِي وَظِيفَةِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَفِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ الْأَقْوَالُ فِي حَقِّ الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مُدَّ طَعَامٍ وَالثَّانِي دِرْهَمًا ، وَالثَّالِثُ ثُلُثُ دَمٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَسُبْعَهُ عَلَى الثَّانِي ، وَفِي الْحَصَاتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ .
.

تَنْبِيهٌ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَبِيتَ لَيَالِي مِنًى يَسْقُطُ عَنْ الْمَعْذُورِينَ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مَبِيتِ لَيَالِي التَّشْرِيقِ دَمٌ .
وَفِي قَوْلٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ دَمٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ فِي اللَّيْلَةِ مُدٌّ .
وَفِي قَوْلٍ : دِرْهَمٌ .
وَفِي آخَرَ : ثُلُثُ دِرْهَمٍ .
وَفِي اللَّيْلَتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْفِرْ قَبْلَ الثَّالِثِ ، فَإِنْ نَفَرَ قَبْلَهَا فَفِي وَجْهٍ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا لَيْلَتَيْنِ ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الدَّمِ بِكَمَالِهِ لِتَرْكِ جِنْسِ الْمَبِيتِ بِمِنًى .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَتَرْكُ الْمَبِيتِ نَاسِيًا كَتَرْكِهِ عَامِدًا وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ طَافَ لِلْوَدَاعِ ، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَهُ وَهُوَ وَاجِبٌ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ ، وَفِي قَوْلٍ سُنَّةٌ لَا يُجْبَرُ ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَخَرَجَ بِلَا وَدَاعٍ وَعَادَ قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ سَقَطَ الدَّمُ أَوْ بَعْدَهَا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ .

( وَإِذَا أَرَادَ ) بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِ ( الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ ) لِسَفَرٍ - وَلَوْ مَكِّيًّا - طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( طَافَ لِلْوَدَاعِ ) طَوَافًا كَامِلًا بِرَكْعَتَيْهِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ طَافَ لِلْوَدَاعِ } وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَ { لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } أَيْ الطَّوَافِ بِهِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فَلَا طَوَافَ وَدَاعٍ عَلَى مُرِيدِ الْإِقَامَةِ وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بَعْدَهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَلَا عَلَى مُرِيدِ السَّفَرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْأَعْمَالِ ، وَلَا عَلَى الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الْخَارِجِ إلَى التَّنْعِيمِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِوَدَاعٍ ، وَهَذَا فِيمَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ يَعُودُ ، وَمَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ فِيمَنْ أَرَادَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ مَحِلٍّ يُقِيمُ فِيهِ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الْعِمْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ( وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَهُ ) وَبَعْدَ رَكْعَتَيْهِ وَبَعْدَ الدُّعَاءِ الْمَحْبُوبِ عَقِبَهُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَإِتْيَانِ زَمْزَمَ وَالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ ، فَإِنْ مَكَثَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ كَالزِّيَارَةِ وَالْعِيَادَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ أَوْ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاءِ الزَّادِ وَأَوْعِيَتِهِ وَشَدِّ الرَّحْلِ ، أَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ كَمَا قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهُ ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ ، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ أَوْ لَا ؟ وَفِي أَنَّهُ

يَلْزَمُ الْأَجِيرَ فِعْلُهُ أَوْ لَا ؟ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَطْوِفَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافٍ يَخُصُّهُ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَفَعَلَهُ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى وَأَرَادَ الْخُرُوجَ عَقِبَهُ لَمْ يَكْفِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِهِ ( وَهُوَ وَاجِبٌ ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ : { أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ } ( يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ ) وُجُوبًا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ : ( وَفِي قَوْلٍ سُنَّةٌ لَا يُجْبَرُ ) بِدَمٍ كَطَوَافِ الْقُدُومِ تَحِيَّةً وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ تَحِيَّةُ الْبُقْعَةِ ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا خِلَافَ فِي الْجَبْرِ كَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ( فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَخَرَجَ ) مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنًى ( بِلَا وَدَاعٍ ) عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ ( وَعَادَ ) بَعْدَ خُرُوجِهِ ( قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ) مِنْ مَكَّةَ .
وَقِيلَ : مِنْ الْحَرَمِ وَطَافَ لِلْوَدَاعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ( سَقَطَ الدَّمُ ) لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ ، وَكَمَا لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُمْ : لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ فِيهِ نَظَرٌ إذَا سَوَّيْنَا بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فِي وُجُوبِ الْوَدَاعِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ سَفَرَهُ هُنَا لَمْ يَتِمَّ لِعَوْدِهِ بِخِلَافِهِ هُنَاكَ .
أَمَّا إذَا عَادَ لِيَطُوفَ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ ، فَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَرَّرُ ( أَوْ ) عَادَ ( بَعْدَهَا ) وَطَافَ ( فَلَا ) يَسْقُطُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِاسْتِقْرَارِهِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ، وَوُقُوعُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَوْدِ حَقٌّ لِلْخُرُوجِ الثَّانِي ، وَالثَّانِي

يَسْقُطُ كَالْحَالَةِ الْأُولَى ، وَيَجِبُ الْعَوْدُ فِيهَا وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ لِلْمَشَقَّةِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ أَوْ بَعْدَهَا يُفْهِمُ أَنَّ بُلُوغَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَاَلَّذِي فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ بُلُوغَهَا كَمُجَاوَزَتِهَا .

وَلِلْحَائِضِ النَّفْرُ بِلَا وَدَاعٍ .
( وَلِلْحَائِضِ النَّفْرُ بِلَا ) طَوَافِ ( وَدَاعٍ ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ " وَعَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْصَرِفَ بِلَا وَدَاعٍ } نَعَمْ إنْ طَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتَطُوفَ بِخِلَافِ مَا إذَا طَهُرَتْ خَارِجَ مَكَّةَ وَلَوْ فِي الْحَرَمِ ، وَكَالْحَائِضِ النُّفَسَاءُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَخَرَجَ بِالْحَائِضِ الْمُتَحَيِّرَةُ فَإِنَّهَا تَطُوفُ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : فَإِنْ لَمْ تَطُفْ طَوَافَ الْوَدَاعِ فَلَا دَمَ عَلَيْهَا لِلشَّكِّ فِي طُهْرِهَا .
وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُتَحَيِّرَةِ فَإِنْ نَفَرَتْ فِي طُهْرِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ ، أَوْ فِي حَيْضِهَا فَلَا ، وَمَنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ تَصِيرُ مُحْرِمَةً حَتَّى تَرْجِعَ لِمَكَّةَ فَتَطُوفَ وَلَوْ طَالَ ذَلِكَ سِنِينَ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَيَنْبَغِي أَنَّهَا إذَا وَصَلَتْ بَلَدَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ عَادِمَةُ النَّفَقَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الْوُصُولُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ يَكُونُ حُكْمُهَا كَالْمُحْصَرِ فَتَتَحَلَّلُ بِذَبْحِ شَاةٍ وَتَقْصِيرٍ وَنِيَّةِ تَحَلُّلٍ ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ فِي الْمَجْمُوعِ ا هـ .
وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ ، وَبَحَثَ بَعْضٌ آخَرُ بِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ شَافِعِيَّةً تُقَلِّدُ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ فِي أَنَّهَا تَهْجِمُ وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَلْزَمُهَا تَوْبَةٌ وَتَأْثَمُ بِدُخُولِهَا الْمَسْجِدَ حَائِضًا ، وَيُجْزِئُهَا هَذَا الطَّوَافُ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا فِي بَقَائِهَا عَلَى الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ .

.
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ الْمَتْبُوعِ بِرَكْعَتَيْهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ مَا لَمْ يُؤْذِ أَوْ يَتَأَذَّ بِزِحَامٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ حَافِيًا ، وَأَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى أَرْضِهِ ، وَلَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَى سَقْفِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَيَاءً مِنْهُ ، وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْصِدَ مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْشِيَ بَعْدَ دُخُولِ الْبَابِ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ ، وَأَنْ يَدْعُوَ فِي جَوَانِبِهِ ، ثُمَّ يَدْعُوَ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَيُسَمَّى الْمُدَّعَى وَالْمُتَعَوَّذَ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسَنُّ لِمَنْ فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيُلْصِقَ بَدَنَهُ وَصَدْرَهُ بِحَائِطِ الْبَيْتِ وَيَبْسُطَ يَدَيْهِ عَلَى الْجِدَارِ فَيَجْعَلُ الْيُمْنَى مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَالْيُسْرَى مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ الْمَأْثُورَ أَفْضَلُ ، وَمِنْ الْمَأْثُورِ مَا فِي التَّنْبِيهِ وَهُوَ " اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُك ، وَالْعَبْدُ عَبْدُك وَابْنُ أَمَتِك ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك حَتَّى صَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِك ، وَبَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِك حَتَّى أَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِك ، فَإِنْ كُنْت رَضِيَتْ عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا ، وَإِلَّا فَمُنَّ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي وَيَبْعُدَ عَنْهُ مَزَارِي ، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بَيْتِك وَلَا رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك .
اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي ، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي ، وَارْزُقْنِي الْعَمَلَ بِطَاعَتِك مَا أَبْقَيْتَنِي " وَمَا زَادَ فَحَسَنٌ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ " وَاجْمَعْ لِي خَيْرَيْ الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ إنَّك قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ " وَلَفْظُ فَمُنَّ الْآنَ يَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهُوَ الْأَجْوَدُ وَكَسْرُ الْمِيمِ وَتَخْفِيفُ النُّونِ مَعَ فَتْحِهَا وَكَسْرِهَا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ اُسْتُحِبَّ أَنْ تَأْتِيَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَمْضِيَ .

.
وَيُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ وَالطَّوَافِ تَطَوُّعًا وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ ، .

وَأَنْ يَزُورَ الْمَوَاضِعَ الْمَشْهُورَةَ بِالْفَضْلِ بِمَكَّةَ ، وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ .
مِنْهَا : بَيْتُ الْمَوْلِدِ ، وَبَيْتُ خَدِيجَةَ ، وَمَسْجِدُ دَارِ الْأَرْقَمِ ، وَالْغَارُ الَّذِي فِي ثَوْرٍ وَاَلَّذِي فِي حِرَاءَ .
وَقَدْ أَوْضَحَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ ، وَأَنْ يُكْثِرَ النَّظَرَ إلَى الْبَيْتِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا " لِمَا رَوَى الْأَزْرَقِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ .
قَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا خَرَجَ مِنْ الْخَطَايَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ : سِتُّونَ لِلطَّائِفَيْنِ ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ } وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ هُنَاكَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا بِمَكَّةَ فِي الطَّوَافِ ، وَالْمُلْتَزَمِ ، وَتَحْتَ الْمِيزَابِ وَفِي الْبَيْتِ ، وَعِنْدَ زَمْزَمَ ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَفِي السَّعْيِ ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ ، وَفِي عَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى ، وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ .

وَيُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ .

( وَيُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ ) لِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقِيلَ شِفَاءُ سَقَمٍ لَمْ يَرْوِهَا مُسْلِمٌ وَإِنَّمَا رَوَاهَا أَبُو الطَّيَالِسِيِّ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَشْرَبَهُ لِمَطْلُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِحَدِيثِ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَضَعَّفَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِوُرُودِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَابِرٍ .
وَيُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ شُرْبِهِ ، وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ } .
وَقَدْ شَرِبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَنَالُوا مَطْلُوبَهُمْ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ شُرْبِهِ : اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ } وَأَنَا أَشْرَبُهُ لِكَذَا ، وَيَذْكُرُ مَا يُرِيدُ دِينًا وَدُنْيَا : اللَّهُمَّ فَافْعَلْ ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَشْرَبُ وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا شَرِبَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا وَاسِعًا ، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ .
وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَيُسَنُّ الدُّخُولُ إلَى الْبِئْرِ وَالنَّظَرُ فِيهَا ، وَأَنْ يَنْزِعَ مِنْهَا بِالدَّلْوِ الَّذِي عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيُسَنُّ أَنْ يَنْضَحَ مِنْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ ، وَأَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ مَائِهَا ، وَيَسْتَصْحِبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ ، فَفِي الْبَيْهَقِيّ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْقِرَبِ ، وَكَانَ يَصُبُّهُ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ مِنْهُ } .
وَيُسَنُّ الشُّرْبُ مِنْ نَبِيذِ سِقَايَةِ

الْعَبَّاسِ مَا لَمْ يُسْكِرْ ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ دُخُولِ الْحِجْرِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءُ ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُ مِنْ الْبَيْتِ كَمَا مَرَّ .
.

وَيُسَنُّ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ ، وَأَنْ يَنْصَرِفَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مُسْتَدْبِرَ الْبَيْتِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَصَوَّبَهُ فِي مَجْمُوعِهِ ، وَقِيلَ : يَخْرُجُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ ، وَقِيلَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بِوَجْهِهِ مَا أَمْكَنَهُ كَالْمُتَحَزِّنِ عَلَى فِرَاقِهِ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَيَقُولُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ .
وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .

وَزِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ .

( وَ ) تُسَنُّ ( زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا .
وَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِغَيْرِ زَائِرِهِ ، { وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَمْ تَنْزِعْهُ حَاجَةٌ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي سُنَنِهِ الصِّحَاحِ الْمَأْثُورَةِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي وَكُفِيَ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ، وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَزِيَارَةُ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ ، فَقَوْلُهُ ( بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ ) كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ اخْتِصَاصَ طَلَبِ الزِّيَارَةِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ بَعْدَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَبْلَهُمَا أَوَّلًا مَعَ نُسُكٍ ، بَلْ الْمُرَادُ تَأَكُّدُ الزِّيَارَةِ فِيهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ الْوُرُودُ مِنْ آفَاقٍ بَعِيدَةٍ ، فَإِذَا قَرُبُوا مِنْ الْمَدِينَةِ يَقْبُحُ تَرْكُهُمْ الزِّيَارَةَ ، وَالثَّانِي لِحَدِيثِ { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } ، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلْحَاجِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ حُكْمُ الْحَاجِّ فِي تَأَكُّدِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَشْمَلْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِي هَذَا } فَتُسَنُّ زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزِيَارَةُ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالْحَجِّ ، وَيُسَنُّ لِمَنْ

قَصَدَ الْمَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكْثِرَ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدَ فِيهِمَا إذَا أَبْصَرَ أَشْجَارَهَا مَثَلًا ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَهُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَيَتَقَبَّلَهَا مِنْهُ ، وَأَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَلْبَسَ أَنْظَفَ وَأَحْسَنَ ثِيَابِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَصَدَ الرَّوْضَةَ ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَصَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ ، وَشَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ فَرَاغِهِمَا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِلُ رَأْسَهُ ، وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ ، وَيَقِفُ نَاظِرًا إلَى أَسْفَلِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ ، فَارِغَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَبَرِ { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ لَهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَأَقَلُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ تَأَدُّبًا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَيَاتِهِ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ قَدْرَ ذِرَاعٍ آخَرَ فَيُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ الشَّرِيفَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ إلَى رَبِّهِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا اقْتَرَفَ آدَم الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا غَفَرْتَ لِي ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ .
قَالَ : يَا رَبِّ لِأَنَّك لَمَّا خَلَقْتَنِي وَنَفَخْت فِي مِنْ رُوحِك رَفَعْتُ رَأْسِي ، فَرَأَيْتُ فِي قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَعَرَفْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى نَفْسِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقْت يَا آدَم : إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ ، إذْ سَأَلْتَنِي بِهِ فَقَدْ غَفَرْت لَك ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك } قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُهُ الزَّائِرُ بَعْدَ ذَلِكَ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ رُوحِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ أَنْتَ الْحَبِيبُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْحِسَابِ إذَا مَا زَلَّتْ الْقَدَمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَأْتِيَ سَائِرِ الْمُشَاهَدِ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ .
وَيُسَنُّ زِيَارَةُ الْبَقِيعِ وَقُبَاءَ ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ .
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْآبَارِ السَّبْعَةِ ، وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي بَيْتٍ ، فَقَالَ : الطَّوِيلُ أَرِيسٌ وَغَرْسٌ رُومَةٌ وَبُضَاعَةٌ كَدَابِضَةٍ قُلْ بَيْرُحَاءَ مَعَ الْعِهْنِ وَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ ، فَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ الطَّوَافِ بِقَبْرِهِ ، وَمِنْ الصَّلَاةِ دَاخِلَ الْحُجْرَةِ بِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ .
وَيُكْرَهُ إلْصَاقُ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِجِدَارِ

الْقَبْرِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً .
وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ وَيُقَبِّلُهُ ، بَلْ الْأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَصُومَ بِالْمَدِينَةِ مَا أَمْكَنَهُ ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى جِيرَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقِيمِينَ وَالْغُرَبَاءِ بِمَا أَمْكَنَهُ .
وَإِذَا أَرَادَ السَّفَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوَدِّعَ الْمَسْجِدَ بِرَكْعَتَيْنِ ، وَيَأْتِيَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ ، وَيُعِيدَ السَّلَامَ الْأَوَّلَ ، وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسِّرْ لِي الْعَوْدَ إلَى الْحَرَمَيْنِ سَبِيلًا سَهْلًا ؛ وَارْزُقْنِي الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، وَرُدَّنَا إلَى أَهْلِنَا سَالِمِينَ غَانِمِينَ ، وَيَنْصَرِفُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، وَلَا يَمْشِي الْقَهْقَرَى ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَصْحِبَ شَيْئًا مِنْ الْأُكَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمَيْنِ ، وَلَا مِنْ الْأَبَارِيقَ وَالْكِيزَانِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ الْبِدَعِ تَقَرُّبُ الْعَوَامّ بِأَكْلِ التَّمْرِ الصَّيْحَانِيِّ فِي الرَّوْضَةِ .
.

فَصْلٌ ، أَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ : الْإِحْرَامُ ، وَالْوُقُوفُ ، وَالطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ ، وَالْحَلْقُ إذَا جَعَلْنَاهُ نُسُكًا وَلَا تُجْبَرُ بِدَمٍ ، وَمَا سِوَى الْوُقُوفِ أَرْكَانٌ فِي الْعُمْرَةِ أَيْضًا .

( فَصْلٌ ) فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ( أَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ ) بَلْ سِتَّةٌ : أَحَدُهَا ( الْإِحْرَامُ ) أَيْ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِيهِ لِخَبَرِ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } ( وَ ) ثَانِيهَا : ( الْوُقُوفُ ) بِعَرَفَةَ لِخَبَرِ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } ( وَ ) ثَالِثُهَا : ( الطَّوَافُ ) بِالْكَعْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالْمُرَادُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ ( وَ ) رَابِعُهَا : ( السَّعْيُ ) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي السَّعْيِ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } ( وَ ) خَامِسُهَا : ( الْحَلْقُ ) أَوْ التَّقْصِيرُ ( إذَا جَعَلْنَاهُ نُسُكًا ) وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ لِتَوَقُّفِ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ جَبْرِ تَرْكِهِ بِدَمٍ كَالطَّوَافِ ( وَ ) سَادِسُهَا : ( التَّرْتِيبُ ) فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ كَمَا بَحَثَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَإِنْ عَدَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ شَرْطًا بِأَنْ يُقَدِّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى الْجَمِيعِ وَيُؤَخِّرَ السَّعْيَ عَنْ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومٍ وَيُقَدِّمَ الْوُقُوفَ عَلَى طَوَافِ الرُّكْنِ وَالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ لِلِاتِّبَاعِ مَعَ خَبَرِ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } ( وَلَا تُجْبَرُ ) هَذِهِ الْأَرْكَانُ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا ( بِدَمٍ ) بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا .
وَأَمَّا وَاجِبَاتُهُ فَخَمْسَةٌ أَيْضًا الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَالرَّمْيُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَالْمَبِيتُ لَيَالِيَ مِنًى ، وَاجْتِنَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ .
وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَعَلَى هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَهَذِهِ تُجْبَرُ بِدَمٍ ، وَتُسَمَّى أَبْعَاضًا وَغَيْرُهَا يُسَمَّى هَيْئَةً ( وَمَا سِوَى الْوُقُوفِ )

مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ ( أَرْكَانٌ فِي الْعُمْرَةِ أَيْضًا ) لِشُمُولِ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ لَهَا ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِهَا فَيَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرُ عَنْ سَعْيِهَا ، وَوَاجِبُ الْعُمْرَةِ شَيْئَانِ : الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَاجْتِنَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ .

وَيُؤَدَّى النُّسُكَانِ عَلَى أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا الْإِفْرَادُ بِأَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ : كَإِحْرَامِ الْمَكِّيِّ وَيَأْتِيَ بِعَمَلِهَا .
الثَّانِي الْقِرَانُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ فَيَحْصُلَانِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ بِحَجٍّ قَبْلَ الطَّوَافِ كَانَ قَارِنًا .

( وَيُؤَدَّى النُّسُكَانِ عَلَى ) ثَلَاثَةِ ( أَوْجُهٍ ) فَقَطْ ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ إنْ كَانَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا فَالْإِفْرَادُ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَالتَّمَتُّعُ ، أَوْ بِهِمَا مَعًا فَهُوَ الْقِرَانُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَشُرُوطٍ لِبَعْضِهَا سَتَأْتِي ، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِنُسُكٍ عَلَى حَدَثِهِ لَيْسَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ النُّسُكَانِ بِالتَّثْنِيَةِ .
أَمَّا أَدَاءُ النُّسُكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَعَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ ، وَأَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ فَقَطْ أَوْ عُمْرَةٍ فَقَطْ ، وَقَدْ سَبَقَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ( أَحَدُهَا الْإِفْرَادُ ) وَالْأَفْضَلُ يَحْصُلُ ( بِأَنْ يَحُجَّ ) أَيْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ وَيَفْرَغُ مِنْهُ ( ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ كَإِحْرَامِ الْمَكِّيِّ ) بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِهَا ( وَيَأْتِيَ بِعَمَلِهَا ) أَمَّا غَيْرُ الْأَفْضَلِ فَلَهُ صُورَتَانِ .
إحْدَاهُمَا : أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فِي سَنَتِهِ ، الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَمِرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِصِدْقِ الْإِفْرَادِ عَلَى هَذَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْإِمَامُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ إلَّا بِمَا قَدَّرْته .
فَإِنَّ الْإِفْرَادَ هُوَ الْأَفْضَلُ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ ( الثَّانِي الْقِرَانُ ) وَالْأَكْمَلُ يَحْصُلُ ( بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا ) مَعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ( مِنْ الْمِيقَاتِ ) لِلْحَجِّ ، وَغَيْرُ الْأَكْمَلِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ، وَإِنْ لَزِمَهُ دَمٌ فَتَقْيِيدُهُ بِالْمِيقَاتِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ لَا لِكَوْنِ الثَّانِي لَا يُسَمَّى قِرَانًا ( وَيَعْمَلَ

عَمَلَ الْحَجِّ ) فَقَطْ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَجِّ أَكْثَرُ ( فَيَحْصُلَانِ ) وَيَدْخُلُ عَمَلُ الْعُمْرَةِ فِي عَمَلِ الْحَجِّ فَيَكْفِيه طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عَنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْقِرَانِ ( وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ) صَحِيحَةٍ ( فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ) أَحْرَمَ ( بِحَجٍّ قَبْلَ ) الشُّرُوعِ فِي ( الطَّوَافِ كَانَ قَارِنًا ) بِإِجْمَاعٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَيَكْفِيه عَمَلُ الْحَجِّ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهَا تَبْكِي ، فَقَالَ مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحِلَّ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا } .
.

وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ فِي الْجَدِيدِ .

تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَكُونُ قَارِنًا ، وَلَيْسَ مُرَادًا .
فَإِنْ الْأَصَحَّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَفِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَصِحُّ : أَيْ وَيَكُونُ قَارِنًا فَكَانَ يَنْبَغِي تَأْخِيرُ الْقَيْدِ فَيَقُولُ : وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ بِحَجٍّ قَبْلَ الطَّوَافِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ قَارِنًا ، وَقَوْلُهُ : قَبْلَ الطَّوَافِ اُحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا طَافَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ شَرَعَ فِيهِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِاتِّصَالِ إحْرَامِهَا بِمَقْصُودِهِ ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا فَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ الْمُقْتَضِي لِنُقْصَانِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إدْخَالُ الْإِحْرَامِ الْمُقْتَضِي لِقُوَّتِهِ ، وَلَوْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ فَفِي صِحَّةِ الْإِدْخَالِ وَجْهَانِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : يَنْبَغِي تَصْحِيحُ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ لَا بَعْضُهُ ، وَكَلَامُهُ يَشْمَلُ مَا لَوْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ فَاسِدًا ، وَلِذَا قُيِّدَتْ الْعُمْرَةُ بِالصَّحِيحَةِ ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا وَيَسْتَمِرُّ ، وَكَلَامُهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ ( وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ ) هُوَ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ( فِي الْجَدِيدِ ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ بِخِلَافِ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا فَيَسْتَفِيدُ بِهِ الْوُقُوفَ وَالرَّمْيَ وَالْمَبِيتَ ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إدْخَالُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ كَفِرَاشِ النِّكَاحِ مَعَ فِرَاشِ الْمِلْكِ لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ جَازَ إدْخَالُهُ عَلَيْهِ دُونَ الْعَكْسِ حَتَّى لَوْ نَكَحَ أُخْتَ أَمَتِهِ جَازَ وَطْؤُهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْقَدِيمُ الْجَوَازُ ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ كَعَكْسِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يَشْرَعْ

فِي أَسْبَابِ تَحَلُّلِهِ .

الثَّالِثُ : التَّمَتُّعُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ مَكَّةَ .
( الثَّالِثُ : التَّمَتُّعُ ) وَيَحْصُلُ ( بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ) فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ( مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ ) أَوْ غَيْرِهِ ( وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ مَكَّةَ ) أَوْ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مِثْلِ مَسَافَتِهِ أَوْ مِيقَاتٍ أَقْرَبَ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ قَوْلَهُ : مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ مَكَّةَ لِلتَّمْثِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ ، وَسُمِّيَ الْآتِي بِذَلِكَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ .

وَأَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ وَبَعْدَ التَّمَتُّعِ الْقِرَانُ ، وَفِي قَوْلٍ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ .

( وَأَفْضَلُهَا ) أَيْ أَوْجُهِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ الْمُتَقَدِّمَةِ ( الْإِفْرَادُ ) إنْ اعْتَمَرَ عَامَهُ ، فَلَوْ أُخِّرَتْ عَنْهُ الْعُمْرَةُ كَانَ الْإِفْرَادُ مَفْضُولًا ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ مَكْرُوهٌ ( وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ وَبَعْدَ التَّمَتُّعِ الْقِرَانُ ) لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَأْتِي بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُنْشِئُ لَهُمَا مِيقَاتَيْنِ ، وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِعَمَلٍ وَاحِدٍ مِنْ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ ( وَفِي قَوْلٍ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ ) وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي إحْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
وَرَوَيَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ ، وَبِأَنَّ جَابِرًا مِنْهُمْ أَقْدَمُ صُحْبَةً وَأَشَدُّ عِنَايَةً بِضَبْطِ الْمَنَاسِكِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَبِأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ يَجِبُ فِيهِمَا الدَّمُ ، بِخِلَافِ الْإِفْرَادِ ، وَالْجَبْرُ دَلِيلُ النُّقْصَانِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالصَّوَابُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَخُصَّ بِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ ، وَبِهَذَا يَسْهُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْإِفْرَادِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَوَّلُ الْإِحْرَامِ ، وَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْقِرَانِ آخِرُهُ ، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ ، وَقَدْ انْتَفَعَ بِالِاكْتِفَاءِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عُمْرَةً مُفْرَدَةً ، وَلَوْ جُعِلَتْ حَجَّتُهُ مُفْرَدَةً لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَمِرٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ، فَانْتَظَمَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَجِّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، فَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَحْرَمُوا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، أَوْ بِحَجٍّ وَمَعَهُمْ هَدْيٌ ، وَقِسْمٌ بِعُمْرَةٍ فَفَرَغُوا مِنْهَا ثُمَّ أَحْرَمُوا بِحَجٍّ ، وَقِسْمٌ بِحَجٍّ وَلَا هَدْيَ مَعَهُمْ ، فَأَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْلِبُوهُ عُمْرَةً وَهُوَ مَعْنَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَمَرَهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ مُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ إيقَاعَهَا فِيهِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ كَذَلِكَ فَانْتَظَمَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إحْرَامِهِمْ أَيْضًا ، فَمَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَارِنِينَ أَوْ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مُفْرِدِينَ أَرَادَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ الَّذِي عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّ الْبَقِيَّةَ مِثْلُهُمْ .
وَأَمَّا تَفْضِيلُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى الْقَارِنِ فَلِأَنَّ أَفْعَالَ النُّسُكَيْنِ فِيهِ أَكْمَلُ كَمَا مَرَّ وَقَوْلُنَا : وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ : أَيْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ فَقَطْ ثُمَّ الْحَجُّ فَقَطْ أَفْضَلُ مِنْ الْعُمْرَةِ فَقَطْ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ وَاعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مَعَ زِيَادَةِ عُمْرَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ إذَا رَجَا الْمَاءَ فَصَلَّى أَوَّلًا بِالتَّيَمُّمِ عَلَى قَصْدِ إعَادَتِهَا بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ ، وَهَكَذَا إذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ الْحَجِّ أَيْضًا خُصُوصًا إذَا كَانَ مَكِّيًّا وَعَادَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَإِنَّ فَوَاتَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَإِنَّمَا سَقَطَ الدَّمُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ إتْيَانِهِ

بِنُسُكَيْنِ فَقَطْ ، وَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ قَدْ أَتَى بِنُسُكٍ ثَالِثٍ ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصُّورَةَ الْمُتَكَلَّمَ عَلَيْهَا .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَبْرَ دَلِيلُ النُّقْصَانِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ وُجُوبُ الدَّمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النُّسُكَ الثَّالِثَ جَبَرَ ذَلِكَ النَّقْصَ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي إفْرَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْكَرَاهَةَ بِضَعْفِهِ عَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ ، وَقَالُوا لَوْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَجْبُرُ مَا يَفُوتُهُ .

وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَحَاضِرُوهُ مَنْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ .
قُلْت : الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَنْ تَقَعَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ سَنَتِهِ ، وَأَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ .

( وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَالْمَعْنَى فِي إيجَابِ الدَّمِ كَوْنُهُ رَبِحَ مِيقَاتًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ لَكَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ .
وَإِذَا تَمَتَّعَ اسْتَغْنَى عَنْ الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ ، وَالْوَاجِبُ شَاةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَيَقُومُ مَقَامَهَا سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ ، وَكَذَا جَمِيعُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ إلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قَوْله تَعَالَى " ذَلِكَ " أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ فَقْدِهِ .
وَقَوْلُهُ " لِمَنْ " مَعْنَاهُ عَلَى مَنْ ( وَحَاضِرُوهُ مَنْ ) مَسَاكِنِهِمْ ( دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ الْحَرَمُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَمَكَّةُ عِنْدَ آخَرِينَ ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَكَّةَ أَقَلُّ تَجَاوُزًا مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ ( قُلْت : الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ الْحَرَمُ إلَّا قَوْله تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَهُوَ نَفْسُ الْكَعْبَةِ فَإِلْحَاقُ هَذَا بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ أَوْلَى ، وَالْقَرِيبُ مِنْ الشَّيْءِ يُقَالُ إنَّهُ حَاضِرُهُ .
قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُ ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْبَحُوا مِيقَاتًا أَيْ عَامًّا لِأَهْلِهِ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ فَلَا يُشْكِلُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَوْ

الْحَرَمِ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إذَا عَنَّ لَهُ النُّسُكُ ثُمَّ فَاتَهُ وَإِنْ رَبِحَ مِيقَاتًا بِتَمَتُّعِهِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِيقَاتًا عَامًّا لِأَهْلِهِ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ ، وَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ كَالْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ فِي هَذَا وَلَمْ يَجْعَلُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسَاءَةِ ، وَهُوَ إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ الْحَرَمِ وَجَاوَزَهُ وَأَحْرَمَ كَالْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ كَالْمَكِّيِّ إذَا أَحْرَمَ مِنْ سَائِرِ بِقَاعِ مَكَّةَ بَلْ أَلْزَمُوهُ الدَّمَ وَجَعَلُوهُ مُسِيئًا كَالْآفَاقِيِّ ؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ مَكَّةَ مِمَّا ذُكِرَ تَابِعٌ لَهَا وَالتَّابِعُ لَا يُعْطَى حُكْمَ الْمَتْبُوعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلِأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَهُنَا لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِعَدَمِ إسَاءَتِهِ بِعَدَمِ عَوْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَاضِرِينَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ دَمٌ لِإِسَاءَتِهِ بِمُجَاوَزَتِهِ مَا عُيِّنَ لَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ { وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَهُ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } عَلَى أَنَّ الْمَسْكَنَ الْمَذْكُورَ كَالْقَرْيَةِ بِمَنْزِلَةِ مَكَّةَ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ مِنْ سَائِرِ بِقَاعِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ مُجَاوَزَتِهِ بِلَا إحْرَامٍ لِمُرِيدِ النُّسُكِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ مَسْكَنَانِ : أَحَدُهُمَا بَعِيدٌ وَالْآخَرُ قَرِيبٌ اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ كَثْرَةُ إقَامَتِهِ بِأَحَدِهِمَا ، فَإِنْ اسْتَوَتْ إقَامَتُهُ بِهِمَا اُعْتُبِرَ بِوُجُودِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ بِأَحَدِهِمَا وَمَالُهُ بِالْآخَرِ اُعْتُبِرَ بِمَكَانِ الْأَهْلِ ، ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ .
قَالَ : وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ تَحْتَ حِجْرِهِ دُونَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَةِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ اُعْتُبِرَ بِعَزْمِ الرُّجُوعِ إلَى أَحَدِهِمَا لِلْإِقَامَةِ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ اُعْتُبِرَ بِإِنْشَاءِ مَا خَرَجَ مِنْهُ ، وَلِلْغَرِيبِ الْمُسْتَوْطِنِ فِي

الْحَرَمِ أَوْ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ آفَاقِيًّا تَمَتَّعَ نَاوِيًا الِاسْتِيطَانَ بِمَكَّةَ وَلَوْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيطَانَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ( وَأَنْ تَقَعَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ سَنَتِهِ ) أَيْ الْحَجِّ فَلَوْ وَقَعَتْ قَبْلَ أَشْهُرِهِ وَأَتَمَّهَا وَلَوْ فِي أَشْهُرِهِ ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَأَشْبَهَ الْمُفْرِدَ ، وَأَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا " ( وَأَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ ) الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ مِيقَاتٍ آخَرَ وَلَوْ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتُ عُمْرَتِهِ أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَةِ مِيقَاتِهَا ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الدَّمِ وَهُوَ رِبْحُ الْمِيقَاتِ قَدْ زَالَ بِعَوْدِهِ إلَيْهِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُحْرِمًا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ وَلَا وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَا بَقَاؤُهُ حَيًّا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُتَمَتِّعُ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ خَارِجَهَا وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَا إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَلَا إلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ دَمٌ أَيْضًا لِلْإِسَاءَةِ الْحَاصِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ مَعَ عَدَمِ عَوْدِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ .
وَهَلْ تُعْتَبَرُ فِي تَسْمِيَتِهِ تَمَتُّعًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : نَعَمْ فَلَوْ فَاتَ شَرْطًا

كَانَ مُفْرِدًا وَأَشْهَرُهُمَا لَا تُعْتَبَرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنْ الْمَكِّيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .

وَوَقْتُ وُجُوبِ الدَّمِ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ، وَالْأَفْضَلُ ذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ .
( وَوَقْتُ وُجُوبِ الدَّمِ ) عَلَيْهِ ( إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ .
وَقَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْأَصَحُّ جَوَازُ ذَبْحِهِ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ إذَا أَحْرَمَ بِهَا وَلَا يَتَأَقَّتُ ذَبْحُهُ بِوَقْتٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ ( وَ ) لَكِنَّ ( الْأَفْضَلَ ذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ ) لِلِاتِّبَاعِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَهُ ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ ) حِسًّا بِأَنْ فَقَدَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ أَوْ إلَى ثَمَنِهِ أَوْ غَابَ عَنْهُ مَالٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ( فِي مَوْضِعِهِ ) وَهُوَ الْحَرَمُ سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ أَمْ غَيْرِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِالْحَرَمِ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَخْتَصُّ ( صَامَ ) بَدَلَهُ وُجُوبًا ( عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أَيْ الْهَدْيَ { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أَيْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ ، وَالدَّمَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ .

تُسْتَحَبُّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ الثَّلَاثَةِ ، وَكَذَا السَّبْعَةُ ، وَلَوْ فَاتَتْهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَجِّ ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ .

تَنْبِيهٌ : قَدْ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ عَدِمَ الْهَدْيَ فِي الْحَالِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُهُ قَبْلَ فَرَاغِ الصَّوْمِ فَإِنَّ لَهُ الصَّوْمَ عَلَى الْأَظْهَرِ مَعَ أَنَّهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ رَجَا وُجُودَهُ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ وَفِي اسْتِحْبَابِ انْتِظَارِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّيَمُّمِ وَلَكِنْ ( تُسْتَحَبُّ ) لَهُ ( قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ) لِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ فِطْرُهُ فَيَحْرُمُ قَبْلَ سَادِسِ ذِي الْحَجَّةِ وَيَصُومُهُ وَتَالِيَيْهِ ، وَإِذَا أَحْرَمَ فِي زَمَنٍ يَسَعُ الثَّلَاثَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهَا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَثِمَ وَصَارَتْ قَضَاءً عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ تَأَخَّرَ الطَّوَافُ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ نَادِرٌ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا مِنْ الْآيَةِ .
وَلَيْسَ السَّفَرُ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ صَوْمِهَا لِأَنَّ صَوْمَهَا مُتَعَيِّنٌ إيقَاعُهُ فِي الْحَجِّ بِالنَّصِّ ؛ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِيهِ بِخِلَافِ رَمَضَانَ ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَكَذَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي الْجَدِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ وَإِذَا فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الْإِحْرَامِ بِزَمَنٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحُجَّ فِي هَذَا الْعَامِ ، وَيُسَنُّ لِلْمُوسِرِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ ثَامِنُ ذِي الْحَجَّةِ لِلِاتِّبَاعِ وَلِلْأَمْرِ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِتَرَوِّيهِمْ فِيهِ الْمَاءَ ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النُّقْلَةِ لِانْتِقَالِهِمْ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ( وَ ) صَامَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ ( سَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى ) وَطَنِهِ ، ( وَأَهْلِهِ فِي الْأَظْهَرِ ) إنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ }

[ الْبَقَرَةَ ] ، { وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي الطَّرِيقِ لِذَلِكَ .
فَإِنْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ صَامَهَا بِهَا كَمَا قَالَهُ فِي الْبَحْرِ ، وَالثَّانِي : إذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ فَكَأَنَّهُ بِالْفَرَاغِ رَجَعَ عَمَّا كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ ( وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ ) الْأَيَّامِ ( الثَّلَاثَةِ ) أَدَاءً كَانَتْ أَوْ قَضَاءً ( وَكَذَا السَّبْعَةُ ) بِالرَّفْعِ بِخَطِّهِ يُنْدَبُ تَتَابُعُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، لِأَنَّ فِيهِ مُبَادَرَةً لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافٍ أَوْجَبَهُ .
نَعَمْ إنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ سَادِسَ ذِي الْحَجَّةِ لَزِمَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ مُتَتَابِعَةً لِضِيقِ الْوَقْتِ لَا لِلتَّتَابُعِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ فَاتَتْهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَجِّ ) بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ( فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ) قَضَاؤُهَا لِمَا مَرَّ وَ ( أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ ) بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، وَمُدَّةُ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ كَمَا فِي الْأَدَاءِ ، فَلَوْ صَامَ عَشَرَةً وَلَاءً حَصَلَتْ الثَّلَاثَةُ ، وَلَا يَعْتَدُّ بِالْبَقِيَّةِ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيقُ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ التَّفْرِيقِ لَوْلَا مَا قَدَّرْته وَلَوْ بِيَوْمٍ ، وَهُوَ قَوْلٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ .

وَعَلَى الْقَارِنِ دَمٌ كَدَمِ التَّمَتُّعِ .
قُلْت : بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَعَلَى الْقَارِنِ دَمٌ ) لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَفِعْلُ الْمُتَمَتِّعِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِ الْقَارِنِ ، فَإِذَا لَزِمَهُ الدَّمُ فَالْقَارِنُ أَوْلَى ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ يَوْمَ النَّحْرِ } ، قَالَتْ وَكُنَّ قَارِنَاتٍ ( كَدَمِ التَّمَتُّعِ ) فِي أَحْكَامِهِ السَّابِقَةِ جِنْسًا وَسِنًّا وَبَدَلًا عَنْ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ ( قُلْت ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ) الْقَارِنُ ( مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) وَسَبَقَ بَيَانُ حَاضِرِيهِ وَأَنْ لَا يَعُودَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنْ عَادَ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ فَرْعٌ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَدَمُ التَّمَتُّعِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْحَاضِرِ فَفَرْعُهُ كَذَلِكَ ، وَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ إيضَاحٌ وَإِلَّا فَقَوْلُهُ : كَدَمِ التَّمَتُّعِ يُغْنِي عَنْهُ وَإِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا قَدَّرْته .

خَاتِمَةٌ لَوْ اسْتَأْجَرَ اثْنَانِ شَخْصًا أَحَدُهُمَا لِحَجٍّ وَالْآخَرُ لِعُمْرَةٍ فَتَمَتَّعَ عَنْهُمَا أَوْ اعْتَمَرَ أَجِيرُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ .
فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَتَّعَ بِالْإِذْنِ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي الْأُولَى وَمِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْآذِنَيْنِ أَوْ الْآذِنِ وَالْأَجِيرِ نِصْفُ الدَّمِ إنْ أَيْسَرَا ، وَإِنْ أَعْسَرَا قَالَ شَيْخُنَا بَحَثْنَا .
أَوْ أَحَدِهِمَا فَالصَّوْمُ عَلَى الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ فِي الْحَجِّ ، أَوْ تَمَتَّعَ بِلَا إذْنٍ مِمَّنْ ذُكِرَ لَزِمَهُ دَمَانِ : دَمٌ لِلتَّمَتُّعِ وَدَمٌ لِأَجْلِ الْإِسَاءَةِ بِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ ، وَلَوْ وَجَدَ فَاقِدُ الْهَدْيِ الْهَدْيَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ لَزِمَهُ الْهَدْيُ ، لَا إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ بَلْ يُسَنُّ لَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ أَوْ الْقَارِنُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ أَوْ يَصُومُ لِكَوْنِهِ مُعْسِرًا بِذَلِكَ فَكَرَمَضَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ وَيُصَامُ أَوْ يُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدًّا إنْ تَمَكَّنَ .

بَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ أَحَدُهَا : سَتْرُ بَعْضِ رَأْسِ الرَّجُلِ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا إلَّا لِحَاجَةٍ ، وَلُبْسُ الْمَخِيطِ أَوْ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَعْقُودِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ، وَوَجْهُ الْمَرْأَةِ كَرَأْسِهِ وَلَهَا لُبْسُ الْمَخِيطِ إلَّا الْقُفَّازَ فِي الْأَظْهَرِ .

أَكْثَرُ بَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ أَيْ الْمُحَرَّمَاتِ بِهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا يَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ } زَادَ الْبُخَارِيُّ ، " وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ " وَكَخَبَرِ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْأَقْبِيَةِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ } .
فَإِنْ قِيلَ : السُّؤَالُ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ عَمَّا يُلْبَسُ ، وَأُجِيبَ بِمَا لَا يُلْبَسُ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا لَا يُلْبَسُ مَحْصُورٌ بِخِلَافِ مَا يُلْبَسُ إذْ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي السُّؤَالُ عَمَّا لَا يُلْبَسُ ، وَبِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجَوَابِ مَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ صَرِيحًا ، وَهِيَ أُمُورٌ .
قَالَ فِي الرَّوْنَقِ وَاللُّبَابِ : إنَّ مَجْمُوعَهَا عِشْرُونَ شَيْئًا ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ فِي التَّدْرِيبِ ، وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ إنَّهَا عَشَرَةٌ أَيْ وَالْبَاقِيَةُ مُتَدَاخِلَةٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ بَالَغَ فِي اخْتِصَارِ أَحْكَامِ الْحَجِّ لَا سِيَّمَا هَذَا الْبَابُ وَأَتَى فِيهِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَهُ ، وَالْمُحَرَّرُ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ : يَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ أُمُورٌ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا ا هـ .
وَالْمُصَنِّفُ عَدَّهَا سَبْعَةً فَقَالَ ( أَحَدُهَا سَتْرُ بَعْضِ رَأْسِ الرَّجُلِ ) وَلَوْ الْبَيَاضَ الَّذِي وَرَاءَ الْأُذُنِ ، سَوَاءٌ أَسَتَرَ الْبَعْضَ الْآخَرَ

أَمْ لَا ( بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا ) عُرْفًا مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، كَالْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَالْخِرْقَةِ وَكَذَا الطِّينُ وَالْحِنَّاءُ الثَّخِينَيْنِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ عَنْ بَعِيرِهِ مَيِّتًا { لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } بِخِلَافِ مَا لَا يُعَدُّ سَاتِرًا كَاسْتِظْلَالٍ بِمَحْمَلٍ وَإِنْ مَسَّهُ وَكَحَمْلِ قُفَّةٍ أَوْ عِدْلٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ سَتْرٍ بِذَلِكَ فَإِنْ قَصَدَ بِحَمْلِ الْقُفَّةِ وَنَحْوِهَا السِّتْرَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ كَانْغِمَاسِهِ فِي مَاءٍ وَلَوْ كَدِرًا وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِكَفِّهِ أَوْ كَفِّ غَيْرِهِ وَشَدِّهِ بِخَيْطٍ ، وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِثَوْبٍ تَبْدُو الْبَشَرَةُ مِنْ وَرَائِهِ ، فَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ إلْحَاقُهُ بِوَضْعِ الزِّنْبِيلِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاتِرًا هُنَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ( إلَّا ) سَتْرَ بَعْضِ رَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ كُلِّهِ ( لِحَاجَةٍ ) مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مُدَاوَاةٍ كَأَنْ جُرِحَ رَأْسُهُ فَشَدَّ عَلَيْهِ خِرْقَةً فَيَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجَّ ] لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ بِسَبَبِ الْأَذَى تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ : إلَّا لِحَاجَةِ مُدَاوَاةٍ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ وَأَحْصَرُ ( وَ ) يَحْرُمُ عَلَيْهِ ( لُبْسُ الْمَخِيطِ ) كَقَمِيصٍ وَقَبَاءٍ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ وَخَرِيطَةٍ لِخِضَابِ لِحْيَتِهِ وَقُفَّازٍ وَسَرَاوِيلَ وَتُبَّانٍ وَخُفٍّ ( أَوْ الْمَنْسُوجِ ) كَدِرْعٍ ( أَوْ الْمَعْقُودِ ) كَجُبَّةِ لَبْدٍ ( فِي سَائِرِ ) أَيْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ ( بَدَنِهِ ) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي اللُّبْسِ الْعَادَةُ فِي كُلِّ مَلْبُوسٍ إذْ بِهِ يَحْصُلُ التَّرَفُّهُ فَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ

الْقَبَاءِ أَوْ الْتَحَفَ بِهِمَا أَوْ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَلَا فِدْيَةَ كَمَا لَوْ اتَّزَرَ بِإِزَارٍ لَفَقَهُ مِنْ رِقَاعٍ أَوْ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ سَاقَيْ الْخُفِّ ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَى نَفْسِهِ قَبَاءً أَوْ فَرْجِيَّةً وَهُوَ مُضْطَجِعٌ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسِكْ عَلَيْهِ إلَّا بِمَزِيدِ أَمْرٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ ، وَلَوْ زَرَّ الْإِزَارَ أَوْ خَاطَهُ حَرُمَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ لَا رِدَاءَهُ ، وَأَنْ يَشُدَّ عَلَيْهِ خَيْطًا لِيَثْبُتَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِثْلَ الْحُجْزَةِ وَيُدْخِلَ فِيهِ التِّكَّةَ إحْكَامًا ، وَلَهُ تَقْلِيدُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَشَدِّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ عَلَى وَسَطِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ يَلُفَّ بِوَسَطِهِ عِمَامَةً وَلَا يَعْقِدُهَا ، وَأَنْ يَلْبَسَ الْخَاتَمَ وَأَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّ قَمِيصٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ ، وَأَنْ يَغْرِزَ طَرَفَ رِدَائِهِ فِي إزَارِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ رِدَاءَهُ وَلَا أَنْ يُخَلِّلَهُ بِنَحْوِ مِسَلَّةٍ .
وَلَا يَرْبِطُ طَرَفَهُ بِطَرَفِهِ الْآخَرِ بِخَيْطٍ ، وَلَوْ اتَّخَذَ لَهُ شَرَجًا وَعُرًى وَرَبَطَ الشَّرَجَ بِالْعُرَى حَرُمَ عَلَيْهِ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ .
فَائِدَةٌ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ عَنْ عَادَتِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ مُذَكِّرًا لَهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ فَيَشْتَغِلَ بِهَا .
تَنْبِيهٌ : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَائِرٍ فِي آخِرِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى بَاقِي أَوْ جَمِيعٍ ؟ قِيلَ : وَلَا يَصِحُّ هُنَا أَنْ يُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى بَاقِي فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ حُكْمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَنِ حَتَّى يَكُونَ هَذَا حُكْمَ بَاقِيهِ فَإِنَّ الرَّأْسَ قَسِيمُ الْبَدَنِ لَا بَعْضُهُ ؛ وَلِذَلِكَ قُدِّرَتْ جَمِيعٌ فِي كَلَامِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ ، وَخَرِيطَةُ اللِّحْيَةِ لَا تَدْخُلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْبَدَنِ وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ

أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَجْهَ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ سَتْرُهُ عَلَى الرَّجُلِ عِنْدَنَا .
قَالَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ رُوِيَ فِعْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَكِنْ يَبْقَى شَيْئًا لِيَسْتَوْعِبَ الرَّأْسَ بِالْكَشْفِ ( إلَّا إذَا ) كَانَ لُبْسُهُ لِحَاجَةٍ كَحَرٍّ وَبَرْدٍ فَيَجُوزُ مَعَ الْفِدْيَةِ ، أَوْ ( لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ) أَيْ الْمَخِيطِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَلَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الِاتِّزَارُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الْإِزَارِ ، وَلُبْسُ مَدَاسٍ - أَيْ مُكَعَّبٍ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى بالسُّرْمُوزَةِ وَالزُّرْبُولِ الَّذِي لَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ ، وَكَذَا لُبْسُ خُفٍّ إنْ قَطَعَ أَسْفَلَ كَعْبِهِ وَإِنْ سَتَرَ ظَهْرَ الْقَدَمَيْنِ فِيهِمَا بِبَاقِيهِمَا عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلَيْنِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ التَّاسُومَةُ ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْقَبْقَابُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَخِيطٍ ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ قَطْعَهُ فِيمَا جَاوَزَ الْعَوْرَةَ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، وَعَلَّلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ قَطْعِ الْخُفِّ عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلِ مُشْكِلٌ ، لَكِنْ وَرَدَ النَّصُّ بِذَلِكَ .
نَعَمْ يُتَّجَهُ عَدَمُ جَوَازِ قَطْعِ الْخُفِّ إذَا وُجِدَ الْمُكَعَّبُ ، وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ وَالْمَدَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ أَمَّا الْمَدَاسُ الْمَعْرُوفُ الْآنَ ، فَهَذَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحِيطًا بِالْقَدَمِ ؟ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ يَحْرُمُ لُبْسُ الْمَدَاسِ ، الْمُرَادُ بِهِ الْمُكَعَّبُ كَمَا مَرَّ ، وَإِذَا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ لِلْحَاجَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْإِزَارَ أَوْ الْخُفَّ ثُمَّ وَجَدَ النَّعْلَ لَزِمَهُ نَزْعُهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِالسَّرَاوِيلِ إزَارًا مُتَسَاوِيَ الْقِيمَةِ ، فَالصَّوَابُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وُجُوبُهُ إنْ لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ تَبْدُو فِيهِ عَوْرَتُهُ

وَإِلَّا فَلَا .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللُّبْسُ لِحَاجَةِ الْبَرْدِ وَالْمُدَاوَاةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا إذْ الْمَنْقُولُ فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا الْجَوَازُ ، لَكِنْ مَعَ الْفِدْيَةِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، فَلَوْ عَبَّرَ بِالْحَاجَةِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّأْسِ لَكَانَ أَوْلَى ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ يَخْتَصُّ بِالْمُكَلَّفِ ، وَيَأْثَمُ الْوَلِيُّ إذْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ طُولِ زَمَنِ اللُّبْسِ وَقِصَرِهِ ( وَوَجْهُ الْمَرْأَةِ ) وَلَوْ أَمَةً كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( كَرَأْسِهِ ) أَيْ الرَّجُلِ فِي حُرْمَةِ السِّتْرِ لِوَجْهِهَا أَوْ بَعْضِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ فَيَجُوزُ مَعَ الْفِدْيَةِ ، وَعَلَى الْحُرَّةِ أَنْ تَسْتُرَ مِنْهُ مَا لَا يَتَأَتَّى سَتْرُ جَمِيعِ رَأْسِهَا إلَّا بِهِ احْتِيَاطًا لِلرَّأْسِ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ سَتْرِهِ إلَّا بِسَتْرِ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِمَّا يَلِيهِ مِنْ الْوَجْهِ ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى سَتْرِهِ بِكَمَالِهِ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْوَجْهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تَسْتُرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ الْمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ فِي إحْرَامِ الْمَرْأَةِ وَلُبْسِهَا لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ : وَشَذَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فَحَكَى وَجْهًا أَنَّ الْأَمَةَ كَالرَّجُلِ وَوَجْهَيْنِ فِي الْمُبَعَّضَةِ هَلْ هِيَ كَالْأَمَةِ أَوْ كَالْحُرَّةِ ا هـ .
فَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ سَتْرَ وَجْهِهَا عَنْ النَّاسِ أَرْخَتْ عَلَيْهِ مَا يَسْتُرُهُ بِنَحْوِ ثَوْبٍ مُتَجَافٍ عَنْهُ بِنَحْوِ خَشَبَةٍ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ عَلَى الْبَشَرَةِ وَسَوَاءٌ أَفَعَلَتْهُ لِحَاجَةٍ كَحَرٍّ وَبَرْدٍ أَمْ لَا ، كَمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ سَتْرُ رَأْسِهِ بِنَحْوِ مِظَلَّةٍ ، فَلَوْ وَقَعَتْ الْخَشَبَةُ مَثَلًا فَأَصَابَ الثَّوْبُ وَجْهَهَا بِلَا

اخْتِيَارٍ مِنْهَا فَرَفَعَتْهُ فَوْرًا لَمْ تَلْزَمْهَا الْفِدْيَةُ وَإِلَّا لَزِمَتْهَا مَعَ الْإِثْمِ ( وَلَهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ ( لُبْسُ الْمَخِيطِ ) وَغَيْرِهِ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ ( إلَّا الْقُفَّازَ ) فَلَيْسَ لَهَا سَتْرُ الْكَفَّيْنِ وَلَا أَحَدِهِمَا بِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَلِأَنَّ الْقُفَّازَ مَلْبُوسُ عُضْوٍ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ خُفَّ الرَّجُلِ وَخَرِيطَةَ لِحْيَتِهِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُمَا ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بَنَاتِهِ بِلُبْسِهِمَا فِي الْإِحْرَامِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالْقُفَّازُ : شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ يُحْشَى بِقُطْنٍ وَيَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ تُزَرُّ عَلَى السَّاعِدَيْنِ مِنْ الْبَرْدِ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي يَدَيْهَا ، وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ مَا يَشْمَلُ الْمَحْشُوَّ وَغَيْرَهُ ، وَيَجُوزُ لَهَا سَتْرُ الْكَفَّيْنِ بِغَيْرِ الْقُفَّازِ كَكُمٍّ وَخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَيْهِمَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ ، سَوَاءٌ أَخَضَبَتْهُمَا أَمْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْقُفَّازَيْنِ عَلَيْهَا مَا مَرَّ آنِفًا ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ سَتْرُ وَجْهِهِ مَعَ رَأْسِهِ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ سَتْرُ وَجْهِهِ مَعَ كَشْفِ رَأْسِهِ خِلَافًا لِمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّا لَا نُوجِبُهَا بِالشَّكِّ ، نَعَمْ لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْأَجَانِبِ جَازَ لَهُ كَشْفُ رَأْسِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَسْتَتِرَ بِالْمَخِيطِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا وَيُمْكِنُهُ سَتْرُهُ بِغَيْرِهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : لَا خِلَافَ أَنَّا نَأْمُرُهُ بِالسَّتْرِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ كَمَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَتِرَ فِي صَلَاتِهِ كَالْمَرْأَةِ ، وَفِي أَحْكَامِ الْخَنَاثَى لِابْنِ الْمُسْلِمِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَ رَأْسَهُ وَأَنْ يَكْشِفَ وَجْهَهُ

وَأَنْ يَسْتُرَ بَدَنَهُ إلَّا بِالْمَخِيطِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ كَالْإِسْنَوِيِّ وَمَا قَالَهُ حَسَنٌ ا هـ .
وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمَجْمُوعِ .

( الثَّانِي ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ ) لِلْمُحْرِمِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَخْشَمَ بِمَا يُقْصَدُ مِنْهُ رَائِحَتَهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْسِ وَهُوَ أَشْهُرُ طِيبٍ بِبِلَادِ الْيَمَنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَإِنْ كَانَ يُطْلَبُ لِلصَّبْغِ وَالتَّدَاوِي أَيْضًا ( فِي ) مَلْبُوسِهِ مِنْ ( ثَوْبِهِ ) أَوْ غَيْرِهِ كَخُفٍّ أَوْ نَعْلٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ { وَلَا يَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ } وَالْوَرْسُ طِيبٌ .
وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَلْبُوسِهِ بَدَلَ ثَوْبِهِ لَكَانَ أَوْلَى وَاسْتَغْنَى عَمَّا قَدَّرْته ( أَوْ ) فِي ( بَدَنِهِ ) قِيَاسًا عَلَى ثَوْبِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَوْ بَاطِنًا بِأَكْلٍ أَوْ اسْتِعَاطٍ أَوْ احْتِقَانٍ فَيَجِبُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةُ وَبَعْضُ الْبَدَنِ كَكُلِّهِ وَأَدْرَجَ فِي الطِّيبِ مَا مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ رَائِحَتُهُ الطَّيِّبَةُ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسْمِينَ وَالْبَنَفْسَجِ وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى الطِّيبِ مِنْ الدُّهْنِ كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَاسْتِعْمَالُهُ أَنْ يُلْصِقَ الطِّيبَ بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْذُونِهِ ، فَلَوْ احْتَوَى عَلَى مِجْمَرَةٍ أَوْ حَمَلَ فَأْرَةً مَشْقُوقَةً أَوْ مَفْتُوحَةً أَوْ جَلَسَ أَوْ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ أَرْضٍ مُطَيَّبَةٍ أَوْ شَدَّ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ طِيبًا أَوْ جَعَلَهُ فِي جَيْبِهِ ، أَوْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ الْحُلِيَّ الْمَحْشُوَّ بِهِ حَرُمَ وَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَطْيِيبٌ ، وَلَوْ وَطِئَ بِنَعْلِهِ طِيبًا حَرُمَ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالتَّطَيُّبُ بِالْوَرْدِ أَنْ يَشُمَّهُ مَعَ اتِّصَالِهِ بِأَنْفِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ ، وَالتَّطَيُّبُ بِمَائِهِ أَنْ يَمَسَّهُ كَالْعَادَةِ بِأَنْ يَصُبَّهُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ فَلَا يَكْفِي شَمُّهُ ، وَلَوْ حَمَلَ مِسْكًا وَنَحْوَهُ فِي خِرْقَةٍ مَشْدُودَةٍ أَوْ فَأْرَةٍ غَيْرِ مَشْقُوقَةٍ لَمْ

يَضُرَّ وَإِنْ شَمَّ الرِّيحَ لِوُجُودِ الْحَائِلِ .
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الطِّيبَ فِي الْمُخَالِطِ لَهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ رِيحٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ كَأَنْ اُسْتُعْمِلَ فِي دَوَاءٍ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَكْلُهُ وَلَا فِدْيَةَ وَإِنْ بَقِيَ الرِّيحُ فِيمَا اسْتَهْلَكَ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَدَى ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ مِنْ الطِّيبِ الرِّيحُ وَكَذَا لَوْ بَقِيَ الطَّعْمُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى بَقَاءِ الطِّيبِ ، لَا إنْ بَقِيَ اللَّوْنُ فَقَطْ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الزِّينَةُ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأَكْلُ أَوْ التَّدَاوِي وَإِنْ كَانَ لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ كَالتُّفَّاحِ وَالْأُتْرُجِّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ عَلَى الْأَفْصَحِ وَيُقَالُ الْأُتْرُنْجُ وَالْقُرُنْفُلُ وَالدَّارَصِينِيُّ وَالسُّنْبُلُ وَسَائِرُ الْأَبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ كَالْمُصْطَكَى لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ فِدْيَةٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْأَكْلُ أَوْ التَّدَاوِي ، وَكَذَا مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ كَالشِّيحِ وَالْإِذْخِرِ وَالْخَزَامَى ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ طِيبًا ، وَلَا فِدْيَةَ بِالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ وَإِنْ كَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ لَوْنُهُ وَلَوْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا كَمِسْكٍ وَكَافُورٍ فَلَزِقَ بِهِ رِيحُهُ لَا عَيْنُهُ أَوْ حَمَلَ الْعُودَ أَوْ أَكَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ ، وَيُعْتَبَرُ مَعَ مَا ذُكِرَ الْعَقْلُ إلَّا السَّكْرَانُ وَالِاخْتِيَارُ وَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِحْرَامِ وَبِأَنَّ الْمَلْمُوسَ طِيبٌ يَعْلَقُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُطَيَّبِ النَّاسِي لِلْإِحْرَامِ وَلَا الْمُكْرَهِ وَلَا الْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيمِ أَوْ بِكَوْنِ الْمَلْمُوسِ طِيبًا أَوْ رَطْبًا لِعُذْرِهِ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَطْ دُونَ التَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ التَّحْرِيمَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ الِامْتِنَاعُ ، فَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ بَعْدَ لُبْسِهِ جَاهِلًا بِهِ وَأَخَّرَ إزَالَتَهُ مَعَ إمْكَانِهَا فَدَى وَأَثِمَ وَلَوْ طَيَّبَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ أَلْقَتْ الرِّيحُ عَلَيْهِ طِيبًا فَلَا

فِدْيَةَ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى مَنْ طَيَّبَهُ ، لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْإِزَالَةِ عِنْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ .

وَدَهْنُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ ، وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ بِخَطْمِيٍّ .

( وَدَهْنُ شَعْرِ الرَّأْسِ ) لَهُ ( أَوْ اللِّحْيَةِ ) وَلَوْ مِنْ امْرَأَةٍ كَمَا قَالَ الْقَاضِي بِدُهْنٍ ، وَلَوْ غَيْرَ مُطَيِّبٍ كَزَيْتٍ وَشَمْعٍ مُذَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّزْيِينِ الْمُنَافِي لِحَالِ الْمُحْرِمِ فَإِنَّهُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الْمُقْرِي فَيَحْرُمُ : أَيْ الدُّهْنُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الشَّعْرِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَلَوْ وَاحِدَةً ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ شَعْرُ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَزْيِينِ الشَّعْرِ وَتَنْمِيَتِهِ بِخِلَافِ رَأْسِ الْأَقْرَعِ وَالْأَصْلَعِ وَذَقَنِ الْأَمْرَدِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى ، فَإِنْ قِيلَ يُشْكِلُ هَذَا بِحُرْمَةِ الطِّيبِ عَلَى الْأَخْشَمِ كَمَا مَرَّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى هُنَا مُنْتَفٍ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِهِ ثَمَّ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ التَّرَفُّهُ بِالطِّيبِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّطَيُّبِ وَإِنْ كَانَ الْمُطَيَّبُ أَخْشَمَ ، وَلَهُ دَهْنُ بَدَنِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَسَائِرِ شَعْرِهِ بِذَلِكَ وَأَكْلُهُ وَجَعْلُهُ فِي شَيْءٍ وَلَوْ بِرَأْسِهِ ، وَأَلْحَقَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِشَعْرِ اللِّحْيَةِ شَعْرَ الْوَجْهِ كَحَاجِبٍ وَشَارِبٍ وَعَنْفَقَةٍ .
وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّهُ الْقِيَاسُ ، وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ التَّحْرِيمُ ظَاهِرٌ فِيمَا اتَّصَلَ بِاللِّحْيَةِ كَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ وَالْعَذَارِ .
وَأَمَّا الْحَاجِبُ وَالْهَدِبُ وَمَا عَلَى الْجَبْهَةِ : أَيْ وَالْخَدِّ فَفِيهِ بُعْدٌ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ دَهْنُ الْحَلَالِ كَنَظِيرِهِ الْآتِي فِي الْحَلْقِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَحْسُنُ إدْرَاجُ هَذَا فِي قِسْمِ الطِّيبِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ كَمَا مَرَّ ، وَقَدْ جَعَلَاهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا قِسْمًا مُسْتَقِلًّا ، لَكِنَّ الْمُحَرَّرَ أَدْخَلَهُ فِي نَوْعِ الطِّيبِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَفُّهٌ وَلَيْسَ فِيهِمَا إزَالَةُ عَيْنٍ ، وَقَوْلُهُ : دَهْنُ

: هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّدْهِينِ ، وَتَعْبِيرُهُ بِأَوْ يُفِيدُ التَّنْصِيصَ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ ( وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ بِخَطْمِيٍّ ) وَنَحْوِهِ كَسِدْرٍ مِنْ غَيْرِ نَتْفِ شَعْرٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ لَا لِلتَّزَيُّنِ وَالتَّنْمِيَةِ لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ وَتَرْكُ الِاكْتِحَالِ الَّذِي لَا طِيبَ فِيهِ ، وَقِيلَ يُكْرَهَانِ وَتَوَسَّطَ قَوْمٌ فِي الِاكْتِحَالِ ، فَقَالُوا إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ كَالتُّوتْيَا لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ كَإِثْمِدٍ كُرِهَ إلَّا لِحَاجَةِ رَمَدٍ وَنَحْوِهِ وَصُحِّحَ هَذَا فِي الْمَجْمُوعِ نَقَلَهُ عَنْ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْمَرْأَةِ أَشَدُّ ، وَلِلْمُحْرِمِ الِاحْتِجَامُ وَالْفَصْدُ مَا لَمْ يَقْطَعْ بِهِمَا شَعْرًا وَلَهُ خَضْبُ لِحْيَتِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّعُورِ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَمِّي الشَّعْرَ وَلَيْسَ طِيبًا ، وَلَهُ إنْشَادُ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ كَالْحَلَالِ فِيهِمَا .

الثَّالِثُ : إزَالَةُ الشَّعْرِ أَوْ الظُّفْرِ ، وَتَكْمُلُ الْفِدْيَةُ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَظْفَارٍ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي الشَّعْرَةِ مُدَّ طَعَامٍ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ وَلِلْمَعْذُورِ أَنْ يَحْلِقَ وَيَفْدِيَ .

( الثَّالِثُ ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( إزَالَةُ الشَّعْرِ ) مِنْ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ بِحَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ ( أَوْ الظُّفْرِ ) مِنْ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ .
أَمَّا الشَّعْرُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } أَيْ شَعْرَهَا ، وَشَعْرُ سَائِرِ الْجَسَدِ مُلْحَقٌ بِهِ بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ .
وَأَمَّا الظُّفْرُ فَقِيَاسًا عَلَى الشَّعْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرَفُّهِ وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسُ الصَّادِقُ بِبَعْضِ شَعْرَةٍ أَوْ ظُفْرٍ ( وَتَكْمُلُ الْفِدْيَةُ فِي ) إزَالَةِ ( ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ شَعْرَةٍ بِسُكُونِهَا وَلَاءً ( أَوْ ) إزَالَةِ ( ثَلَاثَةِ أَظْفَارٍ ) كَذَلِكَ بِأَنْ اتَّحَدَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ ، وَالشَّعْرُ يَصْدُقُ بِالثَّلَاثِ ، وَقِيسَ بِهَا الْأَظْفَارُ وَلَا يُعْتَبَرُ جَمِيعُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِي لِلْإِحْرَامِ وَالْجَاهِلِ بِالْحُرْمَةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَكَسَائِرِ الْإِتْلَافَاتِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فِي التَّمَتُّعِ بِاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالدَّهْنِ وَالْجِمَاعِ وَمُقَدَّمَاتِهِ لِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ فِيهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيهَا .
نَعَمْ لَوْ أَزَالَهَا مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ صَبِيٌّ غَيْرُ مُمَيِّزٍ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَجْمُوعِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي أَنَّهُمَا يَعْقِلَانِ فِعْلَهُمَا فَيُنْسَبَانِ إلَى تَقْصِيرٍ ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ أَيْضًا ، وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ النَّائِمُ ، وَلَوْ أُزِيلَ ذَلِكَ بِقَطْعِ جِلْدٍ أَوْ عُضْوٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَا أُزِيلَ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْإِزَالَةِ ، وَشَبَّهُوهُ بِالزَّوْجَةِ تُقْتَلُ فَلَا يَجِبُ مَهْرُهَا عَلَى الْقَاتِلِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَتُهُ الْأُخْرَى لَزِمَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ فِي تِلْكَ تَلِفَ تَبَعًا بِخِلَافِهِ فِي هَذِهِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُوَالِ بِأَنْ أَزَالَهَا فِي ثَلَاثِ أَمَاكِنَ أَوْ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَّحِدْ

الزَّمَانُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ انْفَرَدَتْ وَهُوَ مُدٌّ كَمَا سَيَأْتِي ، وَحُكْمُ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِ حُكْمُهَا كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى حَتَّى لَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ بَدَنِهِ وَلَاءً أَوْ أَزَالَ أَظْفَارَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ كَذَلِكَ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يُعَدُّ فِعْلًا وَاحِدًا ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي ) إزَالَةِ ( الشَّعْرَةِ ) الْوَاحِدَةِ أَوْ الظُّفْرِ الْوَاحِدِ أَوْ بَعْضِ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِهِمَا ( مُدَّ طَعَامٍ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ ) أَوْ الظُّفْرَيْنِ ( مُدَّيْنِ ) لِأَنَّ تَبْعِيضَ الدَّمِ فِيهِ عُسْرٌ ، وَالشَّارِعُ قَدْ عَدَلَ الْحَيَوَانَ بِالْإِطْعَامِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ ، وَالشَّعْرَةُ الْوَاحِدَةُ هِيَ النِّهَايَةُ فِي الْقِلَّةِ ، وَالْمُدُّ أَقَلُّ مَا وَجَبَ فِي الْكَفَّارَاتِ فَقُوبِلَتْ الشَّعْرَةُ بِهِ .
وَالثَّانِي فِي الشَّعْرَةِ دِرْهَمٌ ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ تُقَوَّمُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، فَاعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى التَّوْزِيعِ ، وَالثَّالِثُ : فِي الشَّعْرَةِ ثُلُثُ دَمٍ وَفِي الثِّنْتَيْنِ ثُلُثَا دَمٍ عَمَلًا بِالتَّقْسِيطِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ إذَا اخْتَارَ الدَّمَ ، فَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ فَفِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا صَوْمُ يَوْمٍ ، وَفِي الِاثْنَتَيْنِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ ، أَوْ الطَّعَامَ فَفِي وَاحِدَةٍ صَاعٌ ، وَفِي اثْنَتَيْنِ صَاعَانِ ، نَقَلَ ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ عَنْ الْعِمْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ : إنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَكَلَامُ الْعِمْرَانِيِّ إنْ ظَهَرَ عَلَى قَوْلِنَا : الْوَاجِبُ ثُلُثُ دَمٍ لَا يَظْهَرُ عَلَى قَوْلِنَا : الْوَاجِبُ مُدٌّ إذْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُدِّ وَالصَّاعِ ، وَالشَّخْصُ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ وَجَوَابُهُ الْمَنْعُ ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ ، وَهُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ ، وَلَوْ انْسَلَّ مِنْهُ شَعْرٌ وَشَكَّ

هَلْ سَلَّهُ الْمُشْطِ بَعْدَ انْتِتَافِهِ أَوْ نَتَفَهُ فَلَا فِدْيَةَ ؛ لِأَنَّ النَّتْفَ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَيُكْرَهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَمْتَشِطَ وَأَنْ يُفْلِي رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَأَنْ يَحُكَّ شَعْرَهُ لَا جَسَدَهُ بِأَظْفَارِهِ لَا بِأَنَامِلِهِ ( وَلِلْمَعْذُورِ ) فِي الْحَلْقِ لِإِيذَاءِ قَمْلٍ أَوْ وَسَخٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( أَنْ يَحْلِقَ وَيَفْدِيَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ فِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، { أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُدْنُ فَدَنَوْتُ ، فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ قَالَ ابْنُ عَوْفٍ : وَأَظُنُّهُ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ فَأَمَرَنِي بِفِدْيَةٍ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَكَذَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَّا لُبْسَ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَوِقَايَةَ الرِّجْلِ عَنْ النَّجَاسَةِ مَأْمُورٌ بِهِمَا فَخُفِّفَ فِيهِمَا ، وَالْحَصْرُ فِيمَا قَالَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مَمْنُوعٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ فَقَدْ اُسْتُثْنِيَ صُوَرٌ لَا فِدْيَةَ فِيهَا .
مِنْهَا مَا إذَا أَزَالَ مَا نَبَتَ مِنْ الشَّعْرِ فِي عَيْنِهِ وَتَأَذَّى بِهِ ، وَمِنْهَا مَا إذَا أَزَالَ قَدَمًا يُغَطِّيهَا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَحَاجِبَيْهِ إذَا طَالَ بِحَيْثُ سَتَرَ بَصَرَهُ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَقَطَعَ الْمُؤْذِيَ مِنْهُ فَقَطْ ، وَيَأْثَمُ الْحَالِقُ بِلَا عُذْرٍ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا ، وَلَوْ حَلَقَ شَخْصٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ ، أَوْ أَحْرَقَتْ نَارٌ شَعْرَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا عَلَيْهِ حِفْظُهُ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْحَلْقِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُبَاشَرَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَمْرِ فَلِمَ قَدَّمَ عَلَيْهَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إذَا لَمْ

يَعُدْ نَفْعُهُ عَلَى الْآمِرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ كَمَا لَوْ غَصَبَ شَاةً فَأَمَرَ قَصَّابًا بِذَبْحِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا إلَّا الْغَاصِبُ ، فَإِنْ حَلَقَ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ وَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ أَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَتْ الْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ وَلَوْ حَلَالًا لِأَنَّهُ الْمُقَصِّرُ ، وَلِلْمَحْلُوقِ مُطَالَبَتُهُ بِهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِهِ ، وَلِأَنَّ نُسُكَهُ يَتِمُّ بِأَدَائِهَا فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَلَوْ أَخْرَجَهَا الْمَحْلُوقُ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الْحَالِقِ لَمْ تَسْقُطُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ شَبِيهَةٌ بِالْكَفَّارَةِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي إخْرَاجِهَا سَقَطَتْ ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ شَعْرِ الْحَلَالِ ، وَلَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ مُحْرِمٍ نَائِمٍ أَوْ نَحْوَهُ فَحَلَقَ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ إنْ جَهِلَ الْحَالِقُ الْحَالَ ، أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا يَعْتَقِدُ طَاعَةَ آمِرِهِ ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَعَلَى الْحَالِقِ .

الرَّابِعُ : الْجِمَاعُ وَتَفْسُدُ بِهِ الْعُمْرَةُ ، وَكَذَا الْحَجُّ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، وَيَجِبُ بِهِ بَدَنَةٌ ، وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانَ نُسُكُهُ تَطَوُّعًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ .

( الرَّابِعُ ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( الْجِمَاعُ ) بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحَلَالِ تَمْكِينُ زَوْجِهَا الْمُحْرِمِ مِنْ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ جِمَاعُ زَوْجَتِهِ الْمُحْرِمَةِ ، وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ غَيْرَ الْجِمَاعِ لَا يَحْرُمُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ تَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَكَذَا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ إنْ أَنْزَلَ ، لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الصُّورَتَيْنِ إنْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِدُخُولِهِ فِي بَدَنَةِ الْجِمَاعِ ( وَتَفْسُدُ بِهِ الْعُمْرَةُ ) الْمُفْرَدَةُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، أَمَّا غَيْرُ الْمُفْرَدَةِ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ صِحَّةً وَفَسَادًا ( وَكَذَا ) يَفْسُدُ ( الْحَجُّ ) بِالْجِمَاعِ الْمَذْكُورِ ( قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ) قَبْلَ الْوُقُوفِ بِإِجْمَاعٍ وَبَعْدَهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا صَحِيحًا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُجَامِعُ فِي الْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ رَقِيقًا أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا رَفَثَ } أَيْ لَا تَرْفُثُوا ، فَلَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ إذْ لَوْ بَقِيَ عَلَى الْخَبَرِ امْتَنَعَ وُقُوعُهُ فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَ قَطْعًا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَثِيرًا وَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفَسَادِ ، وَقَاسُوا الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ .
أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَلَا يَفْسُدُ ذَلِكَ بِجِمَاعِهِ وَكَذَا النَّاسِي وَالْجَاهِلُ وَالْمُكْرَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ قُيِّدَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً كَمَا تَقَرَّرَ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ لَهَا إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ كَمَا مَرَّ ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ بَعْدَهُ ، فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِهِ وَكَذَا الْعُمْرَةُ

التَّابِعَةُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ : تَفْسُدُ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُفْهِمُهُ ، وَلَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا لَمْ يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ حَالَ النَّزْعِ صَحَّ فِي أَحَدِ الْأَوْجُهِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ ؛ لِأَنَّ النَّزْعَ لَيْسَ بِجِمَاعٍ ( وَيَجِبُ بِهِ ) أَيْ الْجِمَاعِ الْمُفْسِدِ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى الرَّجُلِ ( بَدَنَةٌ ) بِصِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ لِقَضَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِالْجِمَاعِ الْمُفْسِدِ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ يُجَامِعَ فِي الْحَجِّ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُجَامِعَ ثَانِيًا بَعْدَ جِمَاعِهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ شَاةٌ ، وَبِالرَّجُلِ الْمَرْأَةُ وَإِنْ شَمِلَتْهَا عِبَارَتُهُ فَإِنَّهَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَارِّ فِي الصَّوْمِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ زَوْجًا أَمْ غَيْرَهُ ، مُحْرِمًا أَمْ حَلَالًا ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُحْرِمَةً دُونَهُ أَنَّ عَلَيْهَا الْفِدْيَةَ ، وَلَنَا هُنَا طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِاللُّزُومِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ .
وَقِيلَ إنْ كَانَ الْوَاطِئُ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَدَنَةَ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الْمُرَادُ بِهَا الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ فِي سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا مَرَّ ، وَلَا تُطْلَقُ هَذِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا .
وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ : إنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ ، وَحَكَى الْمُصَنِّفُ فِي التَّهْذِيبِ وَالتَّحْرِيرِ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّاةِ وَوَهَمَ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْبَدَنَةَ فَبَقَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَسَبْعُ شِيَاهٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا قَوَّمَ الْبَدَنَةَ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُ مَرَاتِبِ الدِّمَاءِ ( وَ ) يَجِبُ ( الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إفْتَاءِ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَيَتَجَنَّبَ مَا كَانَ يَتَجَنَّبُهُ قَبْلَهُ ، فَإِنْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِي الْأَصَحِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا بِالْفَسَادِ إذْ لَا حُرْمَةَ لَهَا بَعْدَهُ .
نَعَمْ يَجِبُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ كَمَا مَرَّ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لِحُرْمَةِ زَمَنِهِ ( وَ ) يَجِبُ ( الْقَضَاءُ ) اتِّفَاقًا ( وَإِنْ كَانَ نُسُكُهُ تَطَوُّعًا ) ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ فَصَارَ فَرْضًا بِخِلَافِ بَاقِي الْعِبَادَاتِ ، وَإِذَا جَامَعَ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ فَسَدَ نُسُكُهُ وَيُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ حَالَ الصِّبَا وَالرِّقِّ ، وَيَلْزَمُ الْمُفْسِدَ فِي الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِمَّا أَحْرَمَ بِهِ فِي الْأَدَاءِ مِنْ مِيقَاتٍ أَوْ قَبْلَهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَلَوْ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكًا لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ إلَّا إنْ سَلَكَ فِيهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ قَدْرِ مَسَافَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَدَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ جَاوَزَ فِيهِ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَإِلَّا أَحْرَمَ مِنْ قَدْرِ مَسَافَةِ الْمِيقَاتِ .
وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا كَفَاهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي قَضَائِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ سُلُوكُ طَرِيقِ الْأَدَاءِ .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ قَدْرِ مَسَافَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ بَلْ لَهُ

التَّأْخِيرُ عَنْهُ وَالتَّقْدِيمُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ الْإِحْرَامُ فِيهِ ، وَفَارَقَ الْمَكَانَ فَإِنَّهُ يَنْضَبِطُ بِخِلَافِ الزَّمَانِ ، وَلَوْ أَفْسَدَ الْقَضَاءَ الثَّانِيَ بِالْجِمَاعِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَقَضَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ) أَيْ قَضَاءَ الْفَاسِدِ ( عَلَى الْفَوْرِ ) لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا يُضَيَّقُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، وَاسْتَشْكَلَ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ قَضَاءً بِأَنَّ مَنْ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَعَادَهَا الْوَقْتَ كَانَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً لِوُقُوعِهَا فِي وَقْتِهَا الْأَصْلِيِّ خِلَافًا لِلْقَاضِي .
وَأَجَابَ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَضَاءَ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ ، وَبِأَنَّهُ يَتَضَيَّقُ بِالْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَيَّقْ وَقْتُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهَا بَعْدَ الْإِفْسَادِ مُوقِعًا لَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، وَالنُّسُكُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ تَضَيَّقَ وَقْتُهُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِوَقْتِ الْفَوَاتِ فَفَعَلَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَارِجَ وَقْتِهِ فَصَحَّ وَصْفُهُ بِالْقَضَاءِ وَأَيَّدَ وَلَدُهُ فِي التَّوْشِيحِ الْأَوَّلَ بِقَوْلِ ابْنِ يُونُسَ : إنَّهُ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ ، وَتَصَوُّرُ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَاضِحٌ .
وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُتَصَوَّرُ عَامَ الْإِفْسَادِ بِأَنْ يَتَحَلَّلَ بَعْدَهُ لِلْإِحْصَارِ ثُمَّ يُطْلِقَ مِنْ الْحَصْرِ أَوْ بِأَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَهُ أَوْ يَتَحَلَّلَ كَذَلِكَ لِمَرَضٍ شُرِطَ التَّحَلُّلُ بِهِ ثُمَّ يُشْفَى وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَيَشْتَغِلُ بِالْقَضَاءِ ، وَلَوْ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ لِقَضَاءِ نُسُكِهَا لَزِمَ الزَّوْجَ زِيَادَةُ نَفَقَةِ السَّفَرِ مِنْ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا ؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَلَزِمَتْهُ كَالْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ عَضِبَتْ لَزِمَهُ الْإِنَابَةُ عَنْهَا مِنْ مَالِهِ وَمُؤْنَةِ الْمَوْطُوءَةِ بِزِنًا أَوْ شُبْهَةٍ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْحَصْرِ فَلَا تَلْزَمُ الزَّوْجَ إلَّا أَنْ

يَكُونَ مَعَهَا ، وَيُسَنُّ افْتِرَاقُهُمَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ التَّحَلُّلَانِ وَافْتِرَاقُهُمَا فِي مَكَانِ الْجِمَاعِ آكَدُ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهِ .
فُرُوعٌ : لَوْ أَفْسَدَ مُفْرِدٌ نُسُكَهُ فَتَمَتَّعَ فِي الْقَضَاءِ أَوْ قَرَنَ جَازَ وَكَذَا عَكْسُهُ ، وَلَوْ أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ لَزِمَهُ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِانْغِمَارِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِلْقِرَانِ الَّذِي أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَ بِالشُّرُوعِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِفْسَادِ ، وَلَزِمَهُ دَمٌ آخَرُ لِلْقِرَانِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِفْسَادِ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَوْ أَفْرَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِفْرَادِ ، وَلَوْ فَاتَ الْقَارِنُ الْحَجَّ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ فَاتَتْ الْعُمْرَةُ تَبَعًا لَهُ وَلَزِمَهُ دَمَانِ : دَمٌ لِلْفَوَاتِ وَدَمٌ لِأَجْلِ الْقِرَانِ ، وَفِي الْقَضَاءِ دَمٌ ثَالِثٌ .
وَلَوْ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ نُسُكِهِ فَسَدَ إحْرَامُهُ فَيَفْسُدُ نُسُكُهُ كَصَوْمِهِ وَصَلَاتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْضِي فِيهِ .
وَإِنْ أَسْلَمَ لِعَدَمِ وُرُودِ شَيْءٍ فِيهِمَا بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَفْسَدَ بِهِ نُسُكَهُ لَمْ يُفْسِدْ بِهِ إحْرَامَهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ كَمَا مَرَّ .

الْخَامِسُ : اصْطِيَادُ كُلِّ مَأْكُولٍ بَرِّيٍّ .
قُلْت : وَكَذَا الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَيَحْرُمُ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْحَلَالِ ، فَإِنْ أَتْلَفَ صَيْدًا ضَمِنَهُ .

( الْخَامِسُ ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( اصْطِيَادُ كُلِّ ) صَيْدٍ ( مَأْكُولٍ بَرِّيٍّ ) وَحْشِيٍّ كَبَقَرِ وَحْشٍ وَدَجَاجَةٍ وَحَمَامَةٍ ( قُلْت : وَكَذَا الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ ) أَيْ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ الْوَحْشِيِّ ( وَمِنْ غَيْرِهِ ) كَمُتَوَلَّدٍ بَيْنَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ أَوْ بَيْنَ شَاةٍ وَظَبْيٍ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ } أَيْ أَخْذُهُ { مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِلِاحْتِيَاطِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ زَكَوِيٍّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُوَاسَاةِ ، وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ وَحْشِيٍّ غَيْرِ مَأْكُولٍ وَإِنْسِيٍّ مَأْكُولٍ كَالْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ ذِئْبٍ وَشَاةٍ ، وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَ غَيْرِ مَأْكُولَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَحْشِيٌّ كَالْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ حِمَارٍ وَذِئْبٍ ، وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَ أَهْلِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالْبَغْلِ فَلَا يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِشَيْءٍ مِنْهَا ( وَ ) حِينَئِذٍ ( يَحْرُمُ ذَلِكَ ) أَيْ اصْطِيَادُ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ وَالْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ ( فِي الْحَرَمِ عَلَى الْحَلَالِ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُلْتَزِمَ الْأَحْكَامِ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ : { إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
أَيْ لَا يَجُوزُ تَنْفِيرُ صَيْدِهِ لِمُحْرِمٍ وَلَا حَلَالٍ فَغَيْرُ التَّنْفِيرِ أَوْلَى ، وَقِيسَ بِمَكَّةَ بَاقِي الْحَرَمِ ( فَإِنْ أَتْلَفَ ) مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ ( صَيْدًا ) مِمَّا ذُكِرَ مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ ( ضَمِنَهُ ) بِمَا يَأْتِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } ، وَقِيسَ بِالْمُحْرِمِ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ الْآتِي ذِكْرُهُ بِجَامِعِ حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ فَيَضْمَنُ سَائِرَ أَجْزَائِهِ كَشَعْرٍ وَرِيشٍ

بِالْقِيمَةِ وَكَذَا لَبَنُهُ ، وَيَضْمَنُ أَيْضًا مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَوْ وَدِيعَةً كَالْغَاصِبِ لِحُرْمَةِ إمْسَاكِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْحَلَالُ مَعَهُ إلَى الْحَرَمِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ لَا يَضْمَنُهُ بَلْ لَهُ إمْسَاكُهُ فِيهِ وَذَبْحُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ لِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَّ .
وَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ آخَرَ عَلَى صَيْدٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ حِفْظَهُ أَوْ فِي يَدِهِ وَالْقَاتِلُ حَلَالٌ ضَمِنَ الْمُحْرِمُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ حِفْظَهُ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمُودَعِ إذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى الْوَدِيعَةِ ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا قَبْلَ إحْرَامِهِ فَأَصَابَهُ بَعْدَهُ أَوْ عَكَسَ ضَمِنَ تَغْلِيبًا الْإِحْرَامِ فِيهِمَا ، وَفَارَقَ ذَلِكَ مَا لَوْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ أَصَابَهُ فَقُتِلَ بِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ إهْدَارِهِ ، وَلَوْ نَصَبَ نَحْوَ شَبَكَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ ضَمِنَ مَا وَقَعَ فِيهَا وَتَلِفَ ، سَوَاءٌ أَنَصَبَهَا فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ وَوَقَعَ الصَّيْدُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ أَمْ بَعْدَهُ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَوْ نَصَبَهَا لِلْخَوْفِ عَلَيْهَا مِنْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ ، وَلَوْ نَصَبَهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُحْرِمُ كَلْبًا أَوْ حَلَّ رِبَاطَهُ وَالصَّيْدُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ ثُمَّ ظَهَرَ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ كَحَلَالٍ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ ، وَكَذَا لَوْ انْحَلَّ بِتَقْصِيرِهِ ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَنَفَذَ مِنْهُ إلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُمَا ضَمِنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ وَالْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيمِ وَالنَّاسِي لِلْإِحْرَامِ ، وَالتَّعَمُّدُ فِي الْآيَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ .
.

لَكِنْ .
يُسْتَثْنَى مِنْ الضَّمَانِ مَسَائِلُ : مِنْهَا مَا لَوْ بَاضَ حَمَامٌ أَوْ غَيْرُهُ فِي فِرَاشِهِ أَوْ نَحْوِهِ وَفَرَّخَ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إلَّا بِالتَّعَرُّضِ لَهُ فَفَسَدَ بِذَلِكَ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي نَوْمِهِ فَأَفْسَدَهُ ، أَوْ جُنَّ فَقَتَلَ صَيْدًا .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا إتْلَافٌ وَالْمَجْنُونُ فِيهِ كَالْعَاقِلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إتْلَافًا فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَفُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَغَيْرِهِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ ، وَيَأْتِي أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ تَخْلِيصًا مِنْ سَبُعٍ أَوْ مُدَاوِيًا لَهُ أَوْ لِيَتَعَهَّدَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ وَأَكَلَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذَبْحِهِ ضَمِنَ ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ الْمُحْرِمُ عَلَى قَتْلِهِ ضَمِنَهُ وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَرَمِ حَالٌ مِنْ ذَا الْمُشَارِ بِهِ إلَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّائِدِ ، وَالصَّيْدُ صَادِقٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِيهِ ، وَالْآخَرُ فِي الْحِلِّ : كَأَنْ رَمَى مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ أَوْ عَكْسُهُ ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الصُّورَتَيْنِ فَيَضْمَنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، أَوْ رَمَى صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحِلِّ فَاعْتَرَضَ السَّهْمُ الْحَرَمَ ضَمِنَ ، وَفِي مِثْلِهِ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّيْدِ مَهْرَبٌ إلَّا بِالدُّخُولِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ فِي الْحِلِّ إلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ فَدَخَلَ الْحَرَمَ فَقَتَلَهُ فِيهِ أَوْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ نَظِيرِهِمَا فِي السَّهْمِ ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ ، وَلَوْ سَعَى الصَّيْدُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ ، أَوْ سَعَى مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحِلِّ وَلَكِنْ سَلَكَ فِي أَثْنَاءِ سَعْيِهِ الْحَرَمَ

فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ قَطْعًا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ صَارَ مَيْتَةً وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ مَا أَعَانَ عَلَيْهِ فَمَا ذَبَحَهُ أَوْلَى ، وَهَلْ يَتَأَبَّدُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ أَوْ مُدَّةَ إحْرَامِهِ قَوْلَانِ : أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ ، وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى وَضَمِنَهُ لِمَالِكِهِ ، وَيَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الذَّبْحِ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْمَجُوسِيِّ ، وَلَوْ كَسَرَ الْمُحْرِمُ أَوْ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ بَيْضَ صَيْدٍ أَوْ قَتَلَ جَرَادًا كَذَلِكَ ضَمِنَهُ ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي مَوْضِعٍ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ خِلَافًا لِلرُّويَانِيِّ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ إدَامَةِ الْمِلْكِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ابْتِدَائِهِ " وَلِأَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ حِمَارُ وَحْشٍ فَرَدَّهُ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِ الْمُهْدِي ، فَقَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ " فَلَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ فَإِنْ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَا هِبَةٍ وَأَرْسَلَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ وَسَقَطَ الْجَزَاءُ بِخِلَافِهِ فِي الْهِبَةِ لَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ وَالْهِبَةِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ .
وَإِنْ رَدَّهُ لِمَالِكِهِ سَقَطَتْ الْقِيمَةُ لَا الْجَزَاءُ مَا لَمْ يُرْسِلْ وَيَمْلِكُهُ بِالْإِرْثِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَّا بِإِرْسَالِهِ كَمَا صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ فِي الْمَجْمُوعِ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ قَهْرًا ؛ وَيَجِبُ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ، فَلَوْ بَاعَهُ صَحَّ وَضَمِنَ الْجَزَاءَ مَا لَمْ يُرْسِلْ

حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَزِمَ الْبَائِعَ الْجَزَاءُ .
وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَأَحْرَمَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَزِمَهُ إرْسَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ لِلدَّوَامِ فَتَحْرُمُ اسْتَدَامَتْهُ كَاللِّبَاسِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، فَلَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى تَحَلَّلَ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ ، إذْ لَا يَرْتَفِعُ اللُّزُومُ بِالتَّعَدِّي ، بِخِلَافِ مَنْ أَمْسَكَ خَمْرًا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ حَتَّى تَخَلَّلَتْ لَا يَلْزَمُهُ إرَاقَتُهَا ، وَفُرِّقَ بِأَنَّ الْخَمْرَةَ انْتَقَلَتْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كَانَ تَحَلُّلُهُ كَإِسْلَامِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ عَبْدًا مُسْلِمًا حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَضْيَقُ مِنْ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعَارَةُ الصَّيْدِ وَاسْتِيدَاعُهُ وَاسْتِئْجَارُهُ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ لَا غُرْمَ إذَا قَتَلَ أَوْ أَرْسَلَهُ ، وَمَنْ أَخَذَهُ وَلَوْ قَبْلَ إرْسَالِهِ وَلَيْسَ مُحْرِمًا مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ لُزُومِ الْإِرْسَالِ صَارَ مُبَاحًا ، وَلَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ وَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إرْسَالِهِ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ إرْسَالُهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَنَظِيرِهِ فِي إلْزَامِ الصَّلَاةِ لِمَنْ جُنَّ بَعْدَ مُضِيِّ مَا يَسَعُهَا مِنْ وَقْتِهَا دُونَ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَلَا يَجِبُ إرْسَالُهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَوْ أَحْرَمَ أَحَدُ مَالِكَيْهِ تَعَذَّرَ إرْسَالُهُ فَيَلْزَمُهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ صَيْدٌ فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ إرْسَالُهُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا يَغْرَمُ قِيمَةَ النَّفَقَةِ الزَّائِدَةِ بِالسَّفَرِ ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ ا هـ .
وَيَنْبَغِي اللُّزُومُ .
وَلَوْ حَفَرَ الْمُحْرِمُ بِئْرًا حَيْثُ كَانَ أَوْ حَفَرَهَا حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فَأَهْلَكَ صَيْدًا نَظَرْت ، فَإِنْ حَفَرَهَا عُدْوَانًا ضَمِنَ وَإِلَّا فَالْحَافِرُ فِي الْحَرَمِ فَقَطْ

عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَا تَخْتَلِفُ ، وَلَوْ اسْتَعَارَ حَلَالٌ صَيْدًا وَأَتْلَفَهُ مُحْرِمًا ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ وَبِمِثْلِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيْتَيْنِ ، فَقَالَ : عِنْدِي سُؤَالٌ حَسَنٌ مُسْتَظْرَفٌ فَرْعٌ عَلَى أَصْلَيْنِ قَدْ تَفَرَّعَا قَابِضُ شَيْءٍ بِرِضَا مَالِكِهِ وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَالْمِثْلَ مَعَا .

فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرِ الْوَحْشِ ، وَحِمَارِهِ بَقَرَةٌ ، وَالْغَزَالِ عَنْزٌ ، وَالْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَالْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ .

وَلَوْ دَخَلَ كَافِرٌ الْحَرَمَ وَأَتْلَفَ صَيْدًا ضَمِنَهُ ، وَقِيلَ : لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ حُرْمَتُهُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ كَالْمُسْلِمِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ إلَّا فِي الصَّوْمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ : مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ النَّعَمِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ تَقْرِيبًا فَيَضْمَنُ بِهِ ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَيَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَقْلٌ ، وَمِنْ الْأَوَّلِ مَا فِيهِ نَقْلٌ بَعْضُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُهُ عَنْ السَّلَفِ فَيُتْبَعُ ، وَقَدْ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ، فَقَالَ ( فَفِي ) إتْلَافِ ( النَّعَامَةِ ) بِفَتْحِ النُّونِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ( بَدَنَةٌ ) كَذَلِكَ فَلَا تُجْزِئُ بَقَرَةٌ وَلَا سَبْعُ شِيَاهٍ أَوْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ يُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ( وَفِي ) وَاحِدٍ مِنْ ( بَقَرِ الْوَحْشِ ، وَ ) فِي وَاحِدٍ مِنْ ( حِمَارِهِ ) أَيْ الْوَحْشِ ( بَقَرَةٌ ) أَيْ وَاحِدٌ مِنْ الْبَقَرِ ( وَ ) فِي ( الْغَزَالِ ) وَهُوَ وَلَدُ الظَّبْيَةِ إلَى أَنْ يَطْلُعَ قَرْنَاهُ مَعْزٌ صَغِيرٌ ، فَفِي الذَّكَرِ جَدْيٌ أَوْ جَفْرَةٌ وَالْأُنْثَى عَنَاقٌ أَوْ جَفْرَةٌ عَلَى حَسَبِ جِسْمِ الصَّيْدِ ، فَإِنْ طَلَعَ قَرْنَاهُ سُمِّيَ الذَّكَرُ ظَبْيًا وَالْأُنْثَى ظَبْيَةً ، وَفِيهَا ( عَنْزٌ ) وَهِيَ أُنْثَى الْمَعْزِ الَّتِي تَمَّ لَهَا سَنَةٌ ( وَ ) فِي ( الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ) وَهِيَ أُنْثَى الْمَعْزِ إذَا قَوِيَتْ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْرِيرِهِ وَغَيْرِهِ وَفِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا أُنْثَى الْمَعْزِ مِنْ حِينِ تُولَدُ حَتَّى تَرْعَى ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ .
( وَ ) فِي ( الْيَرْبُوعِ ) أَوْ الْوَبْرِ بِإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ ( جَفْرَةٌ ) وَهِيَ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أُنْثَى الْمَعْزِ إذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا ، وَالذَّكَرُ جَفْرٌ ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ جَفَرَ جَنْبَاهُ ، أَيْ عَظُمَا ، هَذَا مَعْنَاهُمَا لُغَةً .
قَالَ الشَّيْخَانِ لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَفْرَةِ هُنَا مَا دُونَ الْعَنَاقِ إذْ

الْأَرْنَبُ خَيْرٌ مِنْ الْيَرْبُوعِ ، وَفِي الضَّبُعِ كَبْشٌ ، وَفِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ ، وَفِي الضَّبِّ أَوْ أَمِّ حُبَيْنٍ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَهِيَ دَابَّةٌ عَلَى خِلْقَةِ الْحِرْبَاءِ عَظِيمَةُ الْبَدَنِ : جَدْيٌ .

وَمَا لَا نَقْلَ فِيهِ يَحْكُمُ بِمِثْلِهِ عَدْلَانِ .

( وَمَا لَا نَقْلَ فِيهِ ) مِنْ الصَّيْدِ عَمَّنْ سَيَأْتِي ( يَحْكُمُ بِمِثْلِهِ ) مِنْ النَّعَمِ ( عَدْلَانِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُمَاثَلَةِ بِالْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقًا فَأَيْنَ النَّعَامَةُ مِنْ الْبَدَنَةِ ، لَا بِالْقِيمَةِ .
فَيَلْزَمُ فِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ ، وَفِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ ، وَفِي الذَّكَرِ ذَكَرٌ ، وَفِي الْأُنْثَى أُنْثَى ، وَفِي الصَّحِيحِ صَحِيحٌ ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ إنْ اتَّحَدَ جِنْسُ الْعَيْبِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ مَحَلُّهُ كَأَنْ كَانَ عَوَرُ أَحَدِهِمَا فِي الْيَمِينِ وَالْآخَرِ فِي الْيَسَارِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ كَالْعَوَرِ وَالْجَرَبِ فَلَا ، وَفِي السَّمِينِ سَمِينٌ ، وَفِي الْهَزِيلِ هَزِيلٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ فُدِيَ الْمَرِيضُ بِالصَّحِيحِ ، أَوْ الْمَعِيبُ بِالسَّلِيمِ ، أَوْ الْهَزِيلُ بِالسَّمِينِ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَيُجْزِئُ فِدَاءُ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَعَكْسُهُ ، لَكِنَّ الذَّكَرَ أَفْضَلُ ، وَيَجِبُ فِي الْحَامِلِ حَامِلٌ وَلَا تُذْبَحُ بَلْ تُقَوَّمُ ، فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَكَقَتْلِ الْحَامِلِ وَإِنْ عَاشَتْ ضَمِنَ نَقْصَهَا ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَا ضَمِنَهُمَا ، أَوْ مَاتَ دُونَهَا ضَمِنَهُ وَنَقْصَهَا وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَحَائِلًا ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلَانِ فَقِيهَيْنِ فَطِنَيْنِ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ أَعْرَفُ بِالشَّبَهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا ، وَعَلَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وُجُوبَ اعْتِبَارِ الْفِقْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فَلَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ يَجُوزُ حُكْمُهُ ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إنَّهُ لَا يَكْفِي الْخُنْثَى وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ الْفِقْهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفِقْهِ الْخَاصِّ بِمَا يُحْكَمُ بِهِ هُنَا .
وَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَحَبٌّ مَحْمُولٌ عَلَى زِيَادَتِهِ ، وَيَحْكُمُ الْعَدْلَانِ بِالْمِثْلِ فِيمَا قَتَلَاهُ بِلَا عُدْوَانٍ كَخَطَأٍ أَوْ اضْطِرَارٍ إلَيْهِ : لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمَرَ رَجُلًا

قَتَلَ ظَبْيًا بِالْحُكْمِ فِيهِ فَحَكَمَ فِيهِ بِجَدْيٍ فَوَافَقَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَمِينًا فِيهِ كَالزَّكَاةِ .
أَمَّا الْعُدْوَانُ وَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ فَلَا يَحْكُمَانِ لِفِسْقِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَبِيرَةً فَكَيْفَ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِارْتِكَابِهِ مَرَّةً .
أُجِيبَ بِمَنْعِ ذَلِكَ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ إتْلَافُ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا فَائِدَةَ ، وَلَوْ حَكَمَ عَدْلَانِ بِمِثْلٍ وَآخَرَانِ بِمِثْلٍ أَوْ بِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ تَخَيَّرَ مَنْ لَزِمَهُ الْمِثْلُ فِي الْأَوْلَى كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ وَقُدِّمَ مُثْبِتَيْ الْمِثْلِ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ مَعَهُمَا زِيَادَةَ عِلْمٍ بِمَعْرِفَةِ دَقِيقِ الشَّبَهِ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَمَا لَا نَقْلَ فِيهِ عَنْ حَيَوَانٍ فِيهِ نَصٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ ، أَوْ عَنْ عَدْلَيْنِ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ فَيُتْبَعُ مَا حَكَمُوا بِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ .

وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ الْقِيمَةُ .

( وَ ) يَجِبُ ( فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ ) مِمَّا لَا نَقْلَ فِيهِ كَالْجَرَادِ وَبَقِيَّةِ الطُّيُورِ مَا عَدَا الْحَمَامَ لِمَا سَيَأْتِي ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْبَرَ جُثَّةً مِنْ الْحَمَامِ أَمْ لَا كَالْعُصْفُورِ ( الْقِيمَةُ ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ فِي الْمُتَقَوِّمَاتِ ، وَقَدْ حَكَمَتْ الصَّحَابَةُ بِهَا فِي الْجَرَادِ ، وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ لَا مِثْلَ لَهُ فَضَمِنَ بِالْقِيمَةِ كَمَالِ الْآدَمِيِّ وَيُرْجَعُ فِي الْقِيمَةِ إلَى عَدْلَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ بِمَوْضِعِ الْإِتْلَافِ أَوْ التَّلَفِ لَا بِمَكَّةَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِمَّا فِيهِ نَقْلٌ وَهُوَ الْحَمَامُ ، وَهُوَ مَا عَبَّ أَيْ شَرِبَ الْمَاءَ بِلَا مَصٍّ وَهَدَرَ - أَيْ رَجَّعَ صَوْتَهُ - وَغَرَّدَ كَالْيَمَامِ وَالْقُمْرِيِّ وَالدَّلَسِيِّ وَالْفَاخِتَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ مُطَوَّقٍ ، فَفِي الْوَاحِدَةِ مِنْهَا شَاةٌ مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، فَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ وَفِي مُسْتَنَدِهِمْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا تَوْقِيفٌ بَلَغَهُمْ فِيهِ .
وَالثَّانِي مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّبَهِ وَهُوَ إلْفُ الْبُيُوتِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْحَمَامِ ، إذْ لَا يَأْتِي فِي الْفَوَاخِتِ وَنَحْوِهَا ، وَأَلْحَقَ الْجُرْجَانِيِّ الْهُدْهُدَ بِالْحَمَامِ فِي التَّضْمِينِ بِشَاةٍ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْهُدْهُدَ الرَّاجِحُ فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ .
فُرُوعٌ : لَوْ أَزَالَ إحْدَى مَنَعَتَيْ النَّعَامَةِ وَنَحْوِهَا وَهُمَا قُوَّةُ عَدْوِهَا وَطَيَرَانِهَا اُعْتُبِرَ النَّقْصُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ ، فَالزَّائِلُ بَعْضُ الِامْتِنَاعِ فَيَجِبُ النَّقْصُ لَا الْجَزَاءُ الْكَامِلُ ، وَلَوْ جَرَحَ ظَبْيًا وَانْدَمَلَ جُرْحُهُ بِلَا إزْمَانٍ فَنَقَصَ عُشْرُ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ عُشْرُ شَاةٍ لَا عُشْرُ قِيمَتِهَا تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ ، فَإِنْ بَرِئَ وَلَا نَقْصَ فِيهِ فَالْأَرْشُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالْحُكُومَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآدَمِيِّ فَيُقَدِّرُ الْقَاضِي فِيهِ شَيْئًا

بِاجْتِهَادِهِ مُرَاعِيًا فِي اجْتِهَادِهِ مِقْدَارَ الْوَجَعِ الَّذِي أَصَابَهُ .
وَعَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ أَرْشُهُ ، وَلَوْ أَزْمَنَ صَيْدًا لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا كَمَا لَوْ أَزْمَنَ عَبْدًا لَزِمَهُ كُلُّ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاؤُهُ مُزْمِنًا أَوْ قَتَلَهُ الْمُزْمِنُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ مُزْمِنًا .
وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَشَكَّ أَمَاتَ بِجُرْحِهِ أَمْ بِحَادِثٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَمَّا زَادَ .

وَيَحْرُمُ قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ الَّذِي لَا يُسْتَنْبَتُ ، وَالْأَظْهَرُ تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِهِ وَبِقَطْعِ أَشْجَارِهِ فَفِي الشَّجَرَةِ الْكَبِيرَةِ بَقَرَةٌ وَالصَّغِيرَةِ شَاةٌ قُلْت : وَالْمُسْتَنْبَتُ كَغَيْرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ

( وَيَحْرُمُ ) عَلَى مُحْرِمٍ وَحَلَالٍ ( قَطْعُ ) أَوْ قَلْعُ ( نَبَاتِ الْحَرَمِ ) الرَّطْبِ ( الَّذِي لَا يُسْتَنْبَتُ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَسْتَنْبِتَهُ الْآدَمِيُّونَ بِأَنْ يَنْبُتَ بِنَفْسِهِ كَالطَّرْفَاءِ شَجَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَارِّ " وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ " أَيْ لَا يُقْطَعُ " وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ " وَهُوَ بِالْقَصْرِ : الْحَشِيشُ الرَّطْبُ : أَيْ لَا يُنْتَزَعُ بِقَطْعٍ وَلَا بِقَلْعٍ ، وَقِيسَ بِمَا فِي الْخَبَرِ غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ ، وَخَرَجَ بِالرَّطْبِ الْحَشِيشُ الْيَابِسُ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ لَا قَلْعُهُ وَالشَّجَرُ الْيَابِسُ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ وَقَلْعُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَلْعِ أَنَّ الْحَشِيشَ يَنْبُتُ بِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْمَاوَرْدِيُّ إنَّ الْحَشِيشَ إذَا جَفَّ وَمَاتَ يَجُوزُ قَلْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْيَابِسَ قَدْ يَفْسُدُ مَنْبَتُهُ وَيَمُوتُ أَيْ فَكَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا وَالْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِهِ ، وَبِالْحَرَمِ نَبَاتُ الْحِلِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَصْلِهِ فِي الْحَرَمِ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ وَقَلْعُهُ وَلَوْ بَعْدَ غَرْسِهِ فِي الْحَرَمِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَلَوْ قَلَعَ شَجَرَةً رَطْبَةً مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا أَوْ مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِ فَنَبَتَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
أَمَّا مَا بَعْضُ أَصْلِهِ فِي الْحَرَمِ فَيَحْرُمُ تَغْلِيبًا لِلْحَرَمِ ، وَبِمَا لَا يُسْتَنْبَتُ مَا يُسْتَنْبَتُ ، وَسَيَأْتِي تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ الشَّجَرِ كَبُرٍّ وَشَعِيرٍ فَلِمَالِكِهِ قَطْعُهُ وَقَلْعُهُ ، وَلَوْ قَطَعَ غُصْنًا فِي الْحَرَمِ أَصْلُهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يَضْمَنْهُ وَيَضْمَنُ صَيْدًا قَتَلَهُ فَوْقَهُ ، وَحُكْمُ عَكْسِهِ عَكْسُ حُكْمِهِ .
قَالَ الْفُورَانِيُّ : وَلَوْ غَرَسَ فِي الْحِلِّ نَوَاةَ شَجَرَةٍ حُرْمِيَّةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْأَصْلِ وَلَا ضَمَانَ بِقَطْعِ الْأَغْصَانِ الْحَرَمِيَّةِ الْمُؤْذِيَةِ لِلنَّاسِ فِي الطَّرِيقِ ، وَلَوْ أَخَذَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ

حُرْمِيَّةٍ فَأَخْلَفَ مِثْلُهُ فِي سَنَتِهِ بِأَنْ كَانَ لَطِيفًا كَالسِّوَاكِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ أَوْ أَخْلَفَ لَا مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُهُ لَا فِي سَنَتِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، فَإِنْ أَخْلَفَ مِثْلُهُ بَعْدَ وُجُوبِ ضَمَانِهِ لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ مَثْغُورٍ فَنَبَتَ ، وَيَجُوزُ أَخْذُ أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ .
بِلَا خَلْطٍ لِئَلَّا يَضُرَّ بِهَا وَخَبْطُهَا حَرَامٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَنُقِلَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ ثَمَرِهَا وَعُودِ السِّوَاكِ وَنَحْوِهِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْغُصْنَ اللَّطِيفَ وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَنُقِلَ مَا يُؤَيِّدُهُ .
قَالَ شَيْخُنَا : لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا مَرَّ ا هـ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مَا هُنَا عَلَى مَا هُنَاكَ ( وَالْأَظْهَرُ تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِهِ ) أَيْ بِقَطْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ الرَّطْبِ ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلشَّجَرِ كَمَا مَرَّ فَقَوْلُهُ ( وَبِقَطْعِ أَشْجَارِهِ ) تَبِعَ فِيهِ الْمُحَرَّرَ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ( فَفِي ) أَيْ يَجِبُ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ ( الشَّجَرَةِ ) الْحَرَمِيَّةِ ( الْكَبِيرَةِ ) بِأَنْ تُسَمَّى كَبِيرَةً عُرْفًا ( بَقَرَةٌ ) كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ وَسَوَاءٌ أَخْلَفَتْ الشَّجَرَةُ أَمْ لَا .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا وَالْبَدَنَةُ فِي مَعْنَى الْبَقَرَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ تَسْمَحُوا بِهَا عَنْ الْبَقَرَةِ وَلَا عَنْ الشَّاةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ رَاعَوْا الْمِثْلِيَّةَ فِي الصَّيْدِ بِخِلَافِهِ هُنَا ( وَ ) فِي ( الصَّغِيرَةِ ) إنْ قَارَبَتْ سُبْعَ الْكَبِيرَةِ ( شَاةٌ ) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا ، فَإِنْ صَغُرَتْ جِدًّا فَفِيهَا الْقِيمَةُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَسَكَتَ الرَّافِعِيُّ عَمَّا جَاوَزَ سَبُعَ الْكَبِيرَةِ ، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الْكِبَرِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ فِيهِ شَاةٌ أَعْظَمُ مِنْ الْوَاجِبَةِ فِي سُبْعِ الْكَبِيرَةِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ

الْمُصَنِّفُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي غَيْرِ الشَّجَرِ مِنْ النَّبَاتِ ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَدْفَعُهُ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّيْخَانِ لِسِنِّ الْبَقَرَةِ ، وَفِي الِاسْتِقْصَاءِ لَا يُشْتَرَطُ إجْزَاؤُهَا فِي الْأُضْحِيَّةِ بَلْ يَكْفِي فِيهَا التَّبِيعُ .
وَأَمَّا الشَّاةُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِي سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَكَانَ الْفَرْقُ أَنَّ الشَّاةَ لَمْ يُوجِبْهَا الشَّرْعُ إلَّا فِي هَذَا السِّنِّ بِخِلَافِ الْبَقَرَةِ بِدَلِيلِ التَّبِيعِ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْهَا ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ بِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَطْعِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَلْعِ الشَّجَرَةِ ، وَكَلَامُ التَّنْبِيهِ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُصَرِّحَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ بِالْمَسْأَلَةِ .
نَعَمْ عَبَّرَ الرَّافِعِيُّ بِالتَّامَّةِ ، وَلَعَلَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَطْعِ الْغُصْنِ ( قُلْت : وَالْمُسْتَنْبَتُ ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَهُوَ مَا اسْتَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الشَّجَرِ ( كَغَيْرِهِ ) فِي الْحُرْمَةِ وَالضَّمَانِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالزَّرْعِ أَيْ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْبُقُولِ وَالْخَضْرَاوَاتِ فَإِنَّهُ قَطَعَهُ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ .
ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .

وَيَحِلُّ الْإِذْخِرُ ، وَكَذَا الشَّوْكُ كَالْعَوْسَجِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَالْأَصَحُّ حِلُّ أَخْذِ نَبَاتِهِ لِعَلْفِ الْبَهَائِمِ وَلِلدَّوَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيَحِلُّ ) مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ( الْإِذْخِرُ ) قَطْعًا وَقَلْعًا لِاسْتِثْنَائِهِ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ ، قَالَ الْعَبَّاسُ { يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا الْإِذْخِرَ } وَمَعْنَى كَوْنِهِ لِبُيُوتِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُفُونَهَا بِضَمِّ الْقَافِ بِهِ فَوْقَ الْخَشَبِ ، وَالْقَيْنُ الْحَدَّادُ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ نَبَاتٌ مَعْرُوفٌ ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ آخِذَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى شَيْخِي ( وَكَذَا الشَّوْكُ ) يَحِلُّ شَجَرُهُ ( كَالْعَوْسَجِ ) جَمْعُ عَوْسَجَةٍ نَوْعٌ مِنْ الشَّوْكِ ( وَغَيْرِهِ ) مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ يَحِلُّ ( عِنْدَ الْجُمْهُورِ ) كَالصَّيْدِ الْمُؤْذِي فَلَا ضَمَانَ فِي قَطْعِهِ ، وَقِيلَ : يَحْرُمُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَلْعِهِ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاخْتَارَهُ فِي تَحْرِيرِ التَّنْبِيهِ وَتَصْحِيحِهِ .
قَالَ : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّيُودِ الْمُؤْذِيَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ الْأَذَى بِخِلَافِ الشَّجَرِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلِأَجْلِ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ الْمَنْعَ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَمْ يُعَبِّرْ بِالصَّحِيحِ وَنَحْوِهِ عَلَى عَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إطْلَاقُ تَصْحِيحِ الْجَوَازِ لِاعْتِقَادِهِ خِلَافَهُ ، وَلَا تَصْحِيحِ الْمَنْعِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ ا هـ .
لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنْ ذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ ، بَلْ قَالَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ .
وَفِي الْمَجْمُوعِ نَحْوُهُ : وَيَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ بَلْ وَشَجَرِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِلْبَهَائِمِ ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تُسَاقُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَا كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا فِي الْحَرَمِ ، وَيَحِلُّ أَخْذُ حَشِيشِهِ لِلْبَهَائِمِ ( وَالْأَصَحُّ حِلُّ أَخْذِ نَبَاتِهِ ) مِنْ حَشِيشٍ وَنَحْوِهِ بِالْقَطْعِ ( لِعَلْفِ

الْبَهَائِمِ ) بِسُكُونِ اللَّامِ كَمَا يَجُوزُ تَسْرِيحُهَا فِيهِ ( وَلِلدَّوَاءِ ) بِالْمَدِّ كَالْحَنْظَلِ وَلِلتَّغَذِّي كَالرِّجْلَةِ وَالْبَقْلَةِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الزَّرْعِ ، وَلَا يُقْطَعُ ذَلِكَ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ ، وَالثَّانِي : يُمْنَعُ ذَلِكَ وُقُوفًا مَعَ ظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ لِلْبَيْعِ مِمَّنْ يُعْلَفُ بِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ كَالطَّعَامِ الَّذِي أُبِيحَ أَكْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّا حَيْثُ جَوَّزْنَا أَخْذَ السِّوَاكِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ جَوَازُ أَخْذِهِ لِلدَّوَاءِ أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ السَّبَبِ حَتَّى يَجُوزَ أَخْذُهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهُوَ الْمُتَّجَهُ ا هـ .
وَالْمُتَّجَهُ الْمَنْعُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ : لِأَنَّ مَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ يُقَيَّدُ بِوُجُودِهَا كَمَا فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى النَّبَاتِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَيَحْرُمُ نَقْلُ تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ وَمَا عُمِلَ مِنْ طِينِهِ كَالْأَبَارِيقِ وَغَيْرِهَا إلَى الْحِلِّ ، فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْحَرَمِ بِخِلَافِ مَاءِ زَمْزَمَ كَمَا مَرَّ ، وَنَقْلُ تُرَابِ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ فِيهِ ، وَيَحْرُمُ أَخْذُ طِيبِ الْكَعْبَةِ ، فَمَنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ مَسَحَهَا بِطِيبِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ ، وَأَمَّا سِتْرُهَا فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ يَصْرِفُهُ فِي بَعْضِ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعًا وَعَطَاءً لِئَلَّا يَتْلَفَ بِالْبِلَى ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ ، وَجَوَّزُوا لِمَنْ أَخَذَهُ لُبْسَهُ وَلَوْ جُنُبًا وَحَائِضًا ، .

تَنْبِيهٌ نَقْلُ تُرَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَأَحْجَارِهِ وَمَا عُمِلَ مِنْهُ كَالْكِيزَانِ وَإِدْخَالُ ذَلِكَ مِنْ الْحِلِّ إلَيْهِ وَالْحَرَمُ لَهُ حُدُودٌ مَعْرُوفَةٌ نَظَمَ بَعْضُهُمْ مَسَافَتَهَا بِالْأَمْيَالِ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ : وَلِلْحَرَمِ التَّحْدِيدُ مِنْ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ إذَا رُمْتَ إتْقَانَهْ وَسَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِرَاقٍ وَطَائِفٍ وَجُدَّةُ عَشْرٌ ثُمَّ تِسْعٌ جِعْرَانَهْ وَالسِّينُ فِي سَبْعَةٍ : الْأُولَى مُقَدَّمَةٌ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَيْتًا ثَالِثًا فَقَالَ : وَمِنْ يَمَنٍ سَبْعٌ بِتَقْدِيمِ سِينِهِ وَقَدْ كَمُلَتْ فَاشْكُرْ لِرَبِّك إحْسَانَهْ .

وَصَيْدُ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ ، وَلَا يُضْمَنُ فِي الْجَدِيدِ .

( وَصَيْدُ ) حَرَمِ ( الْمَدِينَةِ ) أَوْ أَخْذُ نَبَاتِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ( حَرَامٌ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُقْطَعُ عِضَاهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ زَادَ الْمُصَنِّفُ حَرُمَ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَدِينَةِ ، وَاللَّابَتَانِ الْحَرَّتَانِ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ تَثْنِيَةُ لَابَةٍ ، وَهِيَ أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ : لَابَةٌ شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ وَلَابَةٌ غَرْبِيُّهَا فَحَرَمُهَا مَا بَيْنَهَا عَرْضًا وَمَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا طُولًا وَهُمَا عَيْرٌ وَثَوْرٌ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ } وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنَا ، وَهُوَ بِمَكَّةَ غَلَطٌ مِنْ الرُّوَاةِ وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ أُحُدٌ .
وَرُدَّ بِأَنَّ وَرَاءَهُ جَبَلًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ فَأُحُدٌ مِنْ الْحَرَمِ ( وَلَا يُضْمَنُ ) الصَّيْدُ وَلَا النَّبَاتُ ( فِي الْجَدِيدِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلنُّسُكِ بِخِلَافِ حَرَمِ مَكَّةَ ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِسَلَبِ الصَّائِدِ وَالْقَاطِعِ لِشَجَرِهِ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَتَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الشَّجَرِ وَأَبُو دَاوُد فِي الصَّيْدِ ، وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي السَّلَبِ مَا هُوَ وَلِمَنْ هُوَ ؟ فَقِيلَ : إنَّهُ كَسَلَبِ الْقَتِيلِ الْكَافِرِ ، وَقِيلَ : ثِيَابُهُ فَقَطْ ، وَقِيلَ : وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي الْمَجْمُوعِ إنَّهُ يُتْرَكُ لِلْمَسْلُوبِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّلَبَ لِلسَّالِبِ ، وَقِيلَ لِفُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَقِيلَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَنَقْلُ تُرَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَأَحْجَارِهِ وَمَا عُمِلَ مِنْهُ كَالْكِيزَانِ وَإِدْخَالُ ذَلِكَ مِنْ الْحِلِّ إلَيْهِ حُكْمُ حَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا مَرَّ ،

وَيَحْرُمُ صَيْدُ وَجِّ الطَّائِفِ وَنَبَاتِهِ ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِمَا قَطْعًا ، وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ ، وَقِيلَ بِالْبَاءِ لَيْسَ بِحَرَمٍ وَلَكِنْ حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَلَا يُمْلَكُ شَيْءٌ مِنْ نَبَاتِهِ وَلَا يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَلَا يُضْمَنُ وَيُضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَبَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَيَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : وَمَصْرِفُهَا مَصْرِفُ نَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَبَحَثَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ .
.

وَيَتَخَيَّرُ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ بَيْنَ ذَبْحِ مِثْلِهِ وَالصَّدَقَةِ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمِثْلُ دَرَاهِمَ وَيَشْتَرِيَ بِهِ طَعَامًا لَهُمْ ، أَوْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الدِّمَاءِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إمَّا مُخَيَّرٌ أَوْ مُرَتَّبٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مُعَدَّلٌ أَوْ مُقَدَّرٌ وَسَأَجْمَعُهَا لَكَ فِي خَاتِمَةِ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْمُخَيَّرِ الْمُعَدَّلِ فَقَالَ ( وَيَتَخَيَّرُ فِي ) جَزَاءِ إتْلَافِ ( الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ بَيْنَ ) ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ( ذَبْحِ ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ ( مِثْلِهِ ) بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ ( وَالصَّدَقَةِ بِهِ ) بِأَنْ يُفَرِّقَ لَحْمَهُ مَعَ النِّيَّةِ حَتْمًا ( عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ) وَعَلَى فُقَرَائِهِ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى ، أَوْ يُمَلِّكُهُمْ جُمْلَتَهُ مَذْبُوحًا ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ حَيًّا وَلَا أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ ( وَبَيْنَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمِثْلُ ) بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ ( دَرَاهِمَ ) أَوْ غَيْرَهَا ( وَيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا لَهُمْ ) مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ أَوْ يُخْرِجَ مِقْدَارَهَا مِنْ طَعَامِهِ إذْ الشِّرَاءُ مِثَالٌ ( أَوْ يَصُومَ ) فِي أَيْ مَكَان شَاءَ ( عَنْ كُلِّ مُدٍّ ) مِنْ الطَّعَامِ ( يَوْمًا ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } إلَى قَوْلِهِ : { صِيَامًا } وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ ذَبْحَ الْمِثْلِ مَا إذَا قَتَلَ صَيْدًا مِثْلِيًّا حَامِلًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُ مِثْلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا مَرَّ بَلْ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ حَامِلًا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ دَرَاهِمَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِدَرَاهِمَ ، وَالتَّقْوِيمُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا ، فَلَوْ عَبَّرَ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى وَقَوْلُهُ : لَهُمْ أَيْ لِأَجْلِهِمْ لَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لَهُمْ ، وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ لَمْ يَصُمْ عَنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يُكَمِّلُ الْمُنْكَسِرَ وَيَصُومُ عَنْهُ يَوْمًا ، وَلَا يُفْعَلُ مَكَانَ الْمُنْكَسِرِ كَامِلٌ إلَّا هُنَا وَفِي الْقَسَامَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ كَالْمُسْلِمِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ

إلَّا فِي الصَّوْمِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ .

وَغَيْرُ الْمِثْلِيِّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا أَوْ يَصُومُ ، وَيَتَخَيَّرُ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ بَيْنَ ذَبْحِ شَاةٍ ، وَالتَّصَدُّقِ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ ، وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الدَّمَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ دَمُ تَرْتِيبٍ ، فَإِذَا عَجَزَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الشَّاةِ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَدَمُ الْفَوَاتِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ ، وَيَذْبَحُهُ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ فِي الْأَصَحِّ .

( وَغَيْرُ الْمِثْلِيِّ ) مِمَّا لَا نَقْلَ فِيهِ مِنْ الصَّيْدِ يَتَخَيَّرُ فِي جَزَاءِ إتْلَافِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ( يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ ) أَيْ بِقَدْرِهَا ( طَعَامًا ) يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَفُقَرَائِهِ فَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ .
وَثَانِيهِمَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( أَوْ يَصُومُ ) عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَيُكْمِلُ الْمُنْكَسِرَ كَمَا مَرَّ ، وَالْعِبْرَةُ فِي قِيمَةِ غَيْرِ الْمِثْلِيِّ بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ وَزَمَانِهِ قِيَاسًا عَلَى كُلِّ مُتْلَفٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَفِي قِيمَةِ مِثْلِ الْمِثْلِيِّ بِمَكَّةَ وَقْتَ إرَادَةِ تَقْوِيمِهِ ؛ لِأَنَّهَا مَحِلُّ ذَبْحِهِ لَوْ أُرِيدَ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُدُولِ إلَى الطَّعَامِ سِعْرُهُ بِمَكَّةَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ ( وَيَتَخَيَّرُ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ ) لِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَأَكْثَرَ وَفِي قَلْمِ أَظْفَارٍ كَذَلِكَ وَفِي التَّطَيُّبِ وَاللُّبْسِ وَالِادِّهَانِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ بِشَهْوَةٍ ، وَشَاةُ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ وَالْجِمَاعِ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ ( بَيْنَ ) ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ( ذَبْحِ شَاةٍ ) تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَيَقُومُ مَقَامَهَا بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ سُبْعٌ مِنْ وَاحِدُهُ مِنْهُمَا ( وَ ) بَيْنَ ( التَّصَدُّقِ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ ) بِالْمَدِّ جَمْعُ صَاعٍ ، وَآصُعٍ أَصْلُهُ أَصْوُعٌ أَبْدَلَ مِنْ وَاوِهِ هَمْزَةً مَضْمُومَةً قُدِّمَتْ عَلَى الصَّادِ وَنُقِلَتْ ضَمَّتُهَا وَقُلِبَتْ هِيَ أَلِفًا ( لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ ) لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ ( وَ ) بَيْنَ ( صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } أَيْ فَحَلَقَ { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَلِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ { أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : اُنْسُكْ شَاةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا مِنْ الطَّعَامِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ } ، وَالْفَرَقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ ثَلَاثَةُ آصُعٍ ، وَقِيسَ بِالْحَلْقِ وَبِالْمَعْذُورِ

غَيْرُهُمَا .
فَائِدَةٌ : سَائِرُ الْكَفَّارَاتِ لَا يُزَادُ الْمِسْكِينُ فِيهَا عَلَى مُدٍّ إلَّا فِي هَذِهِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ الدَّمَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ ) الَّذِي لَا يَفُوتُ بِهِ الْحَجُّ ( كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ) أَوْ مِمَّا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ ( دَمُ تَرْتِيبٍ ) إلْحَاقًا لَهُ بِدَمِ التَّمَتُّعِ لِمَا فِي التَّمَتُّعِ مِنْ تَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقِيسَ بِهِ تَرْكُ بَاقِي الْمَأْمُورَاتِ ( فَإِذَا عَجَزَ ) عَنْ الدَّمِ ( اشْتَرَى بِقِيمَةِ الشَّاةِ طَعَامًا ) أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَعَامِهِ كَمَا مَرَّ ( وَتَصَدَّقَ بِهِ ) عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَفُقَرَائِهِ ( فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ ) مِنْ الطَّعَامِ ( يَوْمًا ) وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ كَالْإِمَامِ ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الدَّمِ يَصُومُ كَالْمُتَمَتِّعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ ، فَهُوَ مُرَتَّبٌ مُقَدَّرٌ ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْخَاتِمَةِ ( وَدَمُ الْفَوَاتِ ) لِلْحَجِّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ ( كَدَمِ التَّمَتُّعِ ) فِي صِفَتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ السَّابِقَةِ ؛ لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ كَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَالْوُقُوفُ الْمَتْرُوكُ فِي الْفَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ ( وَيَذْبَحُهُ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ ) وُجُوبًا لَا فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَفِي الرَّوْضَةِ : الْأَظْهَرُ لِفَتْوَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ ، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الْبَابِ الْآتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالثَّانِي : يَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ قِيَاسًا عَلَى دَمِ الْإِفْسَادِ ، وَوَقْتُ الْوُجُوبِ عَلَى الْأَوَّلِ مَنُوطٌ بِالتَّحَرُّمِ بِالْقَضَاءِ كَمَا أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ مَنُوطٌ بِالتَّحَرُّمِ بِالْحَجِّ ، وَعَلَيْهِ إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لَا يُقَدِّمُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَيَصُومُ السَّبْعَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ ، وَلَوْ أَخْرَجَ دَمَ الْفَوَاتِ

بَيْنَ التَّحَلُّلِ وَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْقَضَاءِ أَجْزَأَهُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَكَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ .

وَالدَّمُ الْوَاجِبُ بِفِعْلِ حَرَامٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، وَيَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِالْحَرَمِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَيَجِبُ صَرْفُ لَحْمِهِ إلَى مَسَاكِينِهِ .

( وَالدَّمُ الْوَاجِبُ ) عَلَى مُحْرِمٍ ( بِفِعْلِ حَرَامٍ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْحَلْقِ لِعُذْرٍ .
( أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ) عَلَيْهِ غَيْرِ رُكْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَدَمِ الْجُبْرَانَاتِ وَكَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْحَلْقِ ( لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ) بَلْ يَفْعَلُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ وَلَمْ يَرِدْ مَا يُخَالِفُهُ ، وَلَكِنْ يُسَنُّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ( وَيَخْتَصُّ ذَبْحُهُ ) بِأَيِّ مَكَان ( بِالْحَرَمِ فِي الْأَظْهَرِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحَرْتُ هَهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الذَّبْحَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْهَدْيِ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ كَالتَّصَدُّقِ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ خَارِجَ الْحَرَمِ بِشَرْطِ أَنْ يُنْقَلَ إلَيْهِ وَيُفَرَّقَ لَحْمُهُ فِيهِ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ اللَّحْمُ ، فَإِذَا وَقَعَتْ تَفْرِقَتُهُ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ حَصَلَ الْغَرَضُ ( وَيَجِبُ صَرْفُ لَحْمِهِ ) وَجِلْدِهِ وَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مِنْ شَعْرِهِ وَغَيْرِهِ إنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ خِلَافَهُ ( إلَى مَسَاكِينِهِ ) أَيْ الْحَرَمِ وَفُقَرَائِهِ الْقَاطِنِينَ مِنْهُمْ وَالْغُرَبَاءِ ، وَالصَّرْفُ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَشْتَدَّ حَاجَةُ الثَّانِي فَهُوَ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَبِهِ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُفَرِّقَ الْمَذْبُوحَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْطِيَهُ بِجُمْلَتِهِ لَهُمْ ، وَبِهِ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّيْدِ ، وَيَكْفِي دَفْعُهُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ سَوَاءٌ انْحَصَرُوا أَمْ لَا ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ، فَلَوْ دَفَعَ إلَى اثْنَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ثَالِثٍ ضَمِنَ لَهُ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ كَنَظِيرِهِ مِنْ الزَّكَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ اسْتِيعَابُهُمْ

إذَا انْحَصَرُوا كَمَا فِي الزَّكَاةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا حُرْمَةُ الْبَلَدِ وَهُنَاكَ سَدُّ الْخَلَّةِ ، وَتَجِبُ النِّيَّةُ عِنْدَ التَّفْرِقَةِ كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَوْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا كَمَا فِي الزَّكَاةِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ فِي الدَّمِ الْوَاجِبِ بِفِعْلِ حَرَامٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ دَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ كَذَلِكَ وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَسَيَأْتِي ، وَدَفْعُ الطَّعَامِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ لَا يَتَعَيَّنُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مُدٌّ فِي دَمِ التَّمَتُّعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ دَمُهُ دَمَ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ .
أَمَّا دَمُ الِاسْتِمْتَاعَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا دَمُهُ دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ كَمَا مَرَّ وَلَوْ ذَبَحَ الدَّمَ الْوَاجِبَ بِالْحَرَمِ فَسُرِقَ مِنْهُ أَوْ غُصِبَ قَبْلَ التَّفْرِقَةِ لَمْ يُجْزِهِ .
ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ آخَرَ وَهُوَ أَوْلَى ، أَوْ يَشْتَرِيَ بَدَلَهُ لَحْمًا وَيَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ وُجِدَ .
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إذَا قَصَّرَ فِي تَأْخِيرِ التَّفْرِقَةِ ، وَإِلَّا فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ سُرِقَ الْمَالُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ الزَّكَاةُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الدَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ وَالزَّكَاةَ بِعَيْنِ الْمَالِ ، وَلَوْ عُدِمَ الْمَسَاكِينُ فِي الْحَرَمِ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمَالِيَّ حَتَّى يَجِدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ النَّقْلُ .
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النَّقْلُ كَالزَّكَاةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ بِتَخْصِيصِ الْبَلَدِ بِهَا بِخِلَافِ هَذَا .

وَأَفْضَلُ بُقْعَةٍ لِذَبْحِ الْمُعْتَمِرِ الْمَرْوَةُ ، وَلِلْحَاجِّ مِنًى ، وَكَذَا حُكْمُ مَا سَاقَا مِنْ هَدْيٍ مَكَانًا .
( وَأَفْضَلُ بُقْعَةٍ ) مِنْ الْحَرَمِ ( لِذَبْحِ الْمُعْتَمِرِ ) الَّذِي لَيْسَ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا وَلَوْ مُفْرِدًا ( الْمَرْوَةُ ) لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ تَحَلُّلِهِ ( وَلِ ) ذَبْحِ ( الْحَاجِّ ) وَلَوْ قَارِنًا أَوْ مُرِيدًا إفْرَادًا أَوْ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ عَنْ دَمِ تَمَتُّعِهِ ( مِنًى ) لِأَنَّهَا مَحَلُّ تَحَلُّلِهِ ، وَالْأَحْسَنُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْكِتَابِ فِي " بُقْعَةٍ " ضَبْطُهَا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُضَافِ لِضَمِيرِ الْحَرَمِ ( وَكَذَا حُكْمُ مَا سَاقَا ) أَيْ الْمُعْتَمِرُ وَالْحَاجُّ ( مِنْ هَدْيٍ ) نَذْرٍ أَوْ نَفْلٍ ( مَكَانًا ) فِي الِاخْتِصَاصِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ .

وَوَقْتُهُ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَوَقْتُهُ ) أَيْ ذَبْحِ هَذَا الْهَدْيِ ( وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) قِيَاسًا عَلَيْهَا ، وَالثَّانِي لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ كَدِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ أَخَّرَ الذَّبْحَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ نُظِرَ إنْ كَانَ وَاجِبًا وَجَبَ ذَبْحُهُ قَضَاءً ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ فَاتَ ، هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَإِنْ عَيَّنَ لِهَدْيِ التَّقَرُّبِ غَيْرَ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ وَقْتٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَعْيِينِ الْيَوْمِ قُرْبَةٌ .
نَقَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ ، وَالْهَدْيُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَسُوقُهُ الْمُحْرِمُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا يَلْزَمُهُ مِنْ دَمِ الْجُبْرَانَاتِ ، وَهَذَا الثَّانِي لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا سَبَقَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالرَّوْضَةِ أَنَّ مَا يَسُوقُهُ الْمُعْتَمِرُ يَخْتَصُّ أَيْضًا بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْإِسْنَوِيُّ .
خَاتِمَةٌ : حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الْمَنَاسِكِ الدَّمُ ، فَالْمُرَادُ بِهِ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةِ فَتُجْزِئُ الْبَدَنَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةِ دِمَاءٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا ، فَلَوْ ذَبَحَهَا عَنْ دَمٍ وَجَبَ فَالْفَرْضُ سُبْعُهَا فَلَهُ إخْرَاجُهُ عَنْهُ وَأَكْلُ الْبَاقِي إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ كَالْأُضْحِيَّةِ فَيَجِبُ فِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ كَمَا مَرَّ بَلْ لَا تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ شَاتِهِ .
.

وَحَاصِلُ الدِّمَاءِ تَرْجِعُ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ ، وَدَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ ، وَدَمُ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ ، وَدَمُ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَشْتَمِلُ عَلَى دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْفَوَاتِ وَالْمَنُوطِ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ وَهُوَ تَرْكُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَطَوَافِ الْوَدَاعِ فَهَذِهِ الدِّمَاءُ دِمَاءُ تَرْتِيبٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الذَّبْحُ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْهُ ، وَتَقْدِيرٍ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ مَا يَعْدِلُ إلَيْهِ بِمَا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَشْتَمِلُ عَلَى دَمِ الْجِمَاعِ فَهُوَ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ فِيهِ بِالتَّقْوِيمِ وَالْعُدُولِ إلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ الْقِيمَةِ فَيَجِبُ فِيهِ بَدَنَةٌ ثُمَّ بَقَرَةٌ ثُمَّ سَبْعُ شِيَاهٍ ، فَإِنْ عَجَزَ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَيُكْمِلُ الْمُنْكَسِرَ كَمَا مَرَّ ، وَعَلَى دَمِ الْإِحْصَارِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ثُمَّ طَعَامٌ بِالتَّعْدِيلِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الطَّعَامِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : يَشْتَمِلُ عَلَى دَمِ الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ فَهُوَ تَخْيِيرٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَتَخَيَّرُ إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ وَلَاءً بَيْنَ ذَبْحٍ وَإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَعَلَى دَمِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَهُوَ التَّطَيُّبُ وَالدَّهْنُ بِفَتْحِ الدَّالِ لِلرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ وَبَعْضِ شُعُورِ الْوَجْهِ عَلَى خِلَافٍ تَقَدَّمَ وَاللُّبْسُ وَمُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ وَالِاسْتِمْنَاءُ وَالْجِمَاعُ غَيْرُ الْمُفْسِدِ .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ يَشْتَمِلُ عَلَى دَمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالشَّجَرِ ، فَجُمْلَةُ هَذِهِ الدِّمَاءِ عِشْرُونَ دَمًا ، وَنَظَمَ الدَّمِيرِيُّ رَحِمَهُ

اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْخَاتِمَةَ ، فَقَالَ : خَاتِمَةٌ مِنْ الدِّمَاءِ مَا الْتُزِمْ مُرَتَّبًا وَمَا بِتَخْيِيرٍ لَزِمْ وَالصِّفَتَانِ لَا اجْتِمَاعَ لَهُمَا كَالْعَدْلِ وَالتَّقْوِيمِ حَيْثُ فُهِمَا فَالدَّمُ بِالتَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ فِي تَمَتُّعٍ فَوْتِ قِرَانٍ اُكْتُفِيَ وَتَرْكُ مِيقَاتٍ وَرَمْيٍ وَوَدَاعْ مَعَ الْمَبِيتَيْنِ بِلَا عُذْرٍ يُشَاعْ ثُمَّ مُرَتَّبٌ بِتَعْدِيلٍ سَقَطْ فِي مُفْسِدِ الْجِمَاعِ وَالْحَصْرِ فَقَطْ مُخَيَّرٌ مُقَدَّرٌ دُهْنٌ لِبَاسْ وَالْحَلْقُ وَالْقَلْمُ وَطِيبٌ فِيهِ بَاسْ وَالْوَطْءُ حَيْثُ الشَّاةُ وَالْمُقَدَّمَاتْ مُخَيَّرٌ مُعَدَّلٌ صَيْدٌ نَبَاتْ وَهَذِهِ الدِّمَاءُ كُلُّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ كَمَا مَرَّ ، وَتُرَاقُ فِي النُّسُكِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ ، وَدَمُ الْفَوَاتِ يُجْزِئُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْقَضَاءِ كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي إنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْقَضَاءِ ، وَكُلُّ هَذِهِ الدِّمَاءِ وَبَدَلُهَا مِنْ الطَّعَامِ تَخْتَصُّ تَفْرِقَتُهُ بِالْحَرَمِ عَلَى مَسَاكِينِهِ وَكَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الذَّبْحُ إلَّا دَمَ الْمُحْصَرِ فَيَذْبَحُ حَيْثُ أُحْصِرَ كَمَا سَيَأْتِي ، فَإِنْ عُدِمَ الْمَسَاكِينُ فِي الْحَرَمِ أَخَّرَهُ كَمَا مَرَّ حَتَّى يَجِدَهُمْ كَمَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدٍ فَلَمْ يَجِدْهُمْ .

وَيُسَنُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ النَّعَمِ ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَهْدَى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ } وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّذْرِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَلِّدَ الْبَدَنَةَ أَوْ الْبَقَرَةِ نَعْلَيْنِ مِنْ النِّعَالِ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْإِحْرَامِ وَيَتَصَدَّقَ بِهِمَا بَعْدَ ذَبْحِهَا ثُمَّ يَجْرَحَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْيُمْنَى بِحَدِيدَةٍ مُسْتَقْبِلًا لَهَا الْقِبْلَةَ وَيُلَطِّخَهَا بِالدَّمِ لِتُعْرَفَ ، فَإِنْ قَرَنَ هَدْيَيْنِ بِحَبْلٍ جَرَحَ الْآخَرَ فِي الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى ، وَالْغَنَمُ لَا تُجْرَحُ بَلْ تُقَلَّدُ عُرَى الْقِرَبِ وَآذَانِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ بِذَلِكَ ذَبْحُهَا .

بَابُ الْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ مَنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ .

بَابُ الْإِحْصَارِ عَنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ ( وَالْفَوَاتِ ) لِلْحَجِّ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ مَوَانِعِ إتْمَامِ الْحَجِّ ، وَالْمَوَانِعُ سِتَّةٌ : أَوَّلُهَا الْإِحْصَارُ الْعَامُّ وَهُوَ مَنْعُ الْمُحْرِمِينَ عَنْ الْمُضِيِّ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ ، يُقَالُ أَحَصَرَهُ وَحَصَرَهُ ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ فِي حَصْرِ الْمَرَضِ ، وَالثَّانِي أَشْهَرُ فِي حَصْرِ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِ هَذَا الثَّانِي ، فَقَالَ ( مَنْ أُحْصِرَ ) أَيْ مُنِعَ مِنْ جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ ( تَحَلَّلَ ) جَوَازًا بِمَا سَيَأْتِي لَا وُجُوبًا ، سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَمْ مُعْتَمِرًا أَمْ قَارِنًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَمْ بِغَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ كَافِرًا أَمْ مُسْلِمًا ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ الْمُضِيُّ بِقِتَالٍ أَمْ بِبَذْلِ مَالٍ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ مَنْعٌ مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا أَمْ لَا ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } : أَيْ وَأَرَدْتُمْ التَّحَلُّلَ { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } إذْ الْإِحْصَارُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْتِ ، وَكَانَ مُعْتَمِرًا فَنَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ { قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا } وَلِأَنَّ فِي مُصَابَرَةِ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَعْمَالِ مَشَاقٌّ ، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنَّا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ .
أَمَّا إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ الْقِتَالِ أَوْ بَذْلِ مَالٍ فَلَا يَتَحَلَّلُونَ ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ بَذْلُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ : أَيْ قِلَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى أَدَاءِ النُّسُكِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَنَحْوُ الدِّرْهَمَيْنِ وَالثَّلَاثِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ أَجْلِهَا .
وَيُكْرَهُ بَذْلُ مَالٍ لِكَافِرٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّغَارِ بِلَا ضَرُورَةٍ .
وَلَا يَحْرُمُ كَمَا لَا تَحْرُمُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51