كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

فُرُوعٌ : لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ : أَنْتَ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلِي عَلَيْهِ كَذَا وَادَّعَى عَلَيْكَ وَأُقِيمَ بِهِ بَيِّنَةٌ فَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ أَوْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنِّي وَكِيلٌ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ وَكِيلُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لَهُ فَكَيْفَ تُقَامُ بَيِّنَةٌ بِهَا قَبْلَ دَعْوَاهُ ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ وَكِيلٌ وَأَرَادَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ فَلْيَعْزِلْ نَفْسَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْلَمُ أَنِّي وَكِيلٌ وَلَا يَقُولُ : لَسْتُ بِوَكِيلٍ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِبَيِّنَةٍ قَدْ تَقُومُ عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ .

وَإِذَا ثَبَتَ مَالٌ عَلَى غَائِبٍ وَلَهُ مَالٌ قَضَاهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي إنْهَاءَ الْحَالِ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ أَجَابَهُ فَيُنْهِي سَمَاعَ بَيِّنَةٍ لِيَحْكُمَ بِهَا ثُمَّ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ ، أَوْ حُكْمًا لِيَسْتَوْفِيَ .

( وَإِذَا ) ( ثَبَتَ ) عِنْدَ حَاكِمٍ ( مَالٌ عَلَى غَائِبٍ ) وَحَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ ( وَلَهُ مَالٌ ) حَاضِرٌ وَطَلَبَهُ الْمُدَّعِي ( قَضَاهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ وَتَعَذَّرَ وَفَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ فَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَامْتَنَعَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَقْضِيه وَلَا يُطَالِبُ بِكَفِيلٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدَّفْعِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ ( فَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي إنْهَاءَ الْحَالِ ) مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ أَوْ سَأَلَ إنْهَاءَ حُكْمٍ ( إلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ أَجَابَهُ ) لِذَلِكَ إنْ عَلِمَ مَكَانَ الْغَائِبِ مُسَارَعَةً إلَى قَضَاءِ الْحُقُوقِ ( فَيُنْهِي ) إلَيْهِ ( سَمَاعَ بَيِّنَةٍ لِيَحْكُمَ بِهَا ثُمَّ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ ) وَيَكْتُبُ فِي صِفَةِ إنْهَائِهَا : سَمِعْتُ بَيِّنَةً عَادِلَةً قَامَتْ عِنْدِي بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا فَأَحْكُمُ بِهَا وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ كَمَا سَيَأْتِي ( أَوْ ) يُنْهِي إلَيْهِ ( حُكْمًا ) إنْ حَكَمَ ( لِيَسْتَوْفِيَ ) الْمَالَ ، وَيُكْتَبُ فِي إنْهَاءِ الْحُكْمِ : قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ بِكَذَا وَحَكَمْتُ لَهُ بِهِ فَاسْتَوْفِ حَقَّهُ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو لِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي بَلَدٍ وَخَصْمُهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ لَا يُمْكِنُهُ حَمْلُهَا إلَى بَلَدِ الْخَصْمِ وَلَا حَمْلُ الْخَصْمِ إلَى بَلَدِ الْبَيِّنَةِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بُعْدُ الْمَسَافَةِ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : اعْلَمْ أَنَّ لِإِنْهَاءِ الْحَالِ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ : الْأُولَى : سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : قَوْلُ الْحَاكِمِ : ثَبَتَ عِنْدِي وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْأُولَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ .
وَالثَّالِثَةُ : الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَتَسْتَلْزِمُ مَا قَبْلَهَا ، وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي يُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْحُكْمُ هُوَ

الثَّانِيَةُ لَا الْأُولَى .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : فَإِذًا تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ بِمُحَرَّرٍ ، وَقَوْلُهُ : إلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ بَلَغَهُ عَمِلَ بِهِ ، وَلَوْ كَتَبَ لِمُعَيَّنٍ فَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا وَأَمْضَاهُ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : سَمَاعُ بَيِّنَةٍ لِيَحْكُمَ بِهَا يُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُعَدِّلْهَا وَفَوَّضَ تَعْدِيلَهَا إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَيُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِعِلْمِهِ وَكَتَبَ لِيَقْضِيَ لَهُ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْعُدَّةِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ هُوَ كَالشَّاهِدِ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِالْكِتَابَةِ ، وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ جَوَازُهُ ، وَيَقْضِي بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ عَنْ عِلْمِهِ إخْبَارٌ عَنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ فَلْيَكُنْ كَإِخْبَارِهِ عَنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَبِمَا قَالَهُ فِي الْعُدَّةِ جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ الْأَصَحُّ الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ .
وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُنَا مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي ابْنَ الْمُقْرِي عَكْسَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَصْلِهِ ، وَلَعَلَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ .

وَالْإِنْهَاءُ أَنْ يُشْهِدَ عَدْلَيْنِ بِذَلِكَ ، وَيُسْتَحَبُّ كِتَابٌ بِهِ يَذْكُرُ فِيهِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ، وَيَخْتِمُهُ ، وَيَشْهَدَانِ عَلَيْهِ إنْ أَنْكَرَ ، فَإِنْ قَالَ : لَسْتُ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَقَالَ لَسْتُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَاتِ ، وَإِنْ كَانَ أُحْضِرَ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ طُولِبَ وَتُرِكَ الْأَوَّلُ ، وَإِلَّا بَعَثَ إلَى الْكَاتِبِ لِيَطْلُبَ مِنْ الشُّهُودِ زِيَادَةَ صِفَةٍ تُمَيِّزُهُ وَيَكْتُبُهَا ثَانِيًا .

( وَالْإِنْهَاءُ : أَنْ يُشْهِدَ عَدْلَيْنِ بِذَلِكَ ) أَيْ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ خَاصَّةً ، أَوْ بِالْحُكْمِ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يُؤَدِّيَانِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْآخَرَ ، وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْهُمَا وَلَكِنْ أَنْشَأَ الْحُكْمَ بِحُضُورِهِمَا فَلَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُمَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ( وَيُسْتَحَبُّ ) مَعَ الْإِشْهَادِ ( كِتَابٌ بِهِ ) وَلَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَفَائِدَةُ الْكِتَابِ لِيَذْكُرَ الشَّاهِدُ الْحَالَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْسَاهُ ( يَذْكُرُ فِيهِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ) وَالْمَحْكُومُ لَهُ مِنْ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَكُنْيَتِهِ وَقَبِيلَتِهِ وَحِلْيَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِيَسْهُلَ التَّمْيِيزُ ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ شُهُودِ الْكِتَابِ وَتَارِيخِهِ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْغَائِبُ بَدَلَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِيَتَنَاوَلَ الثُّبُوتَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْحُكْمِ ( وَيَخْتِمُهُ ) أَيْ الْكِتَابَ نَدْبًا حِفْظًا لِلْكِتَابَةِ وَإِكْرَامًا لِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَخَتْمُ الْكِتَابِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ رَوَى الْبُخَارِيُّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْسِلُ كُتُبَهُ غَيْرَ مَخْتُومَةٍ ، فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبُولِهَا إلَّا مَخْتُومَةً ، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا وَنَقَشَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا غَيْرَ مَخْتُومٍ خَوْفًا عَلَى كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَإِضَاعَةِ تَدْبِيرِهِمْ ، وَيَكُونُ الْخَتْمُ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ عَلَى الشَّاهِدِ بِحَضْرَتِهِ ، وَيَقُولُ : أُشْهِدُكُمَا أَنِّي كَتَبْتُ إلَى فُلَانٍ بِمَا سَمِعْتُمَا ، وَيَضَعَانِ خَطَّهُمَا فِيهِ ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ : أُشْهِدُكُمَا أَنَّ هَذَا خَطِّي وَأَنَّ مَا فِيهِ حُكْمِي مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ ، وَيَدْفَعُ لِلشَّاهِدَيْنِ نُسْخَةً أُخْرَى بِلَا خَتْمٍ لِيُطَالِعَاهَا ، وَيَتَذَاكَرَا عِنْدَ الْحَاجَةِ .
وَمِنْ صِفَةِ الْكِتَابِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَضَرَ - عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - فُلَانٌ ،

وَادَّعَى عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ الْمُقِيمِ بِبَلَدِكَ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ هُمَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَدْ عُدِّلَا عِنْدِي وَحَلَّفْتُ الْمُدَّعِي وَحَكَمْتُ لَهُ بِالْمَالِ فَسَأَلَنِي أَنْ أُكْتَبَ إلَيْكَ فِي ذَلِكَ فَأَجَبْتُهُ وَأَشْهَدْتُ بِالْكِتَابِ فُلَانًا وَفُلَانًا ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ وَاسْمَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فِي الْعِنْوَانِ أَيْضًا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بَلَدَ الْغَائِبِ كَتَبَ الْكِتَابَ مُطْلَقًا إلَى كُلِّ مَنْ يَبْلُغُهُ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ مَنْ بَلَغَهُ عَمِلَ بِهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ ظُهُورُ عَدَالَتِهِمْ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَلَا تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ عِنْدَهُ بِتَعْدِيلِ الْكَاتِبِ إيَّاهُمْ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِذَا حَمَلَا الْكِتَابَ إلَى بَلَدِ الْغَائِبِ أَخْرَجَاهُ إلَيْهِ لِيَقِفَ عَلَى مَا فِيهِ ( وَيَشْهَدَانِ ) عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْ الْقَاضِي الْكَاتِبِ مِنْ الْحُكْمِ ، أَوْ الثُّبُوتِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْحُكْمِ ( إنْ أَنْكَرَ ) الْخَصْمُ الْمُحْضَرُ لِلْقَاضِي الْحَقَّ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ ) اعْتَرَفَ بِهِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ ، وَ ( فَإِنْ قَالَ : لَسْتُ الْمُسَمَّى فِي ) هَذَا ( الْكِتَابِ ) أَيْ الْمَكْتُوبِ ( صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) أَنَّهُ لَيْسَ الْمُسَمَّى فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِنَفْسِهِ وَالْأَصْلُ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَكْفِي الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ اللُّزُومِ كَمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ .
نَعَمْ إنْ أَجَابَ بِلَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ وَأَرَادَ الْحَلِفَ عَلَيْهِ مُكِّنَ ( وَعَلَى الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهِ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ إنْكَارُهُ ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَلَى عَيْنِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ حُكِمَ عَلَيْهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ يَكْفِي فِيهَا الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ ، وَلَا يُبَالَغُ فِي الْبَحْثِ

وَالِاسْتِزْكَاءِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ ( فَإِنْ أَقَامَهَا ) أَيْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْكِتَابِ اسْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَسَبُهُ ( فَقَالَ ) الْغَائِبُ صَحِيحٌ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، لَكِنْ ( لَسْتُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ ) بِهَذَا الْحَقِّ ( لَزِمَهُ الْحُكْمُ ) بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَمْ يُتَلَفَّتْ لِقَوْلِهِ ( إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ) شَخْصٌ آخَرُ ( مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَاتِ ) الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ ) هُنَاكَ مُشَارِكٌ لَهُ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ مَاتَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَعَ الْإِشْكَالُ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَإِنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ فَلَا إشْكَالَ ، وَإِنْ عَاصَرَهُ وَكَانَ حَاضِرًا ( أُحْضِرَ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ ) الْمُشَارِكُ لَهُ ( بِالْحَقِّ طُولِبَ ) بِهِ ( وَتُرِكَ الْأَوَّلُ ) لِبَيَانِ أَنَّ الْغَلَطَ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي ، وَإِلَّا فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَا إذَا كَذَبَ الْمُقِرُّ لَهُ وَقَدْ سَبَقْتُ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَعْتَرِفْ الْمُشَارِكُ لَهُ بِالْحَقِّ ( بَعَثَ ) الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ( إلَى ) الْقَاضِي ( الْكَاتِبِ لِيَطْلُبَ مِنْ الشُّهُودِ زِيَادَةَ صِفَةٍ تُمَيِّزُهُ ) أَيْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ ( وَيَكْتُبُهَا ثَانِيًا ) وَيُنْهِيهَا لِبَلَدِ الْغَائِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ زِيَادَةً عَلَى الصِّفَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَنْكَشِفَ بِتَمْيِيزِ شُهُودِ الْأَصْلِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : يُعْتَبَرُ مَعَ الْمُعَاصَرَةِ إمْكَانُ الْمُعَامَلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاقْتِصَارُ عَلَى كِتَابَةِ الصِّفَةِ الْمُمَيِّزَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ مُسْتَأْنَفٍ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الزَّائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ لِدَعْوَى وَحَلِفٍ .

وَلَوْ حَضَرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ بِبَلَدِ الْحَاكِمِ فَشَافَهَهُ بِحُكْمِهِ فَفِي إمْضَائِهِ إذَا عَادَ إلَى وِلَايَتِهِ خِلَافُ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ ، وَلَوْ نَادَاهُ فِي طَرَفَيْ وِلَايَتِهِمَا أَمْضَاهُ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى سَمَاعِ بَيِّنَةٍ كَتَبَ سَمِعْتُ بَيِّنَةً عَلَى فُلَانٍ ، وَيُسَمِّيهَا الْقَاضِي إنْ لَمْ يُعَدِّلْهَا ، وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ جَوَازُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ .

( وَلَوْ ) ( حَضَرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ بِبَلَدِ الْحَاكِمِ ) لِلْمُدَّعِي الْحَاضِرِ ( فَشَافَهَهُ بِحُكْمِهِ ) عَلَى الْغَائِبِ ( فَفِي إمْضَائِهِ ) أَيْ تَنْفِيذِهِ ( إذَا عَادَ إلَى ) مَحِلِّ ( وِلَايَتِهِ خِلَافُ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ ) وَقَدْ مَرَّ فَيَحْكُمُ ، وَخَرَجَ بِبَلَدِ الْحَاكِمِ مَا لَوْ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا وَأَخْبَرَهُ بِحُكْمِهِ فَلَيْسَ لَهُ إمْضَاؤُهُ إذَا عَادَ لِمَحِلِّ وِلَايَتِهِ ، وَبِحُكْمِهِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَقَطْ فَلَا يَقْضِي بِهَا إذَا عَادَ إلَى مَحِلِّ وِلَايَتِهِ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ ، وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هُنَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي مَحِلِّ وِلَايَتِهِ حَكَمْتُ بِكَذَا يَحْصُلُ لِلسَّامِعِ بِهِ عِلْمٌ بِالْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْإِنْشَاءِ فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ لَا يُحَصِّلُ عِلْمًا بِوُقُوعِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الشَّهَادَةِ ، فَاخْتَصَّ سَمَاعُهَا بِمَحِلِّ الْوِلَايَةِ ( وَلَوْ نَادَاهُ ) وَهُمَا كَائِنَانِ ( فِي طَرَفَيْ وِلَايَتِهِمَا ) أَيْ قَالَ قَاضِي بَلَدِ الْحَاضِرِ وَهُوَ فِي طَرَفِ وِلَايَتِهِ لِقَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي طَرَفِ وِلَايَتِهِ حَكَمْتُ بِكَذَا عَلَى فُلَانٍ الَّذِي بِبَلَدِكَ ( أَمْضَاهُ ) أَيْ نَفَّذَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْكِتَابَةِ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : إنِّي حَكَمْتُ بِكَذَا فَإِنَّهُ يُمْضِيهِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهِ نَائِبُهُ فِي الْبَلَدِ وَعَكْسِهِ ( وَإِنْ اقْتَصَرَ ) الْقَاضِي الْكَاتِبُ ( عَلَى سَمَاعِ بَيِّنَةٍ ) بِلَا حُكْمٍ ( كَتَبَ ) بِهَا إلَى بَلَدِ الْغَائِبِ فَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ لَهُ ( سَمِعْتُ بَيِّنَةً عَلَى فُلَانٍ ) ابْنِ فُلَانٍ وَيَصِفُهُ بِمَا يُمَيِّزُهُ بِهِ بِكَذَا وَكَذَا لِيَتَوَلَّى الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْحُكْمَ عَلَيْهِ ( وَيُسَمِّيهَا الْقَاضِي ) الْكَاتِبُ حَتْمًا وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا ( إنْ لَمْ

يُعَدِّلْهَا ) لِيَبْحَثَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَنْ عَدَالَتِهَا وَغَيْرِهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ عَدَّلَهَا ( فَالْأَصَحُّ جَوَازُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ ) لِلْبَيِّنَةِ وَيَأْخُذُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَعْدِيلِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ لَهَا مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ تَعْدِيلِهَا كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ الْقِيَاسُ ، وَصَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا يُسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ إنَّمَا يَقْضِي بِقَوْلِهِمْ .

وَالْكِتَابُ بِالْحُكْمِ يَمْضِي مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ لَا يُقْبَلُ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا فِي مَسَافَةِ قَبُولِ شَهَادَةٍ عَلَى شَهَادَةٍ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ أَقَامَ الْخَصْمُ بَيِّنَةً بِجَرْحِ الشُّهُودِ قُدِّمَتْ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الِاسْتِمْهَالُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيُقِيمَ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَبْرَأَنِي أَوْ قَضَيْتُ الْحَقَّ وَاسْتُمْهِلَ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَوْ قَالَ : أَمْهِلُونِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَى بَلَدِهِمْ وَأَجْرَحَهُمْ فَإِنِّي لَا أَتَمَكَّنُ مِنْ جَرْحِهِمْ إلَّا هُنَاكَ ، أَوْ قَالَ : لِي بَيِّنَةٌ هُنَاكَ دَافِعَةٌ لَمْ يُمْهَلْ ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحَقُّ مِنْهُ ، فَإِنْ أَثْبَتَ جَرْحًا أَوْ دَفْعًا اسْتَرَدَّ ، وَجَمِيعُ مَا سَبَقَ حَيْثُ الْحُجَّةُ شَاهِدَانِ ، فَإِذَا كَانَتْ شَاهِدًا وَيَمِينًا أَوْ يَمِينًا مَرْدُودَةً وَجَبَ بَيَانُهَا ، فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عِنْدَ الْمَنْهِيِّ إلَيْهِ ( وَالْكِتَابُ ) أَوْ الْإِنْهَاءُ بِدُونِهِ ( بِالْحُكْمِ ) ( يَمْضِي مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ ) وَبُعْدِهَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ لِفَهْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَ ) الْكِتَابُ ( بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ) فَقَطْ ( لَا يُقْبَلُ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا فِي مَسَافَةِ قَبُولِ شَهَادَةٍ عَلَى شَهَادَةٍ ) وَهِيَ كَمَا سَيَأْتِي مَا فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى الْمُعْتَبَرَةِ بِأَنَّهَا الَّتِي يَرْجِعُ مِنْهَا الْمُبَكِّرُ لِمَوْضِعِهِ لَيْلًا لَا الْمُعْتَبَرَةُ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَالثَّانِي يُقْبَلُ مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَيْضًا ، وَفَارَقَ عَلَى الْأَوَّلِ الْإِنْهَاءَ بِالْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاسْتِيفَاءُ بِخِلَافِ سَمَاعِ الْحُجَّةِ ، إذْ يَسْهُلُ اخْتِصَارُهَا مَعَ الْقُرْبِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْمَسَافَةِ بِمَا بَيْنَ الْقَاضِيَيْنِ ، لَا بِمَا بَيْنَ الْقَاضِي الْمَنْهِيِّ وَالْغَرِيمِ .

[ فَصْلٌ ] ادَّعَى عَيْنًا غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ يُؤْمَنُ اشْتِبَاهُهَا كَعَقَارٍ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ مَعْرُوفَاتٍ سَمِعَ بَيِّنَتَهُ وَحَكَمَ بِهَا وَكَتَبَ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ لِيُسَلِّمَهُ لِلْمُدَّعِي وَيَعْتَمِدُ فِي الْعَقَارِ حُدُودَهُ .

[ فَصْلٌ ] فِي بَيَانِ الدَّعْوَى بِعَيْنٍ غَائِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا .
إذَا ( ادَّعَى ) عِنْدَ قَاضٍ ( عَيْنًا غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ ) سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ أَمْ لَا ( يُؤْمَنُ اشْتِبَاهُهَا ) بِغَيْرِهَا ( كَعَقَارٍ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ مَعْرُوفَاتٍ ) بِالشُّهْرَةِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ كَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ بِمَعْرُوفِينَ بِتَغْلِيبِ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى ، وَلَكِنَّهُ غَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ الْأَكْثَرِ عَلَى الْعَاقِلِ الْأَقَلِّ ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ قَوْلُهُ ( سَمِعَ ) الْقَاضِي ( بَيِّنَتَهُ وَحَكَمَ بِهَا وَكَتَبَ ) بِذَلِكَ ( إلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ لِيُسَلِّمَهُ ) أَيْ الْمُدَّعَى بِهِ ( لِلْمُدَّعِي ) بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَا فَرْقَ فِي مَسَائِلِ الْفَصْلِ بَيْنَ حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَغَيْبَتِهِ ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ نَظَرًا لَغَيْبَةِ الْمَحْكُومِ بِهِ ، وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي مَحَلِّ وِلَايَةِ الْقَاضِي أَوْ خَارِجًا عَنْهَا كَمَا أَنَّ قَضَاءَهُ يَنْفُذُ عَلَى الْخَارِجِ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِنَسَبِهِ وَصِفَتِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَعَلَى هَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِحَقَائِقِ الْقَضَاءِ : قَاضِي قَرْيَةٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عَلَى بِقَاعِ الدُّنْيَا فِي دَائِرَةِ الْآفَاقِ وَيَقْضِي عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا ( وَيَعْتَمِدُ ) الْمُدَّعِي ( فِي ) دَعْوَى ( الْعَقَارِ ) الَّذِي لَمْ يُشْتَهَرْ ( حُدُودَهُ ) الْأَرْبَعَةَ لِيَتَمَيَّزَ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذِكْرِ حُدُودِهِ كُلِّهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَقَلَّ مِنْهَا ، وَإِلَّا اكْتَفَى بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مِنْهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا أَفْتَى بِهِ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ ، وَيَجِبُ ذِكْرُ الْبُقْعَةِ وَالسِّكَّةِ ، وَهَلْ هُوَ فِي أَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا أَوْ وَسَطِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْعَقَارُ ، وَلَا يَجِبُ ذِكْرُ الْقِيمَةِ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِدُونِهَا ، هَذَا كُلُّهُ إذَا تَوَقَّفَ التَّعْرِيفُ عَلَى الْحُدُودِ ،

فَلَوْ حَصَلَ التَّعْرِيفُ بِاسْمٍ وُضِعَ لَهَا لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا كَدَارِ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ كَفَى كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الدَّعَاوَى .

أَوْ لَا يُؤْمَنُ فَالْأَظْهَرُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ ، وَيُبَالِغُ الْمُدَّعِي فِي الْوَصْفِ وَيَذْكُرُ الْقِيمَةَ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِهَا بَلْ يَكْتُبُ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ فَيَأْخُذُهُ وَيَبْعَثُهُ إلَى الْكَاتِبِ لِيَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُدَّعِي بِكَفِيلٍ بِبَدَنِهِ فَإِنْ شَهِدُوا بِعَيْنِهِ كَتَبَ بِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي مُؤْنَةُ الرَّدِّ .

وَإِنْ ادَّعَى أَشْجَارًا فِي بُسْتَانٍ ذَكَرَ حُدُودَهُ الَّتِي لَا يَتَمَيَّزُ بِدُونِهَا ، وَعَدَدَ الْأَشْجَارِ وَمَحَلَّهَا مِنْ الْبُسْتَانِ وَمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ فِي غَيْرِهَا ، وَالضَّابِطُ التَّمْيِيزُ ( أَوْ ) كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا غَائِبَةً عَنْ الْبَلَدِ ( لَا يُؤْمَنُ ) اشْتِبَاهُهَا كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا ( فَالْأَظْهَرُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ ) عَلَى صِفَتِهَا مَعَ غَيْبَتِهَا ، وَهِيَ غَائِبَةٌ اعْتِمَادًا عَلَى الصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا كَالْعَقَارِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ تَتَشَابَهُ ( وَ ) عَلَى الْأَظْهَرِ ( يُبَالِغُ الْمُدَّعِي فِي ) اسْتِقْصَاءِ ( الْوَصْفِ ) لِلْمُدَّعَى بِهِ الْمِثْلِيِّ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ ( وَيَذْكُرُ الْقِيمَةَ ) فِي الْمُتَقَوِّمِ وُجُوبًا فِيهِمَا ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ الْمِثْلِيَّ وَأَنْ يُبَالِغَ فِي وَصْفِ الْمُتَقَوِّمِ .
تَنْبِيهٌ : مَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هُوَ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هُنَا ، وَمَا ذَكَرَهُ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي الدَّعَاوَى مِنْ وُجُوبِ وَصْفِ الْعَيْنِ بِصِفَةِ السَّلَمِ دُونَ قِيمَتِهَا مِثْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ مُتَقَوِّمَةً هُوَ فِي عَيْنٍ حَاضِرَةٍ بِالْبَلَدِ يُمْكِنُ إحْضَارُهَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، وَبِذَلِكَ انْدَفَعَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ كَلَامَهُمَا هُنَا يُخَالِفُ مَا فِي الدَّعَاوَى ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : مَعَ اعْتِمَادِهِ مَا فِي الدَّعَاوَى كَلَامُ الْمَتْنِ فِي غَيْرِ النَّقْدِ .
أَمَّا هُوَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ ذِكْرُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّحَّةِ وَالتَّكْسِيرِ ( وَ ) الْأَظْهَرُ ( أَنَّهُ ) إذَا سَمِعَ بَيِّنَةَ الصِّفَةِ ( لَا يَحْكُمُ بِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَعَ خَطَرِ الِاشْتِبَاهِ وَالْجَهَالَةِ بَعِيدٌ ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِهَا .
تَنْبِيهٌ : هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ : أَيْ إذَا قُلْنَا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، فَفِي الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا لَا

يَحْكُمُ بِهَا لِمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي : يَحْكُمُ وَلَا نَظَرَ إلَى خَطَرِ الِاشْتِبَاهِ .
ثُمَّ فَرَّعَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْأَظْهَرِ فَقَالَ ( بَلْ يَكْتُبُ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ بِمَا شَهِدَتْ ) تِلْكَ الْبَيِّنَةُ ( بِهِ فَيَأْخُذُهُ ) أَيْ يَنْزِعُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا وَجَدَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْكِتَابُ ( وَيَبْعَثُهُ إلَى ) الْقَاضِي ( الْكَاتِبِ لِيَشْهَدُوا ) أَيْ الشُّهُودُ أَوَّلًا ( عَلَى عَيْنِهِ ) أَيْ الْمُدَّعَى بِهِ لِيَحْصُلَ الْيَقِينُ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ كَالْمُحَرَّرِ تَفْرِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِسَمَاعِ بَيِّنَةِ الصِّفَةِ ، لَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَكْتُبُ بِمَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ مُجَرَّدِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَوْ مَعَ الْحُكْمِ إنْ جَوَّزْنَاهُ فِي طَرِيقِهِ قَوْلَانِ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ ) أَيْ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ ( يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُدَّعِي ) بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّ الْمَالَ هُوَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ ( بِكَفِيلٍ بِبَدَنِهِ ) أَيْ الْمُدَّعِي احْتِيَاطًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى إذَا لَمْ تُعِينُهُ الْبَيِّنَةُ طُولِبَ بِرَدِّهِ ، وَقِيلَ : لَا يَكْفُلُهُ بِبَدَنِهِ ، بَلْ يَكْفُلُهُ بِقِيمَةِ الْمَالِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى الْعَيْنِ حِينَ تَسْلِيمِهَا بِخَتْمٍ لَازِمٍ لِئَلَّا تُبَدَّلَ بِمَا يَقَعُ بِهِ اللَّبْسُ عَلَى الشُّهُودِ ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةً وَخَتَمَ عَلَيْهَا ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ وَاجِبٌ ، وَالْخَتْمُ مُسْتَحَبٌّ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخَتْمِ أَنْ لَا تُبَدَّلَ الْمَأْخُوذَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِأَمَةٍ تَحْرُمُ خَلْوَةُ الْمُدَّعِي بِهَا بَعَثَهَا مَعَ أَمِينٍ فِي الرُّفْقَةِ كَمَا اسْتَحْسَنَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ لِتَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِعَيْنِهَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْبَعْثِ حَيْثُ لَمْ يُبْدِ الْخَصْمُ دَافِعًا ، فَإِنْ أَبْدَاهُ بِأَنْ

أَظْهَرَ عَيْنًا أُخْرَى مُشَارِكَةً فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَكَمَا مَرَّ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ( فَإِنْ ) ذَهَبَ الشُّهُودُ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ ، وَ ( شَهِدُوا ) عِنْدَهُ ( بِعَيْنِهِ ) أَيْ الْمُدَّعَى بِهِ حَكَمَ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، وَ ( كَتَبَ ) إلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ ( بِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ ) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إرْسَالِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهِ ( فَعَلَى الْمُدَّعِي مُؤْنَةُ الرَّدِّ ) لِلْمُدَّعَى بِهِ وَالْإِحْضَارُ لَهُ إلَى مَكَانِهِ لِتَعَدِّيهِ ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا أُجْرَتُهُ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ إنْ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَةٌ كَمَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنْفَعَتَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ .

أَوْ غَائِبَةً عَنْ الْمَجْلِسِ لَا الْبَلَدِ أُمِرَ بِإِحْضَارِ مَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ لِيَشْهَدُوا بِعَيْنِهِ ، وَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةٌ بِصِفَةٍ .

( أَوْ ) كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا ( غَائِبَةً عَنْ الْمَجْلِسِ ) لِلْحُكْمِ ( لَا ) عَنْ ( الْبَلَدِ ) ( أُمِرَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ - أَيْ أَمَرَ الْقَاضِي الْخَصْمَ أَوْ مَنْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ ( بِإِحْضَارِ مَا يُمْكِنُ ) أَيْ يَسْهُلُ ( إحْضَارُهُ لِيَشْهَدُوا بِعَيْنِهِ ) أَيْ عَلَيْهَا لِتَيَسُّرِ ذَلِكَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَكَثْرَةُ الْمَشَقَّةِ .
أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ كَالْعَقَارِ فَيَحُدُّهُ الْمُدَّعِي وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِتِلْكَ الْحُدُودِ ، فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ : نَعْرِفُ الْعَقَارَ بِعَيْنِهِ وَلَا نَعْرِفُ الْحُدُودَ بَعَثَ الْقَاضِي مَنْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهِ أَوْ يَحْضُرُ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدَّعْوَى حَكَمَ وَإِلَّا فَلَا .
هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَقَارُ مَشْهُورًا بِالْبَلَدِ ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَحْدِيدِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْبَلَدِ ، وَأَمَّا مَا يَعْسُرُ إحْضَارُهُ كَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ أَوْ مَا أُثْبِتَ فِي الْأَرْضِ أَوْ رُكِّزَ فِي الْجِدَارِ وَأَوْرَثَ قَلْعُهُ ضَرَرًا فَكَالْعَقَارِ ، فَلَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِتَيَسُّرِ إحْضَارِهِ دُونَ الْإِمْكَانِ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا ذُكِرَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ وُجُوبَ الْإِحْضَارِ مَا لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ مَشْهُودَةً لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إحْضَارِهَا ، وَكَذَا إذَا عَرَفَهَا الْقَاضِي وَحَكَمَ بِعِلْمِهِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ قَوْلِهِ : غَائِبَةً عَنْ الْمَجْلِسِ لَا الْبَلَدِ ، أَنَّ الْغَائِبَةَ عَنْ الْبَلَدِ لَا يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهَا وَإِنْ قَرُبَتْ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الْغَائِبَةُ عَنْ الْبَلَدِ بِمَوْضِعٍ يَجِبُ الْإِعْدَاءُ إلَيْهِ كَاَلَّتِي فِي الْبَلَدِ لِاشْتِرَاكِ الْحَالَيْنِ فِي إيجَابِ الْحُضُورِ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَطْلَبِ ( وَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةٌ بِصِفَةٍ ) لِعَيْنٍ غَائِبَةٍ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَإِنْ سُمِعَتْ الدَّعْوَى بِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ السَّمَاعُ حَالَ

غَيْبَتِهَا عَنْ الْبَلَدِ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا كَمَا لَا تُسْمَعُ فِي غَيَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا الْبَلَدِ ، بَلْ إنْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا أُمِرَ بِإِحْضَارِهَا لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهَا إنْ أَقَرَّ بِاشْتِمَالِ يَدِهِ عَلَيْهَا ، وَحَيْثُ امْتَنَعَتْ الشَّهَادَةُ بِالْوَصْفِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ .
تَنْبِيهٌ : مَا جَزَمَ بِهِ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ بِالصِّفَةِ ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدًا بِصِفَةِ كَذَا فَمَاتَ الْعَبْدُ اسْتَحَقَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ قِيمَتَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهَذَا مَا عَزَاهُ الرَّافِعِيُّ لِصَاحِبِ الْعُدَّةِ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِهِمَا الْأَوَّلِ .

وَإِذَا وَجَبَ إحْضَارٌ فَقَالَ لَيْسَ بِيَدِي عَيْنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ لِلْمُدَّعِي دَعْوَى الْقِيمَةِ فَإِنْ نَكَلَ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً كُلِّفَ الْإِحْضَارَ وَحُبِسَ عَلَيْهِ وَلَا يُطْلَقُ إلَّا بِإِحْضَارِ أَوْ دَعْوَى تَلَفٍ ، وَلَوْ شَكَّ الْمُدَّعِي هَلْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فَيَدَّعِي قِيمَةً أَمْ لَا فَيَدَّعِيهَا فَقَالَ غَصَبَ مِنِّي كَذَا ، فَإِنْ بَقِيَ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ، وَقِيلَ لَا بَلْ يَدَّعِيهَا وَيُحَلِّفُهُ ثُمَّ يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَيَجْرِيَانِ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا لِدَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ فَجَحَدَهُ وَشَكَّ هَلْ بَاعَهُ فَيَطْلُبُ الثَّمَنَ ، أَمْ أَتْلَفَهُ فَقِيمَتَهُ أَمْ هُوَ بَاقٍ فَيَطْلُبُهُ حَيْثُ أَوْجَبْنَا الْإِحْضَارَ فَثَبَتَ لِلْمُدَّعِي اسْتَقَرَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَهِيَ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُدَّعِي .

( وَإِذَا ) ( وَجَبَ إحْضَارُ ) الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِمُدَّعِيهِ ( فَقَالَ ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( لَيْسَ بِيَدِي عَيْنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ) ( صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عَيْنٍ تَحْتَ يَدِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ( ثُمَّ ) بَعْدَ حَلِفِهِ يَجُوزُ ( لِلْمُدَّعِي دَعْوَى الْقِيمَةِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا هَلَكَتْ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَدَّعِي الْقِيمَةَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ إنَّمَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ادَّعَى الْمِثْلَ ؛ لِأَنَّهُ يُضْمَنُ بِهِ ( فَإِنْ نَكَلَ ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ ( فَحَلَفَ الْمُدَّعِي ، أَوْ ) لَمْ يَنْكُلْ ، بَلْ ( أَقَامَ ) الْمُدَّعِي ( بَيِّنَةً ) حِينَ إنْكَارِهِ بِأَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْصُوفَةَ كَانَتْ بِيَدِهِ ( كُلِّفَ الْإِحْضَارَ ) لِلْمُدَّعَى بِهِ لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ كَمَا سَبَقَ ( وَ ) إنْ امْتَنَعَ وَلَمْ يُبْدِ عُذْرًا ( حُبِسَ عَلَيْهِ ) أَيْ الْإِحْضَارِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ( وَلَا يُطْلَقُ ) مِنْ الْحَبْسِ ( إلَّا بِإِحْضَارِ ) الْمُدَّعَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا حُبِسَ عَلَيْهِ ( أَوْ دَعْوَى تَلَفٍ ) لَهُ فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ نَاقَضَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ لِلضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهُ لَخَلَدَ عَلَيْهِ الْحَبْسُ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا أَطْلَقَ دَعْوَى التَّلَفِ أَوْ أَسْنَدَهَا إلَى جِهَةٍ خَفِيَّةٍ كَسَرِقَةٍ .
أَمَّا لَوْ أَسْنَدَهَا إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، فَالْوَجْهُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ تَكْلِيفُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا مَرَّ فِي الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ بِهِ بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَنْ جَزَمَ بِالدَّعْوَى ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ شَكَّ الْمُدَّعِي ) عَلَى مَنْ غَصَبَ عَيْنًا مِنْهُ - أَيْ تَرَدَّدَ - بِأَنْ تَسَاوَى عِنْدَهُ الطَّرَفَانِ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا ( هَلْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ ) الْمُدَّعَى بِهَا ( فَيَدَّعِي قِيمَةَ ) عَيْنِهَا إنْ

كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً ، أَوْ مِثْلًا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ( أَمْ لَا فَيَدَّعِيهَا ) أَيْ الْعَيْنَ نَفْسَهَا ( فَقَالَ ) فِي صِفَةِ دَعْوَاهُ ( غَصَبَ مِنِّي ) فُلَانٌ ( كَذَا ، فَإِنْ بَقِيَ لَزِمَهُ رَدُّهُ ) إلَيَّ ( وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ ) إنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا أَوْ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا يَلْزَمُهُ ( سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ) مَعَ التَّرَدُّدِ لِلْحَاجَةِ ، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَذَاكَ ، وَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْعَيْنِ وَلَا بَدَلُهَا ، فَإِنْ نَكَلَ فَهَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى التَّرَدُّدِ أَوْ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْأَوَّلُ ( وَقِيلَ : لَا ) تُسْمَعُ دَعْوَاهُ عَلَى التَّرَدُّدِ ( بَلْ يَدَّعِيهَا ) أَيْ الْعَيْنَ ( وَيُحَلِّفُهُ ) عَلَيْهَا ( ثُمَّ ) بَعْدَ حَلِفِهِ ( يَدَّعِي الْقِيمَةَ ) أَوْ الْمِثْلَ وَيُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ ( وَيَجْرِيَانِ ) أَيْ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ( فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا لِدَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ ) فَطَالَبَهُ بِهِ ( فَجَحَدَهُ ) الدَّلَّالُ ( وَشَكَّ ) الدَّافِعُ ( هَلْ بَاعَهُ ) الدَّلَّالُ ( فَيَطْلُبُ ) مِنْهُ ( الثَّمَنَ ، أَمْ أَتْلَفَهُ فَقِيمَتَهُ ) يَطْلُبُهَا ( أَمْ هُوَ بَاقٍ فَيَطْلُبُهُ ) مِنْهُ فَعَلَى الْأَصَحِّ السَّابِقِ يَدَّعِي عَلَى الدَّلَّالِ رَدَّ الثَّوْبِ أَوْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ أَوْ قِيمَتِهِ إنْ أَتْلَفَهُ ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُ الثَّوْبِ وَلَا ثَمَنِهِ وَلَا قِيمَتِهِ ، وَعَلَى الثَّانِي يَدَّعِي الْعَيْنَ فِي دَعْوَى ، وَالثَّمَنَ فِي أُخْرَى ، وَالْقِيمَةَ فِي أُخْرَى ، فَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى التَّرَدُّدِ عَلَى الْأَوْجَهِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَقَدْ يَكُونُ الدَّلَّالُ بَاعَهُ ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ ، وَالدَّعْوَى الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ جَامِعَةً لِذَلِكَ ، وَالْقَاضِي إنَّمَا سَمِعَ الدَّعْوَى الْمُتَرَدِّدَةَ حَيْثُ اقْتَضَتْ الْإِلْزَامَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ ، فَلَوْ أَتَى بِبَقِيَّةِ الِاحْتِمَالَاتِ لَمْ يَسْمَعْهَا الْحَاكِمُ

، فَإِنَّ فِيهَا مَا لَا إلْزَامَ بِهِ ، قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ( وَ ) إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ عَنْ الْمَجْلِسِ ( حَيْثُ أَوْجَبْنَا ) عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( الْإِحْضَارَ ) لِلْمُدَّعَى بِهِ فَأَحْضَرَهُ ( فَثَبَتَ لِلْمُدَّعِي ) ( اسْتَقَرَّتْ مُؤْنَتُهُ ) أَيْ الْإِحْضَارِ ( عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) لِتَعَدِّيهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُدَّعِي ( فَهِيَ ) أَيْ مُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ ( وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ ) لِلْمَالِ إلَى مَحَلِّهِ ( عَلَى الْمُدَّعِي ) لِتَعَدِّيهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ ، بِخِلَافِهِ فِي الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي الطَّرِيقِ بِانْهِدَامِ دَارٍ وَنَحْوِهِ ، قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُدَّعِي بِلَا خِلَافٍ .

[ فَصْلٌ ] الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ مَنْ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرٌ إلَى مَوْضِعِهِ لَيْلًا ، وَقِيلَ مَسَافَةُ قَصْرٍ ، وَمَنْ بِقَرِيبَةٍ كَحَاضِرٍ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ، وَيُحْكَمُ بِغَيْرِ حُضُورِهِ إلَّا لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّرِهِ .

[ فَصْلٌ ] فِي ضَابِطِ الْغَائِبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَبَيَانِ غَيْبَتِهِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ ( الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ ) عَلَيْهِ ( وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ ) بِمُوجَبِهَا ( مَنْ ) هُوَ كَائِنٌ ( بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرٌ إلَى مَوْضِعِهِ ) الَّذِي بَكَّرَ مِنْهُ ( لَيْلًا ) بَعْدَ فَرَاغِ الْمُحَاكِمِ كَمَا بَيَّنَهُ الْبُلْقِينِيُّ لِمَا فِي إيجَابِ الْحُضُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ فِي اللَّيْلِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : مِنْهَا ، يَعُودُ عَلَى الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَالْمَسَافَةُ الْبَعِيدَةُ لَيْسَتْ الَّتِي لَا يَرْجِعُ مِنْهَا ، بَلْ الَّتِي لَا يَصِلُ إلَيْهَا لَيْلًا مَنْ يَخْرُجُ بُكْرَةً مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى بَلَدِ الْحَاكِمِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَوْ قَالَ : مُبَكِّرٌ مِنْهَا لَاسْتَقَامَ ، وَهُوَ مُرَادُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : لَيْلًا يُرِيدُ أَوَائِلَ اللَّيْلِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ سَفَرُ النَّاسِ غَالِبًا ( وَقِيلَ ) هِيَ ( مَسَافَةُ قَصْرٍ ) ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهَا فِي مَوَاضِعَ فَمَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ( وَمَنْ بِقَرِيبَةٍ ) وَهِيَ دُونَ الْبَعِيدَةِ بِوَجْهَيْهَا بِحُكْمِهِ ( كَحَاضِرٍ ) فِي الْبَلَدِ ( فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ) عَلَيْهِ ( وَ ) لَا ( يُحْكَمُ ) عَلَيْهِ ( بِغَيْرِ حُضُورِهِ إلَّا لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّرِهِ ) وَعَجْزُ الْقَاضِي حِينَئِذٍ عَنْ إحْضَارِهِ بِنَفْسِهِ وَبِأَعْوَانِ السُّلْطَانِ فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ وَبِغَيْرِ نَصْبِ وَكِيلٍ يُنْكِرُ عَنْهُ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَالْغَائِبِ وَإِلَّا لَاتَّخَذَ النَّاسُ ذَرِيعَةً إلَى إبْطَالِ الْحَقِّ ، وَهَلْ يَحْلِفُ لَهُ الْمُدَّعِي يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ كَالْغَائِبِ أَوْ لَا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْحُضُورِ ؟ وَجْهَانِ صَحَّحَ مِنْهُمَا الْبُلْقِينِيُّ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ هَذَا احْتِيَاطٌ لِلْقَضَاءِ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ذَلِكَ ،

وَجَزَمَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ بِالثَّانِي ، وَهُوَ أَوْجَهُ كَمَا صَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْخَصْمُ الْخَارِجُ عَنْ الْبَلَدِ فِي مَحَلِّ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا فَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَيُحْكَمَ وَيُكَاتَبَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْقَضَاءِ عَلَى غَائِبٍ فِي قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ وَمَنْعُهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى .
( وَالْأَظْهَرُ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَشْهُورِ ( جَوَازُ ) ( الْقَضَاءِ عَلَى غَائِبٍ فِي ) عُقُوبَةٍ لِآدَمِيٍّ نَحْوِ ( قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ ) ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْمَالَ ( وَمَنْعُهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى ) أَوْ تَعْزِيرٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالدَّرْءِ لِاسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى ، بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّضْيِيقِ لِاحْتِيَاجِهِ ، وَالثَّانِي : الْمَنْعُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي دَفْعِهِ وَلَا يُوَسَّعُ بَابُهُ ، وَالثَّالِثُ : الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَالْأَمْوَالِ ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِآدَمِيٍّ كَالسَّرِقَةِ يُقْضَى فِيهَا عَلَى الْغَائِبِ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ كَحَقِّ الْآدَمِيِّ .

وَلَوْ سَمِعَ بَيِّنَةً عَلَى غَائِبٍ فَقَدِمَ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يَسْتَعِدْهَا بَلْ يُخْبِرُهُ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ جَرْحٍ .
( وَلَوْ ) ( سَمِعَ ) قَاضٍ ( بَيِّنَةً عَلَى غَائِبٍ فَقَدِمَ ) أَوْ عَلَى صَبِيٍّ فَبَلَغَ عَاقِلًا أَوْ عَلَى مَجْنُونٍ فَأَفَاقَ ( قَبْلَ الْحُكْمِ ) فِي الْجَمِيعِ ( لَمْ يَسْتَعِدْهَا ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِيدَهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْأَصْلِ إذَا حَضَرُوا بَعْدَ شَهَادَةِ شُهُودِ الْفَرْعِ ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بَدَلٌ وَلَا حُكْمَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ( بَلْ يُخْبِرُهُ ) أَيْ مَنْ ذُكِرَ بِالْحَالِ ( وَيُمَكِّنُهُ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( مِنْ جَرْحٍ ) فِيهَا وَمَا يَمْنَعُ شَهَادَتَهَا عَلَيْهِ كَعَدَاوَةٍ وَيُمْهَلُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْحُكْمِ ، فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ ، وَالْجَرْحُ يَوْمَ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الْجَرْحَ اُحْتُمِلَ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ كَمَا قَالَاهُ وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِهِ يَوْمَ الشَّهَادَةِ ، بَلْ لَوْ جَرَحَهَا قَبْلَهَا وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ ، فَإِنْ مَضَتْ لَمْ يُؤَثِّرْ الْجَرْحُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ سَفِيهًا لِدَوَامِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا .

وَلَوْ عُزِلَ بَعْدَ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ ثُمَّ وُلِّيَ وَجَبَتْ الِاسْتِعَادَةُ .
( وَلَوْ ) ( عُزِلَ ) قَاضٍ ( بَعْدَ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ ، ثُمَّ وُلِّيَ ) ( وَجَبَتْ الِاسْتِعَادَةُ ) قَطْعًا ، وَلَا يَحْكُمُ بِالسَّمَاعِ الْأَوَّلِ لِبُطْلَانِهِ بِالْعَزْلِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ، ثُمَّ عَادَ فَلَهُ الْحُكْمُ بِالسَّمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ لِبَقَاءِ وِلَايَتِهِ .

وَإِذَا اُسْتُعْدِيَ عَلَى حَاضِرٍ بِالْبَلَدِ أَحْضَرَهُ بِدَفْعِ خَتْمٍ طِينٍ رَطْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ بِمُرَتَّبٍ لِذَلِكَ ، فَإِنْ امْتَنَعَ بِلَا عُذْرٍ أَحْضَرَهُ بِأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَعَزَّرَهُ .

ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْمُصَنِّفُ لِذِكْرِ مَا لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْبَابِ .
فَقَالَ ( وَإِذَا اُسْتُعْدِيَ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَعْدَى يُعْدِي : أَيْ يُزِيلُ الْعُدْوَانَ ، وَهُوَ الظُّلْمُ : كَأَشْكَاهُ أَزَالَ شَكْوَاهُ ( عَلَى ) خَصْمٍ صَالِحٍ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ عَنْهَا ( حَاضِرٍ بِالْبَلَدِ ) أَيْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي إحْضَارَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي كَذِبَهُ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ عُرِفَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَمْ لَا ( أَحْضَرَهُ ) وُجُوبًا إقَامَةً لِشِعَارِ الْأَحْكَامِ وَلَزِمَهُ الْحُضُورُ رِعَايَةً لِمَرَاتِبِ الْحُكَّامِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ : إذَا اسْتَحْضَرَهُ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لَا أَنْ يُوَكِّلَ أَوْ يَقْضِيَ الْحَقَّ إلَى الطَّالِبِ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يُحْضِرُ ذَوِي الْمُرُوآتِ فِي دَارِهِ لَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الْإِحْضَارِ مَنْ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِ وَكَانَ يَتَعَطَّلُ بِحُضُورِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ فِي التَّفْلِيسِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى الْمُهَذَّبِ وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ بِعَدَمِ حَبْسِ مَنْ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِ .
وَقَالَ : لَا يُعْتَرَضُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَى إحْضَارِهِ الْبَرْزَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَوْ حَبْسِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَهَا أَمَدٌ يُنْتَظَرُ ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَفِي الزَّوَائِدِ عَنْ الْعُدَّةِ أَنَّ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَتَوَهَّمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمُسْتَعْدِيَ يَقْصِدُ ابْتِذَالَهُ وَأَذَاهُ لَا يُحْضِرُهُ ، وَلَكِنْ يُنْفِذُ إلَيْهِ مَنْ يُسْمِعُ الدَّعْوَى تَنْزِيلًا لِصِيَانَتِهِ مَنْزِلَةَ الْمُخَدَّرَةِ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ كَغَيْرِهِ فِي إحْضَارِ الْخَصْمِ ، لَكِنْ لَا يُحْضِرُ إذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ حَتَّى تَفْرُغَ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ الْيَهُودِيِّ يَوْمَ السَّبْتِ ،

فَإِنَّهُ يُحْضِرُهُ وَيَكْسِرُ عَلَيْهِ سَبْتَهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيُقَاسُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيُّ فِي الْأَحَدِ .
أَمَّا إذَا دَعَاهُ الْخَصْمُ إلَى حَاكِمٍ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ فَقَالَ الْإِمَامُ : لَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ ، بَلْ الْوَاجِبُ أَدَاءُ الْحَقِّ إنْ كَانَ عَلَيْهِ ، وَفِي الْحَاوِي وَالْمُهَذَّبِ وَالْبَيَانِ الْحُضُورُ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَحَمَلَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ الْأَوَّلَ ، عَلَى مَا إذَا قَالَ : لِي عَلَيْك كَذَا فَاحْضُرْ مَعِي إلَى الْحَاكِمِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ .
وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا قَالَ : بَيْنِي وَبَيْنَك مُحَاكَمَةٌ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا لِيَخْرُجَ عَنْهَا فَيَلْزَمُهُ الْحُضُورُ ا هـ .
وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَظْهَرُ ، وَيُحْضِرُ الْقَاضِي الْخَصْمَ الْمَطْلُوبَ إحْضَارُهُ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ ( بِدَفْعِ خَتْمٍ ) أَيْ مَخْتُومِ ( طِينٍ رَطْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ) لِلْمُدَّعِي يَعْرِضُهُ عَلَى الْخَصْمِ وَلْيَكُنْ نَقْشُ الْخَتْمِ : أَجِبْ الْقَاضِي فُلَانًا ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلًا عَادَةُ قُضَاةِ السَّلَفِ ، ثُمَّ هُجِرَ وَاعْتَادَ النَّاسُ الْآنَ الْكِتَابَةَ فِي الْكَاغَدِ وَهُوَ أَوْلَى ( أَوْ ) أَحْضَرَهُ إنْ لَمْ يُجِبْ بِمَا مَرَّ ( بِمُرَتَّبٍ لِذَلِكَ ) مِنْ الْأَعْوَانِ بِبَابِ الْقَاضِي يُسَمَّوْنَ فِي زَمَانِنَا بِالرُّسُلِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ ، وَمُؤْنَةُ الْعَوْنِ عَلَى الطَّالِبِ إنْ لَمْ يُرْزَقْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا وَلِذَا قَدَّرْت فِي كَلَامِهِ إنْ لَمْ يُجِبْ بِمَا مَرَّ ، فَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْخَتْمَ أَوَّلًا ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ بَعَثَ إلَيْهِ الْعَوْنَ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِأَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْهُ - أَيْ فَإِنَّ أُجْرَةَ الْعَوْنِ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُرْزَقْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا مَرَّ .
نَعَمْ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَكُونَ مُؤْنَةُ مَنْ أَحْضَرَهُ عِنْدَ

امْتِنَاعِهِ مِنْ الْحُضُورِ يَبْعَثُ الْخَتْمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي ، وَفِي الْحَاوِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ خَتْمِ الطِّينِ وَالْمُرَتَّبِ إنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْخَصْمِ وَضَعْفِهِ ( فَإِنْ ) ( امْتَنَعَ ) الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُضُورِ ( بِلَا عُذْرٍ ) أَوْ سُوءِ أَدَبٍ بِكَسْرِ الْخَتْمِ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ بِقَوْلِ الْعَوْنِ الثِّقَةِ ( أَحْضَرَهُ ) وُجُوبًا ( بِأَعْوَانِ السُّلْطَانِ ) وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ مُؤْنَتُهُمْ لِامْتِنَاعِهِ ( وَعَزَّرَهُ ) بِمَا يَرَاهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْ تَعْزِيرِهِ إنْ رَآهُ ، فَإِنْ اخْتَفَى نُودِيَ بِإِذْنِ الْقَاضِي عَلَى بَابِ دَارِهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سُمِّرَ بَابُهُ أَوْ خُتِمَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَطَلَبِ الْخَتْمِ سَمَّرَهُ أَوْ خَتَمَهُ إجَابَةً إلَيْهِ إنْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهَا دَارُهُ ، وَلَا يُرْفَعُ الْمِسْمَارُ وَلَا الْخَتْمُ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْحُكْمِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّ مَحَلَّ التَّسْمِيرِ أَوْ الْخَتْمِ إذَا كَانَ لَا يَأْوِيهَا غَيْرُهُ ، وَإِلَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ وَلَا إلَى إخْرَاجِ مَنْ فِيهَا ، فَإِنْ عَرَفَ مَوْضِعَهُ بَعَثَ إلَيْهِ النِّسَاءَ ، ثُمَّ الصِّبْيَانَ ، ثُمَّ الْخُصْيَانَ يَهْجُمُونَ الدَّارَ وَيُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ ، وَيَبْعَثُ مَعَهُمْ عَدْلَيْنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ فَإِذَا دَخَلُوا الدَّارَ وَقَفَ الرِّجَالُ فِي الصَّحْنِ وَأَخَذَ غَيْرُهُمْ فِي التَّفْتِيشِ .
قَالُوا : وَلَا هُجُومَ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَإِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَكَمَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَلْ يُجْعَلُ امْتِنَاعُهُ كَالنُّكُولِ فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ ؟ الْأَشْبَهُ نَعَمْ ، لَكِنْ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إعَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى بَابِهِ ثَانِيًا بِأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ بَعْدَ النِّدَاءِ الثَّانِي حُكِمَ بِنُكُولِهِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ

مِنْ الْحُضُورِ لِعُذْرٍ : كَخَوْفِ ظَالِمٍ أَوْ حَبْسِهِ ، أَوْ مَرَضٍ بَعَثَ إلَيْهِ نَائِبَهُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ، أَوْ وَكَّلَ الْمَعْذُورُ مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُ ، وَيَبْعَثُ الْقَاضِي إلَيْهِ مَنْ يُحَلِّفُهُ إنْ وَجَبَ تَحْلِيفُهُ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا سَمِعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ وَحَكَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ كَالْغَيْبَةِ فِي سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ فَكَذَا فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَغَوِيّ .

أَوْ غَائِبٍ فِي غَيْرِ وِلَايَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ إحْضَارُهُ ، أَوْ فِيهَا وَلَهُ هُنَاكَ نَائِبٌ لَمْ يُحْضِرْهُ بَلْ يَسْمَعُ بَيِّنَةً وَيَكْتُبُ إلَيْهِ ، أَوْ لَا نَائِبَ فَالْأَصَحُّ يُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَقَطْ ، وَهِيَ الَّتِي يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرٌ لَيْلًا .

( أَوْ ) كَانَ الِاسْتِعْدَاءُ عَلَى ( غَائِبٍ فِي غَيْرِ ) مَحَلِّ ( وِلَايَتِهِ ) أَيْ الْقَاضِي ( فَلَيْسَ لَهُ إحْضَارُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إجَابَتُهُ ، بَلْ يَسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَنْهَى السَّمَاعَ ، وَإِنْ شَاءَ حَكَمَ بَعْدَ تَحْلِيفِ الْمُدَّعِي عَلَى مَا سَبَقَ وَإِنْ كَانَ فِي مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ كَمَا مَرَّ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ ( أَوْ ) عَلَى غَائِبٍ ( فِيهَا ) أَيْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ( وَلَهُ هُنَاكَ نَائِبٌ لَمْ يُحْضِرْهُ ) الْقَاضِي لِمَا فِي إحْضَارِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ هُنَاكَ ( بَلْ يَسْمَعُ بَيِّنَةً ) عَلَيْهِ بِذَلِكَ ( وَيَكْتُبُ ) بِسَمَاعِهَا ( إلَيْهِ ) أَيْ نَائِبِهِ لِيَحْكُمَ بِهَا لِإِمْكَانِ الْفَصْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا يُكَلَّفُ الْحُضُورَ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى لِمَا مَرَّ أَنَّ الْكِتَابَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ لَا يُقْبَلُ فِي مَسَافَةِ الْعَدْوَى ( أَوْ لَا نَائِبَ ) لَهُ هُنَاكَ ( فَالْأَصَحُّ يُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَقَطْ ) لَكِنْ بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَصِحَّةِ سَمَاعِهَا ( وَهِيَ الَّتِي يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرٌ ) إلَى مَوْضِعِهِ ( لَيْلًا ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُعَدِّي لِمَنْ طَلَبَ خَصْمًا مِنْهَا لِإِحْضَارِ خَصْمِهِ - أَيْ يُقَوِّيهِ أَوْ يُعِينُهُ .
وَالثَّانِي : إنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ حُكْمُ الْحَاضِرِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ .
وَالثَّالِثُ يُحْضِرُهُ وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ ، وَهَذَا مَا اقْتَضَى كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا تَرْجِيحَهُ وَعَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَدْعَى الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي قَضِيَّةٍ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلِئَلَّا يُتَّخَذَ السَّفَرُ طَرِيقًا لِإِبْطَالِ

الْحُقُوقِ ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَوْجَهُ مَا فِي الْمَتْنِ ، وَلَيْسَ فِي قَضِيَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَحْضَرَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي إحْضَارِهِ .
وَيَبْعَثُ الْقَاضِي إلَى بَلَدِ الْمَطْلُوبِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ إحْضَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَائِبٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَتَوَسَّطُ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُحْضِرْهُ بَلْ يَكْتُبُ إلَيْهِ أَنْ يَتَوَسَّطَ وَيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا ، وَاشْتَرَطَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَابْنُ يُونُسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الشَّيْخَانِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْحُسْبَانِيُّ : يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ مِمَّا تَنْفَصِلُ بِصُلْحٍ فَيَكْفِي وُجُودُ مُتَوَسِّطٍ مُطَاعٍ يُصْلِحُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْفَصِلُ بِصُلْحٍ فَلَا بُدَّ مِنْ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِيُفَوِّضَ إلَيْهِ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بِصُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ ا هـ .
وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : لَيْلًا يَتَنَاوَلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَوَسَطِهِ وَآخِرِهِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الضَّابِطُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ اللَّيْلِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ ، وَكَذَا هُوَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي النِّكَاحِ فِي سَوَالِبِ الْوِلَايَةِ ا هـ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ فِي الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ : لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى حَاضِرٍ .

وَأَنَّ الْمُخَدَّرَةَ لَا تُحْضَرُ ، وَهِيَ مَنْ لَا يَكْثُرُ خُرُوجُهَا لِحَاجَاتٍ .

قَوْلَهُ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ ) الْحَاضِرَةَ ( لَا تُحْضَرُ ) لِلدَّعْوَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مُضَارِعُ أُحْضِرَ - أَيْ لَا تُكَلَّفُ الْحُضُورَ لِلدَّعْوَى عَلَيْهَا صَرْفًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } فَلَمْ يَطْلُبْهَا لِكَوْنِهَا مُخَدَّرَةً ، وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ ظَاهِرًا لِكَوْنِهَا بَرْزَةً ، كَذَا اُسْتُدِلَّ بِهِ وَنُظِرَ فِيهِ ، وَلَا تُكَلَّفُ أَيْضًا الْحُضُورَ لِلتَّحْلِيفِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ فَإِنْ كَانَ أُحْضِرَتْ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ الدَّعَاوَى ، بَلْ تُوَكِّلُ أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي إلَيْهَا نَائِبَهُ فَتُجِيبُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ إنْ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ أَنَّهَا هِيَ ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ مَحَارِمِهَا أَنَّهَا هِيَ ، وَإِلَّا تَلَفَّعَتْ بِنَحْوِ مِلْحَفَةٍ وَخَرَجَتْ مِنْ السِّتْرِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَعِنْدَ الْحَلِفِ تَحْلِفُ فِي مَكَانِهَا ( وَهِيَ ) أَيْ الْمُخَدَّرَةُ ( مَنْ لَا يَكْثُرُ خُرُوجُهَا لِحَاجَاتٍ ) مُتَكَرِّرَةٍ كَشِرَاءِ خُبْزٍ وَقُطْنٍ وَبَيْعِ غَزْلٍ وَنَحْوِهَا بِأَنْ لَمْ تَخْرُجْ أَصْلًا إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا قَلِيلًا لِحَاجَةٍ كَزِيَارَةٍ وَحَمَّامٍ وَعَزَاءٍ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا تَحْضُرُ كَغَيْرِهَا وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ ، وَغَيْرُ الْمُخَدَّرَةِ وَهِيَ الْبَرْزَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ يُحْضِرُهَا الْقَاضِي ، لَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهَا مَحْرَمًا لَهَا أَوْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ لِتَخْرُجَ مَعَهُمْ بِشَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَصَاحِبُ الْأَنْوَارِ تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَتْ بَرْزَةً ثُمَّ لَزِمَتْ التَّخَدُّرَ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ : حُكْمُهَا حُكْمُ الْفَاسِقِ يَتُوبُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ سَنَةٍ فِي قَوْلٍ ، أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْلٍ ا هـ .
وَفَرَّقَ الْأَذْرَعِيُّ بَيْنَ الْمُخَدَّرَةِ بِرِفْعَةِ بَعْلِهَا وَغَيْرِهَا .
قَالَ

ابْنُ شُهْبَةَ : وَهُوَ الْمُتَّجَهُ .
قَالَ : وَلَيْسَ لِلتَّخْدِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ا هـ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّخْدِيرِ فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي أَنَّ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : إنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ نِسَائِهِمْ التَّخْدِيرُ صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا ، وَإِلَّا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ - أَيْ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا ، وَهَذَا أَوْلَى .

خَاتِمَةٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مُهِمَّةٍ : لِلْقَاضِي أَنْ يُشْهِدَ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ عَلَى كِتَابِ حُكْمٍ كَتَبَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ عَلَى كِتَابِ حُكْمٍ كَتَبَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ ، وَالْحُكْمُ كَالْإِشْهَادِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لَا بَأْسَ بِهَا ، وَقَوْلُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلِ فِي الْخُصُومَةِ : كُنْت عَزَلْت وَكِيلِي قَبْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ ، لَا يُبْطِلُ الْحُكْمَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ ، بِخِلَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْحُكْمَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْغَائِبِ بَاطِلٌ .

وَلَيْسَ لِمَنْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً بِكِتَابٍ حُكْمِيٍّ أَرْسَلَهُ بِهِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ إلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ ، وَخَرَجَ بِهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ فِي الطَّرِيقِ عَنْ الْقَاضِي الْمَقْصُودِ إلَّا إنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِأَنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ شَاهِدَيْنِ يَحْضُرَانِ بِالْكِتَابِ وَيَشْهَدَانِ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَقْصُودِ أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَ قَاضٍ فَيَضْمَنُهُ وَيَكْتُبُ بِهِ لِلْقَاضِي الْمَقْصُودِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَاضِيًا وَلَا شُهُودًا وَطَلَبَ أُجْرَةً لِخُرُوجِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَقْصُودِ لَمْ يُعْطَ غَيْرَ النَّفَقَةِ وَكِرَاءَ الدَّابَّةِ ، بِخِلَافِ سُؤَالِهِ الْأُجْرَةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَيُعْطَاهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْخُرُوجَ وَالْقَنَاعَةَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إشْهَادِ غَيْرِهِ ، وَهُنَا التَّحَمُّلُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْحَقَّ مِنْ الْخَصْمِ وَسَأَلَهُ الْخَصْمُ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُدَّعِي بِذَلِكَ لَزِمَهُ إجَابَتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يُطَالِبُ بِإِلْزَامِ مَا حَكَمَ بِهِ وَثَبَتَ عِنْدَهُ ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَهُ الْكِتَابَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ كَمَا لَا يَلْزَمُ مَنْ اسْتَوْفَى مِنْ غَرِيمِهِ مَا لَهُ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ أَوْ مَنْ بَاعَ غَيْرَهُ شَيْئًا لَهُ بِهِ حُجَّةٌ أَنْ يُعْطِيَهُ الْحُجَّةَ ؛ لِأَنَّهَا غَالِبًا تَكُونُ مِلْكَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهُ فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَلِلْقَاضِي إقْرَاضُ مَالٍ لِلْغَائِبِ مِنْ ثِقَةٍ لِيَحْفَظَهُ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَهُ بَيْعُ حَيَوَانِهِ لِخَوْفِ هَلَاكِهِ وَنَحْوِهِ كَغَصْبِهِ ، وَلَهُ إجَارَتُهُ إنْ أَمِنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ، وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا لِلْمَصْلَحَةِ أَوْ أَجَّرَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ ، وَلِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الْقَاضِي كَانَ بِنِيَابَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَمَالُ مَنْ لَا تُرْجَى مَعْرِفَتُهُ لِلْقَاضِي بَيْعُهُ وَصَرْفُ

ثَمَنِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَلَهُ حِفْظُهُ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَحْوَطُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ لَا حِفْظُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلنَّهْبِ وَمَدِّ أَيْدِي الظَّلَمَةِ إلَيْهِ .

قَدْ يَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ أَوْ مَنْصُوبُهُمْ أَوْ مَنْصُوبُ الْإِمَامِ .
بَابُ الْقِسْمَةِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ مِنْ بَعْضٍ ، وَالْقَسَّامُ الَّذِي يَقْسِمُ الْأَشْيَاءَ بَيْنَ النَّاسِ .
قَالَ لَبِيدٌ : فَارْضَ بِمَا قَسَمَ الْمَلِيكُ فَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَعِيشَةَ بَيْنَنَا قَسَّامُهَا وَوَجْهُ ذِكْرِهَا فِي خِلَالِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْقَسَّامِ لِلْحَاجَةِ إلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكَاتِ ، بَلْ الْقَاسِمُ كَالْحَاكِمِ فَحَسُنَ الْكَلَامُ فِي الْقِسْمَةِ مَعَ الْأَقْضِيَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } وَخَبَرُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ أَرْبَابِهَا } رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْكَمَالِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي ( قَدْ يَقْسِمُ ) الْمُشْتَرَكَ ( الشُّرَكَاءُ ) بِأَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ( أَوْ ) يَقْسِمُهُ ( مَنْصُوبُهُمْ ) أَيْ وَكِيلُهُمْ ( أَوْ مَنْصُوبُ الْإِمَامِ ) أَوْ هُوَ نَفْسُهُ أَوْ الْمُحَكِّمُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ وَكَّلَ بَعْضُهُمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْسِمَ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي الِاسْتِقْصَاءِ : إنْ وَكَّلَهُ عَلَى أَنْ يُفْرِزَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَحْتَاطَ لِمُوَكِّلِهِ ، وَفِي هَذَا لَا يُمْكِنُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ وَكَّلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ جُزْءًا وَاحِدًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ ، وَإِنْ وَكَّلَ جَمِيعُ الشُّرَكَاءِ أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْسِمَ عَنْهُمْ وَيَرَى فِيمَا يَأْخُذُهُ بِالْقِسْمَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْيَهُ لَمْ يَجُزْ .
وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُوَكِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَكِيلًا عَنْ نَفْسِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ .

وَشَرْطُ مَنْصُوبِهِ : ذَكَرٌ حُرٌّ عَدْلٌ ، يَعْلَمُ الْمِسَاحَةَ وَالْحِسَابَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَقْوِيمٌ وَجَبَ قَاسِمَانِ ، وَإِلَّا فَقَاسِمٌ ، وَفِي قَوْلٍ اثْنَانِ .

( وَشَرْطُ مَنْصُوبِهِ ) أَيْ الْإِمَامِ ( ذَكَرٌ حُرٌّ عَدْلٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ كَالْحَاكِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَاكِمَ يَنْظُرُ فِي الْحُجَّةِ وَيَجْتَهِدُ ، ثُمَّ يُلْزِمُ بِالْحُكْمِ : كَذَلِكَ الْقَسَّامُ أَيْضًا مِسَاحَةً وَتَقْدِيرًا ، ثُمَّ يُلْزِمُ بِالْإِفْرَازِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ وِلَايَةٌ وَمَنْ لَا يَتَّصِفُ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ .
تَنْبِيهٌ : اُعْتُبِرَ فِي الْمُحَرَّرِ التَّكْلِيفُ ، وَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لِدُخُولِهِ فِي الْعَدَالَةِ كَدُخُولِ الْإِسْلَامِ فِيهَا ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ عَدْلٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَاسْتُفِيدَ مِنْهُ اشْتِرَاطُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ وَالضَّبْطِ ، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ ( يَعْلَمُ الْمِسَاحَةَ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مَسَحَ الْأَرْضَ ذَرَعَهَا ، وَعِلْمُ الْمِسَاحَةِ يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ ( وَالْحِسَابَ ) لِاسْتِدْعَائِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَإِنَّمَا شُرِطَ عِلْمُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا آلَةُ الْقِسْمَةِ كَمَا أَنَّ الْفِقْهَ آلَةُ الْقَضَاءِ ، وَاعْتَبَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ الطَّمَعِ ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْأُمِّ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ التَّقْوِيمِ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : جَزَمَ بِاسْتِحْبَابِهِ الْقَاضِيَانِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا رَجَعَ إلَى إخْبَارِ عَدْلَيْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَاعْتَمَدَ الْبُلْقِينِيُّ الْأَوَّلَ فِي قِسْمَتَيْ التَّعْدِيلِ وَالرَّدِّ دُونَ قِسْمَةِ الْأَجْزَاءِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : مَنْصُوبُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ كَمَا مَرَّ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ أَيْضًا ، وَمُحَكِّمُهُمْ كَمَنْصُوبِ الْإِمَامِ ( فَإِنْ ) ( كَانَ فِيهَا ) أَيْ الْقِسْمَةِ ( تَقْوِيمٌ ) هُوَ مَصْدَرُ قَوَّمَ السِّلْعَةَ :

قَدَّرَ قِيمَتَهَا ( وَجَبَ قَاسِمَانِ ) لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْمُقَوِّمِ ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَقْوِيمٌ ( فَقَاسِمٌ ) وَاحِدٌ فِي الْأَظْهَرِ ( وَفِي قَوْلٍ ) مِنْ طَرِيقٍ ( اثْنَانِ ) كَالْمُقَوِّمَيْنِ ، وَمَأْخَذُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ حَاكِمٌ أَوْ شَاهِدٌ ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ تَلْزَمُ بِنَفْسِ قَوْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا ، وَرَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ الثَّانِيَ ، وَقَالَ لَمْ نَجِدْ نَصًّا صَرِيحًا يُخَالِفُهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي مَنْصُوبِ الْإِمَامِ فَلَوْ فَوَّضَ الشُّرَكَاءُ الْقِسْمَةَ إلَى وَاحِدٍ غَيْرِهِمْ بِالتَّرَاضِي جَازَ قَطْعًا كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ .
يَكْفِي وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَرْصٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ : الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ كَالتَّقْوِيمِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِصَ يَجْتَهِدُ وَيَعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِ فَكَانَ كَالْحَاكِمِ وَالْمُقَوِّمُ يُخْبِرُ بِقِيمَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ لَهُ كَالشَّاهِدِ وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاسِمُ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ وَجَبَ تَعَدُّدُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى عَمَلٍ مَحْسُوسٍ .

وَلِلْإِمَامِ جَعْلُ الْقَاسِمِ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ فَيُعْمَلُ فِيهِ بِعَدْلَيْنِ ، وَيَقْسِمُ .
( وَلِلْإِمَامِ جَعْلُ الْقَاسِمِ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ ) بِأَنْ يُفَوِّضَ لَهُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ فِيهِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ ( فَيُعْمَلُ فِيهِ بِعَدْلَيْنِ ) أَيْ بِقَوْلِهِمَا ( وَيَقْسِمُ ) بِنَفْسِهِ ، وَلِلْقَاضِي الْحُكْمُ فِي التَّقْوِيمِ بِعِلْمِهِ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ .

وَيَجْعَلُ الْإِمَامُ رِزْقَ مَنْصُوبِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأُجْرَتُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ ، فَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ وَسَمَّى كُلٌّ قَدْرًا لَزِمَهُ ، وَإِلَّا فَالْأُجْرَةُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْحِصَصِ ، وَفِي قَوْلٍ عَلَى الرُّءُوسِ

( وَيَجْعَلُ الْإِمَامُ رِزْقَ مَنْصُوبِهِ ) إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ ( مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) وُجُوبًا إذَا كَانَ فِيهِ سِعَةٌ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَيَكُونُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِعْلَ ذَلِكَ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوْ كَانَ مَصْرِفٌ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفِ ( فَأُجْرَتُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ ) إنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَهُمْ ، وَقِيلَ : هِيَ عَلَى الطَّالِبِ وَحْدَهُ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ حِينَئِذٍ نَصْبُ قَاسِمٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ يَدَعُ النَّاسَ يَسْتَأْجِرُونَ مَنْ شَاءُوا لِئَلَّا يُغَالِيَ الْمُعَيَّنُ فِي الْأُجْرَةِ أَوْ يُوَاطِئَهُ بَعْضُهُمْ فَيَحِيفَ ، كَذَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَهُ الْفُورَانِيُّ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ( فَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ وَسَمَّى كُلٌّ ) مِنْهُمْ ( قَدْرًا لَزِمَهُ ) سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِيهِ أَمْ تَفَاضَلُوا ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا بِالْأُجْرَةِ مِثْلَ حِصَّتِهِ أَمْ لَا ، وَلْيَسْتَأْجِرُوا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ كَأَنْ يَقُولُوا اسْتَأْجَرْنَاك لِتَقْسِمَ بَيْنَنَا كَذَا بِدِينَارٍ عَلَى فُلَانٍ وَدِينَارَيْنِ عَلَى فُلَانٍ أَوْ يُوَكِّلُوا مَنْ يَعْقِدُ لَهُمْ كَذَلِكَ ، فَلَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِعَقْدٍ لِإِفْرَازِ نَصِيبِهِ وَتَرَتَّبُوا كَمَا قَالَاهُ أَوْ لَمْ يَتَرَتَّبُوا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا صَحَّ إنْ رَضِيَ الْبَاقُونَ ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ أَحَدُهُمْ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَصِيلًا وَوَكِيلًا وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى عَقْدِ الْبَاقِينَ فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا لَمْ يَصِحَّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي وَصَاحِبُ الْأَنْوَارِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
نَعَمْ لَهُمْ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، وَقِيلَ : يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ

الْبَاقُونَ ؛ لِأَنَّ كُلًّا عَقَدَ لِنَفْسِهِ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ سَمَّوْا أُجْرَةً مُطْلَقَةً فِي إجَارَةِ صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ ( فَالْأُجْرَةُ مُوَزَّعَةٌ عَلَى ) قَدْرِ ( الْحِصَصِ ) الْمَأْخُوذَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ كَنَفَقَةِ الْمُشْتَرَكِ ( وَفِي قَوْلٍ ) مِنْ طَرِيقٍ حَاكِيَةٍ لِقَوْلَيْنِ الْأُجْرَةُ مُوَزَّعَةٌ ( عَلَى ) عَدَدِ ( الرُّءُوسِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي النَّصِيبِ الْقَلِيلِ كَالْعَمَلِ فِي الْكَثِيرِ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ذَكَرَهَا الْمَرَاوِزَةُ ، وَطَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ الْجَزْمُ بِالْأَوَّلِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَهِيَ أَصَحُّ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ وَصَحَّحَهَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، إذْ قَدْ يَكُونُ لَهُ سَهْمٌ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ ، فَلَوْ أُلْزِمَ نِصْفَ الْأُجْرَةِ لَرُبَّمَا اُسْتُوْعِبَ قِيمَةُ نَصِيبِهِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْمَنْقُولِ وَاحْتَرَزْنَا بِالْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْحِصَصِ الْأَصْلِيَّةِ فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ ، فَإِنَّ الْأُجْرَةَ لَيْسَتْ عَلَى قَدْرِهَا ، بَلْ عَلَى قَدْرِ الْمَأْخُوذِ قِلَّةً وَكَثْرَةً ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْكَثِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْقَلِيلِ ، هَذَا إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً وَإِلَّا فَلِلْمُوَزِّعِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ .

تَنْبِيهٌ : تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِي مَالٍ الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ غِبْطَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا وَاجِبَةٌ وَالْأُجْرَةُ مِنْ الْمُؤَنِ التَّابِعَةِ لَهَا ، وَعَلَى الْوَلِيِّ طَلَبُ الْقِسْمَةِ لَهُ حَيْثُ كَانَ لَهُ فِيهَا غِبْطَةٌ وَإِلَّا فَلَا يَطْلُبُهَا ، وَإِنْ طَلَبَهَا الشَّرِيكُ أُجِيبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ فِيهَا غِبْطَةٌ وَكَالصَّبِيِّ الْمَجْنُونُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ .

وَلَوْ دَعَا الشُّرَكَاءُ الْقَاسِمَ وَلَمْ يُسَمُّوا لَهُ أُجْرَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا كَمَا لَوْ دَفَعَ شَخْصٌ ثَوْبَهُ لِقَصَّارٍ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ أُجْرَةً أَوْ الْحَاكِمَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ جَمَاعَةٌ كَاتِبًا لِكِتَابَةِ صَكٍّ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ آخِرَ الشُّفْعَةِ .

ثُمَّ مَا عَظُمَ الضَّرَرُ فِي قِسْمَتِهِ كَجَوْهَرَةٍ وَثَوْبٍ نَفِيسَيْنِ وَزَوْجَيْ خُفٍّ إنْ طَلَبَ الشُّرَكَاءُ كُلُّهُمْ قِسْمَتَهُ لَمْ يُجِبْهُمْ الْقَاضِي ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ إنْ قَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ إنْ لَمْ تَبْطُلْ مَنْفَعَتُهُ كَسَيْفٍ يُكْسَرُ

( ثُمَّ مَا ) أَيْ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي ( عَظُمَ الضَّرَرُ فِي قِسْمَتِهِ ) ( كَجَوْهَرَةٍ وَثَوْبٍ نَفِيسَيْنِ وَزَوْجَيْ ) أَيْ فَرْدَيْ ( خُفٍّ ) وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ ( إنْ طَلَبَ الشُّرَكَاءُ كُلُّهُمْ قِسْمَتَهُ لَمْ يُجِبْهُمْ الْقَاضِي ) إلَيْهَا جَزْمًا وَيَمْنَعُهُمْ مِنْهَا إنْ بَطُلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ ، وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي زَوْجَيْ خُفٍّ وَقَالَ : لَمْ أَجِدْ لِلرَّافِعِيِّ شَاهِدًا مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا سَلَفًا فِي ذَلِكَ فِي الطَّرِيقَيْنِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِفَرْدَةِ الْخُفِّ كَأَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الرِّجْلِ ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ ، وَالْأَصْحَابُ لَا يَنْظُرُونَ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ النَّادِرَةِ ( وَلَا يَمْنَعُهُمْ إنْ قَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ إنْ لَمْ تَبْطُلْ مَنْفَعَتُهُ ) أَيْ الْمَقْسُومِ بِالْكُلِّيَّةِ ( كَسَيْفٍ يُكْسَرُ ) لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ مِمَّا صَارَ إلَيْهِ مِنْهُ عَلَى حَالِهِ ، أَوْ بِاِتِّخَاذِهِ سِكِّينًا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْقَاضِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَلَيْسَ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ثُمَّ جُوِّزَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ رُخْصَةٌ لِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ .
فَإِنْ قِيلَ أَيْضًا : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْبَيْعِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ نِصْفِ مُعَيَّنٍ مِنْ إنَاءٍ وَسَيْفٍ وَنَحْوِهِمَا ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَرْعًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ شَرْطَ بَيْعِ الْمُعَيَّنِ أَنْ لَا يَحْصُلَ هُنَاكَ نَقْصٌ بِسَبَبِ تَسْلِيمِهِ ، وَهُوَ لَوْ بَاعَهُ نِصْفًا شَائِعًا مِنْ ذَلِكَ جَازَ ، ثُمَّ لَهُمْ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا مَرَّ ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ .

وَمَا يَبْطُلُ نَفْعُهُ الْمَقْصُودُ كَحَمَّامٍ وَطَاحُونَةٍ صَغِيرَيْنِ لَا يُجَابُ طَالِبُ قِسْمَتِهِ فِي الْأَصَحّ ، فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ حَمَّامَيْنِ .
أُجِيبَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عُشْرُ دَارٍ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى ، وَالْبَاقِي لِآخَرَ فَالْأَصَحُّ إجْبَارُ صَاحِبِ الْعُشْرِ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ دُونَ عَكْسِهِ .

( وَمَا يَبْطُلُ ) بِقِسْمَتِهِ ( نَفْعُهُ الْمَقْصُودُ ) مِنْهُ ( كَحَمَّامٍ وَطَاحُونَةٍ صَغِيرَيْنِ ) طَلَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ قِسْمَةَ مَا ذُكِرَ ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ ( لَا يُجَابُ طَالِبُ قِسْمَتِهِ ) جَبْرًا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْآخَرِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَالثَّانِي : يُجَابُ لِأَجْلِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ .
تَنْبِيهٌ : فِي لَفْظِ صَغِيرَيْنِ تَغْلِيبُ الْأَوَّلِ الْمُذَكَّرِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْحَمَّامِ مُذَكَّرٌ عَلَى الثَّانِي الْمُؤَنَّثِ ، فَإِنَّ الطَّاحُونَةَ وَهِيَ الرَّحَى كَمَا فِي الصِّحَاحِ مُؤَنَّثَةٌ ( فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ ) أَيْ مَا ذُكِرَ ( حَمَّامَيْنِ ) أَوْ طَاحُونَتَيْنِ ( أُجِيبَ ) طَالِبُ قِسْمَةِ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى إحْدَاثِ بِئْرٍ أَوْ مُسْتَوْقَدٍ وَتَيَسَّرَ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ مَعَ تَيَسُّرِ تَدَارُكِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ قَرِيبٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَإِنَّمَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَا يَلِي ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ مَوَاتًا ، فَلَوْ كَانَ مَا يَلِيهِ وَقْفًا أَوْ شَارِعًا أَوْ مِلْكًا لِمَنْ لَا يَسْمَحُ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا ، وَحِينَئِذٍ يُجْزَمُ بِنَفْيِ الْإِجْبَارِ ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَهَا وَلَوْ بِإِحْدَاثِ مَرَافِقَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ بَاعَ دَارًا لَا مَمَرّ لَهَا مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ فَهَلَّا كَانَتْ الْقِسْمَةُ كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ شَرْطَ الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُمْكِنْ بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ ( وَلَوْ كَانَ ) ( لَهُ ) مَثَلًا ( عُشْرُ دَارٍ لَا يَصْلُحُ ) بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ : أَيْ الْعُشْرُ ( لِلسُّكْنَى ، وَالْبَاقِي لِآخَرَ ) يَصْلُحُ لَهَا وَلَوْ بِضَمِّ مَا يَمْلِكُهُ بِجِوَارِهِ ( فَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( إجْبَارُ صَاحِبِ الْعُشْرِ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَنْتَفِعُ بِهَا ،

وَضَرَرُ صَاحِبِ الْعُشْرِ لَا يَنْشَأُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقِسْمَةِ ، بَلْ سَبَبُهُ قِلَّةُ نَصِيبِهِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ لِضَرَرِ شَرِيكِهِ ( دُونَ عَكْسِهِ ) وَهُوَ عَدَمُ إجْبَارِ صَاحِبِ الْبَاقِي بِطَلَبِ صَاحِبِ الْعُشْرِ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ مُتَعَنِّتٌ .
وَالثَّانِي : يُجْبَرُ لِيَتَمَيَّزَ مِلْكُهُ ، أَمَّا إذَا صَلُحَ الْعُشْرُ وَلَوْ بِالضَّمِّ فَيُجْبَرُ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ الْآخَرِ لِعَدَمِ التَّعَنُّتِ حِينَئِذٍ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَ نِصْفُ دَارٍ لِخَمْسَةٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ لِوَاحِدٍ فَطَلَبَ الْآخَرُ الْقِسْمَةَ .
أُجِيبَ ، وَحِينَئِذٍ فَلِكُلٍّ مِنْ الْخَمْسَةِ الْقِسْمَةُ تَبَعًا لَهُ وَإِنْ كَانَ الْعُشْرُ الَّذِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَصْلُحُ مَسْكَنًا لَهُ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ فَائِدَةً لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ ، وَلَوْ بَقِيَ حَقُّ الْخَمْسَةِ مُشَاعًا ثُمَّ طَلَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقِسْمَةَ لَمْ يُجْبَرْ الْبَاقُونَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَضُرُّ الْجَمِيعَ ، وَإِنْ طَلَبَ أَوَّلًا الْخَمْسَةُ نَصِيبَهُمْ مُشَاعًا لَوْ كَانَتْ الدَّارُ كَعَشْرَةٍ فَطَلَبَ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ إفْرَازَ نَصِيبِهِمْ مُشَاعًا أُجِيبُوا ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِنَصِيبِهِمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مُطْلَقَ الِانْتِفَاعِ لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْمَنَافِعِ .

وَمَا لَا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ قِسْمَتُهُ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا بِالْأَجْزَاءِ كَمِثْلِيٍّ وَدَارٍ مُتَّفِقَةِ الْأَبْنِيَةِ ، وَأَرْضٍ مُشْتَبِهَةِ الْأَجْزَاءِ فَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ فَتُعَدَّلُ السِّهَامُ كَيْلًا وَوَزْنًا وَذَرْعًا بِعَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ إنْ اسْتَوَتْ ، وَيَكْتُبُ فِي كُلِّ رُقْعَةٍ اسْمَ شَرِيكٍ أَوْ جُزْءًا مُمَيَّزًا بِحَدٍّ أَوْ جِهَةٍ وَتُدْرَجُ فِي بَنَادِقَ مُسْتَوِيَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا رُقْعَةً عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ إنْ كَتَبَ الْأَسْمَاءَ فَيُعْطِي مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ ، أَوْ عَلَى اسْمِ زَيْدٍ إنْ كَتَبَ الْأَجْزَاءَ ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَنْصِبَاءُ كَنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ جُزِّئَتْ الْأَرْضُ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ وَقُسِّمَتْ كَمَا سَبَقَ ، وَيُحْتَرَزُ عَنْ تَفْرِيقِ حِصَّةِ وَاحِدٍ .

( وَمَا لَا يَعْظُمُ ) فِي قِسْمَتِهِ ( ضَرَرُهُ قِسْمَتُهُ أَنْوَاعٌ ) ثَلَاثَةٌ عِنْدَ الْمَرَاوِزَةِ : قِسْمَةُ أَجْزَاءٍ ، وَقِسْمَةُ تَعْدِيلٍ ، وَقِسْمَةُ رَدٍّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْسُومَ إمَّا أَنْ تَتَسَاوَى الْأَنْصِبَاءُ فِيهِ إلَى إعْطَاءِ شَيْءٍ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْمُتَقَاسِمِينَ أَوْ لَا .
الْأَوَّلُ الرَّدُّ .
وَالثَّانِي التَّعْدِيلُ ، وَنَوْعَانِ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ : قِسْمَةُ رَدٍّ ، وَقِسْمَةٌ لَا رَدَّ فِيهَا ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ .
وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالْأَوَّلِ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
فَقَالَ ( أَحَدُهَا ) الْقِسْمَةُ ( بِالْأَجْزَاءِ ) وَتُسَمَّى قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَهِيَ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى رَدِّ شَيْءٍ مِنْ بَعْضِهِمْ ، وَلَا إلَى تَقْوِيمٍ ( كَمِثْلِيٍّ ) مِنْ حَبٍّ وَغَيْرِهِ ، وَتَقَدَّمَ حَدُّ الْمِثْلِيِّ فِي الْغَصْبِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : وَتُشْتَرَطُ السَّلَامَةُ فِي الْحُبُوبِ وَالنُّقُودِ ، فَإِنَّ الْحَبَّ الْمَعِيبَ وَالنَّقْدَ الْمَغْشُوشَ مَعْدُودَانِ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ إذَا جَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ بِالْمَغْشُوشَةِ فَهِيَ مِثْلِيَّةٌ ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ( وَ ) مِثْلُ ( دَارٍ مُتَّفِقَةِ الْأَبْنِيَةِ ، وَ ) مِثْلُ ( أَرْضٍ مُشْتَبِهَةِ الْأَجْزَاءِ ) وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، وَالثِّيَابُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي لَا تَنْقُصُ بِالْقَطْعِ ( فَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ ) عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْصِبَةُ مُتَفَاوِتَةً إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلِيَنْتَفِعَ الطَّالِبُ بِمَالِهِ عَلَى الْكَمَالِ وَيَتَخَلَّصَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِاتِّفَاقِ الْأَبْنِيَةِ فِي الدَّارِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْقِيِّ الدَّارِ صُفَّةٌ وَبَيْتٌ ، وَكَذَلِكَ فِي غَرْبِيِّهَا ( فَتُعَدَّلُ السِّهَامُ كَيْلًا ) فِي الْمَكِيلِ ( وَوَزْنًا ) فِي الْمَوْزُونِ ( وَذَرْعًا ) فِي الْمَذْرُوعِ كَالْأَرْضِ الْمُتَسَاوِيَةِ ، أَوْ عَدًّا فِي الْمَعْدُودِ وَقَوْلُهُ ( بِعَدَدِ

الْأَنْصِبَاءِ ) مُتَعَلِّقٌ بِ تُعَدَّلُ ، هَذَا ( إنْ اسْتَوَتْ ) تِلْكَ الْأَنْصِبَاءُ ، كَمَا إذَا كَانَتْ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَثْلَاثًا فَتُجْعَلُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ ثَلَاثُ رِقَاعٍ ( وَيَكْتُبُ ) مَثَلًا هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي مِنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ ( فِي كُلِّ رُقْعَةٍ ) إمَّا ( اسْمَ شَرِيكٍ ) مِنْ الشُّرَكَاءِ ( أَوْ جُزْءًا ) مِنْ الْأَجْزَاءِ ( مُمَيَّزًا ) عَنْ الْبَقِيَّةِ ( بِحَدٍّ أَوْ جِهَةٍ ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( وَتُدْرَجُ ) الرُّقَعُ ( فِي بَنَادِقَ ) مِنْ نَحْوِ شَمْعٍ أَوْ طِينٍ ( مُسْتَوِيَةٍ ) وَزْنًا وَشَكْلًا لِئَلَّا تَسْبِقَ الْيَدُ لِإِخْرَاجِ الْكَبِيرَةِ وَفِيهِ تَرْجِيحٌ لِصَاحِبِهَا .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فِي الْبَنَادِقِ ، وَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلْجُوَيْنِيِّ ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، لَا الْوُجُوبِ ، وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَنَقَلَا فِي بَابِ الْعِتْقِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَدَوَاةٍ وَقَلَمٍ وَحَصَاةٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِيهِ وَقْفَةٌ ، إذْ لَا حِيفَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ ، وَأَيَّدَهُ الرَّافِعِيُّ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( ثُمَّ يُخْرِجُهَا ) : أَيْ الرِّقَاعَ ( مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا ) بَعْدَ أَنْ تُجْعَلَ فِي حُجْرَةٍ مَثَلًا ، وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا : مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْكِتَابَ وَالْأَدْرَاجَ ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ هُنَا : مَنْ لَمْ يَحْضُرْ هُنَالِكَ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَصَبِيٌّ وَنَحْوُهُ كَعَجَمِيٍّ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ ( رُقْعَةً ) إمَّا ( عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ) مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ ( إنْ كَتَبَ الْأَسْمَاءَ ) فِي الرِّقَاعِ كَزَيْدٍ وَبَكْرٍ وَخَالِدٍ ( فَيُعْطِي مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ ) فِي تِلْكَ الرُّقْعَةِ وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ يُخْرِجُ رُقْعَةً أُخْرَى عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَلِيهِ فَيُعْطِي مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الرُّقْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلثَّالِثِ إنْ كَانُوا

ثَلَاثَةً ( أَوْ ) يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا رُقْعَةً ( عَلَى اسْمِ زَيْدٍ ) مَثَلًا ( إنْ كَتَبَ الْأَجْزَاءَ ) فِي الرِّقَاعِ أَيْ أَسْمَاءَ الْأَجْزَاءِ فَيُخْرِجُ رُقْعَةً فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى اسْمِ زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى اسْمِ بَكْرٍ ، وَيَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الثَّالِثُ لِخَالِدٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَخْتَصُّ بِقِسْمَةِ الْأَجْزَاءِ ، بَلْ يَأْتِي فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ إذَا عُدِّلَتْ الْأَجْزَاءُ بِالْقِيمَةِ .
تَنْبِيهٌ : الِاعْتِبَارُ فِي الْبُدَاءَةِ بِوَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَجْزَاءِ مَنُوطٌ بِنَظَرِ الْقَسَّامِ فَيَقِفُ عَلَى أَيْ طَرَفٍ شَاءَ وَيُسَمِّي مَنْ شَاءَ ، فَإِنَّ الْمُحَكِّمَ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْقُرْعَةُ فَلَا تُهْمَةَ ( فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَنْصِبَاءُ ) بَيْنَ الشُّرَكَاءِ ( كَنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ ) فِي أَرْضٍ مَثَلًا ( جُزِّئَتْ الْأَرْضُ عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ ) وَهُوَ فِي هَذَا الْمِثَالِ السُّدُسُ ( وَقُسِّمَتْ ) أَيْ الْأَرْضُ ( كَمَا سَبَقَ ) وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ كَتْبِهِ أَسْمَاءَ الشُّرَكَاءِ وَكَتْبِهِ الْأَجْزَاءَ ، لَكِنَّ الْمُصَحَّحَ كَتْبِهِ أَسْمَاءَهُمْ دُونَ كَتْبِهِ الْأَجْزَاءَ ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ سُلُوكُ كُلٍّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ ، وَحِينَئِذٍ فَاقْتِضَاءُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَتْبُ الْأَسْمَاءِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ الْأَجْزَاءَ أَوْ أَخْرَجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ فَرُبَّمَا خَرَجَ لِصَاحِبِ السُّدُسِ الْجُزْءُ الثَّانِي أَوْ الْخَامِسُ فَيُفَرَّقُ مِلْكُ مَنْ لَهُ النِّصْفُ أَوْ الثُّلُثُ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ ( وَيُحْتَرَزُ ) إذَا كَتَبَ الْأَجْزَاءَ ( عَنْ تَفْرِيقِ حِصَّةِ وَاحِدٍ ) بِأَنْ لَا يَبْدَأَ بِصَاحِبِ السُّدُسِ ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ ، بَلْ بِصَاحِبِ النِّصْفِ ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الْأَوَّلُ أَخَذَ الثَّلَاثَةَ وَلَاءً ، وَإِنْ خَرَجَ لَهُ الثَّانِي أَخَذَهُ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَإِعْطَاؤُهُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ تَحَكُّمٌ فَلِمَ

لَا أُعْطِي اثْنَانِ بَعْدَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، أَوْ يُقَالُ : لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا ، بَلْ يَتْبَعُ نَظَرَ الْقَاسِمِ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، أَوْ خَرَجَ لَهُ الثَّالِثُ أَخَذَهُ مَعَ الَّذِينَ قَبْلَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ بِاسْمِ الْآخَرِينَ أَوْ الرَّابِعُ أَخَذَهُ مَعَ الَّذِينَ قَبْلَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ ، وَالْأَخِيرَانِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، أَوْ الْخَامِسُ أَخَذَهُ مَعَ الَّذِينَ قَبْلَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ ، وَالْأَوَّلَانِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، أَوْ السَّادِسُ أَخَذَهُ مَعَ الَّذِينَ قَبْلَهُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُ رُقْعَةً أُخْرَى بِاسْمِ أَحَدِ الْآخَرِينَ وَلَا يُخْفِي الْحُكْمَ ، أَوْ بِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي أَخَذَهُمَا ، أَوْ الْخَامِسُ أَوْ السَّادِسُ فَكَذَلِكَ ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِاسْمِ أَحَدِ الْآخَرِينَ ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الثَّالِثُ أَخَذَهُ مَعَ الثَّانِي ، وَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السَّادِسِ ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ، أَوْ الرَّابِعُ أَخَذَهُ مَعَ الْخَامِسِ ، وَتَعَيَّنَ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ، هَذَا إذَا كَتَبَ فِي سِتِّ رِقَاعٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ثَلَاثِ رِقَاعٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ رُقْعَةٌ فَيُخْرِجُ رُقْعَةً عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ أَخَذَهُ ، ثُمَّ إنْ خَرَجَ الثَّانِي لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَخَذَهُ وَمَا يَلِيه وَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِصَاحِبِ النِّصْفِ ، وَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ أَوَّلًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَخَذَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ ، ثُمَّ إنْ خَرَجَ الرَّابِعُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَخَذَهُ وَالْخَامِسُ وَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِصَاحِبِ السُّدُسِ ، وَإِنْ خَرَجَ الرَّابِعُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ أَخَذَهُ وَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ مِمَّا مَرَّ ، وَلَا يُخْرِجُ السِّهَامَ عَلَى الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِلَا خِلَافٍ .
قَالَ : وَلَا

فَائِدَةَ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى زَائِدَةً عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا سُرْعَةُ خُرُوجِ اسْمِ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حَيْفًا لِتَسَاوِي السِّهَامِ ، لَكِنَّ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى هِيَ الْمُخْتَارَةُ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبَيْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ مَزِيَّةً بِكَثْرَةِ الْمِلْكِ ، فَكَانَ لَهُمَا مَزِيَّةٌ بِكَثْرَةِ الرِّقَاعِ .

الثَّانِي بِالتَّعْدِيلِ كَأَرْضٍ تَخْتَلِفُ قِيمَةُ أَجْزَائِهَا بِحَسْبِ قُوَّةِ إنْبَاتٍ وَقُرْبِ مَاءٍ ، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا فِي الْأَظْهَرِ ، وَلَوْ اسْتَوَتْ قِيمَةُ دَارَيْنِ أَوْ حَانُوتَيْنِ فَطَلَبَ جَعْلَ كُلٍّ لَوَاحِدٍ فَلَا إجْبَارَ ، أَوْ عَبِيدٍ أَوْ ثِيَابٍ مِنْ نَوْعٍ أُجْبِرَ ، أَوْ نَوْعَيْنِ فَلَا

النَّوْعُ ( الثَّانِي ) الْقِسْمَةُ ( بِالتَّعْدِيلِ ) بِأَنْ تُعَدَّلَ السِّهَامُ بِالْقِسْمَةِ ، وَهُوَ قِسْمَانِ مَا يُعَدُّ فِيهِ الْمَقْسُومُ شَيْئًا وَاحِدًا ، وَمَا يُعَدُّ فِيهِ شَيْئَيْنِ ، فَالْأَوَّلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( كَأَرْضٍ تَخْتَلِفُ قِيمَةُ أَجْزَائِهَا بِحَسَبِ قُوَّةِ إنْبَاتٍ وَقُرْبِ مَاءٍ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ يَخْتَلِفُ جِنْسُ مَا فِيهَا كَبُسْتَانٍ بَعْضُهُ نَخْلٌ وَبَعْضُهُ عِنَبٌ ، وَدَارٌ بَعْضُهَا حَجَرٌ وَبَعْضُهَا لَبِنٌ ، فَإِذَا كَانَتْ لِاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ وَقِيمَةُ ثُلُثِهَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا ذُكِرَ كَقِيمَةِ ثُلُثَيْهَا الْخَالِي عَنْ ذَلِكَ جُعِلَ الثُّلُثُ سَهْمًا وَالثُّلُثَانِ سَهْمًا وَأُقْرِعَ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ بِالْبُسْتَانِ فُهِمَ مِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَنْصِبَاءُ كَنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ جُعِلَتْ سِتَّةُ أَسْهُمٍ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِسَاحَةِ ( وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ ) مِنْ الشُّرَكَاءِ ( عَلَيْهَا فِي الْأَظْهَرِ ) إلْحَاقًا لِلتَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ بِالتَّسَاوِي فِي الْأَجْزَاءِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ، لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ أُجْرَةُ الْقَاسِمِ بِحَسَبِ الْمَأْخُوذِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ قِسْمَةُ الْجَيِّدِ وَحْدَهُ وَالرَّدِيءِ وَحْدَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ كَأَرْضَيْنِ يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأَجْزَاءِ .
ثُمَّ أَشَارَ لِلْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ التَّعْدِيلِ ، وَهُوَ مَا يُعَدُّ فِيهِ الْمَقْسُومُ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ ) ( اسْتَوَتْ قِيمَةُ دَارَيْنِ ، أَوْ حَانُوتَيْنِ ) مَثَلًا لِاثْنَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ ( فَطَلَبَ ) كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ ( جَعْلَ كُلٍّ ) مِنْ الدَّارَيْنِ أَوْ الْحَانُوتَيْنِ ( لَوَاحِدٍ ) بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ دَارًا أَوْ حَانُوتًا وَلِشَرِيكِهِ كَذَلِكَ ( فَلَا إجْبَارَ ) فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ أَتَجَاوَرَا أَمْ تَبَاعَدَا لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْأَبْنِيَةِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ الدَّارَيْنِ

مَا إذَا كَانَتْ الدَّارَانِ لَهُمَا بِمِلْكِ الْقَرْيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِمَا وَشَرِكَتُهُمَا بِالنِّصْفِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْقَرْيَةِ ، وَاقْتَضَتْ الْقِسْمَةُ نِصْفَيْنِ جَعْلَ كُلِّ دَارٍ نَصِيبًا فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي الْحَانُوتَيْنِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي دَكَاكِينَ صِغَارٍ مُتَلَاصِقَةٍ لَا تَحْتَمِلُ آحَادُهَا الْقِسْمَةَ وَتُسَمَّى الْعَضَائِدُ ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ أَعْيَانِهَا .
أُجِيبَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَإِنْ زَالَتْ الشَّرِكَةُ بِالْقِسْمَةِ ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْخَانِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ .
قَالَ الْجِيلِيُّ : وَمَحَلُّهُمَا إذَا لَمْ تَنْقُصْ الْقِيمَةُ بِالْقِسْمَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يُجْبَرْ جَزْمًا ( أَوْ ) اسْتَوَتْ قِيمَةُ ( عَبِيدٍ أَوْ ثِيَابٍ ) أَوْ دَوَابَّ أَوْ أَشْجَارٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْعُرُوضِ ( مِنْ نَوْعٍ ) وَأَمْكَنَ التَّسْوِيَةُ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ ( أُجْبِرَ ) الْمُمْتَنِعُ إنْ زَالَتْ الشَّرِكَةُ بِالْقِسْمَةِ كَثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ مِائَةٌ وَالْآخَرَيْنِ مِائَةٌ وَكَثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ مُتَسَاوِيَةِ الْقِيمَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ ، وَذَلِكَ لِعِلَّةِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا .
أَمَّا إذَا بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْبَعْضِ كَعَبْدَيْنِ بَيْنَ اثْنَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الْآخَرِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ لِيَخْتَصَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْخَسِيسِ بِهِ وَيَبْقَى لَهُ رُبُعُ الْآخَرِ ، فَإِنَّهُ لَا إجْبَارَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَرْتَفِعُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ اسْتَثْنَاهَا مِنْ إطْلَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الزَّرْكَشِيُّ ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ اسْتِثْنَائِهَا ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ عَبِيدٍ وَثِيَابٍ مَعْطُوفٌ عَلَى دَارَيْنِ إذْ تَقْدِيرُهُ أَوْ اسْتَوَتْ قِيمَةُ عَبِيدٍ أَوْ ثِيَابٍ وَحِينَئِذٍ فَلَا اسْتِثْنَاءَ ( أَوْ ) مِنْ ( نَوْعَيْنِ ) كَعَبْدَيْنِ تُرْكِيٍّ وَهِنْدِيٍّ أَوْ جِنْسَيْنِ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ ( فَلَا ) إجْبَارَ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ

اخْتَلَطَا وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ كَتَمْرٍ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ بِكُلِّ نَوْعٍ وَكُلِّ جِنْسٍ ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ مِثْلُ هَذَا بِالتَّرَاضِي .
تَنْبِيهٌ : يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى قِسْمَةِ عُلْوٍ وَسُفْلٍ مِنْ دَارٍ أَمْكَنَ قِسْمَتُهَا لَا عَلَى قِسْمَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ أَوْ عَلَى جَعْلِهِ لِوَاحِدٍ وَالْآخَرُ لِآخَرَ ، وَاللَّبِنُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ إنْ اسْتَوَتْ قَوَالِبُهُ فَقِسْمَتُهُ قِسْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَالتَّعْدِيلُ .

الثَّالِثُ بِالرَّدِّ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فَيَرُدُّ مَنْ يَأْخُذُهُ قِسْطَ قِيمَتِهِ ، وَلَا إجْبَارَ فِيهِ ، وَهُوَ بَيْعٌ ، وَكَذَا التَّعْدِيلُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَقِسْمَةُ الْأَجْزَاءِ إفْرَازٌ فِي الْأَظْهَرِ .

النَّوْعُ ( الثَّالِثُ ) الْقِسْمَةُ ( بِالرَّدِّ ) ( بِأَنْ ) يَحْتَاجَ فِي الْقِسْمَةِ إلَى رَدِّ مَالِ أَجْنَبِيٍّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ كَأَنْ ( يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ) مِنْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ ( بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ) وَمَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يُعَادِلُ ذَلِكَ إلَّا بِضَمِّ شَيْءٍ إلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ ( فَيَرُدُّ مَنْ يَأْخُذُهُ ) بِالْقِسْمَةِ الَّتِي أَخْرَجَتْهَا الْقُرْعَةُ ( قِسْطَ قِيمَتِهِ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْبِئْرِ أَوْ الشَّجَرِ مِثَالُهُ قِيمَةُ كُلِّ جَانِبٍ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْبِئْرِ أَوْ الشَّجَرِ أَلْفٌ فَاقْتَسَمَا رَدَّ آخِذُ مَا فِيهِ الْبِئْرُ أَوْ الشَّجَرُ خَمْسَمِائَةٍ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ حَيْثُ قَالُوا : إنَّهُ يَضْبِطُ قِيمَةَ مَا اُخْتُصَّ بِهِ ذَلِكَ الطَّرَفُ ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ يَأْخُذُ ذَلِكَ الْجَانِبَ تِلْكَ الْقِيمَةَ ، فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْقِيمَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْقِسْطَ ( وَلَا إجْبَارَ فِيهِ ) أَيْ نَوْعِ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ مَا لَا شَرِكَةَ فِيهِ فَكَانَ كَغَيْرِ الْمُشْتَرَكِ ( وَهُوَ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ قِسْمَةِ الرَّدِّ ( بَيْعٌ ) عَلَى الْمَشْهُورِ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَقِيلَ بَيْعٌ فِي الْقَدْرِ الْمُقَابِلِ بِالْمَرْدُودِ ، وَفِيمَا سِوَاهُ الْخِلَافُ فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ ( وَكَذَا التَّعْدِيلُ ) بَيْعٌ أَيْضًا ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا دَخَلَهَا الْإِجْبَارُ لِلْحَاجَةِ كَبَيْعِ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَدْيُونِ جَبْرًا ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قِسْمَةِ الْأَجْزَاءِ ( وَقِسْمَةُ الْأَجْزَاءِ إفْرَازٌ ) تُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مَثَلًا هُوَ الَّذِي كَانَ مَلَكَهُ لَا بَيْعٌ ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا دَخَلَهَا الْإِجْبَارُ وَلَمَا جَازَ الِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى

الْقُرْعَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا بَيْعٌ ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَالرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا فِي بَابَيْ الرِّبَا وَزَكَاةِ الْمُعَشَّرَاتِ ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَّا وَكَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا اقْتَسَمَا بَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا كَانَ لَهُ فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ بِمَالِهِ فِي حِصَّتِهِ .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ قُلْنَا الْقِسْمَةُ بَيْعٌ ثَبَتَ فِيهَا أَحْكَامُهُ مِنْ الْخِيَارَيْنِ وَالشُّفْعَةِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ بَيْعٍ أَوْ تَمَلُّكٍ ، وَيَقُومُ الرِّضَا مَقَامَهُمَا فَيُشْتَرَطُ فِي الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَامْتَنَعَتْ فِي الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَمَا عَقَدَتْ النَّارُ أَجْزَاءَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِنْ بَابِ الرِّبَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إفْرَازٌ جَازَ ذَلِكَ .

وَيُقْسَمُ الرُّطَبُ وَالْعِنَبُ فِي الْإِفْرَازِ ، وَلَوْ كَانَتْ قِسْمَتُهُمَا عَلَى الشَّجَرِ خَرْصًا لَا غَيْرُهُمَا مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ ، فَلَا يُقْسَمُ عَلَى الشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ الْخَرْصَ لَا يَدْخُلُهُ وَتُقْسَمُ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَحْدَهَا ، وَلَوْ إجْبَارًا ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّرْعُ بَعْلًا أَوْ قَصِيلًا أَمْ حَبًّا مُشْتَدًّا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْقُمَاشِ فِي الدَّارِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ أَمَدًا بِخِلَافِهِمَا أَوْ مَعَ الزَّرْعِ قَصِيلًا بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا الزَّرْعُ وَحْدَهُ وَلَا مَعَهَا ، وَهُوَ بَذْرٌ بَعْدُ أَوْ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَلَا يُقْسَمُ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا إفْرَازًا كَمَا لَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأُولَى قِسْمَةُ مَجْهُولٍ ، وَفِي الْأَخِيرَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ قِسْمَةُ مَجْهُولٍ وَمَعْلُومٍ ، وَعَلَى الثَّانِي بَيْعُ طَعَامٍ وَأَرْضٌ بِطَعَامٍ وَأَرْضٍ ، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ فِي قِسْمَةٍ هِيَ بَيْعٌ لَا إفْرَازٌ وَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ فِي مَمْلُوكٍ عَنْ وَقْفٍ إنْ قُلْنَا : هِيَ إفْرَازٌ ، لَا إنْ قُلْنَا : هِيَ بَيْعٌ مُطْلَقًا أَوْ إفْرَازٌ وَفِيهَا رَدٌّ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا تَصِحُّ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَالِكَ يَأْخُذُ بِإِزَاءِ مِلْكِهِ جُزْءًا مِنْ الْوَقْفِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ أَوْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ مِنْ أَرْبَابِ الْوَقْفِ صَحَّتْ ، وَلَغَتْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ قِسْمَةُ وَقْفٍ فَقَطْ بِأَنْ قُسِمَ بَيْنَ أَرْبَابِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ شَرْطِ الْوَاقِفِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : هَذَا إذَا صَدَرَ الْوَقْفُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ صَدَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِجَوَازِ الْقِسْمَةِ كَمَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْوَقْفِ مَعَ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَفْتَيْت بِهِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَكَلَامُهُ مُتَدَافِعٌ فِيمَا إذَا صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلَيْنِ أَوْ عَكْسِهِ ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْأَوَّلِ بِمُقْتَضَى مَا قَالَهُ

الْجَوَازُ ، وَفِي الثَّانِي عَدَمُهُ .

وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ الرِّضَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ ، وَلَوْ تَرَاضَيَا بِقِسْمَةِ مَا لَا إجْبَارَ فِيهِ اُشْتُرِطَ الرِّضَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ فِي الْأَصَحِّ ، كَقَوْلِهِمَا رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ، أَوْ بِمَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ .

( وَيُشْتَرَطُ فِي ) قِسْمَةِ ( الرَّدِّ الرِّضَا ) فِي ابْتِدَاءِ الْقُرْعَةِ جَزْمًا ، وَ ( بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ ) عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ ، وَالْبَيْعُ لَا يَحْصُلُ بِالْقُرْعَةِ فَافْتَقَرَ إلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِهَا كَقَبْلِهِ وَقِيلَ : يَلْزَمُ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ ، وَيَلْزَمُ مَنْ خَرَجَ لَهُ الْأَكْثَرُ بَدَلُ مَا يُقَابِلُ الزَّائِدَ كَالْقِسْمَةِ الْمُجْبَرِ عَلَيْهَا .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ اُعْتُبِرَ التَّرَاضِي فِي ابْتِدَائِهَا بِخِلَافِ الْإِجْبَارِ ( وَلَوْ تَرَاضَيَا ) أَيْ الشَّرِيكَانِ فَأَكْثَرُ ( بِقِسْمَةِ مَا لَا إجْبَارَ فِيهِ اُشْتُرِطَ الرِّضَا بَعْدَ ) خُرُوجِ ( الْقُرْعَةِ ) ( فِي الْأَصَحِّ ) وَصِيغَةُ الرِّضَا ( كَقَوْلِهِمَا رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ ) أَوْ بِهَذَا ( أَوْ بِمَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ ) ؛ لِأَنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُنَاطَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ الِاكْتِفَاءَ بِذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ التَّمْلِيكِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيّ وَتَبِعَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَلَلٌ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَا لَا إجْبَارَ فِيهِ هُوَ قِسْمَةُ الرَّدِّ فَقَطْ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا قَبْلَهَا بِلَا فَاصِلَةٍ ، وَجَزَمَ بِاشْتِرَاطِ الرِّضَا فَلَزِمَ التَّكْرَارُ مَعَ جَزْمِهِ أَوَّلًا ، وَحِكَايَةِ الْخِلَافِ ثَانِيًا .
ثَانِيهَا : أَنَّهُ عَبَّرَ بِ الْأَصَحِّ فَاقْتَضَى قُوَّةَ الْخِلَافِ ، وَفِي الرَّوْضَةِ عَبَّرَ بِالصَّحِيحِ فَاقْتَضَى ضَعْفَ مُقَابِلِهِ ، ثَالِثُهَا أَنَّهُ عَكَسَ مَا فِي الْمُحَرَّرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذَا الْخِلَافَ إلَّا فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ ، فَقَالَ : وَالْقِسْمَةُ الَّتِي يُجْبَرُ عَلَيْهَا إذَا جَرَتْ بِالتَّرَاضِي هَلْ يُعْتَبَرُ تَكْرَارُ الرِّضَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فِيهَا ؟ وَجْهَانِ : رَجَّحَ مِنْهُمَا التَّكْرَارَ ا هـ وَقَالَ فِي التَّوْشِيحِ : الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ فِي الْمِنْهَاجِ أَنْ يَكْتُبَ مَا فِيهِ

إجْبَارٌ فَكَتَبَ مَا لَا إجْبَارَ فِيهِ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ مَا الْإِجْبَارُ فِيهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْإِجْبَارِ .
ثُمَّ سَقَطَتْ الْأَلِفُ فَقُرِئَتْ مَا لَا إجْبَارَ فِيهِ ، وَبِهَذَا يَزُولُ التَّكْرَارَ أَوْ التَّنَاقُضُ وَالتَّعَاكُسُ ا هـ .
وَقَالَ الشَّارِحُ اُعْتُرِضَ قَوْلُهُ : لَا إجْبَارَ فِيهِ بِأَنَّ صَوَابَهُ عَكْسُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ الْقِسْمَةُ الَّتِي يُجْبَرُ عَلَيْهَا إذَا جَرَتْ بِالتَّرَاضِي إلَخْ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا انْتَفَى فِيهِ الْإِجْبَارُ مِمَّا هُوَ مَحَلُّهُ الَّذِي هُوَ قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ وَالْأَجْزَاءِ وَهُوَ أَصَرْحُ فِي الْمُرَادِ مِمَّا فِي الْمُحَرَّرِ ا هـ .
فَقَوْلُ : الشَّارِحِ وَهُوَ : أَيْ الْمُرَادُ لَا عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ ، وَكَوْنُهُ أَصْرَحُ ؛ لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالرِّضَا وَعَدَمِ الْإِجْبَارِ بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْإِجْبَارِ لَازِمًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَصَرْحُ مِنْ اللَّازِمِ .

وَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ غَلَطٍ أَوْ حَيْفٌ فِي قِسْمَةِ إجْبَارٍ نُقِضَتْ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَادَّعَاهُ وَاحِدٌ فَلَهُ تَحْلِيفُ شَرِيكِهِ .
( وَلَوْ ) ( ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ) أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ أَوْ الشَّاهِدِ وَيَمِينٍ ( غَلَطٍ ) وَلَوْ غَيْرُ فَاحِشٍ ( أَوْ ) ثَبَتَ ( حَيْفٌ فِي قِسْمَةِ إجْبَارٍ ) ( نُقِضَتْ ) تِلْكَ الْقِسْمَةُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى ظُلْمِ الْقَاضِي أَوْ كَذِبِ الشُّهُودِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بَدَلَ الْبَيِّنَةِ بِالْحُجَّةِ لَكَانَ أَعَمَّ لِيَشْمَلَ مَا ذُكِرَ ( فَإِنْ ) ( لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ) وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا مِمَّا مَرَّ ( وَادَّعَاهُ ) أَيْ الْغَلَطَ أَوْ الْحَيْفَ ( وَاحِدٌ ) مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ ، وَبَيَّنَ قَدْرَ مَا ادَّعَاهُ ( فَلَهُ تَحْلِيفُ شَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى خَصْمِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَنَفَعَهُ فَأَنْكَرَ كَانَ لَهُ تَحْلِيفُهُ ، فَإِنْ حَلَفَ مَضَتْ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْقَاسِمِ بِذَلِكَ وَلَا يَحْلِفُ كَمَا لَا يَحْلِفُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ الْقَاسِمُ وَصَدَّقُوهُ نُقِضَتْ الْقِسْمَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ لَمْ تُنْقَضْ ، وَرَدَّ الْأُجْرَةَ كَالْقَاضِي يَعْتَرِفُ بِالْغَلَطِ أَوْ الْحَيْفِ فِي الْحُكْمِ إنْ صَدَّقَهُ الْمَحْكُومُ لَهُ رَدَّ الْمَالَ الْمَحْكُومَ بِهِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَغَرِمَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَقَوْلُ الْقَاسِمِ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ حَالَ وِلَايَتِهِ قَسَمْت كَقَوْلِ الْقَاضِي وَهُوَ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ حَكَمْت فَيُقْبَلُ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ ، بَلْ لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ أُجْرَةً إذَا ذَكَرَ فِعْلَهُ .

وَلَوْ ادَّعَاهُ فِي قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقُلْنَا هِيَ بَيْعٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْغَلَطِ ، فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى .
قُلْت : وَإِنْ قُلْنَا إفْرَازٌ نُقِضَتْ إنْ ثَبَتَ ، وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَوْ ) ( ادَّعَاهُ ) أَيْ الْغَلَطَ أَوْ الْحَيْفَ ( فِي قِسْمَةِ تَرَاضٍ ) بِأَنْ نَصَبَا قَاسِمًا أَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَرَضِيَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ( وَقُلْنَا : هِيَ ) أَيْ قِسْمَةُ التَّرَاضِي ( بَيْعٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْغَلَطِ ) وَعَلَى هَذَا ( فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى ) وَإِنْ تَحَقَّقَ الْغَبْنُ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِ الزِّيَادَةِ لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَبْنٍ ، وَالثَّانِي لَهَا أَثَرٌ فَتَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّهَا قِسْمَةُ عَدْلٍ فَبَانَ خِلَافُهُ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ كَانَ الْمَقْسُومُ رِبَوِيًّا وَتَحَقَّقَ الْغَلَطُ أَوْ الْحَيْفُ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ لَا مَحَالَةَ لِلرِّبَا ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ( قُلْت ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( وَإِنْ قُلْنَا ) إنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي ( إفْرَازٌ نُقِضَتْ ) تِلْكَ الْقِسْمَةُ بِادِّعَاءِ الْغَلَطِ فِيهَا ( إنْ ثَبَتَ ) الْغَلَطُ بِبَيِّنَةٍ ( وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَهَذَا الْحُكْمُ يُؤْخَذُ مِنْ اقْتِصَارِ الْمُحَرَّرِ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ إيضَاحًا .

وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَقْسُومِ شَائِعًا بَطَلَتْ فِيهِ ، وَفِي الْبَاقِي خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، أَوْ مِنْ النَّصِيبَيْنِ مُعَيَّنٌ سَوَاءٌ بَقِيَتْ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَوْ ) ( اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَقْسُومِ شَائِعًا ) كَالرُّبْعِ ( بَطَلَتْ ) تِلْكَ الْقِسْمَةُ ( فِيهِ ) أَيْ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ ( وَفِي الْبَاقِي ) بَعْدَهُ ( خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ) كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ الصِّحَّةُ وَثَبَتَ الْخِيَارُ ، وَالثَّانِي : الْبُطْلَانُ ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ وَبَسَطَ ذَلِكَ ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُعْتَمَدُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ( أَوْ ) لَمْ يُسْتَحَقَّ بَعْضُ الْمَقْسُومِ شَائِعًا ( مِنْ النَّصِيبَيْنِ ) قَدْرٌ ( مُعَيَّنٌ ) حَالَةَ كَوْنِهِ ( سَوَاءٌ بَقِيَتْ ) تِلْكَ الْقِسْمَةُ فِي الْبَاقِي ( وَإِلَّا ) بِأَنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ ( بَطَلَتْ ) تِلْكَ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ مَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَدْرَ حَقِّهِ ، بَلْ يَحْتَاجُ أَحَدُهُمَا إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْآخَرِ وَتَعُودُ الْإِشَاعَةُ .
تَنْبِيهٌ : أَرَادَ بِبُطْلَانِهَا ظَاهِرًا وَإِلَّا فَبِالِاسْتِحْقَاقِ بَانَ أَنْ لَا قِسْمَةَ ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَا لَوْ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ عَيْنٌ لِمُسْلِمٍ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَظْهَرْ أَمْرُهَا إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، بَلْ يُعَوَّضُ مَنْ وَقَعَتْ فِي نَصِيبِهِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ وَلَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ .
ثُمَّ قَالَ : هَذَا إنْ كَثُرَ الْجُنْدُ ، فَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا كَعَشَرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُنْقَضَ ، إذْ لَا عُسْرَ فِي إعَادَتِهَا .

خَاتِمَةٌ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مُهِمَّةٍ : تُقْسَمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ كَمَا تُقْسَمُ الْأَعْيَانُ مُهَايَأَةً مُيَاوَمَةً وَمُشَاهَرَةً وَمُسَانَهَةً وَعَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ يَزْرَعَ هَذَا مَكَانًا مِنْ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا مَكَانًا آخَرَ مِنْهُ ، لَكِنْ لَا إجْبَارَ فِي الْمُنْقَسِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي طُلِبَتْ قِسْمَةُ مَنَافِعِهَا فَلَا تُقْسَمُ إلَّا بِالتَّوَافُقِ ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تُعَجِّلُ حَقَّ أَحَدِهِمَا وَتُؤَخِّرُ حَقَّ الْآخَرِ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ ، قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا فِي الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ .
أَمَّا الْمَمْلُوكَةُ بِإِجَارَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَيُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ ، إذْ لَا حَقَّ لِلشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِالْمُهَايَأَةِ وَتَنَازَعَا فِي الْبُدَاءَةِ بِأَحَدِهِمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ عَنْ الْمُهَايَأَةِ ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْضِهَا لَزِمَ الْمُسْتَوْفِي لِلْآخَرِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَا اسْتَوْفَى كَمَا إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمُسْتَوْفِي أَحَدُهُمَا مَنْفَعَتَهَا ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْمُهَايَأَةِ وَأَصَرَّا عَلَى ذَلِكَ أَجَّرَهَا الْقَاضِي عَلَيْهِمَا وَلَا يَبِيعُهَا عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَامِلَانِ وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِمَا فِيهَا .

وَلَا تَجُوزَ الْمُهَايَأَةُ فِي ثَمَرِ الشَّجَرِ لِيَكُونَ لِهَذَا عَامًا ، وَلِهَذَا عَامًا ، وَلَا فِي لَبَنِ الشَّاةِ مَثَلًا لِيَحْلُبَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبَوِيٌّ مَجْهُولٌ ، وَطَرِيقُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يُبِيحَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مُدَّةً ، وَاغْتُفِرَ الْجَهْلُ لِضَرُورَةِ الشَّرِكَةِ مَعَ تَسَامُحِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَ جَمَاعَةً إلَى قِسْمَةِ شَيْءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ حَتَّى يُقِيمُوا عِنْدَهُ بَيِّنَةً بِمِلْكِهِمْ ، سَوَاءٌ اتَّفَقُوا عَلَى طَلَبِ الْقِسْمَةِ أَوْ تَنَازَعُوا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِذَا قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ فَقَدْ يَدَّعُونَ الْمِلْكَ مُحْتَجِّينَ بِقِسْمَةِ الْقَاضِي ، وَيُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَكَذَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ الدَّارِمِيُّ ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ ابْنُ الْمُقْرِي .

وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الدُّيُونِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الذِّمَمِ ؛ لِأَنَّهَا : إمَّا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، أَوْ إفْرَازُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ إفْرَازُ مَا فِي الذِّمَّةِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ لِأَحَدِهِمَا وَمَا فِي ذِمَّةِ عَمْرٍو لِلْآخَرِ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِمَا قَبَضَهُ .

وَلَوْ تَقَاسَمَ شَرِيكَانِ ثُمَّ تَنَازَعَا فِي بَيْتٍ أَوْ قِطْعَةِ أَرْضٍ وَقَالَ : كُلٌّ هَذَا مِنْ نَصِيبِي وَلَا بَيِّنَةَ تَحَالَفَا وَفُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : يَحْلِفُ ذُو الْيَدِ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِي نَصِيبِهِ أَنْ يَفْسَخَ .

وَلَوْ تَقَاسَمَا دَارًا وَبَابُهَا فِي قَسْمِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ يَسْتَطْرِقُ إلَى نَصِيبِهِ مِنْ بَابٍ يَفْتَحُهُ إلَى شَارِعٍ فَمَنَعَهُ السُّلْطَانُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْقِسْمَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ خِلَافًا لِابْنِ الصَّلَاحِ وَلَا يُقَاسِمُ الْوَلِيُّ مَحْجُورَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ قُلْنَا : الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَوَلِيِّهِ حِنْطَةٌ .

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ جَمْعُ شَهَادَةٍ مَصْدَرُ شَهِدَ ، مِنْ الشُّهُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الشَّهَادَةُ خَبَرٌ قَاطِعٌ وَالشَّاهِدُ حَامِلُ الشَّهَادَةِ وَمُؤَدِّيهَا ؛ لِأَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ ، وَقِيلَ : مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِعْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } أَيْ أَعْلَمَ وَبَيَّنَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } وَهُوَ أَمْرُ إرْشَادٍ ، لَا وُجُوبٍ وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَيْسَ لَك إلَّا شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ } وَخَبَرُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الشَّهَادَةِ ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ : تَرَى الشَّمْسَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ .
وَأَمَّا خَبَرُ : { أَكْرِمُوا الشُّهُودَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَدْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ } فَضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ : إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ : شَاهِدٌ ، وَمَشْهُودٌ لَهُ ، وَمَشْهُودٌ عَلَيْهِ ، وَمَشْهُودٌ بِهِ ، وَصِيغَةٌ ، وَكُلُّهَا تُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا .

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَدْ بَدَأَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ ( شَرْطُ الشَّاهِدِ ) أَيْ شُرُوطُهُ ( مُسْلِمٌ ) وَلَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَبُولِهِ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ ، وَلِأَحْمَدَ فِي الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا وَلِأَنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُؤْمَنُ الْكَذِبُ مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ .

( حُرٌّ ) وَلَوْ بِالدَّارِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَقِيقٍ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَلَوْ مُبَعَّضًا أَوْ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ فِيهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَهُوَ مَسْلُوبٌ مِنْهَا .

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ مُكَلَّفٌ
( مُكَلَّفٌ ) فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا صَبِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ رِجَالِكُمْ } تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا : الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ .

عَدْلٌ
( عَدْلٌ ) فَلَا تُقْبَلُ مِنْ فَاسِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } .

ذُو مُرُوءَةٍ
( ذُو مُرُوءَةٍ ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ سُهُولَةٍ ، وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ لَا حَيَاءَ لَهُ ، وَمَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ قَالَ مَا شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت } وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا .

غَيْرُ مُتَّهَمٍ .
( غَيْرُ مُتَّهَمٍ ) فِي شَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا } وَالرِّيبَةُ حَاصِلَةٌ بِالتُّهَمِ وَلِمَا رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ وَلَا ذِي الْحِنَّةِ } وَالظِّنَّةُ : التُّهْمَةُ ، وَالْحِنَّةُ : الْعَدَاوَةُ .

تَنْبِيهٌ : بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ شُرُوطٌ لَمْ يَذْكُرْهَا مِنْهَا أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ يَقِظًا كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ قُبَيْلَ فَصْلِ التَّوْبَةِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ .

وَشَرْطُ الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ .

( وَشَرْطُ ) تَحَقُّقِ ( الْعَدَالَةِ ) وَهِيَ لُغَةً التَّوَسُّطُ ، وَشَرْعًا ( اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ) أَيْ كُلٍّ مِنْهَا ( وَ ) اجْتِنَابُ ( الْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ ) مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ ، وَفَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْكَبِيرَةَ بِأَنَّهَا : مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، وَقِيلَ : هِيَ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ ، وَيَذْكُرُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمِيلُ ، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ ا هـ .
؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا الرِّبَا وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَلَا حَدَّ فِيهَا ، وَقَالَ الْإِمَامُ : هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ .
ا هـ .
وَالْمُرَادُ بِهَا بِقَرِينَةِ التَّعَارِيفِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْكَبَائِرِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَعُ ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِهَا مَا لَمْ نُكَفِّرْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ ، هَذَا ضَبْطُهَا بِالْحَدِّ وَأَمَّا بِالْعَدِّ فَأَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنَّهَا إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ ، أَيْ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي فَمِنْ الصَّغَائِرِ ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ ، فَمِنْ الْأَوَّلِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِلَا عُذْرٍ ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَأَمْنُ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالزِّنَا ، وَاللِّوَاطُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَإِنْ قَلَّ ، وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ ، وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا يَبْلُغُ

رُبُعَ مِثْقَالٍ كَمَا يُقْطَعُ بِهِ فِي السَّرِقَةِ ، وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ ، وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ ، وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا وَسَبُّ الصَّحَابَةِ ، وَأَخْذُ الرِّشْوَةِ ، وَالنَّمِيمَةُ وَأَمَّا الْغِيبَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَإِلَّا فَصَغِيرَةٌ وَمِنْ الصَّغَائِرِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ ، وَكَذِبٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ ، وَهَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ إلَّا إنْ رَاعَى حَقَّ الشَّرْعِ فِيهَا ، وَالضَّحِكُ فِي الصَّلَاةِ وَالنِّيَاحَةُ ، وَشَقُّ الْجَيْبِ فِي الْمُصِيبَةِ .
وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْفُسَّاقِ إينَاسًا لَهُمْ ، وَإِدْخَالُ مَجَانِينَ وَصِبْيَانٍ وَنَجَاسَةٍ يَغْلِبُ تَنْجِيسُهُمْ الْمَسْجِدَ ، وَاسْتِعْمَالُ نَجَاسَةٍ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَبِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ، أَوْ إصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ تَنْتَفِي الْعَدَالَةُ .
إلَّا أَنْ تَغْلِبَ طَاعَتُهُ مَعَاصِيهِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ فَلَا تَنْتَفِي عَدَالَتُهُ وَإِنْ اقْتَضَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ الِانْتِفَاءَ مُطْلَقًا .
تَنْبِيهٌ : عَطْفُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ؛ لِأَنَّ الْإِصْرَارَ كَبِيرَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَقِيلَ : لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ كَمَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تَصِيرُ بِالْمُوَاظَبَةِ كُفْرًا فَائِدَةٌ : فِي الْبَحْرِ : لَوْ نَوَى الْعَدْلُ فِعْلَ كَبِيرَةٍ غَدًا كَزِنًا لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ فَاسِقًا بِخِلَافِ نِيَّةِ الْكُفْرِ .

وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَيُكْرَهُ بِشِطْرَنْجٍ ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَقِمَارٌ .
( وَيَحْرُمُ ) ( اللَّعِبُ ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ( بِالنَّرْدِ ) ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِخَبَرِ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَهُوَ عَلَى هَذَا صَغِيرَةٌ ( وَ ) الثَّانِي : يُكْرَهُ كَمَا ( يُكْرَهُ بِشِطْرَنْجٍ ) وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ ، وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ مُعْجَمًا وَمُهْمَلًا وُضِعَ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ وَالتَّدْبِيرِ فَهُوَ يُعِينُ عَلَى تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَالْحِسَابِ وَالنَّرْدُ مَوْضُوعُهُ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَانِ أَيْ الْحَصَى وَنَحْوُهُ كَالْأَزْلَامِ ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالطَّابِ ، فَأَفْتَى السُّبْكِيُّ بِتَحْرِيمِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْجَرَائِدُ الْأَرْبَعُ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْكَرَاهَةِ كَالشِّطْرَنْجِ ؛ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِ الرَّافِعِيِّ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى إخْرَاجِ الْكَعْبَيْنِ فَكَالنَّرْدِ ، أَوْ عَلَى الْفِكْرِ فَكَالشِّطْرَنْجِ ( فَإِنْ ) ( شُرِطَ فِيهِ ) أَيْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ( مَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) عَلَى أَنَّ مَنْ غَلَبَ مِنْ اللَّاعِبَيْنِ فَلَهُ عَلَى الْآخَرِ كَذَا ( فَقِمَارٌ ) فَيَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأُمِّ فَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، فَإِنْ شُرِطَ مِنْ جَانِبِ أَحَدِ اللَّاعِبَيْنِ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ تَعَاطِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ بِتَأْوِيلٍ ، وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ فُحْشٌ أَوْ تَأْخِيرُ فَرِيضَةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا ، وَكَذَا سَهْوًا كَلَعِبٍ بِهِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَحَرَامٌ أَيْضًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَكَذَا إذَا لَعِبَ بِهِ مَعَ مُعْتَقِدِ التَّحْرِيمِ كَمَا رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَأَمَّا الْحَزَّةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزَّايِ : قِطْعَةُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ يُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ وَيُلْعَبُ بِهَا وَتُسَمَّى الْمُنَقِّلَةُ ، وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ، وَالْقَرَقُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ ، وَيُقَالُ : بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ : أَنْ يَخُطَّ فِي الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ وَيُجْعَلُ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ ، وَيُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ تُقَلَّبُ بِهَا ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الرَّافِعِيِّ السَّابِقِ الْجَوَازُ ، وَجَرَى ابْنُ الْمُقْرِي عَلَى أَنَّهُمَا كَالنَّرْدِ .

وَيَجُوزُ اللَّعِبُ بِالْخَاتَمِ ، وَيُكْرَهُ بِالْمَرَاجِيحِ وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَرَاهَةَ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ .
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ : هَذَا حَيْثُ لَمْ يَسْرِقْ اللَّاعِبُ طُيُورَ النَّاسِ ، فَإِنْ فَعَلَ حَرُمَ وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَاِتِّخَاذُ الْحَمَامِ لَلْفِرَاخِ وَالْبَيْضِ وَالْأُنْسِ بِهَا ، وَحَمْلُ الْبَطَائِقِ عَلَى أَجْنِحَتِهَا جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَيَحْرُمُ كَمَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالْكِلَابِ وَتَرْقِيصُ الْقُرُودِ وَنِطَاحُ الْكِبَاشِ ، وَالتَّفَرُّجُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَاللَّعِبُ بِالصُّوَرِ ، وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهَا .

وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ وَسَمَاعُهُ .
( وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ ) بَلْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ مَنْدُوبٌ لِأَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ وَرَدَتْ بِهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَنْشِيطِ الْإِبِلِ لِلسَّيْرِ وَإِيقَاظِ النَّائِمِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِالْمَدِّ بِخَطِّهِ ، وَكَذَا فِي الْمُحْكَمِ وَالصِّحَاحِ وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ ، وَيُقَالُ : فِيهِ حَدْوٌ أَيْضًا ، وَهُوَ مَا يُقَالُ خَلْفَ الْإِبِلِ مِنْ رَجَزِ شِعْرٍ وَغَيْرِهِ ، ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ فَأَضَافَهُ رَجُلٌ ، فَرَأَى عِنْدَهُ عَبْدًا أَسْوَدَ مُقَيَّدًا فَسَأَلَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ مَوْلَاهُ : إنَّهُ ذُو صَوْتٍ طَيِّبٍ وَكَانَتْ لَهُ عِيسٌ فَحَمَّلَهَا أَحْمَالًا ثَقِيلَةً وَحَدَأَهَا فَقَطَعَتْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ ، فَلَمَّا حَطَّتْ أَحْمَالَهَا مَاتَتْ كُلُّهَا قَالَ : فَشَفَعْت فِيهِ فَشَفَّعَنِي ، ثُمَّ سَأَلْته أَنْ يَحْدُوَ لِي فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَسَقَطْت لِوَجْهِي مِنْ طِيبِ صَوْتِهِ حَتَّى أَشَارَ إلَيْهِ مَوْلَاهُ بِالسُّكُوتِ ( وَ ) يُبَاحُ ( سَمَاعُهُ ) أَيْضًا وَاسْتِمَاعُهُ ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ { حَرِّكْ بِالْقَوْمِ فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ } .

وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ بِلَا آلَةٍ ، وَسَمَاعُهُ .
( وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ ) وَهُوَ بِالْمَدِّ ، وَقَدْ يُقْصَرُ ، وَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَهُوَ وَاَللَّهِ الْغِنَاءُ ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ .
هَذَا إذَا كَانَ ( بِلَا آلَةٍ ) مِنْ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ ( وَ ) يُكْرَهُ ( سَمَاعُهُ ) كَذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ اسْتِمَاعُهُ وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى .
أَمَّا مَعَ الْآلَةِ فَحَرَامَانِ ، وَاسْتِمَاعُهُ بِلَا آلَةٍ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ اسْتِمَاعِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَمْرَدَ فِتْنَةٌ فَحَرَامٌ قَطْعًا .
فَائِدَةٌ : الْغِنَاءُ مِنْ الصَّوْتِ مَمْدُودٌ ، وَمِنْ الْمَالِ مَقْصُورٌ .

تَنْبِيهٌ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مَسْنُونٌ ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِدَارَةِ لِلْقِرَاءَةِ بِأَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً ، ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدْبِيرِ ، وَلَا بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ ، وَلَا بِقِرَاءَتِهِ بِالْأَلْحَانِ ، فَإِنْ أَفْرَطَ فِي الْمَدِّ وَالْإِشْبَاعِ حَتَّى وَلَّدَ حُرُوفًا مِنْ الْحَرَكَاتِ أَوْ أَسْقَطَ حُرُوفًا حَرُمَ ، وَيَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ ، وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَيُسَنُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ ، وَتَدَبُّرُهَا ، وَالْبُكَاءُ عِنْدَهَا ، وَاسْتِمَاعُ شَخْصٍ حَسَنِ الصَّوْتِ ، وَالْمُدَارَسَةُ ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَدَثِ .

وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَ اسْتِمَاعُهَا ، لَا يَرَاعٍ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْت : الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيَحْرُمُ ) ( اسْتِعْمَالُ ) أَوْ اتِّخَاذُ ( آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ ) جَمْعُ شَارِبٍ وَهُمْ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ الْحَرَامِ ، وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ هُوَ الضَّرْبُ بِهَا ( كَطُنْبُورٍ ) بِضَمِّ الطَّاءِ ، وَيُقَالُ الطِّنْبَارُ ( وَعُودٍ وَصَنْجٍ ) وَهُوَ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : صُفْرٌ يُضْرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَتُسَمَّى الصَّفَّاقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ ( وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَهُوَ مَا يُضْرَبُ بِهِ مَعَ الْأَوْتَارِ ( وَ ) يَحْرُمُ ( اسْتِمَاعُهَا ) أَيْ الْآلَةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُطْرِبُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْمَعَازِفَ } قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : الْمَعَازِفُ آلَاتُ اللَّهْوِ ، وَمِنْ الْمَعَازِفِ الرَّبَابُ وَالْجُنْكُ ( لَا ) اسْتِعْمَالُ ( يَرَاعٍ ) وَهُوَ الشَّبَّابَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ جَوْفِهَا ، فَلَا تَحْرُمُ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ يُنَشِّطُ عَلَى السَّيْرِ فِي السَّفَرِ ( قُلْت : الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) كَمَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ وَتَرْجِيحُ الْأَوَّلِ تَبِعَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ الْغَزَالِيَّ ، وَمَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ بِتَحْرِيمِهِ وَبَحَثَ جَوَازَ اسْتِمَاعِ الْمَرِيضِ إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ فِي مَرَضِهِ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ فِي السَّمَاعِ بِالْمَلَاهِي وَبِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : السَّمَاعُ عَلَى الصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ مُنْكَرٌ وَضَلَالَةٌ ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَهَلَةِ وَالشَّيَاطِينِ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَزِيدُ فِي الذَّوْقِ فَهُوَ جَاهِلٌ أَوْ شَيْطَانٌ ، وَمَنْ نَسَبَ السَّمَاعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَدَّبُ أَدَبًا شَدِيدًا ، وَيُدْخَلُ فِي زُمْرَةِ

الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، وَلَيْسَ هَذَا طَرِيقَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِزْبِهِ وَأَتْبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ طَرِيقَةُ أَهْلِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ ، وَيُنْكَرُ عَلَى هَذَا بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالْقَلْبِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِإِبَاحَةِ السَّمَاعِ فَذَاكَ حَيْثُ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ دُفٌّ وَشَبَّابَةٌ ، وَلَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ ، وَلَا مَنْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ .

وَيَجُوزُ دُفٌّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٌ ، وَكَذَا غَيْرُهُمَا فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ .

( وَيَجُوزُ دُفٌّ ) بِضَمِّ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الْأَصَابِعِ عَلَيْهِ ( لِعُرْسٍ ) لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ } ( وَ ) يَجُوزُ ( خِتَانٌ ) لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ دُفٍّ بَعَثَ ، فَإِنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ أَوْ الْخِتَانِ سَكَتَ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمَا عَمِلَ بِالدِّرَّةِ " ( وَكَذَا غَيْرُهُمَا ) أَيْ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِإِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلَادَةٍ ، وَعِيدٍ ، وَقُدُومِ غَائِبٍ ، وَشِفَاءِ مَرِيضٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْت إنْ رَدَّك اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ ، فَقَالَ لَهَا : إنْ كُنْت نَذَرْت فَأَوْفِ بِنَذْرِك } وَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ إظْهَارُ السُّرُورِ .
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ وَوَقْتِ الْعَقْدِ وَالزِّفَافِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ لِأَثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَارِّ .
وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ ضَرْبَ الدُّفِّ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ قُدُومِ عَالِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( وَإِنْ كَانَ ) ( فِيهِ ) أَيْ الدُّفِّ ( جَلَاجِلُ ) لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِجَلَاجِلَ فَعَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمُرَادَ بِالْجَلَاجِلِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ : الْمُرَادُ بِهِ الصُّنُوجُ : جَمْعُ صَنْجٍ ، وَهِيَ الْحِلَقُ الَّتِي تُجْعَلُ دَاخِلَ الدُّفِّ ، وَالدَّوَائِرُ الْعِرَاضُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ صُفْرٍ وَتُوضَعُ فِي خُرُوقِ دَائِرَةِ الدُّفِّ

، وَلَا فَرْقَ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَمَا يَقْتَضِيه إطْلَاقُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ فِي تَخْصِيصِهِ لَهُ بِالنِّسَاءِ .

وَيَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ ، وَهِيَ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ .
( وَيَحْرُمُ ) ( ضَرْبُ الْكُوبَةِ ) ( وَهِيَ ) بِضَمِّ كَافِهَا وَسُكُونِ وَاوِهَا ( طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ ) وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ لِخَبَرِ { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَالْمَعْنَى فِيهِ التَّشْبِيهُ بِمَنْ يَعْتَادُ ضَرْبَهُ وَهُمْ الْمُخَنَّثُونَ ، وَمُحَرَّمٌ اسْتِمَاعُهَا أَيْضًا لِمَا مَرَّ فِي آلَةِ الْمَلَاهِي .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ إبَاحَةُ مَا عَدَاهَا مِنْ الطُّبُولِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَكِنَّ مُرَادَهُمْ مَا عَدَا طُبُولِ اللَّهْوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِتَحْرِيمِ طُبُولِ اللَّهْوِ الْعِمْرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ وَغَيْرُهُمَا .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : تَفْسِيرُ الْكُوبَةِ بِالطَّبْلِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : غَلِطَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا الطَّبْلُ ، بَلْ هِيَ النَّرْدُ ا هـ .
لَكِنْ فِي الْمُحْكَمِ الْكُوبَةُ : الطَّبْلُ وَالنَّرْدُ ، فَجَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَلَا يَحْسُنُ التَّغْلِيطُ .

لَا الرَّقْصُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنِّثِ .

( لَا الرَّقْصُ ) فَلَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ أَوْ اعْوِجَاجٍ ، وَلَا يُكْرَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، بَلْ يُبَاحُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَسْتُرُهَا حَتَّى تَنْظُرَ إلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَيَرْفِسُونَ } وَالرَّفْسُ : الرَّقْصُ ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذْ ذَاكَ صَغِيرَةً ، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ ، لَا إلَى أَبْدَانِهِمْ ، وَقِيلَ : يُكْرَهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ وَفِي الْإِحْيَاءِ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِوَجْدٍ فَيَجُوزُ - أَيْ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِمْ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَلَا حَاجَةَ لِاسْتِثْنَاءِ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ فَلَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَإِلَّا فَنَجِدُ أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْصُوفًا بِهَذَا ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الرَّقْصُ لَا يَتَعَاطَاهُ إلَّا نَاقِصُ الْعَقْلِ ، وَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنِّسَاءِ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ إبَاحَتِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنْ ) ( يَكُونَ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنِّثِ ) وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا ، وَبِالْمُثَلَّثَةِ : مَنْ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ فِي حَرَكَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ وَأَقَرَّهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خِلْقَةً فَلَا إثْمَ .
وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى : مَا يُفْعَلُ فِي وَفَاءِ النِّيلِ مِنْ رَجُلٍ يُزَيَّنُ بِزِينَةِ امْرَأَةٍ ، وَيُسَمُّونَهُ عَرُوسَةُ الْبَحْرِ ، فَهَذَا مَلْعُونٌ فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ ذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْهُ

.

وَيُبَاحُ قَوْلُ شَعْرٍ وَإِنْشَادُهُ إلَّا أَنْ يَهْجُوَ
( وَيُبَاحُ ) ( قَوْلُ شَعْرٍ ) أَيْ إنْشَاؤُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ ( وَإِنْشَادُهُ ) وَاسْتِمَاعُهُ ؛ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إلَيْهِمْ : مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ ، فَوَرَدَ إلَى الْمَدِينَةِ مُسْتَخْفِيًا ، وَقَامَ إلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مُمْتَدِحًا فَقَالَ : - بَانَتْ سُعَادُ : إلَى آخِرِهَا - فَرَضِيَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ بُرْدَةً ابْتَاعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهِيَ الَّتِي مَعَ الْخُلَفَاءِ إلَى الْيَوْمِ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سَمِعْت شِعْرَ الْهُذَلِيِّينَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الشِّعْرُ كَلَامٌ ، حَسَنُهُ كَحَسَنِهِ ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ } ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ صُوَرًا لَا يُبَاحُ فِيهَا قَوْلُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ فِي قَوْلِهِ ( إلَّا أَنْ يَهْجُوَ ) وَلَوْ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ لِلْإِيذَاءِ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ مُسْلِمٍ { لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا } .

أَوْ يُفْحِشَ ، أَوْ يُعَرِّضَ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ .

تَنْبِيهٌ مَحَلُّ تَحْرِيمِ الْهِجَاءِ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ ، فَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ : أَيْ غَيْرِ مَعْصُومٍ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ حَسَّانَ بِهَجْوِ الْكُفَّارِ } بَلْ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمِثْلُهُ فِي جَوَازِ الْهَجْوِ الْمُبْتَدِعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ ، وَالْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ كَمَا قَالَهُ الْعِمْرَانِيُّ ، وَبَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَوَازُ هَجْوِ الْكَافِرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ الْمُعَيَّنِ ، وَعَلَيْهِ فَيُفَارِقُ عَدَمُ جَوَازِ لَعْنِهِ ، فَإِنَّ اللَّعْنَ الْإِبْعَادُ مِنْ الْخَيْرِ ، وَلَاعِنُهُ لَا يَتَحَقَّقُ بُعْدُهُ مِنْهُ ، فَقَدْ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ ، بِخِلَافِ الْهَجْوِ ( أَوْ ) إلَّا أَنْ ( يُفْحِشَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بِخَطِّهِ بِأَنْ يُجَاوِزَ الشَّاعِرُ الْحَدَّ فِي الْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ وَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ : لَا تَكَادُ تَجِدُ مَدَّاحًا إلَّا رَذْلًا ، وَلَا هَجَّاءً إلَّا بَذْلًا ( أَوْ ) إلَّا أَنْ ( يُعَرِّضَ ) وَفِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ يُشَبِّبَ ( بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ ) غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ ، وَهُوَ ذِكْرُ صِفَاتِهَا مِنْ طُولٍ وَقِصَرٍ وَصُدْغٍ وَغَيْرِهَا فَيَحْرُمُ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ ، وَاحْتَرَزَ بِالْمُعَيَّنَةِ عَنْ التَّشْبِيبِ بِمُبْهَمَةٍ فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ ، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَإِنْشَادُهُ قَصِيدَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَتُهُ وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ الْكَلَامِ لَا تَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ .

أَمَّا حَلِيلَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَلَا يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ ، وَنَقَلَ فِي الْبَحْرِ عَدَمَ رَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْجُمْهُورِ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ ، وَلَوْ شَبَّبَ بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ مِمَّا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ ، وَكَذَا لَوْ وَصَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ بِأَعْضَائِهَا الْبَاطِنَةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِهِ وَإِنْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا شَبَّبَ بِغُلَامٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : يَفْسُقُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ ، وَاعْتُبِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ التَّعْيِينُ كَالْمَرْأَةِ ، وَهَذَا أَوْلَى ، وَلَيْسَ ذِكْرُ امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ كَلَيْلَى تَعْيِينًا .

وَالْمُرُوءَةُ تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ ، فَالْأَكْلُ فِي سُوقٍ ، وَالْمَشْيُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ ، وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ بِحَضْرَةِ النَّاسِ ، وَإِكْثَارُ حِكَايَاتٍ مُضْحِكَةٍ ، وَلُبْسُ فَقِيهٍ قُبَاءَ وَقَلَنْسُوَةٍ حَيْثُ لَا يُعْتَادُ ، وَإِكْبَابٌ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ سَمَاعِهِ ، وَإِدَامَةُ رَقْصٍ يُسْقِطُهَا ، وَالْأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ ، وَحِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ كَحِجَامَةٍ وَكَنْسٍ وَدَبْغٍ مِمَّنْ لَا تَلِيقُ بِهِ تُسْقِطُهَا ، فَإِنْ اعْتَادَهَا وَكَانَتْ حِرْفَةَ أَبِيهِ فَلَا فِي الْأَصَحِّ .

( وَالْمُرُوءَةُ ) لِلشَّخْصِ ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا ( تَخَلُّقٌ ) لِلْمَرْءِ ( بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ ) مِنْ أَبْنَاءِ عَصْرِهِ مِمَّنْ يُرَاعِي مَنَاهِجَ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ ( فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعُرْفِيَّةَ قَلَّمَا تَنْضَبِطُ ، بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبُلْدَانِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ ، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ ، فَإِنَّ الْفِسْقَ يَسْتَوِي فِيهِ الشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ ، بِخِلَافِ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ ، وَقِيلَ : الْمُرُوءَةُ التَّحَرُّزُ عَمَّا يُسْخَرُ مِنْهُ وَيُضْحَكُ بِهِ ، وَقِيلَ : هِيَ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْأَدْنَاسِ ، وَلَا يَشِينُهَا عِنْدَ النَّاسِ وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ ، وَاعْتَرَضَ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خُلُقُ أَمْثَالِهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ كالقرندلية مَعَ فَقْدِ الْمُرُوءَةِ فِيهِمْ ، وَقَدْ أَشَرْت إلَى رَدِّ هَذَا بِقَوْلِي : مِمَّنْ يُرَاعِي مَنَاهِجَ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ ( فَالْأَكْلُ ) وَالشُّرْبُ ( فِي سُوقٍ ) لِغَيْرِ سُوقِيٍّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ وَلِغَيْرِ مَنْ لَمْ يَغْلِبْهُ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ .
وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الْأَكْلِ فِي السُّوقِ مَنْ أَكَلَ دَاخِلَ حَانُوتٍ مُسْتَتِرًا ، وَفِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ نَظَرٌ ( وَالْمَشْيُ ) فِي السُّوقِ ( مَكْشُوفَ الرَّأْسِ ) أَوْ الْبَدَنِ غَيْرِ الْعَوْرَةِ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مِثْلُهُ وَلِغَيْرِ مُحْرِمٍ بِنُسُكٍ .
أَمَّا الْعَوْرَةُ فَكَشْفُهَا حَرَامٌ ( وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ ) لَهُ ( بِحَضْرَةِ النَّاسِ ) أَوْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا مِنْ صَدْرٍ وَنَحْوِهِ ، وَالْمُرَادُ جِنْسُهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا فَلَوْ عَبَّرَ بِحَضْرَةِ أَجْنَبِيٍّ كَانَ أَوْلَى .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَالتَّقْبِيلُ الَّذِي يُسْتَحْيَا مِنْ إظْهَارِهِ ، فَلَوْ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ بِحَضْرَةِ جَوَارِيهِ ، أَوْ بِحَضْرَةِ زَوْجَاتٍ لَهُ غَيْرُهَا ، فَإِنَّ

ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنْ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ .
وَأَمَّا تَقْبِيلُ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ ، وَقَرَنَ فِي الرَّوْضَةِ بِالتَّقْبِيلِ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ مِمَّا يُسْتَحْيَا مِنْهُ ، وَكَذَا صَرَّحَ فِي النِّكَاحِ بِكَرَاهَتِهِ ، لَكِنْ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ حَرَامٌ .
وَأَمَّا تَقْبِيلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَتَهُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَأَنَّهُ تَقْبِيلُ اسْتِحْسَانٍ لَا تَمَتُّعٍ ، أَوْ فَعَلَهُ بَيَانًا لِلْجَوَازِ ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُهُ ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَضُرُّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ ، وَمَدُّ الرِّجْلِ عِنْدَ النَّاسِ بِلَا ضَرُورَةٍ كَقُبْلَةِ أَمَتِهِ بِحَضْرَتِهِمْ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَحْتَشِمُهُ ، فَلَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ إخْوَانِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ : كَتَلَامِذَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ ( وَإِكْثَارُ حِكَايَاتٍ مُضْحِكَةٍ ) بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ ، وَخَرَجَ بِالْإِكْثَارِ مَا لَمْ يُكْثِرْ أَوْ كَانَ ذَلِكَ طَبْعًا لَا تَصَنُّعًا كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ ، وَفِي الصَّحِيحِ { مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } تَنْبِيهٌ : تَقْيِيدُهُ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةَ بِالْإِكْثَارِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَدَاهَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالْإِكْثَارِ ، بَلْ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَفِيهِ نَظَرٌ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : الَّذِي يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَكَرُّرِهِ تَكَرُّرًا دَالًّا عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ : أَيْ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الْعَدْلَ مَنْ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ .
قَالَ

الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْإِكْثَارِ فِي الْجَمِيعِ ( وَلُبْسُ فَقِيهٍ قُبَاءَ ) بِالْمَدِّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَطْرَافِهِ ، وَلُبْسُ جَمَّالٍ لُبْسَ الْقُضَاةِ ( وَقَلَنْسُوَةٍ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ ، وَبِضَمِّ الْقَافِ مَعَ السِّينِ : مَا يُلْبَسُ عَلَى الرَّأْسِ ، هَذَا ( حَيْثُ ) أَيْ فِي بَلَدٍ ( لَا يُعْتَادُ ) لِلْفَقِيهِ لُبْسُهَا ، وَقَيَّدَ فِي الرَّوْضَةِ لُبْسُهُمَا لِلْفَقِيهِ بِأَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِمَا ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ لُبْسَهُمَا فِي الْبَيْتِ لَيْسَ كَذَلِكَ ( وَإِكْبَابٌ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ ) بِحَيْثُ يُشْغِلُهُ عَنْ مُهِمَّاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يُحَرِّمُهُ ، وَيُرْجَعُ فِي قَدْرِ الْإِكْبَابِ لِلْعَادَةِ .
أَمَّا الْقَلِيلُ مِنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ فَلَا يَضُرُّ فِي الْخَلْوَةِ ، بِخِلَافِ قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ هَادِمٌ لِلْمُرُوءَةِ وَالْإِكْبَابُ عَلَى لَعِبِ الْحَمَامِ كَالْإِكْبَابِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ ( أَوْ ) عَلَى ( غِنَاءٍ أَوْ سَمَاعِهِ ) أَيْ اسْتِمَاعِهِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ لَكَانَ أَوْلَى ، سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا ، وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ الْإِكْبَابُ عَلَى إنْشَادِ الشِّعْرِ وَاسْتِنْشَادِهِ حَتَّى يَتْرُكَ بِهِ مُهِمَّاتِهِ ، وَكَذَا اتِّخَاذُ جَارِيَةٍ أَوْ غُلَامٍ لِلْغِنَاءِ لِلنَّاسِ وَالْكَسْبِ بِالشِّعْرِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا : وَالْغِنَاءُ قَدْ لَا يُزْرِي بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ ، فَلَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ ( وَإِدَامَةُ ) أَيْ إكْثَارُ ( رَقْصٍ ) وَقَوْلُهُ ( يُسْقِطُهَا ) أَيْ الْمُرُوءَةَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا مَرَّ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ خَبَرُ قَوْلِهِ : فَالْأَكْلُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ( وَالْأَمْرُ فِيهِ ) أَيْ مُسْقِطِ الْمُرُوءَةِ ( يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ ، فَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ دُونَ آخَرَ ، وَفِي حَالٍ دُونَ آخَرَ ، وَفِي قُطْرٍ دُونَ آخَرَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، فَحَمْلُ الْمَاءِ وَالْأَطْعِمَةِ إلَى الْبَيْتِ شُحًّا لَا اقْتِدَاءً

بِالسَّلَفِ التَّارِكِينَ لِلتَّكَلُّفِ خَرْمُ مُرُوءَةٍ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَنْ يَلِيقُ بِهِ وَمَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ، وَالتَّقَشُّفُ فِي الْأَكْلِ ، وَاللُّبْسِ كَذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : يُرْجَعُ فِي قَدْرِ الْإِكْثَارِ لِلْعَادَةِ ، وَظَاهِرُ تَقْيِيدِهِمْ مَا ذُكِرَ بِالْكَثْرَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا عَدَاهَا ، لَكِنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ ، أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْكُلِّ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، ثُمَّ قَالَ : وَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُعَدُّ لَهَا خَارِمًا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَغَيْرِهِ ، فَالْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ السُّوقِيِّ مَرَّةً فِي السُّوقِ لَيْسَ كَالْمَشْيِ فِيهِ مَكْشُوفًا ( وَحِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ ) مُبَاحَةٌ ( كَحِجَامَةٍ وَكَنْسٍ ) لِزِبْلٍ وَنَحْوِهِ ( وَدَبْغٍ ) وَنَحْوِهَا : كَقَيِّمِ حَمَّامٍ وَحَارِسٍ وَقَصَّابٍ وَإِسْكَافٍ وَنَخَّالٍ ( مِمَّنْ لَا تَلِيقُ ) هَذِهِ الْحِرْفَةُ ( بِهِ ) وَقَوْلُهُ ( تُسْقِطُهَا ) أَيْ الْمُرُوءَةَ لِإِشْعَارِ ذَلِكَ بِقِلَّةِ مُرُوءَتِهِ خَبَرُ قَوْلِهِ : وَحِرْفَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : دَنِيئَةٌ بِالْهَمْزِ مِنْ الدَّنَاءَةِ ، وَهِيَ السَّاقِطَةُ ، وَبِتَرْكِهِ مِنْ الدُّنُوِّ بِمَعْنَى الْقَرِيبِ ( فَإِنْ اعْتَادَهَا ) مَعَ مُحَافَظَةِ مُخَامِرِ النَّجَاسَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي أَثْوَابٍ طَاهِرَةٍ ( وَكَانَتْ حِرْفَةُ أَبِيهِ ، فَلَا ) يُسْقِطُهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّرُ بِذَلِكَ ، وَهِيَ حِرْفَةٌ مُبَاحَةٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَيْهَا ، وَلَوْ رُدَّتْ بِهَا الشَّهَادَةُ لَرُبَّمَا تُرِكَتْ فَتُعَطِّلُ النَّاسَ .
وَالثَّانِي تُسْقِطُهَا ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لَهَا مَعَ اتِّسَاعِ طُرُقِ الْكَسْبِ إشْعَارًا بِقِلَّةِ الْمُرُوءَةِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ .
وَقَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : لَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِهَذَا الْقَيْدِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَيَّدَ بِصَنْعَةِ آبَائِهِ بَلْ يُنْظَرُ هَلْ تَلِيقُ بِهِ هُوَ أَمْ لَا ؟

، ثُمَّ إنَّهُ هُنَا وَافَقَ الْمُحَرَّرَ ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ ، وَاعْتُرِضَ جَعْلُهُمْ الْحِرْفَةَ الدَّنِيئَةَ مِمَّا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَأُجِيبَ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ مَعَ حُصُولِ الْكِفَايَةِ بِغَيْرِهِ .

أَمَّا الْحِرْفَةُ غَيْرُ الْمُبَاحَةِ كَالْمُنَجِّمِ وَالْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالْمُصَوِّرِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ : لِأَنَّ شِعَارَهُمْ التَّلْبِيسُ عَلَى الْعَامَّةِ ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الْكَذِبَ وَخَلْفَ الْوَعْدِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى التَّكَسُّبُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبَدَانِ بَاطِلَةٌ ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْعَدَالَةِ ، لَا سِيَّمَا إذَا مَنَعْنَا أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّلِ أَوْ كَانَ يَأْخُذُ وَلَا يَكْتُبُ فَإِنَّ نُفُوسَ شُرَكَائِهِ لَا تَطِيبُ لِذَلِكَ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَأَسْلَمُ طَرِيقٍ فِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَرَقًا مُشْتَرَكًا وَيَكْتُبُ وَيَقْسِمُ عَلَى قَدْرِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ثَمَنِ وَرَقِهِ ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُقْرِئِينَ وَالْوُعَّاظِ .

فُرُوعٌ : الْمُدَاوَمَةُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَمُسْتَحَبَّاتِ الصَّلَاةِ تَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ لِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَإِشْعَارِهِ بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ ، وَمَحَلُّ هَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْحَاضِرِ أَمَّا مَنْ يُدِيمُ السَّفَرَ : كَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي وَبَعْضِ التُّجَّارِ فَلَا ، وَيَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ مُدَاوَمَةُ مُنَادَمَتِهِ مُسْتَحِلَّ النَّبِيذِ وَالسُّفَهَاءِ ، وَكَذَا كَثْرَةُ شُرْبِهِ إيَّاهُ مَعَهُمْ لِإِخْلَالِ ذَلِكَ بِالْمُرُوءَةِ ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا السُّؤَالُ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ طَافَ مُكْثِرُهُ بِالْأَبْوَابِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَسْبٍ مُبَاحٍ يَكْفِيه ؛ لِحِلِّ الْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ ، إلَّا إنْ أَكْثَرَ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ أَوْ أَخَذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ فَيَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِي الثَّانِيَةِ قَلِيلًا اُعْتُبِرَ التَّكْرَارُ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ ، .

وَلَمَّا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ شُرُوطِ الشَّاهِدِ كَوْنَهُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ بِتُهْمَةٍ تَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَالتُّهْمَةُ أَنْ يَجُرَّ إلَيْهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ وَغَرِيمٍ لَهُ مَيِّتٍ أَوْ عَلَيْهِ حَجْرُ فَلَسٍ ، وَبِمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ .

( وَالتُّهْمَةُ ) بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ بِخَطِّهِ فِي الشَّخْصِ ( أَنْ ) ( يَجُرَّ إلَيْهِ ) بِشَهَادَتِهِ ( نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ ) بِهَا ( ضَرَرًا ) وَبِمَا تَقَرَّرَ انْدَفَعَ مَا قِيلَ : إنَّ كَلَامَهُ أَشْعَرَ بِعَوْدِ ضَمِيرٍ إلَيْهِ لِلشَّاهِدِ ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَجُرَّ الشَّاهِدُ .
إلَى الشَّاهِدِ ، وَفِيهِ قَلَاقَةٌ ، وَأَيْضًا فَالنَّفْعُ يَنْجَرُّ لِلْمُسَمَّى لَا لِلِاسْمِ ، فَلَوْ قَالَ : أَنْ يَجُرَّ إلَى نَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا كَانَ أَوْلَى ا هـ .
ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِصُوَرٍ مِنْ جَرِّ النَّفْعَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِعَبْدِهِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ أَوْ لَا كَمَا شَمِلَهُ إطْلَاقُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَشْهَدُ بِهِ فَهُوَ لَهُ ( وَمُكَاتَبِهِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ عُلْقَةً ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ الْعَوْدِ إلَيْهِ بِعَجْزٍ أَوْ تَعْجِيزٍ .
نَعَمْ لَوْ شَهِدَ بِشِرَاءِ شِقْصٍ لِمُشْتَرِيهِ ، وَفِيهِ شُفْعَةٌ لِمُكَاتَبِهِ قُبِلَتْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ( وَغَرِيمٍ لَهُ مَيِّتٍ ) وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْرِقْ تَرِكَتُهُ الدُّيُونَ ( أَوْ عَلَيْهِ حَجْرُ فَلَسٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ لِلْغَرِيمِ شَيْئًا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، وَأَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا بِنَفَقَتِهَا فَشَهِدَتْ لَهُ بِدَيْنٍ وَتُقْبَلُ لِغَرِيمِهِ الْمُوسِرِ ، وَكَذَا الْمُعْسِرِ قَبْلَ الْحَجْرِ وَالْمَوْتِ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِذِمَّتِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ أَوْ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَالِهِ لِغُرَمَائِهِ حَالَ الشَّهَادَةِ ، وَخَرَجَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ حَجْرُ السَّفَهِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِمَا .
نَعَمْ لَوْ شَهِدَ غَرِيمُ الْمُرْتَدِّ بِمَالٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ أَشَدُّ مِنْ الْمُفْلِسِ ، وَقَرِيبٌ مِنْ الْمَيِّتِ ( وَ ) تُرَدُّ شَهَادَتُهُ أَيْضًا ( بِمَا هُوَ ) وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ أَوْ ( وَكِيلٌ فِيهِ ) وَلَوْ بِدُونِ جُعْلٍ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ سَلْطَنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ .

وَبِبَرَاءَةِ مَنْ ضَمِنَهُ .
تَنْبِيهٌ : يَلْحَقُ بِمَنْ ذُكِرَ شَهَادَةُ الْوَدِيعِ لِلْمُودِعِ وَالْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ لِاقْتِضَائِهَا دَوَامَ يَدِهِمَا ، وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ الْقَبُولَ فِيمَا إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ وَشَهِدَ ، وَلَكِنَّ مَحَلَّهُ مَا لَمْ يُخَاصِمْ ، فَإِنْ خَاصَمَ ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ لَمْ يُقْبَلْ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ لِغَيْرِهِ الْقَطْعَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكَّلِهِ بِمَا لَيْسَ وَكِيلًا فِيهِ ، وَلَكِنْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ ، وَأَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ كَمَا فَعَلَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَأَصْلِ الرَّوْضَةِ كَانَ أَوْلَى لِيَتَنَاوَلَ مَنْ وُكِّلَ فِي شَيْءٍ بِخُصُومَةٍ أَوْ تَعَاطَى عَقْدًا فِيهِ أَوْ حَفِظَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِنَفْسِ مَا وُكِّلَ فِيهِ ( وَ ) تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ( بِبَرَاءَةِ مَنْ ضَمِنَهُ ) بِأَدَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا الْغُرْمَ عَنْ نَفْسِهِ تَنْبِيهٌ : فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْ ضَمِنَهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ أَوْ غَرِيمُهُ الْمَيِّتُ أَوْ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ ، وَمَنْ ضَمِنَهُ أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ .
.

وَبِجِرَاحَةِ مُوَرِّثِهِ ، وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثٍ لَهُ مَرِيضٍ أَوْ جَرِيحٍ بِمَالٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ قُبِلَتْ فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) تُرَدُّ شَهَادَةُ وَارِثٍ عِنْدَ الشَّهَادَةِ ( بِجِرَاحَةِ مُوَرِّثِهِ ) قَبْلَ انْدِمَالِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَتْنِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ الْأَرْشُ بِهِ ، وَلَيْسَ مُوَرِّثُهُ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ لِحَجْبٍ مَثَلًا قُبِلَتْ ، وَلَا يَضُرُّ زَوَالُ الْحَجْبِ وَارِثَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ ( وَلَوْ ) ( شَهِدَ لِمُوَرِّثٍ لَهُ ) غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ ( مَرِيضٍ ) مَرَضَ مَوْتٍ ( أَوْ جَرِيحٍ بِمَالٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ) ( قُبِلَتْ ) شَهَادَتُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَالثَّانِي : قَالَ : لَا كَالْجِرَاحَةِ لِلتُّهْمَةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْجِرَاحَةَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ النَّاقِلِ لِلْحَقِّ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَالِ ، وَبَعْدَ الِانْدِمَالِ يُقْبَلُ قَطْعًا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .
نَعَمْ لَوْ مَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

وَتُرَدُّ شَهَادَةُ عَاقِلَةٍ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الشَّهَادَة الْجَالِبَةِ لِلنَّفْعِ شَرَعَ فِي الدَّافِعَةِ لِلضَّرَرِ .
فَقَالَ ( وَتُرَدُّ شَهَادَةُ عَاقِلَةٍ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ ) يَحْمِلُونَهُ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ ، بِخِلَافِ شُهُودِ إقْرَارٍ بِذَلِكَ أَوْ شُهُودِ عَمْدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا هُنَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ هُنَاكَ مَا يَجِبُ تَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا رَدُّ جِرَاحَةِ الْمُوَرِّثِ ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ .
ثَانِيهِمَا رَدُّ الْعَاقِلَةِ ، وَهُوَ فِيمَا يَتَحَمَّلُونَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ هُنَا عَلَى الصَّوَابِ ، وَبِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَهَا لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ وَذَكَرَهَا هُنَا لِلتَّمْثِيلِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ شَهِدَا لِمُوَرِّثِهِمَا فَمَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ ؛ لِأَنَّهُمَا الْآنَ شَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

وَغُرَمَاءِ مُفْلِسٍ بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ .
( وَ ) تُرَدُّ شَهَادَةُ ( غُرَمَاءِ مُفْلِسٍ ) حُجِرَ عَلَيْهِ ( بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ ) ظَهَرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا ضَرَرَ الْمُزَاحَمَةِ .
تَنْبِيهٌ : اسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ لِلْغَرِيمِ الشَّاهِدِ رَهْنٌ بِدَيْنِهِ وَلَا مَالِ لِلْمُفْلِسِ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ مَالٌ وَيُقْطَعُ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُوفِي الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ بِهِ فَيُقْبَلُ لِفَقْدِ ضَرَرِ الْمُزَاحَمَةِ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِيهِ ا هـ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ التَّعْلِيلِ .

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَخْصٍ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَمَنْ أَوْصَى لَهُ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَدْيُونِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ .

وَلَوْ شَهِدَا لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ فَشَهِدَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ التَّرِكَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ ) ( شَهِدَا ) أَيْ شَاهِدَانِ ( لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ ) مِنْ تَرِكَةٍ ( فَشَهِدَا ) أَيْ الِاثْنَانِ ( لِلشَّاهِدَيْنِ ) لَهُمَا ( بِوَصِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ التَّرِكَةِ ) ( قُبِلَتْ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَصَحِّ ) لِانْفِصَالِ كُلٍّ عَنْ شَهَادَةِ الْأُخْرَى ، وَلَا تَجُرُّ شَهَادَتُهُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُوَاطَأَةِ ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا .

تَنْبِيهٌ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِ الْقَافِلَةِ لِبَعْضٍ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَخَذَ مَالَ فُلَانٍ ، فَإِنْ قَالَ : أَخَذَ مَالَنَا لَمْ تُقْبَلْ ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ خُنْثَى بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَكَرًا لَاسْتَحَقَّ فِيهِ كَوَقْفِ الذُّكُورِ .

وَلَا تُقْبَلُ لِأَصْلٍ وَلَا فَرْعٍ
( وَ ) مِمَّا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ الْبَعْضِيَّةَ ، وَحِينَئِذٍ ( لَا تُقْبَلُ لِأَصْلٍ ) لِلشَّاهِدِ وَإِنْ عَلَا ( وَلَا فَرْعٍ ) لَهُ وَإِنْ سَفَلَ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ ، فَفِي الصَّحِيحِ { فَاطِمَةُ مِنِّي } وَكَذَا لَا تُقْبَلُ لِمُكَاتَبِ أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ وَلَا لِمَأْذُونِهِمَا .
تَنْبِيهَانِ : أَحَدُهُمَا قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدِ أَصْلَيْهِ أَوْ فَرْعَيْهِ عَلَى الْآخَرِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بَيْنَ أَبِيهِ وَابْنِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي ذَلِكَ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوَازِعَ الطَّبْعِيَّ قَدْ تَعَارَضَ فَظَهَرَ الصِّدْقُ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ ، وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا شَهَادَتُهُ لَهُ بِالرُّشْدِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي حِجْرِهِ أَمْ لَا ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِإِقْرَارِهِ بِرُشْدِ مَنْ فِي حِجْرِهِ .
ثَانِيهِمَا : مَحَلُّ عَدَمِ قَبُولِ إشْهَادِ الْأَصْلِ لَفَرْعِهِ وَعَكْسِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ضِمْنِيًّا ، فَإِنْ كَانَ صَحَّ وَيَتَّضِحُ بِصُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ نَسَبَ وَلَدٍ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ أَبُوهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَبِ كَمَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ الشَّهَادَةُ لِحَفِيدِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ النَّسَبِ .
ثَانِيَتُهُمَا : مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ شِرَاءَ عَبْدٍ فِي يَدِ زَيْدٍ مِنْ عَمْرٍو بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهُ عَمْرٌو مِنْ زَيْدٍ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَبَضَهُ وَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ جَمِيعَ ذَلِكَ فَشَهِدَ ابْنَاهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا يَقُولُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ الْمُدَّعِي ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا .

وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمَا وَكَذَا عَلَى أَبِيهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا أَوْ قَذْفِهَا فِي الْأَظْهَرِ .
( وَتُقْبَلُ ) الشَّهَادَةُ ( عَلَيْهِمَا ) أَيْ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عُقُوبَةٍ أَمْ لَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ عَدَاوَةٌ ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ ( وَكَذَا ) تُقْبَلُ مِنْ فَرَعَيْنَ ( عَلَى أَبِيهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا أَوْ قَذْفِهَا فِي الْأَظْهَرِ ) لِضَعْفِ تُهْمَةِ نَفْعِ أُمِّهِمَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ طَلَّقَهَا أَوْ نَكَحَ عَلَيْهَا مَعَ إمْسَاكِهَا .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ فَإِنَّهَا تَجُرُّ نَفْعًا إلَى الْأُمِّ ، وَهُوَ انْفِرَادُهَا بِالْأَبِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا حِسْبَةً أَوْ بَعْدَ دَعْوَى الضَّرَّةِ .
أَمَّا لَوْ ادَّعَى الْأَبُ الطَّلَاقَ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ لِإِسْقَاطِ نَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ فَشَهِدَا لَهُ فَهُنَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأَبِ لَا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِقَوْلِهِ فِي دَعْوَاهُ الْخُلْعَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ .

وَإِذَا شَهِدَ لِفَرْعٍ وَأَجْنَبِيٍّ قُبِلَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَإِذَا ) ( شَهِدَ ) بِحَقٍّ ( لِفَرْعٍ ) أَوْ أَصْلٍ لَهُ ( وَأَجْنَبِيٍّ ) كَأَنْ شَهِدَ بِرَقِيقٍ لَهُمَا كَقَوْلِهِ : هُوَ لِأَبِي وَفُلَانٍ ، أَوْ عَكْسِهِ ( قُبِلَتْ ) تِلْكَ الشَّهَادَةُ ( لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَظْهَرِ ) مِنْ قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَالثَّانِي : لَا تُفَرَّقُ فَلَا تُقْبَلُ لَهُ .

قُلْت : وَتُقْبَلُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ
( قُلْت ) كَالرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ ( وَتُقْبَلُ ) الشَّهَادَةُ ( لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ) لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ يَطْرَأُ وَيَزُولُ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْأَجِيرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَعَكْسِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لِذَلِكَ بِحُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ كَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ وَلِفَرْعِهِ ، وَقِيلَ : لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ فَأَشْبَهَ الْأَبَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَاسْتَثْنَى عَلَى الْأَوَّلِ مَا إذَا شَهِدَ لِزَوْجَتِهِ بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَهَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : لَهُمَا عَمَّا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ قَطْعًا إذْ لَا تُهْمَةَ ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا بِزِنَاهَا فَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِيَانَتَهَا فِرَاشَهُ .

وَلِأَخٍ وَصَدِيقٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَ ) تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ( لِأَخٍ ) مِنْ أَخِيهِ ، وَكَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَاشِي ، وَإِنْ كَانُوا يَصِلُونَهُ وَيَبَرُّونَهُ ( وَصَدِيقٍ ) مِنْ صَدِيقِهِ ، وَهُوَ مَنْ صَدَقَ فِي وِدَادِك بِأَنْ يُهِمَّهُ مَا أَهَمَّكَ .
قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ : وَقَلِيلٌ ذَلِكَ - أَيْ فِي زَمَانِهِ - وَنَادِرٌ فِي زَمَانِنَا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِضَعْفِ التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّهَمَانِ تُهْمَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، أَمَّا شَهَادَةُ كُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ عَلَى الْآخَرِ فَمَقْبُولَةٌ جَزْمًا .

وَلَا تُقْبَلُ مِنْ عَدُوٍّ ، وَهُوَ مَنْ يُبْغِضُهُ بِحَيْثُ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ ، وَيَحْزَنُ بِسُرُورِهِ وَيَفْرَحُ بِمُصِيبَتِهِ ، وَتُقْبَلُ لَهُ ، وَكَذَا عَلَيْهِ فِي عَدَاوَةِ دِينٍ كَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ .

( وَلَا تُقْبَلُ ) شَهَادَةٌ ( مِنْ عَدُوٍّ ) عَلَى عَدُوِّهِ لِحَدِيثِ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْغِمْرُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْغِلُّ ، وَهُوَ الْحِقْدُ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التُّهْمَةِ تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الظَّاهِرَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَةَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : { سَيَأْتِي قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ } قِيلَ لِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْك مِمَّا مَرَّ بِك .
قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ ( وَهُوَ ) أَيْ الْعَدُوُّ ( مَنْ يُبْغِضُهُ ) أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ( بِحَيْثُ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ ) سَوَاءٌ أَطَلَبَهَا لِنَفْسِهِ أَمْ لِغَيْرِهِ أَمْ لَا ( وَيَحْزَنُ بِسُرُورِهِ وَيَفْرَحُ بِمُصِيبَتِهِ ) لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيُخْتَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَوْ عَادَى مَنْ يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي خِصَامِهِ وَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى رَدِّهَا ، وَلَوْ أَفْضَتْ الْعَدَاوَةُ إلَى الْفِسْقِ رُدَّتْ مُطْلَقًا .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الضَّابِطُ لَخَّصَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : ذِكْرُ الْبُغْضِ لَيْسَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ غَيْرُ الْبَغْضَاءِ قَالَ تَعَالَى : { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَغْضَاءَ بِالْقَلْبِ وَالْعَدَاوَةَ

بِالْفِعْلِ وَهِيَ أَغْلَظُ ، فَلَا يُفَسَّرُ الْأَغْلَظُ بِالْأَخَفِّ ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : الْأَشْبَهُ فِي الضَّابِطِ تَحْكِيمُ الْعُرْفِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَطْلَبِ ، فَمَنْ عَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ عَدُوًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، إذْ لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ .
فَرْعٌ : حُبُّ الرَّجُلِ لِقَوْمِهِ لَيْسَ عَصَبِيَّةً حَتَّى تُرَدَّ شَهَادَتُهُ لَهُمْ بَلْ تُقْبَلُ مَعَ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ وَهِيَ أَنْ يُبْغِضَ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي فُلَانٍ لَا تَقْتَضِي الرَّدَّ بِمُجَرَّدِهَا ، وَإِنْ أَجْمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى أَعْدَاءِ قَوْمِهِ وَوَقَعَ مَعَهَا فِيهِمْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ ( وَتُقْبَلُ لَهُ ) أَيْ الْعَدُوِّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ إذْ لَا تُهْمَةَ وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ وَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ لَهُ أَيْضًا لَا تَزْكِيَتُهُ لِشَاهِدٍ شَهِدَ عَلَيْهِ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَخَرَجَ بِالْعَدُوِّ أَصْلُ الْعَدُوِّ وَفَرْعُهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، إذْ لَا مَانِعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ( وَكَذَا ) تُقْبَلُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الْعَدُوِّ ( فِي عَدَاوَةِ دِينٍ كَكَافِرٍ ) شَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ ( وَمُبْتَدِعٍ ) شَهِدَ عَلَيْهِ سُنِّيٌّ ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ : لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لَا تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْفَتْوَى لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ ، نَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِعَدَاوَةٍ وَلَا غِيبَةٍ إنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ .

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مُبْتَدِعٍ لَا نُكَفِّرُهُ .

( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مُبْتَدِعٍ لَا نُكَفِّرُهُ ) بِبِدْعَتِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا نُفَسِّقُهُ بِهَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ وَمَنْ يُكَفَّرُ بِهَا ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الرِّدَّةِ جُمْلَةٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ لِمَا قَامَ عِنْدَهُمْ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } فَجَعَلَ الْكُلَّ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مُنْكِرُو حُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ لِلْأَجْسَامِ وَعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْدُومِ وَبِالْجُزْئِيَّاتِ لِإِنْكَارِ بَعْضِ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ ضَرُورَةً فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِ وَلَا خَطَّابِيٍّ لِمِثْلِهِ ، وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ كَانَ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ أَبِي جَعْفَرٍ الصَّادِقِ .
ثُمَّ ادَّعَى إلَهِيَّةً لِنَفْسِهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَذِبَ كُفْرٌ ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَكْذِبُ فَيُصَدِّقُونَهُ عَلَى مَا يَقُولُ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ .
هَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرُوا فِي شَهَادَتِهِمْ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى قَوْلِ الْمَشْهُودِ لَهُ ، فَإِنْ بَيَّنُوا مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ كَأَنْ قَالُوا : سَمِعْنَاهُ يُقِرُّ لَهُ بِكَذَا أَوْ رَأَيْنَاهُ يُقْرِضُهُ كَذَا قُبِلَتْ فِي الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ قَالَ بِخِلَافِ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ - أَيْ لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ

وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا فَإِنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ فَهُوَ فَاسِقٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَمَنْ سَبَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُغَلَّطُ فَيُقَالُ : شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ ا هـ .
فَجَعَلَ مَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ غَلَطًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَنُقِلَ عَنْ جَمْعٍ التَّصْرِيحُ بِهِ وَأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ : مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ كَفَّرَهُمْ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الشَّيْخَيْنِ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ غَيْرِ الْخَطَّابِيَّةِ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمَالَ وَالدَّمَ وَغَيْرَهُمَا ، وَنَقَلَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ التَّصْرِيحَ بِهِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ ، وَنَقَلَا فِي بَابِ الْبُغَاةِ عَنْ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ قَاضِيهِمْ إذَا اسْتَحَلُّوا دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا وَقَدَّمْنَا الْفَرْقَ هُنَاكَ فَلْيُرَاجَعْ .
فَائِدَةٌ : قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى وَاجِبَةٍ ، وَمُحَرَّمَةٍ ، وَمَنْدُوبَةٍ ، وَمَكْرُوهَةٍ ، وَمُبَاحَةٍ .
قَالَ وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَمُحَرَّمَةٌ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالرَّافِضَةِ .
قَالَ : وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ .
أَيْ لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ مَنْ أَحْدَثَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمَنْدُوبِ فَمَنْدُوبَةٌ كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ ، وَكُلُّ إحْسَانٍ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهٌ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ كَالْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ ،

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ : وَالثَّانِي مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ .

لَا مُغَفَّلٍ لَا يَضْبِطُ .
وَ ( لَا ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ ( مُغَفَّلٍ لَا يَضْبِطُ ) أَصْلًا أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ .
أَمَّا مَنْ لَا يَضْبِطُ نَادِرًا وَالْأَغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَلُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ تَعَادَلَ غَلَطُهُ وَضَبْطُهُ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ كَمَنْ غَلَبَ غَلَطُهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الرَّدِّ فِيمَنْ غَلَطُهُ وَضَبْطُهُ سَوَاءٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً ، فَإِنْ فَسَّرَهَا وَبَيَّنَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَمَكَانِهِ قُبِلَتْ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ قَالَ الْإِمَامُ : وَالِاسْتِفْصَالُ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقَاضِي غَفْلَةً فِي الشُّهُودِ حَتْمٌ ، وَكَذَا إنْ رَابَهُ أَمْرٌ ، وَإِذَا اسْتَفْصَلَهُمْ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُغَفَّلِينَ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ .
قَالَ وَمُعْظَمُ شَهَادَةِ الْعَوَامّ يَشُوبُهَا غِرَّةٌ وَسَهْوٌ وَجَهْلٌ ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا فَيَتَعَيَّنُ الِاسْتِفْصَالُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ الِاسْتِفْصَالُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ تَبَيُّنُ تَثَبُّتِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ .

وَلَا مُبَادِرٍ .
( وَلَا ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ ( مُبَادِرٍ ) بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ الدَّعْوَى جَزْمًا ، وَكَذَا بَعْدَهَا وَقَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى الْأَصَحِّ لِلتُّهْمَةِ وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ } فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الذَّمِّ لَهُمْ ، وَأَمَّا خَبَرُ مُسْلِمٍ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا } فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ .

تَنْبِيهٌ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ اخْتَبَأَ وَجَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ مُخْتَبِئًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَيْهِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يُخْبِرَ الْخَصْمَ أَنِّي شَهِدْت عَلَيْك لِئَلَّا يُبَادِرَ إلَى تَكْذِيبِهِ فَيَعْذُرُهُ الْقَاضِي وَلَوْ قَالَ رَجُلَانِ مَثَلًا لِثَالِثٍ : تَوَسَّطْ بَيْنَنَا لِنَتَحَاسَبَ وَلَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِمَا جَرَى ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ : وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ .

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ كَطَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا ، وَحَدٍّ لَهُ ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ .

ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَةِ الْمُبَادِرِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ ) مِنْ الِاحْتِسَابِ وَهُوَ طَلَبُ الْأَجْرِ ، سَوَاءٌ أَسَبَقَهَا دَعْوَى أَمْ لَا ، كَانَتْ فِي غَيْبَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الشَّهَادَاتِ فِي شُرُوطِهَا السَّابِقَةِ ( فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ) الْمُتَمَحِّضَةِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا ( وَفِيمَا لَهُ ) أَيْ فِي الَّذِي لِلَّهِ ( فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ ) وَهُوَ مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِرِضَا الْآدَمِيِّ ( كَطَلَاقٍ ) بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ ، وَأَمَّا الْخُلْعُ فَنَقَلَا عَنْ الْبَغَوِيِّ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ الْمَالِ ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّهَا تُسْمَعُ لِثُبُوتِ الطَّلَاقِ دُونَ الْمَالِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَقُّ آدَمِيٍّ دُونَ الْفِرَاقِ ، ( وَعِتْقٍ ) غَيْرِ ضِمْنِيٍّ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْعِتْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا ، عَبْدًا أَوْ أَمَةً ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُقْبَلُ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ دُونَ الْعَبْدِ .
أَمَّا الضِّمْنِيُّ كَمَنْ شَهِدَ لِشَخْصٍ بِشِرَاءِ قَرِيبِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ ، وَالْعِتْقُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْعِتْقِ أَنْ يَشْهَدَ بِخُصُوصِهِ ، فَلَوْ شَهِدَ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ فَالْمَنْقُولُ فِي الِاسْتِيلَادِ الْقَبُولُ ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ وَالتَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ وَالْكِتَابَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا فَفَارَقَتْ الِاسْتِيلَادَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِهَا ، وَتَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ بِشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ ( وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ ) فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ النَّفْسِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا ( وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا ) لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ صِيَانَةِ

الْفَرْجِ وَاسْتِبَاحَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ ، وَلِمَا فِي الثَّانِي مِنْ الصِّيَانَةِ بِقَصْدِ التَّعَفُّفِ بِالنِّكَاحِ ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ ( وَحَدٍّ لَهُ ) تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَذَا حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ ، وَالْمُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ( وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، إذْ الشَّرْعُ أَكَّدَ الْأَنْسَابَ وَمَنَعَ قَطْعَهَا فَضَاهَى الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ .
وَالثَّانِي لَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : يُلْتَحَقُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ الْإِحْصَانُ ، وَالتَّعْدِيلُ ، وَالزَّكَوَاتُ ، وَالْكَفَّارَاتُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْكُفْرُ ، وَالْإِسْلَامُ ، وَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَالْوَصِيَّةُ ، وَالْوَقْفُ إذَا عَمَّتْ جِهَتُهُمَا وَلَوْ أُخِّرَتْ الْجِهَةُ الْعَامَّةُ ، فَيَدْخُلُ نَحْوُ مَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ دَارًا عَلَى أَوْلَادِهِ ، ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَرَثَتُهُ وَتَمَلَّكُوهَا ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ حِسْبَةً قَبْلَ انْقِرَاضِ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِيَّتِهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ آخِرَهُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، لَا إنْ خُصَّتْ جِهَتُهُمَا فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا لِتَعَلُّقِهِمَا بِحُظُوظٍ خَاصَّةٍ ، وَاحْتُرِزَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّ كَالْقِصَاصِ ، وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَالْبُيُوعِ ، وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا لَكِنْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهِ أَعْلَمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ لِيَسْتَشْهِدَهُ بَعْدَ الدَّعْوَى ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، أَوْ أَنَّهُ أَخُو فُلَانَةَ مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَا : إنَّهُ يَسْتَرِقُّهُ ، أَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ نِكَاحَهَا ، وَكَيْفِيَّةُ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ أَنَّ الشُّهُودَ يَجِيئُونَ إلَى الْقَاضِي وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَأَحْضِرْهُ لِنَشْهَدَ عَلَيْهِ ،

فَإِنْ ابْتَدَءُوا وَقَالُوا : فُلَانٌ زَنَى فَهُمْ قَذَفَةٌ ، وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْإِسْنَوِيِّ ، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْعِرَاقِيِّينَ لَا تُسْمَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ لَمْ يَأْذَنْ فِي الطَّلَبِ وَالْإِثْبَاتِ ، بَلْ أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ : أَنَّهَا تُسْمَعُ وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا فَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ : إنَّهَا تُسْمَعُ إلَّا فِي مَحْضِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَمَتَى حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ ، وَكَذَا فَاسِقَانِ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَمَتَى ) ( حَكَمَ ) قَاضٍ ( بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا ) عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَوْ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهِمَا ( كَافِرَيْنِ ، أَوْ عَبْدَيْنِ ) ( أَوْ صَبِيَّيْنِ ) أَوْ امْرَأَتَيْنِ ، أَوْ خُنْثَيَيْنِ ، أَوْ بَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ ( نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ ) لِتَيَقُّنِ الْخَطَأِ فِيهِ ، وَالْمُرَادُ إظْهَارُ الْبُطْلَانِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ ، فَكَيْفَ نُقِضَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الصُّورَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَحَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ ظَنَّهُمَا حُرَّيْنِ فَلَا اعْتِدَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي الْوِلَايَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ ( وَكَذَا فَاسِقَانِ ) ظَهَرَ فِسْقُهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِمَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ دَلَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يُنْقَضُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ ، وَقَبُولَ بَيِّنَةِ فِسْقِهِمَا بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَعُورِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ يُنْقَضُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ عَدَالَتَهُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ .
تَنْبِيهٌ : قَيَّدَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْبَغَوِيُّ النَّقْضَ بِمَا إذَا كَانَ الْفِسْقُ ظَاهِرًا غَيْرَ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ كَشُرْبِ النَّبِيذِ لَمْ يُنْقَضْ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى فِسْقِهِمَا مُطْلَقَيْنِ وَلَمْ يُسْنِدَا إلَى حَالَةِ الْحُكْمِ لَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ ؛ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ .

فَرْعٌ : لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ثُمَّ فَسَقَا ، أَوْ ارْتَدَّا قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى ، وَيُشْعِرُ بِخُبْثٍ كَامِنٍ ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَخْفَى غَالِبًا ، فَرُبَّمَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ عَمِيَا أَوْ خَرِسَا أَوْ جُنَّا أَوْ مَاتَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُوقِعُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى ، بَلْ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُمَا بَعْدَ حُدُوثِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَلَوْ فَسَقَا أَوْ ارْتَدَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ اُسْتُوْفِيَ ، كَمَا لَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا كَذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِالْمَالِ الْحُدُودُ فَلَا تُسْتَوْفَى ، وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ الْحُكْمِ : بَانَ لِي أَنَّهُمَا كَانَا فَاسِقَيْنِ وَلَمْ تَظْهَرْ بَيِّنَةٌ بِفِسْقِهِمَا نُقِضَ حُكْمُهُ إنْ جَوَّزْنَا قَضَاءَهُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَمْ يُتَّهَمْ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ : أُكْرِهْت عَلَى الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا وَأَنَا أَعْلَمُ فِسْقَهُمَا قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ بَانَا وَالِدَيْنِ ، أَوْ وَلَدَيْنِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ ، أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ ، أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْتَقَضَ الْحُكْمُ أَيْضًا ، كَمَا لَوْ بَانَا فَاسِقَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ : كُنْت يَوْمَ الْحُكْمِ فَاسِقًا فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَا يُلْتَفَت إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدَانِ كُنَّا عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَاسِقَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كَانَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ بَانَ لِي فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِصِفَةِ نَفْسِهِ مِنْهُ بِصِفَةِ غَيْرِهِ ، فَتَقْصِيرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ .

وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ كَمَالِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، أَوْ فَاسِقٌ تَابَ فَلَا ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِهَا بِشَرْطِ اخْتِبَارِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُدَّةً يُظَنُّ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ ، وَقَدَّرَهَا الْأَكْثَرُونَ بِسَنَةٍ ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةٍ الْقَوْلُ فَيَقُولُ الْقَاذِفُ قَذْفِي بَاطِلٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ ، وَكَذَا شَهَادَةُ الزُّورِ .
قُلْت : وَغَيْرُ الْقَوْلِيَّةِ يُشْتَرَطُ إقْلَاعٌ ، وَنَدَمٌ ، وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَرَدُّ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَلَوْ ) ( شَهِدَ كَافِرٌ ) مُعْلِنٌ بِكُفْرِهِ أَوْ مُرْتَدٌّ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ ( أَوْ عَبْدٌ ، أَوْ صَبِيٌّ ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ كَمَالِهِ ) بِإِسْلَامٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ بُلُوغٍ ( قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ لَا يُعَيَّرُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ ( أَوْ ) شَهِدَ ( فَاسِقٌ تَابَ ) مِنْ فِسْقِهِ ، أَوْ عَدُوٌّ تَابَ مِنْ عَدَاوَتِهِ ، أَوْ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ ثُمَّ عَادَتْ مُرُوءَتُهُ ، أَوْ سَيِّدٌ لِمُكَاتَبِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، أَوْ مَخْفِيُّ الْكُفْرِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ ( فَلَا ) تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ يُعَيَّرُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ ( وَتُقْبَلُ ) ( شَهَادَتُهُ ) أَيْ الْفَاسِقِ ( فِي غَيْرِهَا ) أَيْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا حَالَ فِسْقِهِ ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَتْنِ بِغَيْرِهَا ( بِشَرْطِ اخْتِبَارِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُدَّةً يُظَنُّ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِإِظْهَارِهَا لِتَرْوِيجِ شَهَادَتِهِ ، وَعَوْدِ وِلَايَتِهِ ، فَاعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لَيُقَوِّيَ مَا ادَّعَاهُ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْقَذَفَةِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } ( وَقَدَّرَهَا الْأَكْثَرُونَ ) مِنْ الْأَصْحَابِ ( بِسَنَةٍ ) لِأَنَّ لِمُضِيِّهَا الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَثَرًا بَيِّنًا فِي تَهْيِيجِ النُّفُوسِ لِمَا تَشْتَهِيه ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَى السَّلَامَةِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِحُسْنِ السَّرِيرَةِ ، وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ السَّنَةَ فِي الْعُنَّةِ وَفِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ ، وَهَلْ السَّنَةُ تَحْدِيدٌ أَوْ تَقْرِيبٌ ؟ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَالْبَحْرِ ، رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا الثَّانِيَ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلُ .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ اشْتِرَاطِ الِاخْتِبَارِ صُوَرٌ : مِنْهَا مَخْفِيُّ الْفِسْقِ إذَا تَابَ وَأَقَرَّ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ

لِلْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ التَّوْبَةَ عَمَّا كَانَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ إلَّا عَنْ صَلَاحٍ ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ عَصَى الْوَلِيُّ بِالْعَضْلِ ثُمَّ تَابَ زُوِّجَ فِي الْحَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَمِنْهَا شَاهِدُ الزِّنَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَدَدِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اسْتِبْرَاءٍ بَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَمِنْهَا نَاظِرُ الْوَقْفِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ إذَا فَسَقَ ثُمَّ تَابَ عَادَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ .
وَمِنْهَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقَضَاءِ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ .
وَمِنْهَا قَاذِفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ : قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ لِمَفْهُومِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا مَنْ قَذَفَ مُحْصَنَةً فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُخْتَبَرَ .
وَمِنْهَا الصَّبِيُّ إذَا فَعَلَ مَا يَقْتَضِي فِسْقَ الْبَالِغِ ثُمَّ تَابَ وَبَلَغَ تَائِبًا .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَيْضًا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الِاخْتِبَارُ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ .
وَمِنْهَا لَوْ حَصَلَ خَلَلٌ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ زَالَ احْتَاجَ الْفَرْعُ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ثَانِيًا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ .
وَمِنْهَا الْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ وَكَانَ عَدْلًا قَبْلَ الرِّدَّةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كَانَ كَالْفَاسِقِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ الْكُفْرِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالٌ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا زَنَى ثُمَّ تَابَ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْمَعْصِيَةِ بِحَيْثُ تَنْفِيهَا ، وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إسْلَامَ الْمُرْتَدِّ بِمَا إذَا أَسْلَمَ مُرْسَلًا ، فَإِنْ أَسْلَمَ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْقَتْلِ اُعْتُبِرَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ

كَالرَّافِعِيِّ عَلَى الْفِسْقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا تَابَ عَمَّا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَلَهُ وَجْهٌ ، فَإِنَّ خَارِمَ الْمُرُوءَةِ صَارَ بِاعْتِيَادِهِ سَجِيَّةً لَهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِبَارِ حَالِهِ ، وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَبِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْعَدَاوَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَذْفًا أَمْ لَا كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ ( وَيُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةٍ الْقَوْلُ ) قِيَاسًا عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الرِّدَّةِ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ ( فَيَقُولُ الْقَاذِفُ ) مَثَلًا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْقَذْفِ ( قَذْفِي ) فُلَانًا ( بَاطِلٌ ) أَوْ مَا كُنْت مُحِقًّا فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ( وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ ، وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ ) لِيَنْدَفِعَ عَارُ الْقَذْفِ ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت ، فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْكَذِبِ فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : قَذْفِي بَاطِلٌ صَرِيحٌ فِي إكْذَابِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ ، فَكَانَ الْأَوْلَى إتْيَانَهُ بِعِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ وَالْجُمْهُورِ ، وَهِيَ الْقَذْفُ بَاطِلٌ : أَيْ قَذْفُ النَّاسِ بَاطِلٌ .
أُجِيبَ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى تَجْوِيزِ نِيَابَةٍ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } أَيْ الدِّينَ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَذْفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيذَاءِ أَوْ عَلَى الشَّهَادَةِ إذَا لَمْ يَتِمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا إلَّا كَذَّابٌ جَرَيَانُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي انْتَهَى ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : ظَاهِرٌ فِيمَنْ قَذَفَ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي وَاتَّصَلَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ اعْتَرَفَ ، وَغَيْرُ ظَاهِرٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْقَاضِي أَصْلًا ، بَلْ فِي جَوَازِ

إتْيَانِهِ الْقَاضِيَ وَإِعْلَامِهِ لَهُ بِالْقَذْفِ نَظَرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ ( وَكَذَا شَهَادَةُ الزُّورِ ) يَقُولُ الشَّاهِدُ فِيهَا عَلَى وِزَانِ مَا مَرَّ شَهَادَتِي بَاطِلَةٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهَا ، وَلَا أَعُودُ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَبَقَ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ يَقُولُ : كَذَبْت فِيمَا قُلْت وَلَا أَعُودُ إلَى مِثْلِهِ وَأَقَرَّاهُ ( قُلْت ) كَالرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ ( وَ ) الْمَعْصِيَةُ ( غَيْرُ الْقَوْلِيَّةِ ) كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ ( يُشْتَرَطُ ) فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا ( إقْلَاعٌ ) عَنْهَا ( وَنَدَمٌ ) عَلَيْهَا ( وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ ) لَهَا ( وَرَدُّ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ ) مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ ، وَقِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ ( إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ لَمُسْتَحَقِّهَا ، وَيَرُدُّ الْمَغْصُوبَ إنْ بَقِيَ وَبَدَلَهُ إنْ تَلِفَ لِمُسْتَحِقِّهِ أَوْ يَسْتَحِلُّ مِنْهُ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ وَيُعْلِمُهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحِقٌّ أَوْ انْقَطَعَ خَبَرُهُ سَلَّمَهَا إلَى قَاضٍ أَمِينٍ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهَا وَيُؤَدِّي الْغُرْمَ أَوْ يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ ، وَالْمُعْسِرُ يَنْوِي الْعَزْمَ إذَا قَدِرَ ، فَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا طُولِبَ فِي الْآخِرَةِ إنْ عَصَى بِالِاسْتِدَانَةِ كَأَنْ اسْتَدَانَ لِإِعَانَةٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَإِلَّا فَإِنْ اسْتَدَانَ لِحَاجَةٍ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ رَجَا الْوَفَاءَ مِنْ جِهَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ حِينَئِذٍ ، وَالرَّجَاءُ فِي اللَّهِ تَعَالَى تَعْوِيضُ خَصْمِهِ .
تَنْبِيهَاتٌ : الْأَوَّلُ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْخُرُوجِ مِنْ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ بَدَلَ الرَّدِّ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ الرَّدَّ وَالْإِبْرَاءَ مِنْهَا وَإِقْبَاضَ الْبَدَلِ عِنْدَ التَّلَفِ ، وَيَشْمَلَ الْمَالَ وَالْعَرَضَ وَالْقِصَاصَ ، فَلَا بُدَّ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ مِنْ التَّمْكِينِ أَوْ طَلَبِ الْعَفْوِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَ إعْلَامُهُ بِالْقِصَاصِ فَيَقُولُ : أَنَا

الَّذِي قَتَلْت أَبَاك وَلَزِمَنِي الْقِصَاصُ فَاقْتَصَّ إنْ شِئْت ، وَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ .
وَأَمَّا لِغِيبَةٍ فَإِنْ بَلَغَتْ الْمُغْتَابَ اُشْتُرِطَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ أَوْ تَعَسُّرٍ لِغَيْبَتِهِ الطَّوِيلَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْلِيلِ الْوَرَثَةِ .
وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ كَفَى النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ كَمَا قَالَهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَيَظْهَرُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَالِهِ إنْ أَمْكَنَ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ ، وَهُوَ الْإِيذَاءُ ، وَهَلْ يَكْفِي الِاسْتِحْلَالُ مِنْ الْغِيبَةِ الْمَجْهُولَةِ ؟ قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ا هـ .
وَلَكِنَّهُمَا إنَّمَا سَبَقَا فِي كِتَابِ الضَّمَانِ وَلَمْ نُرْجِعْ مِنْهُمَا شَيْئًا وَرَجَّحَ فِي الْأَذْكَارِ عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ ، وَالْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَجْهُولِ .
قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْحُسْبَانِيُّ : وَقَدْ يُقَالُ بِالْمُسَامَحَةِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ، وَفِي كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ وَغَيْرِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجَوَازِ ، وَحَدِيثُ كَلَامِ الْأَذْكَارِ فِي بَابِ الضَّمَانِ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ أَظْهَرُ .
وَالْحَسَدُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَيَفْرَحَ بِمُصِيبَتِهِ كَالْغِيبَةِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ فِيهَا .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : الْمُخْتَارُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إخْبَارُ الْمَحْسُودِ ، وَلَوْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهِ لَمْ يَبْعُدْ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ رَدَّ الظُّلَامَةِ تُوقِفُ التَّوْبَةَ فِي الْقِصَاصِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا نَدِمَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلْقِصَاصِ ، وَكَانَ تَأَخُّرُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أُخْرَى تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَلَا

يَقْدَحُ فِي الْأُولَى .
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ : كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ حَيْثُ أَمْكَنَ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : إنْ تَعَلَّقَتْ بِآدَمِيٍّ أَعَمَّ مِمَّا تَمَحَّضَ حَقًّا لَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَحَّضْ ، وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَكَذَا الْكَفَّارَاتُ قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ : وَالْمُرَادُ الَّتِي يَجِبُ إخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ : إنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْآدَمِيِّ يُخْرِجُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ : إنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الْقَوْلِيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ ، بَلْ يَكْفِي الْقَوْلُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ رُكْنٌ فِي التَّوْبَةِ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً ، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَهُ وَيُقِرَّ بِهِ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ ، فَإِنْ ظَهَرَ فَقَدْ فَاتَ السَّتْرُ فَيَأْتِي الْحَاكِمَ وَيُقِرُّ بِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ .
التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ : إنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي انْتِفَاءِ الْمَعْصِيَةِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ التَّوْبَةِ ، وَقَدْ قَدَّمْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ فَلْيُرَاجَعْ .
التَّنْبِيهُ السَّادِسُ : مَنْ مَاتَ وَلَهُ دُيُونٌ أَوْ مَظَالِمُ وَلَمْ تَصِلْ إلَى الْوَرَثَةِ طَالَبَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا آخِرَ وَارِثٍ كَمَا قِيلَ ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْوَارِثِ أَوْ أَبْرَأَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي خَرَجَ عَنْ مَظْلَمَةٍ غَيْرِ الْمَطْلِ .
التَّنْبِيهُ السَّابِعُ : تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ صَغِيرَةً عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَتَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ وَتَكَرَّرَ الْعَوْدُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ ، بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ

بِالذَّنْبِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ : إنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ كَوْنَهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَوْ تَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ مَالِيَّةٍ لِفَقْرِهِ أَوْ شُحِّهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ ، وَكَوْنَهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْغَرْغَرَةِ أَوْ الِاضْطِرَارِ بِظُهُورِ الْآيَاتِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا .
قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ : التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ : إنَّ سُقُوطَ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ مَظْنُونٌ لَا مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَسُقُوطُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ مَعَ النَّدَمِ مَقْطُوعٌ بِهِ وَتَائِبٌ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَلَيْسَ إسْلَامُ الْكَافِرِ تَوْبَةً مِنْ كُفْرِهِ ، وَإِنَّمَا تَوْبَتُهُ نَدَمُهُ عَلَى كُفْرِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيمَانُهُ بِلَا نَدَمٍ فَيَجِبُ مُقَارَنَةُ الْإِيمَانِ لِلنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ ا هـ .
وَإِنَّمَا كَانَ تَوْبَةُ الْكَافِرِ مَقْطُوعًا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُجَامِعُ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةُ قَدْ تُجَامِعُ التَّوْبَةَ .

[ فَصْلٌ ] لَا يُحْكَمُ بِشَاهِدٍ إلَّا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ فِي الْأَظْهَرِ .

[ فَصْلٌ ] فِي بَيَانِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ وَتَعَدُّدُ الشُّهُودِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ( لَا يُحْكَمُ بِشَاهِدٍ ) وَاحِدٍ ( إلَّا فِي هِلَالِ ) شَهْرِ ( رَمَضَانَ ) فَيُحْكَمُ بِهِ فِيهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ ذَكَرَهَا هُنَا مَعَ تَقَدُّمِهِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا لِبَيَانِ الْحَصْرِ .
وَأَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ مَسَائِلَ : مِنْهَا مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ رَجَبٍ مَثَلًا فَشَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَتِهِ فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ إذَا قُلْنَا : يَثْبُتُ بِهِ رَمَضَانُ ؟ حَكَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِيهِ وَجْهَيْنِ عَنْ الْبَحْرِ ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ الْوُجُوبَ .
وَمِنْهَا مَا فِي الْمَجْمُوعِ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ عَنْ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ فَشَهِدَ عَدْلٌ بِإِسْلَامِهِ لَمْ يَكْفِ فِي الْإِرْثِ ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَتَوَابِعِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي هِلَالِ رَمَضَانِ ، وَمُقْتَضَاهُ تَرْجِيحُ الْقَبُولِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ أَفْتَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِالْمَنْعِ .
وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِي الْمَتْنِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَوْثٌ ، وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِيهِ أَيْضًا فِي زَكَاةِ النَّبَاتِ الِاكْتِفَاءُ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ : أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَرْصَ شَهَادَةٌ ، وَمِنْهَا ثُبُوتُ هِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ بِالْعَدْلِ الْوَاحِدِ ، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْقِيَاسُ الْقَبُولُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَشْهَرُ خِلَافَهُ ، وَمِنْهَا ثُبُوتُ شَوَّالٍ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فِيمَا إذَا ثَبَتَ رَمَضَانُ بِشَهَادَتِهِ وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ فَإِنَّا نُفْطِرُ فِي الْأَصَحِّ ، وَمِنْهَا مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ يَكْفِي قَوْلُ الْعَوْنِ بِامْتِنَاعِ الْغَرِيمِ مِنْ الْحُضُورِ فِي

التَّعْزِيرِ ، وَمِنْهَا الْمُسْمِعُ لِلْخَصْمِ كَلَامَ الْقَاضِي أَوْ الْخَصْمِ يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ قُبَيْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ .

وَيُشْتَرَطُ لِلزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ

( وَيُشْتَرَطُ لِلزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَلِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ نَعَمْ } وَلِأَنَّهُ لَا يَقُومُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى فِعْلَيْنِ ، وَلِأَنَّ الزِّنَا مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا بِالزِّنَا إذَا قَالُوا : حَانَتْ مِنَّا الْتِفَاتَةٌ ، فَرَأَيْنَا أَوْ تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : تَعَمَّدْنَا لِغَيْرِ الشَّهَادَةِ فُسِّقُوا بِذَلِكَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَإِنْ أَطْلَقُوا لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْسِرُوا إنْ تَيَسَّرَ ، وَإِلَّا فَلَا يُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ، وَمَحَلُّ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُمْ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَإِلَّا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَغِيرَةٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا : رَأَيْنَاهُ أَدْخَلَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا مِنْ فَاقِدِهَا فِي فَرْجِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ أَوْ كَالْأُصْبُعِ فِي الْخَاتِمِ .
وَالثَّانِي : يَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي .
تَنْبِيهٌ : اللِّوَاطُ فِي ذَلِكَ كَالزِّنَا ، وَكَذَا إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : لِأَنَّهُ كَالْجِمَاعِ وَنُقْصَانُ الْعُقُوبَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَدَدِ كَمَا فِي زِنَا الْأَمَةِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَوَطْءُ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ كَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ا هـ .

وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ وَطْءُ الشَّبَهِ إذَا قَصَدَ بِالدَّعْوَى بِهِ الْمَالَ أَوْ شَهِدَ بِهِ حِسْبَةً ، وَمُقَدِّمَاتُ الزِّنَا كَقُبْلَةٍ وَمُعَانَقَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعَةٍ .
بَلْ الْأَوَّلُ بِقَيْدِهِ الْأَوَّلِ يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ ، وَسَيَأْتِي ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ مَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا مِنْ قَوْلِ الشُّهُودِ : رَأَيْنَاهُ أَدْخَلَ حَشَفَتَهُ إلَخْ .

وَلَلْإِقْرَارِ بِهِ اثْنَانِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَفِي قَوْلٍ أَرْبَعَةٌ ، وَلِمَالٍ وَعَقْدٍ مَالِيٍّ كَبَيْعٍ وَإِقَالَةٍ وَحَوَالَةٍ وَضَمَانٍ وَحَقٍّ مَالِيٍّ كَخِيَارٍ وَأَجَلٍ : رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ

( وَ ) يُشْتَرَطُ ( لَلْإِقْرَارِ بِهِ ) أَيْ الزِّنَا ( اثْنَانِ ) ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَارِيرِ وَمِثْلُهُ مَا شُبِّهَ بِهِ مِمَّا ذُكِرَ ( وَفِي قَوْلٍ أَرْبَعَةٌ ) كَفِعْلِهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَتَحَتَّمُ حَدُّهُ بِخِلَافِ الْمُعَايِنِ ، فَلِذَلِكَ غُلِّظَتْ بَيِّنَتُهُ ( وَ ) يُشْتَرَطُ ( لِمَالٍ ) عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ ( وَعَقْدٍ مَالِيٍّ ) وَفَسْخِهِ ( كَبَيْعٍ وَإِقَالَةٍ وَحَوَالَةٍ وَضَمَانٍ ) وَصُلْحٍ وَرَهْنٍ وَشُفْعَةٍ وَمُسَابَقَةٍ وَحُصُولِ السَّبَقِ ( وَحَقٍّ مَالِيٍّ كَخِيَارٍ ) لِمَجْلِسٍ أَوْ شَرْطٍ ( وَأَجَلٍ ) وَجِنَايَةٍ تُوجِبُ مَالًا ( رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا } أَيْ فِيمَا يَقَعُ لَكُمْ : { شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } فَكَانَ عُمُومُ الْأَشْخَاصِ فِيهِ مُسْتَلْزِمًا لِعُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُخْرِجِ مِنْهُ بِدَلِيلِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَرْبَعَةُ ، وَمَا لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ كَثْرَةُ جِهَاتِ الْمُدَايَنَاتِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا ، وَفُهِمَ مِنْ التَّخْيِيرِ قَبُولُ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ الرَّجُلَيْنِ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ غَيْرَ مُرَادٍ ، وَالْخُنْثَى هُنَا كَالْأُنْثَى .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ إطْلَاقُهُ الشَّرِكَةَ وَالْقِرَاضَ ، لَكِنْ رَجَّحَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ اشْتِرَاطُ رَجُلَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنْ رَامَ مُدَّعِيهمَا إثْبَاتَ التَّصَرُّفِ ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَاهِدَيْنِ ، أَوْ إثْبَاتِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، إذْ الْمَقْصُودُ الْمَالُ وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْعَقْدِ الْمَالِيِّ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْفُسُوخَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَجَعْلُهُ الْإِقَالَةَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ أَنَّهَا بَيْعٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا فَسْخٌ ،

وَعَطْفُهُ الْحَوَالَةَ عَلَى الْبَيْعِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، فَلَوْ قَالَ : وَعَقْدٌ مَالِيٌّ وَزَادَ وَفَسْخُهُ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ كَانَ أَوْلَى .

وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُقُوبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيٍّ وَمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ رِجَالٌ غَالِبًا كَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَرَجْعَةٍ وَإِسْلَامٍ وَرِدَّةٍ وَجَرْحٍ وَتَعْدِيلٍ وَمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ وَوَكَالَةٍ وَوِصَايَةٍ وَشَهَادَةٍ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَانِ .

( وَلِغَيْرِ ذَلِكَ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِهِ .
وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ ( مِنْ ) مُوجِبِ ( عُقُوبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ) كَالرِّدَّةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ ( أَوْ ) مِنْ عُقُوبَةٍ ( لِآدَمِيٍّ ) كَقَتْلِ نَفْسٍ وَقَطْعِ طَرَفٍ وَقَذْفٍ ( وَ ) كَذَا ( مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ رِجَالٌ غَالِبًا ) مِنْ غَيْرِ الْعُقُوبَاتِ ( كَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَرَجْعَةٍ ) وَعَتَاقٍ وَوَلَاءٍ وَانْقِضَاءِ عِدَّةٍ بِالْأَشْهُرِ وَبُلُوغٍ وَإِيلَاءٍ وَظِهَارٍ ( وَإِسْلَامٍ وَرِدَّةٍ وَجُرْحٍ ) لِلشَّاهِدِ ( وَتَعْدِيلٍ ) لَهُ ( وَمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ وَوَكَالَةٍ وَوِصَايَةٍ وَشَهَادَةٍ عَلَى شَهَادَةِ : رَجُلَانِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوِصَايَةِ ، وَتَقَدَّمَ خَبَرٌ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ " مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ " وَقِيسَ بِالْمَذْكُورَاتِ غَيْرِهَا مِمَّا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، وَلَا نَظَرَ إلَى رُجُوعِ الْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ إلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُمَا الْوِلَايَةُ لَا الْمَالُ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ النِّكَاحِ مَا لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهُ نَكَحَهَا وَطَلَّقَهَا وَطَلَبَتْ ، شَطْرَ الصَّدَاقِ ، أَوْ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ وَطَلَبَتْ الْإِرْثَ ، فَيَثْبُتُ مَا ادَّعَتْهُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْمَالُ كَمَا حَكَيَاهُ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ فِي آخِرِ الدَّعَاوَى عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَأَقَرَّاهُ ، وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ ، وَمِنْ الطَّلَاقِ مَا لَوْ كَانَ بِعِوَضٍ وَادَّعَاهُ الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَيُلْغَزُ بِهِ فَيُقَالُ : لَنَا طَلَاقٌ ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَمِنْ الْإِسْلَامِ مَا لَوْ ادَّعَاهُ وَاحِدٌ مِنْ الْكُفَّارِ قَبْلَ أَسْرِهِ وَأَقَامَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ

فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْمُفَادَاةِ دُونَ نَفْيِ الْقَتْلِ ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَحَكَى فِي الْبَحْرِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ مِنْ الْوَارِثِ أَنَّ مُوَرِّثَهُ تُوُفِّيَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِيرَاثِ ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ .

وَمَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ النِّسَاءُ أَوْ لَا يَرَاهُ رِجَالٌ غَالِبًا كَبَكَارَةٍ وَوِلَادَةٍ وَحَيْضٍ وَرَضَاعٍ وَعُيُوبٍ تَحْتَ الثِّيَابِ يَثْبُتُ بِمَا سَبَقَ ، وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ .

( وَمَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ النِّسَاءُ ) غَالِبًا ( أَوْ لَا يَرَاهُ رِجَالٌ غَالِبًا كَبَكَارَةٍ ) وَثُيُوبَةٍ وَقَرْنٍ وَرَتْقٍ ( وَوِلَادَةٍ وَحَيْضٍ وَرَضَاعٍ وَعُيُوبٍ ) لِلنِّسَاءِ ( تَحْتَ الثِّيَابِ ) كَجِرَاحَةٍ عَلَى فَرْجِهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ، وَاسْتِهْلَالِ وَلَدٍ ( يَثْبُتُ بِمَا سَبَقَ ) أَيْ بِرَجُلَيْنِ وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ( وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ) مُفْرَدَاتٍ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَةِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ ، وَقِيسَ بِمَا ذُكِرَ غَيْرُهُ مِمَّا شَارَكَهُ فِي الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ ، وَإِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ فِي ذَلِكَ مُنْفَرِدَاتٍ ، فَقَبُولُ الرَّجُلَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : تَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ بِالْحَيْضِ صَرِيحٌ فِي إمْكَانِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ الصَّوَابُ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ عَلَى حَيْضِهَا فَقَالَتْ : حِضْت وَأَنْكَرَ صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا لِتَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الدَّمَ وَإِنْ شُوهِدَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَيْضٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ ، وَصَرَّحَا بِمِثْلِهِ فِي الدِّيَاتِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ حَمْلُهُ عَلَى تَعَسُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، لَا التَّعَذُّرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا مُنَافَاةَ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي فَتَاوِيه أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ النِّسْوَةِ لِمُمَارَسَتِهِنَّ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيِّ ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ تَعْلِيلِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ ، وَلَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا وَقَيَّدَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ مَسْأَلَةَ الرَّضَاعِ بِمَا إذَا كَانَ الرَّضَاعُ مِنْ الثَّدْيِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ إنَاءٍ حُلِبَ فِيهِ اللَّبَنُ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِهِ ، لَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ بِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا

يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ غَالِبًا ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : تَحْتَ الثِّيَابِ عَمَّا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّ الْعَيْبَ فِي وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِرَجُلَيْنِ ، وَفِي وَجْهِ الْأَمَةِ وَمَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَالُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا وَمَا قَبْلَهُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ النَّظَرِ إلَى ذَلِكَ .
أَمَّا مَا صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ فِي الْأُولَى وَالْمُصَنِّفُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ النِّسَاءُ فِيهِ مُفْرَدَاتٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا الرِّجَالُ غَالِبًا وَإِنْ قُلْنَا بِحُرْمَةِ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَحَارِمِهَا وَزَوْجِهَا ، وَيَجُوزُ نَظَرُ الْأَجْنَبِيِّ لِوَجْهِهَا لِتَعْلِيمٍ وَمُعَامَلَةٍ وَتَحَمُّلِ شَهَادَةٍ .
وَقَدْ قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ نَقْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عُيُوبَ النِّسَاءِ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا الرِّجَالُ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِمَا ا هـ .
أَيْ فَلَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ الْخُلَّصُ فِي الْأَمَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِمَا مَرَّ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : وَمَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ النِّسَاءُ غَالِبًا إلَخْ يُفْهِمُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِنَّ لَا يَكْفِي فِيهِ شَهَادَةُ النِّسْوَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ تَسْمَعُهُ غَالِبًا كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ ، وَقَوْلُهُ فِيمَا سَبَقَ : وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الرَّضَاعِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَرْبَعٍ لَعُلِمَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالنِّسْوَةِ ؛ لِأَنَّ التَّاءَ لَا تَثْبُتُ مَعَ الْمَعْدُودِ الْمُؤَنَّثِ .
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيُحْتَاطُ فِي أَمْرِهِ

عَلَى الْمُرَجَّحِ فَلَا يَرَاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ رِجَالٌ وَلَا نِسَاءٌ ، وَفِي وَجْهٍ يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الصِّغَرِ عَلَيْهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ بِالْعُيُوبِ الْمَعْرِفَةُ بِالطِّبِّ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي التَّهْذِيبِ .

وَمَا لَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ ، وَمَا ثَبَتَ بِهِمْ ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ ، إلَّا عُيُوبَ النِّسَاءِ وَنَحْوَهَا ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَتَعْدِيلِهِ ، وَيَذْكُرُ فِي حَلِفِهِ صِدْقَ الشَّاهِدِ .

ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَمَا لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَقَالَ ( وَ ) كُلُّ ( مَا لَا يَثْبُتُ ) مِنْ الْحُقُوقِ ( بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ ) ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ أَقْوَى ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِالْأَقْوَى لَا يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ اللَّوْثُ فِي قَتْلِ عَمْدٍ ، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَلَا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْيَمِينَ الْمُتَّحِدَةَ لَا الْمُتَعَدِّدَةَ ( وَ ) كُلُّ ( مَا ثَبَتَ بِهِمْ ) أَيْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَأَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا تَغْلِيبًا لَهُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ ( ثَبَتَ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ ) لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي خِلَافِيَّاتِهِ حَدِيثَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } عَنْ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ ا هـ .
وَالْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَالَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا مِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، وَكَتَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( إلَّا عُيُوبَ النِّسَاءِ وَنَحْوَهَا ) بِنَصْبِ نَحْوَ بِخَطِّهِ عَطْفًا عَلَى عُيُوبٍ كَرَضَاعٍ ، فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ خَطِرَةٌ بِخِلَافِ الْمَالِ .
تَنْبِيهٌ : يَنْبَغِي كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ تَقْيِيدَ إطْلَاقِهِ بِالْحُرَّةِ .
أَمَّا الْأَمَةُ فَيَثْبُتُ فِيهَا بِذَلِكَ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَوْرَدَ عَلَى حَصْرِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا ذَكَرَهُ التَّرْجَمَةَ فِي الدَّعْوَى بِالْمَالِ أَوْ

الشَّهَادَةِ بِهِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَا مَدْخَلَ لِلشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهَا ؛ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ مَعْنَى لَفْظِ الْمُدَّعِي أَوْ الشَّاهِدِ ( وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ ) مِنْ الْحُقُوقِ ( بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ ) فِي الْمَالِ جَزْمًا وَفِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ النِّسْوَةُ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْأَصَحِّ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ وَقِيَامِهِمَا مَقَامَ رَجُلٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لِوُرُودِهِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ مَسْأَلَةِ الِاكْتِفَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي ) فِيهَا ( بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَ ) بَعْدَ ( تَعْدِيلِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَقَوَّى جَانِبُهُ حِينَئِذٍ ، وَالْيَمِينُ أَبَدًا فِي جَانِبِ الْقَوِيِّ ، وَفَارِقُ عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ عَلَى شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ بِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الرَّجُلِ قَطْعًا ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : هَلْ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعًا أَوْ بِالشَّاهِدِ فَقَطْ وَالْيَمِينُ مُؤَكِّدَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ أَقْوَالٌ : أَصَحُّهَا أَوَّلُهَا وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَغْرَمُ النِّصْفَ ، وَعَلَى الثَّانِي الْكُلَّ ، وَعَلَى الثَّالِثِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ( وَيَذْكُرُ ) حَتْمًا ( فِي حَلِفِهِ صِدْقَ الشَّاهِدِ ) لَهُ ، وَاسْتِحْقَاقَهُ لِمَا ادَّعَاهُ ، فَيَقُولُ : وَاَللَّهِ شَاهِدِي صَادِقٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ ، وَأَنَا مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَاوِ أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ وَصِدْقِ الشَّاهِدِ ، وَحَكَى الْإِمَامُ فِيهِ الِاتِّفَاقَ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ تَعَرُّضُهُ فِي يَمِينِهِ لِصِدْقِ شَاهِدِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَإِشْهَادَهُ حُجَّتَانِ مُخْتَلِفَتَا الْجِنْسِ ، فَاعْتُبِرَ ارْتِبَاطُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لِيَصِيرَا كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ .

فَإِنْ تَرَكَ الْحَلِفَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ نَكَلَ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ فِي الْأَظْهَرِ .
( فَإِنْ ) ( تَرَكَ ) الْمُدَّعِي ( الْحَلِفَ ) بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ ( وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ ) ( فَلَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَرَّعُ عَنْ الْيَمِينِ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ الدَّعْوَى ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ شَاهِدِهِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُ تُسْمَعُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَتُهَا فَعُذِرَ ، وَالْيَمِينُ إلَيْهِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الِامْتِنَاعِ ( فَإِنْ نَكَلَ ) الْمُدَعَّى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ ( فَلَهُ ) أَيْ الْمُدَّعِي ( أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ أَوْ نَكَلَ الْمُدَعَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي امْتَنَعَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لِقُوَّةِ جِهَتِهِ بِالشَّاهِدِ وَهَذِهِ لِقُوَّةِ جِهَتِهِ بِنُكُولِ الْمُدَعَّى عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ تِلْكَ لَا يُقْضَى بِهَا إلَّا فِي الْمَالِ وَهَذِهِ يُقْضَى بِهَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحَلِفَ فَلَا يَعُودُ إلَيْهِ ، وَعُورِضَ بِمَا مَرَّ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ لَمْ يَحْلِفْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْيَمِينِ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَصْمِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدَّعَاوَى .

وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ أَمَةٌ وَوَلَدُهَا فَقَالَ رَجُلٌ : هَذِهِ مُسْتَوْلَدَتِي عَلِقَتْ بِهَذَا فِي مِلْكِي وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدٍ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ ، لَا نَسَبُ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتُهُ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ كَانَ ) ( بِيَدِهِ ) أَيْ شَخْصٍ ( أَمَةٌ وَوَلَدُهَا ) يَسْتَرِقُّهُمَا ( فَقَالَ ) لَهُ ( رَجُلٌ : هَذِهِ مُسْتَوْلَدَتِي عَلِقَتْ ) مِنِّي ( بِهَذَا ) الْوَلَدِ ( فِي مِلْكِي وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدٍ ) بِذَلِكَ ( ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَوْلَدَةِ حُكْمُ الْمَالِ فَتُنْزَعُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَتُسَلَّمُ إلَيْهِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَإِذَا مَاتَ حُكِمَ بِعِتْقِهَا بِإِقْرَارِهِ لَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ النَّاقِصَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ فِي الدَّعْوَى وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِي عَلَى حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ إلَى الْآنَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ زَالَ عَنْهَا بِبَيْعٍ بَعْدَ اسْتِيلَادِهَا بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ رَهْنًا لَازِمًا وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي الْوَطْءِ وَكَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ الِاسْتِيلَادُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَكَذَا الْجَانِيَةُ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى ( لَا نَسَبُ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتُهُ ) فَلَا يَثْبُتَانِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا حُجَّةٌ نَاقِصَةٌ ، وَالثَّانِي : يَثْبُتَانِ تَبَعًا فَيُنْزَعُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَيَكُونُ حُرًّا نَسِيبًا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ ، وَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْمُدَّعِي بِالْإِقْرَارِ مَا مَرَّ فِي بَابِهِ ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ : مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَثْبُتْ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ الْوَلَاءِ لِلسَّيِّدِ ، أَوْ بَالِغًا وَصَدَّقَهُ ثَبَتَ فِي الْأَصَحِّ .

وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ غُلَامٌ فَقَالَ رَجُلٌ : كَانَ لِي وَأَعْتَقْتُهُ وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدٍ فَالْمَذْهَبُ انْتِزَاعُهُ وَمَصِيرُهُ حُرًّا .
( وَلَوْ كَانَ ) ( بِيَدِهِ غُلَامٌ ) يَسْتَرِقُّهُ ( فَقَالَ ) لَهُ ( رَجُلٌ كَانَ لِي ) هَذَا الْغُلَامُ ( وَأَعْتَقْتُهُ ) وَأَنْتَ تَسْتَرِقُّهُ ظُلْمًا ( وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدٍ ) بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ لَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِذَلِكَ ( فَالْمَذْهَبُ انْتِزَاعُهُ ) مِنْ يَدِهِ ( وَمَصِيرُهُ حُرًّا ) لَا بِالشَّهَادَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ بَلْ بِإِقْرَارِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ : وَإِنْ تَضَمَّنَ اسْتِلْحَاقُهُ الْوَلَاءَ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ بِنَفْيِ ذَلِكَ فَجَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُنَا يَدَّعِي مِلْكًا وَحُجَّتُهُ تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِهِ ، وَالْعِتْقُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ .

وَلَوْ ادَّعَتْ وَرَثَةٌ مَالًا لِمُوَرِّثِهِمْ وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ أَخَذَ نَصِيبَهُ ، وَلَا يُشَارَكُ فِيهِ وَيَبْطُلُ حَقُّ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ بِنُكُولِهِ إنْ حَضَرَ وَهُوَ كَامِلٌ ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ حَلَفَ وَأَخَذَ بِغَيْرِ إعَادَةِ شَهَادَةٍ .

( وَلَوْ ) ( ادَّعَتْ وَرَثَةُ ) الْمَيِّتِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ ( مَالًا ) عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً ( لِمُوَرِّثِهِمْ وَأَقَامُوا ) عَلَيْهِ ( شَاهِدًا ) بِالْمَالِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتُوا مَوْتَهُ وَوِرَاثَتَهُمْ مِنْهُ ( وَحَلَفَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ ) ( أَخَذَ ) الْحَالِفُ ( نَصِيبَهُ ) فَقَطْ ( وَلَا يُشَارَكُ فِيهِ ) أَيْ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِفْ لَا مِنْ الْغَائِبِينَ وَلَا مِنْ الْحَاضِرِينَ النَّاكِلِينَ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ فِي حَقِّهِ وَحْدَهُ ، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا ، وَنَصَّ فِي الصُّلْحِ أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا دَارًا أَوْ إرْثًا وَصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَكَذَّبَ الْآخَرَ شَارَكَ الْمُكَذِّبُ الْمُصَدِّقَ ، فَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلًا هُنَا أَنْ يَأْخُذَهُ الْحَالِفُ يُشَارِكُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ عَلَى الشُّيُوعِ وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالْمَنْصُوصِ هُنَا ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الثُّبُوتَ هُنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الشَّرِكَةَ لَمَلَّكْنَا الشَّخْصَ بِيَمِينِ غَيْرِهِ ، وَهُنَاكَ الثُّبُوتُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إقْرَارُ الْمُصَدِّقِ بِأَنَّهُ إرْثٌ ، وَبِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ هُنَا قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ بِيَمِينِهِ ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالتَّارِكِ لِحَقِّهِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَحْلِفُ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ إشْعَارٌ بِخِلَافِهِ ( وَيَبْطُلُ حَقُّ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ بِنُكُولِهِ ) عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ( إنْ حَضَرَ ) فِي الْبَلَدِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ تَحْلِيفُهُ ( وَهُوَ كَامِلٌ ) بِبُلُوغٍ وَعَقْلٍ حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ نُكُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ ذَلِكَ الشَّاهِدِ وَلَا مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ يُقِيمُهُ ، وَهَلْ لَهُ ضَمُّ شَاهِدِهِ إلَى الْأَوَّلِ لِيُحْكَمَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ

جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ أَقَامَ مُدَّعٍ شَاهِدًا مَعَهُ فِي خُصُومَةٍ ، ثُمَّ مَاتَ وَأَقَامَ وَارِثُهُ شَاهِدًا آخَرَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ الْبِنَاءُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الدَّعْوَى وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ الْجَزْمُ بِالْأَوَّلِ .
أَمَّا إذَا مَاتَ قَبْلَ نُكُولِهِ فَلِوَارِثِهِ الْحَلِفُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْإِمَامُ : إنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ مُورِثِهِ مَا يُبْطِلُ حَقَّهُ وَلَا يَجِبُ إعَادَةُ الشَّهَادَةِ ( فَإِنْ كَانَ ) مَنْ لَمْ يَحْلِفْ ( غَائِبًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا ) ( فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ ) ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَصَّ فِي الْمَجْنُونِ عَلَى أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ الصَّبِيُّ وَالْغَائِبُ ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي مَعْنَى النَّصِّ ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ : أَرَادَ التَّوَقُّفَ عَنْ الْحُكْمِ لَهُ إلَى إفَاقَتِهِ فَيَحْلِفَ وَيَأْخُذَ أَوْ يَمْتَنِعَ فَلَا يُعْطَى شَيْئًا ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : أَرَادَ أَنَّهُ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُوقَفُ الدَّفْعُ إلَيْهِ عَلَى حَلِفِهِ ( فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ ) بِأَنْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ ( حَلَفَ وَأَخَذَ ) حِصَّتَهُ ( بِغَيْرِ إعَادَةِ شَهَادَةٍ ) وَاسْتِئْنَافِ دَعْوَى ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى وَالشَّاهِدَ لِلْمَيِّتِ قَدْ وُجِدَا بِإِقَامَةِ الْكَامِلِ مِنْ الْوَرَثَةِ خِلَافَةً عَنْ الْمَيِّتِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى لَا عَنْ جِهَةِ الْإِرْثِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ وَلِأَخِيهِ الْغَائِبِ أَوْ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ أَوْ اشْتَرَيْتُ أَنَا وَأَخِي الْغَائِبُ مِنْك كَذَا وَأَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ تَجْدِيدِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ قَدِمَ الْغَائِبُ ، وَلَا يُؤْخَذُ نَصِيبُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ أَوْ الْغَائِبِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ عَنْ الْمَيِّتِ وَهُوَ وَاحِدٌ ،

وَالْوَارِثُ خَلِيفَتُهُ وَفِي غَيْرِهِ الْحَقُّ لِأَشْخَاصٍ ، فَلَا يَدَّعِي وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ وَلَا وِلَايَةٍ .
قَالَا : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُصُومَةِ أَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِالْحَالِ كَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ فِي بَقَاءِ حَقِّهِ ، بِخِلَافِ مَا مَرَّ فِي الْكَامِلِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ الْإِعَادَةِ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُ الشَّاهِدِ بِمَا يَقْتَضِي رَدَّ شَهَادَتِهِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ فَوَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا كَمَا رَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ اتَّصَلَ بِشَهَادَتِهِ دُونَ الْحَالِفِ ، وَمَحَلُّ مَوْضِعِ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى إعَادَةِ الشَّهَادَةِ فِي حَالَتَيْ تَغَيُّرِ الشَّاهِدِ وَعَدَمِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ : فِيمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ ادَّعَى بِجَمِيعِ الْحَقِّ ، أَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ ادَّعَى بِحِصَّتِهِ فَقَطْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَادَةِ .

وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلٍ كَزِنًا وَغَصْبٍ وَإِتْلَافٍ وَوِلَادَةٍ إلَّا بِالْإِبْصَارِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُسْتَنِدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ .
فَقَالَ ( وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلٍ كَزِنًا ) وَشُرْبِ خَمْرٍ ( وَغَصْبٍ وَإِتْلَافٍ وَوِلَادَةٍ ) وَرَضَاعٍ وَاصْطِيَادٍ وَإِحْيَاءٍ وَكَوْنِ الْيَدِ عَلَى مَالٍ ( إلَّا بِالْإِبْصَارِ ) لَهُ مَعَ فَاعِلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ بِهِ إلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ فَلَا يَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ مِنْ الْغَيْرِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ } إلَّا أَنَّ مِنْ الْحُقُوقِ مَا اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالظَّنِّ الْمُؤَكَّدِ لِتَعَذُّرِ الْيَقِينِ فِيهِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ يَقِينًا ، وَكَذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَالْإِعْسَارُ .
تَنْبِيهٌ : أَوْرَدَ الْبُلْقِينِيُّ صُوَرًا يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى عَلَى الْفِعْلِ ، الْأُولَى : الزِّنَا إذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذَكَرٍ دَاخِلٍ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ دُبُرِ صَبِيٍّ مَثَلًا فَأَمْسَكَهُمَا وَلَزِمَهُمَا حَتَّى شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا عَرَفَهُ بِمُقْتَضَى وَضْعِ الْيَدِ فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الرُّؤْيَةِ .
الثَّانِيَةُ : الْغَصْبُ وَالْإِتْلَافُ لَوْ جَلَسَ الْأَعْمَى عَلَى بِسَاطٍ لِغَيْرِهِ فَغَصَبَهُ غَاصِبٌ أَوْ أَتْلَفَهُ فَأَمْسَكَهُ الْأَعْمَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْبِسَاطَ وَتَعَلَّقَ حَتَّى شَهِدَ بِمَا عَرَفَهُ جَازَ .
الثَّالِثَةُ : الْوِلَادَةُ : إذَا وَضَعَتْ الْعَمْيَاءُ يَدَهَا عَلَى قُبُلِ الْمَرْأَةِ وَخَرَجَ مِنْهَا الْوَلَدُ وَهِيَ وَاضِعَةٌ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهِ إلَى تَكَامُلِ خُرُوجِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِمَا حَتَّى شَهِدَتْ بِوِلَادَتِهَا مَعَ غَيْرِهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا .

وَتُقْبَلُ مِنْ أَصَمَّ ، وَالْأَقْوَالُ كَعَقْدٍ يُشْتَرَطُ سَمْعُهَا وَإِبْصَارُ قَائِلِهَا ، وَلَا يُقْبَلُ أَعْمَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ فِي أُذُنِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَ قَاضٍ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَوْ حَمَلَهَا بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ شَهِدَ إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعْرُوفَيْ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، وَمَنْ سَمِعَ قَوْلَ شَخْصٍ أَوْ رَأَى فِعْلَهُ ، فَإِنْ عَرَفَ عَيْنَهُ وَاسْمَهُ وَنَسَبَهُ شَهِدَ عَلَيْهِ فِي حُضُورِهِ إشَارَةً ، وَعِنْدَ غَيْبَتِهِ وَمَوْتِهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَإِنْ جَهِلَهُمَا لَمْ يَشْهَدْ عَنَدَ مَوْتِهِ وَغَيْبَتِهِ .

( وَتُقْبَلُ ) فِي الْفِعْلِ ( مِنْ أَصَمَّ ) لِإِبْصَارِهِ ، وَيَجُوزُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ لِفَرْجَيْ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا هَتَكَا حُرْمَةَ أَنْفُسِهِمَا ، وَسَكَتَ عَنْ الْأَخْرَسِ وَسَبَقَ حُكْمُ شَهَادَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ شُرُوطِ الشَّاهِدِ ( وَالْأَقْوَالُ كَعَقْدٍ ) وَفَسْخٍ وَطَلَاقٍ وَإِقْرَارٍ ( يُشْتَرَطُ ) فِي الشَّاهِدِ بِهَا ( سَمْعُهَا ) فَلَا تُقْبَلُ مِنْ أَصَمَّ بِهَا ( وَإِبْصَارُ قَائِلِهَا ) حَالَ تَلَفُّظِهِ بِهَا حَتَّى لَوْ نَطَقَ بِهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَهُوَ يَتَحَقَّقُهُ لَمْ يَكْفِ ، وَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ بِبَابِ بَيْتٍ فِيهِ اثْنَانِ فَقَطْ فَسَمِعَ تَعَاقُدَهُمَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَفَى مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، زَيَّفَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُوجِبَ مِنْ الْقَابِلِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ هَذَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ أَحَدِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ يَسْكُنُ بَيْتًا وَنَحْوَهُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ كَانَ جَارَهُ فَسَمِعَ أَحَدَهُمَا يَقُولُ : بِعْنِي بَيْتَك الَّذِي يَسْكُنُهُ فُلَانٌ الشَّاهِدُ أَوْ الَّذِي فِي جِوَارِهِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْقَابِلَ فِي زَاوِيَةٍ وَالْمُوجِبَ فِي أُخْرَى أَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ بِمُفْرَدِهِ وَالشَّاهِدُ جَالِسٌ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ .
قَالَ الْحُسْبَانِيُّ : وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْبَيْتِ وَحْدَهُ وَالْآخَرُ مَعَهُ عَلَى بَابِهِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ حَالَةَ النُّطْقِ ( وَلَا يُقْبَلُ ) شَهَادَةُ ( أَعْمَى ) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَصَرِ لِجَوَازِ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ ، وَقَدْ يُحَاكِي الْإِنْسَانُ صَوْتَ غَيْرِهِ ( إلَّا ) صُورَةَ الضَّبْطِ ، وَهِيَ ( أَنْ يُقِرَّ ) شَخْصٌ ( فِي أُذُنِهِ ) بِنَحْوِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ مَالٍ لِشَخْصٍ مَعْرُوفِ الِاسْمِ

وَالنَّسَبِ ( فَيَتَعَلَّقُ ) الْأَعْمَى ( بِهِ ) وَيَضْبِطُهُ ( حَتَّى يَشْهَدَ ) عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ ( عِنْدَ قَاضٍ بِهِ ) فَيُقْبَلُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ حَسْمًا لِلْبَابِ .
تَنْبِيهٌ : تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَى مُتَرْجِمًا أَوْ مُسْمِعًا .
وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا ثَبَتَ بِالتَّسَامُعِ إنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَعْيِينٍ ، وَإِشَارَةٍ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهَا لِلضَّرُورَةِ ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَجُوزُ بِالظَّنِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى زَوْجَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهِمَا كَغَيْرِهَا خِلَافًا لِمَا بَحْثَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا اعْتِمَادًا عَلَى ذَلِكَ ( وَلَوْ حَمَلَهَا ) أَيْ الشَّهَادَةَ فِي مُحْتَاجٍ لِلْبَصَرِ ( بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ شَهِدَ إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعْرُوفَيْ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ ) لِإِمْكَانِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا ؛ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ بِكَذَا ، بِخِلَافِ مَجْهُولِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا أَخْذًا مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ .
نَعَمْ لَوْ عَمِيَ وَيَدُهُمَا أَوْ يَدُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ فِي الْأُولَى مُطْلَقًا مَعَ تَمْيِيزِهِ لَهُ مِنْ خَصْمِهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِمَعْرُوفِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَمَا بَحْثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْأُولَى ، وَصَرَّحَ بِهِ أَصْلُ الرَّوْضَةِ فِي الثَّانِيَةِ ( وَمَنْ سَمِعَ قَوْلَ شَخْصٍ أَوْ رَأَى فِعْلَهُ ، فَإِنْ عَرَفَ عَيْنَهُ وَاسْمَهُ وَنَسَبَهُ شَهِدَ عَلَيْهِ فِي حُضُورِهِ إشَارَةً ) لَا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَقَطْ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْرِفْ بِهِمَا ( وَعِنْدَ غَيْبَتِهِ وَمَوْتِهِ ) وَدَفْنِهِ ( بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ) لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِذَلِكَ ( فَإِنْ جَهِلَهُمَا ) أَيْ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ أَوْ أَحَدَهُمَا ( لَمْ يَشْهَدْ عَنَدَ مَوْتِهِ ) وَدَفْنِهِ ( وَغَيْبَتِهِ ) فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ

أُحْضِرَ لِيُشَاهِدَ صُورَتَهُ ، وَيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهِ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنْ كَانَ بِالْبَلَدِ وَلَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُهُ بِإِحْضَارِهِ ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ حُضُورُ الشَّاهِدِ إلَيْهِ ، فَإِنْ دُفِنَ لَمْ يَحْضُرْ إذْ لَا يَجُوزُ نَبْشُهُ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : فَإِنْ اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ صُورَتُهُ جَازَ نَبْشُهُ ا هـ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَهَذَا احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ اسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ ، فَإِنْ عُرِفَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ شَهِدَ بِذَلِكَ وَلَمْ تُفِدْ شَهَادَتُهُ بِهِ إلَّا إنْ ذَكَرَ لِلْقَاضِي أَمَارَاتٍ يَتَحَقَّقُ بِهَا نَسَبُهُ بِأَنْ يَتَمَيَّزَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِ حِينَئِذٍ كَذَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْغَزَالِيِّ ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تُفِيدُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْإِسْنَوِيِّ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَا إذَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ .
وَالثَّانِي فِيمَا إذَا لَمْ تَحْصُلْ بِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَلَوْ بِمُجَرَّدِ لَقَبٍ خَاصٍّ بِهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى السُّلْطَانِ بِقَوْلِهِ : أَشْهَدُ عَلَى سُلْطَانِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكْفِي ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ ذِكْرَ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَحِلْيَتِهِ وَصَنْعَتِهِ : وَإِذَا حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ اكْتَفَى بِهِ ا هـ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَبِهَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عُتَقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ الشُّهُودَ لَا تَعْرِفُ أَنْسَابَهُمْ غَالِبًا ، فَيُكْتَفَى بِذَكَرِ أَسْمَائِهِمْ مَعَ مَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ بِهِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْحُكَّامِ قَالَ : وَقَدْ اعْتَمَدْتُ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَى

فُلَانٍ التَّاجِرِ الْمُتَوَفَّى فِي وَقْتِ كَذَا الَّذِي كَانَ سَاكِنًا فِي الْحَانُوتِ الْفُلَانِيِّ إلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُنْ فِي ذَلِكَ الْحَانُوتِ فِي هَذَا الْوَقْتِ غَيْرُهُ وَحَكَمْتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : فَالْمَدَارُ عَلَى ذِكْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ كَيْفَمَا كَانَ ، قَالَ : وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ قَدْ تَنْفَعُ عِنْدَ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ ، فَلَوْ تَحَمَّلَهَا عَلَى مِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ ، وَقَالَ لَهُ اسْمِي وَنَسَبِي كَذَا لَمْ يَعْتَمِدْهُ ، فَلَوْ اسْتَفَاضَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ بَعْدَ تَحَمُّلِهَا عَلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي غِيبَتِهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَمَا لَوْ عَرَفَهُمَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ أَوْ بَعْدَهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ لَمْ يَشْهَدْ فِي غِيبَتِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بِالسَّمَاعِ مِنْ عَدْلَيْنِ كَمَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : لَوْ شَهِدَ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ كَانَتْ شَهَادَةٌ بِالْوَكَالَةِ وَالنَّسَبِ جَمِيعًا .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالرُّويَانِيُّ .

وَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةٍ عَلَى مُتَنَقِّبَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهَا ، فَإِنْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا أَوْ بِاسْمٍ وَنَسَبٍ جَازَ ، وَيَشْهَدُ عِنْدَ الْأَدَاءِ بِمَا يَعْلَمُ ، وَلَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ عَلَيْهَا بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ عَلَى الْأَشْهَرِ ، وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ ،

( وَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةٍ عَلَى مُتَنَقِّبَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهَا ) فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ تَتَشَابَهُ ، فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهَا وَلَمْ يَرَهَا بِأَنْ كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْحَائِلُ الرَّقِيقُ عَلَى الْأَصَحِّ تَنْبِيهٌ : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ عَلَى الْمُتَنَقِّبَةِ لِيُؤَدِّيَ مَا تَحَمَّلَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ صَوْتِهَا ، أَمَّا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ امْرَأَةً مُتَنَقِّبَةً أَقَرَّتْ يَوْمَ كَذَا لِفُلَانٍ بِكَذَا ، فَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي حَضَرَتْ وَ أَقَرَّتْ يَوْمَ كَذَا هِيَ هَذِهِ ثَبَتَ الْحَقُّ بِالْبَيِّنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ أَقَرَّ بِكَذَا وَقَامَتْ أُخْرَى عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ هُوَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ثَبَتَ الْحَقُّ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ تَحَقَّقَ صَوْتَهَا مِنْ وَرَاءِ نِقَابٍ كَثِيفٍ وَلَازَمَهَا حَتَّى أَدَّى عَلَى عَيْنِهَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا كَنَظِيرِهِ مِنْ الْأَعْمَى .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : وَلَا إشْكَالَ فِيهِ ، وَضَبَطَ الْمُصَنِّفُ مُتَنَقِّبَةً بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ ، ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ، ثُمَّ قَافٍ مَكْسُورَةٍ شَدِيدَةٍ ، وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمَتْنِ ضَبَطَهُ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ ، ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ ، ثُمَّ قَافٍ مَكْسُورَةٍ خَفِيفَةٍ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الشَّارِحُ فَقَالَ بِنُونٍ ، ثُمَّ تَاءٍ مِنْ انْتَقَبَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ ( فَإِنْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا ، أَوْ بِاسْمٍ وَنَسَبٍ جَازَ ) التَّحَمُّلُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَضُرُّ النِّقَابُ ، بَلْ يَجُوزُ كَشْفُ الْوَجْهِ حِينَئِذٍ كَمَا فِي الْحَاوِي وَغَيْرِهِ ( وَيَشْهَدُ ) الْمُتَحَمِّلُ عَلَى الْمُتَنَقِّبَةِ ( عِنْدَ الْأَدَاءِ بِمَا يَعْلَمُ ) مِمَّا ذُكِرَ فَيَشْهَدُ فِي الْعِلْمِ بِعَيْنِهَا إنْ حَضَرَتْ ، وَفِي صُورَةِ عِلْمِهِ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا إنْ غَابَتْ أَوْ مَاتَتْ وَدُفِنَتْ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُشِفَ وَجْهُهَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ

عَلَيْهَا وَضَبَطَ حِلْيَتَهَا وَكَشَفَهُ أَيْضًا عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَيَجُوزُ اسْتِيعَابُ وَجْهَهَا بِالنَّظَرِ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَصَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَنْظُرَ مَا يَعْرِفُهَا بِهِ فَقَطْ ، فَإِنْ عَرَفَهَا بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِهِ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِالِاسْتِيعَابِ أَمْ لَا ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ لِلتَّكْرَارِ ( وَلَا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ عَلَيْهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ مُتَنَقِّبَةً أَمْ لَا ( بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ ) أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ ( عَلَى الْأَشْهَرِ ) الْمُعَبَّرِ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ فِي أَنَّ التَّسَامُعَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمَاعَةٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ ، وَقِيلَ بِتَعْرِيفِ عَدْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُمَا ( وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ ) أَيْ الْأَشْهَرُ ، وَهُوَ التَّحَمُّلُ بِمَا ذُكِرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَمَلُ عَلَى التَّحَمُّلِ بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ فَقَطْ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُمَا وَجْهَانِ ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُصَنِّفِ مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَهِيَ تَقْتَضِي الْمَيْلَ إلَيْهِ وَلَمْ يُصَرِّحَا بِذَلِكَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، بَلْ نَقَلَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ الْمَنْعَ وَسَاقَا الثَّانِيَ مَسَاقَ الْأَوْجُهِ الضَّعِيفَةِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ عَمَلَ الْأَصْحَابِ ، بَلْ عَمَلَ بَعْضِ الشُّهُودِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ : أَيْ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ .

وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى عَيْنِهِ بِحَقٍّ فَطَلَبَ الْمُدَّعِي التَّسْجِيلَ سَجَّلَ الْقَاضِي بِالْحِلْيَةِ لَا بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، مَا لَمْ يَثْبُتَا ،
( وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى عَيْنِهِ ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِحَقٍّ فَطَلَبَ الْمُدَّعِي التَّسْجِيلَ ) بِذَلِكَ ( سَجَّلَ الْقَاضِي ) عَلَيْهِ جَوَازًا ( بِالْحِلْيَةِ ) فَيَكْتُبُ حَضَرَ رَجُلٌ ذَكَرَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، وَمِنْ حِلْيَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَيَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُحَلَّى مِنْ أَوْصَافِهِ الظَّاهِرَةِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ ، وَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ ، وَعَجَلَةٍ لِلِّسَانِ وَثِقَلِهِ وَمَا فِي الْعَيْنِ مِنْ الْكُحْلِ وَالشُّهْلَةِ ، وَمَا فِي الشَّعْرِ مِنْ جُعُودَةٍ وَسُبُوطَةٍ وَبَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، و ( لَا ) يُسَجِّلُ الْقَاضِي بِذَلِكَ ( بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ مَا لَمْ يَثْبُتَا ) بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِعِلْمِهِ ، وَلَا يَكْفِي فِيهِمَا قَوْلُ الْمُدَّعِي ، وَلَا إقْرَارُ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الشَّخْصِ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ ، وَيَثْبُتَانِ بِبَيِّنَةِ حِسْبَةٍ ، فَإِنْ ثَبَتَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِعِلْمِهِ سَجَّلَ بِهِمَا ، وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْإِنْسَانِ بِإِقْرَارِهِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ .
.

وَلَهُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَى نَسَبٍ مِنْ أَبٍ أَوْ قَبِيلَةٍ ، وَكَذَا أُمٌّ فِي الْأَصَحِّ ، وَمَوْتٌ عَلَى الْمَذْهَبِ ، لَا عِتْقٌ وَوَلَاءُ وَوَقْفٌ وَنِكَاحٌ وَمِلْكٌ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَكْثَرِينَ فِي الْجَمِيعِ الْجَوَازُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَشَرْطُ التَّسَامُعِ سَمَاعُهُ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ، وَقِيلَ يَكْفِي مِنْ عَدْلَيْنِ ،

ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إبْصَارُ الشَّاهِدِ وَيَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ ، فَقَالَ ( وَلَهُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ ) أَيْ الِاسْتِفَاضَةِ ( عَلَى نَسَبٍ ) لِذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ ( مِنْ أَبٍ ) فَيَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ابْنَ فُلَانٍ ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ بِنْتَ فُلَانٍ ( أَوْ قَبِيلَةٍ ) فَيَشْهَدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا ، ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ ، فَإِنَّ غَايَةَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُشَاهِدَ الْوِلَادَةَ عَلَى الْفِرَاشِ ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ ، بَلْ الظَّاهِرَ فَقَطْ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إثْبَاتِ الْأَنْسَابِ إلَى الْأَجْدَادِ الْمُتَوَفِّينَ وَالْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ فَسُومِحَ فِيهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
تَنْبِيهٌ : ذِكْرُ الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ زَائِدٌ عَلَى مَا أَطْلَقَهُ الْمُحَرَّرُ ( وَكَذَا أُمٌّ ) يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالتَّسَامُعِ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَالْأَبِ وَإِنْ كَانَ النَّسَبُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْأَبِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِإِمْكَانِ رُؤْيَةِ الْوِلَادَةِ .
تَنْبِيهٌ : صُورَةُ الِاسْتِفَاضَةِ فِي التَّحَمُّلِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ يَنْتَسِبُ إلَى الشَّخْصِ أَوْ الْقَبِيلَةِ ، وَالنَّاسَ يَنْسُبُونَهُ إلَى ذَلِكَ ، وَامْتَدَّ ذَلِكَ مُدَّةً ، وَلَا يُقَدَّرُ بِسَنَةٍ ، بَلْ الْعِبْرَةُ بِمُدَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّةُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكْتَفِي بِالِانْتِسَابِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً ، فَإِنْ أَنْكَرَ النَّسَبَ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ ، وَكَذَا لَوْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي نَسَبِهِ ، وَلَوْ سَمِعَهُ يَقُولُ : هَذَا ابْنِي لِصَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَصَدَّقَهُ الْكَبِيرُ ، أَوْ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِنَسَبِهِ ، وَلَوْ سَكَتَ الْمَنْسُوبُ الْكَبِيرُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْإِقْرَارِ لَا بِالنَّسَبِ ( وَ ) كَذَا ( مَوْتٌ ) يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) كَالنَّسَبِ وَلِأَنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْهَا مَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51