كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

وَشَرْطُ إجْزَاءِ الْمُعَجَّلِ بَقَاءُ الْمَالِكِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ إلَى آخِرِ الْحَوْلِ ، وَكَوْنُ الْقَابِضِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مُسْتَحِقًّا وَقِيلَ إنْ خَرَجَ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ يُجْزِهِ .

( وَشَرْطُ إجْزَاءِ ) أَيْ وُقُوعِ ( الْمُعَجَّلِ ) زَكَاةً ( بَقَاءُ الْمَالِكِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ ) عَلَيْهِ ( إلَى آخِرِ الْحَوْلِ ) وَبَقَاءُ الْمَالِ إلَى آخِرِهِ أَيْضًا ، فَلَوْ مَاتَ أَوْ تَلِفَ الْمَالُ أَوْ بَاعَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَالَ تِجَارَةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ الْمُعَجَّلُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يَبْقَى الْمَالُ وَأَهْلِيَّةُ الْمَالِكِ ، وَلَكِنْ تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْوَاجِبِ ، كَمَا لَوْ عَجَّلَ بِنْتَ مَخَاضٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَتَوَالَدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ حَتَّى بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَلَا تُجْزِئُهُ الْمُعَجَّلَةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ صَارَتْ بِنْتَ لَبُونٍ فِي يَدِ الْقَابِضِ ، بَلْ يَسْتَرِدُّهَا وَيُعِيدُهَا أَوْ يُعْطِي غَيْرَهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ تَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْأَهْلِيَّةِ وَصْفُهُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ ( وَكَوْنُ الْقَابِضِ ) لَهُ ( فِي آخِرِ الْحَوْلِ مُسْتَحِقًّا ) فَلَوْ خَرَجَ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ بِمَوْتٍ أَوْ رِدَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ عَنْ الزَّكَاةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ الْوُجُوبِ ، وَالْقَبْضُ السَّابِقُ إنَّمَا يَقَعُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ ( وَقِيلَ : إنْ خَرَجَ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ) كَأَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ ( لَمْ يُجْزِهِ ) أَيْ الْمَالِكَ الْمُعَجَّلُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْأَخْذِ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ صَارَ كَذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ اكْتِفَاءً بِالْأَهْلِيَّةِ فِي طَرَفَيْ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ ، وَقَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، فَلَوْ غَابَ عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ أَوْ احْتِيَاجَهُ لَمْ يُجْزِهِ ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْحَنَّاطِيِّ : الظَّاهِرُ الْإِجْزَاءُ ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْبَحْرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّيْخَانِ بِالْمَسْأَلَةِ ، وَمِثْلُ

ذَلِكَ مَا لَوْ حَصَلَ الْمَالُ عِنْدَ الْحَوْلِ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْقَابِضِ فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ يُجْزِئُ عَنْ الزَّكَاةِ كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الْقَابِضُ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَالَ عَنْ بَلَدِ الْقَابِضِ وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافُهُ ، وَفِي الْبَحْرِ : لَوْ شَكَّ هَلْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَ فِي أَقْرَبِ الْوَجْهَيْنِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْقَابِضَ إذَا مَاتَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالِكَ دَفْعُ الزَّكَاةِ ثَانِيًا إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْجُمْهُورِ .

وَلَا يَضُرُّ غِنَاهُ بِالزَّكَاةِ .
( لَا يَضُرُّ غِنَاهُ بِالزَّكَاةِ ) الْمُعَجَّلَةِ إمَّا لِكَثْرَتِهَا أَوْ لِتَوَالُدِهَا وَدَرِّهَا أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَى الزَّكَاةَ لِيَسْتَغْنِيَ فَلَا يَكُونُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مَانِعًا مِنْ الْإِجْزَاءِ ، وَأَيْضًا لَوْ أَخَذْنَاهَا مِنْهُ لَافْتَقَرَ وَاحْتَجْنَا إلَى رَدِّهَا إلَيْهِ ، فَإِثْبَاتُ الِاسْتِرْجَاعِ يُؤَدِّي إلَى نَفْيِهِ وَيَضُرُّ غِنَاهُ بِغَيْرِهَا كَزَكَاةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ مُعَجَّلَةٍ أَخَذَهَا بَعْدَ أُخْرَى وَقَدْ اسْتَغْنَى بِهَا .
وَاسْتَشْكَلَ السُّبْكِيُّ مَا إذَا كَانَتَا مُعَجَّلَتَيْنِ وَاتَّفَقَ حَوْلُهُمَا ، إذْ لَيْسَ اسْتِرْجَاعُ إحْدَاهُمَا بِالْأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى .
ثُمَّ قَالَ : وَالثَّانِيَةُ أَوْلَى بِالِاسْتِرْجَاعِ ، وَكَلَامُ الْفَارِقِيِّ يُشْعِرُ بِاسْتِرْجَاعِ الْأُولَى ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ وَاجِبَةً فَالْأُولَى هِيَ الْمُسْتَرْجَعَةُ ، وَعَكْسُهُ بِالْعَكْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُبَالَاةَ بِعُرُوضِ الْمَانِعِ بَعْدَ قَبْضِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ .
أَمَّا إذَا أَخَذَهُمَا مَعًا فَإِنَّهُ لَا اسْتِرْدَادَ ، وَلَوْ اسْتَغْنَى بِالزَّكَاةِ وَبِغَيْرِهَا لَمْ يَضُرَّ أَيْضًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفُ وَجَزَمَا بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِهَا لَيْسَ بِغَنِيٍّ خِلَافًا لِقَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ فِي شَافِيهِ إنَّهُ يَضُرُّ .

وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً اسْتَرَدَّ إنْ كَانَ شَرَطَ الِاسْتِرْدَادَ إنْ عَرَضَ مَانِعٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ قَالَ : هَذِهِ زَكَاتِي الْمُعَجَّلَةُ فَقَطْ اسْتَرَدَّ ، وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْجِيلِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْقَابِضُ لَمْ يَسْتَرِدَّ ، وَأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مُثْبِتِ الِاسْتِرْدَادِ صُدِّقَ الْقَابِضُ بِيَمِينِهِ ، وَمَتَى ثَبَتَ وَالْمُعَجَّلُ تَالِفٌ وَجَبَ ضَمَانُهُ وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا فَلَا أَرْشَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً

( وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً ) لِعُرُوضِ مَانِعٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ ثَانِيًا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
نَعَمْ لَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ فَتَلِفَتْ بِيَدِ الْقَابِضِ لَمْ يَجِبْ التَّجْدِيدُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ ، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا نِصَابُ السَّائِمَةِ ، وَ ( اسْتَرَدَّ ) الْمَالِكُ ( إنْ كَانَ شَرَطَ الِاسْتِرْدَادَ إنْ عَرَضَ مَانِعٌ ) عَمَلًا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ دَفَعَهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْقَابِضُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ اسْتَرَدَّ : كَمَا إذَا عَجَّلَ أُجْرَةَ الدَّارِ ثُمَّ انْهَدَمَتْ فِي الْمُدَّةِ ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ قَبْلَ عُرُوضِ الْمَانِعِ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَرَّعَ بِالتَّعْجِيلِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَنْ عَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ شَرَطَ الِاسْتِرْدَادَ بِدُونِ مَانِعٍ لَا يَسْتَرِدُّ وَهُوَ كَذَلِكَ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَفِي صِحَّةِ الْقَبْضِ حِينَئِذٍ نَظَرٌ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ الصِّحَّةُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ قَالَ ) عِنْدَ دَفْعِهِ بِنَفْسِهِ ( هَذِهِ زَكَاتِي الْمُعَجَّلَةُ فَقَطْ ) أَوْ عَلِمَ الْقَابِضُ أَنَّهَا مُعَجَّلَةٌ ( اسْتَرَدَّ ) لِذِكْرِهِ التَّعْجِيلَ أَوْ الْعِلْمَ بِهِ وَقَدْ بَطَلَ .
وَالثَّانِي : لَا يَسْتَرِدُّ وَيَكُونُ تَطَوُّعًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بِالْمَذْهَبِ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا دَفَعَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَدَّرْتُهُ .
أَمَّا إذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ قَطْعًا إذَا ذَكَرَ التَّعْجِيلَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَرِّحَ بِعِلْمِ الْقَابِضِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فَإِنَّهُ قَدْ احْتَاجَ إلَيْهِ بَعْدَ هَذَا فِي عَكْسِ الْمَسْأَلَةِ وَصَرَّحَ بِهِ فَقَالَ ( وَ ) الْأَصَحُّ وَصَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ الْقَطْعَ بِهِ ( أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّعْجِيلِ ) بِأَنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الزَّكَاةِ أَوْ سَكَتَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا (

وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْقَابِضُ لَمْ يَسْتَرِدَّ ) وَيَكُونُ تَطَوُّعًا لِتَفْرِيطِ الدَّافِعِ بِتَرْكِ الْإِعْلَامِ عِنْدَ الْأَخْذِ .
وَالثَّانِي : يَسْتَرِدُّ لِظَنِّهِ الْوُقُوعَ عَنْ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَقَعْ عَنْهَا .
وَالثَّالِثُ : إنْ كَانَ الْمُعْطِي هُوَ الْإِمَامُ رَجَعَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مَالَ الْغَيْرِ فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ تَطَوُّعًا ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْقَابِضُ عَمَّا إذَا عَلِمَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ كَمَا مَرَّ .
وَلَوْ تَجَدَّدَ لَهُ الْعِلْمُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهَلْ هُوَ كَالْمُقَارِنِ أَوْ لَا ؟ قَالَ السُّبْكِيُّ : فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ وَالْإِمَامِ مَا يُفْهِمُ أَنَّهُ كَالْمُقَارِنِ .
وَهُوَ الْأَقْرَبُ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مُثْبِتِ الِاسْتِرْدَادِ ) وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ عُرُوضِ مَانِعٍ ، أَوْ فِي ذِكْرِ التَّعْجِيلِ أَوْ عَلِمَ الْقَابِضُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ( صُدِّقَ الْقَابِضُ ) أَوْ وَارِثُهُ ( بِيَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ وَيَحْلِفُ الْقَابِضُ عَلَى الْبَتِّ وَوَارِثُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، وَالثَّانِي : يُصَدَّقُ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَعْطَى ثَوْبًا لِغَيْرِهِ وَتَنَازَعَا فِي أَنَّهُ عَارِيَّةٌ أَوْ هِبَةٌ صُدِّقَ الدَّافِعُ ، وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَعُدَّ مِنْهُ سَبْقُ الْقَلَمِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْقَابِضِ بِالتَّعْجِيلِ .
أَمَّا فِيهِ فَيُصَدَّقُ الْقَابِضُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّعْجِيلِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ بِمَا قَالَهُ الدَّافِعُ لَضَمِنَ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي نَقْصِ الْمَالِ عَنْ النِّصَابِ أَوْ تَلَفِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، فَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَصْدِيقُ الْقَابِضِ بِيَمِينِهِ

وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِيهِ وَقْفَةٌ ( وَمَتَى ثَبَتَ ) الِاسْتِرْدَادُ ( وَالْمُعَجَّلُ تَالِفٌ وَجَبَ ضَمَانُهُ ) بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، وَبِالْقِيمَةِ إنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِغَرَضِ نَفْسِهِ .
( وَالْأَصَحُّ ) فِي الْمُتَقَوِّمِ ( اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ ) أَيْ وَقْتَ ( الْقَبْضِ ) ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا حَصَلَ فِي مِلْكِ الْقَابِضِ فَلَا يَضْمَنُهُ ، وَالثَّانِي قِيمَتُهُ وَقْتَ التَّلَفِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِقَالِ الْحَقِّ إلَى الْقِيمَةِ ، وَفِي مَعْنَى تَلَفِهِ الْبَيْعُ وَنَحْوُهُ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا ) نَقْصَ أَرْشِ صِفَةٍ كَالْمَرَضِ وَالْهُزَالِ حَدَثَ قَبْلَ سَبَبِ الرَّدِّ ( فَلَا أَرْشَ ) لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَالْأَبِ إذَا رَجَعَ فِي الْمَوْهُوبِ نَاقِصًا ، وَالثَّانِي لَهُ أَرْشُهُ ؛ لِأَنَّ جُمْلَتَهُ مَضْمُونَةٌ فَكَذَلِكَ جُزْؤُهُ وَلَيْسَ كَالْهِبَةِ ، فَإِنَّ جُمْلَتَهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَجُزْؤُهَا أَوْلَى .
أَمَّا نَقْصُ الْجُزْءِ كَتَلَفِ شَاةٍ مِنْ شَاتَيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِ التَّالِفِ قَطْعًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالْكِفَايَةِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً ) كَلَبَنٍ وَوَلَدٍ حَدَثَتْ قَبْلَ وُجُوبِ سَبَبِ الِاسْتِرْدَادِ ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِهِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَنَحْوُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ كَالْمُنْفَصِلِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ حُكْمًا ، وَالثَّانِي : يَسْتَرِدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعَ .
أَمَّا لَوْ حَلَّ النَّقْصُ أَوْ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الرُّجُوعِ أَوْ كَانَ الْقَابِضُ حَالَ الْقَبْضِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَيَجِبُ الْأَرْشُ ، وَيَسْتَرِدُّ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُنْفَصِلَةِ عَنْ الْمُتَّصِلَةِ كَالسِّمَنِ وَالتَّعْلِيمِ فَإِنَّهَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ ، وَلَوْ وُجِدَ الْمُعَجَّلُ بِحَالِهِ وَأَرَادَ الْقَابِضُ أَنْ يَرُدَّ بَدَلَهُ وَلَمْ يَرْضَ الْمَالِكُ فَفِيهِ

الْخِلَافُ فِي الْقَرْضِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ ، فَيَكُونُ الْأَصَحُّ إجَابَةَ الْمَالِكِ ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْأَصَحِّ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِلَافِ وَقُوَّتِهِ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَقِيلَ : وَجْهَانِ .

وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَلَا ، وَلَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَغْرَمُ قِسْطَ مَا بَقِيَ .
( وَتَأْخِيرُ ) أَدَاءِ ( الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ( يُوجِبُ الضَّمَانَ ) لَهَا وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ كَأَنْ أَخَّرَ لِطَلَبِ الْأَفْضَلِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ( وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ ) الْمُزَكَّى أَوْ أَتْلَفَ لِتَقْصِيرِهِ بِحَبْسِ الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَجَمِيعُ مَا بَعْدَهَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالتَّعْجِيلِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي إفْرَادُهُ بِفَصْلٍ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَفِي جَعْلِهِ التَّلَفَ غَايَةً نَظَرٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الضَّمَانِ .
وَأَمَّا قَبْلَ التَّلَفِ فَيُقَالُ : وَجَبَ الْأَدَاءُ وَلَا يَحْسُنُ فِيهِ الْقَوْلُ بِالضَّمَانِ فَكَانَ يَنْبَغِي إسْقَاطُ الْوَاوِ ( وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ ) وَبَعْدَ الْحَوْلِ بِلَا تَقْصِيرٍ ( فَلَا ) ضَمَانَ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ .
أَمَّا إذَا قَصَّرَ كَأَنْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ( وَلَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ ) بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ ( فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَغْرَمُ قِسْطَ مَا بَقِيَ ) بَعْدَ إسْقَاطِ الْوَقْصِ ، فَلَوْ تَلِفَ وَاحِدٌ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ ، فَفِي الْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ أَوْ مَلَكَ تِسْعَةً مِنْهَا حَوْلًا فَهَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ خَمْسَةٌ وَجَبَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ ، وَأَنَّ الْأَوْقَاصَ عَفْوٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِيهِمَا أَوْ أَرْبَعَةٌ وَجَبَتْ شَاةٌ ، وَالثَّانِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بِاللُّزُومِ بَدَلَ الْغُرْمِ كَانَ أَوْلَى ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ يَبْقَى قِسْطُ مَا بَقِيَ .

وَإِنْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ ، وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ تَعَلُّقَ شَرِكَةٍ .
( وَإِنْ أَتْلَفَهُ ) الْمَالِكُ ( بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ ) سَوَاءٌ أَقُلْنَا التَّمَكُّنُ شَرْطٌ لِلضَّمَانِ أَمْ لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْإِتْلَافِ ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ .
فَإِنْ قُلْنَا التَّمَكُّنُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ وَعَلَّقْنَا الزَّكَاةَ بِالْعَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيهِمَا انْتَقَلَ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الرَّقِيقُ الْجَانِيَ وَالْمَرْهُونَ ( وَهِيَ ) أَيْ الزَّكَاةُ ( تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ) الَّذِي تَجِبُ فِيهِ ( تَعَلُّقَ شَرِكَةٍ ) بِقَدْرِهَا لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ ؛ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِصِفَةِ الْمَالِ مِنْ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، .

وَفِي قَوْلٍ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ ، وَفِي قَوْلٍ بِالذِّمَّةِ .
فَلَوْ بَاعَهُ قَبْلَ إخْرَاجِهَا ، فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ فِي قَدْرِهَا ، وَصِحَّتُهُ فِي الْبَاقِي .

وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ إخْرَاجِهَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا كَمَا يَقْسِمُ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ إذَا امْتَنَعَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنْ قِسْمَتِهِ وَإِنَّمَا جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْمُشْتَرَكَاتِ رِفْقًا بِالْمَالِكِ وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهَا وَجَبَتْ مَجَّانًا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، وَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ كَشَاةٍ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ مَلَكَ الْمُسْتَحِقُّونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ كَشَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً ، فَهَلْ الْوَاجِبُ شَاةٌ لَا بِعَيْنِهَا أَوْ شَائِعٌ أَيْ : جُزْءٌ مِنْ كُلِّ شَاةٍ ؟ وَجْهَانِ .
حَكَاهُمَا الشَّيْخَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الْمَالِ ، الْأَقْرَبُ إلَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ الثَّانِي ، إذْ الْقَوْلُ بِالْأَوَّلِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا ذُكِرَ لِإِبْهَامِ الْمَبِيعِ ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لِلْمَالِكِ تَعْيِينُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا قَطْعًا رِفْقًا بِهِ ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ إطْلَاقُ الْخِلَافِ فِي النُّقُودِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ وَاجِبَهَا شَائِعٌ بِلَا خِلَافٍ ( وَفِي قَوْلٍ تَعَلَّقَ الرَّهْنُ ) بِقَدْرِهَا مِنْهُ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ وَالنِّصَابُ مَرْهُونٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَجِدْ الْوَاجِبَ فِي مَالِهِ بَاعَ الْإِمَامُ بَعْضَهُ وَاشْتَرَى وَاجِبَهُ كَمَا يُبَاعُ الْمَرْهُونُ فِي الدَّيْنِ ، وَقِيلَ : تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهِ ( وَفِي قَوْلٍ ) تَتَعَلَّقُ ( بِالذِّمَّةِ ) وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ وَهُوَ أَضْعَفُهَا ، وَفِي قَوْلٍ رَابِعٍ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كَمَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَالتَّعَلُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْهُ ، وَقِيلَ بِجَمِيعِهِ ، وَفِي خَامِسٍ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ مِنْ الْمَالِ تَبَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِهِ وَإِلَّا فَلَا .
( فَلَوْ بَاعَهُ ) أَيْ الْمَالَ بَعْدَ وُجُوبِ

الزَّكَاةِ ، وَ ( قَبْلَ إخْرَاجِهَا فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ ) أَيْ الْبَيْعِ ( فِي قَدْرِهَا وَصِحَّتُهُ فِي الْبَاقِي ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحِقِّينَ شَائِعٌ ، فَأَيُّ قَدْرٍ بَاعَهُ كَانَ حَقَّهُ وَحَقَّهُمْ .
وَالثَّانِي : بُطْلَانُهُ فِي الْجَمِيعِ .
وَالثَّالِثُ : صِحَّتُهُ فِي الْجَمِيعِ وَالْأَوَّلَانِ قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، وَيَأْتِيَانِ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرِكَةِ وَتَعَلُّقِ الرَّهْنِ أَوْ الْأَرْشِ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ وَيَأْتِي الثَّالِثُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ اسْتَثْنَى قَدْرَ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ كَبِعْتُكَ هَذَا إلَّا قَدْرَ الزَّكَاةِ صَحَّ الْبَيْعُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي بَابِهِ .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ أَهُوَ عُشْرٌ أَمْ نِصْفُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيِّ .
وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ فَإِنْ عَيَّنَ كَقَوْلِهِ : إلَّا هَذِهِ الشَّاةَ صَحَّ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ ، وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَظْهَرِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ زَكَاةُ التَّمْرِ إذَا خُرِصَ وَقُلْنَا : الْخَرْصُ تَضْمِينٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ - فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ جَمِيعِهِ قَطْعًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ .
هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْعِ الْجَمِيعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : فَلَوْ بَاعَهُ .
فَأَمَّا إذَا بَاعَ بَعْضَهُ فَإِنْ لَمْ يُبْقِ قَدْرَ الزَّكَاةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَمِيعَ ، وَإِنْ أَبْقَى قَدْرَهَا بِنِيَّةِ الصَّرْفِ فِيهَا أَوْ بِلَا نِيَّةٍ بَطَلَ أَيْضًا فِي قَدْرِهَا عَلَى أَقْيَسِ الْوَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ جَزْمِ الشَّيْخَيْنِ بِالصِّحَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اللَّفْظِيَّ أَقْوَى مِنْ الْقَصْدِ الْمُجَرَّدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي زَكَاةِ الْأَعْيَانِ .
أَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَيَصِحُّ بَيْعُ الْكُلِّ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَبْلَ إخْرَاجِهَا عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ الزَّكَاةِ الْقِيمَةُ ، وَهِيَ لَا تَفُوتُ بِالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ أَمْوَالَ التِّجَارَةِ فَهُوَ كَبَيْعِ مَا وَجَبَتْ فِي عَيْنِهِ فَيَأْتِي فِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ .

تَتِمَّةٌ : لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ عَلَى الْبَائِعِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِسَبَبِ أَنَّ مِلْكَهُ فِي بَعْضِ مَا اشْتَرَاهُ لَمْ يَكْمُلْ ؛ لِأَنَّ لِلسَّاعِي انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلَوْ أَدَّى الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا فِي قَدْرِهَا ، وَقِيلَ : يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ قَدْ زَالَ .

خَاتِمَةٌ : يُسَنُّ لِلْمُسْتَحِقِّ وَالسَّاعِي الدُّعَاءُ لِلْمَالِكِ عِنْدَ الْأَخْذِ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْخَيْرِ وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أَيْ اُدْعُ لَهُمْ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ دُعَاءٌ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ مَا اسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ : آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى - بِفَتْحِ اللَّامِ - عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا لَا يُقَالُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَصًّا بِهِ إلَّا تَبَعًا لَهُمْ كَالْآلِ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَتْبَاعِهِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ كَلُقْمَانَ وَمَرْيَمَ عَلَى الْأَشْهَرِ مِنْ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِنَبِيَّيْنِ فَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَذْكَارِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ عَنْ حَالِ مَنْ يُقَالُ فِيهِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا حَقُّهُمَا فَلَهُمَا الْإِنْعَامِ بِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } وَالسَّلَامُ كَالصَّلَاةِ فِيمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ بَيْنَهُمَا .
لَكِنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِهِ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ابْتِدَاءً ، وَوَاجِبَةٌ جَوَابًا كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَا يَقَعُ مِنْهُ غِيبَةٌ فِي الْمُرَاسَلَاتِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَا يَقَعُ خِطَابًا .
وَيُسَنُّ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْأَخْيَارِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ التَّرَضِّيَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمَ بِغَيْرِهِمْ ضَعِيفٌ

.

كِتَابُ الصِّيَامِ يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ، أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، وَثُبُوتُ رُؤْيَتِهِ بِعَدْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ عَدْلَانِ .
كِتَابُ الصِّيَامِ هُوَ وَالصَّوْمُ لُغَةً : الْإِمْسَاكُ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ : ( { إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } ) أَيْ إمْسَاكًا وَسُكُوتًا عَنْ الْكَلَامِ .
وَشَرْعًا : إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ .
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ مَعَ مَا يَأْتِي آيَةُ : ( { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ) ، وَخَبَرُ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } ، وَفُرِضَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ : صَائِمٌ ، وَنِيَّةٌ ، وَإِمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ ( يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ ) لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ .
وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَهُ غَيْرَ جَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ : كَأَنْ قَالَ : الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيَّ وَلَكِنْ لَا أَصُومُ ، حُبِسَ وَمُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ نَهَارًا لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصَّوْمِ بِذَلِكَ ، سُمِّيَ رَمَضَانَ مِنْ الرَّمَضِ ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَضَعَ أَسْمَاءَ الشُّهُورِ وَافَقَ أَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ كَمَا سُمِّيَا الرَّبِيعَانِ لِمُوَافَقَتِهِمَا زَمَنَ الرَّبِيعِ ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ أَيْ يَحْرُقُهَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بِهِ ثَابِتَةٌ قَبْلَ الشَّرْعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { رَمَضَانُ سَيِّدُ الشُّهُورِ } وَلَا يُكْرَهُ قَوْلُ رَمَضَانَ بِدُونِ الشَّهْرِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَمُسْلِمٍ ، وَمَا نَقَلَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ

وَإِنَّمَا يَجِبُ ( بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ) يَوْمًا ( أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ ) لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } ( 1 ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَيُضَافُ إلَى الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَالِ الْعَدَدِ ظَنُّ دُخُولِهِ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ الظَّاهِرَةَ الدَّالَّةَ كَرُؤْيَةِ الْقَنَادِيلِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْمَنَائِرِ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فِي حُكْمِ الرُّؤْيَةِ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِ وَلَا يَجُوزُ ، وَالْمُرَادُ بِآيَةِ ( { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } ) الِاهْتِدَاءُ إلَى أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِحِسَابِهِ كَالصَّلَاةِ ؛ وَلِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ ، وَصَحَّحَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّهُ إذَا جَازَ أَجْزَأَهُ ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَرَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلسُّبْكِيِّ .
قَالَ : وَصَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ فِيمَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ النِّيَّةِ الْجَزْمُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَالْحَاسِبُ : وَهُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ مَنَازِلَ الْقَمَرِ وَتَقْدِيرَ سَيْرِهِ فِي مَعْنَى الْمُنَجِّمِ ، وَهُوَ مَنْ يَرَى أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ طُلُوعُ النَّجْمِ الْفُلَانِيِّ ، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ بِأَنَّ اللَّيْلَةَ أَوَّلُ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِفَقْدِ ضَبْطِ الرَّائِي ، لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَةِ .

وَهَلْ تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ طَرِيقَانِ : أَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِثُبُوتِهِ كَالزَّكَاةِ ، وَقِيلَ : لَا كَالْحُدُودِ ( وَثُبُوتُ رُؤْيَتِهِ ) يَحْصُلُ ( بِعَدْلٍ ) سَوَاءٌ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَمْ لَا ؛ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا رَآهُ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسُ بِصِيَامِهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي رَأَيْتُ هِلَالَ رَمَضَانَ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : تَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا } ( 2 ) صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْمَعْنَى فِي ثُبُوتِهِ بِالْوَاحِدِ الِاحْتِيَاطُ لِلصَّوْمِ ( وَفِي قَوْلٍ ) يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ ( عَدْلَانِ ) كَغَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا كَانَ لَهُ قَوْلَانِ وَعُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا كَانَ مَذْهَبُهُ الْمُتَأَخِّرَ فَفِي الْأُمِّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدُ : لَا يَجُوزُ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ إلَّا شَاهِدَانِ .
وَنَقَلَ الْبُلْقِينِيُّ مَعَ هَذَا النَّصِّ نَصًّا آخَرَ صِيغَتُهُ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ بَعْدُ ، فَقَالَ : لَا يُصَامُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ .
وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ أَوْ شَهَادَةَ ابْنِ عُمَرَ قُبِلَ الْوَاحِدُ وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ .
وَقَدْ صَحَّ كُلٌّ مِنْهُمَا ، وَعِنْدِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْوَاحِدِ ، وَإِنَّمَا رَجَعَ إلَى اثْنَيْنِ بِالْقِيَاسِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ لِلْوَاحِدِ بِأَثَرٍ عَنْ عَلِيٍّ ؛ وَلِهَذَا

قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : وَلَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ ا هـ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِمَا ذُكِرَ ، وَعَلَيْهِ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَشَهِدَ بِهِلَالِهِ وَاحِدٌ ثَبَتَتْ الرُّؤْيَةُ فِي الْأَصَحِّ فِي الْبَحْرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَمَحِلُّ ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ بِعَدْلٍ فِي الصَّوْمِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَتَوَابِعُهُ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِدُخُولِ رَمَضَانَ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَوُقُوعِ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ مُعَلَّقَيْنِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا ثَبَتَ ذَلِكَ ضِمْنًا كَمَا ثَبَتَ شَوَّالٌ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ بِوَاحِدٍ وَالنَّسَبُ وَالْإِرْثُ بِثُبُوتِ الْوِلَادَةِ بِالنِّسَاءِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الضِّمْنِيَّ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لَازِمٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ ، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا إذَا كَانَ التَّابِعُ مِنْ جِنْسِ الْمَتْبُوعِ كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فَإِنَّهُمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَكَالْوِلَادَةِ وَالنَّسَبِ وَالْإِرْثِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَالِ ، وَالْآيِلُ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا هُنَا ، فَإِنَّ التَّابِعَ مِنْ الْمَالِ أَوْ الْآيِلِ إلَيْهِ ، وَالْمَتْبُوعَ مِنْ الْعِبَادَاتِ .
هَذَا كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ إنْ سَبَقَ التَّعْلِيقُ الشَّهَادَةَ ، فَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِدُخُولِ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ ، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ : إنْ ثَبَتَ رَمَضَانُ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ زَوْجَتِي طَالِقٌ وَقَعَا ، وَمَحِلُّهُ أَيْضًا كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّاهِدِ .
فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ثَبَتَ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ .

وَشَرْطُ الْوَاحِدِ صِفَةُ الْعُدُولِ فِي الْأَصَحِّ ، لَا عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ .

فَرْعٌ : لَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ وَاقْتَضَى الْحِسَابُ عَدَمَ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ قَطْعِيٌّ وَالشَّهَادَةَ ظَنِّيَّةٌ ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِ رَدِّ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَالْمُعْتَمَدُ قَبُولُهَا ، إذْ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْحُسَّابِ كَمَا مَرَّ ، وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ نَهَارًا لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا الْمَاضِيَةِ فَلَا نُفْطَرُ إنْ كَانَ فِي ثَلَاثِي رَمَضَانَ وَلَا نُمْسِكُ إنْ كَانَ فِي ثَلَاثِي شَعْبَانَ .
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ يَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا لِلْمَاضِيَةِ أَيْ وَلَا لِلْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ لِابْنِ أَبِي شَرِيفٍ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ لَوْ قِيلَ إنَّهَا لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ ( وَشَرْطُ الْوَاحِدِ صِفَةُ الْعُدُولِ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ( لَا عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ ) فَلَيْسَا مِنْ الْعُدُولِ فِي الشَّهَادَةِ .
قَالَ الشَّارِحُ وَإِطْلَاقُ الْعُدُولِ يَنْصَرِفُ إلَى الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْعَدْلِ فَيُصَدَّقُ بِهَا وَبِالرِّوَايَةِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ وَحْدَهَا ا هـ .
فَانْدَفَعَ بِذَلِكَ مَا قِيلَ إنْ قَوْلَهُ : وَشَرْطُ الْوَاحِدِ صِفَةُ الْعُدُولِ بَعْدَ قَوْلِهِ : بِعَدْلٍ فِيهِ رَكَاكَةٌ ، فَإِنَّ الْعَدْلَ مَنْ كَانَتْ فِيهِ صِفَةُ الْعُدُولِ ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الثُّبُوتَ بِالْوَاحِدِ شَهَادَةٌ أَوْ رِوَايَةٌ ، فَلَا يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ وَيَثْبُتُ بِهِ عَلَى الثَّانِي ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَهِيَ شَهَادَةُ حِسْبَةٍ ، وَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَغَيْرُهُ ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ فِيهِ ، وَهِيَ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ بَلْ يُكْتَفَى بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَسْتُورُ وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا ؛ لِأَنَّ

الصَّحِيحَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا رِوَايَةٌ ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ لِلْعِبَادَةِ .

تَنْبِيهٌ : أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَثُبُوتُ رُؤْيَتِهِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ النَّاسِ .
أَمَّا وُجُوبُهُ عَلَى الرَّائِي فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ عَدْلًا ، فَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ : يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ بِالرُّؤْيَةِ إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ يُفَرِّعُوهُ عَلَى شَيْءٍ ، وَمَثَّلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ وَصَدِيقِهِ .

وَيَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ : أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَعِبَارَةُ الرُّويَانِيِّ وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْهِلَالِ أَنْ يَقُولَ : رَأَيْتُهُ فِي نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ ، وَيَذْكُرَ صِغَرَهُ وَكِبَرَهُ ، وَتَدْوِيرَهُ وَتَقْدِيرَهُ ، وَأَنَّهُ بِحِذَاءِ الشَّمْسِ أَوْ فِي جَانِبٍ مِنْهَا ، وَأَنَّ ظَهْرَهُ إلَى الْجَنُوبِ أَوْ الشَّمَالِ وَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَفَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ حَتَّى إذَا رُئِيَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَانَ كَذِبُ الشَّاهِدِ ؛ لِأَنَّ الْهِلَالَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ صِفَاتِهِ الَّتِي طَلَعَ عَلَيْهَا بِالْأَمْسِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ ، فَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، بَلْ طَرِيقُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِطُلُوعِ الْهِلَالِ أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ مِنْ رَمَضَانَ مَثَلًا وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ الْمُعْتَمَدِ قَبُولُ شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ إذَا قَالَتْ : أَشْهَدُ أَنِّي أَرْضَعْتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رَمَضَانَ قَدْ يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ وَقَدْ يَثْبُتُ بِأَكْثَرَ ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِ " يَثْبُتُ " كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَلَا يَأْتِي بِالْمُبْتَدَإِ الْمُشْعِرِ بِالْحَصْرِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ .

وَإِذَا صُمْنَا بِعَدْلٍ وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ أَفْطَرْنَا فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً .
( وَإِذَا صُمْنَا بِعَدْلٍ وَلَمْ نَرَ الْهِلَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ أَفْطَرْنَا فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ( وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ) أَيْ لَا غَيْمَ فِيهَا لِكَمَالِ الْعَدَدِ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ يُؤَدِّي إلَى ثُبُوتِ شَوَّالٍ بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتَانِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَيَثْبُتَانِ ضِمْنًا بِالْوِلَادَةِ كَمَا مَرَّ ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً أَفْطَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً فَلَا لِقُوَّةِ الرُّؤْيَةِ .

، وَلَوْ صُمْنَا بِعَدْلٍ ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدُ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ ، فَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهِ كَالْحُكْمِ قَالَهُ شُرَيْحٌ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ ، وَهَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .

إذَا رُئِيَ بِبَلَدٍ لَزِمَ حُكْمُهُ الْبَلَدَ الْقَرِيبَ دُونَ الْبَعِيدِ فِي الْأَصَحِّ ، وَالْبَعِيدُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ، وَقِيلَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ ، قُلْتُ : هَذَا أَصَحُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( إذَا رُئِيَ بِبَلَدٍ لَزِمَ حُكْمُهُ الْبَلَدَ الْقَرِيبَ ) مِنْهُ قَطْعًا كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا كَبَلَدٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( دُونَ الْبَعِيدِ فِي الْأَصَحِّ ) كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ .
وَالثَّانِي : يَلْزَمُ فِي الْبَعِيدِ أَيْضًا ( وَالْبَعِيدُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ) وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ بِهَا كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ ( وَقِيلَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ .
قُلْتُ : هَذَا أَصَحُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْهِلَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ كُرَيْبٍ قَالَ : { رَأَيْتُ الْهِلَالَ بِالشَّامِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ ؟ قُلْتُ : لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، قَالَ : أَنْتَ رَأَيْتَهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا ، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ الْعِدَّةَ .
فَقُلْتُ : أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ ؟ قَالَ : لَا ، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَقِيَاسًا عَلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ وَغُرُوبِهِمَا .
قَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ : وَاخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ لَا يَكُونُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا .
فَإِنْ قِيلَ : اعْتِبَارُ اتِّحَادِ الْمَطَالِعِ وَاخْتِلَافِهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَجِّمِ وَالْحَاسِبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا فِي إثْبَاتِ رَمَضَانَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ فِي التَّوَابِعِ وَالْأُمُورِ الْخَاصَّةِ ، فَإِنْ شُكَّ فِي الِاتِّفَاقِ فِي الْمَطْلَعِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا الصَّوْمَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ قُرْبِهِمْ مِنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعُ وَتَكُونُ

الرُّؤْيَةُ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ مُسْتَلْزِمَةً لِلرُّؤْيَةِ فِي الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ ، فَمَتَى اتَّحَدَ الْمَطْلَعُ لَزِمَ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي أَحَدِهِمَا رُؤْيَتُهُ فِي الْآخَرِ ، وَمَتَى اخْتَلَفَ لَزِمَ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيِّ رُؤْيَتُهُ فِي الْغَرْبِيِّ وَلَا يَنْعَكِسُ ، وَعَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ كُرَيْبٍ فَإِنَّ الشَّامَ غَرْبِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّامِ رُؤْيَتُهُ فِيهَا .

وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ عَلَى الْبَلَدَ الْآخَرِ فَسَافَرَ إلَيْهِ مِنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوَافِقُهُمْ فِي الصَّوْمِ آخِرًا ، وَمَنْ سَافَرَ مِنْ الْبَلَدِ الْآخَرِ إلَى بَلَدِ الرُّؤْيَةِ عَيَّدَ مَعَهُمْ وَقَضَى يَوْمًا .
( وَإِذَا لَمْ نُوجِبْ عَلَى ) أَهْلِ ( الْبَلَدَ الْآخَرِ ) وَهُوَ الْبَعِيدُ ( فَسَافَرَ إلَيْهِ مِنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ ) مَنْ صَامَ بِهِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوَافِقُهُمْ ) وُجُوبًا ( فِي الصَّوْمِ آخِرًا ) وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَمَّ ثَلَاثِينَ ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى بَلَدِهِمْ صَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُمْ .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ كُرَيْبًا بِذَلِكَ .
وَالثَّانِي : يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ حُكْمُ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ ( وَمَنْ سَافَرَ مِنْ الْبَلَدِ الْآخَرِ ) أَيْ الَّذِي لَمْ يُرَ فِيهِ ( إلَى بَلَدِ الرُّؤْيَةِ عَيَّدَ مَعَهُمْ ) وُجُوبًا لِمَا مَرَّ ، سَوَاءٌ أَصَامَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ بِأَنْ كَانَ رَمَضَانُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ نَاقِصًا فَوَقَعَ عِيدُهُ مَعَهُمْ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَوْمِهِ ، أَمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ بِأَنْ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا عِنْدَهُمْ ( وَقَضَى يَوْمًا ) إنْ صَامَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ كَذَلِكَ .

وَمَنْ أَصْبَحَ مُعَيِّدًا فَسَارَتْ سَفِينَتُهُ إلَى بَلْدَةٍ بَعِيدَةٍ أَهْلُهَا صِيَامٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ .

( وَ ) عَلَى الْأَصَحِّ ( مَنْ أَصْبَحَ مُعَيِّدًا فَسَارَتْ سَفِينَتُهُ ) مَثَلًا ( إلَى بَلْدَةٍ بَعِيدَةٍ أَهْلُهَا صِيَامٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ ) وُجُوبًا لِمَا مَرَّ .
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ إمْسَاكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ وَتَجْزِئَةُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِإِمْسَاكِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ بَعِيدٌ .
وَرَدَّ الرَّافِعِيُّ الِاسْتِبْعَادَ الْمَذْكُورَ بِيَوْمِ الشَّكِّ إذَا ثَبَتَ الْهِلَالُ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إمْسَاكُ بَاقِيهِ دُونَ أَوَّلِهِ .
وَرَدَّهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ تَبْعِيضَ الْحُكْمِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فِي الظَّاهِرِ .
وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَهُوَ تَبْعِيضٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمِ الْبَلَدَيْنِ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَهُوَ مُفْطِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْأَصَحِّ وَتُتَصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِ الْبَلَدَيْنِ ، لَكِنَّ الْمُنْتَقَلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَرَوْهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَوْمِهِمْ لِتَأَخُّرِ ابْتِدَائِهِ بِيَوْمٍ .
فَائِدَةٌ : فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ } .
وَفِي أَبِي دَاوُد كَانَ يَقُولُ : " هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ " مَرَّتَيْنِ " آمَنْتُ بِمَنْ خَلَقَكَ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " وَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ سُورَةَ تَبَارَكَ لِأَثَرٍ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهَا الْمُنَجِّيَةُ الْوَاقِيَةُ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَكَانَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً بِعَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ ؛ وَلِأَنَّ السَّكِينَةَ تَنْزِلُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا عِنْدَ النَّوْمِ .

فَصْلٌ : النِّيَّةُ شَرْطٌ لِلصَّوْمِ .
( فَصْلٌ ) فِي أَرْكَانِ الصَّوْمِ ، وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ كَمَا مَرَّ : نِيَّةٌ ، وَإِمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ ، وَصَائِمٌ .
عَبَّرَ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ بِالشُّرُوطِ مُشِيرًا إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ ( النِّيَّةُ شَرْطٌ لِلصَّوْمِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ ، وَلَا تَكْفِي بِاللِّسَانِ قَطْعًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّلَفُّظُ بِهَا قَطْعًا كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَوْ تَسَحَّرَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِيَّةً وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْعُدَّةِ .
وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَوْ تَسَحَّرَ لِيَصُومَ ، أَوْ شَرِبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ نَهَارًا ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ الْجِمَاعِ خَوْفَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَانَ ذَلِكَ نِيَّةً إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّوْمُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهَا لِتَضَمُّنِ كُلٍّ مِنْهَا قَصْدَ الصَّوْمِ .

وَيُشْتَرَطُ لِفَرْضِهِ التَّبْيِيتُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النِّصْفُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ بَعْدَهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّجْدِيدُ إذَا نَامَ ثُمَّ تَنَبَّهَ .

( وَيُشْتَرَطُ لِفَرْضِهِ ) أَيْ الصَّوْمِ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ كَقَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ ( التَّبْيِيتُ ) وَهُوَ إيقَاعُ النِّيَّةِ لَيْلًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ .
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ بِقَرِينَةِ خَبَرِ عَائِشَةَ الْآتِي .
وَلَا بُدَّ مِنْ التَّبْيِيتِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِتَخَلُّلِ الْيَوْمَيْنِ بِمَا يُنَاقِضُ الصَّوْمَ كَالصَّلَاةِ يَتَخَلَّلُهَا السَّلَامُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفُ قَدْ يُخْرِجُ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ فَإِنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ ، وَالْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِلرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَالْبَالِغِ فِي ذَلِكَ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَلَيْسَ لَنَا صَوْمُ نَفْلٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّبْيِيتُ إلَّا هَذَا .
وَيُؤْخَذُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَقَدُّمِهَا ، وَلَوْ نَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ لَا صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، وَلَوْ شَكَّ نَهَارًا هَلْ نَوَى لَيْلًا ثُمَّ تَذَكَّرَ وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ النَّهَارَ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ وَلَمْ تَنْجَبِرْ بِالتَّذَكُّرِ نَهَارًا .
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَالظَّاهِرُ الْإِجْزَاءُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ الْغُرُوبِ هَلْ نَوَى أَوْ لَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ لَمْ يُؤَثِّرْ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ : إنْ شَكَّ بَعْدَ الْغُرُوبِ هَلْ نَوَى أَوْ لَا أَجْزَأَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا شَكَّ فِي النِّيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ حَيْثُ تُلْزِمُهُ

الْإِعَادَةُ التَّضْيِيقَ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْهَا بَطَلَتْ فِي الْحَالِّ وَلَا كَذَلِكَ الصَّوْمُ ، وَلَوْ نَوَى قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ السَّابِقِ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ) فِي التَّبْيِيتِ ( النِّصْفُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ ) بَلْ يَكْفِي وَلَوْ مِنْ أَوَّلِهِ لِإِطْلَاقِ التَّبْيِيتِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ اللَّيْلِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ .
وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ لِقُرْبِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ ، وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ .
فَلَمَّا سَقَطَ ذَلِكَ لِلْمَشَقَّةِ أَوْجَبْنَا النِّصْفَ الْأَخِيرَ كَمَا فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَغُسْلِ الْعِيدِ وَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ

( وَ ) الصَّحِيحُ ( أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ ) وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُنَافِي الصَّوْمِ ( بَعْدَهَا ) أَيْ النِّيَّةِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُبْطِلُ النِّيَّةَ فَيُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِهَا .
نَعَمْ إنَّ رَفْضَ النِّيَّةِ قَبْلَ الْفَجْرِ ضُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا .
نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ ، وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ مَا نَوَى لَيْلًا ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَجْرِ ( وَ ) الصَّحِيحُ ( أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّجْدِيدُ ) لَهَا ( إذَا نَامَ ) بَعْدَهَا ( ثُمَّ تَنَبَّهَ ) لَيْلًا ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ تَقْرِيبًا لِلنِّيَّةِ مِنْ الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ .
أَمَّا إذَا اسْتَمَرَّ النَّوْمُ إلَى الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ بِلَا خِلَافٍ .

وَيَصِحُّ النَّفَلُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَكَذَا بَعْدَهُ فِي قَوْلٍ ، وَالصَّحِيحُ اشْتِرَاطُ حُصُولِ شَرْطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ .

( وَيَصِحُّ النَّفَلُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ يَوْمًا : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ قَالَتْ لَا ، قَالَ : فَإِنِّي إذَنْ أَصُومُ ، قَالَتْ : وَقَالَ لِي يَوْمًا آخَرُ أَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قُلْتُ نَعَمْ ، قَالَ : إذَنْ أُفْطِرُ وَإِنْ كُنْتُ فَرَضْتُ الصَّوْمَ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ وَاخْتَصَّ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ لِلْخَبَرِ ، إذْ الْغَدَاءُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَالْعَشَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ بَعْدَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ بَيِّنٌ وَلِإِدْرَاكِ مُعْظَمِ النَّهَارِ بِهِ كَمَا فِي رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ صَوْمَ النَّفْلِ ، وَإِلَّا فَلَوْ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَدْ مَضَى مُعْظَمُ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ ( وَكَذَا ) يَصِحُّ بِنِيَّةٍ ( بَعْدَهُ فِي قَوْلٍ ) قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ آخِرِ النَّهَارِ كَمَا فِي النِّيَّةِ لَيْلًا ( وَالصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ ( اشْتِرَاطُ حُصُولِ شَرْطِ الصَّوْمِ ) فِي النِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ ( مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ) بِأَنْ لَا يَسْبِقَهَا مُنَافٍ لِلصَّوْمِ كَكُفْرٍ ، وَجِمَاعٍ ، وَأَكْلٍ ، وَجُنُونٍ ، وَحَيْضٍ ، وَنِفَاسٍ ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الصَّوْمِ ، وَهُوَ خُلُوُّ النَّفْسِ عَنْ الْمَوَانِعِ فِي الْيَوْمِ بِكَمَالِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ مَا ذَكَرَهُ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ صَائِمٌ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ .
أَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يُثَابَ عَلَى جَمِيعِهِ ، إذْ صَوْمُ الْيَوْمِ لَا يَتَبَعَّضُ كَمَا فِي الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ جَزْمًا ، وَلَوْ سَبَقَ مَاءُ مَضْمَضَةٍ أَيْ أَوْ اسْتِنْشَاقٍ بِلَا مُبَالَغَةٍ إلَى جَوْفِهِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْأَصَحِّ ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ، قَالَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .

وَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي الْفَرْضِ ، وَكَمَالُهُ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ غَدٍ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الْأَدَاءِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخِلَافُ الْمَذْكُورِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ السَّنَةِ .

قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَفِيسَةٌ مُهِمَّةٌ ( وَيَجِبُ ) فِي النِّيَّةِ ( التَّعْيِينُ فِي الْفَرْضِ ) بِأَنْ يَنْوِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ ، أَوْ عَنْ نَذْرٍ ، أَوْ عَنْ كَفَّارَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتٍ فَوَجَبَ التَّعْيِينُ فِي نِيَّتِهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ سَبَبَهَا أَمْ لَا ، لَكِنْ لَوْ عَيَّنَ وَأَخْطَأَ لَمْ يُجْزِئْهُ ، فَإِنْ جَهِلَ سَبَبَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ مِنْ كَوْنِهِ قَضَاءً عَنْ رَمَضَانَ أَوْ نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً كَفَاهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لِلضَّرُورَةِ ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ لَا يَعْرِفُ عَيْنَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْخَمْسَ وَيُجْزِئُهُ عَمَّا عَلَيْهِ ، وَيُعْذَرُ فِي عَدَمِ جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيَاسُ الصَّلَاةِ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَنْوِي يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَيَوْمًا عَنْ النَّذْرِ وَيَوْمًا عَنْ الْكَفَّارَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الذِّمَّةَ هُنَا لَمْ تَشْتَغِلْ بِالثَّلَاثِ .
وَالْأَصْلُ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِصَوْمِ يَوْمٍ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِمَّا زَادَ ، بِخِلَافِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ اشْتَغَلَتْ بِجَمِيعِهَا ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهَا ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ ذِمَّتَهُ اشْتَغَلَتْ بِصَوْمِ الثَّلَاثِ وَأَتَى بِاثْنَيْنِ مِنْهَا وَنَسِيَ الثَّالِثَ الْتَزَمَ فِيهِ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا اكْتَفَوْا فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً بِثَلَاثِ صَلَوَاتٍ فَقَطْ ، الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ وَإِحْدَى رُبَاعِيَّةٍ يَنْوِي فِيهَا الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ كَنَظِيرِهَا هُنَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا هُنَا مَا لَمْ يَتَوَسَّعُوا ثَمَّ بِدَلِيلِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِنِيَّةِ تَرْكِهِ بِخِلَافِهِمَا فِي الصَّلَاةِ ، وَاحْتُرِزَ بِالْفَرْضِ عَنْ النَّفْلِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ ،

وَيَنْبَغِي اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِي الصَّوْمِ الرَّاتِبِ كَعَرَفَةَ ، وَعَاشُورَاءَ ، وَأَيَّامِ الْبِيضِ ، وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ كَرَوَاتِبِ الصَّلَاةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ مُنْصَرِفٌ إلَيْهَا بَلْ لَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَهَا حَصَلَ أَيْضًا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُجُودُ صَوْمِهَا ( وَكَمَالُهُ ) أَيْ التَّعْيِينِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِكَمَالِ النِّيَّةِ ( فِي رَمَضَانَ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ غَدٍ ) أَيْ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي اللَّيْلَةَ الَّتِي يَنْوِي فِيهَا ( عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لِلَّهِ تَعَالَى ) بِإِضَافَةِ رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ أَضْدَادِهَا لَكِنَّ فَرْضَ غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ لَا يَكُونُ إلَّا قَضَاءً ، وَقَدْ خَرَجَ بِقَيْدِ الْأَدَاءِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْأَدَاءِ لَا يُغْنِي عَنْ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ ، ثُمَّ التَّعَرُّضُ لِلْغَدِ قَدْ يَكُونُ بِخُصُوصِهِ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِدْخَالِهِ فِي عُمُومٍ كَأَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ الشَّهْرِ فَيَكْفِيهِ لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِدُخُولِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَلَفْظُ الْغَدِ قَدْ اُشْتُهِرَ فِي كَلَامِهِمْ فِي تَفْسِيرِ التَّعْيِينِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِنْ حَدِّ التَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى التَّبْيِيتِ ( وَفِي الْأَدَاءِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّلَاةِ ) كَذَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ اشْتِرَاطَ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْأَدَاءِ وَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، لَكِنْ صَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِينَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا هُنَا ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ بِخِلَافِهِ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مِنْ الْبَالِغِ لَا يَقَعُ إلَّا فَرْضًا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ الْمُعَادَةَ نَفْلٌ ، فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ لَا تَقَعُ مِنْ الْبَالِغِ إلَّا

فَرْضًا مَعَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّاهَا بِمَكَانٍ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً فِي آخَرَ يُصَلُّونَهَا فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ مِنْهُ فَرْضًا ( وَالصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ ( أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ السَّنَةِ ) كَمَا لَا يُشْتَرَطُ الْأَدَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ لِيَمْتَازَ ذَلِكَ عَمَّا يَأْتِي بِهِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى ، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ غَدٍ وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ الثُّلَاثَاءَ ، أَوْ صَوْمَ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ فَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ صَحَّ صَوْمُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى صَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ، أَوْ صَوْمَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ فَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ ، وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ فِي الْأُولَى الْغَدُ وَفِي الثَّانِيَةِ السَّنَةُ الْحَاضِرَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْوَقْتَ الَّذِي نَوَى فِي لَيْلَتِهِ ، وَتَصْوِيرُ مِثْلِهِ بَعِيدٌ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَيْنِ فَنَوَى صَوْمَ غَدٍ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ عَنْ قَضَاءِ أَيِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ قَالَ : وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَوَى صَوْمَ النَّذْرِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ نَوْعَهُ ، وَكَذَا الْكَفَّارَاتُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَجَعَلَ الزَّرْكَشِيُّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ وُجُوبِ التَّعْيِينِ .

وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ صَوْمَ غَدٍ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ فَكَانَ مِنْهُ لَمْ يَقَعْ عَنْهُ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ كَوْنَهُ مِنْهُ بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صِبْيَانٍ رُشَدَاءَ .
، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُنَجَّزَةً ، وَيَأْتِي فِي تَعْلِيقِهَا بِالْمَشِيئَةِ مَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِغَيْرِهَا فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ صَوْمَ غَدٍ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ ) وَصَامَهُ ( فَكَانَ مِنْهُ لَمْ يَقَعْ عَنْهُ ) سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا أَمْ زَادَ بَعْدَهُ ، فَقَالَ : وَإِلَّا أَنَا مُفْطِرٌ أَوْ مُتَطَوِّعٌ لِلشَّكِّ فِي أَنَّهُ مِنْهُ حَالَ النِّيَّةِ فَلَيْسَتْ جَازِمَةً ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا إذَا جَزَمَ وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ " إنْ " الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَدُّدِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ هُوَ حَدِيثُ نَفْسٍ ( إلَّا إذَا اعْتَقَدَ ) أَيْ ظَنَّ ( كَوْنَهُ مِنْهُ بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ ) أَوْ فَاسِقٍ ( أَوْ صِبْيَانٍ رُشَدَاءَ ) أَيْ مُخْتَبَرِينَ بِالصِّدْقِ ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ هُنَا كَالْيَقِينِ كَمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتَصِحُّ النِّيَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَيْلًا كَوْنَ غَدٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ أُخْرَى .

: تَنْبِيهَاتٌ : أَحَدُهَا جَمْعُ الصِّبْيَةِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لَوْ أَخْبَرَهُ بِالرُّؤْيَةِ مُرَاهِقٌ وَنَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ فَبَانَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ .
ثَانِيهَا لَوْ رَدَّدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَالَ : أَصُومُ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ وَبَانَ مِنْهُ قَالَ الْإِمَامُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي : وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : الْمُتَّجَهُ الْإِجْزَاءُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْقَلْبِ ، وَالتَّرَدُّدَ حَاصِلٌ فِي الْقَلْبِ قَطْعًا ذَكَرَهُ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَقَصْدُهُ الصَّوْمَ إنَّمَا هُوَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَكَانَ كَالتَّرَدُّدِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الزَّرْكَشِيُّ قَالَ : وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ طَوَائِفَ ، وَكَلَامُ الْأُمِّ مُصَرِّحٌ بِهِ ، وَلَا نَقْلَ يُعَارِضُهُ إلَّا دَعْوَى الْإِمَامِ أَنَّهُ ظَاهِرُ النَّصِّ ، وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
ثَالِثُهَا : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّشْدِ هُنَا الْمُرَادَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : شَرْطُ الْعَاقِدِ الرُّشْدُ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْتُهُ زَادَ فِي الْمُهِمَّاتِ وَلَا يَبْعُدُ اجْتِنَابُ النَّوَاهِي خُصُوصًا الْكَبَائِرَ مِنْهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّشْدَ قَيْدٌ فِي الصِّبْيَانِ ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلَى الْبَاقِي .
وَقَالَ فِي الْوَسِيطِ إعَادَةُ قَوْلِهِ " رُشَدَاءَ " إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ غَلَطٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ يَوْمِ الشَّكِّ عِنْدَ التَّكَلُّمِ عَلَيْهِ .

وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ غَدٍ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ مِنْهُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ : أَصُومُ غَدًا نَفْلًا إنْ كَانَ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَمِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَمَارَةٌ فَبَانَ مِنْ شَعْبَانَ صَحَّ صَوْمُهُ نَفْلًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ ، وَإِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا ( وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ غَدٍ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَالَ : هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا فَكَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي نِيَّتِهِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَلَا أَثَرَ لِتَرَدُّدٍ يَبْقَى بَعْدَ حُكْمِهِ وَلَوْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ لِلِاسْتِنَادِ إلَى ظَنٍّ مُعْتَمَدٍ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَعِبَارَتُهُ : وَلَا بَأْسَ فِي التَّرَدُّدِ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ عَدْلٍ وَاحِدٍ ا هـ .
وَأُهْمِلَ ذَلِكَ فِي الْمِنْهَاجِ لِوُضُوحِهِ وَفَهْمِهِ مِنْ كَلَامِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : لَكِنْ لَا يَكْفِي مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاخْتِصَارِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَنْ جَهِلَ حَالَ الشَّاهِدِ .
أَمَّا الْعَالِمُ بِفِسْقِهِ وَكَذِبِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِالنِّيَّةِ بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ صَوْمُهُ حَيْثُ حَرُمَ صَوْمُهُ كَيَوْمِ الشَّكِّ .

وَلَوْ اشْتَبَهَ صَامَ شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ وَافَقَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ فَلَوْ نَقَصَ وَكَانَ رَمَضَانُ تَامًّا لَزِمَهُ يَوْمٌ آخَرُ ، وَلَوْ غَلِطَ بِالتَّقْدِيمِ وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صَوْمُهُ ، وَإِلَّا فَالْجَدِيدُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ .

( وَلَوْ اشْتَبَهَ ) رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ أَوْ مَحْبُوسٍ أَوْ نَحْوِهِ ( صَامَ شَهْرًا بِالِاجْتِهَادِ ) كَمَا يَجْتَهِدُ لِلصَّلَاةِ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ ، وَذَلِكَ بِأَمَارَةٍ كَالرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، فَلَوْ صَامَ بِلَا اجْتِهَادٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِتَرَدُّدٍ فِي النِّيَّةِ فَلَوْ اجْتَهَدَ وَتَحَيَّرَ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ فَفِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ الصَّوْمُ وَيَقْضِيَ كَالْمُتَحَيِّرِ فِي الْقِبْلَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْوُجُوبَ وَلَمْ يَظُنَّهُ ، وَأَمَّا فِي الْقِبْلَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَعَجَزَ عَنْ شَرْطِهَا فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّيْلَ مِنْ النَّهَارِ وَاسْتَمَرَّتْ الظُّلْمَةُ ، فَفِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّحَرِّي وَالصَّوْمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، فَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ اللَّيْلَ وَيُفْطِرُ النَّهَارَ وَجَبَ الْقَضَاءُ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ ( فَإِنْ وَافَقَ ) صَوْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ رَمَضَانَ وَقَعَ أَدَاءً وَإِنْ نَوَاهُ قَضَاءً ؛ لِظَنِّهِ خُرُوجَهُ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ أَوْ ( مَا بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ) قَطْعًا وَإِنْ نَوَى الْأَدَاءَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ( وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ ) لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَدَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَجْعَلُ غَيْرَ الْوَقْتِ وَقْتًا كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( فَلَوْ نَقَصَ ) الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَكُنْ شَوَّالًا وَلَا الْحِجَّةَ ( وَكَانَ رَمَضَانُ تَامًّا لَزِمَهُ يَوْمٌ آخَرُ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ أَدَاءٌ كَفَاهُ النَّاقِصُ وَلَوْ انْعَكَسَ الْحَالُ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ قَضَاءٌ فَلَهُ إفْطَارُ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ إذَا عَرَفَ الْحَالَ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ أَدَاءٌ فَلَا ، فَإِنْ كَانَ شَوَّالًا فِي مَسْأَلَةِ

الْمَتْنِ لَزِمَهُ يَوْمَانِ أَوْ الْحِجَّةَ فَخَمْسَةُ أَيَّامٍ ، وَفِي عَكْسِهَا لَا قَضَاءَ فِي الْأُولَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَفِي التَّسَاوِي يَلْزَمُهُ فِي الْأُولَى يَوْمٌ ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ ، وَلَوْ وَافَقَ رَمَضَانَ السَّنَةَ الْقَابِلَةَ وَقَعَ عَنْهَا لَا عَنْ الْقَضَاءِ ( وَلَوْ غَلِطَ ) فِي اجْتِهَادِهِ وَصَوْمِهِ ( بِالتَّقْدِيمِ وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ ) بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَالِّ ( لَزِمَهُ صَوْمُهُ ) قَطْعًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَمَضَانَ بِأَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَالُ إلَّا بَعْدَهُ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ ( فَالْجَدِيدُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ ) لِمَا فَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يُجْزِئُهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ، وَالْقَدِيمُ لَا يَجِبُ لِلْعُذْرِ ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالْأَوَّلِ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبِنْ الْحَالُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ الِاجْتِهَادِ ، وَلَوْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى فَوَاتِ رَمَضَانَ فَصَامَ شَهْرًا قَضَاءً فَبَانَ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَجْزَأَهُ كَمَا مَرَّ عَنْ الرُّويَانِيِّ ، وَلَوْ تَحَرَّى لِشَهْرِ نَذْرٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى النَّذْرَ وَرَمَضَانُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ قَضَاءٍ فَأَتَى بِهِ فِي رَمَضَانَ .

وَلَوْ نَوَتْ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ لَيْلًا صَحَّ إنْ تَمَّ لَهَا فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ ، وَكَذَا قَدْرُ الْعَادَةِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ نَوَتْ الْحَائِضُ ) أَوْ النُّفَسَاءُ فِي اللَّيْلِ ( صَوْمَ غَدٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ دَمِهَا ثُمَّ انْقَطَعَ ) دَمُهَا ( لَيْلًا صَحَّ ) صَوْمُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ ( إنْ تَمَّ ) لَهَا ( فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ ) أَوْ النِّفَاسِ ؛ لِأَنَّهَا جَازِمَةٌ بِأَنَّ غَدِهَا كُلَّهُ طُهْرٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَمْ غَيْرَهَا .
لَكِنَّ كَلَامَهُ يُوهِمُ اشْتِرَاطَ الِانْقِطَاعِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ؛ لِأَنَّهُ مَتَى تَمَّ فِي اللَّيْلِ أَكْثَرُ الْحَيْضِ صَحَّتْ نِيَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الصَّوْمَ .
وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لِأَجْلِ قَوْلِهِ ( وَكَذَا ) إنْ تَمَّ لَهَا ( قَدْرُ الْعَادَةِ ) الَّتِي هِيَ دُونُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ الْعَادَةِ سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ أَمْ اخْتَلَفَتْ وَاتَّسَقَتْ وَلَمْ تَنْسَ اتِّسَاقَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ وَلَمْ يَتِمَّ أَكْثَرُ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ لَيْلًا ، أَوْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُتَّسِقَةٍ أَوْ مُتَّسِقَةٌ وَنَسِيَتْ اتِّسَاقَهَا وَلَمْ يَتِمَّ أَكْثَرُ عَادَتِهَا لَيْلًا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْزِمْ وَلَا بَنَتْ عَلَى أَصْلٍ وَلَا أَمَارَةٍ .

فَصْلٌ : شَرْطُ الصَّوْمِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي مُعَبِّرًا عَنْهُ بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ مَا قِيلَ : إنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ النِّيَّةَ شَرْطًا وَالْإِمْسَاكَ شَرْطًا فَلَا حَقِيقَةَ لِلصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ غَيْرُ النِّيَّةِ وَالْإِمْسَاكِ ، فَإِذَا كَانَا شَرْطَيْنِ فَأَيْنَ الصَّوْمُ ؟ فَقَالَ : ( فَصْلٌ ) شَرْطُ الصَّوْمِ أَيْ : شَرْطُ صِحَّتِهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ ( الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ ) بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ بِغَيْرِ إنْزَالٍ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } ) وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ .
نَعَمْ فِي إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ أَوْ الدُّبُرِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ خِلَافٌ فَقِيلَ : لَا يُفْطِرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِيهِ التَّعْزِيرَ فَقَطْ .

( وَالِاسْتِقَاءَةِ ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ بَطَلَ ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ فَلَا بَأْسَ ، وَكَذَا لَوْ اقْتَلَعَ نُخَامَةً وَلَفَظَهَا فِي الْأَصَحِّ فَلَوْ نَزَلَتْ مِنْ دِمَاغِهِ وَحَصَلَتْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ مِنْ الْفَمِ فَلْيَقْطَعْهَا مِنْ مَجْرَاهَا وَلْيَمُجَّهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَوَصَلَتْ الْجَوْفَ أَفْطَرَ فِي الْأَصَحِّ .

( وَالِاسْتِقَاءَةِ ) لِخَبَرِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ { مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ - أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ - ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ } ( 1 ) هَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ عَامِدًا مُخْتَارًا لِذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ ، وَمَالَ فِي الْبَحْرِ إلَى أَنَّ الْجَاهِلَ يُعْذَرُ مُطْلَقًا ، وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ كَمَا قَيَّدَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِمَا ذُكِرَ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ شَيْءٌ إلَى جَوْفِهِ ) بِالِاسْتِقَاءَةِ كَأَنْ تَقَايَأَ مُنَكَّسًا ( بَطَلَ ) صَوْمُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُفْطِرَ عَيْنُهَا كَالْإِنْزَالِ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُفْطِرَ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا خَرَجَ وَإِنْ قَلَّ ( وَإِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ فَلَا بَأْسَ ) أَيْ لَمْ يَضُرَّ لِلْخَبَرِ الْمَارِّ ( وَكَذَا لَوْ اقْتَلَعَ نُخَامَةً ) مِنْ الْبَاطِنِ وَهِيَ الْفَضْلَةُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي يَلْفِظُهَا الشَّخْصُ مِنْ فِيهِ ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا النُّخَاعَةُ بِالْعَيْنِ ( وَلَفَظَهَا ) أَيْ رَمَاهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ( فِي الْأَصَحِّ ) سَوَاءٌ أَقَلَعَهَا مِنْ دِمَاغِهِ أَمْ مِنْ بَاطِنِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ تَتَكَرَّرُ فَرُخِّصَ فِيهِ ، وَالثَّانِي : يُفْطِرُ بِهِ كَالِاسْتِقَاءَةِ ، وَرَجَّحَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ الْقَطْعَ بِالْأَوَّلِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : اقْتَلَعَ عَمَّا لَوْ لَفَظَهَا مَعَ نُزُولِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ بِغَلَبَةِ سُعَالٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ جَزْمًا ، وَبِلَفْظِهَا عَمَّا إذَا بَقِيَتْ فِي مَحَلِّهَا فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ جَزْمًا ، وَعَمَّا إذَا ابْتَلَعَهَا بَعْدَ أَنْ خَرَجَتْ إلَى الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ جَزْمًا ، ( فَلَوْ نَزَلَتْ مِنْ دِمَاغِهِ وَحَصَلَتْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ مِنْ الْفَمِ ) بِأَنْ انْصَبَّتْ مِنْ الدِّمَاغِ فِي الثُّقْبَةِ النَّافِذَةِ مِنْهُ إلَى أَقْصَى الْفَمِ فَوْقَ الْحُلْقُومِ ( فَلْيَقْطَعْهَا مِنْ مَجْرَاهَا وَلْيَمُجَّهَا ) إنْ

أَمْكَنَ حَتَّى لَا يَصِلَ شَيْءٌ إلَى الْبَاطِنِ ( فَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ) عَلَى ذَلِكَ ( فَوَصَلَتْ الْجَوْفَ أَفْطَرَ فِي الْأَصَحِّ ) لِتَقْصِيرِهِ ، وَالثَّانِي لَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الْفِعْلِ ، فَلَوْ لَمْ تَصِلْ إلَى حَدِّ الظَّاهِرِ مِنْ الْفَمِ ، وَهُوَ مَخْرَجُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَذَا الْحَاءُ الْمُهْمَلَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ بِأَنْ كَانَتْ فِي حَدِّ الْبَاطِنِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْهَاءِ وَالْهَمْزَةِ أَوْ حَصَلَتْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَطْعِهَا وَمَجِّهَا لَمْ يَضُرَّ .

وَعَنْ وُصُولِ الْعَيْنِ إلَى مَا يُسَمَّى جَوْفًا ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ تُحِيلُ الْغِذَاءَ أَوْ الدَّوَاءَ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالْبَطْنِ وَالْأَمْعَاءِ وَالْمَثَانَةِ مُفْطِرٌ بِالِاسْتِعَاطِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الْحُقْنَةِ أَوْ الْوُصُولِ مِنْ جَائِفَةٍ أَوْ مَأْمُومَةٍ وَنَحْوِهِمَا .

( وَ ) الْإِمْسَاكِ ( عَنْ وُصُولِ الْعَيْنِ ) وَإِنْ قَلَّتْ كَسِمْسِمَةٍ أَوْ لَمْ تُؤْكَلْ كَحَصَاةٍ .
( إلَى مَا يُسَمَّى جَوْفًا ) ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ مَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ، وَخَرَجَ بِالْعَيْنِ الْأَثَرُ ، كَالرِّيحِ بِالشَّمِّ ، وَحَرَارَةِ الْمَاءِ وَبُرُودَتِهِ بِالذَّوْقِ ، وَبِالْجَوْفِ عَمَّا لَوْ دَاوَى جُرْحَهُ الَّذِي عَلَى لَحْمِ السَّاقِ أَوْ الْفَخِذِ فَوَصَلَ الدَّوَاءُ إلَى دَاخِلِ الْمُخِّ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ غَرَزَ فِيهِ حَدِيدَةً فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْفٍ .
فَإِنْ قِيلَ يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ فَبَصَقَ حَتَّى صَارَ رِيقُهُ صَافِيًا ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ غَيْرُ رِيقِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّيقَ لَمَّا تَنَجَّسَ حَرُمَ ابْتِلَاعُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ الْأَجْنَبِيَّةِ ( وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ ) أَيْ الْجَوْفِ ( قُوَّةٌ تُحِيلُ الْغِذَاءَ ) وَهُوَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ( أَوْ الدَّوَاءَ ) بِالْمَدِّ وَاحِدُ الْأَدْوِيَةِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا تُحِيلُهُ لَا تَتَغَذَّى بِهِ النَّفْسُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فَأَشْبَهَ الْوَاصِلَ إلَى غَيْرِ الْجَوْفِ ( فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالْبَطْنِ وَالْأَمْعَاءِ ) أَيْ الْمَصَارِينِ جَمْعُ مِعًى بِوَزْنِ رِضًا ( وَالْمَثَانَةِ ) بِالْمُثَلَّثَةِ ، وَهِيَ مَجْمَعُ الْبَوْلِ ( مُفْطِرٌ بِالِاسْتِعَاطِ ) رَاجِعٌ لِلدِّمَاغِ ( أَوْ الْأَكْلِ ) رَاجِعٌ لِلْبَطْنِ ( أَوْ الْحُقْنَةِ ) رَاجِعٌ لِلْأَمْعَاءِ وَالْمَثَانَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْبَوْلَ يُعَالَجُ بِهَا كَمَا يُعَالَجُ بِهَا الْغَائِطُ ، فَفِي كَلَامِهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَقَوْلُهُ ( أَوْ الْوُصُولِ مِنْ جَائِفَةٍ ) يَرْجِعُ لِلْبَطْنِ ( أَوْ مَأْمُومَةٍ ) يَرْجِعُ لِلرَّأْسِ ( وَنَحْوِهِمَا ) ؛ لِأَنَّهُ جَوْفٌ مُحِيلٌ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِالِاحْتِقَانِ ؛ لِأَنَّ الْحُقْنَةَ هِيَ الْأَدْوِيَةُ الَّتِي يَحْتَقِنُ بِهَا

الْمَرِيضُ ، وَالْفِعْلُ هُوَ الِاحْتِقَانُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِ كَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ : بَاطِنُ الدِّمَاغِ أَنَّ وُصُولَ عَيْنٍ إلَى خَرِيطَةِ الدِّمَاغِ الْمُسَمَّاةِ أُمَّ الرَّأْسِ دُونَ بَاطِنِهَا الْمُسَمَّى بَاطِنَ الدِّمَاغِ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِرَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ فَوَضَعَ عَلَيْهَا دَوَاءً فَوَصَلَ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ أَفْطَرَ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاطِنَ الْخَرِيطَةِ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْعَاءُ لَا يُشْتَرَطُ بَاطِنُهَا بَلْ لَوْ كَانَ عَلَى بَطْنِهِ جَائِفَةٌ ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا دَوَاءً فَوَصَلَ جَوْفَهُ أَفْطَرَ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاطِنَ الْأَمْعَاءِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ .

وَالتَّقْطِيرُ فِي بَاطِنِ الْأُذُنِ وَالْإِحْلِيلِ مُفْطِرٌ فِي الْأَصَحِّ .
( وَالتَّقْطِيرُ فِي بَاطِنِ الْأُذُنِ ) وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ ( وَ ) بَاطِنِ ( الْإِحْلِيلِ ) وَهُوَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ مِنْ الذَّكَرِ وَاللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَثَانَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْحَشَفَةَ أَوْ الْحَلَمَةَ ( مُفْطِرٌ فِي الْأَصَحِّ ) بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ اعْتِبَارُ كُلِّ مَا يُسَمَّى جَوْفًا ، وَالثَّانِي : لَا ، بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْإِحَالَةِ ، وَأُلْحِقَ بِالْجَوْفِ عَلَى الْأَوَّلِ الْحَلْقُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَمُجَاوَزَةُ الْحُلْقُومِ ، وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ طَرَفَ أُصْبُعِهِ دُبُرَهُ بَطَلَ صَوْمُهُ ، وَكَذَا حُكْمُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ طَعَنَ نَفْسَهُ أَوْ طَعَنَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ فَوَصَلَ السِّكِّينُ جَوْفَهُ أَوْ أَدْخَلَ فِي إحْلِيلِهِ أَوْ أُذُنِهِ عُودًا أَوْ نَحْوَهُ فَوَصَلَ إلَى الْبَاطِنِ بَطَلَ صَوْمُهُ .

فَرْعٌ : لَوْ ابْتَلَعَ بِاللَّيْلِ طَرَفَ خَيْطٍ فَأَصْبَحَ صَائِمًا ، فَإِنْ ابْتَلَعَ بَاقِيَهُ أَوْ نَزَعَهُ أَفْطَرَ ، وَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَطَرِيقُهُ فِي صِحَّةِ صَوْمِهِ وَصَلَاتِهِ أَنْ يُنْزَعَ مِنْهُ وَهُوَ غَافِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَافِلًا وَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ النَّازِعِ أَفْطَرَ ؛ لِأَنَّ النَّزْعَ مُوَافِقٌ لِغَرَضِ النَّفْسِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الدَّفْعِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ طَعَنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَدْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَارِفٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيُرِيدُ هُوَ الْخَلَاصَ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْبِرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ ، بَلْ لَوْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالنَّزْعِ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَبْعُدْ تَنْزِيلًا لِإِيجَابِ الشَّرْعِ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَطَأَهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَوَجَدَهَا حَائِضًا لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِ الْوَطْءِ ا هـ .
هَذَا الْقِيَاسُ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ إلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ .

وَشَرْطُ الْوَاصِلِ كَوْنُهُ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ فَلَا يَضُرُّ وُصُولُ الدُّهْنِ بِتَشَرُّبِ الْمَسَامِّ .
وَلَا الِاكْتِحَالُ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ بِحَلْقِهِ .
( وَشَرْطُ الْوَاصِلِ كَوْنُهُ مِنْ مَنْفَذٍ ) بِفَتْحِ الْفَاءِ كَمَا ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ كَالْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ ( مَفْتُوحٌ فَلَا يَضُرُّ وُصُولُ الدُّهْنِ ) إلَى الْجَوْفِ ( بِتَشَرُّبِ الْمَسَامِّ ) وَهِيَ ثُقَبُ الْبَدَنِ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَهِيَ جَمْعُ سَمٍّ بِتَثْلِيثِ السِّينِ ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ كَمَا لَوْ طَلَى رَأْسَهُ أَوْ بَطْنَهُ بِهِ كَمَا لَا يَضُرُّ اغْتِسَالُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَإِنْ وَجَدَ لَهُ أَثَرًا بِبَاطِنِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْوَاصِلَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ مَنْفَذٍ ( وَلَا ) يَضُرُّ ( الِاكْتِحَالُ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ ) أَيْ الْكُحْلِ ( بِحَلْقِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَامِّ .
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ وَهُوَ صَائِمٌ } فَلَا يُكْرَهُ الِاكْتِحَالُ لِلصَّائِمِ .

وَكَوْنُهُ بِقَصْدٍ : فَلَوْ وَصَلَ جَوْفَهُ ذُبَابٌ ، أَوْ بَعُوضَةٌ ، أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ لَمْ يُفْطِرْ .
( وَكَوْنُهُ ) أَيْ الْوَاصِلِ ( بِقَصْدٍ ، فَلَوْ وَصَلَ جَوْفَهُ ذُبَابٌ أَوْ بَعُوضَةٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ لَمْ يُفْطِرْ ) وَإِنْ أَمْكَنَهُ اجْتِنَابُ ذَلِكَ بِإِطْبَاقِ الْفَمِ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ ، وَلَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَ التُّرَابُ جَوْفَهُ لَمْ يُفْطِرْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ جِنْسِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَشَبَّهُوهُ بِالْخِلَافِ فِي الْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ الْمَقْتُولَةِ عَمْدًا ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ مَحِلَّ عَدَمِ الْإِفْطَارِ بِهِ إذَا كَانَ قَلِيلًا ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَقَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَتْ مَقْعَدَةُ الْمَبْسُورِ فَرَدَّهَا قَصْدًا أَنَّهُ يُفْطِرُ ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي التَّهْذِيبِ وَالْكَافِي أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يَبْطُلُ طُهْرُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِخُرُوجِ الدَّمِ .
فَائِدَةٌ : جَمَعَ الْمُصَنِّفُ الذُّبَابَ وَأَفْرَدَ الْبَعُوضَةَ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْقُرْآنِ .
قَالَ تَعَالَى : ( { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } ) ، وَقَالَ تَعَالَى ( { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ) .
فَائِدَةٌ أُخْرَى : الْغَرْبَلَةُ إدَارَةُ الْحَبِّ فِي الْغِرْبَالِ لِيُنْتَقَى خَبِيثُهُ وَيَبْقَى طَيِّبُهُ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ : مَنْ غَرْبَلَ النَّاسَ نَخَلُوهُ : أَيْ مَنْ فَتَّشَ عَنْ أُمُورِهِمْ وَأُصُولِهِمْ جَعَلُوهُ نُخَالَةً .
وَفِي الْحَدِيثِ { كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ تُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً } أَيْ يَذْهَبُ خِيَارُهُمْ وَيَبْقَى أَرَاذِلُهُمْ .

وَلَا يُفْطِرُ بِبَلْعِ رِيقِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْ الْفَمِ ثُمَّ رَدَّهُ وَابْتَلَعَهُ أَوْ بَلَّ خَيْطًا بِرِيقِهِ وَرَدَّهُ إلَى فَمِهِ وَعَلَيْهِ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِلُ أَوْ ابْتَلَعَ رِيقَهُ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ أَوْ مُتَنَجِّسًا أَفْطَرَ .
( وَلَا يُفْطِرُ بِبَلْعِ رِيقِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ ) بِالْإِجْمَاعِ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، وَمَعْدِنُهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ قَرَارُهُ ، وَمِنْهُ يَنْبُعُ ، وَهُوَ الْحَنَكُ الْأَسْفَلُ تَحْتَ اللِّسَانِ ( فَلَوْ خَرَجَ عَنْ الْفَمِ ) وَلَوْ إلَى ظَاهِرِ الشَّفَةِ ( ثُمَّ رَدَّهُ ) إلَيْهِ بِلِسَانِهِ أَوْ غَيْرِهِ ( وَابْتَلَعَهُ أَوْ بَلَّ خَيْطًا بِرِيقِهِ وَرَدَّهُ إلَى فَمِهِ ) كَمَا يُعْتَادُ عِنْدَ الْفَتْلِ ( وَعَلَيْهِ رُطُوبَةٌ تَنْفَصِلُ ) وَابْتَلَعَهَا ( أَوْ ابْتَلَعَ رِيقَهُ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ ) الطَّاهِرِ : كَأَنْ فَتَلَ خَيْطًا مَصْبُوغًا تَغَيَّرَ بِهِ رِيقُهُ ( أَوْ ) ابْتَلَعَهُ ( مُتَنَجِّسًا ) كَمَنْ أَكَلَ شَيْئًا نَجِسًا وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ ، أَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ وَإِنْ ابْيَضَّ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ صَافِيًا ( أَفْطَرَ ) فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ .
أَمَّا الْأُولَى ؛ فَلِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مَعْدِنِهِ وَصَارَ كَالْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ .
نَعَمْ لَوْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ الرِّيقُ ثُمَّ رَدَّهُ وَابْتَلَعَ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَصَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ الْقَطْعَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الْفَمِ ، فَإِنَّ اللِّسَانَ كَدَاخِلِ الْفَمِ خِلَافًا لِمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ مِنْ الْفِطْرِ .

قَالَ فِي الْأَنْوَارِ : وَلَوْ غَسَلَ السِّوَاكَ وَاسْتَاكَ بِهِ : أَيْ مَعَ بَقَاءِ الرُّطُوبَةِ فَكَالْخَيْطِ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَقَدْ ابْتَلَعَهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ الْمَعْدِنَ ، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ ؛ فَلِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الرِّيقِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِدَمِ لِثَتِهِ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا أَنَّهُ يُسَامَحُ بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، وَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ ، وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ ا هـ .
وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ .

وَلَوْ جَمَعَ رِيقَهُ فَابْتَلَعَهُ لَمْ يُفْطِرْ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ جَمَعَ رِيقَهُ ) وَلَوْ بِنَحْوِ مَصْطَكَى ( فَابْتَلَعَهُ لَمْ يُفْطِرْ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْدِنِهِ فَهُوَ كَابْتِلَاعِهِ مُتَفَرِّقًا مِنْ مَعْدِنِهِ ، وَالثَّانِي : يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ هَيِّنٌ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : جَمَعَهُ عَمَّا لَوْ اجْتَمَعَ بِلَا قَصْدٍ كَالْمُجْتَمِعِ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ جَزْمًا .

وَلَوْ سَبَقَ مَاءُ الْمَضْمَضَةِ أَوْ الِاسْتِنْشَاقِ إلَى جَوْفِهِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا .
( وَلَوْ سَبَقَ مَاءُ الْمَضْمَضَةِ أَوْ الِاسْتِنْشَاقِ ) الْمَشْرُوعِ ( إلَى جَوْفِهِ ) مِنْ بَاطِنٍ أَوْ دِمَاغٍ ( فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إنْ بَالَغَ ) فِي ذَلِكَ ( أَفْطَرَ ) ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمُبَالَغَةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُبَالِغْ ( فَلَا ) يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ مَأْمُورٍ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَقِيلَ : يُفْطِرُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ بِفِعْلِهِ ، وَقِيلَ : لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ .
أَمَّا سَبْقُ مَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ : كَأَنْ جَعَلَ الْمَاءَ فِي فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ لَا لِغَرَضٍ أَوْ سَبَقَ مَاءُ غُسْلِ التَّبَرُّدِ أَوْ الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ أَوْ الِاسْتِنْشَاقِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِذَلِكَ ، بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الرَّابِعَةِ ، وَلَا يُفْطِرُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ إنْشَاءِ صَوْمِ نَفْلٍ سَبَقَ مَاءُ تَطْهِيرِ الْفَمِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَإِنْ بَالَغَ فِيهِ .

وَلَوْ بَقِيَ طَعَامٌ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ لَمْ يُفْطِرْ إنْ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ ، وَمَجِّهِ .
( وَلَوْ بَقِيَ طَعَامٌ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ ) مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ( لَمْ يُفْطِرْ إنْ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِيهِ غَيْرُ مُقَصِّرٍ ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ أَفْطَرَ لِتَقْصِيرِهِ ، وَقِيلَ لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : إنْ نَقَّى أَسْنَانَهُ بِالْخِلَالِ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يُفْطِرْ وَإِلَّا أَفْطَرَ .
أَمَّا إذَا ابْتَلَعَهُ قَصْدًا فَإِنَّهُ يُفْطِرُ جَزْمًا .
فَائِدَةٌ : مَا خَرَجَ مِنْ الْأَسْنَانِ إنْ أَخْرَجَهُ بِالْخِلَالِ كُرِهَ أَكْلُهُ أَوْ بِالْأَصَابِعِ فَلَا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .

وَلَوْ أُوجِرَ مُكْرَهًا لَمْ يُفْطِرْ .
( وَلَوْ أُوجِرَ ) كَأَنْ صُبَّ مَاءٌ فِي ، حَلْقِهِ ( مُكْرَهًا ) أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ نَائِمًا ( لَمْ يُفْطِرْ ) لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ مِنْهُ .

وَإِنْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَ أَفْطَرَ فِي الْأَظْهَرِ .
قُلْتُ : الْأَظْهَرُ لَا يُفْطِرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَإِنْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَ ) أَوْ شَرِبَ ( أَفْطَرَ فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَأَفْطَرَ بِهِ كَمَا لَوْ أَكَلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْجُوعِ ( قُلْتُ : الْأَظْهَرُ لَا يُفْطِرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ ، بِخِلَافِ مَنْ أَكَلَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْأَكْلِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالنَّاسِي لَيْسَ مُخَاطَبًا بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ ، وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ أُكْرِهَتْ أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ ، وَقُلْنَا : يُتَصَوَّرُ إكْرَاهُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْفِطْرِ عَلَى الْمَرْجُوحِ لَا كَفَّارَةَ لِلشُّبْهَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ أَفْطَرَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ .

وَإِنْ أَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا أَنْ يُكْثِرَ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ لَا يُفْطِرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْجِمَاعُ كَالْأَكْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ .

( وَإِنْ أَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } ( 1 ) وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ " وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ " ( إلَّا أَنْ يُكْثِرَ ) فَيُفْطِرَ بِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَعَ الْكَثْرَةِ نَادِرٌ ؛ وَلِهَذَا بَطَلَتْ بِكَثِيرِ الْكَلَامِ نَاسِيًا دُونَ قَلِيلِهِ ، وَالْكَثِيرُ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ : ثَلَاثُ لُقَمٍ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ، وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ ( لَا يُفْطِرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِعُمُومِ الْخَبَرِ الْمَارِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ أَنَّ لَهَا حَالًا تُذَكِّرُ الْمُصَلِّيَ أَنَّهُ فِيهَا فَيَنْدُرُ ذَلِكَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ هَلْ يُفْطِرُ أَوْ لَا ، وَحُكْمُهُ كَالنَّاسِي كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالرَّوْضَةِ إذَا كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ الْأَكْلِ فَمَا الصَّوْمُ الَّذِي نَوَاهُ وَالْجَاهِلُ بِحَقِيقَةِ الصَّوْمِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْوِيَهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُفْطِرٍ خَاصٍّ مِنْ الْأَشْيَاءِ النَّادِرَةِ كَالتُّرَابِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى وَيَكُونُ الصَّوْمُ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْمُعْتَادِ ، وَمَا عَدَاهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ( وَالْجِمَاعُ ) نَاسِيًا ( كَالْأَكْلِ ) نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ بِهِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي جِمَاعِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ هَيْئَةٌ يَتَذَكَّرُ بِهَا الْإِحْرَامَ ، فَإِذَا نَسِيَ كَانَ مُقَصِّرًا بِخِلَافِ الصَّائِمِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ تَشْبِيهِ الْجِمَاعِ بِالْأَكْلِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ زَمَنُهُ أَوْ لَا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ مُتَّجَهٌ ، بَلْ مَجِيئُهُ فِي الْجِمَاعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ إنْ نَسِيَ أَحَدُهُمَا

ذَكَّرَهُ الْآخَرُ بِخِلَافِ الْأَكْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ تَقْتَضِي خِلَافَهُ .

وَعَنْ الِاسْتِمْنَاءِ فَيُفْطِرُ بِهِ ، وَكَذَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ وَمُضَاجَعَةٍ لَا فِكْرٍ وَنَظَرٍ بِشَهْوَةٍ .

( وَ ) الْإِمْسَاكُ ( عَنْ الِاسْتِمْنَاءِ ) وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ مُحَرَّمًا كَأَنْ أَخْرَجَهُ بِيَدِهِ ، أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ كَإِخْرَاجِهِ بِيَدِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ ( فَيُفْطِرُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاجَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ مُفْطِرٌ ، فَالْإِنْزَالُ بِنَوْعِ شَهْوَةٍ أَوْلَى ( وَكَذَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ ) يُفْطِرُ بِهِ إذَا كَانَ ( بِلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ وَمُضَاجَعَةٍ ) بِلَا حَائِلٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ ( لَا فِكْرٍ ) وَهُوَ إعْمَالُ الْخَاطِرِ فِي الشَّيْءِ ( وَنَظَرٍ بِشَهْوَةٍ ) إذَا أَمْنَى بِهِمَا أَوْ بِضَمِّ امْرَأَةٍ بِحَائِلٍ بِشَهْوَةٍ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ الثَّلَاثَةُ بِهَا ، إذْ لَا مُبَاشَرَةَ ، فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ مَعَ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَكْرِيرُهَا وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَقِيلَ : إنْ اعْتَادَ الْإِنْزَالَ بِالنَّظَرِ أَفْطَرَ ، وَقِيلَ : إنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ ، وَلَوْ لَمَسَ شَعْرَ امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ فَفِي فِطْرِهِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَجْهَانِ بَنَاهُمَا عَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِهِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ قَبَّلَهَا وَفَارَقَهَا سَاعَةً ثُمَّ أَنْزَلَ ، فَالْأَصَحُّ إنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُسْتَصْحَبَةً وَالذَّكَرُ قَائِمًا حَتَّى أَنْزَلَ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ فِي الْبَحْرِ .
قَالَ : وَلَوْ أَنْزَلَ بِلَمْسِ عُضْوِهَا الْمُبَانِ لَمْ يُفْطِرْ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهَا عُضْوُهَا الْمُبَانُ لِحَرَارَةِ الدَّمِ ، وَقِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبِنَاءِ فِي لَمْسِ الشَّعْرِ أَنَّهُ لَوْ لَمَسَ الْفَرْجَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ وَأَنْزَلَ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ اسْمُهُ أَفْطَرَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى شَيْخِي .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَلَوْ حَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضِ سَوْدَاءَ أَوْ حَكَّهُ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَاضِحِ .
أَمَّا الْمُشْكِلُ فَلَا يَضُرُّ وَطْؤُهُ وَإِمْنَاؤُهُ بِأَحَدِ فَرْجَيْهِ لِاحْتِمَالِ زِيَادَتِهِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ

خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ الْمُعْتَادِ كَخُرُوجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ الْمُعْتَادِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحِلُّهُ إذَا انْسَدَّ الْأَصْلِيُّ .

وَتُكْرَهُ الْقُبْلَةُ لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ ، وَالْأَوْلَى لِغَيْرِهِ قُلْتُ : هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فِي الْأَصَحِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَتُكْرَهُ الْقُبْلَةُ ) فِي الْفَمِ أَوْ غَيْرِهِ ( لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ ) رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً كَمَا هُوَ الْمُتَّجَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ بِحَيْثُ يَخَافُ مَعَهُ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ ، وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ وَنَحْوُهُمَا بِلَا حَائِلٍ كَالْقُبْلَةِ فِيمَا ذُكِرَ ( وَالْأَوْلَى لِغَيْرِهِ ) أَيْ لِمَنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ وَلَوْ شَابًّا ( تَرْكُهَا ) حَسْمًا لِلْبَابِ ، إذْ قَدْ يَظُنُّهَا غَيْرَ مُحَرِّكَةٍ وَهِيَ مُحَرِّكَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الصَّائِمَ يُسَنُّ لَهُ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ مُطْلَقًا ( قُلْتُ : هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلشَّيْخِ وَهُوَ صَائِمٌ وَنَهَى عَنْهَا الشَّابَّ ، وَقَالَ : الشَّيْخُ يَمْلِكُ إرَبَهُ ، وَالشَّابُّ يُفْسِدُ صَوْمَهُ } فَفَهِمَ الْأَصْحَابُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ مَعَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَعَدَلَ هُنَا وَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ قَوْلِ أَصْلَيْهِمَا : تُحَرِّكُ إلَى حَرَّكَتْ لِمَا لَا يَخْفَى يَعْنِي أَنَّا إذَا قُلْنَا : تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ يَكُونُ ذَلِكَ شَامِلًا لِمَنْ حَرَّكَتْ الْقُبْلَةُ شَهْوَتَهُ وَلِمَنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ ، وَالثَّانِي لَيْسَ مُرَادًا ، وَإِذَا قُلْنَا لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ لَمْ تَشْمَلْ الْعِبَارَةُ الثَّانِيَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَحْرِيكَ الْقُبْلَةِ الشَّهْوَةَ أَخَصُّ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ الْمُطْلَقِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ مَنْ عَبَّرَ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ أَيْ بِسَبَبِ الْقُبْلَةِ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّحْرِيكِ .
فَائِدَةٌ : سَأَلَ رَجُلٌ إمَامَنَا الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ : [ الطَّوِيلُ ] سَلْ الْعَالِمَ الْمَكِّيَّ

هَلْ فِي تَزَاوُرٍ وَضَمَّةِ مُشْتَاقِ الْفُؤَادِ جُنَاحُ .
فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ : [ الطَّوِيلُ ] فَقُلْتُ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُذْهِبَ التُّقَى تَلَاصُقُ أَكْبَادٍ بِهِنَّ جِرَاحُ قَالَ الرَّبِيعُ : فَسَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ كَيْفَ أَفْتَى بِهَذَا ، فَقَالَ : هَذَا رَجُلٌ قَدْ أَعْرَسَ فِي هَذَا الشَّهْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ ، فَسَأَلَ هَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ يَضُمَّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فَأَفْتَيْتُهُ بِهَذِهِ الْفُتْيَا ا هـ .
وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ .

وَلَا يُفْطِرُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ ، تَرْكُهَا
( وَلَا يُفْطِرُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ ) أَمَّا الْفَصْدُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْحِجَامَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ( 1 ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ { احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } .
وَهُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ بِسَنَتَيْنِ ، وَزِيَادَةٍ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَ : أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ } .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
نَعَمْ الْأَوْلَى تَرْكُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُضْعِفَانِهِ .

فَائِدَةٌ : وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ فِيهَا شِفَاءٌ وَبَرَكَةٌ وَتَزِيدُ فِي الْعَقْلِ وَفِي الْحِفْظِ } .

وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَأْكُلَ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا بِيَقِينٍ وَيَحِلُّ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجُوزُ إذَا ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْلِ .
قُلْتُ : وَكَذَا لَوْ شَكَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَوْ أَكَلَ بِاجْتِهَادٍ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا وَبَانَ الْغَلَطُ بَطَلَ صَوْمُهُ أَوْ بِلَا ظَنٍّ وَلَمْ يَبِنْ الْحَالُ صَحَّ إنْ وَقَعَ فِي أَوَّلِهِ وَبَطَلَ فِي آخِرِهِ .

( وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَأْكُلَ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا بِيَقِينٍ ) كَأَنْ يُعَايِنَ الْغُرُوبَ لِيَأْمَنَ الْغَلَطَ ( وَيَحِلُّ ) الْأَكْلُ آخِرَهُ ( بِالِاجْتِهَادِ ) بِوِرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَوَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَالثَّانِي : لَا ، لِإِمْكَانِ الصَّيْرِ إلَى الْيَقِينِ .
أَمَّا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَلَا يَجُوزُ وَلَوْ بِظَنٍّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ ، وَقِيَاسُ اعْتِمَادِ الِاجْتِهَادِ جَوَازُ اعْتِمَادِ خَبَرِ الْعَدْلِ بِالْغُرُوبِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْبَحْرِ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ بِهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ فَهُوَ قِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ وَالْأَذَانِ ( وَيَجُوزُ إذَا ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْلِ ) بِالِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ ( قُلْتُ : وَكَذَا لَوْ شَكَّ ) فِيهِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِمَا ذُكِرَ ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ ( وَلَوْ أَكَلَ بِاجْتِهَادٍ أَوَّلًا ) أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ ( أَوْ آخِرًا ) أَيْ آخِرَ النَّهَارِ ( وَبَانَ الْغَلَطُ بَطَلَ صَوْمُهُ ) لِتَحَقُّقِهِ خِلَافَ مَا ظَنَّهُ ، إذْ لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ ( أَوْ بِلَا ظَنٍّ ) كَأَنْ هَجَمَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي آخِرِ اللَّيْلِ حَرَامٌ فِي آخِرِ النَّهَارِ ( وَلَمْ يَبِنْ الْحَالُ صَحَّ إنْ وَقَعَ ) الْأَكْلُ ( فِي أَوَّلِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ ( وَبَطَلَ ) إنْ وَقَعَ الْأَكْلُ ( فِي آخِرِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا مُبَالَاةَ بِالتَّسَمُّحِ فِي هَذَا الْكَلَامِ لِظُهُورِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ أَيْ وَهُوَ أَنَّهُ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَكَلَ ، أَوْ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَكَلَ .

وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فَمِهِ طَعَامٌ فَلَفَظَهُ صَحَّ صَوْمُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ مُجَامِعًا فَنَزَعَ فِي الْحَالِ فَإِنْ مَكَثَ بَطَلَ .

( وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ ) الصَّادِقُ ( وَفِي فَمِهِ طَعَامٌ فَلَفَظَهُ ) أَيْ رَمَاهُ ( صَحَّ صَوْمُهُ ) وَإِنْ سَبَقَ إلَى جَوْفِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَهُ فِي فَمِهِ نَهَارًا لَمْ يُفْطِرْ فَبِالْأَوْلَى إذَا جَعَلَهُ فِيهِ لَيْلًا ، وَمِثْلُ اللَّفْظِ مَا لَوْ أَمْسَكَهُ وَلَمْ يَبْلَعْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا لَوْ ابْتَلَعَ مِنْهُ شَيْئًا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ ( وَكَذَا ) يَصِحُّ صَوْمُهُ ( لَوْ كَانَ ) عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ( مُجَامِعًا فَنَزَعَ فِي الْحَالِ ) ؛ لِأَنَّ النَّزْعَ تَرْكُ الْجِمَاعِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ ، وَسَوَاءٌ أَنْزَلَ حَالَ النَّزْعِ أَمْ لَا لِتَوَلُّدِهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ .
تَنْبِيهٌ : إتْيَانُ الْمُصَنِّفُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَعْلَمَ بِالْفَجْرِ أَوَّلَ طُلُوعِهِ فَيَنْزِعُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مَا لَوْ أَحَسَّ وَهُوَ مُجَامِعٌ بِتَبَاشِيرِ الصُّبْحِ فَنَزَعَ بِحَيْثُ وَافَقَ آخِرُ النَّزْعِ ابْتِدَاءَ الطُّلُوعِ ، وَيَخْرُجُ بِهِ مَا لَوْ مَضَى زَمَنٌ بَعْدَ الطُّلُوعِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ صَوْمُهُ .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ بِالنَّزْعِ التَّرْكَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَطَلَ صَوْمُهُ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَعْلَمُ بِأَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّ طُلُوعَهُ الْحَقِيقِيَّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى عِلْمِنَا بِهِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّا إنَّمَا تَعَبَّدْنَا بِمَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَلَا مَعْنَى لِلصُّبْحِ إلَّا طُلُوعَ الضَّوْءِ لِلنَّاظِرِ ، وَمَا قَبْلَهُ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ وَمَنَازِلِ الْفَجْرِ وَرَصَدَ بِحَيْثُ لَا حَائِلَ فَهُوَ أَوَّلُ الصُّبْحِ الْمُعْتَبَرُ ( فَإِنْ مَكَثَ بَطَلَ ) صَوْمُهُ - أَيْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِوُجُودِ الْمُنَافِي - وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا مَا يَسَعُ الْإِيلَاجَ لَا النَّزْعَ ، فَعَنْ ابْنِ خَيْرَانَ مَنْعُ الْإِيلَاجِ -

أَيْ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَعَنْ غَيْرِهِ جَوَازُهُ .

فَصْلٌ : شَرْطُ الصَّوْمِ : الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الصِّيَامُ مُنَبِّهًا عَلَى شُرُوطِهِ ، فَقَالَ : ( فَصْلٌ ) ( شَرْطُ الصَّوْمِ ) أَيْ شَرْطُ صِحَّتِهِ مِنْ حَيْثُ الْفَاعِلُ ( الْإِسْلَامُ ) فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْكَافِرِ بِحَالٍ ، أَصْلِيًّا كَانَ أَمْ غَيْرَهُ ( وَالْعَقْلُ ) أَيْ التَّمْيِيزُ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ لِفُقْدَانِ النِّيَّةِ ، وَيَصِحُّ مِنْ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ .

وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعَ النَّهَارِ .
( وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ) فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيُشْتَرَطُ مَا ذُكِرَ ( جَمِيعَ النَّهَارِ ) فَلَوْ طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ رِدَّةٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ بَطَلَ صَوْمُهُ ، وَقَدْ يُفْهَمُ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقِ بُطْلَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بَلَلٍ وَإِنْ قَلَّ ، وَلَكِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : عَدَمُ الْبُطْلَانِ أَقْوَى ، فَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْغُسْلِ كَوْنُهُ مَنِيًّا مُنْعَقِدًا ، وَخُرُوجُهُ بِلَا مُبَاشَرَةٍ لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ ا هـ .
وَمَالَ إلَى هَذَا ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَقَدْ جَمَعْتُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي بَابِ الْحَيْضِ فَرَاجِعْهُ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْإِمْسَاكُ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ .

وَلَا يَضُرُّ النَّوْمُ الْمُسْتَغْرِقُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَضُرُّ إذَا أَفَاقَ لَحْظَةً مِنْ نَهَارِهِ .

( وَلَا يَضُرُّ النَّوْمُ الْمُسْتَغْرِقُ ) لِجَمِيعِ النَّهَارِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِبَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ ، وَالثَّانِي يَضُرُّ كَالْإِغْمَاءِ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ سُقُوطِ وِلَايَتِهِ عَلَى مَالِهِ وَعَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ النَّائِمِ فِيهِمَا ، فَإِنْ أَفَاقَ لَحْظَةً مِنْ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ جَزْمًا ( وَالْأَظْهَرُ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْمَذْهَبُ ( أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَضُرُّ إذَا أَفَاقَ لَحْظَةً مِنْ نَهَارِهِ ) أَيَّ لَحْظَةٍ كَانَتْ ، اتِّبَاعًا لِزَمَنِ الْإِغْمَاءِ زَمَنَ الْإِفَاقَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُفِقْ ضَرَّ .
وَالثَّانِي وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ : يَضُرُّ مُطْلَقًا كَالْحَيْضِ .
وَالثَّالِثُ : عَكْسُهُ كَالنَّوْمِ .
وَالرَّابِعُ : إنْ أَفَاقَ فِي أَوَّلِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَمَالَ إلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْفَارِقِيُّ ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الْأَوَّلُ إفَاقَتَهُ لَحْظَةً ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعَقْلِ فَوْقَ النَّوْمِ وَدُونَ الْجُنُونِ ، فَلَوْ قُلْنَا إنَّ الْمُسْتَغْرِقَ مِنْهُ لَا يَضُرُّ كَالنَّوْمِ لَأَلْحَقْنَا الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ ، وَلَوْ قُلْنَا : إنَّ اللَّحْظَةَ مِنْهُ تَضُرُّ كَالْجُنُونِ لَأَلْحَقْنَا الْأَضْعَفَ بِالْأَقْوَى ، فَتَوَسَّطْنَا وَقُلْنَا إنَّ الْإِفَاقَةَ فِي لَحْظَةٍ كَافِيَةٌ وَلَوْ شَرِبَ مُسْكِرًا لَيْلًا ، فَإِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ كَذَا نَقَلَاه وَأَقَرَّاهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُعْلَمُ مِنْهُ الصِّحَّةُ فِي شُرْبِ الدَّوَاءِ أَيْ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ بَطَلَ صَوْمُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ ، وَقِيلَ : لَا يَبْطُلُ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ نُسُكِهِ ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ قَابِلِيَّةُ الْوَقْتِ فَيَصِحُّ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ السَّنَةِ كُلِّهَا لَا مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ .

وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْعِيدِ وَكَذَا التَّشْرِيقُ فِي الْجَدِيدِ .
( وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الْعِيدِ ) أَيْ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَلَوْ عَنْ وَاجِبٍ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ وَلِلْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ ( وَكَذَا التَّشْرِيقُ ) أَيْ أَيَّامُهُ ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ بَعْدَ الْأَضْحَى لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا ( فِي الْجَدِيدِ ) وَلَوْ لِمُتَمَتِّعٍ لِلنَّهْيِ عَنْ صِيَامِهَا كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى } وَفِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ صَوْمُهَا لِلْمُتَمَتِّعِ إذَا عَدِمَ الْهَدْيَ عَنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِيّ وَالْهَدَايَا - أَيْ يَنْشُرُونَهَا - وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِذِكْرِهِ .

وَلَا يَحِلُّ التَّطَوُّعُ يَوْمَ الشَّكِّ بِلَا سَبَبٍ ، فَلَوْ صَامَهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَهُ صَوْمُهُ عَنْ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ ، وَكَذَا لَوْ وَافَقَ عَادَةً تَطَوُّعُهُ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ أَوْ شَهِدَ بِهَا صِبْيَانٌ أَوْ عَبِيدٌ أَوْ فَسَقَةٌ ، وَلَيْسَ إطْبَاقُ الْغَيْمِ بِشَكٍّ .

( وَلَا يَحِلُّ ) أَيْ يَحْرُمُ وَلَا يَصِحُّ ( التَّطَوُّعُ ) بِالصَّوْمِ ( يَوْمَ الشَّكِّ ) لِقَوْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( 1 ) رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَضَعَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِعَدَمِ كَرَاهَةِ صَوْمِ شَعْبَانَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا أَلِفَتْ شَيْئًا هَانَ عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا كَانَ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِمْرَارِ الصَّوْمِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : الْمَعْرُوفُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ الْكَرَاهَةُ لَا التَّحْرِيمُ ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمَتْنِ ، هَذَا إذَا صَامَهُ ( بِلَا سَبَبٍ ) يَقْتَضِي صَوْمَهُ ( فَلَوْ صَامَهُ ) تَطَوُّعًا بِلَا سَبَبٍ ( لَمْ يَصِحَّ ) صَوْمُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَيَوْمِ الْعِيدِ بِجَامِعِ التَّحْرِيمِ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلصَّوْمِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ ( وَلَهُ صَوْمُهُ عَنْ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ ) وَالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ؛ وَلِأَنَّ لَهُ سَبَبًا فَجَازَ كَنَظِيرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، وَإِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ قَضَاءَ الْمُسْتَحَبِّ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إنَّ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ فِيهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً ، وَصُورَةُ قَضَاءِ الْمُسْتَحَبِّ هُنَا أَنْ يَشْرَعَ فِي صَوْمِ نَفْلٍ ثُمَّ يُفْسِدَهُ فَإِنَّهُ يُسَنُّ قَضَاؤُهُ كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ ( وَكَذَا لَوْ وَافَقَ عَادَةً تَطَوُّعُهُ ) .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : سَوَاءٌ أَكَانَ يَسْرِدُ الصَّوْمَ أَمْ يَصُومُ يَوْمًا مُعَيَّنًا كَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ، أَوْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَوَافَقَ صَوْمُهُ يَوْمَ الشَّكِّ فَلَهُ صِيَامُهُ ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ

صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ } ( 1 ) وَقِيسَ بِالْوِرْدِ الْبَاقِي بِجَامِعِ السَّبَبِ ، وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْخَبَرُ بِخَبَرِ { إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا } ( 2 ) لِتَقَدُّمِ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَوْ أَخَّرَ صَوْمَهُ لِيُوقِعَهُ يَوْمَ الشَّكِّ ، فَقِيَاسُ كَلَامِهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَحْرِيمُهُ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ قَطْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا اُسْتُحِبَّ صَوْمُهُ إنْ أَطْبَقَ الْغَيْمُ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ بِوُجُوبِ صَوْمِهِ حِينَئِذٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُرَاعِي الْخِلَافَ إذَا خَالَفَ سُنَّةً صَرِيحَةً ، وَهِيَ هُنَا خَبَرُ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } ( وَهُوَ ) أَيْ يَوْمُ الشَّكِّ ( يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ ) أَيْ بِأَنَّ الْهِلَالَ رُئِيَ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا أَحَدٌ ( أَوْ شَهِدَ بِهَا صِبْيَانٌ أَوْ عَبِيدٌ أَوْ فَسَقَةٌ ) أَوْ نِسَاءٌ وَظُنَّ صِدْقُهُمْ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، أَوْ عَدْلٌ وَلَمْ يُكْتَفَ بِهِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ كَالشَّرْحِ ، أَوْ قَالَ عَدَدٌ مِنْ النِّسْوَةِ أَوْ الصِّبْيَانِ أَوْ الْفُسَّاقِ قَدْ رَأَيْنَاهُ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ لِشَمُولِهَا الِاثْنَيْنِ مِمَّنْ ذَكَرَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْهُ ، نَعَمْ مَنْ اعْتَقَدَ صِدْقَ مَنْ قَالَ إنَّهُ رَآهُ مِمَّنْ ذَكَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْبَغَوِيِّ فِي طَائِفَةٍ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَتَقَدَّمَ فِي أَثْنَائِهِ صِحَّةُ نِيَّةِ الْمُعْتَقِدِ لِذَلِكَ وَوُقُوعُ الصَّوْمِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْهُ .
قَالَ الشَّارِحُ : فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا ذَكَرَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ا هـ .
أَيْ لِأَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ الَّذِي يَحْرُمُ صَوْمُهُ هُوَ عَلَى مَنْ لَمْ يَظُنَّ الصِّدْقَ ، هَذَا مَوْضِعٌ .
وَأَمَّا مَنْ ظَنَّهُ أَوْ اعْتَقَدَهُ

صَحَّتْ النِّيَّةُ مِنْهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ ، وَهَذَانِ مَوْضِعَانِ ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ : إنَّ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ مُتَنَاقِضٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ ، وَفِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ ، وَفِي مَوْضِعٍ يَمْتَنِعُ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرَ سَوَاءٌ أَطْبَقَ الْغَيْمُ أَمْ لَا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَيَّدَهُ صَاحِبُ الْبَهْجَةِ بِعَدَمِ إطْبَاقِهِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ بِالرُّؤْيَةِ فَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ شَكٍّ بَلْ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ وَإِنْ أَطْبَقَ الْغَيْمُ لِخَبَرِ " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ " ( وَلَيْسَ إطْبَاقُ الْغَيْمِ ) لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ ( بِشَكٍّ ) بَلْ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لِخَبَرِ " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ " .
فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ حَرُمَ الصَّوْمُ بِلَا سَبَبٍ إنْ لَمْ يَصِلْهُ بِمَا قَبْلَهُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ لِخَبَرِ { إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَإِنْ وَصَلَهُ بِمَا قَبْلَهُ وَلَيْسَ مُرَادًا حِفْظًا لِأَصْلِ مَطْلُوبِيَّةِ الصَّوْمِ .
الثَّانِي : الْفِطْرُ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ وَاجِبٌ إذْ الْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا حَرَامٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ ، وَلَا يَتَنَاوَلَ بِاللَّيْلِ مَطْعُومًا عَمْدًا بِلَا عُذْرٍ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْجِمَاعَ وَنَحْوَهُ لَا يَمْنَعُ الْوِصَالَ ، لَكِنْ فِي الْبَحْرِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جَمِيعُ أَوْصَافِ الصَّائِمِينَ ، وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيِّ وَابْنُ الصَّلَاحِ نَحْوَهُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَتَعْبِيرُ الرَّافِعِيِّ أَيْ وَغَيْرِهِ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِمْسَاكِ كَتَارِكِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ لَيْلًا مِنْ تَعَاطِي الْفِطْرِ وِصَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ صَوْمَيْنِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ

أَنَّهُ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ أَيْضًا : لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوِصَالِ لِلضَّعْفِ عَنْ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ
( وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ ) إذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ } ( 1 ) زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ " وَأَخَّرُوا السُّحُورَ " وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ فِيهِ فَضِيلَةً وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ ، وَفِيهِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَمَضْمَضَ بِمَاءٍ وَيَمُجَّهُ ، وَأَنْ يَشْرَبَهُ وَيَتَقَايَأَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ .
قَالَ : وَكَأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِكَوْنِهِ يُزِيلُ الْخُلُوفَ ا هـ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كَرَاهَةَ السِّوَاكِ لَا تَزُولُ بِالْغُرُوبِ .
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ .
وَخَرَجَ بِتَحَقُّقِ الْغُرُوبِ ظَنُّهُ بِاجْتِهَادٍ فَلَا يُسَنُّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ بِهِ وَظَنُّهُ بِلَا اجْتِهَادٍ وَشَكُّهُ فَيَحْرُمُ بِهِمَا كَمَا مَرَّ ذَلِكَ .

عَلَى تَمْرٍ ، وَإِلَّا فَمَاءٍ .

وَيُسَنُّ كَوْنُهُ ( عَلَى ) رُطَبٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَعَلَى ( تَمْرٍ ، وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ( فَمَاءٍ ) لِخَبَرِ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَطَبَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ، وَقَضِيَّتُهُ تَقْدِيمُ الرُّطَبِ عَلَى التَّمْرِ كَمَا قَدَّرْتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَتَثْلِيثُ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ نَصِّ الْأُمِّ فِي حَرْمَلَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْبِيرِ جَمَاعَةٍ بِتَمْرَةٍ بِحَمْلِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا عَلَى أَصْلِ السُّنَّةِ ، وَهَذَا عَلَى كَمَالِهَا ، وَنَقَلَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ التَّمْرَ فَعَلَى حُلْوٍ ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَاءٍ يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ مِنْ النَّهْرِ ؛ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الشُّبْهَةِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَانِ شَاذَّانِ .
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : مَنْ بِمَكَّةَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمْرِ فَحَسَنٌ ا هـ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَخْبَارِ ، وَلِلْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ الْفِطْرُ عَلَى التَّمْرِ لِأَجْلِهِ ، وَهُوَ حِفْظُ الْبَصَرِ ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يُضْعِفُهُ وَالتَّمْرَ يَرُدُّهُ ، أَوْ أَنَّ التَّمْرَ إذَا نَزَلَ إلَى مَعِدَةٍ فَإِنْ وَجَدَهَا خَالِيَةً حَصَلَ الْغِذَاءُ ، وَإِلَّا أَخْرَجَ مَا هُنَاكَ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا زِيَادَةٌ عَلَى السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ عَلَى التَّمْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ التَّمْرَ فَعَلَى الْمَاءِ فَإِنَّهُ طَهُورٌ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ .
وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى النُّصُوصِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مَمْنُوعٌ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِيمَا شَرَعَهُ لَنَا رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَرَّحَ الْأَطِبَّاءُ بِأَنَّ أَكْلَ التَّمْرِ يُضْعِفُ الْبَصَرَ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ يَرُدُّهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كَثِيرَهُ يُضْعِفُهُ وَقَلِيلَهُ يُقَوِّيهِ ، وَالشَّيْءُ قَدْ يَنْفَعُ قَلِيلُهُ وَيَضُرُّ كَثِيرُهُ .

وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ مَا لَمْ يَقَعْ فِي شَكٍّ .
وَيُسَنُّ السُّحُورُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً } ( 2 ) وَلِخَبَرِ الْحَاكِمِ فِي صَحِيحِهِ { اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ ، وَبِقَيْلُولَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ } ( وَ ) يُسَنُّ ( تَأْخِيرُ السُّحُورِ مَا لَمْ يَقَعْ فِي شَكٍّ ) فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخَبَرِ ( { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ } ) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ؛ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ ، فَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ كَأَنْ تَرَدَّدَ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ لَمْ يُسَنَّ التَّأْخِيرُ ، بَلْ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } .
تَنْبِيهٌ : السَّحُورُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمَأْكُولُ فِي السَّحَرِ ، وَبِضَمِّهَا الْأَكْلُ حِينَئِذٍ ، وَأَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِالْفَتْحِ .
وَقِيلَ : إنَّ الصَّوَابَ الضَّمُّ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالْبَرَكَةَ فِي الْفِعْلِ ، عَلَى أَنَّ الْآخَرَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، وَهَلْ الْحِكْمَةُ فِي السُّحُورِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ أَوْ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ وَجْهَانِ : وَقَدْ يُقَالُ إنَّهَا لَهُمَا ، وَلَوْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِسَنِّهِ كَمَا قَدَّرْتُهُ وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ لَكَانَ أَوْلَى فَإِنَّ اسْتِحْبَابَهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِكَثِيرِ الْمَأْكُولِ وَقَلِيلِهِ وَبِالْمَاءِ ، فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ { تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةِ مَاءٍ } وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِنِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْإِيمَانِ وَذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ هُنَا .
وَقِيلَ بِدُخُولِ السُّدُسِ الْأَخِيرِ .

وَلْيَصُنْ لِسَانَهُ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ

( وَلْيَصُنْ ) أَيْ الصَّائِمُ نَدْبًا ( لِسَانَهُ عَنْ ) الْفُحْشِ مِنْ ( الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ ) وَالنَّمِيمَةِ وَالشَّتْمِ وَنَحْوِهَا ، لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } .
وَلِخَبَرِ الْحَاكِمِ فِي صَحِيحِهِ { لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ الصِّيَامُ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ } ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْبِطُ الثَّوَابَ .
فَإِنْ قِيلَ : صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلصَّائِمِ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ ، فَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِارْتِكَابِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ ارْتِكَابِ مَا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ كَالِاسْتِقَاءَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَحَدِيثُ { خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْغِيبَةُ ، وَالنَّمِيمَةُ } إلَى آخِرِهِ ضَعِيفٌ وَإِنْ صَحَّ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَالْمُرَادُ بُطْلَانُ الثَّوَابِ لَا الصَّوْمِ .
قَالَ : وَمِنْ هُنَا حَسُنَ عَدُّ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مِنْ آدَابِ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا مُطْلَقًا ، فَإِنْ شَتَمَهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ .
لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ } يَقُولُ بِقَلْبِهِ لِنَفْسِهِ لِتَصْبِرْ وَلَا تُشَاتِمْ فَتَذْهَبَ بَرَكَةُ صَوْمِهَا كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَئِمَّةِ ، أَوْ بِلِسَانِهِ بِنِيَّةِ وَعْظِ الشَّاتِمِ وَدَفْعِهِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ جَمْعٍ وَصَحَّحَهُ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ جَمَعَهُمَا فَحَسَنٌ .
وَقَالَ : إنَّهُ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إمْسَاكِ صَاحِبِهِ عَنْهُ ، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ مَرْدُودٌ بِالْخَبَرِ السَّابِقِ .
فَائِدَةٌ : سُئِلَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ كَمْ وَجَدْتَ فِي ابْنِ آدَمَ مِنْ عَيْبٍ ؟ قَالَ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَاَلَّذِي أَحْصَيْتُهُ مِنْهَا ثَمَانِيَةُ آلَافِ عَيْبٍ .
قَالَ :

وَيَسْتُرُ جَمِيعَ ذَلِكَ حِفْظُ اللِّسَانِ .

وَنَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ .
( وَ ) لْيَصُنْ ( نَفْسَهُ ) نَدْبًا ( عَنْ الشَّهَوَاتِ ) الَّتِي لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ مِنْ الْمَشْمُومَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ كَشَمِّ الرَّيَاحِينِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَلَمْسِهَا وَسَمَاعِ الْغِنَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّرَفُّهِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الصَّوْمِ ، وَهِيَ لِتَنْكَسِرَ النَّفْسُ عَنْ الْهُوَى وَتَقْوَى عَلَى التَّقْوَى ، بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ .

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ عَنْ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ .
( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ عَنْ الْجَنَابَةِ ) وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ( قَبْلَ الْفَجْرِ ) لِيَكُونَ عَلَى طُهْرٍ مِنْ أَوَّلِ الصَّوْمِ ، وَلِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ ، وَخَشْيَةً مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ أُذُنٍ أَوْ دُبُرٍ أَوْ نَحْوِهِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ إنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الْغُسْلُ الْكَامِلُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَقِيَاسُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الِاغْتِسَالِ عَقِبَ الِاحْتِلَامِ نَهَارًا ، فَلَوْ وَصَلَ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ غُسْلِهِ ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ .
وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ : يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ دُخُولُ الْحَمَّامِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَضُرَّهُ فَيُفْطِرَ وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ : هَذَا لِمَنْ يَتَأَذَّى بِهِ دُونَ مَنْ اعْتَادَهُ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّرَفُّهِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الصَّوْمِ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ النُّفَسَاءُ لَيْلًا وَنَوَتْ الصَّوْمَ وَصَامَتْ أَوْ صَامَ الْجُنُبُ بِلَا غُسْلٍ صَحَّ الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الْآيَةَ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ } ( 1 ) وَقِيسَ بِالْجُنُبِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ .
وَأَمَّا خَبَرُ الْبُخَارِيِّ { مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ } فَحَمَلُوهُ عَلَى مَنْ أَصْبَحَ مُجَامِعًا وَاسْتَدَامَ الْجِمَاعَ ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّسْخِ ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .

وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ الْحِجَامَةِ وَالْقُبْلَةِ وَذَوْقِ الطَّعَامِ وَالْعَلْكِ .
( وَ ) يُسْتَحَبُّ ( أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ الْحِجَامَةِ ) وَالْفَصْدِ وَنَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَإِنْ جَزَمَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ بِكَرَاهَتِهِ .
وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ : يُكْرَهُ أَنْ يَحْجُمَ غَيْرَهُ أَيْضًا ( وَ ) عَنْ ( الْقُبْلَةِ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَرَاهَتُهَا بَلْ تَحْرِيمُهَا ( وَ ) عَنْ ( ذَوْقِ الطَّعَامِ ) خَوْفًا مِنْ وُصُولِهِ إلَى جَوْفِهِ أَوْ تَعَاطِيهِ لِغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ ( وَ ) عَنْ ( الْعَلْكِ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ الْمَضْغُ ، وَبِكَسْرِهَا الْمَعْلُوكُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّيقَ ، فَإِنْ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ فِي وَجْهٍ ، وَإِنْ أَلْقَاهُ عَطَّشَهُ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .

وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ فِطْرِهِ : اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ .
( وَ ) يُسْتَحَبُّ ( أَنْ يَقُولَ عِنْدَ فِطْرِهِ ) أَيْ عَقِبَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ ) وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسَلًا .
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ : يَقُولُ حِينَئِذٍ { اللَّهُمَّ ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى } .

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُفَطِّرَ الصَّائِمِينَ بِأَنْ يُعَشِّيَهُمْ لِخَبَرِ { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ أَجْرُ صَائِمٍ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ عَشَائِهِمْ فَطَّرَهُمْ عَلَى شَرْبَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ بِهِ الصَّائِمَ ؟ فَقَالَ : يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ } .

وَأَنْ يُكْثِرَ الصَّدَقَةَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ ، وَأَنْ يَعْتَكِفَ لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
( وَأَنْ يُكْثِرَ الصَّدَقَةَ ) فِي رَمَضَانَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ؛ وَلِأَنَّ الْحَسَنَاتِ مُضَاعَفَةٌ فِيهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْطِيرِ الصَّائِمِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى فِطْرِهِ ( وَ ) أَنْ يُكْثِرَ ( تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ ) وَمُدَارَسَتَهُ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ( فِي رَمَضَانَ ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَلْقَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ } ( وَأَنْ يَعْتَكِفَ ) فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْمَنْهِيَّاتِ وَإِتْيَانِهَا بِالْمَأْمُورَاتِ ( لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ ) لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَلِرَجَاءِ أَنْ يُصَادِفَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إذْ هِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ عِنْدَنَا .
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَأَنْ يُكْثِرَ الصَّدَقَةَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَالِاعْتِكَافَ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا ، لَكِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي رَمَضَانَ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَلَفْظَةُ سِيَّمَا كَلِمَةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِمَّا قَبْلَهَا ، وَالْأَشْهَرُ فِيهَا تَشْدِيدُ الْيَاءِ ؛ وَيَجُوزُ فِي الِاسْمِ بَعْدَهَا الْجَرُّ وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ ، وَالْجَرُّ أَرْجَحُ .

فَصْلٌ : شَرْطُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ : الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَإِطَاقَتُهُ ، وَيُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ لِسَبْعٍ إذَا أَطَاقَ .
( فَصْلٌ ) فِي شُرُوطِ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَمَا يُبِيحُ تَرْكَ صَوْمِهِ ( شَرْطُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ ) الْإِسْلَامُ وَلَوْ فِيمَا مَضَى وَ ( الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ ) كَمَا فِي الصَّلَاةِ ( وَإِطَاقَتُهُ ) أَيْ الصَّوْمِ ، وَالصِّحَّةُ ، وَالْإِقَامَةُ أَخْذًا مِمَّا سَيَأْتِي ، فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُغْمًى عَلَيْهِ وَسَكْرَانَ ، وَلَا عَلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ حِسًّا أَوْ شَرْعًا لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِهِ ، وَلَا عَلَى مَرِيضٍ وَمُسَافِرٍ بِقَيْدٍ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ، وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى السَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْحَائِضِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ مَنْ عَبَّرَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ انْعِقَادِ سَبَبٍ كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي ، وَمَنْ أَلْحَقَ بِهِمْ الْمُرْتَدَّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ سَهَا فَإِنَّ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وُجُوبُ تَكْلِيفٍ ( وَيُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ ) الْمُمَيِّزُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الشَّامِلُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى رَأْيِ ابْنِ حَزْمٍ ( لِسَبْعٍ إذَا أَطَاقَ ) وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ كَالصَّلَاةِ ، وَإِنْ فَرَّقَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إنَّمَا ضُرِبَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ ، وَالصَّوْمُ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَمُكَابَدَةٌ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ ، وَالْأَمْرُ وَالضَّرْبُ وَاجِبَانِ عَلَى الْوَلِيِّ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ .

وَيُبَاحُ تَرْكُهُ لِلْمَرِيضِ إذَا وَجَدَ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا .
( وَيُبَاحُ تَرْكُهُ ) بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ ( لِلْمَرِيضِ ) بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ( إذَا وَجَدَ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا ) وَهُوَ مَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ ، وَهَذَا مَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَوْ يَنَالُ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا فَاقْتَضَى الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ الصَّوَابُ .
قَالَ تَعَالَى : ( { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ) وَقَالَ تَعَالَى : ( { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ) وَسَوَاءٌ أَتَعَدَّى بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَمْ لَا .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَرَضُ مُطْبِقًا فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ أَوْ مُتَقَطِّعًا كَأَنْ كَانَ يُحَمُّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ نَظَرَ إنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ جَازَ لَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ، وَإِنْ عَادَ الْمَرَضُ وَاحْتَاجَ إلَى الْإِفْطَارِ أَفْطَرَ ، وَيَجِبُ الْفِطْرُ إذَا خَشِيَ الْهَلَاكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلِمَنْ غَلَبَهُ الْجُوعُ أَوْ الْعَطَشُ حُكْمُ الْمَرِيضِ .

وَلِلْمُسَافِرِ سَفَرًا طَوِيلًا مُبَاحًا .
( وَ ) يُبَاحُ تَرْكُهُ ( لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا طَوِيلًا مُبَاحًا ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ، وَأَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ إنْ تَضَرَّرَ وَإِلَّا فَالصَّوْمُ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ أَوْ لَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهَذَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ الْمُؤَدَّى .
أَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي عَلَى الْفَوْرِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ فِطْرُهُ فِي السَّفَرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَسَافَرَ فِيهِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ .
قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَأَقَرَّاهُ .

وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَمَرِضَ أَفْطَرَ ، وَإِنْ سَافَرَ فَلَا ، وَلَوْ أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ صَائِمَيْنِ ثُمَّ أَرَادَا الْفِطْرَ جَازَ ، فَلَوْ أَقَامَ وَشُفِيَ حَرُمَ الْفِطْرُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَإِذَا أَفْطَرَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ قَضَيَا كَذَا الْحَائِضُ .

( وَلَوْ أَصْبَحَ ) الْمُقِيمُ ( صَائِمًا فَمَرِضَ أَفْطَرَ ) لِوُجُودِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ ( وَإِنْ سَافَرَ فَلَا ) يُفْطِرُ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ فَغَلَبَ جَانِبُ الْحَضَرِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَلَوْ نَوَى وَسَافَرَ لَيْلًا ، فَإِنْ جَاوَزَ قَبْلَ الْفَجْرِ مَا اُعْتُبِرَ مُجَاوَزَتُهُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَفْطَرَ ، وَإِلَّا فَلَا ( وَلَوْ أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ صَائِمَيْنِ ثُمَّ أَرَادَا الْفِطْرَ جَازَ ) لَهُمَا لِدَوَامِ عُذْرِهِمَا ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ لَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ بِالْقَصْرِ تَارِكٌ الْإِتْمَامَ الَّذِي الْتَزَمَهُ لَا إلَى بَدَلٍ وَالصَّوْمُ لَهُ بَدَلٌ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْفِطْرُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَأَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ نِيَّتُهُ كَالْمُحْصَرِ يُرِيدُ التَّحَلُّلَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ، وَشَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ جَوَازَ الْفِطْرِ لَهُمَا وَلَوْ نَذَرَا إتْمَامَهُ ، وَبِهِ صَرَّحَ وَالِدُ الرُّويَانِيِّ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنْهُ ( فَلَوْ أَقَامَ ) الْمُسَافِرُ ( وَشُفِيَ ) الْمَرِيضُ ( حَرُمَ ) عَلَيْهَا ( الْفِطْرُ عَلَى الصَّحِيحِ ) لِانْتِفَاءِ الْمُبِيحِ ، وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ الْيَوْمِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْرُ ( وَإِذَا أَفْطَرَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ قَضَيَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } ) أَيْ فَأَفْطَرَ ( { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ) ( وَكَذَا ) تَقْضِي ( الْحَائِضٌ ) مَا فَاتَهَا بِهِ إجْمَاعًا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الْحَيْضِ ، وَالنُّفَسَاءُ فِي ذَلِكَ كَالْحَائِضِ .

وَالْمُفْطِرُ بِلَا عُذْرٍ ، وَتَارِكُ النِّيَّةِ .
( وَ ) يَقْضِي ( الْمُفْطِرُ بِلَا عُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى ( وَ ) يَقْضِي ( تَارِكُ النِّيَّةِ ) عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ إذْ صِحَّتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا .

وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ بِالْإِغْمَاءِ
( وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ بِالْإِغْمَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ ، فَانْدَرَجَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : ( { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا } ) الْآيَةَ ، وَخَالَفَ الصَّلَاةَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهَا لِلْمَشَقَّةِ فِيهَا بِتَكَرُّرِهَا ، وَخَالَفَ الْجُنُونَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْهُ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ .

وَالرِّدَّةِ دُونَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ ، وَإِذَا بَلَغَ بِالنَّهَارِ صَائِمًا وَجَبَ إتْمَامُهُ بِلَا قَضَاءٍ ، وَلَوْ بَلَغَ فِيهِ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ أَوْ أَسْلَمَ فَلَا قَضَاءَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَلْزَمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ ، لَا مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا زَالَ عُذْرُهُمَا بَعْدَ الْفِطْرِ ، وَلَوْ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا وَلَمْ يَنْوِيَا لَيْلًا فَكَذَا فِي الْمَذْهَبِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ .

( وَالرِّدَّةِ ) أَيْ يَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ بِهَا إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْوُجُوبَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ فَهُوَ كَالْمُحْدِثِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى السَّكْرَانِ قَضَاءُ مَا فَاتَ بِهِ ( دُونَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ) بِالْإِجْمَاعِ لِمَا فِي وُجُوبِهِ مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ ( وَ ) دُونَ ( الصِّبَا وَالْجُنُونِ ) فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ بِهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَمَّنْ تَلَبَّسَ بِهِمَا وَلَوْ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ أَوْ سَكِرَ ثُمَّ جُنَّ فَالْأَصَحُّ فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْأُولَى قَضَاءُ الْجَمِيعِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَيَّامُ السُّكْرِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مُسْتَمِرٌّ بِخِلَافِ السُّكْرِ ( وَلَوْ بَلَغَ ) الصَّبِيُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَمَا مَرَّ ( بِالنَّهَارِ صَائِمًا ) بِأَنْ نَوَى لَيْلًا ( وَجَبَ ) عَلَيْهِ ( إتْمَامُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَذَرَ إتْمَامَهُ ( بِلَا قَضَاءٍ ) فِي الْأَصَحِّ فِيهِمَا وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، بِخِلَافِهِ عَلَى الثَّانِي .
( وَلَوْ بَلَغَ ) الصَّبِيُّ ، ( فِيهِ ) أَيْ النَّهَارِ ( مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ ) الْمَجْنُونُ فِيهِ ( أَوْ أَسْلَمَ ) الْكَافِرُ فِيهِ ( فَلَا قَضَاءَ ) عَلَيْهِمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الْأَدَاءَ ، وَالتَّكْمِيلُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ رَكْعَةً ثُمَّ جُنَّ ، وَالثَّانِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْفَرْضِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ إلَّا بِيَوْمٍ فَيُكْمِلُ كَمَا يَصُومُ فِي الْجَزَاءِ عَنْ بَعْضِ مُدٍّ يَوْمًا ( وَلَا يَلْزَمُهُمْ ) أَيْ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ ( إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا لِعُذْرٍ فَأَشْبَهُوا الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ .
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ

وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، وَالثَّانِي يَلْزَمُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا وَقْتَ الْإِمْسَاكِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا وَقْتَ الصَّوْمِ ( وَيَلْزَمُ ) الْإِمْسَاكُ ( مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ) الشَّرْعِيِّ كَأَنْ ارْتَدَّ ، أَوْ الْحِسِّيِّ كَأَنْ أَكَلَ عُقُوبَةً لَهُ وَمُعَارَضَةً لِتَقْصِيرِهِ ( أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ ) مِنْ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ يُشْعِرُ بِتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ التَّقْصِيرِ ( لَا مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا زَالَ عُذْرُهُمَا بَعْدَ الْفِطْرِ ) كَأَنْ أَكَلَا : أَيْ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْعُذْرِ بَعْدَ التَّرَخُّصِ لَا يُؤَثِّرُ كَمَا لَوْ قَصَرَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ أَقَامَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ .
لَكِنْ يُسَنُّ لَهُمَا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ اسْتَمَرَّا عَلَى الْفِطْرِ اُسْتُحِبَّ لَهُمَا إخْفَاؤُهُ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ ( وَلَوْ زَالَ ) عُذْرُهُمَا ( قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا ) مَثَلًا ( وَلَمْ يَنْوِيَا لَيْلًا فَكَذَا ) لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ ( فِي الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ تَارِكَ النِّيَّةِ مُفْطِرٌ حَقِيقَةً ، فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَلَ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْأَوَّلِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَنْوِيَا عَمَّا لَوْ نَوَيَا فَأَصْبَحَا صَائِمَيْنِ ، فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ يَجِبُ .
تَنْبِيهٌ : أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ : قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا قَبْلَهُ - أَيْ الْفِطْرِ - فَهُوَ أَشْمَلُ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا قَدَّرْتُهُ وَأَخْصَرُ ، وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ عَلَى الصَّحِيحِ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُ ) الْإِمْسَاكُ ( مَنْ أَكَلَ ) مَثَلًا ( يَوْمَ الشَّكِّ ) إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ( ثُمَّ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ ) ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ جَهِلَهُ ، فَإِذَا بَانَ لَهُ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ ، وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ لِعُذْرِهِ كَمُسَافِرٍ قَدِمَ بَعْدَ الْأَكْلِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ مَعَ الْعِلْمِ

بِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ بِخِلَافِ يَوْمِ الشَّكِّ ، أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْأَكْلِ ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْكِفَايَةِ عَلَى الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِيَوْمِ الشَّكِّ هُنَا يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ يَوْمِ الشَّكِّ الَّذِي يَحْرُمُ صَوْمُهُ ، وَالْمَأْمُورُ بِالْإِمْسَاكِ يُثَابُ عَلَيْهِ لِقِيَامِهِ بِوَاجِبٍ ، وَلَيْسَ فِي صَوْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ ، فَلَوْ ارْتَكَبَ فِيهِ مَحْظُورًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ ( وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ ، بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ ) فَلَا إمْسَاكَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا لِانْتِفَاءِ شَرَفِ الْوَقْتِ كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا ، وَهَذَا مَا نُقِلَ فِي الْمَجْمُوعِ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَقَلَ الْإِسْنَوِيُّ عَنْ نَصِّ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْجَمِيعِ .

فَصْلٌ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ فَمَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ فَلَا تَدَارُكَ لَهُ وَلَا إثْمَ .
( فَصْلٌ ) فِي فِدْيَةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ ( مَنْ فَاتَهُ ) مِنْ الْأَحْرَارِ ( شَيْءٌ مِنْ ) صَوْمِ ( رَمَضَانَ فَمَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ الْقَضَاءِ ) بِأَنْ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ الْمُبَاحُ إلَى مَوْتِهِ ( فَلَا تَدَارُكَ لَهُ ) أَيْ الْفَائِتِ بِالْفِدْيَةِ وَلَا بِالْقَضَاءِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ ( وَلَا إثْمَ ) بِهِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ كَالْحَجِّ ، هَذَا إذَا كَانَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ ، وَسَوَاءٌ اسْتَمَرَّ إلَى الْمَوْتِ أَمْ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي رَمَضَانَ وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ أَوْ حَدَثَ بِهِ عُذْرٌ آخَرُ قَبْلَ فَجْرِ ثَانِي شَوَّالٍ ، بَلْ لَوْ طَرَأَ حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ أَوْ مَرَضٌ قَبْلَ غُرُوبِهِ فَلَا تَمَكُّنَ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ .

أَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ وَهُوَ الْمُتَعَدِّي بِالْفِطْرِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَيَتَدَارَكُ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ النَّذْرِ فِي نَذْرِ صَوْمِ الدَّهْرِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا وَقَاسَ عَلَيْهِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ هُنَا بِتَمْثِيلِهِ بِالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ .

وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ لَمْ يَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي الْجَدِيدِ بَلْ يُخْرِجُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّ طَعَامٍ ، وَكَذَا النَّذْرُ وَالْكَفَّارَةُ .
قُلْت : الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ وَالْوَلِيُّ كُلُّ قَرِيبٍ عَلَى الْمُخْتَارِ .

( وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ ) مِنْ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَقْضِ ( لَمْ يَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ ) أَيْ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْهُ ( فِي الْجَدِيدِ ) لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ .
فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ مَاتَ عَنْ الْحَيِّ الَّذِي تَعَذَّرَ صَوْمُهُ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَامُ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّهُ إجْمَاعٌ ( بَلْ يُخْرِجُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ ) فَاتَهُ صَوْمُهُ ( مُدَّ طَعَامٍ ) وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالرِّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ كَمَا مَرَّ ، وَبِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ نِصْفُ قَدَحٍ مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
وَفِي الْقَدِيمِ : يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ - أَيْ يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ عَنْهُ - بَلْ يُنْدَبُ لَهُ ، وَيَجُوزُ لَهُ الْإِطْعَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّدَارُكِ لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ ( وَكَذَا النَّذْرُ وَالْكَفَّارَةُ ) بِأَنْوَاعِهِمَا فَيَجْرِي فِيهِمَا الْقَوْلَانِ فِي رَمَضَانَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمَارَّةِ ، وَإِنْ قَيَّدَ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ الْكَفَّارَةَ بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ( قُلْت : الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ ) لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَيْسَ لِلْجَدِيدِ حُجَّةٌ مِنْ السُّنَّةِ وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ بِالْإِطْعَامِ ضَعِيفٌ وَمَعَ ضَعْفِهِ فَالْإِطْعَامُ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِالصَّوْمِ ( وَ ) عَلَى الْقَدِيمِ ( الْوَلِيُّ ) الَّذِي يَصُومُ عَنْهُ ( كُلُّ قَرِيبٍ ) لِلْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِبًا وَلَا وَارِثًا

وَلَا وَلِيَّ مَالٍ ( عَلَى الْمُخْتَارِ ) مِنْ احْتِمَالَاتٍ لِلْإِمَامِ لِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِامْرَأَةٍ قَالَتْ لَهُ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ صَوْمِي عَنْ أُمِّكِ } .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَا يُبْطِلُ احْتِمَالَ وِلَايَةِ الْمَالِ وَالْعُصُوبَةِ ، وَقَدْ قِيلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ الْوَرَثَةُ عَلَى أَنْ يَصُومَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فَفِي فَوَائِدِ الْمُهَذَّبِ لِلْفَارِقِيِّ أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ .

وَلَوْ صَامَ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحَّ ، لَا مُسْتَقِلًّا فِي الْأَصَحِّ .
( وَ ) عَلَيْهِ ( لَوْ صَامَ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ ) أَيْ الْقَرِيبِ أَوْ بِإِذْنِ الْمَيِّتِ بِأَنْ أَوْصَى بِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِأُجْرَةٍ أَمْ لَا ( صَحَّ ) قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فَإِنْ قَامَ بِالْقَرِيبِ مَا يَمْنَعُ الْإِذْنَ كَصِبًا وَجُنُونٍ ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِذْنِ وَالصَّوْمِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبٌ فَهَلْ يَأْذَنُ الْحَاكِمُ ؟ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَتَتَعَيَّنُ الْفِدْيَةُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَوْ صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ بِالْإِذْنِ يَوْمًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ .
قَالَ : وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ ( لَا مُسْتَقِلًّا فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ، وَالثَّانِي : يَصِحُّ كَمَا يُوَفِّي دِينَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَحَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْحَجِّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنٍ وَلَا وَصِيَّةٍ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ مُشْكِلٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَجَّ يَدْخُلُهُ الْمَالُ فَأَشْبَهَ قَضَاءَ الدَّيْنِ .
وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَى الْحَجِّ .

وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ أَوْ اعْتِكَافٌ لَمْ يَفْعَلْ عَنْهُ وَلَا فِدْيَةَ ، وَفِي الِاعْتِكَافِ قَوْلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ أَوْ اعْتِكَافٌ لَمْ يُفْعَلْ ) ذَلِكَ ( عَنْهُ وَلَا فِدْيَةَ ) لَهُ لِعَدَمِ وُرُودِهَا بَلْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ ( وَفِي الِاعْتِكَافِ قَوْلٌ ) فِي الْبُوَيْطِيِّ إنَّهُ يُعْتَكَفُ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفٌّ وَمَنْعٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ مُدًّا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) قَالَ الْبَغَوِيّ : وَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُ مَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ فِي الصَّلَاةِ فَيُطْعَمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ عَنْ الْمَيِّتِ رَكْعَتَا الطَّوَافِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ تَبَعًا لِلْحَجِّ ، وَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا فَإِنَّ الْبَغَوِيَّ قَالَ فِي التَّهْذِيبِ : إنْ قُلْنَا لَا يُفْرَدُ الصَّوْمُ عَنْ الِاعْتِكَافِ : أَيْ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَقُلْنَا بِصَوْمِ الْوَلِيِّ ، فَهَذَا يَعْتَكِفُ عَنْهُ صَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ النِّيَابَةُ لَا تُجْزِئُ فِي الِاعْتِكَافِ .

وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الْمُدِّ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ لِلْكِبَرِ .

( وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الْمُدِّ ) لِكُلِّ يَوْمٍ بِلَا قَضَاءٍ ( عَلَى مَنْ أَفْطَرَ ) فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ ، أَوْ نَذَرَ نَذْرَهُ حَالَ قُدْرَتِهِ أَوْ قَضَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ ( لِلْكِبَرِ ) لِكَوْنِهِ شَيْخًا هَرِمًا تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ) فَإِنَّ كَلِمَةَ ( لَا ) مُقَدَّرَةٌ - أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ يُطِيقُونَهُ حَالَ الشَّبَابِ ثُمَّ يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ كَانَا يَقْرَآنِ : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ " بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً ، وَمَعْنَاهُ يُكَلَّفُونَ الصَّوْمَ فَلَا يُطِيقُونَهُ ، وَقِيلَ : لَا تَقْدِيرَ فِي الْآيَةِ ، بَلْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فَنُسِخَ ذَلِكَ ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ ، وَالثَّانِي : الْمَنْعُ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لِعُذْرٍ فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ إذَا مَاتَا قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الشَّيْخَ لَا يُتَوَقَّعُ زَوَالُ عُذْرِهِ بِخِلَافِهِمَا ، وَفِي مَعْنَى الْكَبِيرِ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، فَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ بِعُذْرٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ لَكَانَ أَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِبُرُودَتِهِ أَوْ قِصَرِ أَيَّامِهِ فَهُوَ كَاَلَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ، وَفَائِدَتُهُ اسْتِقْرَارُهَا فِي ذِمَّةِ الْفَقِيرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هُنَا عَكْسَهُ كَالْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ حَالَ التَّكْلِيفِ بِالْفِدْيَةِ وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةٍ وَنَحْوِهَا تَبِعَ فِيهِ الْقَاضِيَ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ

تَعَالَى الْمَالِيَّ إذَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ إذَا كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ ، إذْ سَبَبُهُ فِطْرُهُ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَهَلْ الْفِدْيَةُ فِي حَقِّ مَنْ ذُكِرَ بَدَلٌ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ وَاجِبَةٌ ابْتِدَاءً ؟ وَجْهَانِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَصَحُّهُمَا فِي الْمَجْمُوعِ الثَّانِي ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِيمَا لَوْ قَدَرَ بَعْدُ عَلَى الصَّوْمِ وَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ لَهُ ، فَإِذَا نَذَرَ مَنْ عَجَزَ لِهَرَمٍ أَوْ نَحْوِهِ صَوْمًا لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِالصَّوْمِ ابْتِدَاءً بَلْ بِالْفِدْيَةِ ، وَلَوْ قَدَرَ مَنْ ذُكِرَ عَلَى الصَّوْمِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ قَضَاءً لِذَلِكَ ، وَبِهِ فَارَقَ نَظِيرَهُ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَعْضُوبِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ اشْتَدَّتْ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَنْ ذُكِرَ ، فَلَوْ تَكَلَّفَ وَصَامَ فَقِيَاسُ مَا صَحَّحُوهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ ، لَكِنْ الْأَصَحُّ لَا فِدْيَةَ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ .

وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ فَإِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ أَوْ عَلَى الْوَلَدِ لَزِمَتْهُمَا الْفِدْيَةُ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ ) فَيَجُوزُ لَهُمَا الْإِفْطَارُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى الْوَلَدِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلَدُ وَلَدَ الْمُرْضِعَةِ أَمْ لَا فَتَعْبِيرُهُ بِالْوَلَدِ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ التَّنْبِيهِ بِوَلَدَيْهِمَا ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْتَأْجَرَةً أَمْ لَا ، وَيَجِبُ الْإِفْطَارُ إنْ خَافَتْ هَلَاكَ الْوَلَدِ ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ لِتَمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ تَخَفْ هَلَاكَ الْوَلَدِ .
وَأَمَّا الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ ( فَإِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا ) مِنْ حُصُولِ ضَرَرٍ بِالصَّوْمِ كَالضَّرَرِ الْحَاصِلِ لِلْمَرِيضِ ( عَلَى نَفْسِهِمَا ) وَالْأَوْلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَوْ مَعَ الْوَلَدِ ( وَجَبَ الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ ) كَالْمَرِيضِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مَعَ وَلَدَيْهِمَا فَهُوَ فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا سَيَأْتِي .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي عَدَمِ الْفِدْيَةِ فِيمَا إذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مَعَ غَيْرِهِمَا أَوْ لَا ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا } [ الْبَقَرَة ] إلَى آخِرِهَا ( أَوْ ) خَافَتَا ( عَلَى الْوَلَدِ ) وَحْدَهُ بِأَنْ تَخَافَ الْحَامِلُ مِنْ إسْقَاطِهِ أَوْ الْمُرْضِعُ بِأَنْ يَقِلَّ اللَّبَنُ فَيَهْلَكَ الْوَلَدُ ( لَزِمَتْهُمَا ) مِنْ مَالِهِمَا مَعَ الْقَضَاءِ ( الْفِدْيَةُ فِي الْأَظْهَرِ ) وَإِنْ كَانَتَا مُسَافِرَتَيْنِ أَوْ مَرِيضَتَيْنِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } الْبَقَرَة أَنَّهُ نُسِخَ حُكْمُهُ إلَّا فِي حَقِّهِمَا حِينَئِذٍ ، وَالنَّاسِخُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ الْبَقَرَة ] وَالْقَوْلُ بِنَسْخِهِ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِتَأْوِيلِهِ بِمَا مَرَّ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ ، وَالثَّانِي لَا تَلْزَمُهُمَا كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ

لِأَنَّ فِطْرَهُمَا لِعُذْرٍ ، وَالثَّالِثُ : تَجِبُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ ؛ لِأَنَّ فِطْرَهَا لِمَعْنًى فِيهَا كَالْمَرِيضِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تُسْتَثْنَى الْمُتَحَيِّرَةُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا لِلشَّكِّ فِي أَنَّهَا حَائِضٌ أَوْ لَا .
ذَكَرَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْحَيْضِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا أَفْطَرَتْ سِتَّة عَشَرَ يَوْمًا فَأَقَلَّ ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَيْهَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَنْ الزَّائِدِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ وَأَسْقَطَهُ مِنْ شَرْحِ الرَّوْضِ ، وَفَارَقَ لُزُومَهَا لِلْمُسْتَأْجَرَةِ عَدَمُ لُزُومِ التَّمَتُّعِ لِلْأَجِيرِ بِأَنَّ الدَّمَ ثَمَّ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ ، وَهُنَا الْفِطْرُ مِنْ تَتِمَّةِ إيصَالِ الْمَنَافِعِ اللَّازِمَةِ لِلْمُرْضِعِ ، وَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ مَحِلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْمُتَطَوِّعَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُرْضِعَةٌ مُفْطِرَةٌ أَوْ صَائِمَةٌ لَا يَضُرُّهَا الْإِرْضَاعُ .

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالْمُرْضِعِ مَنْ أَفْطَرَ لِإِنْقَاذِ مُشْرِفٍ عَلَى هَلَاكٍ لَا الْمُتَعَدِّي بِفِطْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ .

( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالْمُرْضِعِ ) فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ فِي الْأَظْهَرِ مَعَ الْقَضَاءِ ( مَنْ أَفْطَرَ لِإِنْقَاذِ ) آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ ( مُشْرِفٍ عَلَى هَلَاكٍ ) بِغَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ بِجَامِعِ الْإِفْطَارِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ إذَا لَمْ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ إلَّا بِفِطْرِهِ إبْقَاءً لِمُهْجَتِهِ فَهُوَ فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ ، وَهُوَ حُصُولُ الْفِطْرِ لِلْمُفْطِرِ وَالْخَلَاصُ لِغَيْرِهِ ، فَلَوْ أَفْطَرَ لِتَخْلِيصِ مَالٍ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِقَ بِهِ إلَّا شَخْصٌ وَاحِدٌ ، وَلَا يَجِبُ الْفِطْرُ لِأَجْلِهِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِقُ بِالْفِطْرِ شَخْصَانِ ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَفْهُومِ تَقْيِيدِ الْقَفَّالِ بِالْمَالِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْبَهِيمَةِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوا الْحَيَوَانَ الْمُحْتَرَمَ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنْهُ مَنْزِلَةَ الْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ ، بَلْ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَأَصْلِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَوْلَا مَا قَدَّرْته ، وَلَا يَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْحَيَوَانِ الْغَيْرِ الْمُحْتَرَمِ ، وَالثَّانِي : لَا يُلْحَقُ بِهَا لِأَنَّ إيجَابَ الْفِدْيَةِ مَعَ الْقَضَاءِ بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِهِ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ بِهِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ ( لَا لِلْمُتَعَدِّي بِفِطْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ ) فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي لُزُومِ الْفِدْيَةِ مَعَ الْقَضَاءِ فِي الْأَصَحِّ بَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْفِدْيَةِ تَوْقِيفٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَالثَّانِي : يُلْحَقُ بِهِمَا فِي اللُّزُومِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِتَعَدِّيهِ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِطْرَ الْمُرْضِعِ وَنَحْوِهَا ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ بِهِ أَمْرَانِ كَالْجِمَاعِ لَمَّا حَصَلَ مَقْصُودُهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
تَعَلَّقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى وَبِأَنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ

مُعْتَبَرَةٍ بِالْإِثْمِ ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّدَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْحَشُ مِنْ الْوَطْءِ مَعَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَبِمَا ذُكِرَ يَنْدَفِعُ مَا اسْتَشْكَلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ عَمْدًا أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ لِلسَّهْوِ فَقَدْ قَالُوا هُنَاكَ : إنَّهُ أَوْلَى بِالْجَبْرِ مِنْ السَّهْوِ .

وَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ مَعَ إمْكَانِهِ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ لَزِمَهُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ ، وَالْأَصَحُّ تَكَرُّرُهُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ .

( وَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ ) أَوْ شَيْئًا مِنْهُ ( مَعَ إمْكَانِهِ ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ ( حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرَ لَزِمَهُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ ) لِأَنَّ سِتَّةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالُوا بِذَلِكَ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَيَأْثَمُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُدُّ بِدُخُولِ رَمَضَانَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ لِاسْتِمْرَارِ عُذْرِهِ كَأَنْ اسْتَمَرَّ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا ، أَوْ الْمَرْأَةُ حَامِلًا أَوْ مُرْضِعًا حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْعُذْرِ جَائِزٌ فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ التَّأْخِيرِ بِعُذْرٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ أَمْ لَا ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ فِي الْمُجَرَّدِ ، لَكِنْ نَقَلَ الشَّيْخَانِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ عَنْ الْبَغَوِيِّ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ أَنَّ مَا فَاتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَحْرُمُ تَأْخِيرُهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ ، وَقَضِيَّتُهُ لُزُومُ الْفِدْيَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْكِتَابِ مَا إذَا نَسِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جَهِلَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُهُمْ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ الْإِثْمُ لَا الْفِدْيَةُ .
فَائِدَةٌ : وُجُوبُ الْفِدْيَةِ هُنَا لِلتَّأْخِيرِ ، وَفِدْيَةُ الشَّيْخِ الْهَرِمِ وَنَحْوِهِ لِأَصْلِ الصَّوْمِ ، وَفِدْيَةُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ لِتَفْوِيتِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ ( وَالْأَصَحُّ تَكَرُّرُهُ ) أَيْ الْمُدِّ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ ( بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ ) لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ لَا تَتَدَاخَلُ ، وَالثَّانِي لَا يَتَكَرَّرُ كَالْحُدُودِ ، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَ الْفِدْيَةَ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ لَمْ يَقْضِ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ وَجَبَتْ ثَانِيًا بِلَا

خِلَافٍ ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْعَامِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ فَصَاعِدًا كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ بَعْدَ إقَامَتِهَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْلِ ثَانِيًا بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّهَا أَخَفُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْفِي لِلْعَدَدِ مِنْهَا حَدٌّ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ .

وَأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ مَعَ إمْكَانِهِ فَمَاتَ أَخْرَجَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ : مُدٌّ لِلْفَوَاتِ وَمُدٌّ لِلتَّأْخِيرِ .

( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ ) أَيْ قَضَاءَ رَمَضَانَ ( مَعَ إمْكَانِهِ ) وَقُلْنَا بِالْجَدِيدِ السَّابِقِ حَتَّى بِلَا رَمَضَانَ آخَرَ ( فَمَاتَ أُخْرِجَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ : مُدٌّ لِلْفَوَاتِ ) لِلصَّوْمِ ( وَمُدٌّ لِلتَّأْخِيرِ ) لِلْقَضَاءِ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوجِبٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالثَّانِي يَكْفِي مُدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَاتَ ، وَالْفَوَاتُ يَقْتَضِي مُدًّا وَاحِدًا كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ بَدَلَ الصَّوْمِ أَعْوَامًا ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ صَوْمُ الْوَلِيِّ وَصَامَ حَصَلَ تَدَارُكُ أَصْلِ الصَّوْمِ وَوَجَبَتْ فِدْيَةُ التَّأْخِيرِ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَخَّرَهُ سَنَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ أَخَّرَ سِنِينَ وَمَاتَ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
تَنْبِيهٌ : تَجِبُ فِدْيَةُ التَّأْخِيرِ بِتَحَقُّقِ الْفَوَاتِ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَمَاتَ لِبَوَاقِي خَمْسٍ مِنْ شَعْبَانَ لَزِمَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مُدًّا عَشَرَةٌ لِأَصْلِ الصَّوْمِ إذَا لَمْ يَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَخَمْسَةٌ لِلتَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَمْ يُمْكِنُهُ إلَّا قَضَاءُ خَمْسَةٍ ، وَتَعْجِيلُ فِدْيَةِ التَّأْخِيرِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي لِيُؤَخِّرَ الْقَضَاءَ مَعَ الْإِمْكَانِ جَائِزٌ فِي الْأَصَحِّ كَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ الْمُحَرَّمِ ، وَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْهَرِمِ ، وَلَا الزَّمِنِ ، وَلَا مَنْ اشْتَدَّتْ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْفِدْيَةِ إذَا أَخَّرُوهَا عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى ، وَلَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِلْحَامِلِ وَلَا لِلْمُرْضِعِ تَعْجِيلُ فِدْيَةِ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ لِعَامَيْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَجَّلَ مَنْ ذُكِرَ فِدْيَةَ يَوْمٍ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ .

وَمَصْرِفُ الْفِدْيَةِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ .
( وَمَصْرِفُ الْفِدْيَةِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ ) فَقَطْ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْآتِيَةِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ الْبَقَرَة ] وَالْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ ، فَإِذَا جَازَ صَرْفُهَا إلَى الْمِسْكِينِ فَالْفَقِيرُ أَوْلَى ، وَلَا يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .

وَلَهُ صَرْفُ أَمْدَادٍ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَجِنْسُهَا جِنْسُ الْفِطْرَةِ .
( وَلَهُ صَرْفُ أَمْدَادٍ ) مِنْ الْفِدْيَةِ ( إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ) لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، فَالْأَمْدَادُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَاتِ ، بِخِلَافِ الْمُدِّ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى شَخْصَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُدٍّ فِدْيَةٌ تَامَّةٌ ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى صَرْفَ الْفِدْيَةِ إلَى الْوَاحِدِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ صَرْفِ فِدْيَتَيْنِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَاحِدُ مِنْ زَكَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ( وَجِنْسُهَا ) أَيْ الْفِدْيَةِ ( جِنْسُ الْفِطْرَةِ ) وَنَوْعُهَا وَصِفَتُهَا بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ وَاجِبٌ شَرْعًا ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُدِّ الَّذِي نُوجِبُهُ هُنَا وَفِي الْكَفَّارَاتِ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ ، وَكَذَا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَمَلْبُوسٍ وَخَادِمٍ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ .
.

فَصْلٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ

( فَصْلٌ ) فِي مُوجِبِ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ ( تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ) مَعَ التَّعْزِيرِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ( بِإِفْسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ) بِالْفِطْرِ لِصَوْمِ نَفْسِهِ ( بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ ) وَلَا شُبْهَةَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْتُ ، قَالَ : وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ : وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ ، قَالَ : هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ : لَا ، ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ : تَصَدَّقْ بِهَذَا فَقَالَ : عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - أَيْ جَبَلَيْهَا - أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فَأَعْتِقْ رَقَبَةً فَصُمْ شَهْرَيْنِ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ } بِالْأَمْرِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { فَأُتِيَ بِعَرَقِ تَمْرٍ قَدْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهِيَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ فِيهِ عِشْرُونَ صَاعًا .
وَالْعَرَقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مِكْتَلٌ يُنْسَجُ مِنْ خَوْصِ النَّخْلِ ، وَسَيَأْتِي مُحْتَرَزُ بَعْضِ هَذَا الضَّابِطِ فِي كَلَامِهِ .
وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ أُمُورًا طَرْدًا وَعَكْسًا ، فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا جَامَعَ الْمُسَافِرُ وَنَحْوُهُ امْرَأَتَهُ فَفَسَدَ صَوْمُهَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ ، وَهَذَا خَرَجَ بِمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ .
فَلَوْ زَادَهُ كَانَ أَوْلَى ، وَمِنْهُ مَا لَوْ ظَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ بِلَا أَمَارَةٍ فَجَامَعَ ثُمَّ بَانَ نَهَارًا فَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْهَتْكَ .
قَالَهُ الْقَاضِي

حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ .
قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ إلَّا الْإِمَامَ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مُفَرَّعًا عَلَى تَجْوِيزِ الْإِفْطَارِ بِالظَّنِّ وَإِلَّا فَلَا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَفَاءً بِالضَّابِطِ ، لَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي بِعَدَمِ وُجُوبِهَا وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ بِالظَّنِّ بَلْ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ بِخِلَافِ الْمُقْتَضِي الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَةِ الشَّكِّ وَبِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ شَكِّهِ فِي دُخُولِ اللَّيْلِ وَخُرُوجِهِ ، وَعُلِّلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَغَوِيَّ لَمْ يُصَرِّحْ فِي التَّهْذِيبِ بِمَسْأَلَةِ الظَّنِّ لَكِنَّهَا مَفْهُومَةٌ بِالْأُولَى مِنْ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا ، وَمِنْهُ مَا لَوْ شَكَّ فِي النَّهَارِ هَلْ نَوَى لَيْلًا أَمْ لَا ثُمَّ جَامَعَ فِي حَالِ الشَّكِّ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَوَى فَإِنَّهُ يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ قَالَ الْغَزِّيُّ : فِيهِ نَظَرٌ ، وَمِنْهُ مَا إذَا نَوَى صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ نَهَارًا بِجِمَاعٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ : أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ عَنْ رَمَضَانَ ، فَلَوْ أَبْدَلَ مِنْ رَمَضَانَ بِ ( عَنْ ) لَخَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَا عَنْ رَمَضَانَ ، وَلَكِنْ يُحْتَاجُ أَنْ يَزِيدَ أَدَاءً لِئَلَّا يُرَدَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ .
وَمِنْ الثَّانِي مَا لَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَنْعَقِدْ فَالْجِمَاعُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمًا وَمَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّ جِمَاعَهُ وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْ الصَّوْمَ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا يُفْسِدُهُ فَكَأَنَّهُ انْعَقَدَ

ثُمَّ فَسَدَ ، عَلَى أَنَّ السُّبْكِيَّ اخْتَارَ أَنَّهُ انْعَقَدَ ثُمَّ فَسَدَ ، وَعَلَى هَذَا لَا إيرَادَ ، وَخَرَجَ بِالْمُكَلَّفِ الصَّبِيُّ فَلَا يَلْزَمُ بِجِمَاعِهِ كَفَّارَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ .

فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ وَلَا مُفْسِدٍ غَيْرَ رَمَضَانَ أَوْ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ ، وَلَا مُسَافِرٍ جَامَعَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ ، وَكَذَا بِغَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا عَلَى مَنْ ظَنَّ اللَّيْلَ فَبَانَ نَهَارًا ، وَلَا مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْأَكْلِ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ بُطْلَانُ صَوْمِهِ ، وَلَا مَنْ زَنَى نَاسِيًا وَلَا مُسَافِرٍ أَفْطَرَ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي مُحْتَرَزِ بَقِيَّةِ الْقُيُودِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ ( فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ ) أَوْ مُكْرَهٍ أَوْ جَاهِلِ التَّحْرِيمِ ، فَهُوَ مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ بِإِفْسَادٍ ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ ، وَمَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ وَأُمِرَ بِالْإِمْسَاكِ فَجَامَعَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَطْعًا ( وَلَا ) عَلَى ( مُفْسِدٍ غَيْرَ رَمَضَانَ ) مِنْ نَفْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ ، وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ الشُّهُورِ ، وَمَخْصُوصٌ بِفَضَائِلَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ( أَوْ ) مُفْسِدِ رَمَضَانَ ( بِغَيْرِ الْجِمَاعِ ) كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْإِنْزَالِ وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ بِجِمَاعٍ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ( وَلَا ) عَلَى صَائِمٍ ( مُسَافِرٍ ) أَوْ مَرِيضٍ ( جَامَعَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ ) وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ أَثِمَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ لِوُجُودِ الْقَصْدِ مَعَ الْإِبَاحَةِ ( وَكَذَا بِغَيْرِهَا ) وَإِنْ قُلْنَا : يَأْثَمُ بِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ مُبَاحٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْكَفَّارَةِ .
وَالثَّانِي : تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُبَاحُ بِدُونِ قَصْدِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ إنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ جَمَعَ وَإِلَّا فَلَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِلَا نِيَّةٍ بِدَلِيلِ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَا كَذَلِكَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ قَدْ تَرِدُ عَلَى الضَّابِطِ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ أَثِمَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّتِمَّةِ وَنَقَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ عَنْ الْأَصْحَابِ ( وَلَا عَلَى مَنْ ظَنَّ ) وَقْتَ الْجِمَاعِ ( اللَّيْلَ ) أَيْ بَقَاءَهُ أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ ظَنَّ بِاجْتِهَادِهِ دُخُولَهُ ( فَبَانَ ) جِمَاعُهُ ( نَهَارًا ) لِانْتِفَاءِ الْإِثْمِ ( وَلَا ) عَلَى ( مَنْ جَامَعَ )

عَامِدًا ( بَعْدَ الْأَكْلِ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ ) أَيْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ ، وَقَوْلُهُ : نَاسِيًا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَكْلِ ( وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ بُطْلَانُ صَوْمِهِ ) بِهَذَا الْجِمَاعِ كَمَا لَوْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ اللَّيْلِ فَبَانَ خِلَافُهُ .
وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ نَاسِيًا وَتَكَلَّمَ عَامِدًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ لِنَصِّ الشَّارِعِ فِي الصَّلَاةِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَاغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَضْيَقُ مِنْ الصَّوْمِ لِتَكَرُّرِهَا وَكَثْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ .
أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ بِالْأَكْلِ ثُمَّ جَامَعَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ جَزْمًا ( وَلَا ) عَلَى ( مَنْ زَنَى نَاسِيًا ) لِلصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِسَبَبِ الصَّوْمِ ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فَتَبِعَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ ( وَلَا ) عَلَى ( مُسَافِرٍ أَفْطَرَ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا ) بِالْفِطْرِ لِأَنَّ الْفِطْرَ جَائِزٌ لَهُ ، وَإِثْمُهُ بِسَبَبِ الزِّنَا لَا بِالصَّوْمِ .
تَنْبِيهٌ : قَيَّدَ فِي الرَّوْضَةِ الْجِمَاعَ بِالتَّامِّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ احْتِرَازًا مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُفْطِرُ بِهِ بِدُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الذَّكَرِ فَرْجَهَا وَلَوْ دُونَ الْحَشَفَةِ ، وَزَيَّفُوهُ بِخُرُوجِ تِلْكَ بِالْجِمَاعِ إذْ الْفَسَادُ فِيهِ بِغَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فَسَادُ صَوْمِهَا بِالْجِمَاعِ بِأَنْ يُولِجَ فِيهَا نَائِمَةً أَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً ثُمَّ تَسْتَيْقِظُ أَوْ تَتَذَكَّرُ وَتَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ وَتَسْتَدِيمُ فَفَسَادُهُ فِيهَا بِالْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْجِمَاعِ جِمَاعٌ مَعَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فِي الْخَبَرِ إلَّا الرَّجُلُ الْمُوَاقِعُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ ، وَلِنُقْصَانِ صَوْمِهَا

بِتَعَرُّضِهِ لِلْبُطْلَانِ بِعُرُوضِ الْحَيْضِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَمْ تَكْمُلْ حُرْمَتُهُ حَتَّى تَتَعَلَّقَ بِهَا الْكَفَّارَةُ فَتَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ الْوَاطِئِ ، وَلِأَنَّهَا غُرْمٌ مَالِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ كَالْمَهْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ، وَلَا عَلَى الرَّجُلِ الْمَوْطُوءِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَلِلِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ حُكْمُ الْجِمَاعِ هُنَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ وَطْءٌ .

وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَنْهُ ، وَفِي قَوْلٍ عَنْهُ وَعَنْهَا وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ شَرَعَ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَقَالَ ( وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَنْهُ ) فَقَطْ دُونَهَا لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ ( وَفِي قَوْلٍ ) الْكَفَّارَةُ ( عَنْهُ وَعَنْهَا ) أَيْ يَلْزَمُهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ لِمُشَارَكَتِهَا لَهُ فِي السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ يَجِبُ كَمَا قَالَ الْمَحَامِلِيُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ثُمَّ يَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا .
وَقِيلَ : يَجِبُ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، وَلَكِنْ يَحْمِلُهَا الزَّوْجُ عَنْهَا وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ ، وَمَحَلُّ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ .
أَمَّا الْمَوْطُوءَةُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ الْمَزْنِيُّ بِهَا فَلَا يُتَحَمَّلُ عَنْهَا قَطْعًا ( وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى ) قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ لِتُسَاوِيهِمَا فِي السَّبَبِ وَالْإِثْمِ كَحَدِّ الزِّنَا وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ .
أَمَّا هِيَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَمَحِلُّ هَذَا الْقَوْلِ إذَا وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ فِي قُبُلِهَا فَإِنْ وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ مَحِلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً وَمَكَّنَتْهُ طَائِعَةً عَالِمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ فَاطِرَةً بِحَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا لِكَوْنِهَا نَائِمَةً مَثَلًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا قَطْعًا .

وَتَلْزَمُ مَنْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَجَامَعَ فِي يَوْمِهِ .
( وَتَلْزَمُ ) الْكَفَّارَةُ ( مَنْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ) مِنْ رَمَضَانَ ( وَجَامَعَ فِي يَوْمِهِ ) لِهَتْكِ حُرْمَةِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَهُ بِالْجِمَاعِ فَصَدَقَ عَلَيْهِ الضَّابِطُ الْمُتَقَدِّمُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ ، كَمَا أَنَّهُ إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ يَجِبُ فِطْرُهُ ، وَإِذَا أَفْطَرَ هَلْ يُعَزَّرُ أَوْ لَا ؟ يُنْظَرُ إنْ شَهِدَ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ يُعَزَّرْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ ثُمَّ شَهِدَ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ وَعُزِّرَ لِإِفْطَارِهِ فِي رَمَضَانَ فِي الظَّاهِرِ ، وَحَقُّهُ إذَا أَفْطَرَ أَنْ يُخْفِيَهُ لِئَلَّا يُتَّهَمَ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ .

وَمَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ ، وَحُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ ، وَكَذَا الْمَرَضُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْفَسَادِ فَقَالَ ( وَمَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ ) لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا تَتَدَاخَلُ كَفَّارَتَاهُمَا ، سَوَاءٌ أَكَفَّرَ عَنْ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الثَّانِي أَمْ لَا ، كَحَجَّتَيْنِ جَامَعَ فِيهِمَا ، فَلَوْ جَامَعَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَزِمَهُ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِهَا ، فَإِنْ تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا تَعَدُّدَ ، وَإِنْ كَانَ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ عَلَى الْمَذْهَبِ .
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ ( وَحُدُوثُ السَّفَرِ ) وَلَوْ طَوِيلًا ( بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ ) جَزْمًا لِأَنَّ السَّفَرَ الْمُنْشَأَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَا يُبِيحُ الْفِطْرَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا وَجَبَ مِنْ الْكَفَّارَةِ ، وَقِيلَ إنَّهُ كَحُدُوثِ الْمَرَضِ ( وَكَذَا الْمَرَضُ ) أَيْ حُدُوثُهُ لَا يُسْقِطُهَا ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ فَيَتَحَقَّقُ هَتْكُ حُرْمَتِهِ .
وَالثَّانِي يُسْقِطُهَا ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ يُبِيحُ الْفِطْرَ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَقَعْ وَاجِبًا ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِمَا فَعَلَ ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ كَالسَّفَرِ ، وَحُدُوثُ الرِّدَّةِ لَا يُسْقِطُهَا قَطْعًا ، وَحُدُوثُ الْجُنُونِ أَوْ الْمَوْتِ يُسْقِطُهَا قَطْعًا ، وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا فَطَرَأَ عَلَيْهَا حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ أَسْقَطَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ فَهُوَ كَالْجُنُونِ .

وَيَجِبُ مَعَهَا قَضَاءُ يَوْمِ الْإِفْسَادِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْجَمِيعِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي الْأَظْهَرِ ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ فَعَلَهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الْعُدُولَ عَنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ لِشِدَّةِ الْغُلْمَةِ .

( وَيَجِبُ ) عَلَى الزَّوْجِ ( مَعَهَا ) أَيْ الْكَفَّارَةِ ( قَضَاءُ يَوْمِ الْإِفْسَادِ عَلَى الصَّحِيحِ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ .
فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْحَاصِلَ قَدْ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ .
وَالثَّالِثُ : إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دَخَلَ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَإِلَّا فَلَا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ جَزْمًا إذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَتَجِبُ عَلَيْهِ لَكَانَ أَوْلَى ( وَهِيَ ) أَيْ الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ مُرَتَّبَةٌ فَيَجِبُ أَوَّلًا ( عِتْقُ رَقَبَةٍ ) مُؤْمِنَةٍ ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ) ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ) صَوْمَهُمَا ( فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) أَوْ فَقِيرًا لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْفَصْلِ ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ صِفَتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ نُدِبَ عِتْقُهَا ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الْإِطْعَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ نُدِبَ لَهُ ( فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْجَمِيعِ ) أَيْ جَمِيعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ ( اسْتَقَرَّتْ ) أَيْ الْكَفَّارَةُ ( فِي ذِمَّتِهِ فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِأَنْ يُكَفِّرَ بِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مَعَ إخْبَارِهِ بِعَجْزِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةَ إذَا عَجَزَ عَنْهَا الْعَبْدُ وَقْتَ وُجُوبِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْتَقِرَّ ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْهُ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ : كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ أَمْ لَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَالْجِمَاعِ وَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ .
فَإِنْ قِيلَ لَوْ اسْتَقَرَّتْ لَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوَاقِعَ بِإِخْرَاجِهَا بَعْدُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ لِوَقْتِ

الْحَاجَةِ جَائِزٌ وَهُوَ وَقْتُ الْقُدْرَةِ ( فَإِذَا قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ ) مِنْهَا ( فَعَلَهَا ) كَمَا لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا حَالَ الْوُجُوبِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ أَحَدُ الْخِصَالِ ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَكَلَامُ التَّنْبِيهِ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ هُوَ الْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ ، وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْكَفَّارَةُ وَأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُعْتَمَدُ .
ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ فَعَلَهَا أَوْ أَكْثَرَ رَتَّبَ ، وَالثَّانِي : لَا تَسْتَقِرُّ ، بَلْ تَسْقُطُ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الْعُدُولَ عَنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ لِشِدَّةِ الْغُلْمَةِ ) وَهِيَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ، وَلَامٍ سَاكِنَةٍ شِدَّةُ الْحَاجَةِ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ حَرَارَةَ الصَّوْمِ وَشِدَّةَ الْغُلْمَةِ قَدْ يُفْضِيَانِ بِهِ إلَى الْوِقَاعِ ، وَلَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهْرَيْنِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِئْنَافَهُمَا لِبُطْلَانِ التَّتَابُعِ ، وَهُوَ حَرَجٌ شَدِيدٌ ، وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ .

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ .
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ ) كَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ { أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ } فَفِي الْأُمِّ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِفَقْرِهِ صَرَفَهُ لَهُ صَدَقَةً ، أَوْ أَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِفَقْرِهِ أَذِنَ لَهُ فِي صَرْفِهَا لَهُمْ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْكِفَايَةِ ، أَوْ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ وَسَوَّغَ لَهُ صَرْفَهَا لِأَهْلِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ لِغَيْرِ الْمُكَفِّرِ التَّطَوُّعَ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، وَأَنَّ لَهُ صَرْفَهَا لِأَهْلِ الْمُكَفِّرِ عَنْهُ أَيْ وَلَهُ فَيَأْكُلُ هُوَ وَهُمْ مِنْهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَالْقَاضِي نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ .
وَحَاصِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ صَرَفَ لَهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَهُوَ الْأَقْرَبُ ا هـ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفُ : وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ قَدْ يَكُونُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الصَّارِفَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُكَفِّرُ

خَاتِمَةٌ : مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَتَابِعًا ، وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ : فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَعْبَانَ أَبَدًا وَأُسِرَ مَثَلًا فَتَحَرَّى وَصَامَ رَجَبًا عَلَى أَنَّهُ شَعْبَانَ ، وَصَامَ شَعْبَانَ عَلَى أَنَّهُ رَمَضَانَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَالُ بَعْدَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ قَضَاءُ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ شَعْبَانَ وَالْآخَرُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا إطْعَامَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ يُسَنُّ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ ، وَالْخَمِيسِ .

بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَالتَّطَوُّعُ : التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِهِ ، وَفِي الصَّلَاةِ بِالنَّفْلِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } الْآيَةَ { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } وَفِي الْحَدِيثِ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ تَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ قَوْلًا .
قَالَ السُّبْكِيُّ : مِنْ أَحْسَنِهَا قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : إنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ خُصَمَاءُ الْمَرْءِ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّوْمُ يَتَحَمَّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ ، وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهَذَا مَرْدُودٌ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَانْتَهَكَ عِرْضَ هَذَا ، وَيَأْتِي وَلَهُ صَلَاةٌ وَزَكَاةٌ وَصَوْمٌ ، قَالَ : فَيَأْخُذُ هَذَا بِكَذَا إلَى أَنْ قَالَ : وَهَذَا بِصَوْمِهِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الْمَظَالِمِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ لَا يَتَكَرَّرُ كَصَوْمِ الدَّهْرِ ، وَقِسْمٌ يَتَكَرَّرُ فِي أُسْبُوعٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَقَالَ : ( يُسَنُّ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَ ) صَوْمُ ( الْخَمِيسِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَتَحَرَّى صَوْمَهُمَا وَقَالَ : إنَّهُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ

.
وَالْمُرَادُ عَرْضُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا رَفْعُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا ، فَإِنَّهُ فِي اللَّيْلِ مَرَّةٌ وَفِي النَّهَارِ مَرَّةٌ ، وَلَا يُنَافِي هَذَا رَفْعَهَا فِي شَعْبَانَ كَمَا فِي خَبَرِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ فَقَالَ : إنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ } لِجَوَازِ رَفْعِ أَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ مُفَصَّلَةً وَأَعْمَالِ الْعَامِ جُمْلَةً ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ { لَا يَفُتْك صِيَامُ الِاثْنَيْنِ ، فَإِنِّي وُلِدْتُ فِيهِ وَبُعِثْتُ فِيهِ وَأَمُوتُ فِيهِ أَيْضًا } وَأَغْرَبَ الْحَلِيمِيُّ فَعَدَّ مِنْ الْمَكْرُوهِ اعْتِيَادَ صَوْمِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِرَمَضَانَ ، وَسُمِّيَ مَا ذُكِرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأُسْبُوعِ ، وَالْخَمِيسَ لِأَنَّهُ خَامِسُهُ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَاقِلًا لَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ الْأَحَدُ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّذْرِ أَنَّ أَوَّلَهُ السَّبْتُ ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : إنَّهُ الصَّوَابُ ، وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا ابْنَ جَرِيرٍ ، وَجَمْعُ الِاثْنَيْنِ أَثَانِينُ ، وَالْخَمِيسِ أَخْمِسَاءُ وَأَخْمِسَةٌ وَأخَامِيسُ .

وَعَرَفَة .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الثَّانِي مِنْهُ ، فَقَالَ ( وَ ) صَوْمُ يَوْمِ ( عَرَفَةَ ) وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ } وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ } وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ } فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِقَرِينَةِ مَا ذُكِرَ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالْمُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ دُونَ الْكَبَائِرِ .
قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ : وَهَذَا مِنْهُ تَحَكُّمٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ لَا يُحْجَرُ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } هَذَا قَوْلٌ عَامٌّ يُرْجَى أَنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَلِلتَّكْفِيرِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْغُفْرَانُ ، وَالثَّانِي : الْعِصْمَةُ حَتَّى لَا يُعْصَى ، وَيُسَنُّ أَيْضًا صَوْمُ الثَّمَانِيَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِغَيْرِ الْحَاجِّ ، فَيُسَنُّ صَوْمُهَا لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ .
أَمَّا الْحَاجُّ فَلَا يُسَنُّ لَهُ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، بَلْ يُسَنُّ لَهُ فِطْرُهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَلِيَقْوَى عَلَى الدُّعَاءِ ، فَصَوْمُهُ لَهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ، بَلْ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ لِلْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَفِيهَا كَالْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِلْ عَرَفَةَ إلَّا لَيْلًا لِفَقْدِ الْعِلَّةِ .
هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ .
أَمَّا هُمَا فَيُسَنُّ لَهُمَا فِطْرُهُ مُطْلَقًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ .

وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ .
( وَ ) صَوْمُ ( عَاشُورَاءَ ) وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ { أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ } وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ بِالْأَمْرِ بِصَوْمِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ } وَحَمَلُوا الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِالْأَمْرِ بِصَوْمِهِ عَلَى تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ .
فَائِدَةٌ : الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِسَنَتَيْنِ ، وَعَاشُورَاءَ بِسَنَةٍ أَنَّ عَرَفَةَ يَوْمٌ مُحَمَّدِيٌّ - يَعْنِي أَنَّ صَوْمَهُ مُخْتَصٌّ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاشُورَاءَ يَوْمٌ مُوسَوِيٌّ ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ ، فَكَانَ يَوْمُهُ بِسَنَتَيْنِ ( وَ ) صَوْمُ ( تَاسُوعَاءَ ) وَهُوَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ التَّاسِعَ } فَمَاتَ قَبْلَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَحِكْمَةُ صَوْمِ يَوْمِ تَاسُوعَاءَ مَعَ عَاشُورَاءَ الِاحْتِيَاطُ لَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، وَلِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ الْعَاشِرَ ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ مَعَهُ تَاسُوعَاءَ سُنَّ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ الْحَادِيَ عَشَرَ ، بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ .
وَعَاشُورَاءُ وَتَاسُوعَاءُ مَمْدُودَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ .

وَأَيَّامِ الْبِيضِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الثَّالِثِ مِنْهُ فَقَالَ ( وَ ) صَوْمُ ( أَيَّامِ ) اللَّيَالِي ( الْبِيضِ ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَتَالِيَاهُ لِلْأَمْرِ بِصَوْمِهَا فِي النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا فَصَوْمُهَا كَصَوْمِ الشَّهْرِ ، وَمِنْ ثُمَّ سُنَّ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَلَوْ غَيْرَ أَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ ، وَأَنْ تَكُونَ أَيَّامَ الْبِيضِ فَإِنْ صَامَهَا أَتَى بِالسُّنَّتَيْنِ ، وَالْأَحْوَطُ صَوْمُهُ الثَّانِيَ عَشَرَ مَعَهَا أَيْضًا لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَبْيَضُّ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ مِنْ أَوَّلِهَا لِآخِرِهَا ، وَيُسْتَثْنَى ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنَّ صَوْمَهُ حَرَامٌ كَمَا مَرَّ ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَصُومُ بَدَلًا عَنْهُ السَّادِسَ عَشَرَ ، وَيُسَنُّ صَوْمُ أَيَّامِ اللَّيَالِي السُّودِ ، وَهُوَ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَتَالِيَاهُ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَصُومَ مَعَهَا السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ احْتِيَاطًا ، وَخُصَّتْ أَيَّامُ الْبِيضِ وَأَيَّامُ السُّودِ بِذَلِكَ لِتَعْمِيمِ لَيَالِي الْأُولَى بِالنُّورِ وَالثَّانِيَةِ بِالسَّوَادِ فَنَاسَبَ صَوْمَ الْأُولَى شُكْرًا ، وَالثَّانِيَةِ لِطَلَبِ كَشْفِ السَّوَادِ ، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ ضَيْفٌ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الرَّحِيلِ فَنَاسَبَ تَزْوِيدَهُ بِذَلِكَ .

وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ ، وَتَتَابُعُهَا أَفْضَلُ .

( وَ ) صَوْمُ ( سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ ) وَهَذَا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَيُسَنُّ صَوْمُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعُهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ } ( 1 ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ خَبَرَ { صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ } أَيْ كَصِيَامِهَا فَرْضًا ، وَإِلَّا فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ ، سَوَاءٌ أَصَامَ رَمَضَانَ أَمْ لَا ، كَمَنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ أَوْ صِبًا أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ كَثِيرِينَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَلَفْظِ الْحَدِيثِ ، وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِصَوْمِهَا مُتَفَرِّقَةً ( وَ ) لَكِنْ ( تَتَابُعُهَا أَفْضَلُ ) عَقِبَ الْعِيدِ مُبَادَرَةً إلَى الْعِبَادَةِ وَلِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ الْآفَاتِ ، وَلَوْ صَامَ فِي شَوَّالٍ قَضَاءً أَوْ نَذْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، هَلْ تَحْصُلُ لَهُ السُّنَّةُ أَوْ لَا ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ ، وَالظَّاهِرُ الْحُصُولُ .
لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ خُصُوصًا مَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ وَصَامَ عَنْهُ شَوَّالًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : يُسْتَحَبُّ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَصُومَ سِتًّا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ الصَّوْمِ الرَّاتِبِ ا هـ .
وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي إذَا قُلْنَا : إنَّ صَوْمَهَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا .
أَمَّا إذَا قُلْنَا بِحُصُولِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ : سِتَّةٌ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ مَعَ حَذْفِ الْمَعْدُودِ لُغَةً ، وَالْأَفْصَحُ حَذْفُهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ، وَيُسَنُّ صَوْمُ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ لِمَا مَرَّ فِي صَوْمِ

أَيَّامِ السَّوَادِ ، فَإِنْ صَامَهَا أَتَى بِالسَّنَتَيْنِ وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ آخِرُ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ .

وَيُكْرَهُ إفْرَادُ الْجُمُعَةِ .
( وَيُكْرَهُ إفْرَادُ ) يَوْمِ ( الْجُمُعَةِ ) بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَلِيَتَقَوَّى بِفِطْرِهِ عَلَى الْوَظَائِفِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ خَصَّهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَمَاعَةٌ نَقْلًا عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِمَنْ يَضْعُفُ بِهِ عَنْ الْوَظَائِفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ .
فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ ، وَقِيلَ : لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَطَعَامٍ .

وَإِفْرَادُ السَّبْتِ ،
( وَ ) يُكْرَهُ أَيْضًا ( إفْرَادُ السَّبْتِ ) أَوْ الْأَحَدِ بِالصَّوْمِ لِخَبَرِ { لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَخَرَجَ بِإِفْرَادِ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ جَمْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُكْرَهُ جَمْعُ الْجُمُعَةِ مَعَ السَّبْتِ ، وَلَا السَّبْتِ مَعَ الْأَحَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ لَا يُعَظِّمُهُ أَحَدٌ ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا مَا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ ، وَكَانَ يَقُولُ : إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ } قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ضُمَّ مَكْرُوهٌ إلَى مَكْرُوهٍ آخَرَ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّعْلِيلُ بِالتَّقَوِّي بِالْفِطْرِ فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِ الْجُمُعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إفْرَادِهَا وَجَمْعِهَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا جَمَعَهَا حَصَلَ لَهُ بِفَضِيلَةِ صَوْمٍ غَيْرِهِ مَا يَجْبُرُ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ النَّقْصِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ كَرَاهَةِ إفْرَادِ مَا ذُكِرَ إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً لَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ كَأَنْ اعْتَادَ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ فَوَافَقَ صَوْمُهُ يَوْمًا مِنْهَا لَمْ يُكْرَهْ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ { لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } وَقِيسَ بِالْجُمُعَةِ الْبَاقِي ، وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِالصَّوْمِ كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفُ كَرَاهَةَ إفْرَادِهِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّفْلِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْمُعْتَادِ وَالْفَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ .

وَصَوْمُ الدَّهْرِ غَيْرِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ خَافَ بِهِ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ حَقٍّ ، وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ ( وَصَوْمُ الدَّهْرِ غَيْرَ ) يَوْمَيْ ( الْعِيدِ ، وَ ) أَيَّامِ ( التَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ خَافَ بِهِ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ حَقٍّ ) وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُبْتَذَلَةً فَقَالَ : مَا شَأْنُك ؟ فَقَالَتْ : إنَّ أَخَاك لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا ، فَقَالَ سَلْمَانُ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ ، إنَّ لِرَبِّك عَلَيْك حَقًّا ، وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا ، وَلِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، وَأْتِ أَهْلَك ، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ سَلْمَانُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ " فَإِنْ صَامَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا حَرُمَ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ { لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ } ( وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ ) لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَمَعْنَى ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَنْهُ فَلَمْ يَدْخُلْهَا ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ كَذَا فِي الْمُحَرَّرِ وَشَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ عَبَّرَ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لَا الِاسْتِحْبَابِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَعِبَارَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَعَ اسْتِحْبَابِهِ فَصَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا } ، وَفِيهِ أَيْضًا " لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ " فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ

الدَّهْرِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِالْعَكْسِ وَقَالَ : إنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا .
وَحُمِلَ قَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ " لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ " أَيْ لَك ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ .
لَكِنْ مَحِلُّهُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ مَا لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ النَّذْرِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ ابْنُ سِيدَهْ : الدَّهْرُ الْأَبَدُ الْمَحْدُودُ ، وَالْجَمْعُ أَدْهُرٌ وَدُهُورٌ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ } فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا أَصَابَك مِنْ الدَّهْرِ فَاَللَّهُ فَاعِلُهُ لَيْسَ الدَّهْرُ ، فَإِذَا سَبَبْت بِهِ الدَّهْرَ ، فَكَأَنَّك أَرَدْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ .

وَمَنْ تَلَبَّسَ بِصَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاتِهِ فَلَهُ قَطْعُهُمَا وَلَا قَضَاءَ .

( وَمَنْ تَلَبَّسَ بِصَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاتِهِ فَلَهُ قَطْعُهُمَا ) أَمَّا الصَّوْمُ ، فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ } ( 1 ) قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ ، وَيُقَاسُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّوَافِلِ غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَاعْتِكَافٍ وَطَوَافٍ ، وَوُضُوءٍ ، وَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا ، وَالتَّسْبِيحَاتِ عَقِبَ الصَّلَاةِ ، وَلِئَلَّا يُغَيِّرَ الشُّرُوعُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ .
أَمَّا التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَيَحْرُمُ قَطْعُهُ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ لِمُخَالَفَتِهِ غَيْرَهُ فِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ وَالْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ إتْمَامَهُ ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَمُسَاعَدَةِ ضَيْفٍ فِي الْأَكْلِ إذَا عَزَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مَضِيفِهِ مِنْهُ أَوْ عَكْسُهُ ، فَلَا يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِخَبَرِ { وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْك حَقًّا } وَخَبَرِ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ } رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعِزَّ عَلَى أَحَدِهِمَا امْتِنَاعُ الْآخَرِ مِنْ ذَلِكَ ، فَالْأَفْضَلُ عَدَمُ خُرُوجِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى مَا مَضَى إنْ خَرَجَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ إنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَا يُثَابُ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَمْ تَتِمَّ ، وَمَا حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ( وَلَا قَضَاءَ ) وَاجِبٌ لِقَطْعِ التَّطَوُّعِ ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ سَوَاءٌ أَخْرَجَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ قَضَاءَهُ .
أَمَّا مَنْ فَاتَهُ وَلَهُ عَادَةٌ بِصِيَامِهِ كَالِاثْنَيْنِ ، فَلَا يُسَنُّ لَهُ قَضَاؤُهُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا أَفْتَى

بِهِ شَيْخِي .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ تَلَبَّسَ بِتَطَوُّعٍ غَيْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا ذُكِرَ .

وَمَنْ تَلَبَّسَ بِقَضَاءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهُ إنْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَهُوَ صَوْمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْأَصَحِّ : بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ .

( وَمَنْ تَلَبَّسَ بِقَضَاءٍ ) لِصَوْمٍ فَاتَ عَنْ وَاجِبٍ ( حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهُ ) جَزْمًا ( إنْ كَانَ ) قَضَاؤُهُ ( عَلَى الْفَوْرِ ، وَهُوَ صَوْمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ) حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ تَدَارُكًا لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ ( وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ ) يَحْرُمُ قَطْعُهُ ( فِي الْأَصَحِّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ) لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ يَشْرَعُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَبْطَ الْفَوْرِ بِالتَّعَدِّي يَرِدُ عَلَيْهِ مَا لَوْ ضَاقَ وَقْتُهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلَّا مَا يَسَعُ الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ ، سَوَاءٌ أَفَاتَ بِعُذْرٍ أَمْ لَا ، وَقَضَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ وَأَقَرَّهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي .
ثُمَّ قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَقَضِيَّةُ مَا قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ : إنْ قُلْنَا : يَلْزَمُهُ التَّشْبِيهُ بِالصَّائِمِينَ ، فَقَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَكِنْ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى التَّرَاخِي بِلَا خِلَافٍ قَالَ : وَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَكَلَ عَلَى ظَنِّ اللَّيْلِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَاَلَّذِي يَمِيلُ الْقَلْبُ إلَيْهِ إلْحَاقُ يَوْمِ الشَّكِّ بِذَلِكَ ، وَيَأْتِي انْقِسَامُ الْقَضَاءِ إلَى مَا يَكُونُ بِالتَّعَدِّي وَإِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ وَفِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
خَاتِمَةٌ : أَفْضَلُ الشُّهُورِ لِلصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ، وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ رَجَبٌ } خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ بَاقِيهَا ثُمَّ شَعْبَانُ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ ، فَالْمُرَادُ بِكُلِّهِ غَالِبُهُ ، وَقِيلَ كَانَ يَصُومُهُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ ، وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ ، وَلَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ ، لَكِنْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ مَعَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ ؟ .
أُجِيبَ بِلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إلَّا فِي آخِرِ الْحَيَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَتْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ } ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ .

وَيَحْرُمُ صَوْمُ الْمَرْأَةِ تَطَوُّعًا وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِنَفْلٍ ، فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَالصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ ، وَعِلْمُهَا بِرِضَاهُ كَإِذْنِهِ ، وَسَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا صَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ .
أَمَّا صَوْمُهَا فِي غَيْبَةِ زَوْجِهَا عَنْ بَلَدِهَا فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ .
فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَازَ صَوْمُهَا مَعَ حُضُورِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِهَا تَمَتَّعَ وَفَسَدَ صَوْمُهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَهَا يَمْنَعُهُ التَّمَتُّعَ عَادَةً ؛ لِأَنَّهُ يُهَابُ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ ، وَلَا يَلْحَقُ بِالصَّوْمِ صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ .

كِتَابُ الِاعْتِكَافِ .
هُوَ مُسْتَحَبٌّ كُلَّ وَقْتٍ وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي أَوْ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ .

( كِتَابُ الِاعْتِكَافِ ) هُوَ لُغَةً : اللُّبْثُ وَالْحَبْسُ وَالْمُلَازَمَةُ عَلَى الشَّيْءِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ، وَقِيلَ عَكَفَ عَلَى الْخَيْرِ وَانْعَكَفَ عَلَى الشَّرِّ .
وَشَرْعًا : اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِنِيَّةٍ ( 1 ) .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ الْآيَةُ الْأُولَى ، وَالْأَخْبَارُ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ وَلَازَمَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ } ( 2 ) وَهُوَ مِنْ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } ( هُوَ مُسْتَحَبٌّ كُلَّ وَقْتٍ ) فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ ( وَ ) هُوَ ( فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ ) مِنْهُ فِي غَيْرِهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي سُنَنِ الصَّوْمِ ، وَأَعَادَهَا لِذِكْرِ حِكْمَةِ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ ( لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) .
بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ لَيَالِي السَّنَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أَيْ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ انْحِصَارُهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، وَأَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً بِعَيْنِهَا لَا تَنْتَقِلُ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ : إنَّهَا مُنْتَقِلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ .
قَالَ

فِي الرَّوْضَةِ : وَهُوَ قَوِيٌّ ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَلَا يَنَالُ فَضْلَهَا إلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا ، فَلَوْ قَامَهَا إنْسَانٌ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَنَلْ فَضْلَهَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَلَامُ الْمُتَوَلِّي يُنَازِعُهُ حَيْثُ قَالَ : يُسْتَحَبُّ التَّعَبُّدُ فِي كُلِّ لَيَالِي الْعَشْرِ حَتَّى يَحُوزَ الْفَضِيلَةَ عَلَى الْيَقِينِ ا هـ .
وَهَذَا أَوْلَى ، نَعَمْ حَالُ مَنْ اطَّلَعَ أَكْمَلُ إذَا قَامَ بِوَظَائِفِهَا .
وَقَدْ نُقِلَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ } ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ فِي لَيْلَتِهَا مِنْ قَوْلِ : اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي يَوْمِهَا كَمَا يَجْتَهِدُ فِي لَيْلَتِهَا ، وَخُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيُسَنُّ إنْ رَآهَا أَنْ يَكْتُمَهَا ( وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) تَعَالَى ( إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي ) وَالْعِشْرِينَ ( أَوْ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ ) مِنْهُ ، يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ .
وَلِلثَّانِي خَبَرُ مُسْلِمٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ نَصُّ الْمُخْتَصَرِ ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ مَيْلَهُ إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ لَا غَيْرُ ، وَفِي الْقَدِيمِ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ إحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْأَوْتَارِ ، ثُمَّ لَيْلَةُ أَشْفَاعِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ إنَّهَا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ ، وَخَصَّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَبَعْضُهُمْ بِأَشْفَاعِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ : هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ

، وَفِيهَا نَحْوُ الثَّلَاثِينَ قَوْلًا .
وَالسَّبَبُ فِي إبْهَامِهَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكْثُرَ اجْتِهَادُهُمْ فِي كُلِّ السَّنَةِ وَيَطْلُبُونَهَا فِي جَمِيعِهَا ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ شُعَاعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْعَلَامَةِ لِأَنَّهَا قَدْ انْقَضَتْ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَهَدَ فِي يَوْمِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ يَبْقَى يَعْرِفُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً وَاحِدَةً .

وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْجَامِعُ أَوْلَى .

وَأَرْكَانُ الِاعْتِكَافِ أَرْبَعَةٌ : مَسْجِدٌ ، وَلُبْثٌ ، وَنِيَّةٌ ، وَمُعْتَكِفٌ .
وَقَدْ شَرَعَ فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ ( وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَلِلْإِجْمَاعِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } إذْ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لِجَعْلِهَا شَرْطًا فِي مَنْعِ مُبَاشَرَةِ الْمُعْتَكِفِ لِمَنْعِهِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَلِمَنْعِ غَيْرِهِ أَيْضًا مِنْهَا فَتَعَيَّنَ كَوْنُهَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَى مَسْجِدٍ إلَّا التَّحِيَّةَ وَالِاعْتِكَافَ وَالطَّوَافَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ ، وَيَصِحُّ فِي رَحْبَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْهُ ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا وُقِفَ جُزْؤُهُ شَائِعًا مَسْجِدًا وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ الْمُكْثُ فِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ ، وَلَا فِيمَا أَرْضُهُ مُسْتَأْجَرَةٌ وَوُقِفَ بِنَاؤُهُ مَسْجِدًا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَالْحِيلَةُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ مَصْطَبَةً أَوْ صِلَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَيَقِفَهَا مَسْجِدًا فَيَصِحَّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا كَمَا يَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ وَجُدْرَانِهِ ، وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ نَحْوُ مَصْطَبَةٍ .
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَسْجِدًا ، وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الصِّحَّةِ ( وَ ) الْمَسْجِدُ ( الْجَامِعُ ) وَهُوَ مَا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ( أَوْلَى ) بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ ، وَلِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْجُمُعَةِ .
وَيَجِبُ الْجَامِعُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ إنْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فِيهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَكَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْخُرُوجُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَهَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِتَقْصِيرِهِ بَعْدَ

اعْتِكَافِهِ فِي الْجَامِعِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ تُقَامُ بَيْنَ أَبْنِيَةِ الْقَرْيَةِ لَا فِي جَامِعٍ لَمْ يَبْطُلْ تَتَابُعُهُ بِالْخُرُوجِ لَهَا ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ صَغِيرَةً لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَهْلِهَا فَأُحْدِثَ بِهَا جَامِعٌ وَجَمَاعَةٌ بَعْدَ نَذْرِهِ اعْتِكَافَهُ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْخُرُوجَ لَهَا وَكَانَ فِي الْبَلَدِ جَامِعَانِ فَمَرَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَذَهَبَ إلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ يُصَلِّي فِيهِ أَوَّلًا لَمْ يَضُرَّهُ ، أَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُشْرَطْ التَّتَابُعُ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَامِعُ بَلْ يَصِحُّ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِمُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُكْثِ جُنُبًا وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَوْنِ الْجَامِعِ أَوْلَى مَا إذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ غَيْرَ الْجَامِعِ فَالْمُعَيَّنُ أَوْلَى إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ .

وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ امْرَأَةٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَهُوَ الْمُعْتَزَلُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ .
( وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ امْرَأَةٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَهُوَ الْمُعْتَزَلُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَغْيِيرِهِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ كُنَّ يَعْتَكِفْنَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَفَى بُيُوتُهُنَّ لَكَانَتْ لَهُنَّ أَوْلَى ، وَالْقَدِيمُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَكَانُ صَلَاتِهَا كَمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانُ صَلَاةِ الرَّجُلِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ ، وَالْخُنْثَى كَالرَّجُلِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ اعْتِكَافِهَا فِي بَيْتِهَا يَكُونُ الْمَسْجِدُ لَهَا أَفْضَلَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ .

وَلَوْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي نَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ تَعَيَّنَ ، وَكَذَا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى فِي الْأَظْهَرِ ، وَيَقُومُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مَقَامَهُمَا ، وَلَا عَكْسَ ، وَيَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى ، وَلَا عَكْسَ .

( وَلَوْ عَيَّنَ ) النَّاذِرُ ( الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي نَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ تَعَيَّنَ ) فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لِتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ وَزِيَادَةِ فَضْلِهِ لِكَثْرَةِ تَضَاعُفُ الصَّلَاةِ فِيهِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي } .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي النَّذْرِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ زِيَادَةُ الْفَضِيلَةُ قِيلَ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي يُطَافُ فِيهِ حَوْلَهَا ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ الْكَعْبَةُ وَمَا فِي الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْبَيَانِ ، وَقِيلَ : جَمِيعُ بِقَاعِ الْحَرَمِ ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ فِي الْبَيَانِ عَنْ شَيْخِهِ الشَّرِيفِ الْعُثْمَانِيِّ ، وَالْقَلْبُ إلَى هَذَا أَمْيَلُ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا لَوْ عَيَّنَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ .
وَقَالَ فِي الْبَيَانِ : إنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبَيْتُ وَمَا أُضِيفَ إلَيْهِ مِنْ الْحِجْرِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهُوَ الْمُتَّجَهُ ، لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَأْتِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّضْعِيفَ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ ، وَصَاحِبُ الْبَيَانِ يَقُولُ بِهِ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى التَّضْعِيفَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِتَعْيِينِ ذَلِكَ .
وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِالْمَسْأَلَةِ فَقَالَ عَنْ شَيْخِهِ : إنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَلَاةً فِي الْكَعْبَةِ وَصَلَّى فِي أَطْرَافِ الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ النَّذْرِ ( وَكَذَا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ، وَ ) مَسْجِدُ ( الْأَقْصَى ) إذَا عَيَّنَهُمَا النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ تَعَيَّنَا ( فِي الْأَظْهَرِ ) وَلَا يُجْزِئُ دُونَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَسْجِدَانِ تُشَدُّ إلَيْهِمَا الرِّحَالُ فَأَشْبَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ .
وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا

يَتَعَلَّقُ بِهِمَا نُسُكٌ فَأَشْبَهَا بَقِيَّةَ الْمَسَاجِدِ ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ، لَكِنْ مَا عَيَّنَهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ ، وَيُشْعِرُ أَيْضًا تَعْبِيرُهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّ نَذْرَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هِيَ أَوْلَى بِالتَّعْيِينِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ ( وَيَقُومُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مَقَامَهُمَا ) لِمَزِيدِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ ( وَلَا عَكْسَ ) أَيْ لَا يَقُومَانِ مَقَامَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فِي الْفَضْلِ ( وَيَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ صَحَّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا مَرَّ ، وَفِي الْأَقْصَى بِخَمْسِمِائَةٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَالَ الْبَزَّارُ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفٍ ، وَعَلَى هَذَا هُمَا مُتَسَاوِيَانِ ( وَلَا عَكْسَ ) لِمَا سَبَقَ ، سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ تَعْيِينِ زَمَنِ الِاعْتِكَافِ ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ التَّعْيِينُ أَيْضًا ، فَلَوْ قَدَّمَهُ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ كَانَ قَضَاءً ، وَيَأْثَمُ إنْ تَعَمَّدَ ، وَأَجْزَاءُ الْمَسْجِدِ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَدَاءِ الْمَنْذُورِ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ جُزْءٌ مِنْهُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ .

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لُبْثُ قَدْرٍ يُسَمَّى عُكُوفًا ، وَقِيلَ يَكْفِي مُرُورٌ بِلَا لُبْثٌ ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُكْثُ نَحْوِ يَوْمٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي فَقَالَ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لُبْثُ قَدْرٍ يُسَمَّى عُكُوفًا ) أَيْ إقَامَةً بِحَيْثُ يَكُونُ زَمَنُهَا فَوْقَ زَمَنِ الطُّمَأَنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا يَكْفِي قَدْرُهَا ، وَلَا يَجِبُ السُّكُونُ بَلْ يَكْفِي التَّرَدُّدُ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : وَالْأَصَحُّ يَرْجِعُ إلَى جُمْلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَصْلُ اللُّبْثِ ، وَالثَّانِيَةُ قَدْرُهُ ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ ( وَقِيلَ يَكْفِي الْمُرُورُ بِلَا لُبْثٍ ) كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَمُقَابِلُهُ فِي الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ ( وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُكْثُ نَحْوِ يَوْمٍ ) أَيْ قَرِيبٍ مِنْهُ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي الْحَاجَةِ الَّتِي تَعِنُّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي طَرِيقِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْقُرْبَةِ ، وَعَلَى الْأَصَحِّ يَصِحُّ نَذْرُ اعْتِكَافِ سَاعَةٍ ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا كَفَاهُ لَحْظَةٌ ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ يَوْمٌ ، وَيُسَنُّ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ .

وَيَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِشَهْوَةٍ كَلَمْسٍ ، وَقُبْلَةٍ تُبْطِلُهُ إنْ أَنْزَلَ ، وَإِلَّا فَلَا .

( وَيَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ ) مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرًا لِلِاعْتِكَافِ سَوَاءٌ أَجَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ خَارِجَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِمُنَافَاتِهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جِمَاعَهُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ مُطْلَقًا إذَا أَدَّى إلَى مُكْثٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مُعْتَكِفًا أَمْ لَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ اعْتِكَافُهُ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا .
وَأَمَّا إذَا جَامَعَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَإِنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ مَنْذُورًا حَرُمَ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَحْرُمْ إذْ غَايَتُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَهُوَ جَائِزٌ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَالْحُكْمُ بِالْبُطْلَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَمَّا الْمَاضِي فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا فَيُسْتَأْنَفُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَنْذُورًا أَمْ نَفْلًا ، وَلَوْ شَتَمَ إنْسَانًا ، أَوْ اغْتَابَهُ ، أَوْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ وَبَطَلَ ثَوَابُهُ .
قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ ، وَلَوْ أَوْلَجَ فِي دُبُرِ خُنْثَى بَطَلَ اعْتِكَافُهُ أَوْ أَوْلَجَ فِي قُبُلِهِ ، أَوْ أَوْلَجَ الْخُنْثَى فِي رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى فَفِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ ( وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِشَهْوَةٍ ) فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ( كَلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ تُبْطِلُهُ ) أَيْ الِاعْتِكَافَ ( إنْ أَنْزَلَ ، وَإِلَّا فَلَا ) تُبْطِلُهُ لِمَا مَرَّ فِي الصَّوْمِ .
وَالثَّانِي تُبْطِلُهُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } [ الْبَقَرَةَ ] وَالثَّالِثُ : لَا مُطْلَقًا كَالْحَجِّ ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ هِيَ حَرَامٌ فِي الْمَسْجِدِ إنْ لَزِمَ مِنْهَا مُكْثٌ فِيهِ وَهُوَ جُنُبٌ ، وَكَذَا خَارِجَهُ إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ وَاجِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ نَفْلًا ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُبَاشَرَةِ عَمَّا إذَا نَظَرَ أَوْ تَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ ، وَبِالشَّهْوَةِ عَمَّا إذَا قَبَّلَ بِقَصْدِ الْإِكْرَامِ

وَنَحْوِهِ ، أَوْ بِلَا قَصْدٍ فَلَا يُبْطِلُهُ إذَا أَنْزَلَ جَزْمًا ، وَالِاسْتِمْنَاءُ كَالْمُبَاشَرَةِ ، وَقَدْ عُرِفَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْخُنْثَى مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ بِالْجِمَاعِ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْخُنْثَى أَنْ يُنْزِلَ مِنْ فَرْجَيْهِ .

وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ .
( وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا ) لِلِاعْتِكَافِ ( فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ ) نَاسِيًا صَوْمَهُ فَلَا يَضُرُّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ فِي الصِّيَامِ ، وَلَوْ جَامَعَ جَاهِلًا فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ جَاهِلًا وَقَدْ مَرَّ فِي الصِّيَامِ أَيْضًا ، وَالْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ فِي ذَلِكَ كَالْجِمَاعِ .

وَلَا يَضُرُّ التَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنُ .
( وَلَا يَضُرُّ ) فِي الِاعْتِكَافِ ، ( التَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنُ ) بِاغْتِسَالٍ وَقَصِّ شَارِبٍ ، وَلُبْسِ ثِيَابٍ حَسَنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ وَلَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُزَوِّجَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ .

وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهَا ، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ إلَّا كِتَابَةَ الْعِلْمِ فَلَا يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا طَاعَةٌ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَتُكْرَهُ لَهُ الْحِرْفَةُ فِيهِ بِخِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْمُعَاوَضَةِ مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلَا حَاجَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ ، وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَغْسِلَ يَدَهُ فِيهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْكُلَ فِي سُفْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَأَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ فِي طَسْتٍ أَوْ نَحْوِهَا لِيَكُونَ أَنْظَفَ لِلْمَسْجِدِ ، وَيَجُوزُ نَضْحُهُ بِمُسْتَعْمَلٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ فِيهِ وَإِسْقَاطِ مَائِهِ فِي أَرْضِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ ، وَلِأَنَّهُ أَنْظَفُ مِنْ غُسَالَةِ الْيَدِ الْخَالِصَةِ يَغْسِلُهَا فِيهِ ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ مِنْ الْحُرْمَةِ ، وَيَجُوزُ الِاحْتِجَامُ وَالْفَصْدُ فِيهِ فِي إنَاءٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا جَزَمَ بِهَا فِي الْمَجْمُوعِ إذَا أَمِنَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ ، وَكَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا كَفَتْحِ دُمَّلٍ وَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْآدَمِيِّ لِلْحَاجَةِ ، أَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ تَحْرِيمَ إدْخَالِ النَّجَاسَةِ الْمَسْجِدَ لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ هَوَائِهِ بِهَا مَعَ زِيَادَةِ الْقُبْحِ ، وَمَحِلُّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ إدْخَالِ النَّعْلِ الْمُتَنَجِّسَةِ فِيهِ إذَا أَمِنَ التَّلْوِيثَ ، فَإِنْ لَوَّثَ الْخَارِجُ بِمَا ذُكِرَ الْمَسْجِدَ أَوْ بَالَ أَوْ تَغَوَّطَ فِيهِ وَلَوْ فِي إنَاءٍ حَرُمَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَبَيْنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَنَّ الدِّمَاءَ أَخَفُّ مِنْهُمَا لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهَا فِي مَحِلِّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ بِفِعْلِهِ ، وَلِأَنَّهُمَا أَقْبَحُ مِنْهَا ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ

نَحْوِ الْفَصْدِ مُتَوَجِّهًا لِلْقِبْلَةِ بِخِلَافِهِمَا .

وَالْفِطْرُ ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ وَحْدَهُ .
وَإِنْ اشْتَغَلَ الْمُعْتَكِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ فَزِيَادَةُ خَيْرٍ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ فِي طَاعَةٍ ، وَيُسَنُّ لَهُ الصَّوْمُ لِلِاتِّبَاعِ وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كَمَا سَيَأْتِي ( وَ ) لَا يَضُرُّهُ ( الْفِطْرُ ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ وَحْدَهُ ) وَاعْتِكَافُ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ لِخَبَرِ أَنَسٍ { لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ } ( 1 ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ لَزِمَهُ .
( وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ لَزِمَهُ ) الِاعْتِكَافُ يَوْمَ صَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ أَفْضَلُ ؛ فَإِذَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ لَزِمَهُ كَالتَّتَابُعِ ، وَلَيْسَ لَهُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ قَطْعًا ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّوْمُ عَنْ رَمَضَانَ أَمْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهَذَا النَّذْرِ صَوْمًا ، وَإِنَّمَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ بِصِفَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ .

وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ يَصُومَ مُعْتَكِفًا لَزِمَاهُ ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ جَمْعِهِمَا .

( وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا ) أَوْ يَصُومَ ( أَوْ ) عَكْسَهُ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ ( يَصُومَ مُعْتَكِفًا ) أَوْ بِاعْتِكَافٍ ( لَزِمَاهُ ) أَيْ الِاعْتِكَافُ وَالصَّوْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ عَمَلًا بِالْتِزَامِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا مُشْكِلٌ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الصَّوْمَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا وَمُبَيِّنَةٌ لِهَيْئَةِ صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ لِمَوْصُوفِهَا ، وَأَلْحَقُوا الْجَارَ وَالْمَجْرُورَ بِالْحَالِ الصَّرِيحَةِ ( وَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( وُجُوبُ جَمْعِهِمَا ) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَلَزِمَ بِالنَّذْرِ وَالثَّانِي لَا ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُصَلِّيًا أَوْ عَكْسَهُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهُمَا ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصَّوْمَ يُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكَفِّ ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُبَاشِرَةٌ لَا تُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ .
وَالثَّالِثُ : يَجِبُ الْجَمْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَفَرَّقَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا لِلصَّوْمِ وَالصَّوْمُ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْأَصَحُّ لَوْ اعْتَكَفَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ نَفْلًا كَانَ الصَّوْمُ أَوْ وَاجِبًا بِغَيْرِ هَذَا النَّذْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْمُلْتَزَمِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْقِيَاسُ فِيمَا ذُكِرَ وَنَحْوِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ اعْتِكَافُ لَحْظَةٍ مِنْ الْيَوْمِ وَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَادِقٌ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَكَلَامُهُمْ قَدْ يُوهِمُ خِلَافَهُ ا هـ .
وَالْأَوْجُهُ الْأَوَّلُ وَلَوْ عَيَّنَ وَقْتًا لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ كَالْعِيدِ قَالَ الدَّارِمِيُّ : اعْتَكَفَهُ وَلَا يَقْضِي الصَّوْمَ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ وُجُوبِ الْجَمْعِ ، وَلَوْ نَذَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ جَازَ لَهُ تَفْرِيقُهُمَا وَهُوَ

أَفْضَلُ .

وَيُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاعْتِكَافِ ، وَيَنْوِي فِي الْمَنْذُورِ الْفَرْضِيَّةَ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِالشَّرْطِ فَقَالَ ( وَيُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاعْتِكَافِ ) أَيْ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي ابْتِدَائِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ ، سَوَاءٌ الْمَنْذُورُ وَغَيْرُهُ ، تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَوْ لَا ( وَ ) لَكِنْ ( يَنْوِي ) حَتْمًا ( فِي ) الِاعْتِكَافِ ( الْمَنْذُورِ الْفَرْضِيَّةَ ) لِيَتَمَيَّزَ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّذْرِ بِخِلَافِهِمَا ، وَلَوْ نَوَى كَوْنَهُ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذِكْرِ الْفَرْضِ كَمَا قَالَهُ فِي الذَّخَائِرِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ مَنْذُورٍ فَائِتٍ وَمَنْذُورٍ غَيْرِ فَائِتٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : يُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي التَّعَرُّضِ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّلَاةِ .

وَإِذَا أَطْلَقَ كَفَتْهُ ، وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ لَكِنْ لَوْ خَرَجَ وَعَادَ احْتَاجَ إلَى الِاسْتِئْنَافِ .
وَلَوْ دَخَلَ فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْأَصَحِّ كَالصَّوْمِ ( وَإِذَا أَطْلَقَ ) نِيَّةَ الِاعْتِكَافِ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً ( كَفَتْهُ ) هَذِهِ النِّيَّةُ ( وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ ) لِشُمُولِ النِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِذَلِكَ ( لَكِنْ لَوْ خَرَجَ ) مِنْ الْمَسْجِدِ ( وَعَادَ ) إلَيْهِ ( احْتَاجَ ) إنْ لَمْ يَعْزِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى الْعَوْدِ ( إلَى الِاسْتِئْنَافِ ) لِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ، سَوَاءٌ أَخَرَجَ لِتَبَرُّزٍ أَمْ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى عِبَادَةٌ تَامَّةٌ وَهُوَ يُرِيدُ اعْتِكَافًا جَدِيدًا .
فَإِنْ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ كَانَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَ النِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ فِي التَّتِمَّةِ وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
فَإِنْ قِيلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ فَكَيْفَ يَكْتَفِي بِعَزِيمَةٍ سَابِقَةٍ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ نِيَّةَ الزِّيَادَةِ وُجِدَتْ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْمُدَّتَيْنِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالُوهُ فِيمَنْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ نَفْلًا مُطْلَقًا ثُمَّ نَوَى ، قِيلَ السَّلَامُ زِيَادَةٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ .

وَلَوْ نَوَى مُدَّةً فَخَرَجَ فِيهَا وَعَادَ ، فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ أَوَّلَهَا فَلَا ، وَقِيلَ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ خُرُوجِهِ اسْتَأْنَفَ وَقِيلَ لَا يَسْتَأْنِفُ مُطْلَقًا .
( وَلَوْ نَوَى مُدَّةً ) أَيْ اعْتِكَافَهَا كَيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ تَطَوُّعًا أَوْ كَانَ قَدْ نَذَرَ أَيَّامًا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا التَّتَابُعَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِقَصْدِ وَفَاءِ نَذْرِهِ ( فَخَرَجَ ) مِنْهُ ( فِيهَا ) أَيْ الْمُدَّةِ ( وَعَادَ ) إلَيْهِ ( فَإِنْ خَرَجَ ) مِنْهُ ( لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ) مِنْ الْبَوْلِ أَوْ الْغَائِطِ ( لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ ) لِلنِّيَّةِ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ إنْ أَرَادَهُ بَعْدَ الْعَوْدِ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ الزَّمَنُ لِقَطْعِهِ الْأَوَّلَ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ .
وَأَمَّا الْعَوْدُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي النَّفْلِ لِجَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْهُ ( أَوْ ) خَرَجَ ( لَهَا ) أَيْ الْحَاجَةِ ( فَلَا ) يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَإِنْ طَالَ زَمَنُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ النِّيَّةِ ( وَقِيلَ إنْ طَالَتْ مُدَّةَ خُرُوجِهِ ) لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا ( اسْتَأْنَفَ ) النِّيَّةَ لِتَعَذُّرِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُلْ ( وَقِيلَ : لَا يَسْتَأْنِفُ ) النِّيَّةَ ( مُطْلَقًا ) لِأَنَّ النِّيَّةَ شَمِلَتْ جَمِيعَ الْمُدَّةِ بِالتَّعْيِينِ .

وَلَوْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فَخَرَجَ لِعُذْرٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لَمْ يَجِبْ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ ، وَقِيلَ إنْ خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةً وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَجَبَ .
أَمَّا إذَا نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ فِيهَا التَّتَابُعَ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ ( وَلَوْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فَخَرَجَ لِعُذْرٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ ) كَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَحَيْضٍ وَأَكْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ وَعَادَ ( لَمْ يَجِبْ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ ) عِنْدَ الْعَوْدِ لِشُمُولِهَا جَمِيعَ الْمُدَّةِ ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْعَوْدِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ .
فَإِنْ أَخَّرَ ذَاكِرًا عَالِمًا مُخْتَارًا انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ وَتَعَذَّرَ الْبِنَاءُ ( وَقِيلَ : إنْ خَرَجَ لِغَيْرِ ) قَضَاءِ ( حَاجَةً ، وَ ) غَيْرِ ( غُسْلِ الْجَنَابَةِ ) يَعْنِي مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَالْأَكْلِ فَإِنَّهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فِيهِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْأَصَحِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ ( وَجَبَ ) اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ مِمَّا لَهُ عَنْهُ بُدٌّ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اقْتِصَارَهُ كَالْمُحَرَّرِ عَنْ اسْتِثْنَاءِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنْ مَحِلِّ الْخِلَافِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ، فَلَوْ عَبَّرَ : بِمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَمَّا يَقْطَعُهُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَطْعًا .

وَشَرْطُ الْمُعْتَكِفِ : الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَلَهُ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ ( وَشَرْطُ الْمُعْتَكِفِ : الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ ) وَالنِّفَاسِ ( وَالْجَنَابَةِ ) فَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ كَافِرٍ ، وَمَجْنُونٍ ، وَمُبَرْسَمٍ ، وَسَكْرَانَ ، وَمُغْمًى عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّتِهِمْ وَلَا حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِحُرْمَةِ مُكْثِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَرُمَ مُكْثُهُ فِي الْمَسْجِدِ كَذِي جِرَاحٍ وَقُرُوحٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَنَحْوِهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْمَسْجِدِ مِنْهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ .
نَعَمْ لَوْ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ وُقِفَ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ لُبْثُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ عَدَمِ صِحَّةِ اعْتِكَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، أَمَّا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ اعْتِكَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَيَحْسُبُ زَمَنَهُ مِنْ اعْتِكَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ ، وَيَصِحُّ اعْتِكَافُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالرَّقِيقِ وَالزَّوْجَةِ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ السَّيِّدِ لِلرَّقِيقِ وَمِنْ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ وَالتَّمَتُّعُ مُسْتَحَقٌّ لِلزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ حَقَّهُمَا عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ .
نَعَمْ إنْ لَمْ يُفَوِّتَا عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةً كَأَنْ حَضَرَا الْمَسْجِدَ بِإِذْنِهِمَا فَنَوَيَا الِاعْتِكَافَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، وَيُكْرَهُ لِذَوَاتِ الْهَيْئَةِ كَمَا فِي خُرُوجِهِنَّ لِلْجَمَاعَةِ ، وَلِلزَّوْجِ إخْرَاجُ الزَّوْجِ ، وَلِلسَّيِّدِ إخْرَاجُ الرَّقِيقِ مِنْ التَّطَوُّعِ وَإِنْ اعْتَكَفَا بِإِذْنِهِمَا لِمَا مَرَّ ، وَكَذَا مِنْ النَّذْرِ إلَّا إنْ أَذِنَا فِيهِ وَفِي الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَنُ الِاعْتِكَافِ مُعَيَّنًا وَلَا مُتَتَابِعًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَزَمَنُ الِاعْتِكَافِ مُعَيَّنٌ ، وَكَذَا إنْ

أَذِنَا فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَقَطْ ، وَهُوَ مُتَتَابِعٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَنُهُ مُعَيَّنًا فَلَا يَجُوزُ لَهُمَا إخْرَاجُهُمَا فِي الْجَمِيعِ ؛ لِإِذْنِهِمَا فِي الشُّرُوعِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إذْنٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَالْمُتَتَابِعُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ بِلَا عُذْرٍ ، وَلَوْ نَذَرَ الْعَبْدُ اعْتِكَافَ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِبَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ إرْثٍ فَلَهُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا قَبْلَ تَمَكُّنِهِ وَمِثْلُهُ الزَّوْجَةُ .
لَكِنْ إنْ جَهِلَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ ، وَيَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ إذْ لَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِي مَنْفَعَتِهِ فَهُوَ كَالْحُرِّ ، وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي : صَوَّرَهُ أَصْحَابُنَا بِمَا لَا يُخِلُّ بِكَسْبِهِ لِقِلَّةِ زَمَنِهِ أَوْ لِإِمْكَانِ كَسْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ ، وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَهُوَ كَالْقِنِّ إنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَوْبَتِهِ كَالْحُرِّ ، وَفِي نَوْبَةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ .

وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ أَوْ سَكِرَ بَطَلَ ، وَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِمَا الْمُتَتَابِعِ .
( وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ أَوْ سَكِرَ ) مُتَعَدِّيًا ( بَطَلَ ) اعْتِكَافُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَسُكْرِهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ .
أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَدِّي فَيُشْبِهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ( وَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِمَا الْمُتَتَابِعِ ) فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ ، وَهُوَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَمَا سَيَأْتِي ، وَالثَّانِي : لَا يَبْطُلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَبْنِيَانِ .
أَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَتَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا فِي السُّكْرِ فَإِلْحَاقًا بِالنَّوْمِ ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ : يَبْنِي الْمُرْتَدُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَلِهَذَا تَجُوزُ اسْتِتَابَتُهُ فِيهِ وَلَا يَبْنِي السَّكْرَانُ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ لِلْآيَةِ ، وَالرَّابِعُ : يَبْنِي السَّكْرَانُ دُونَ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ كَالنَّوْمِ وَالرِّدَّةُ تُنَافِي الْعِبَادَةَ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ لَا حُبُوطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّارِحُ مِنْ حَيْثُ التَّتَابُعُ ، وَهَذَا فِي السَّكْرَانِ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الثَّوَابَ إنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْمَوْتِ وَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ .
فَإِنْ قِيلَ ثَنَّى الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ فِي اعْتِكَافِهِمَا ، وَالْأَوْلَى إفْرَادُهُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ هُنَا بِأَوْ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُفْرَدًا حَيْثُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ : إنْ لَمْ يَخْرُجْ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِأَوْ هُوَ الْفِعْلُ ، وَالضَّمِيرُ لَيْسَ عَائِدًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَالسَّكْرَانِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ ، عَلَيْهِمَا فَصَحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِمَا .

وَلَوْ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى إنْ لَمْ يُخْرَجْ ، وَيُحْسَبُ زَمَنُ الْإِغْمَاءِ مِنْ الِاعْتِكَافِ دُونَ الْجُنُونِ .
( وَلَوْ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ ) عَلَى الْمُعْتَكِفِ ( لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى ) مِنْ اعْتِكَافِهِ الْمُتَتَابِعِ ( إنْ لَمْ يُخْرَجْ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِمَا عَرَضَ لَهُ ، فَإِنْ أَخْرَجَ مَعَ تَعَذُّرِ ضَبْطِهِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْطُلْ أَيْضًا كَمَا لَوْ حَمَلَ الْعَاقِلُ مُكْرَهًا ، وَكَذَا إنْ أَمْكَنَ بِمَشَقَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي تَرْكُ التَّقْيِيدِ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِمَا .
أَمَّا لَوْ طَرَأَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهِ كَالسُّكْرِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ اعْتِكَافُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ فِي الْجُنُونِ ، وَبَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْإِغْمَاءِ ( وَيُحْسَبُ زَمَنُ الْإِغْمَاءِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ) الْمُتَتَابِعِ كَمَا فِي الصَّائِمِ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْضَ النَّهَارِ ( دُونَ ) زَمَنِ ( الْجُنُونِ ) فَلَا يُحْسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ .

أَوْ الْحَيْضُ وَجَبَ الْخُرُوجُ ، وَكَذَا الْجَنَابَةُ إذَا تَعَذَّرَ الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَوْ أَمْكَنَ جَازَ الْخُرُوجُ ، وَلَا يَلْزَمُ ، وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَلَا الْجَنَابَةِ .

( أَوْ ) طَرَأَ ( الْحَيْضُ ) أَوْ النِّفَاسُ عَلَى مُعْتَكِفَةٍ ( وَجَبَ ) عَلَيْهَا ( الْخُرُوجُ ) مِنْ الْمَسْجِدِ لِتَحْرِيمِ الْمُكْثِ عَلَيْهَا ( وَكَذَا الْجَنَابَةُ ) بِمَا لَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ كَالِاحْتِلَامِ ( إذَا ) طَرَأَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ ، وَ ( تَعَذَّرَ ) عَلَيْهِ ( الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ لِحُرْمَةِ مُكْثِهِ فِيهِ ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى التَّيَمُّمِ لِفَقْدِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَالظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وُجُوبُ الْخُرُوجِ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ تُرَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لُبْثًا إلَى إكْمَالِ التَّيَمُّمِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَارًّا مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ وَلَا تَرَدُّدٍ لَمْ يَجِبُ الْخُرُوجُ لِأَنَّ الْمُرُورَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ ( فَلَوْ أَمْكَنَهُ ) الْغُسْلُ فِيهِ بِلَا مُكْثٍ ( جَازَ ) لَهُ ( الْخُرُوجُ وَلَا يَلْزَمُهُ ) الْخُرُوجُ لِأَجْلِ الْغُسْلِ ، بَلْ لَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُرَاعَاةً لِلتَّتَابُعِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ مُسْتَجْمِرًا بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ ، وَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إذَا كَانَ يَحْصُلُ بِالْغُسَالَةِ ضَرَرٌ لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِلْمُصَلِّينَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِالْغُسْلِ لِئَلَّا يَبْطُلَ تَتَابُعُ اعْتِكَافِهِ ( وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ ) وَالنِّفَاسِ ( وَلَا ) زَمَنُ ( الْجَنَابَةِ ) مِنْ الِاعْتِكَافِ إنْ اتَّفَقَ الْمُكْثُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمُنَافَاةِ مَا ذُكِرَ لِلِاعْتِكَافِ ، وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ تَفْصِيلٌ فِي أَنَّ الْحَائِضَ هَلْ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهَا أَوْ لَا ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَإِنْ أَمِنَتْ التَّلْوِيثَ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ اعْتِكَافِهَا فَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51