كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

وَابْنُ السَّبِيلُ مُنْشِئُ سَفَرٍ أَوْ مُجْتَازٌ ، وَشَرْطُهُ الْحَاجَةُ وَعَدَمُ الْمَعْصِيَةِ ، وَشَرْطُ آخِذِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْإِسْلَامُ وَأَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلِبِيًّا وَكَذَا مَوْلَاهُمْ فِي الْأَصَحِّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ الثَّامِنِ ، فَقَالَ : ( وَابْنُ السَّبِيلِ ) أَيْ الطَّرِيقِ ( مُنْشِئُ سَفَرٍ ) مُبَاحٍ مِنْ مَحَلِّ الزَّكَاةِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَلَدَهُ أَوْ مُقِيمًا فِيهِ ( أَوْ مُجْتَازٌ ) بِهِ فِي سَفَرِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ذَكَرًا أَوْ غَيْرَهُ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُلَازَمَتِهِ السَّبِيلَ وَهِيَ الطَّرِيقُ ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى مَا ذُكِرَ تَأَسِّيًا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ إلَّا مُنْفَرِدًا وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُجْتَازِ مَجَازٌ فِي الْمُنْشِئِ ، وَإِعْطَاءُ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْأَوَّلِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مُرِيدَ السَّفَرِ مُحْتَاجٌ إلَى أَسْبَابِهِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ( وَشَرْطُهُ ) فِي الْإِعْطَاءِ لَا فِي التَّسْمِيَةِ ( الْحَاجَةُ ) بِأَنْ لَا يَجِدَ مَا يَكْفِيهِ غَيْرَ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَكَانَ آخَرَ أَوْ كَانَ كَسُوبًا أَوْ كَانَ سَفَرُهُ لِنُزْهَةٍ ( وَعَدَمُ الْمَعْصِيَةِ ) بِسَفَرِهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ طَاعَةً كَسَفَرِ حَجٍّ وَزِيَارَةٍ أَوْ مُبَاحًا كَسَفَرِ تِجَارَةٍ أَوْ مَكْرُوهًا كَسَفَرِ مُنْفَرِدٍ لِعُمُومِ الْآيَةِ بِخِلَافِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُعْطَى فِيهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْإِمَامُ السَّفَرَ لَا لِقَصْدٍ صَحِيحٍ كَسَفَرِ الْهَائِمِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ وَوَجَدَ مَنْ يُقْرِضُهُ نَقَلَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ يُعْطَى وَأَقَرَّهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَقِيلَ : لَمْ يُعْطِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَرُدَّ بِأَنَّ النَّصَّ لَيْسَ فِي الزَّكَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْفَيْءِ

( وَشَرْطُ آخِذِ الزَّكَاةِ ) أَيْ مَنْ يَدْفَعُ إلَيْهِ مِنْهَا ( مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْإِسْلَامُ ) فَلَا تُدْفَعُ لِكَافِرٍ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا عَدَا زَكَاةَ الْفِطْرِ ، وَبِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ إلَى فُقَرَائِهِمْ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
نَعَمْ الْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ وَالْحَافِظُ وَالْحَمَّالُ يَجُوزُ كَوْنُهُمْ كُفَّارًا مُسْتَأْجَرِينَ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أُجْرَةٌ لَا زَكَاةٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : صَدَقَةٌ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا : أُجْرَةٌ فَلَا يُنَصَّبُ فِيهَا لِعَدَمِ أَمَانَتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ أَوْ وَقْفٍ ( وَ ) شَرْطُ آخِذِ الزَّكَاةِ أَيْضًا ( أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلِبِيًّا ) وَلَوْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ لِخُلُوِّ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، أَوْ لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْأَخْذُ مِنْ الْمَالِ الْمَنْذُورِ صَدَقَتُهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ شَيْخِي لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ : { لَا أُحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْئًا ، وَلَا غُسَالَةَ الْأَيْدِي ، إنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يَكْفِيكُمْ أَوْ يُغْنِيكُمْ } أَيْ بَلْ يُغْنِيكُمْ ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ نَعَمْ لَوْ اسْتَعْمَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْحِفْظِ أَوْ النَّقْلِ فَلَهُمْ أُجْرَتُهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُعْطَاهُ الْعَامِلُ أُجْرَةً لَا زَكَاةً ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّهُ زَكَاةٌ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إذَا اُسْتُؤْجِرُوا لِلنَّقْلِ وَنَحْوِهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ

وَالْكَافِرِ يَعْمَلَانِ فِيهِمَا بِالْأُجْرَةِ ( وَكَذَا مَوْلَاهُمْ ) أَيْ عُتَقَاءُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِخَبَرِ : { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحُوهُ .
وَالثَّانِي : يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلشَّرَفِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي مَوْلَاهُمْ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا فِي التَّنْبِيهِ وَقَالَ : إنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوِيٌّ بِدَلِيلِ عَدَمِ كَفَاءَتِهِمْ لِمَوْلَاهُمْ فِي النِّكَاحِ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِمْ خُمُسَ الْخُمُسِ ، وَادَّعَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ مَوْلَاهُمْ لَا يَلْحَقُ بِهِمْ ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الْأَوَّلُ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ حَصْرَ الشُّرُوطِ فِيمَا ذَكَرَهُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فِيمَا عَدَا الْمُكَاتَبَ ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مُبَعَّضٍ وَلَوْ فِي نَوْبَةِ نَفْسِهِ خِلَافًا لِابْنِ الْقَطَّانِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي عَلَى نَقْلِ الزَّكَاةِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ .
نَعَمْ تُسْتَثْنَى الزَّوْجَةُ إنْ كَانَتْ غَارِمَةً كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْخِصَالِ ، وَلَوْ كَانَ لِشَخْصٍ أَبٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ فَقِيرٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ زَكَاتِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ لَا ؟ أَفْتَى ابْنُ يُونُسَ عِمَادُ الدِّينِ بِالثَّانِي وَأَخُوهُ كَمَالُ الدِّينِ بِالْأَوَّلِ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَهُوَ ظَاهِرٌ ؛ إذْ لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ ، وَأَفْتَى الْمُصَنِّفُ فِيمَنْ بَلَغَ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ بَلْ يَقْبِضُهَا لَهُ وَلِيُّهُ لِسَفَهِهِ ، وَإِنْ بَلَغَ مُصَلِّيًا رَشِيدًا ثُمَّ طَرَأَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ جَازَ دَفْعُهَا لَهُ وَصَحَّ قَبْضُهُ بِنَفْسِهِ ، وَأَفْتَى ابْنُ الْبَرَزِيِّ بِجَوَازِ دَفْعِهَا إلَى فَاسِقٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يُعِينُهُ

عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ .
وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ : لَا يَجُوزُ قَبْضُ الزَّكَاةِ مِنْ أَعْمَى ، وَلَا دَفْعُهَا لَهُ بَلْ يُوَكَّلُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ شَرْطٌ فِيهِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ السُّقُوطِ فِيمَا إذَا دَفَعَ زَكَاتَهُ لِمِسْكِينٍ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْمَدْفُوعِ جِنْسًا وَقَدْرًا بِأَنْ كَانَتْ فِي كَاغَدٍ وَنَحْوِهِ .
.

فَصْلٌ مَنْ طَلَبَ زَكَاةً وَعَلِمَ الْإِمَامُ اسْتِحْقَاقَهُ أَوْ عَدَمَهُ عَمِلَ بِعِلْمِهِ ، وَإِلَّا فَإِنْ ادَّعَى فَقْرًا أَوْ مَسْكَنَةً لَمْ يُكَلَّفْ بَيِّنَةً ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ وَادَّعَى تَلَفَهُ كُلِّفَ ، وَكَذَا إنْ ادَّعَى عِيَالًا فِي الْأَصَحِّ .

فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَقْتَضِي صَرْفَ الزَّكَاةِ لِمُسْتَحِقِّهَا وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا كُلُّ ( مَنْ طَلَبَ زَكَاةً وَعَلِمَ الْإِمَامُ ) أَوْ مَنْصُوبُهُ لِتَفْرِقَتِهَا ( اسْتِحْقَاقَهُ ) لَهَا ( أَوْ عَدَمَهُ عَمِلَ بِعِلْمِهِ ) فِي ذَلِكَ فَيُعْطِي مَنْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا ، وَيُمْنَعُ مَنْ عَلِمَ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِهِ ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الصَّرْفُ لَهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَمْ يُخْرِجُوهُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ أَيْ لَمْ يُجْرُوا فِيهِ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِيهِ ، بَلْ جَزَمُوا بِهِ ، وَفَرَّقَ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّفْقِ وَالْمُسَاهَلَةِ ، وَلَيْسَ فِيهَا إضْرَارٌ بِالْغَيْرِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : مَنْ طَلَبَ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، بَلْ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ تَفْرِقَتَهَا بِلَا طَلَبٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : وَعَلِمَ الْإِمَامُ فَلَوْ فَرَّقَهَا الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الدَّافِعُ اسْتِحْقَاقَ الْمُرِيدِ الدَّفْعَ عَلَيْهِ وَلَا عَدَمَهُ ( فَإِنْ ادَّعَى ) مَرِيدُ الْأَخْذِ ( فَقْرًا أَوْ مَسْكَنَةً لَمْ يُكَلَّفْ بَيِّنَةً ) يُقِيمُهَا عَلَى ذَلِكَ لِعُسْرِهَا ، وَلَمْ يَحْلِفْ فِي الْأَصَحِّ إنْ اُتُّهِمَ ، فَإِنْ لَمْ يُتَّهَمْ لَمْ يَحْلِفْ جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَمْ يُطَالِبْهُمَا بِيَمِينٍ ، وَإِنْ ادَّعَى عَدَمَ الْكَسْبِ وَحَالُهُ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ كَأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ ، وَكَذَا يَصْدُقُ إنْ كَانَ قَوِيًّا جَلْدًا فِي الْأَصَحِّ ( فَإِنْ عُرِفَ لَهُ ) أَيْ مَنْ طَلَبَ زَكَاةً ( مَالٌ ) يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ( وَادَّعَى تَلَفَهُ كُلِّفَ ) بَيِّنَةً عَلَى تَلَفِهِ ، وَهِيَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِسُهُولَتِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَمْ

يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ تَلَفَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَفِيٍّ كَالْوَدِيعِ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَالظَّاهِرُ التَّفْرِقَةُ كَالْوَدِيعَةِ ا هـ .
.
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ فَرَّقَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ عَدَمُ الضَّمَانِ وَهُنَا عَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ أَخْذِ مَنْ ادَّعَى ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، وَفِي هَذَا حَرَجٌ عَظِيمٌ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي قَسْمِ الْفَيْءِ أَنَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِسْكِينٌ ، أَوْ ابْنُ سَبِيلٍ قُبِلَ بِلَا بَيِّنَةٍ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ ( وَكَذَا إنْ ادَّعَى ) مَنْ طَلَبَ زَكَاةً ( عِيَالًا ) لَهُ لَا يَفِي كَسْبُهُ بِكِفَايَتِهِمْ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِيَالِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُمْ وَلِسُهُولَةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَقَوْلُ السُّبْكِيّ تَفَقُّهًا : وَكَذَا مَنْ لَمْ تَلْزَمْهُ مِمَّنْ تَقْضِي الْمُرُوءَةُ بِقِيَامِهِ بِنَفَقَتِهِمْ مِمَّنْ يُمْكِنُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ وَغَيْرِهِ بَعِيدٍ .

وَيُعْطَى غَازٍ وَابْنُ سَبِيلٍ بِقَوْلِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا اُسْتُرِدَّ ، وَيُطَالَبُ عَامِلٌ وَمُكَاتَبٌ وَغَارِمٌ بِبَيِّنَةٍ ، وَهِيَ : إخْبَارُ عَدْلَيْنِ ، وَيُغْنِي عَنْهَا الِاسْتِفَاضَةُ ، وَكَذَا تَصْدِيقُ رَبِّ الدَّيْنِ وَالسَّيِّدِ فِي الْأَصَحِّ .

( وَيُعْطَى غَازٍ ) جَاءَ وَقْتَ خُرُوجِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( وَابْنُ سَبِيلٍ ) كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَيْهِ ( بِقَوْلِهِمَا ) بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ( فَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا ) مَعَ الرُّفْقَةِ وَإِنْ تَأَهَّبَا لِلْغَزْوِ وَالسَّفَرِ ( اُسْتُرِدَّ ) مِنْهُمَا مَا أَخَذَاهُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ تَحْصُلْ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِلْقَدْرِ الَّذِي يَحْتَمِلُ تَأْخِيرَهُ ، وَقَدَّرَهُ السَّرَخْسِيُّ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنَّهَا تَقْرِيبٌ أَيْ فَيَحْتَمِلُ تَأْخِيرُ الْخُرُوجِ لِانْتِظَارِ الرُّفْقَةِ وَتَحْصِيلِ الْأُهْبَةِ وَنَحْوِهِمَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَوْ مَاتَ الْغَازِي فِي الطَّرِيقِ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْغَزْوِ اُسْتُرِدَّ مِنْهُ مَا بَقِيَ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ ظَاهِرٌ فِي حَالَةِ مَوْتِهِ دُونَ امْتِنَاعِهِ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْغَازِيَ وَابْنَ السَّبِيلِ إذَا خَرَجَا وَرَجَعَا وَفَضَلَ شَيْءٌ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ يُسْتَرَدُّ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْغَازِي فَإِنْ غَزَا وَرَجَعَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ صَالِحٌ وَلَمْ يُقَتِّرْ عَلَى نَفْسِهِ اُسْتُرِدَّ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْطَى فَوْقَ حَاجَتِهِ فَإِنْ قَتَّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يُقَتِّرْ وَالْبَاقِي يَسِيرٌ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَخْتَصُّ الِاسْتِرْدَادُ بِهِمَا ، بَلْ إذَا أَعْطَى الْمُكَاتَبُ ثُمَّ اسْتَغْنَى عَمَّا أَعْطَيْنَاهُ بِتَبَرُّعِ السَّيِّدِ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ إبْرَائِهِ عَنْ النُّجُومِ اُسْتُرِدَّ مَا قَبَضَهُ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْعِتْقِ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَمْ يَحْصُلْ .
قَالَ فِي الْبَيَانِ : وَلَوْ سَلَّمَ بَعْضَ الْمَالِ لِسَيِّدِهِ فَأَعْتَقَهُ فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِالْمَقْبُوضِ .
قَالَ فِي

الْمَجْمُوعِ : وَمَا قَالَهُ مُتَعَيِّنٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْغَارِمِ إذَا اسْتَغْنَى عَمَّا أَخَذَهُ بِإِبْرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ ( وَيُطَالَبُ عَامِلٌ وَمُكَاتَبٌ وَغَارِمٌ بِبَيِّنَةٍ ) بِالْعَمَلِ وَالْكِتَابَةِ وَالْغُرْمِ لِسُهُولَتِهَا وَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يُقِيمَ الْمُكَاتَبُ بَيِّنَةً بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ النُّجُومِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : الْعَامِلُ وَمُطَالَبَةٌ بِالْبَيِّنَةِ مَحَلُّهَا إذَا أَتَى لِرَبِّ الْمَالِ وَطَالَبَ وَجَهِلَ .
أَمَّا الْإِمَامُ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ حَالُهُ فَإِنَّهُ الَّذِي يَبْعَثُهُ فَلَا تَتَأَتَّى الْبَيِّنَةُ فِيهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَدْ يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْإِمَامُ التَّفْرِقَةَ ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى الْقَبْضَ وَالتَّفْرِقَةَ وَطَلَبَ أُجْرَتَهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الرِّفْعَةِ تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْغُرْمِ مَا إذَا غَرِمَهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِحْيَاءِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَفِضْ غُرْمُهُ لِذَلِكَ ، وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّهُ إنْ اشْتَهَرَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْبَيِّنَةِ وَإِلَّا احْتَاجَ كَالْغَارِمِ لِمَصْلَحَتِهِ ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَهُوَ حَسَنٌ ( وَهِيَ ) أَيْ الْبَيِّنَةُ هُنَا وَفِيمَا مَرَّ ( إخْبَارُ عَدْلَيْنِ ) بِصِفَةِ الشُّهُودِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ كَمَا اسْتَحْسَنَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ .
تَنْبِيهٌ : أَشْعَرَ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِإِخْبَارٍ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِدَعْوَى عِنْدَ قَاضٍ وَإِنْكَارٍ وَاسْتِشْهَادٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَبُولِ الِاسْتِفَاضَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ : ( وَيُغْنِي عَنْهَا ) أَيْ الْبَيِّنَةِ فِي كُلِّ مُطَالَبَةٍ بِهَا مِنْ الْأَصْنَافِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ( الِاسْتِفَاضَةُ ) بَيْنَ النَّاسِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِهَا ، وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ شَرْطَهَا

التَّسَامُعُ مِنْ جَمْعٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ( وَكَذَا تَصْدِيقُ رَبِّ الدَّيْنِ ) فِي الْغَارِمِ ( وَ ) تَصْدِيقُ ( السَّيِّدِ ) فِي الْمُكَاتَبِ يُغْنِي عَنْ الْبَيِّنَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِظُهُورِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ .
وَالثَّانِي : لَا ؛ لِاحْتِمَالِ التَّوَاطُؤِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُرَاعَى الْمُكَاتَبُ فَإِنْ عَتَقَ وَإِلَّا اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ ، وَالْغَارِمُ فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْمُؤَلَّفَةِ وَحُكْمُهُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ : نِيَّتِي فِي الْإِسْلَامِ ضَعِيفَةٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يُصَدِّقُهُ ، وَأَنَّ مَنْ ادَّعَى الشَّرَفَ بِأَنْ قَالَ : أَنَا شَرِيفٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي ، أَوْ الْكِفَايَةَ بِأَنْ قَالَ : أَنَا أَكْفِيكُمْ شَرَّ مَنْ يَلِينِي مِنْ الْكُفَّارِ ، أَوْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا فِي الصِّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ .

وَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ كِفَايَةَ سَنَةٍ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ فَيَشْتَرِي بِهِ عَقَارًا يَسْتَغِلُّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمِنْ هُنَا إلَى آخِرِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّرْفِ وَقَدْرِهِ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : ( وَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا إنْ لَمْ يُحْسِنْ كَسْبًا بِحِرْفَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ ( كِفَايَةَ سَنَةٍ ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ فَتَحْصُلُ بِهَا الْكِفَايَةُ سَنَةً ، وَأُيِّدَ بِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ كِفَايَةَ سَنَةٍ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ ) فِي الْأُمِّ ( وَ ) هُوَ ( قَوْلُ الْجُمْهُورِ ) أَيْضًا يُعْطَى كُلٌّ مِنْهُمَا ( كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ ) لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَفَسَّرَ الْكِفَايَةَ بِقَوْلِهِ : ( فَيَشْتَرِي بِهِ عَقَارًا يَسْتَغِلُّهُ ) وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُدْفَعَ لَهُ كِفَايَةُ عُمْرِهِ دَفْعَةً ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَإِنْ وَصَلَ إلَى الْعُمْرِ الْغَالِبِ مَاذَا يَدْفَعُ لَهُ ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ ، وَقَدْ سَأَلْتُ شَيْخِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : يُعْطَى كِفَايَةَ سَنَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَنْ يَشْتَرِي الْعَقَارَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِمَامَ .
ثُمَّ قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَالْغَازِي إنْ شَاءَ اشْتَرَى لَهُ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
أَمَّا مَنْ يُحْسِنُ الْكَسْبَ بِحِرْفَةٍ فَيُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ آلَتَهَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا أَوْ كَثُرَتْ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَفَقُّهًا : وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ حِرَفٌ أُعْطِيَ بِأَقَلِّهَا فَإِنْ لَمْ تَفِ بِحَالِهِ تَمَّمَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ .
ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ يُعْطَى بِالْحِرْفَةِ الَّتِي تَكْفِيهِ ، أَوْ بِتِجَارَةٍ فَيُعْطَى مَا يَشْتَرِي بِهِ مَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ مَا يَفِي رِبْحُهُ بِكِفَايَتِهِ غَالِبًا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَأَوْضَحُوهُ بِالْمِثَالِ ، فَقَالُوا : الْبَقْلِيُّ يَكْفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ عَشَرَةٌ ، وَالْفَاكِهَانِيُّ عِشْرُونَ ، وَالْخَبَّازُ

خَمْسُونَ ، وَالْبَقَّالُ مِائَةٌ ، وَالْعَطَّارُ أَلْفٌ ، وَالْبَزَّازُ أَلْفَانِ ، وَالصَّيْرَفِيُّ خَمْسَةُ آلَافٍ ، وَالْجَوْهَرِيُّ عَشَرَةُ آلَافٍ .
وَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّقْرِيبِ ، فَلَوْ زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِمْ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا نُقِصَ أَوْ زِيدَ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ .
تَنْبِيهٌ : الْبَقْلِيُّ بِمُوَحَّدَةٍ هُوَ مَنْ يَبِيعُ الْبُقُولَ ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ مَنْ يَبِيعُ الْبَاقِلَّاءَ ، وَالْبَقَّالُ بِمُوَحَّدَةٍ الْفَامِيُّ ، وَهُوَ مَنْ يَبِيعُ الْحُبُوبَ قِيلَ : وَالزَّيْتَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَمَنْ جَعَلَهُ بِالنُّونِ فَقَدْ صَحَّفَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى النَّقْلِيَّ لَا النَّقَّالَ ا هـ .

وَإِلَى الْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ قَدْرُ دَيْنِهِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ مَا يُوَصِّلُهُ مَقْصِدَهُ أَوْ مَوْضِع مَالِهِ ، وَالْغَازِي قَدْرُ حَاجَتِهِ نَفَقَةً وَكِسْوَةً ذَاهِبًا وَرَاجِعًا وَمُقِيمًا هُنَاكَ وَفَرَسًا وَسِلَاحًا ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُ ، وَيُهَيَّأُ لَهُ وَلِابْنِ السَّبِيلِ مَرْكُوبٌ إنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ ، وَمَا يَنْقُلُ عَلَيْهِ الزَّادَ وَمَتَاعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يَعْتَادُ مِثْلُهُ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَمَنْ فِيهِ صِفَتَا اسْتِحْقَاقٍ يُعْطَى إحْدَاهُمَا فَقَطْ فِي الْأَظْهَرِ .

وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَقَلِّ مَا يُدْفَعُ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَفِي الْوَدَائِعِ لِابْنِ سُرَيْجٍ أَقَلُّهُ أَيْ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ لِلْمَالِكِ إذَا لَمْ يَنْحَصِرْ الْمُسْتَحِقُّونَ أَوْ انْحَصَرُوا وَلَمْ يَفِ بِهِمْ الْمَالُ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَأَكْثَرُهُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ إلَى الْغِنَى ( وَ ) يُعْطَى ( الْمُكَاتَبُ ) كِتَابَةً صَحِيحَةً ( وَالْغَارِمُ ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا ( قَدْرَ دَيْنِهِ ) فَقَطْ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا الْبَعْضُ أُعْطِيَا التَّتِمَّةَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَهُمَا لِلْحَاجَةِ .
نَعَمْ الْغَارِمُ لِذَاتِ الْبَيْنِ يُعْطَى قَدْرَ دَيْنِهِ مُطْلَقًا كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ أَوْ يَعْطِفُ الْغَارِمَ بِأَوْ ( وَ ) يُعْطَى ( ابْنُ السَّبِيلِ مَا ) أَيْ شَيْئًا إذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ يَكْفِيهِ لِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ بِحَسَبِ الْحَالِ صَيْفًا وَشِتَاءً بِحَيْثُ ( يُوَصِّلُهُ ) ذَلِكَ ( مَقْصِدَهُ ) بِكَسْرِ الصَّادِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي طَرِيقِهِ إلَيْهِ مَالٌ ( أَوْ ) يُعْطَى مَا يُوَصِّلُهُ ( مَوْضِع مَالِهِ ) إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي طَرِيقِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ كَمَّلَ لَهُ كِفَايَتُهُ ذَهَابًا وَكَذَا رُجُوعًا إنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الرُّجُوعِ وَلَيْسَ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ وَلَا طَرِيقِهِ مَا يَكْفِيهِ ، وَلَا يُعْطَى لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ إلَّا إقَامَةَ مُدَّةِ الْمُسَافِرِينَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَهَذَا شَامِلٌ لِمَا إذَا قَامَ لِحَاجَةٍ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ فَيُعْطَى لِثَمَانِيَةِ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَ ) يُعْطَى ( الْغَازِي ) إذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ ( قَدْرَ حَاجَتِهِ ) فِي غَزْوَةٍ ( نَفَقَةً وَكِسْوَةً ) لِنَفْسِهِ وَكَذَا لِعِيَالِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفَارِقِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي النَّفَقَةِ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَقِيَاسًا فِي الْكِسْوَةِ ( ذَاهِبًا وَرَاجِعًا وَمُقِيمًا هُنَاكَ ) فِي مَوْضِع الْغَزْوِ إلَى الْفَتْحِ وَإِنْ طَالَتْ

الْإِقَامَةُ ؛ لِأَنَّ اسْمَهُ لَا يَزُولُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتُوا عَنْ قَدْرِ الْمُعْطَى لِإِقَامَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الِابْتِدَاءِ مُدَّةُ مُقَامِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَحْتَمِلُ إعْطَاؤُهُ لِأَقَلِّ مُدَّةٍ يُظَنُّ إقَامَتُهُ هُنَاكَ وَإِنْ زَادَتْ الْمُدَّةُ زِيدَ بِحَسَبِهَا .
لَكِنْ قَدْ يَجُرُّهُ ذَلِكَ إلَى نَقْلِ الزَّكَاةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَصَرْفِهَا هُنَاكَ ، وَقَدْ يُغْتَفَرُ هَذَا لِلْحَاجَةِ .
ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَ ) يُعْطَى ( فَرَسًا ) أَيْ قِيمَتَهَا إنْ كَانَ يُقَاتِلُ فَارِسًا ( وَسِلَاحًا ) أَيْ قِيمَتَهُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ( وَيَصِيرُ ذَلِكَ ) أَيْ الْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ ( مِلْكًا لَهُ ) فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ إذَا رَجَعَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفَارِقِيُّ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْفَرَسَ وَالسِّلَاحَ لِامْتِنَاعِ الْإِبْدَالِ فِي الزَّكَاةِ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ذَلِكَ وَيُعْطِيَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ هَذَا السَّهْمِ خَيْلًا وَسِلَاحًا وَيُوقِفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ وَأَنْ يُعِيرَهُ مِمَّا اشْتَرَاهُ وَوَقَفَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إنْ قَلَّ الْمَالُ ، وَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ اُسْتُرِدَّ مِنْهُ الْمَوْقُوفُ وَالْمُسْتَأْجَرُ وَالْمُعَارُ ( وَيُهَيَّأُ لَهُ ) أَيْ لِلْغَازِي ( وَلِابْنِ السَّبِيلِ ) أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( مَرْكُوبٌ ) غَيْرُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْغَازِي بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ لَا تَمْلِيكٍ بِقَرِينَةِ مَا يَأْتِي ، هَذَا ( إنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ كَانَ ) السَّفَرُ قَصِيرًا أَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ( ضَعِيفًا لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ ) دَفْعًا لِضَرُورَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَصِيرًا وَهُوَ قَوِيٌّ فَلَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَالْمُحَرَّرِ أَنَّ الْمَرْكُوبَ غَيْرُ الْفَرَسِ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ كَمَا قَرَّرْتُهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ فِي الْغَازِي غَيْرَ الْفَرَسِ ، وَذَكَرَا تَهْيِئَةَ الْمَرْكُوبِ لِابْنِ

السَّبِيلِ فَقَطْ ، وَلَمْ يَحْضُرْنِي فِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ لِلْأَصْحَابِ ، بَلْ قَضِيَّةُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّ مَرْكُوبَهُ هُوَ الْفَرَسُ الَّذِي يُعْطَاهُ قَالَ : وَقَدْ يُوَجَّهُ مَا فِي الْكِتَابِ بِتَوْفِيرِ الْخَيْلِ إلَى وَقْتِ الْحَرْبِ ؛ إذْ لَوْ رَكِبُوهَا مِنْ دَارِنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ رُبَّمَا كَلَّتْ وَعَجَزَتْ عَنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ حَالَ الْمُطَارَدَةِ وَالْقِتَالِ لَا سِيَّمَا إذَا بَعُدَ الْمَغْزِيُّ .
ا هـ .
وَمَا وُجِّهَ بِهِ هُوَ الْمُرَادُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ( وَ ) يُهَيَّأُ لَهُمَا ( مَا ) أَيْ مَرْكُوبٌ ( يَنْقُلُ عَلَيْهِ ) كُلٌّ مِنْهُمَا ( الزَّادَ وَمَتَاعَهُ ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ ) مَتَاعُهُ ( قَدْرًا يَعْتَادُ مِثْلُهُ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ ) فَلَا ؛ لِانْتِفَاءِ الْحَاجَةِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ سِيَاقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِرْدَادَ الْمَرْكُوبِ وَمَا يَنْقُلُ عَلَيْهِ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ إذَا رَجَعَا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ التَّهْيِئَةَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَلَوْ كَانَ سَفَرُهُ لِلنُّزْهَةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ بَعِيدٌ ، وَالْمُتَّجَهُ مَنْعُ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ .
ا هـ .
وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذَا عَلَى مَا إذَا كَانَتْ النُّزْهَةُ هِيَ الْحَامِلَةُ لَهُ عَلَى السَّفَرِ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ وَالْعَامِلِ أَمَّا الْمُؤَلَّفَة فَيُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ أَوْ الْمَالِكُ إنْ فَرَّقَ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّهُ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ ، وَأَمَّا الْعَامِلُ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا عَمِلَهُ ، فَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ الْإِمَامُ بِلَا شَرْطٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ إيَّاهُ ، وَإِنْ شَاءَ سَمَّاهَا لَهُ إجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ ثُمَّ أَدَّاهُ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ أَدَّاهَا الْمَالِكُ قَبْلَ قُدُومِ الْعَامِلِ أَوْ حَمَلَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ وَالزَّائِدُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ عَلَى

أُجْرَتِهِ يَرْجِعُ لِلْأَصْنَافِ وَإِنْ نَقَصَ سَهْمُهُ عَنْهَا كَمُلَ قَدْرُهَا مِنْ الزَّكَاةِ ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي ، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ أُجْرَةَ الْعَامِلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إجَارَةً أَوْ جَعَالَةً جَازَ وَبَطَلَ سَهْمُهُ فَتُقْسَمُ الزَّكَاةُ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَامِلٌ .
فَرْعٌ : قَالَ الدَّارِمِيُّ : إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْعَامِلُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا عَلَى الْقَاعِدَةِ وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَرَدَّهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ هَذَا فَرَضَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِمَنْ عَمِلَ كَالْغَنِيمَةِ يَسْتَحِقُّهَا الْمُجَاهِدُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا إعْلَاء كَلِمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا عَمِلَ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا اسْتَحَقَّ وَإِسْقَاطُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ لِمَا مَلَكَهُ بِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ مِنْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَلَيْسَ كَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلًا بِقَصْدِ التَّبَرُّعِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطٍ مِنْ الْمَخْلُوقِ ، وَهَذَا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْمِيرَاثِ وَالْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ ( وَمَنْ فِيهِ صِفَتَا اسْتِحْقَاقٍ ) لِلزَّكَاةِ كَالْفَقْرِ وَالْغُرْمِ وَلَوْ كَانَ عَامِلًا فَقِيرًا ( يُعْطَى إحْدَاهُمَا فَقَطْ فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ ، وَالثَّانِي : يُعْطَى بِهِمَا لِاتِّصَافِهِ بِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ مِنْ زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ .
أَمَّا إذَا كَانَ أَخَذَ مِنْ زَكَاةٍ بِصِفَةٍ وَمِنْ أُخْرَى بِصِفَةٍ أُخْرَى فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَوْ أَخَذَ فَقِيرٌ غَارِمٌ مَعَ الْغَارِمِينَ نَصِيبَهُ مِنْ سَهْمِهِمْ فَأَعْطَاهُ غَرِيمَهُ أُعْطِيَ مَعَ الْفُقَرَاءِ نَصِيبَهُ مِنْ سَهْمِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُحْتَاجٌ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الشَّيْخِ نَصْرٍ وَأَقَرَّهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَالْمُرَادُ امْتِنَاعُ أَخْذِهِ بِهِمَا دُفْعَةً : أَيْ أَوْ

مُرَتَّبًا وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيمَا أَخَذَهُ أَوَّلًا كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا .
أَمَّا مَنْ فِيهِ صِفَتَا اسْتِحْقَاقٍ لِلْفَيْءِ أَيْ وَإِحْدَاهُمَا الْغَزْوُ كَغَازٍ هَاشِمِيٍّ فَيُعْطَى بِهِمَا .

فَصْلٌ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ إنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ وَهُنَاكَ عَامِلٌ ، وَإِلَّا فَالْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةٍ ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهُمْ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ ، وَإِذَا قَسَمَ الْإِمَامُ يَسْتَوْعِبُ مِنْ الزَّكَوَاتِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ ، وَكَذَا يَسْتَوْعِبُ الْمَالِكَ إنْ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ وَوَفَّى بِهِمْ الْمَالُ ، وَإِلَّا فَيَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ ، وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَمَا يَتْبَعُهَا ( يَجِبُ اسْتِيعَابُ ) أَيْ تَعْمِيمُ ( الْأَصْنَافِ ) الثَّمَانِيَةِ بِالزَّكَاةِ حَتَّى زَكَاةِ الْفِطْرِ ( إنْ ) أَمْكَنَ بِأَنْ ( قَسَمَ الْإِمَامُ ) أَوْ نَائِبُهُ ( وَهُنَاكَ عَامِلٌ ) مَعَ بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَوْ قَسَمَ الْعَامِلُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فَيُعْزَلُ حَقُّهُ ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي عَلَى سَبْعَةٍ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّعْمِيمُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ، { وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَائِلَةِ الزَّكَاةِ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ، فَإِنْ كُنْتِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكِ حَقَّكِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ شَقَّتْ الْقِسْمَةُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ جَمَعَ جَمَاعَةٌ فِطْرَتَهُمْ ثُمَّ قَسَمُوهَا عَلَى سَبْعَةٍ ، وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : مِنْهُمْ الْإِصْطَخْرِيُّ جَوَازَ صَرْفِهَا إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ .
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ اخْتِيَارِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ جَوَازَ صَرْفِهَا إلَى وَاحِدٍ .
قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَأَنَا أُفْتِي بِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، وَالْأَحْوَطُ دَفْعُهَا إلَى ثَلَاثَةٍ .
قَالَ : وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يَلْزَمُهُمْ خَلْطُ فِطْرَتِهِمْ ، وَالصَّاعُ لَا يُمْكِنُ تَفْرِقَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الْعَادَةِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ قَسَمَ الْمَالِكُ أَوْ الْإِمَامُ وَلَا عَامِلَ بِأَنْ حَمَلَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ زَكَاتَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ عَامِلًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ( فَالْقِسْمَةُ ) حِينَئِذٍ ( عَلَى سَبْعَةٍ ) لِسُقُوطِ سَهْمِ الْعَامِلِ فَيُدْفَعُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سُبْعُ الزَّكَاةِ قَلَّ عَدَدُهُ أَوْ كَثُرَ ( فَإِنْ فُقِدَ

بَعْضُهُمْ ) مِنْ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ ( فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ ) مِنْهُمْ ؛ إذْ الْمَعْدُومُ لَا سَهْمَ لَهُ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَالْمَوْجُودُ الْآنَ أَرْبَعَةٌ : فَقِيرٌ ، وَمِسْكِينٌ ، وَغَارِمٌ ، وَابْنُ سَبِيلٍ .
وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ : سَمِعْتُ الْقَاضِيَ أَبَا حَامِدٍ يَقُولُ : أَنَا أُفَرِّقُ زَكَاةَ مَالِي عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِأَنِّي لَا أَجِدُ غَيْرَهُمْ ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ .
وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَمْ نَفْقِدْ إلَّا الْمُكَاتَبِينَ ، لَكِنْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَطُوفُ الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ فَقْدَ الْبَعْضِ صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا فَقْدُ صِنْفٍ بِكَمَالِهِ كَالْمُكَاتَبِينَ ، وَالثَّانِيَةُ فَقْدُ بَعْضِ صِنْفٍ بِأَنْ لَا يَجِدُ مِنْهُ إلَّا وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ ، وَفِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : أَنَّهُ يُصْرَفُ بَاقِي السَّهْمِ إلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا ، وَلَا يُنْقَلُ لِبَلَدٍ آخَرَ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي بَلَدِ الزَّكَاةِ وَلَا غَيْرِهَا حُفِظَتْ الزَّكَاةُ حَتَّى يُوجَدُوا أَوْ بَعْضُهُمْ ، فَإِنْ وُجِدُوا وَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ سُلَيْمٌ فِي الْمُجَرَّدِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَلَا يَصِحُّ إبْرَاءُ الْمُسْتَحِقِّينَ الْمَحْصُورِينَ الْمَالِكِ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ وُجِدُوا فِي غَيْرِ بَلَدِ الزَّكَاةِ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ ( وَإِذَا قَسَمَ الْإِمَامُ ) أَوْ نَائِبُهُ الْمَفْرُوضُ إلَيْهِ الصَّرْفُ ( اسْتَوْعَبَ ) وُجُوبًا ( مِنْ الزَّكَوَاتِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِاسْتِيعَابُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ فِي زَكَاةِ كُلِّ شَخْصٍ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يُعْطَى زَكَاةَ شَخْصٍ بِكَمَالِهَا لِوَاحِدٍ ، وَأَنْ يَخُصَّ وَاحِدًا بِنَوْعٍ وَآخَرَ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَوَاتِ كُلَّهَا فِي يَدِهِ كَالزَّكَاةِ الْوَاحِدَة .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إذَا لَمْ

يَقِلَّ الْمَالُ ، فَإِنْ قَلَّ بِأَنْ كَانَ قَدْرًا لَوْ وَزَّعَهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسُدَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِيعَابُ لِلضَّرُورَةِ ، بَلْ يُقَدِّمُ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ أَخْذًا مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْفَيْءِ ( وَكَذَا يَسْتَوْعِبُ ) وُجُوبًا ( الْمَالِكُ ) آحَادَ كُلَّ صِنْفٍ ( إنْ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ ) بِأَنْ سَهُلَ عَادَةً ضَبْطُهُمْ وَمَعْرِفَةُ عَدَدِهِمْ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ضَابِطِ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ( وَوَفَّى بِهِمْ ) أَيْ بِحَاجَتِهِمْ ( الْمَالُ ) وَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ حِينَئِذٍ ، فَإِنْ أَخَلَّ أَحَدُهُمَا بِصِنْفٍ ضَمِنَ مَا كَانَ يُعْطِيهِ لَهُ ابْتِدَاءً ، لَكِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَضْمَنُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ لَا مِنْ مَالِهِ بِخِلَافِ الْمَالِكِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا أَوْ انْحَصَرُوا وَلَمْ يَفِ الْمَالُ بِحَاجَتِهِمْ ( فَيَجِبُ ) فِي غَيْرِ الْعَامِلِ ( إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ ) فَأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَضَافَ إلَيْهِمْ الزَّكَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ، فَلَوْ دَفَعَ لِاثْنَيْنِ غَرِمَ لِلثَّالِثِ أَقَلَّ مُتَمَوِّلٍ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ ابْتِدَاءً خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ ، فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ ، وَقِيلَ : يَغْرَمُ لَهُ الثُّلُثَ ، أَمَّا الْعَامِلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا إنْ حَصَلَتْ بِهِ الْكِفَايَةُ ( وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ ) سَوَاءٌ أَقَسَمَ الْإِمَامُ أَوْ الْمَالِكُ وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ لِانْحِصَارِهِمْ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُورَتَانِ : الْأُولَى : الْعَامِلُ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى أُجْرَتِهِ كَمَا مَرَّ .
الثَّانِيَةُ : الْفَاضِلُ نَصِيبُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى قَدْرَ كِفَايَتِهِ فَقَطْ .

لَا بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ ، إلَّا أَنْ يَقْسِمَ الْإِمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ .
وَ ( لَا ) يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ التَّسْوِيَةُ ( بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ ) لِأَنَّ الْحَاجَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فَاكْتُفِيَ بِصِدْقِ الِاسْمِ بَلْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ تَسَاوِي حَاجَاتِهِمْ ، فَإِنْ تَفَاوَتَتْ اُسْتُحِبَّ التَّفَاوُتُ بِقَدْرِهَا ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِفُقَرَاءِ بَلَدٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا لَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ فَقِيرٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَهَذَا لَمْ يُثْبِتْ الْحَقَّ لَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنُوا لِفَقْدِ غَيْرِهِمْ ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مُسْتَحِقٌّ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بَلْ يُنْقَلُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ( إلَّا أَنْ يَقْسِمَ الْإِمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ ) لِأَنَّ عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ فَكَذَا التَّسْوِيَةُ ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ فَلَا يُفَاوِتُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَسَاوِي حَاجَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمَالِكِ فِيهِمَا ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحَيْهِ عَنْ التَّتِمَّةِ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : قُلْتُ : مَا فِي التَّتِمَّةِ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدَّلِيلِ فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابَ التَّسْوِيَةِ ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْكِتَابِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ مَا لَوْ اخْتَلَفَتْ فَيُرَاعِيهَا وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِيعَابُ يَجُوزُ الدَّفْعُ لِلْمُسْتَوْطَنَيْنِ وَالْغُرَبَاءِ ، وَلَكِنْ الْمُسْتَوْطِنُونَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ .

وَالْأَظْهَرُ مَنْعُ نَقْلِ الزَّكَاةِ

( وَالْأَظْهَرُ مَنْعُ نَقْلِ الزَّكَاةِ ) مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ الَّذِي فِيهِ الْمُسْتَحِقُّونَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فِيهِ مُسْتَحِقُّوهَا فَتُصْرَفُ إلَيْهِمْ قَالُوا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } وَلِامْتِدَادِ أَطْمَاعِ أَصْنَافِ كُلِّ بَلْدَةٍ إلَى زَكَاةِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَالِ وَالنَّقْلُ يُوحِشُهُمْ .
وَالثَّانِي : الْجَوَازُ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ النَّقْلِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ كَمَا مَرَّ ، وَقِيَاسًا عَلَى نَقْلِ الْوَصِيَّةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ عَنْ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْأَطْمَاعَ لَا تَمْتَدُّ إلَى ذَلِكَ امْتِدَادَهَا إلَى الزَّكَاةِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ يُفْهِمُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّحْرِيمِ ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُمَا فِي الْإِجْزَاءِ ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أُمُورًا : أَحَدُهَا : جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمَا دُونَهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ إلَى قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الْبَلَدِ .
الثَّانِي : جَرَيَانُهُ ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَهْلُ السِّهَامِ مَحْصُورِينَ أَمْ لَا ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا ، وَخَصَّهُ فِي الشَّافِي بِعَدَمِ انْحِصَارِهِمْ ، فَلَوْ انْحَصَرُوا حَوْلًا تَمَلَّكُوهَا وَتَعَيَّنَ صَرْفُهَا إلَيْهِمْ وَتَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِمْ وَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا شَيْءَ لَهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَالِكِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ .
أَمَّا الْإِمَامُ وَالسَّاعِي ، فَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : الْأَصَحُّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ جَوَازُ النَّقْلِ لِلْإِمَامِ وَالسَّاعِي .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
ا هـ .
وَالْعِبْرَةُ فِي نَقْلِ

الزَّكَاةِ الْمَالِيَّةِ بِبَلَدِ الْمَالِ حَالَ الْوُجُوبِ وَفِي زَكَاةِ الْفِطْرِ بِبَلَدِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ اعْتِبَارًا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ نَظَرَ الْمُسْتَحِقِّينَ يَمْتَدُّ إلَى ذَلِكَ فَيُصْرَفُ الْعُشْرُ إلَى مُسْتَحِقِّي بَلَدِ الْأَرْضِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الْعُشْرُ ، وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ وَالْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ إلَى مُسْتَحِقِّي الْبَلَدِ الَّذِي تَمَّ فِيهِ حَوْلُهَا .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ : مِنْهَا مَا لَوْ كَانَ لِلْمَالِكِ بِكُلِّ بَلَدٍ عِشْرُونَ شَاةٍ فَلَهُ إخْرَاجُ شَاةٍ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ حَذَرًا مِنْ التَّشْقِيصِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي غَنَمِ كُلِّ بَلَدٍ شَاةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّقْلُ لِانْتِفَاءِ التَّشْقِيصِ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَالْمَالُ بِبَادِيَةٍ وَلَا مُسْتَحِقَّ فِيهَا فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى مُسْتَحِقِّ أَقْرَبِ بَلَدٍ إلَيْهِ ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْخِيَامِ غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّينَ بِمَوْضِعٍ ، بِأَنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ دَائِمًا فَلَهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْتَحِقٌّ نَقْلُ وَاجِبِهِمْ إلَى أَقْرَبِ بَلَدٍ إلَيْهِمْ وَإِنْ اسْتَقَرُّوا بِمَوْضِعٍ ، لَكِنْ قَدْ يَظْعَنُونَ عَنْهُ وَيَعُودُونَ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فِي الْحُلَلِ وَفِي الْمَرْعَى وَفِي الْمَاءِ صُرِفَ إلَى مَنْ هُوَ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ، وَلِهَذَا عُدَّ مِثْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ حَاضِرِيهِ ، وَالصَّرْفُ إلَى الظَّاعِنِينَ مَعَهُمْ أَوْلَى لِشِدَّةِ جِوَارِهِمْ ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَا ذُكِرَ فَالْحِلَّةُ كَالْقَرْيَةِ فِي حُكْمِ النَّقْلِ مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ فِيهَا فَيَحْرُمُ النَّقْلُ عَنْهَا .

وَلَوْ عُدِمَ الْأَصْنَافُ فِي الْبَلَدِ وَجَبَ النَّقْلُ ، أَوْ بَعْضُهُمْ وَجَوَّزْنَا النَّقْلَ وَجَبَ ، وَإِلَّا فَيُرَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ ، وَقِيلَ يُنْقَلُ
( وَلَوْ عُدِمَ الْأَصْنَافُ فِي الْبَلَدِ ) الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا وَفَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ ( وَجَبَ النَّقْلُ ) لَهَا إلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ لِبَلَدِ الْوُجُوبِ ، فَإِنْ نُقِلَ لِأَبْعَدَ مِنْهَا فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ ( أَوْ ) عُدِمَ ( بَعْضُهُمْ ) أَيْ الْأَصْنَافُ غَيْرَ الْعَامِلِ أَوْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ بَعْضٍ وَجَدَ مِنْهُمْ ( وَجَوَّزْنَا النَّقْلَ ) مَعَ وُجُودِهِمْ ( وَجَبَ ) نَقْلُ نَصِيبِ الصِّنْفِ الْمَعْدُومِ إلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ بِأَقْرَبِ بَلَدٍ .
أَمَّا الْعَامِلُ فَنَصِيبُهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ نُجَوِّزْ النَّقْلَ ( فَيُرَدُّ ) نَصِيبُ الْبَعْضِ أَوْ مَا فَضَلَ عَنْهُ ( عَلَى الْبَاقِينَ ) حَتْمًا إنْ نَقَصَ نَصِيبُهُمْ عَنْ كِفَايَتِهِمْ فَلَا يُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِمْ لِانْحِصَارِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِمْ ( وَقِيلَ يُنْقَلُ ) حَتْمًا إلَى أَقْرَبِ بَلَدٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَافِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَكَانِ الثَّابِتِ بِالِاجْتِهَادِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ كَالْعَدَمِ الْمُطْلَقِ ، فَإِنْ نُقِلَ ضَمِنَ .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ جَازَ النَّقْلُ أَوْ وَجَبَ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَالِكِ .
نَعَمْ إنْ قَبَضَهُ السَّاعِي مِنْ الْمَالِكِ فَمُؤْنَةُ النَّقْلِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .

وَشَرْطُ السَّاعِي كَوْنُهُ حُرًّا عَدْلًا فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ فَإِنْ عُيِّنَ أَخْذٌ وَدَفْعٌ لَمْ يُشْتَرَطْ الْفِقْهُ
( وَشَرْطُ السَّاعِي ) وَهُوَ الْعَامِلُ ( كَوْنُهُ حُرًّا ) ذَكَرًا مُكَلَّفًا ( عَدْلًا ) فِي الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا لِأَنَّهُ نَوْعُ وِلَايَةٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْوِلَايَاتِ .
تَنْبِيهٌ : اسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعَدَالَةِ عَنْ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ ( فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ ) فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ وِلَايَتُهُ كَمَا قَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِيُعْلَمَ مَنْ يَأْخُذُ وَمَا يُؤْخَذُ ، هَذَا إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ عَامًّا ( فَإِنْ عُيِّنَ لَهُ أَخْذٌ وَدَفْعٌ ) فَقَطْ ( لَمْ يُشْتَرَطْ الْفِقْهُ ) الْمَذْكُورُ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ بِالتَّعْيِينِ .
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ فَيُعْتَبَرُ مِنْهَا التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ ، وَكَذَا الْإِسْلَامُ كَمَا اخْتَارَهُ فِي الْمَجْمُوعِ دُونَ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ .
وَمِثْلُ السَّاعِي أَعْوَانُ الْعَامِلِ مِنْ كُتَّابِهِ وَحُسَّابِهِ وَجُبَاتِهِ وَمُسْتَوْفِيهِ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي حَاوِيهِ ، وَيَقْسِمُ الزَّكَاةَ سَاعٍ قُلِّدَ الْقِسْمَةَ أَوْ أُطْلِقَ تَقْيِيدُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلِّدَ الْأَخْذَ وَحْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ ، فَإِنْ كَانَ السَّاعِي جَائِرًا فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي قَسْمِهَا جَازَ كَتْمُهَا عَنْهُ وَدَفْعُهَا إلَيْهِ ، أَوْ كَانَ جَائِرًا فِي الْقِسْمَةِ عَادِلًا فِي الْأَخْذِ وَجَبَ كَتْمُهَا ، فَلَوْ أُعْطِيَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ يُوصِلْهَا إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ كَالْإِمَامِ .

وَلْيُعْلِمْ شَهْرًا لِأَخْذِهَا .
( وَلْيُعْلِمْ ) الْإِمَامُ وَلَوْ بِنَائِبِهِ ( شَهْرًا لِأَخْذِهَا ) لِيَتَهَيَّأَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِدَفْعِهَا وَالْمُسْتَحَقُّونَ لِأَخْذِهَا .
وَيُسَنُّ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّهْرِ الْمُحَرَّمَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْعَامِ ، وَهَذَا فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَامُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فَيَبْعَثْ وَقْتَ وُجُوبِهَا وَهُوَ فِي الزَّرْعِ عِنْدَ الِاشْتِدَادِ وَفِي الثِّمَارِ عِنْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ وَغَيْرُهُ ، وَالْأَشْبَهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ لَا يَبْعَثَ فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ إلَّا عِنْدَ تَصْفِيَتِهَا بِخِلَافِ الثِّمَارِ فَإِنَّهَا تُخْرَصُ حِينَئِذٍ ، فَإِنْ بَعَثَ خَارِصًا لَمْ يَبْعَثْ السَّاعِي إلَّا عِنْدَ جَفَافِهَا .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ وَاجِبٌ ، وَالصَّحِيحُ نَدْبُهُ .

وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .

تَتِمَّةٌ : يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا عَدَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَقَدْرَ حَاجَاتِهِمْ ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِإِعْطَاءِ الْعَامِلِينَ ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ بِلَا تَقْصِيرٍ فَأُجْرَتُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا إلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا فِي خَطَرٍ كَأَنْ أَشْرَفَتْ عَلَى هَلَاكٍ أَوْ حَاجَةِ مُؤْنَةٍ نُقِلَ أَوْ رُدَّ حَيْرَانُ ، فَإِنْ بَاعَ بِلَا عُذْرٍ ضَمِنَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ جَمَاعَةً وَالزَّكَاةُ شَاةً مَثَلًا أَخَذُوهَا ، وَلَا تُبَاعُ عَلَيْهِمْ لِيَقْسِمَ ثَمَنَهَا ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الزَّكَاةَ بِالْعَمَلِ وَالْأَصْنَافِ بِالْقِسْمَةِ .
نَعَمْ إنْ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي ثَلَاثَةٍ فَأَقَلَّ ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا أَكْثَرَ وَوَفَّى بِهِمْ الْمَالُ اسْتَحَقُّوهَا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ فَلَا يَضُرُّهُمْ حُدُوثُ غِنًى أَوْ غَيْبَةٍ ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَفَعَ نَصِيبَهُ لِوَارِثِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُزَكِّي وَارِثَهُ أَخَذَ نَصِيبَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ النِّيَّةُ لِسُقُوطِ الدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ قَادِمٌ وَلَا غَائِبٌ عَنْهُمْ وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَيَضْمَنُ الْإِمَامُ إنْ أَخَّرَ التَّفْرِيقَ بِلَا عُذْرٍ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِتَفْرِيقِهَا ؛ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَحِقِّ قَدْرَ مَا أَخَذَهُ ، فَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ صُرَّةً وَلَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهَا أَجْزَأَهُ زَكَاةٌ وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ اُتُّهِمَ رَبُّ الْمَالِ فِيمَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَأَنْ قَالَ : لَمْ يَحُلْ عَلَيَّ الْحَوْلُ لَمْ يَجُزْ تَحْلِيفُهُ ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ بِمَا يَدَّعِيهِ كَأَنْ قَالَ : أَخْرَجْتُ زَكَاتَهُ أَوْ بِعْتُهُ .
وَيُسَنُّ لِلْمَالِكِ إظْهَارُ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ لِئَلَّا يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ ، وَلَوْ ظَنَّ آخِذُ الزَّكَاةِ أَنَّهُ أَعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرَهُ مِنْ الْأَصْنَافِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ ،

وَإِذَا أَرَادَ الْأَخْذَ مِنْهَا لَزِمَهُ الْبَحْثُ عَنْ قَدْرِهَا فَيَأْخُذُ بَعْضَ الثَّمَنِ بِحَيْثُ يَبْقَى مَا يَدْفَعُهُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْ صِنْفِهِ وَلَا أَثَرَ لِمَا دُونَ غَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَلَوْ أَخَّرَ تَفْرِيقَ الزَّكَاةِ إلَى الْعَامِ الثَّانِي ، فَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا أَوْ غَارِمًا أَوْ مُكَاتَبًا مِنْ عَامِهِ إلَى الْعَامِ الثَّانِي خُصُّوا بِزَكَاةِ الْمَاضِي وَشَارَكُوا غَيْرَهُمْ فِي الْعَامِ الثَّانِي فَيُعْطَوْنَ مِنْ زَكَاةِ الْعَامَيْنِ ، وَمَنْ كَانَ غَارِمًا أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ أَوْ مُؤَلَّفًا لَمْ يُخَصُّوا بِشَيْءٍ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ لِمَا يَسْتَقْبِلُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ .

وَيُسَنُّ وَسْمُ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَالْفَيْءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكْثُرُ شَعْرُهُ ، وَيُكْرَهُ فِي الْوَجْهِ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ يَحْرُمُ وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيّ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَعْنُ فَاعِلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيُسَنُّ وَسْمُ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَالْفَيْءِ ) وَالْجِزْيَةِ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا وَيَرُدُّهَا وَاجِدُهَا لَوْ شَرَدَتْ أَوْ ضَلَّتْ ، وَلْيُعَرِّفْهَا الْمُتَصَدِّقُ فَلَا يَتَمَلَّكَهَا بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الِاتِّبَاعُ فِي نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَالْقِيَاسُ فِي غَيْرِهَا .
أَمَّا نَعَمُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ فَوَسْمُهُ مُبَاحٌ لَا مَنْدُوبٌ وَلَا مَكْرُوهٌ ، قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَكَالنَّعَمِ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَالْفِيَلَةُ .
وَالْوَسْمُ بِالْمُهْمَلَةِ : التَّأْثِيرُ بِالْكَيِّ وَغَيْرِهِ ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ الْإِعْجَامَ ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ فَجَعَلَ الْمُهْمَلَةَ لِلْوَجْهِ وَالْمُعْجَمَةَ لِسَائِرِ الْجَسَدِ ، وَيُكْتَبُ عَلَى نَعَمِ الزَّكَاةِ مَا يُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا فَيُكْتَبُ عَلَيْهَا زَكَاةٌ ، أَوْ صَدَقَةٌ ، أَوْ طُهْرَةٌ ، أَوْ لِلَّهِ ، وَهُوَ أَبْرَكُ وَأَوْلَى اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ حُرُوفًا ، فَهُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَحَكَى ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَأَقَرَّهُ ، وَعَلَى نَعَمِ الْجِزْيَةِ جِزْيَةٌ وَصَغَارٌ بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ ذُلٌّ ، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ جَازَ الْوَسْمُ بِاَللَّهِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَتَمَرَّغُ عَلَى النَّجَاسَاتِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَرَضَ التَّمْيِيزُ لَا الذِّكْرُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْحَرْفُ الْكَبِيرُ كَكَافِ الزَّكَاةِ أَوْ صَادِ الصَّدَقَةِ ، أَوْ جِيمِ الْجِزْيَةِ ، أَوْ فَاءِ الْفَيْءِ ، كَافٍ ، وَيُكْتَبُ ذَلِكَ ( فِي مَوْضِعٍ ) ظَاهِرٍ صَلْبٍ ( لَا يَكْثُرُ شَعْرُهُ ) وَالْأَوْلَى فِي الْغَنَمِ آذَانُهَا وَفِي غَيْرِهَا أَفْخَاذُهَا ، وَيَكُونُ اسْمُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ مِنْ الْبَقَرِ ، وَالْبَقَرِ أَلْطَفَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَالْإِبِلِ أَلْطَفَ مِنْ الْفِيَلَةِ ( وَيُكْرَهُ ) الْوَسْمُ ( فِي الْوَجْهِ ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ يَحْرُمُ وَبِهِ جَزَمَ ) الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَبُو

مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيّ فِي تَهْذِيبِهِ ( وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمِ ) بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُشَيْرِيِّ نَسَبًا النَّيْسَابُورِيِّ وَطَنًا ، مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ( لَعْنُ فَاعِلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَشَارَ إلَى حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِحِمَارٍ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ } .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْأُمِّ قَالَ : وَالْخَبَرُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، فَيَنْبَغِي رَفْعُ الْخِلَافِ وَحَمْلُ الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ ، أَوْ أَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَهَذَا فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ .
أَمَّا الْآدَمِيُّ .
فَوَسْمُهُ حَرَامٌ إجْمَاعًا ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا : يَجُوزُ الْكَيُّ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَإِلَّا فَلَا ، سَوَاءٌ نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَجُوزُ خِصَاءُ مَا يُؤْكَلُ فِي صِغَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ اللَّحْمَ وَيَحْرُمُ فِي الْكَبِيرِ ، وَكَذَا خِصَاءُ مَا لَا يُؤْكَلُ ، وَيَحْرُمُ التَّهْرِيشُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ ، وَيُكْرَهُ إنْزَاءُ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ ، قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ وَعَكْسُهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ إنْزَاءِ الْخَيْلِ عَلَى الْبَقَرِ لِضَعْفِهَا وَتَضَرُّرِهَا بِكُبْرِ آلَةِ الْخَيْلِ .

فَصْلٌ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ سُنَّةٌ : وَتَحِلُّ لِغَنِيٍّ ، وَكَافِرٍ .

فَصْلٌ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاق غَالِبًا ( صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ سُنَّةٌ ) لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَطْعَمَ جَائِعًا أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ ، وَمَنْ كَسَا مُؤْمِنًا عَارِيًّا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ .
وَخُضْرُ الْجَنَّةِ بِإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ : ثِيَابُهَا الْخُضْرُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيَهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ } وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يُحَرِّمُهَا كَأَنْ يُعْلَمَ مِنْ آخِذِهَا أَنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي مَعْصِيَةٍ ، وَقَدْ تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ كَأَنْ وَجَدَ مُضْطَرًّا وَمَعَهُ مَا يُطْعِمُهُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ ( وَتَحِلُّ لِغَنِيٍّ ) وَلَوْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ لَهُ : أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ .
وَمِثْلُهُمْ مَوْلَاهُمْ بَلْ أَوْلَى ، لَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَظْهَرِ تَشْرِيفًا لَهُ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى غَنِيٍّ } وَفِيهِ : { لَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا ، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا ،

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ ، { وَعَلَيْهِ حَمَلُوا خَبَرَ الَّذِي مَاتَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيَّتَانِ مِنْ نَارٍ } ، وَالْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ خَلَّفَ دِينَارَيْنِ ، وَهَذَا لَيْسَ غِنَى الزَّكَاةِ .
أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ الْعُمْرَ الْغَالِبَ ، أَوْ كَانَ غِنَاهُ بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ ، أَوْ كَسْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ فَسَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَال كَمَا هُوَ مِنْ قَوَاعِدِ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَيُعْتَبَرُ فِي حِلِّهَا لَهُ أَنْ لَا يَظُنَّ الدَّافِعُ فَقْرَهُ .
فَإِنْ أَعْطَاهُ ظَانًّا حَاجَتَهُ ، فَفِي الْإِحْيَاءِ إنْ عَلِمَ الْآخِذُ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ نَسَبِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوَصْفِ الْمَظْنُونِ ( وَ ) تَحِلُّ لِشَخْصٍ ( كَافِرٍ ) فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ } وَأَمَّا حَدِيثُ : { لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلَّا تَقِيٌّ } أُرِيدَ بِهِ الْأَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ الْكَافِرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ .
وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ أَوْ ذِمَّةٌ ، أَوْ قَرَابَةٌ ، أَوْ يُرْجَى إسْلَامُهُ ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ ، فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا ، وَشَمِلَ إطْلَاقُهُ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ مِنْ أُضْحِيَّةِ تَطَوُّعٍ ، وَالْأَوْجَهُ الْمَنْعُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ .

وَدَفْعُهَا سِرًّا .
( وَدَفْعُهَا سِرًّا ) أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا جَهْرًا لِآيَةِ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } : وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خَبَرِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَدْرِيَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ } نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَأَظْهَرَهَا لِيُقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سَمَعَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ .

وَفِي رَمَضَانَ .
( وَ ) دَفْعُهَا ( فِي رَمَضَانَ ) أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا فِي غَيْرِهِ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ } وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ يَضْعُفُونَ وَيَعْجِزُونَ عَنْ الْكَسْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ ، وَتَتَأَكَّدُ فِي الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ الْعِيدِ ، وَكَذَا فِي الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ ، وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ كَالْكُسُوفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَدَقَةٍ أَوْ بِرٍّ فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مَثَلًا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ ، بَلْ الْمُسَارَعَةُ إلَى الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيفَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا .

وَلِقَرِيبٍ
( وَ ) دَفْعُهَا ( لِقَرِيبٍ ) أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الْأَقْرَبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ، } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ ، وَحَكَى فِي الْمَجْمُوعِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، وَفِي الْأَشَدِّ مِنْ الْأَقَارِبِ عَدَاوَةٌ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ ، لِيَتَأَلَّفَ قَلْبَهُ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ .
فَائِدَةٌ : سُئِلَ الْحَنَّاطِيُّ : هَلْ الْأَفْضَلُ وَضْعُ الرَّجُلِ صَدَقَتَهُ فِي رَحِمِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ ؟ فَأَجَابَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَأُلْحِقَ بِالْأَقَارِبِ الزَّوْجُ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيْتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتَا لِبِلَالٍ سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ } وَيُقَاسُ بِالزَّوْجِ الزَّوْجَةُ ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَالْخَالِ ، ثُمَّ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ الْمَحْرَمِ رَضَاعًا ثُمَّ مُصَاهَرَةً ، ثُمَّ فِي الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَلَاءً مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ .

وَجَارٍ أَفْضَلُ .
( وَ ) دَفْعُهَا ( لِجَارٍ ) أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ ( أَفْضَلُ ) مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْجَارِ غَيْرِ مَنْ تَقَدَّمَ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ فَقَالَ : إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا } وَقُدِّمَ الْجَارُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ مِنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ بَلْ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا تُنْقَلُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِمَا ، وَلَوْ كَانَ الْقَرِيبُ بِبَادِيَةٍ فَإِنْ كَانَتْ تُنْقَلُ إلَيْهِ بِأَنْ كَانَ فِي مَحَلِّهَا قُدِّمَ عَلَى الْجَارِ الْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَأَهْلُ الْخَيْرِ وَالْمُحْتَاجُونَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ .

وَيُسَنُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِمَّا يُحِبُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَأَنْ يَدْفَعَهَا بِبَشَاشَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْأَجْرِ وَجَبْرِ الْقَلْبِ .

وَتُكْرَهُ الصَّدَقَةُ بِالرَّدِيءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَلَا كَرَاهَةَ ، وَبِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ أَوَّلَ الْبَابِ ، .

وَلَا يَأْنَفُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِالْقَلِيلِ فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ كَثِيرٌ عِنْدَ اللَّهِ .
وَقَالَ - تَعَالَى - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ } .

وَلَوْ بَعَثَ بِشَيْءٍ مَعَ غَيْرِهِ إلَى فَقِيرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ اُسْتُحِبَّ لِلْبَاعِثِ أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ بَلْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ .

وَتُسَنُّ الصَّدَقَةُ بِالْمَاءِ ، لِخَبَرِ : { أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ } أَيْ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَلَّكَ صَدَقَتَهُ أَوْ زَكَاتَهُ أَوْ كَفَّارَتَهُ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الَّذِي أَخَذَهَا لِخَبَرِ : { الْعَائِدُ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْهُ فَيُحَابِيهِ ، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ مَلَكَهَا لَهُ ، وَلَا بِالْإِرْثِ مِمَّنْ مَلَكَهَا لَهُ .

وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ وَلَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ صَدَقَتِهِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ لِدَيْنٍ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ ) لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ( وَ ) لَكِنْ ( لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ يُسْتَحَبُّ ) لَهُ ( أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ ) فَالتَّصَدُّقُ بِدُونِهِ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لَا تُطَابِقُ مَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الشَّيْخَيْنِ فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ تَفَاوُتٌ ظَاهِرٌ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ أَفَادَتْ أَنَّ عَدَمَ التَّصَدُّقِ مُسْتَحَبٌّ فَيَكُونُ التَّصَدُّقُ خِلَافَ الْأَوْلَى ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّصَدُّقَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ فَتَصَدَّقَ بِأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ صَدَقَتِهِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ) أَوْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْإِضَافَةِ ( أَوْ لِدَيْنٍ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً ) لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَمَّا تَقْدِيمُ مَا يَحْتَاجُهُ لِلنَّفَقَةِ فَلِخَبَرِ : { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ، وَأَبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّ كِفَايَتَهُمْ فَرْضٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْلِ ، وَالضِّيَافَةُ كَالصَّدَقَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ : وَأَمَّا خَبَرُ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ فَأَطْعَمَهُ قُوتَهُ وَقُوتَ صِبْيَانِهِ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ حِينَئِذٍ إلَى الْأَكْلِ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فَتَبَرَّعَا بِحَقِّهِمَا وَكَانَا صَابِرَيْنِ ، وَإِنَّمَا قَالَ فِيهِ لِأُمِّهِمْ : نَوِّمِيهِمْ خَوْفًا مَنْ أَنْ يَطْلُبُوا الْأَكْلَ عَلَى عَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَنَقَلَهُ فِي

الرَّوْضَةِ عَنْ كَثِيرِينَ .
لَكِنَّهُ صَحَّحَ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ صَبَرَ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ مَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ حُرْمَةِ إيثَارِ عَطْشَانَ عَطْشَانَ آخَرَ بِالْمَاءِ ، وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ مَا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ مُضْطَرًّا آخَرَ مُسْلِمًا .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ أَدَاءَهُ وَاجِبٌ فَيَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَسْنُونِ ، فَإِنْ رَجَا لَهُ وَفَاءً مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ظَاهِرَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ إلَّا إنْ حَصَلَ بِذَلِكَ تَأْخِيرٌ .
وَقَدْ وَجَبَ وَفَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْفَوْرِ بِمُطَالَبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، فَالْوَجْهُ وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ إلَى إيفَائِهِ وَتَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ بِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ دَفْعُهُ فِي دَيْنِهِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .

وَفِي اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ بِمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ أَوْجُهٌ : أَصَحُّهُمَا إنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ اُسْتُحِبَّ ، وَإِلَّا فَلَا .
( وَفِي اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ بِمَا ) أَيْ بِكُلِّ مَا ( فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ ) أَيْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ كِفَايَتُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ كِسْوَةُ فَضْلِهِ لَا مَا يَكْفِيهِ فِي الْحَالِ فَقَطْ ، وَلَا مَا يَكْفِيهِ فِي سَنَتِهِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِحْيَاءِ ، وَلِوَفَاءِ دَيْنِهِ ( أَوْجُهٌ : أَصَحُّهُمَا إنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ ) عَلَى الْإِضَافَةِ ( اُسْتُحِبَّ ) لَهُ ( وَإِلَّا فَلَا ) يُسْتَحَبُّ ، بَلْ يُكْرَهُ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ كَخَبَرِ : { إنَّ أَبَا بَكْرٍ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَخَبَرِ : { خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى } أَيْ غِنَى النَّفْسِ وَصَبْرِهَا عَلَى الْفَقْرِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا ، وَالثَّالِث : لَا يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا .
أَمَّا الصَّدَقَةُ بِبَعْضِ مَا فَضَلَ عَمَّا ذُكِرَ فَمُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يُقَارِبُ الْجَمِيعَ ، فَيَنْبَغِي جَرَيَانُ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِيهِ .

وَالْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ حَرَامٌ مُبْطِلٌ مُحْبِطٌ لِلْأَجْرِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ : خَابُوا وَخَسِرُوا : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .

خَاتِمَةٌ : يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ غَيْرَ الْجَنَّةِ ، وَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِاَللَّهِ وَتَشَفَّعَ بِهِ لِخَبَرِ : { لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ } وَخَبَرِ : { مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ ، وَمَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ ، وَمَنْ صَنَعَ لَكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

وَتُسَنُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ .
.

قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَا يَطْمَعَ الْمُتَصَدِّقُ فِي الدُّعَاءِ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَنْقُصَ أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، فَإِنْ دَعَا لَهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا لِتَسْلَمَ لَهُ صَدَقَتُهُ .

وَيُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَقِبَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ ، وَمِنْهُ التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِهِ فِي وَطْءِ الْحَائِضِ .

وَيُسَنُّ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْقَدِيمِ فَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا ثُمَّ عَمِدَ إلَى ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَزَلْ فِي حِفْظِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا } وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ ، بَلْ مِمَّا يُحِبُّ ، وَهَذَا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِالْفُلُوسِ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .

وَهَلْ قَبُولُ الزَّكَاةِ لِلْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ قَبُولِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ رَجَّحَ الْأَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى وَاجِبٍ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا مِنَّةَ فِيهَا ، وَرَجَّحَ الثَّانِي آخَرُونَ مِنْهُمْ الْجُنَيْدُ وَالْخَوَّاصُ لِئَلَّا يَضِيقَ عَلَى الْأَصْنَافِ ، وَلِئَلَّا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْأَخَذِ ، وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الرَّوْضَةِ وَاحِدًا مِنْهُمَا .
ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ ، قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ وَإِنْ قَطَعَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ إنْ لَمْ يَأْخُذْ هَذَا مِنْهُ لَا يَتَصَدَّقُ فَلْيَأْخُذْهَا ، فَإِنَّ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهَا وَلَمْ يُضَيِّقْ بِالزَّكَاةِ تَخَيَّرَ ، وَأَخْذُهَا أَشَدُّ فِي كَسْرِ النَّفْسِ ا هـ .
أَيْ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .

وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَلَأِ وَتَرْكُهُ فِي الْخَلْوَةِ أَفْضَلُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ ، وَيُسَنُّ لِلرَّاغِبِ فِي الْخَيْرِ أَنْ لَا يَخْلُوَ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ الصَّدَقَةِ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ : { مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا وَمَلَكَانِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا } وَلِخَبَرِ الْحَاكِمِ فِي صَحِيحِهِ : { كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ، أَوْ قَالَ حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ } .
.

كِتَابُ النِّكَاحِ

كِتَابُ النِّكَاحِ هُوَ لُغَةً : الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، وَمِنْهُ تَنَاكَحَتْ الْأَشْجَارُ إذَا تَمَايَلَتْ وَانْضَمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ .
وَشَرْعًا عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ وَطْءٍ بِلَفْظِ إنْكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتِهِ ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا .
لَكِنَّهُمْ إذَا قَالُوا : نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةَ أَوْ بِنْتَ فُلَانٍ أَوْ أُخْتَهُ أَرَادُوا تَزَوَّجَهَا وَعَقَدَ عَلَيْهَا ، وَإِذَا قَالُوا : نَكَحَ زَوْجَتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ لَمْ يُرِيدُوا إلَّا الْمُجَامَعَةَ .
قَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَهُ أَلْفُ اسْمٍ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ اللُّغَوِيُّ : لَهُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُونَ اسْمًا وَكَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي مَوْضُوعِهِ الشَّرْعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَصَحُّهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ كَمَا جَاءَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ ، وَالْوَطْءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ } وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى اللُّغَةِ ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِ .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةُ : لَمْ يَرِدْ النِّكَاحُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِمَعْنَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الْكِنَايَةَ عَنْهُ أَتَى بِلَفْظِ الْمُلَامَسَةِ أَوْ الْمُمَاسَّةِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً } فَالْمُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ .
وَقَالَ الرَّاغِبُ : يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ حَقِيقَةً فِي الْجِمَاعِ وَيُكَنَّى بِهِ عَنْ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ يُسْتَقْبَحُ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَالْعَقْدُ لَا

يُسْتَقْبَحُ : أَيْ فَلَا يُكَنَّى بِالْأَقْبَحِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْ الْوَطْءِ ؛ إذْ يُقَالُ فِي الزِّنَا : سِفَاحٌ لَا نِكَاحٌ ، وَيُقَالُ فِي السُّرِّيَّةِ : لَيْسَتْ مُزَوَّجَةً وَلَا مَنْكُوحَةً ، وَصِحَّةُ النَّفْيِ دَلِيلُ الْمَجَازِ .
وَالثَّالِثُ : حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ كَالْعَيْنِ ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا النَّهْيُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } عَنْ الْعَقْدِ وَعَنْ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ تَظْهَرُ فِيمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَفِيمَا لَوْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعَقْدِ عِنْدَنَا لَا الْوَطْءِ إلَّا إنْ نَوَى ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الطَّلَاقِ عَنْ الْبُوشَنْجِيِّ ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ ، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَهَلْ هُوَ مِلْكٌ أَوْ إبَاحَةٌ ؟ وَجْهَانِ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ ، وَفِيمَا لَوْ وُطِئَتْ الزَّوْجَةُ بِشُبْهَةٍ إنْ قُلْنَا مِلْكٌ فَالْمَهْرُ لَهُ وَإِلَّا فَلَهَا ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي الْأُولَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ؛ إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الزَّوْجِيَّةُ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَالْمَهْرُ لَهَا ، فَظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الثَّانِي ، وَهَلْ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ أَوْ الْمَرْأَةُ فَقَطْ ؟ وَجْهَانِ أَوْجُهُهُمَا الثَّانِي ، وَالْأَصْلُ فِي حِلِّهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، فَمِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وقَوْله تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ } وَقَوْلُهُ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا } رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ بَلَاغًا .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ } أَيْ لِأَنَّ الْفَرْجَ وَاللِّسَانَ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي إفْسَادِ الدِّينِ جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ شَطْرًا .
قَالَ الْأَطِبَّاءُ : وَمَقَاصِدُ النِّكَاحِ ثَلَاثَةٌ : حِفْظُ النَّسْلِ ، وَإِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ وَنَيْلُ اللَّذَّةِ ، وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ ؛ إذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ وَلَا احْتِبَاسَ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَالنِّكَاحُ شُرِعَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَرَّتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ ، بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْجَنَّةِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِيمَا يُتَعَبَّدُ بِهِ مِنْ الْعَقْدِ بَعْدَ الْإِيمَانِ .
قَالَ : قُلْتُ : ذَلِكَ بِفَتْحِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ .
ا هـ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ أَصْحَابِنَا بِتَخْصِيصِ هَذَا الْكِتَابِ بِذِكْرِ .

الْخَصَائِصُ الشَّرِيفَةِ أَوَّلَهُ لِأَنَّهَا فِي النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مِنْهَا أَشْيَاء كَثِيرَةً يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ بِهَا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ فَلَا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا هَهُنَا وَلَكِنْ أَذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا يَسِيرًا تَبَرُّكًا بِبَرَكَةِ صَاحِبِهَا - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - فَإِنَّ ذِكْرَهَا مُسْتَحَبٌّ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَلَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا لِئَلَّا يَرَى الْجَاهِلُ بَعْضَ الْخَصَائِصِ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ ، فَيَعْمَلُ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي فَوَجَبَ بَيَانُهَا لِتُعْرَفَ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : الْوَاجِبَاتُ ، وَهِيَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ .
مِنْهَا الضُّحَى ، وَالْوَتْرُ ، وَالْأُضْحِيَّةُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْمُشَاوَرَةُ .
النَّوْعُ الثَّانِي : الْمُحَرَّمَاتُ ، وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ .
مِنْهَا الزَّكَاةُ ، وَالصَّدَقَةُ ، وَمَعْرِفَةُ الْخَطِّ ، وَالشِّعْرِ ، وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ ، وَهِيَ الْإِيمَاءُ بِمَا يَظْهَرُ خِلَافُهُ دُونَ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ ، وَنِكَاحِ الْأَمَةِ وَلَوْ مُسْلِمَةً .
النَّوْعُ الثَّالِثُ : التَّخْفِيفَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَيْضًا .
مِنْهَا تَزْوِيجُ مَنْ شَاءَ مِنْ النِّسَاءِ لِمَنْ شَاءَ وَلَوْ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا مُتَوَلِّيًا الطَّرَفَيْنِ وَزَوَّجَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأُبِيحَ لَهُ الْوِصَالُ وَصَفِيُّ الْمَغْنَمْ وَيَحْكُمُ وَيَشْهَدُ لِوَلَدِهِ وَلِنَفْسِهِ ، وَأُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ تِسْعٍ .
وَقَدْ تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشَرَةٍ ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ .
قَالَ الْأَئِمَّةُ : وَكَثْرَةُ الزَّوْجَاتِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّوْسِعَةِ فِي تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ عَنْهُ الْوَاقِعَةِ سِرًّا مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَنَقْلِ مَحَاسِنِهِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَمَّلَ لَهُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ .
النَّوْعُ الرَّابِع : الْفَضَائِلُ وَالْإِكْرَامُ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .
مِنْهَا تَحْرِيمُ مَنْكُوحَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ أَكُنَّ

مَوْطُوآتٍ أَمْ لَا ، مُطَلَّقَاتٍ أَمْ لَا ، بِاخْتِيَارِهِنَّ أَمْ لَا ، وَتَحْرِيمُ سَرَارِيِّهِ ، وَهُنَّ إمَاؤُهُ الْمَوْطُوآتُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَوْطُوآتِ ، وَتَفْضِيلُ زَوْجَاتِهِ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي ، وَثَوَابُهُنَّ وَعِقَابُهُنَّ مُضَاعَفٌ ، وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَا يُقَالُ لَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ ، بِخِلَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَبٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فَمَعْنَاهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَدَ صُلْبِهِ ، وَيَحْرُمُ سُؤَالَهُنَّ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَأَفْضَلُهُنَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ عَائِشَةُ ، وَأَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ؛ إذْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا ، ثُمَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَدِيجَةُ ، ثُمَّ عَائِشَةُ ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ .
وَأَمَّا خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ : { خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، ثُمَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، ثُمَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ } .
فَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنَّ خَدِيجَةَ إنَّمَا فَضَلَتْ فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ لَا بِاعْتِبَارِ السِّيَادَةِ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَخُصَّ بِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّبِيِّينَ خَلْقًا وَبِتَقَدُّمِ نُبُوَّتِهِ ، فَكَانَ نَبِيًّا وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَبِتَقَدُّمِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِ ، وَبِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ : بَلَى وَقْتَ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } وَبِخَلْقِ آدَمَ وَجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَجْلِهِ وَبِكِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ عَلَى الْعَرْشِ وَالسَّمَوَاتِ وَالْجِنَانِ وَسَائِرِ مَا فِي الْمَلَكُوتِ ، وَبِشَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِجَعْلِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بِظَهْرِهِ بِإِزَاءِ قَلْبِهِ ، وَبِحِرَاسَةِ السَّمَاءِ مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَالرَّمْيِ

بِالشُّهُبِ ، وَبِإِحْيَاءِ أَبَوَيْهِ حَتَّى آمَنَا بِهِ ، وَأُكْرِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَاتِ الْخَمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
أَوَّلُهَا : الْعُظْمَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ حِينَ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ .
الثَّانِيَةُ : فِي إدْخَالِ خَلْقٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
الثَّالِثَةُ : فِي نَاسٍ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ فَلَا يَدْخُلُونَهَا .
الرَّابِعَةُ : فِي نَاسٍ دَخَلُوا النَّارَ فَيُخْرَجُونَ .
الْخَامِسَة : فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ نَاسٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَكُلُّهَا ثَبَتَتْ فِي الْأَخْبَارِ ، وَخُصَّ مِنْهَا بِالْعُظْمَى ، وَدُخُولُ خَلْقٍ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُصَّ بِالثَّالِثَةِ وَالْخَامِسَةِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ - أَيْ مَنْ يُجَابُ شَفَاعَتُهُ - فَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُشَفِّعَهُ فِينَا ، وَيُدْخِلَنَا مَعَهُ الْجَنَّةَ ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِينَا وَمَشَايِخِنَا وَإِخْوَانِنَا وَمُحِبِّينَا وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ .

هُوَ مُسْتَحَبُّ لِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ يَجِدُ أُهْبَتَهُ ، فَإِنْ فَقَدَهَا اُسْتُحِبَّ تَرْكُهُ ، وَيَكْسِرُ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ كُرِهَ إنْ فَقَدَ الْأُهْبَةَ ، وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ الْعِبَادَةُ أَفْضَلُ .
قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَتَعَبَّدْ فَالنِّكَاحُ أَفْضَلُ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ وَبِهِ عِلَّةٌ كَهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ دَائِمٍ أَوْ تَعْنِينٍ كُرِهَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : ( هُوَ مُسْتَحَبُّ لِمُحْتَاجٍ إلَيْهِ ) بِأَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إلَى الْوَطْءِ ، وَلَوْ خَصِيًّا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْإِحْيَاءِ ( يَجِدُ أُهْبَتَهُ ) وَهِيَ مُؤَنُهُ مِنْ مَهْرٍ وَكِسْوَةِ فَصْلِ التَّمْكِينِ ، وَنَفَقَةِ يَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبِّدًا تَحْصِينًا لِدِينِهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَلِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } بِالْمَدِّ : أَيْ قَاطِعٌ وَالْبَاءَةُ بِالْمَدِّ لُغَةً الْجِمَاعُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ذَلِكَ ، وَقِيلَ : مُؤَنُ النِّكَاحِ ، وَالْقَائِلُ بِالْأَوَّلِ رَدَّهُ إلَى مَعْنَى الثَّانِي ؛ إذْ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْجِمَاعَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لِعَجْزِهِ عَنْهَا فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْجِمَاعَ لِعَدَمِ شَهْوَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّوْمِ لِدَفْعِهَا .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَكَّافِ بْنِ وَدَاعَةَ : أَنَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : أَلَكَ زَوْجَةٌ يَا عَكَّافُ .
قَالَ : لَا ، قَالَ : وَلَا جَارِيَةٌ .
قَالَ : لَا .
قَالَ : وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُوسِرٌ .
قَالَ : نَعَمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَقَالَ : فَأَنْتَ إذًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ : إنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَاصْنَعْ كَمَا نَصْنَعُ ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحَ : شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ، وَإِنَّ أَرْذَلَ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ } وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } ؛ إذْ الْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ

بِالِاسْتِطَابَةِ ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وَلَا يَجِبُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلِقَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَرَدَّ السُّبْكِيُّ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمُسْتَطَابَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَلَالُ ؛ لِأَنَّ فِي النِّسَاءِ مُحَرَّمَاتٌ ، وَهُنَّ فِي قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ ، وَقِيلَ : هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لَا يَسُوغُ لِجَمَاعَتِهِمْ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِبَقَاءِ النَّسْلِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ إذَا خَافَ الزِّنَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَتَّجِهُ بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَرِّي ، وَرُدَّ بِأَنَّ قَائِلَهُ لَحِظَ الْكَمَالَ بِالْإِحْصَانِ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا خَوْفَ الرَّجْمِ ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي التَّسَرِّي وَقِيلَ : يَجِبُ إذَا نَذَرَهُ حَيْثُ كَانَ مُسْتَحَبًّا ، وَرُدَّ بِأَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى رِضَا الْوَلِيِّ إذَا كَانَتْ مُجْبَرَةً ، وَعَلَى رِضَا الْوَلِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ وَهُوَ فِي حَالِ النَّذْرِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إنْشَاءِ النِّكَاحِ ، وَبِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ ، وَالْعُقُودُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ : أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تَنْكِحِينِي فَقَبِلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ فِيمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ فَظَلَمَ وَاحِدَةً بِتَرْكِ الْقَسْمِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ نَوْبَةِ الضَّرَّةِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ نَوْبَةِ الْمَظْلُومَةِ بِسَبَبِهَا ، وَرُدَّ بِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، فَإِنْ هَذَا الطَّلَاقَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْبِدْعِيِّ ، وَقَالُوا فِي

الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الرَّجْعَةُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفُ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ وَإِنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَعَلَّلَهُ بِالْخَوْفِ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالِاسْتِرْقَاقِ .
تَنْبِيهٌ : إطْلَاقُ الْمُصَنِّفُ لَا يَشْمَلُ الْمَرْأَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَجِدُ أُهْبَتَهُ ، وَصَرَّحَ فِي التَّنْبِيهِ بِإِلْحَاقِهَا بِالرَّجُلِ فِي حَالِ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا ، فَقَالَ : فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إلَى النِّكَاحِ أَيْ وَهِيَ تَتَعَبَّدُ كُرِهَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أَيْ لِأَنَّهَا تَتَقَيَّدُ بِالزَّوْجِ وَتَشْتَغِلُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَيْهِ أَيْ لِتَوَقَانِهَا إلَى النِّكَاحِ أَوْ إلَى النَّفَقَةِ أَوْ خَائِفَةً مِنْ اقْتِحَامِ الْفَجَرَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَبِّدَةً اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أَيْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْصِينِ الدِّينِ وَصِيَانَةِ الْفَرْجِ وَالتَّرَفُّهِ بِالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ مَا قِيلَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا النِّكَاحُ مُطْلَقًا مَرْدُودٌ ، وَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفُ هُوَ وَإِلَيْهِ وَأُهْبَتُهُ إنْ أَرَادَ بِهَا الْعَقْدَ أَوْ الْوَطْءَ أَوْ بِإِلَيْهِ الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أَرَادَ بَهُوَ وَأُهْبَتُهُ الْعَقْدَ وَبِإِلَيْهِ الْوَطْءَ صَحَّ ، لَكِنْ فِيهِ تَعَسُّفٌ ، وَالشَّارِحُ فَسَّرَ النِّكَاحَ بِالتَّزَوُّجِ الَّذِي هُوَ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ كَرَاهَةٍ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هِيَ فِيهِ لَا فِي الْعَقْدِ الْمُرَكَّبِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ ( فَإِنْ فَقَدَهَا ) بِفَتْحِ الْقَافِ : أَيْ عَدِمَ الْأُهْبَةَ ( اُسْتُحِبَّ ) لَهُ ( تَرْكُهُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } وَاَلَّذِي فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْكِحَ ،

وَهِيَ دُونَ عِبَارَةِ الْكِتَابِ فِي الطَّلَبِ كَمَا قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ وَنَظَرَ فِيهِ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا فِي الطَّلَبِ قَوْلُهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِكَرَاهَةِ النِّكَاحِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : لَمْ يُسْتَحَبُّ كَانَ أَخَصْرَ وَأَظْهَرَ فِي الْمُرَادِ ( وَيَكْسِرُ ) إرْشَادًا ( شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ ) لِلْخَبَرِ السَّابِقِ .
قَالُوا : وَالصَّوْمُ يُثِيرُ الْحَرَكَةَ أَوَّلًا ، فَإِذَا دَامَ سَكَنَتْ ، وَإِنْ لَمْ تَنْكَسِرْ شَهْوَتُهُ تَزَوَّجَ .
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَنْ تَرَكَ النِّكَاحَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ : { ثَلَاثٌ حُقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعِينَهُمْ : مِنْهُمْ : النَّاكِحُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْفِفَ } .
وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد : " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ مَخَافَةَ الْعَيْلَةِ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأُجِيبَ عَنْ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ } بِحَمْلِهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَتَزَوَّجُهُ وَلَا يَكْسِرُهَا بِكَافُورٍ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْخِصَاءِ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : يُكْرَهُ أَنْ يَحْتَالَ لِقَطْعِ شَهْوَتِهِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَطْلَبِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَقِيلَ : يَحْرُمُ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ قَطْعُ الشَّهْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ تَغَيُّرُهَا فِي الْحَالِ ، وَلَوْ أَرَادَ إعَادَتَهَا بِاسْتِعْمَالِ ضِدِّ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، وَالثَّانِي عَلَى الْقَطْعِ لَهَا مُطْلَقًا ( فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ ) لِلنِّكَاحِ بِأَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ لِعَارِضٍ كَمَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ ( كُرِهَ ) لَهُ ( إنْ فَقَدَ الْأُهْبَةَ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ .
وَحُكْمُ الِاحْتِيَاجِ لِلتَّزْوِيجِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ النِّكَاحِ كَخِدْمَةٍ وَتَأَنُّسٍ كَالِاحْتِيَاجِ لِلنِّكَاحِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَفِي الْإِحْيَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ .

تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ .
أَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ لِلنِّكَاحِ وَلَا عِلَّةَ بِهِ ( فَلَا ) يُكْرَهُ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، وَمَقَاصِدُ النِّكَاحِ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْجِمَاعِ ( لَكِنْ الْعِبَادَةُ ) أَيْ التَّخَلِّي لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ( أَفْضَلُ ) لَهُ مِنْ النِّكَاحِ إذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا اهْتِمَامًا بِهَا ، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْكَافِرِ ، وَلَوْ كَانَ عِبَادَةً لَمَا صَحَّ مِنْهُ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنَّمَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً لِمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْعِتْقِ ، فَإِنَّ هَذِهِ تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَهِيَ مِنْهُ عِبَادَةٌ ، وَمِنْ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ عِبَادَةٌ ، وَيَدُلُّ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعِبَادَةُ تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ ، وَفِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ إنْ قَصَدَ بِهِ طَاعَةً مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ أَوْ إعْفَافٍ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ مُبَاحٌ .
ا هـ .
وَيَنْزِلُ الْكَلَامَانِ عَلَى هَذَا وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ مُطْلَقًا ، وَفَائِدَتُهُ نَقْلُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا النِّسَاءُ ( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( فَإِنْ لَمْ يَتَعَبَّدْ ) فَاقِدُ الْحَاجَةِ لِلنِّكَاحِ وَاجِدُ الْأُهْبَةِ الَّذِي لَا عِلَّةَ بِهِ ( فَالنِّكَاحُ ) لَهُ ( أَفْضَلُ ) مِنْ تَرْكِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَيْ لَا تَقْضِيَ بِهِ الْبَطَالَةُ وَالْفَرَاغُ إلَى الْفَوَاحِشِ ، وَالثَّانِي : تَرْكُهُ أَفْضَلُ

مِنْهُ لِلْخَطَرِ فِي الْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ ، وَفِي الصَّحِيحِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ مِنْ النِّسَاءِ } ( فَإِنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ وَ ) لَكِنْ ( بِهِ عِلَّةٌ كَهَرَمٍ ) وَهُوَ كِبَرُ السِّنِّ ( أَوْ مَرَضٍ دَائِمٍ أَوْ تَعْنِينٍ ) دَائِمٍ أَوْ كَانَ مَمْسُوحًا ( كُرِهَ ) لَهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ مَنْعِ الْمَرْأَةِ مِنْ التَّحْصِينِ ، أَمَّا مَنْ يَعِنُّ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ وَإِنْ أَفْهَمَ عَدَمُ تَقْيِيدِ الْمُصَنِّفُ لَهُ خِلَافَهُ ، وَالتَّعْنِينُ مَصْدَرُ عَنَّ : أَيْ تَعَرَّضَ ، فَكَأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلنِّكَاحِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .

وَيُسْتَحَبُّ دَيِّنَةٌ بِكْرٌ نَسِيبَةٌ لَيْسَتْ قَرَابَةً قَرِيبَةً ، وَإِذَا قَصَدَ نِكَاحَهَا

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْمَنْكُوحَةِ ، فَقَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ دَيِّنَةٌ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِجَمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا - أَيْ وَهُوَ زِيَادَةُ النَّسَبِ - وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ } أَيْ اسْتَغْنَتْ إنْ فَعَلْتَ أَوْ افْتَقَرْتَ إنْ خَالَفْتَ ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ الطَّاعَاتُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ ( بِكْرٌ ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ : { هَلَّا أَخَذْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ : { عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا - أَيْ أَلْيَنُ كَلِمَةً - وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا - أَيْ أَكْثَرُ أَوْلَادًا - وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ } .
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ : " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَسْتَشِيرَ مِائَةَ نَفْسٍ ، وَأَنَّهُ اسْتَشَارَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : بَقِيَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَطْلُعُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَآخُذُ بِقَوْلِهِ وَلَا أَعْدُوهُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ؛ إذْ طَلَعَ عَلَيْهِ رَجُلٌ رَاكِبٌ قَصَبَةً فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّتِهِ ، فَقَالَ لَهُ النِّسَاءُ ثَلَاثَةٌ : وَاحِدَةٌ لَكَ ، وَوَاحِدَةٌ عَلَيْكَ ، وَوَاحِدَةٌ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ ، فَالْبِكْرُ لَك ، وَذَاتُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِكَ عَلَيْكَ ، وَالثَّيِّبُ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ ، ثُمَّ قَالَ : أَطْلِقْ الْجَوَادَ ، فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي بِقِصَّتِك ، فَقَالَ : أَنَا رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مَاتَ قَاضِينَا ، فَرَكِبْتُ هَذِهِ الْقَصَبَةَ وَتَبَاهَلْتُ لِأَخْلُصَ مِنْ الْقَضَاءِ " .
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : وَكَمَا يُسْتَحَبُّ نِكَاحُ الْبِكْرِ يُسَنُّ أَنْ لَا يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ إلَّا مِنْ بِكْرٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى الْإِينَاسِ بِأَوَّلِ مَأْلُوفٍ ، وَلِهَذَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَدِيجَةَ : إنَّهَا أَوَّلُ نِسَائِي } ( نَسِيبَةٌ ) أَيْ طَيِّبَةُ الْأَصْلِ ،

لِمَا فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : " وَلِحَسَبِهَا " .
وَأَمَّا خَبَرُ : { تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَلَا تَضَعُوهَا إلَّا فِي الْأَكْفَاءِ } فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : لَهُ أَسَانِيدُ فِيهَا مَقَالٌ ، وَلَكِنْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ( لَيْسَتْ قَرَابَةً قَرِيبَةً ) هَذَا مِنْ نَفْيِ الْمَوْصُوفِ الْمُقَيَّدِ بِصِفَةٍ فَيَصْدُقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ .
وَهِيَ أَوْلَى مِنْهَا ، وَاسْتَدَلَّ الرَّافِعِيُّ لِذَلِكَ تَبَعًا لِلْوَسِيطِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَنْكِحُوا الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا } أَيْ نَحِيفًا ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الشَّهْوَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يَجِيءُ كَرِيمًا عَلَى طَبْعِ قَوْمِهِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَلَمْ أَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا مُعْتَمَدًا .
قَالَ السُّبْكِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحُكْمُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ .
وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَهِيَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ .
ا هـ .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْقَرِيبَةِ أَوْلَى هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، لَكِنْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَالْبَيَانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يُزَوِّجَ مِنْ عَشِيرَتِهِ ، وَعَلَّلَهُ الزَّنْجَانِيُّ بِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ اتِّصَالُ الْقَبَائِلِ لِأَجْلِ التَّعَاضُدِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ .
ا هـ .
وَالْأَوْلَى حَمْلُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ ، وَلَا يَشْكُلُ ذَلِكَ بِتَزَوُّجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ مَعَ أَنَّهَا بِنْتُ عَمَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَيَانًا لِلْجَوَازِ ، وَلَا بِتَزَوُّجِ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِأَنَّهَا بَعِيدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ إذْ هِيَ بِنْتُ ابْنِ عَمِّهِ ، وَأَيْضًا بَيَانًا لِلْجَوَازِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ أَبْدَلَ الْمُصَنِّفُ لَيَّسَتْ بِقَوْلِهِ غَيْرُ كَانَ مُنَاسِبًا

لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْكُوحَةِ أُمُورٌ ذَكَرْتُ مِنْهَا كَثِيرًا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ ، مِنْهَا أَنْ تَكُونَ وَلُودًا ، لِخَبَرِ : { تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ .
وَيُعْرَفُ الْبِكْرُ وَلُودًا بِأَقَارِبِهَا ، وَأَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً لِخَبَرِ الْحَاكِمِ : { خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ تَسُرُّ إذَا نُظِرَتْ ، وَتُطِيعُ إذَا أُمِرَتْ ، وَلَا تُخَالِفُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا } .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا ذَاتَ الْجَمَالِ الْبَارِعِ ، فَإِنَّهَا تَزْهُوَ بِجَمَالِهَا ، وَأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : وَلَا تُغَالِ فِي الْمَلِيحَةِ فَإِنَّهَا قَلَّ أَنْ تَسْلَمَ لَك ، وَأَنْ تَكُونَ عَاقِلَةً .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيَتَّجِهُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَقْلِ هُنَا الْعَقْلُ الْعُرْفِيُّ ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى مَنَاطِ التَّكْلِيفِ .
ا هـ .
وَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يُرَادَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُطَلِّقٌ يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا ، وَأَنْ لَا تَكُونَ شَقْرَاء ، فَقَدْ أَمَرَ الشَّافِعِيُّ الرَّبِيعَ أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الْأَشْقَرَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ وَقَالَ مَا لَقِيتُ مِنْ أَشْقَرَ خَيْرًا قَطُّ ، وَقِصَّتُهُ مَعَ الْأَشْقَرِ الَّذِي أَضَافَهُ فِي عَوْدِهِ مِنْ الْيَمَنِ مَشْهُورَةٌ ، وَأَنْ تَكُونَ ذَاتَ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَأَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْمَهْرِ ؛ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا } .
وَقَالَ عُرْوَةُ : أَوَّلُ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكْثُرَ صَدَاقَهَا ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا قَلَّ أَنْ يَجِدَهَا الشَّخْصُ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْجِنَانِ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْهُنَّ ، وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَيُقَاسُ

بِالزَّوْجَةِ فِي هَذَا السُّرِّيَّةِ ، وَلَكِنْ مَنَعَ الْقَفَّالُ وَالْجُوَيْنِيُّ التَّسَرِّي فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ التَّخْمِيسِ .
نَعَمْ مَسْبِيُّ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ شِرَاؤُهَا وَوَطْؤُهَا ؛ إذْ لَا خُمُسَ عَلَى الْكَافِرِ .
قَالَ الْغَزِّيُّ : وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْخُمْسِ اتَّجَهَ الْحِلُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَوْ أَعَفَّتْهُ وَاحِدَةٌ لَكِنَّهَا عَقِيمٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ نِكَاحُ وَلُودٍ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ ، وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، وَأَنْ يَعْقِدَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ جَمْعٍ ، وَأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِخَبَرِ : { اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتَيَّ فِي بُكُورِهَا } ( وَإِذَا قَصَدَ نِكَاحَهَا ) وَرَجَا رَجَاءً ظَاهِرًا أَنَّهُ يُجَابُ إلَى خِطْبَتِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .

سُنَّ نَظَرُهُ إلَيْهَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ ، وَلَهُ تَكْرِيرُ نَظَرِهِ وَلَا يَنْظُرُ غَيْرَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، وَيَحْرُمُ نَظَرُ فَحْلٍ بَالِغٍ إلَى عَوْرَةِ حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَكَذَا وَجْهُهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةٍ ، وَكَذَا عَنْدَ الْأَمْنِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَا يَنْظُرُ مِنْ مَحْرَمِهِ بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ ، وَيَحِلُّ مَا سِوَاهُ ، وَقِيلَ مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ ، وَالْأَصَحُّ حِلُّ النَّظَرِ بِلَا شَهْوَةٍ إلَى الْأَمَةِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ .

( سُنَّ نَظَرُهُ إلَيْهَا ) { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ خَطَبَ امْرَأَةً : اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَمَعْنَى يُؤْدَمُ أَيْ يَدُومَ فَقَدَّمَ الْوَاوَ عَلَى الدَّالِ ، وَقِيلَ : مِنْ الْإِدَامِ مَأْخُوذٌ مِنْ إدَامِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ يُطَيَّبُ بِهِ ، حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ الْأَوَّلَ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالثَّانِي عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَوَقْتُهُ ( قَبْلَ الْخِطْبَةِ ) وَبَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعَزْمِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَبَعْدَ الْخِطْبَةِ قَدْ يُفْضِي الْحَالُ إلَى التَّرْكِ فَيَشُقَّ عَلَيْهَا .
وَمُرَادُهُ بِخَطَبَ فِي الْخَبَرِ عَزَمَ عَلَى خِطْبَتِهَا لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ : { إذَا أُلْقِيَ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةُ امْرَأَةٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا } ( وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ ) هِيَ وَلَا وَلِيُّهَا اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ ، وَلِئَلَّا تَتَزَيَّنَ فَيَفُوتَ غَرَضُهُ ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهَا خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِحُرْمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا ، فَإِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ سَكَتَ ، وَلَا يَقُولُ : لَا أُرِيدُهَا ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ ( وَلَهُ تَكْرِيرُ نَظَرِهِ ) إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِيَتَبَيَّنَ هَيْئَتَهَا فَلَا يَنْدَمَ بَعْدَ النِّكَاحِ ؛ إذْ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ غَالِبًا بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ التَّكْرَارِ ، وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيرُهُ بِثَلَاثٍ لِحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا غَالِبًا ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { أُرِيتُك فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ } .
ا هـ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْبَطَ بِالْحَاجَةِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِشَهْوَةٍ أَمْ غَيْرِهَا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالرُّويَانِيُّ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي نَظَرِهِ بِالشَّهْوَةِ نَظَرٌ ( وَلَا يَنْظُرُ ) مِنْ الْحُرَّةِ ( غَيْرَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ) ظَهْرًا وَبَطْنًا ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ مَا يَظْهَرُ مِنْ

الزِّينَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النُّورُ ] وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي الْوَجْهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَمَالِ ، وَفِي الْيَدَيْنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى خِصْبِ الْبَدَنِ .
أَمَّا الْأَمَةُ وَلَوْ مُبَعَّضَةً فَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَقَالَ : إنَّهُ مَفْهُومُ كَلَامِهِمْ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَحْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ نَظَرُهُ إلَيْهَا بَعَثَ امْرَأَةً أَوْ نَحْوَهَا تَتَأَمَّلُهَا وَتَصِفُهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ : اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي عَوَارِضَهَا } ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ الْخَبَرِ أَنَّ لِلْمَبْعُوثِ أَنْ يَصِفَ لِلْبَاعِثِ زَائِدًا عَلَى مَا يَنْظُرُهُ فَيَسْتَفِيدَ بِالْبَعْثِ مَا لَا يَسْتَفِيدُهُ بِنَظَرِهِ ، وَتَقْيِيدُ الْبَعْثِ بِعَدَمِ التَّيَسُّرِ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَطْلَقَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ أَوْجَهُ ، وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ غَيْرَ عَوْرَتِهِ إذَا أَرَادَتْ تَزْوِيجَهُ ، فَإِنَّهَا يُعْجِبُهَا مِنْهُ مَا يُعْجِبُهُ مِنْهَا وَتَسْتَوْصِفُ كَمَا مَرَّ فِي الرَّجُلِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَنْظُرُ مِنْ الْآخَرِ مَا عَدَا عَوْرَةَ الصَّلَاةِ ، وَخَرَجَ بِالنَّظَرِ الْمَسُّ فَلَا يَجُوزُ ؛ إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ .
فَائِدَةٌ : أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ نَظَرُ الْمَخْطُوبَةِ وَلَهَا أَخٌ أَوْ ابْنٌ أَمْرَدُ يَحْرُمُ نَظَرُهُ وَكَانَ يُشْبِهُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ نَظَرُ الْخَاطِبِ إلَيْهِ ا هـ .
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بِشَهْوَةٍ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ النَّظَرِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَخْطُوبَةَ مَحَلُّ التَّمَتُّعِ فِي الْجُمْلَةِ ( وَيَحْرُمُ نَظَرُ فَحْلٍ بَالِغٍ ) عَاقِلٍ مُخْتَارٍ ، وَلَوْ شَيْخًا

وَعَاجِزًا عَنْ الْوَطْءِ ، وَمُخَنَّثًا ، وَهُوَ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ ( إلَى عَوْرَةِ حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ ) وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ ، لَا الْبَالِغَةُ ( أَجْنَبِيَّةٍ ) لِلنَّاظِرِ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النُّورُ ] الْمُرَادُ بِالْعَوْرَةِ مَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ ، وَخَرَجَ بِالْفَحْلِ الْمَمْسُوحُ وَسَيَأْتِي ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ الْمَجْبُوبُ ، وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ فَقَطْ ، وَالْخَصِيُّ وَهُوَ مَنْ بَقِيَ ذَكَرُهُ دُونَ أُنْثَيَيْهِ ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ ، فَإِنَّ حُكْمَهُمْ كَالْفَحْلِ ، وَبِالْبَالِغِ الصَّبِيُّ ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْمُرَاهِقِ ، وَبِالْحُرَّةِ الْأَمَةُ وَسَتَأْتِي ، وَبِالْأَجْنَبِيَّةِ الْمَحْرَمُ وَسَيَأْتِي ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَاقِلًا مُخْتَارًا كَمَا قَدَّرْتُهُ لِيَخْرُجَ الْمَجْنُونُ وَالْمَكْرُوهُ ( وَكَذَا وَجْهُهَا وَكَفَّيْهَا ) مِنْ كُلِّ يَدٍ ، فَيَحْرُمُ نَظَرُ رُءُوسِ أَصَابِعِ كَفَّيْهَا إلَى الْمِعْصَمِ ظَهْرًا وَبَطْنًا ( عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةٍ ) تَدْعُو إلَى الِاخْتِلَاءِ بِهَا لِجِمَاعٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ، وَلَوْ نَظَرَ إلَيْهِمَا بِشَهْوَةٍ وَهُوَ قَصْدُ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ الْمُجَرَّدِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ حَرُمَ قَطْعًا ( وَكَذَا ) يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا ( عِنْدَ الْأَمْنِ ) مِنْ الْفِتْنَةِ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ ، وَبِأَنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةٌ لِلْفِتْنَةِ وَمُحَرِّكٌ لِلشَّهْوَةِ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النُّورُ ] وَاللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ سَدُّ الْبَابِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ ، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْجُمْهُورِ ، وَالشَّيْخَانِ لِلْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّهُ

الصَّوَابُ لِكَوْنِ الْأَكْثَرِينَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْمَدْرَكِ وَالْفَتْوَى عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ .
ا هـ .
وَلَوْ عَبَّرَ بِالْفَاءِ كَانَ أَنْسَبَ ، وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ أَيْ مَنْعِ الْوُلَاةِ لَهُنَّ مُعَارَضٌ بِمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا فِي طَرِيقِهَا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ ، وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُنَّ لِلْآيَةِ ، وَحَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ مَنْعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ ، لَا لِأَنَّ السِّتْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِنَّ فِي ذَاتِهِ ، بَلْ لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً عَامَّةً ، وَفِي تَرْكِهِ إخْلَالًا بِالْمُرُوءَةِ .
ا هـ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ السِّتْرَ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْجَمْعُ ، وَكَلَامُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ ، وَحَيْثُ قِيلَ بِالْجَوَازِ كُرِهَ ، وَقِيلَ : خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَحَيْثُ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الرَّاجِحُ هَلْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى الْمُنْتَقِبَةِ الَّتِي لَا يَتَبَيَّنُ مِنْهَا غَيْرُ عَيْنَيْهَا وَمَحَاجِرِهَا أَوْ لَا ؟ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ جَمِيلَةً ، فَكَمْ فِي الْمَحَاجِرِ مِنْ خَنَاجِرٍ .
ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا غَيْرُ عَوْرَةٍ وَإِنَّمَا أُلْحِقَا بِهَا فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَقَالَ : عَوْرَتُهَا مَعَ غَيْرِ الزَّوْجِ كُبْرَى وَصُغْرَى ، فَالْكُبْرَى مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ ، وَالصُّغْرَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، فَيَجِبُ سَتْرُ الْكُبْرَى فِي الصَّلَاةِ ، وَكَذَا عَنْ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَالْخَنَاثَى وَالصُّغْرَى عَنْ النِّسَاءِ وَإِنْ قَرُبْنَ ، وَكَذَا عَنْ رِجَالِ الْمَحَارِمِ وَالصِّبْيَانِ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّ الْأَقْرَبَ إلَى صُنْعِ الْأَصْحَابِ

أَنَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَإِطْلَاقُهُ الْكَبِيرَةَ يَشْمَلُ الْعَجُوزَ الَّتِي لَا تُشْتَهَى ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةً ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ : يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ } [ النُّورُ ] وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ لَهُ بِذَهَابِ أَنَسٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُمِّ أَيْمَنَ ، وَبَعْدَهُ انْطَلَقَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْخُلُ عَلَى رَابِعَةَ .
ا هـ .
وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ .
وَصَوْتُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَيَجُوزُ الْإِصْغَاءُ إلَيْهِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ ، وَنُدِبَ تَشْوِيهُهُ إذَا قُرِعَ بَابُهَا فَلَا تُجِيبُ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ ، بَلْ تُغَلِّظُ صَوْتَهَا بِظَهْرِ كَفِّهَا عَلَى الْفَمِ ( وَلَا يَنْظُرُ ) الْفَحْلُ ( مِنْ مَحْرَمِهِ ) الْأُنْثَى مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ مَا ( بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ ) مِنْهَا أَيْ يَحْرُمُ نَظَرُ ذَلِكَ إجْمَاعًا ( وَيَحِلُّ ) بِغَيْرِ شَهْوَةٍ نَظَرُ ( مَا سِوَاهُ ) أَيْ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَا عَدَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ مَعْنًى يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةَ فَكَانَا كَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، فَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِنَظَرِ الْمَحْرَمِ ، فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ الْمُقْرِي تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ ( وَقِيلَ ) : إنَّمَا يَحِلُّ نَظَرُ ( مَا يَبْدُو ) مِنْهَا ( فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ ) لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى النَّظَرِ إلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ بِمَا يَبْدُو فِي الْمَهْنَةِ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ وَالْعُنُقُ وَالْيَدُ إلَى الْمِرْفَقِ وَالرِّجْلُ إلَى الرُّكْبَةِ .
وَالْمَهْنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا : الْخِدْمَةُ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ

كَسْرِهَا .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ نَظَرَهُ إلَى مَا يَبْدُو فِي حَالِ الْمَهْنَةِ جَائِزٌ قَطْعًا ، وَإِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَرَامٌ قَطْعًا ، وَالْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ فِي الْمَحْرَمِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ نَعَمْ إنْ كَانَ الْكَافِرُ مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ حِلَّ الْمَحَارِمِ كَالْمَجُوسِ امْتَنَعَ نَظَرُهَا لَهُ وَنَظَرُهُ إلَيْهَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ( وَالْأَصَحُّ حِلُّ النَّظَرِ بِلَا شَهْوَةٍ ) وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا ( إلَى الْأَمَةِ ) وَإِنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ ( إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ ) فَلَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْرَتُهَا فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ ، وَالثَّانِي : يَحْرُمُ إلَّا مَا يَبْدُو فِي الْمَهْنَةِ ؛ إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَالثَّالِثُ : يَحْرُمُ نَظَرُهَا كُلُّهَا كَالْحُرَّةِ وَسَيَأْتِي تَرْجِيحُهُ ، وَشَمَلَ إطْلَاقُهُ بِلَا شَهْوَةٍ الْحِلَّ وَإِنْ خَافَ الْفِتْنَةَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْوَجْهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ قَطْعًا حِينَئِذٍ ، أَمَّا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ قَطْعًا لِكُلِّ مَنْظُورٍ إلَيْهِ مِنْ مَحْرَمٍ وَغَيْرِهِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ ، قَالَ الشَّارِحُ : وَالتَّعَرُّضُ لَهُ هُنَا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ بَلْ لِحِكْمَةٍ تَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ .
ا هـ .
وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا هُوَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ غَالِبًا قُيِّدَ بِالْعَدَمِ وَمَا لَا فَلَا ، وَقِيلَ : إنَّمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ فِي الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا لِنَقْصِهَا عَنْ الْحُرَّةِ قَدْ يُتَسَاهَلُ فِي النَّظَرِ إلَيْهَا فَدُفِعَ ذَلِكَ بِالتَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ .

وَإِلَى صَغِيرَةٍ إلَّا الْفَرْجِ .
( وَ ) الْأَصَحُّ حِلُّ النَّظَرِ ( إلَى صَغِيرَةٍ ) لَا تُشْتَهَى ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ ، وَالثَّانِي : يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْإِنَاثِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي وَجْهِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى يَكَادُ أَنْ يَكُونَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ( إلَّا الْفَرْجَ ) فَلَا يَحِلُّ نَظَرُهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : كَصَاحِبِ الْعِدَّةِ اتِّفَاقًا وَرَدَّهُ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ جَوَّزَهُ جَزْمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا بَلْ فِيهِ خِلَافٌ لَا أَنَّهُ رَدَّ الْحُكْمَ كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ الْمُقْرِي فَصَرَّحَ بِالْجَوَازِ ، وَأَمَّا فَرْجُ الصَّغِيرِ فَكَفَرْجِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي بِجَوَازِ النَّظَرِ إلَيْهِ إلَى التَّمْيِيزِ وَتَبِعَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْأُمَّ زَمَنَ الرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُرْضِعَةُ غَيْرُ الْأُمِّ كَالْأُمِّ .

وَأَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ إلَى سَيِّدَتِهِ وَنَظَرَ مَمْسُوحٍ كَالنَّظَرِ إلَى مَحْرَمٍ ، وَأَنَّ الْمُرَاهِقَ كَالْبَالِغِ .

( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ ) الْفَحْلِ الْعَفِيفِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ غَيْرِ الْمُبَعَّضِ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُكَاتَبِ ( إلَى سَيِّدَتِهِ ) الْعَفِيفَةِ كَمَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَ ) أَنَّ ( نَظَرَ مَمْسُوحٍ ) إلَى أَجْنَبِيَّةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ حُرًّا أَمْ لَا ، وَهُوَ ذَاهِبُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ( كَالنَّظَرِ إلَى مَحْرَمٍ ) فَيَحِلُّ نَظَرُهُمَا بِلَا شَهْوَةٍ نَظَرَ الْمَحْرَمِ ، أَمَّا الْأُولَى فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } [ النُّورُ ] ، { وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ أَتَاهَا وَمَعَهُ عَبْدٌ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا وَعَلَيْهَا ثَوْبٌ إذَا قَنَعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا ، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا ، فَلَمَّا رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَلْقَى قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ } [ النُّورُ ] أَيْ الْحَاجَةِ إلَى النِّكَاحِ ، وَالثَّانِي : يَحْرُمُ نَظَرُهُمَا كَغَيْرِهِمَا ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْبَةِ الْإِمَاءُ وَالْمُغَفَّلُونَ الَّذِينَ لَا يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا خِلَافًا لِابْنِ الْعِمَادِ .
وَالْمُبَعَّضُ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْمُكَاتَبُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْقَاضِي وَأَقَرَّهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَفَاءُ النُّجُومِ أَوْ لَا خِلَافًا لِلْقَاضِي فِي الشِّقِّ الثَّانِي ، وَقِيلَ : إنَّهُ كَالْقِنِّ ، وَنُقِلَ عَنْ نَصَّ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَتَجِبُ الْفَتْوَى بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ يَشْكُلُ عَلَى الْأَوَّلِ جَوَازُ نَظَرِ السَّيِّدِ إلَى مُكَاتَبَتِهِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَقْوَى مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَقْيِيدُ

الْجَوَازِ فِي الْمَمْسُوحِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ ، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُنِعَ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ الْمُرَاهِقَ ) وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَنْ قَارَبَ الْحُلُمَ حُكْمُهُ فِي نَظَرِهِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ ( كَالْبَالِغِ ) فَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ مَنْعُهُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهَا الِاحْتِجَابُ مِنْهُ كَالْمَجْنُونِ فِي ذَلِكَ لِظُهُورِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } [ النُّورُ ] وَالثَّانِي : لَهُ النَّظَرُ كَالْمَحْرَمِ ، أَمَّا الدُّخُولُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ إلَّا فِي دُخُولِهِ عَلَيْهِنَّ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَضَعْنَ فِيهَا ثِيَابَهُنَّ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ فِي دُخُولِهِ فِيهَا عَلَيْهِنَّ لِآيَةِ : { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ } [ النُّورُ ] وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَاهِقِ فَقَالَ الْإِمَامُ : إنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يَحْكِي مَا يَرَاهُ فَكَالْعَدِمِ ، أَوْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فَكَالْمَحْرَمِ أَوْ بِشَهْوَةٍ فَكَالْبَالِغِ .
تَنْبِيهٌ : نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ الِاسْتِئْذَانُ أَيْ عَلَى سَيِّدَتِهِ إلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَسَبَبُهُ كَثْرَةُ الْحَاجَةِ إلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالْمُخَالَطَةِ

وَيَحِلُّ نَظَرُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ .
( وَيَحِلُّ ) بِلَا شَهْوَةٍ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ ( نَظَرُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ ) اتِّفَاقًا ( إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ ) فَيَحْرُمُ وَلَوْ مِنْ ابْنٍ وَسَيِّدٍ ؛ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الْفَخِذَ فِي الْحَمَّامِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ .

وَيَحْرُمُ نَظَرُ أَمْرَدَ بِشَهْوَةٍ .
قُلْتُ : وَكَذَا بِغَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ .

( وَيَحْرُمُ نَظَرُ أَمْرَدَ ) وَهُوَ الشَّابُّ الَّذِي لَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ .
وَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَسَنَّ وَلَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ أَمْرَدُ ، بَلْ يُقَالُ لَهُ : ثَطُّ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ( بِشَهْوَةٍ ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْأَمْرَدِ كَمَا مَرَّ ، بَلْ النَّظَرُ إلَى الْمُلْتَحِي وَإِلَى النِّسَاءِ الْمَحَارِمِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهُ ، وَضَابِطُ الشَّهْوَةِ فِيهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَثَّرَ بِجَمَالِ صُورَةِ الْأَمْرَدِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مِنْ نَفْسِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلْتَحِي ، فَهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : الْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِقَصْدِ قَضَاءِ وَطَرٍ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّخْصَ يُحِبُّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْجَمِيلِ وَيَلْتَذُّ بِهِ .
قَالَ : فَإِذَا نَظَرَ لِيَلْتَذّ بِذَلِكَ الْجَمَالِ فَهُوَ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ وَهُوَ حَرَامٌ ، قَالَ : وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَهِيَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْوِقَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ زِيَادَةٌ فِي الْفِسْقِ .
قَالَ : وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى فَاحِشَةٍ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ النَّظَرِ وَالْمَحَبَّةِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَالِمُونَ مِنْ الْإِثْمِ وَلَيْسُوا بِسَالِمِينَ ، وَلَوْ انْتَفَتْ الشَّهْوَةُ وَخِيفَ الْفِتْنَةُ حَرُمَ النَّظَرُ أَيْضًا كَمَا حَكَيَاهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِوُقُوعِهَا ، بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ نَادِرًا ( قُلْتُ : وَكَذَا بِغَيْرِهَا ) وَإِنْ أَمِنَ الْفِتْنَةَ ( فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ ) لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ ، فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيلِ الْوَجْهِ النَّقِيِّ الْبَدَنِ كَمَا قَيَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي التِّبْيَانِ وَرِيَاضِ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمَا ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ .
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَلَّاءِ .
قَالَ :

كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أُسْتَاذِي يَوْمًا فَرَأَيْتُ حَدَثًا جَمِيلًا فَقُلْتُ : يَا أُسْتَاذِي تَرَى يُعَذِّبُ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ ؟ فَقَالَ : وَنَظَرْتَ ؟ سَتَرَى غِبَّهُ .
قَالَ : فَنَسِيتُ الْقُرْآنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً ، وَسَمَّى السَّلَفُ الصَّالِحُ الْمُرْدَ الْأَنْتَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَقْذَرُونَ شَرْعًا .
وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ وَإِلَّا لَأَمَرَ الْمُرْدَ بِالِاحْتِجَابِ كَالنِّسَاءِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالِاحْتِجَابِ لِلْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، وَفِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ اللَّازِمَةِ لَهُ ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ غَضُّ الْبَصَرِ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا الصَّعْبُ إيجَابُ الْغَضِّ مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُصَنِّفُ وَيَرُدُّهُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَمُخَالَطَتُهُمْ الصِّبْيَانَ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إلَى الْآنَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِغَضِّ الْبَصَرِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ كَالنِّسَاءِ ، بَلْ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ ، وَنَازَعَ فِي الْمُهِمَّاتِ فِي الْعَزْوِ لِلنَّصِّ وَقَالَ الصَّادِرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الرَّوْضَةِ : إنَّمَا هُوَ إطْلَاقٌ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى حَالَةِ الشَّهْوَةِ .
ا هـ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : لَا أَعْرِفُ هَذَا النَّصَّ لِلشَّافِعِيِّ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَا سُنَنِهِ وَلَا مَبْسُوطِهِ ، وَتَبِعَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ النَّصِّ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ أَحَدٌ وَلَيْسَ وَجْهًا ثَانِيًا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً لَا يَحْرُمُ قَطْعًا ، فَإِنْ خَافَ فَوَجْهَانِ ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ النَّصِّ مَطْعُونٌ فِيهِ ، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ لِلشَّافِعِيِّ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ شَهْوَةٍ أَوْ خَوْفِ فِتْنَةٍ .
وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ بِلَا خِلَافٍ ، وَهَذَا إجْمَاعُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى

الشَّافِعِيِّ مَا يَخْرِقُ الْإِجْمَاعَ .
ا هـ .
وَقَالَ الشَّارِحُ : لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ أَعْنِي الْمُصَنِّفَ وَلَا غَيْرُهُ بِحِكَايَتِهَا فِي الْمَذْهَبِ .
ا هـ .
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اخْتِيَارَاتِهِ لَا أَنَّهُ الْمَذْهَبُ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لِلنَّاظِرِ وَلَا مَمْلُوكًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ إلَيْهِمَا عِنْدَ الْأَمْنِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَحَيْثُ قِيلَ بِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ حَرُمَتْ الْخَلْوَةُ بِهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ : هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهَا أَفْحَشُ وَأَقْرَبُ إلَى الْمَفْسَدَةِ .

وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ) الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيِّ وَالْجُرْجَانِيِّ وَالْعِمْرَانِيِّ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقُ الْأَكْثَرِينَ ، وَهُوَ أَرْجَحُ دَلِيلًا ( أَنَّ الْأَمَةَ ) فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهَا ( كَالْحُرَّةِ ) فِي حُرْمَةِ نَظَرِهَا مُطْلَقًا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأُنُوثَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ ، فَفِي الْإِمَاءِ التُّرْكِيَّاتِ وَنَحْوِهِنَّ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ أَشَدُّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْحَرَائِرِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ فِي تَصْحِيحِهِ : وَمَا ادَّعَاهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَا يُعْرَفُ ، وَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي عَوْرَةِ الْأَمَةِ وَمُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ ا هـ .
وَهَذَا مَا عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ لِمَا مَرَّ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ رَأَى أَمَةً مُنْتَقِبَةً فَقَالَ : أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ يَا لَكَاعُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِمَاءِ الْمُتَبَذِّلَاتِ الْبَعِيدَاتِ عَنْ الشَّهْوَةِ ، أَوْ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَصَدَ نَفْيَ الْأَذَى عَنْ الْحَرَائِرِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَاءَ كُنَّ يُقْصَدْنَ لِلزِّنَا .
قَالَ - تَعَالَى - : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [ الْأَحْزَاب ] وَكَانَتْ الْحَرَائِرُ تُعْرَفُ بِالسِّتْرِ فَخَشِيَ أَنَّهُ إذَا اسْتَتَرَتْ الْإِمَاءُ حَصَلَ الْأَذَى لِلْحَرَائِرِ ، فَأَمَرَ الْإِمَاءَ بِالتَّكَشُّفِ وَيَحْتَرِزْنَ فِي الصِّيَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْفُجُورِ .

وَالْمَرْأَةُ مَعَ امْرَأَةٍ كَرَجُلٍ وَرَجُلٍ .
( وَالْمَرْأَةُ ) الْبَالِغَةُ حُكْمُهَا ( مَعَ امْرَأَةٍ ) مِثْلِهَا فِي النَّظَرِ ( كَرَجُلٍ ) أَيْ كَنَظَرِ رَجُلٍ ( وَرَجُلٍ ) فِيمَا سَبَقَ فَيَجُوزُ مَعَ الْأَمْنِ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، وَيَحْرُمُ مَعَ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ .

وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُ نَظَرِ ذِمِّيَّةٍ إلَى مُسْلِمَةٍ .
( وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُ نَظَرِ ) كَافِرَةٍ ( ذِمِّيَّةٍ ) أَوْ غَيْرِهَا ( إلَى مُسْلِمَةٍ ) فَتَحْتَجِبُ الْمُسْلِمَةُ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } [ النُّورُ ] فَلَوْ جَازَ لَهَا النَّظَرُ لَمْ يَبْقَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ ، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ الْكِتَابِيَّاتِ دُخُولَ الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ ، وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا تَحْكِيهَا لِلْكَافِرِ .
وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْجِنْسِ كَالرِّجَالِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِمْ بَيْنَ نَظَرِ الْكَافِرِ إلَى الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمِ إلَى الْمُسْلِمِ .
نَعَمْ عَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ تَرَى مِنْهَا مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ عَلَى الْأَشْبَهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَقِيلَ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ ، وَرَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهَا مَعَهَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ فِي كَافِرَةٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ لِلْمُسْلِمَةِ وَغَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَهَا .
أَمَّا هُمَا فَيَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ إلَيْهَا كَمَا أَفْتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَبَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَحْرَمِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَظَاهِرُ إيرَادِ الْمُصَنِّفُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ عَلَى الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ صَحِيحٌ إنْ قُلْنَا : إنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَإِذَا كَانَ حَرَامًا عَلَى الْكَافِرَةِ حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ التَّمْكِينُ مِنْهُ .
وَأَمَّا نَظَرُ الْمُسْلِمَةِ إلَيْهَا فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ جَوَازُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَافِرَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : وَالْفَاسِقَةُ مَعَ الْعَفِيفَةِ كَالْكَافِرَةِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ رَدَّهُ الْبُلْقِينِيُّ وَالرَّدُّ ظَاهِرٌ وَإِنْ جَزَمَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ .

وَجَوَازُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى بَدَنِ أَجْنَبِيٍّ سِوَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ إنْ لَمْ تَخَفْ فِتْنَةً .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ التَّحْرِيمُ كَهُوَ إلَيْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَ ) الْأَصَحُّ ( جَوَازُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ ) الْبَالِغَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ ( إلَى بَدَنِ ) رَجُلٍ ( أَجْنَبِيٍّ سِوَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ إنْ لَمْ تَخَفْ فِتْنَةً ) وَلَا نَظَرَتْ بِشَهْوَةٍ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّهَا نَظَرَتْ إلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ } ، وَلِأَنَّ مَا سِوَى مَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ التَّحْرِيمُ ) أَيْ تَحْرِيمُ نَظَرِهَا تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ ( كَهُوَ ) أَيْ كَنَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ ( إلَيْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النُّورُ ] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : { كُنْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجِبَا مِنْهُ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ ؟ فَقَالَ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ؟ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى وَجْهِ الرَّجُلِ وَكَفَّيْهِ عِنْدَ الْأَمْنِ عَلَى الْأَصَحِّ .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَاتَّفَقَتْ الْأَوْجُهُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِهَا إلَى وَجْهِ الرَّجُلِ وَكَفَّيْهِ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ .
ا هـ .
وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَارُّ ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفُ أَجَابَ عَنْهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إلَى وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لِلَعِبِهِمْ وَحِرَابَتِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إلَى الْبَدَنِ وَإِنْ وَقَعَ بِلَا قَصْدٍ صَرَفَتْهُ فِي الْحَالِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ ، أَوْ كَانَتْ

عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ ؛ إذْ ذَاكَ ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّهَا تَنْظُرُ مِنْهَا مَا يَبْدُو فِي الْمَهْنَةِ فَقَطْ ؛ إذْ لَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهِ ، وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِي نَظَرِهِنَّ فِي الطُّرُقَاتِ إلَى الرِّجَالِ ، وَيُسْتَثْنَى عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ مَا إذَا قَصَدَتْ نِكَاحَهُ فَلَهَا النَّظَرُ إلَيْهَا قَطْعًا ، بَلْ يُنْدَبُ كَمَا مَرَّ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ كَهُوَ إلَيْهَا قَدْ يَقْتَضِيهِ

وَنَظَرُهَا إلَى مَحْرَمِهَا كَعَكْسِهِ .
( وَنَظَرُهَا إلَى مَحْرَمِهَا ) حُكْمُهُ ( كَعَكْسِهِ ) وَهُوَ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى مَحْرَمِهِ فَتَنْظُرُ مِنْهُ بِلَا شَهْوَةٍ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، وَقِيلَ : مَا يَبْدُو مِنْهُ فِي الْمَهْنَةِ فَقَطْ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ : لَا يَحْرُمُ إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ ، وَقِيلَ : كَنَظَرِهِ إلَيْهَا ، وَهَذَا الَّذِي ضَعَّفَهُ هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ هُنَا .
.

وَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيُعَامَلُ بِالْأَشَدِّ فَيُجْعَلُ مَعَ النِّسَاءِ رَجُلًا وَمَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةً إذَا كَانَ فِي سِنٍّ يَحْرُمُ فِيهِ نَظَرُ الْوَاضِحِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الْمَجْمُوعِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ وَلَا أَجْنَبِيَّةٌ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِامْرَأَةٍ فَهُوَ مَعَهَا كَعَبْدِهَا ، وَقِيلَ : يُسْتَصْحَبُ فِيهِ حُكْمُ الصِّغَرِ ، وَيُؤَيِّدُهُ تَصْحِيحُ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِضَعْفِ الشَّهْوَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِهَا قَبْلَهُ .

وَمَتَى حَرُمَ النَّظَرُ حَرُمَ الْمَسُّ .

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ضَابِطِ مَا يَحْرُمُ مِنْهُ فَقَالَ : ( وَمَتَى حَرُمَ النَّظَرُ حَرُمَ الْمَسُّ ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَسَّ ، فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ ، وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْ ، فَيَحْرُمُ مَسُّ الْأَمْرَدِ كَمَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ وَأَوْلَى ، وَدَلْكُ الرَّجُلِ فَخِذَ الرَّجُلِ بِلَا حَائِلٍ وَيَجُوزُ مِنْ فَوْقِ إزَارٍ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَلَمْ تَكُنْ شَهْوَةٌ ، وَأُورِدَ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ صُوَرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا ، فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا أُبِينَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُهُ لَا مَسُّهُ ، وَمِنْهُ حَلَقَةُ دُبُرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فَيَحْرُمُ نَظَرُهُ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ لَا مَسُّهُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَمِنْهُ مَا لَوْ أَمْكَنَ الطَّبِيبَ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ بِالْمَسِّ دُونَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الْمَسُّ لَا النَّظَرُ ، وَمِنْ الثَّانِي الْمُحَرَّمِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ بَطْنِ أُمِّهِ وَظَهْرِهَا وَغَمْزِ سَاقَهَا وَرِجْلِهَا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ مَسِّ الْمَحَارِمِ ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَسِّ الشَّهْوَةِ ، وَالثَّانِي عَلَى مَسِّ الْحَاجَةِ وَالشَّفَقَةِ ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ ، لَكِنْ يَبْقَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ شَهْوَةٌ ، وَلَا حَاجَةٌ لَا شَفَقَةٌ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةُ ، فَمَا قَرُبَ إلَى الْأَوَّلِ ظَهَرَ تَحْرِيمُهُ ، وَمَا قَرُبَ إلَى الثَّانِي ظَهَرَ جَوَازُهُ .
ا هـ .
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ ، فَقَدْ قَبَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ ، وَقَبَّلَ الصِّدِّيقُ الصِّدِّيقَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفَقَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الثَّابِتَ إنَّمَا هُوَ انْتِفَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَصْدُقُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمُحَرَّرِ ، وَحَيْثُ حَرُمَ النَّظَرُ حَرُمَ الْمَسُّ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهِيَ

أَحْسَنُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ حَيْثُ اسْمَ مَكَان ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَحْرُمُ نَظَرُهُ يَحْرُمُ مَسُّهُ ، وَمَتَى اسْمُ زَمَانٍ ، فَهُوَ لَيْسَ مَقْصُودًا هُنَا .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الزَّمَانَ أَيْضًا مَقْصُودٌ ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ يَحْرُمُ نَظَرُهَا .
فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا جَازَ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا حَرُمَ ، وَكَذَلِكَ الطِّفْلَةُ عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى زَمَانُ الْمُدَاوَاةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَنَحْوَهَا .

وَمُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلَاجٍ .
قُلْتُ : وَيُبَاحُ النَّظَرُ لِمُعَامَلَةٍ وَشَهَادَةٍ .

( وَ ) اعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرْمَةِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ هُوَ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِمَا .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ وَالْمَسُّ ( مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلَاجٍ ) وَلَوْ فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا ، فَلِلرَّجُلِ مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ إنْ جَوَّزْنَا خَلْوَةَ أَجْنَبِيٍّ بِامْرَأَتَيْنِ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعَدَدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .
وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهَا تَعَاطِي ذَلِكَ مِنْ امْرَأَةٍ وَعَكْسُهُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ ، وَقِيَاسُهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ لَا تَكُونَ كَافِرَةً أَجْنَبِيَّةً مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ ، وَلَوْ لَمْ نَجِدْ لِعِلَاجِ الْمَرْأَةِ إلَّا كَافِرَةً وَمُسْلِمًا ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْكَافِرَةَ تُقَدَّمُ ؛ لِأَنَّ نَظَرَهَا وَمَسَّهَا أَخَفُّ مِنْ الرَّجُلِ بَلْ الْأَشْبَهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ كَمَا مَرَّ أَنَّهَا تَنْظُرُ مِنْهَا مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمَهْنَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ .
تَنْبِيهٌ : رَتَّبَ الْبُلْقِينِيُّ ذَلِكَ ، فَقَالَ : فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَصَبِيٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَصَبِيٌّ غَيْرُ مُرَاهِقٍ كَافِرٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَامْرَأَةٌ كَافِرَةٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَمَحْرَمُهَا الْمُسْلِمُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَمَحْرَمُهَا الْكَافِرُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَأَجْنَبِيٌّ مُسْلِمٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَأَجْنَبِيٌّ كَافِرٌ .
ا هـ .
وَالْمُتَّجَهُ تَأْخِيرُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ عَنْ الْمَحْرَمِ بِقِسْمَيْهِ ، وَقَيَّدَ فِي الْكَافِي الطَّبِيبَ بِالْأَمِينِ فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ وُجُودِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَأْمَنَ الِافْتِتَانَ ، وَلَا يَكْشِفَ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ

الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ ، وَفِي مَعْنَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ نَظَرُ الْخَاتِنِ إلَى فَرْجِ مَنْ يَخْتِنُهُ ، وَنَظَرُ الْقَابِلَةِ إلَى فَرْجِ الَّتِي تُوَلِّدُهَا ، وَيُعْتَبَرُ فِي النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مُطْلَقُ الْحَاجَةِ ، وَفِي غَيْرِهِمَا مَا عَدَا السَّوْأَتَيْنِ تَأَكُّدُهَا بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ كَشِدَّةِ الضَّنَى كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ لَوْ خَافَ شَيْئًا فَاحِشًا فِي عُضْوٍ بَاطِنٍ امْتَنَعَ النَّظَرُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَفِي السَّوْأَتَيْنِ مَزِيدُ تَأَكُّدِهَا بِأَنْ لَا يُعَدَّ التَّكَشُّفُ بِسَبَبِهَا هَتْكًا لِلْمُرُوءَةِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّاهُ ( قُلْتُ : وَيُبَاحُ النَّظَرُ ) مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِلْأَمْرَدِ وَغَيْرِهِ ( لِمُعَامَلَةٍ ) مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ ( وَشَهَادَةٍ ) تَحَمُّلًا وَأَدَاءً حَتَّى يَجُوزَ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالْوِلَادَةِ ، وَإِلَى الثَّدْيِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ ، هَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الشَّهَادَةَ .
فَإِنْ قَالَ : تَعَمَّدْتُ النَّظَرَ لِغَيْرِ الشَّهَادَةِ فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ قَالَ : حَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ بِلَا تَعَمُّدٍ فَرَأَيْتُهُ قُبِلَ ، وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهَا وَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا كُلِّفَتْ الْكَشْفَ عَنْ وَجْهِهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فِي نِقَابِهَا ، فَإِنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْكَشْفِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَضِيَّتُهُ تَحْرِيمُ النَّظَرِ حِينَئِذٍ .
ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى عَانَةِ وَلَدِ الْكَافِرِ لِيَنْظُرَ هَلْ أَنْبَتَ أَمْ لَا ؟ وَيَجُوزُ لِلنِّسْوَةِ أَنْ يَنْظُرْنَ إلَى ذَكَرِ الرَّجُلِ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَبَالَتُهُ وَامْتَنَعَتْ مِنْ التَّمْكِينِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً ، فَإِنْ خَافَهَا لَمْ يَنْظُرْ إلَّا إنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَنْظُرُ وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ .

وَتَعْلِيمٍ وَنَحْوِهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَتَعْلِيمٍ ) مَزِيدٌ عَلَى الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بَلْ عَلَى غَالِبِ كُتُبِ الْمَذْهَبِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : كَشَفَتْ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُتُبُ الْمَذْهَبِ ، وَعُدَّ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ مُصَنَّفًا فَلَمْ أَجِدْهَا ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ كَالْفَاتِحَةِ وَمَا يَتَعَيَّنُ تَعْلِيمُهُ مِنْ الصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا بِشَرْطِ التَّعَذُّرِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي الْمَنْعَ ، وَمِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ فِي الصَّدَاقِ : وَلَوْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ وَطَلَّقَ قَبْلَهُ فَالْأَصَحُّ تَعَذُّرُ تَعْلِيمِهِ ا هـ .
وَقَالَ الشَّارِحُ : وَهُوَ أَيْ التَّعْلِيمُ لِلْأَمْرَدِ خَاصَّةً لِمَا سَيَأْتِي .
ا هـ .
وَيُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى مَسْأَلَةِ الصَّدَاقِ ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ لِلتَّعْلِيمِ لِلْأَمْرَدِ وَغَيْرِهِ ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الزَّوْجَيْنِ تَعَلَّقَتْ آمَالُهُ بِالْآخَرِ ، فَصَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَمْعَةٌ فِي الْآخَرِ ، فَمُنِعَ عَنْ ذَلِكَ ( وَنَحْوِهَا ) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ ، كَجَارِيَةٍ يُرِيدُ الرَّجُلُ شِرَاءَهَا أَوْ عَبْدٍ تُرِيدُ الْمَرْأَةُ شِرَاءَهُ ، وَكَالْحَاكِمِ يُحَلِّفُ الْمَرْأَةَ أَوْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقِيَاسُهُ جَوَازُهُ عِنْدَ الْحُكْمِ لَهَا .
ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ( بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ مَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَامَلَةِ إلَى الْوَجْهِ فَقَطْ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِيمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ اشْتَرَتْ عَبْدًا مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا يُزَادُ عَلَى النَّظْرَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى ثَانِيَةٍ لِلتَّحَقُّقِ فَيَجُوزُ .
وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ إذَا عَرَفَهَا بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ

يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ وَجْهِهَا ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْبَحْرِ : إنَّهُ يَسْتَوْعِبَهُ .
تَنْبِيهٌ : كُلُّ مَا حَرُمَ نَظَرُهُ مُتَّصِلًا حَرُمَ نَظَرُهُ مُنْفَصِلًا : كَشَعْرِ عَانَةٍ وَلَوْ مِنْ رَجُلٍ ، وَقُلَامَةِ ظُفْرِ حُرَّةٍ ، وَلَوْ مِنْ يَدَيْهَا ، وَتَجِبُ مُوَارَاتُهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي لِئَلَّا يَنْظُرَ إلَيْهِ أَحَدٌ ، وَاسْتَبْعَدَ الْأَذْرَعِيُّ الْوُجُوبَ .
قَالَ : وَالْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ فِي الْحَمَّامَاتِ عَلَى طَرْحِ مَا تَنَاثَرَ مِنْ امْتِشَاطِ شُعُورِ النِّسَاءِ ، وَحَلْقِ عَانَاتِ الرِّجَالِ .
ا هـ .
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، فَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
وَأَمَّا إذَا أُبِينَ شَعْرٌ مِنْ رَأْسِ أَمَةٍ أَوْ شَيْءٌ مِنْ ظُفْرِهَا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِلِّ نَظَرِهِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ .

وَلِلزَّوْجِ النَّظَرُ إلَى كُلِّ بَدَنِهَا .

( وَلِلزَّوْجِ النَّظَرُ إلَى كُلِّ بَدَنِهَا ) أَيْ زَوْجَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا كَعَكْسِهِ ، وَلَوْ إلَى الْفَرْجِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَمَتُّعِهِ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرُ الْفَرْجِ مِنْ الْآخَر ، وَمِنْ نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ ، وَإِلَى بَاطِنِهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً .
{ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي : أَيْ الْفَرْجَ } .
وَأَمَّا خَبَرُ : { النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ يُورِثُ الطَّمْسَ } أَيْ الْعَمَى كَمَا وَرَدَ كَذَلِكَ ، فَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ فِي الضُّعَفَاءِ ، بَلْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَخَالَفَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ، وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ .
وَقَالَ : أَخْطَأَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَخَصَّ الْفَارِقِيُّ الْخِلَافَ بِغَيْرِ حَالَةِ الْجِمَاعِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَالدَّمِيرِيُّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُصَرِّحٌ بِحَالَةِ الْجِمَاعِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ : يُورِثُ الْعَمَى ، فَقِيلَ : فِي النَّاظِرِ ، وَقِيلَ : فِي الْوَلَدِ ، وَقِيلَ : فِي الْقَلْبِ ، وَشَمَلَ كَلَامُهُمْ الدُّبُرَ ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ : وَالتَّلَذُّذُ بِالدُّبُرِ بِلَا إيلَاجٍ جَائِزٌ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الدَّارِمِيُّ وَقَالَ بِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ .
وَيُسْتَثْنَى زَوْجَتُهُ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ الْغَيْرِ بِشُبْهَةٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَظَرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، وَيَحِلُّ مَا سِوَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَالْخِلَافُ الَّذِي فِي النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ لَا يَجْرِي فِي مَسِّهِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ .
وَقَالَ : سَأَلَ أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ مَسِّ الرَّجُلِ فَرْجَ زَوْجَتِهِ وَعَكْسِهِ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يَعْظُمَ أَجْرُهُمَا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى

عَوْرَةِ زَوْجِهَا إذَا مَنَعَهَا مِنْهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّمَتُّعَ بِهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ .
ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
أَمَّا نَظَرُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ كَالْمَحْرَمِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ ، وَالْأَمَةُ كَالزَّوْجَةِ فِي النَّظَرِ ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَمِنْ سَيِّدِهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْآخَرِ وَلَوْ إلَى الْفَرْجِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ بِكِتَابَةٍ وَتَزْوِيجٍ وَشَرِكَةٍ وَكُفْرٍ كَتَوَثُّنٍ وَرِدَّةٍ وَعِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ وَنَسَبٍ وَرَضَاعٍ وَمُصَاهَرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نَظَرَهُ مِنْهَا إلَى مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ دُونَ مَا زَادَ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ فِي الْمُشْتَرَكَةِ مَمْنُوعٌ ، وَالصَّوَابُ فِيهَا وَفِي الْمُبَعَّضَةِ وَالْمُبَعَّضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَيِّدَتِهِ أَنَّهُمْ كَالْأَجَانِبِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ .
أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ بِعَارِضٍ قَرِيبِ الزَّوَالِ كَحَيْضٍ وَرَهْنٍ فَلَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ إلَيْهَا .
تَتِمَّةٌ : يَحْرُمُ اضْطِجَاعُ رَجُلَيْنِ أَوْ امْرَأَتَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَا عَارِيَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ مِنْ الْفِرَاشِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { لَا يُفْضِي الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ } .
وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِي الْمَضْجَعِ ، وَاحْتَجَّ لَهُ الرَّافِعِيُّ بِخَبَرِ : { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفُرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعُرْيِ كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ، وَهُوَ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَجَانِبِ ، فَمَا بَالُكَ بِالْمَحَارِمِ

خُصُوصًا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ .
فَائِدَةٌ : أَفَادَ السُّبْكِيُّ عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه بْنِ الْحَاجِّ ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَالِمًا أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يَكْرَهُ النَّوْمَ فِي الثِّيَابِ ، وَأَنَّ السُّنَّةَ الْعُرَى عِنْدَ النَّوْمِ أَيْ وَيَتَغَطَّى بِثِيَابِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا .
.

وَتُسَنُّ مُصَافَحَةُ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ لِخَبَرِ : { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ يَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
نَعَمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرْمَةِ نَظَرِ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ تَحْرُمُ مُصَافَحَتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنْ النَّظَرِ .
قَالَ الْعَبَّادِيُّ : وَتُكْرَهُ مُصَافَحَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ كَجُذَامٍ أَوْ بَرَصٍ ، .

وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّقْبِيلُ فِي الرَّأْسِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُقَبِّلُ أَوْ الْمُقَبَّلُ صَالِحًا لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ إلَّا لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ تَبَاعَدَ لِقَاءٌ عُرْفًا فَسُنَّةٌ لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا ، وَيَأْتِي فِي تَقْبِيلِ الْأَمْرَدِ مَا مَرَّ ، وَيُسَنُّ تَقْبِيلُ الطِّفْلِ وَلَوْ وَلَدَ غَيْرَهُ شَفَقَةً لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِمَا مَرَّ فِي الْجَنَائِزِ .
وَيُسَنُّ تَقْبِيلُ يَدِ الْحَيِّ الصَّالِحِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، كَعِلْمٍ وَشَرَفٍ وَزُهْدٍ ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِغِنَاهُ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، كَشَوْكَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ ، وَيُكْرَهُ حَنْيُ الظَّهْرِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَأَمَّا السُّجُودُ لَهُ فَحَرَامٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ تَارِكِ الصَّلَاةِ .
وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ شَرَفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إكْرَامًا لَا رِيَاءً وَتَفْخِيمًا .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ .

فَصْلٌ تَحِلُّ خِطْبَةُ خَلِيَّةٍ عَنْ نِكَاحٍ وَعِدَّةٍ ، لَا تَصْرِيحٌ لِمُعْتَدَّةٍ ، وَلَا تَعْرِيضٌ لِرَجْعِيَّةٍ ، وَيَحِلُّ تَعْرِيضٌ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ وَكَذَا لِبَائِنٍ فِي الْأَظْهَرِ .

فَصْلٌ فِي الْخِطْبَةِ ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْخَاءِ : الْتِمَاسُ الْخَاطِبِ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْطُوبَةِ ( تَحِلُّ خِطْبَةُ خَلِيَّةٍ عَنْ نِكَاحٍ ، وَ ) عَنْ ( عِدَّةٍ ) وَكُلِّ مَانِعٍ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ وَأَنْ لَا يَسْبِقَهُ غَيْرُهُ بِالْخِطْبَةِ ، وَيُجَابُ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا كَمَا تَحْرُمُ خِطْبَةُ مَنْكُوحَةٍ كَذَلِكَ إجْمَاعًا فِيهِمَا .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِهِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الْأَصَحَّ الْقَطْعُ بِجَوَازِ خِطْبَتِهَا مِمَّنْ لَهُ الْعِدَّةُ مَعَ عَدَمِ خُلُوِّهَا عَنْ الْعِدَّةِ ، وَمِنْ مَنْطُوقِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا ، فَلَا يَجُوزُ لِمُطَلِّقِهَا أَنْ يَخْطُبَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَتَعْتَدَّ مِنْهُ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُ الْمَخْطُوبَةِ ، فَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ حَرُمَ أَنْ يَخْطِبَ خَامِسَةً وَأَنْ يَخْطِبَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَقِيَاسُهُ تَحْرِيمُ خِطْبَةِ مَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ ، وَكَذَا ثَانِيَةُ السَّفِيهِ ، وَثَالِثَةُ الْعَبْدِ .
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ مِنْ الْحَجِّ : يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُ الْخِطْبَةِ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْحِلِّ يُفْهِمُ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ ، وَهُوَ مَا نَقَلَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَقِيلَ : هِيَ كَالنِّكَاحِ ؛ إذْ الْوَسَائِلُ كَالْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ تُوهِمُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ جَوَازَ خِطْبَةِ السُّرِّيَّةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمُسْتَفْرَشَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرِضْ السَّيِّدُ عَنْهُمَا .
وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَنْكُوحَةِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ السَّيِّدِ .
نَعَمْ إنْ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَمْ يَقْصِدْ السَّيِّدُ التَّسَرِّيَ جَازَ التَّعْرِيضُ كَالْبَائِنِ إلَّا إنْ خِيفَ فَسَادُهَا عَلَى مَالِكِهَا ، وَ ( لَا ) يَحِلُّ ( تَصْرِيحٌ لِمُعْتَدَّةٍ ) بَائِنًا كَانَتْ أَوْ رَجْعِيَّةً بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ انْفِسَاخٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ شُبْهَةٍ لِمَفْهُومِ قَوْله

تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } [ الْبَقَرَةُ ] الْآيَةَ .
وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالتَّصْرِيحُ مَا يَقْطَعُ بِالرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ كَأُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَكِ وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ نَكَحْتُكِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا صَرَّحَ تَحَقَّقَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا فَرُبَّمَا تَكْذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ( وَلَا ) يَحِلُّ ( تَعْرِيضٌ لِرَجْعِيَّةٍ ) لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ أَوْ فِي مَعْنَى الزَّوْجَةِ ، وَلِأَنَّهَا مَجْفُوَّةٌ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ تَكْذِبُ انْتِقَامًا ، وَالتَّعْرِيضُ مَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةُ فِي النِّكَاحِ وَعَدَمَهَا ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ جَمِيلَةٌ ، وَرُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ ، وَمَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ ، وَلَسْتِ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ ، وَالتَّعْرِيضُ مَأْخُوذٌ مِنْ عُرْضِ الشَّيْءِ ، وَهُوَ جَانِبُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ بَعْضَ مَا يُرِيدُهُ ، وَفُهِمَ مِنْهُ مَنْعُ التَّصْرِيحِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَيَحِلُّ تَعْرِيضٌ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ ) وَلَوْ حَامِلًا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ ، وَالْمُوَاعَدَةُ فِيهَا سِرًّا كَالْخِطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَمْ يُرِدْ بِالسِّرِّ ضِدَّ الْجَهْرِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجِمَاعَ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنْشَدُوا : الطَّوِيلَ أَلَا زَعَمَتْ بَسَّاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يَشْهَدَ السِّرَّ أَمْثَالِي ( وَكَذَا ) يَحِلُّ تَعْرِيضٌ ( لِبَائِنٍ ) بِفَسْخٍ أَوْ رِدَّةٍ أَوْ طَلَاقٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِانْقِطَاعِ سَلْطَنَةِ الزَّوْجِ عَنْهَا ، وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَنْكِحَهَا فَأَشْبَهَتْ الرَّجْعِيَّةَ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ الَّذِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا فِيهَا .
أَمَّا هُوَ فَيَحِلُّ لَهُ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهُ فِيهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَوَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَإِنَّ عِدَّةَ الْحَمْلِ تُقَدَّمُ فَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ أَنْ يَخْطُبَهَا ؛

لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ كَمَا سَيَأْتِي إيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْعِدَدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَحُكْمُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا حُكْمُ الْخِطْبَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهَلْ خِطْبَةُ مَنْ يَمْتَنِعُ نِكَاحُهَا فِي الْحَالِ كَالثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَالْبِكْرِ فَاقِدَةِ الْمُجْبِرِ جَائِزَةٌ أَوْ لَا ؟ بَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ الْأَوَّلَ وَبَحَثَ غَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْ التَّصْرِيحِ .
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْخِطْبَةَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا لِعَدَمِ الْمُجِيبِ ، وَيُكْرَهُ التَّعْرِيضُ بِالْجِمَاعِ لِمَخْطُوبَتِهِ لِقُبْحِهِ ، وَقَدْ يَحْرُمُ بِأَنْ يَتَضَمَّنَ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ ، كَقَوْلِهِ : أَنَا قَادِرٌ عَلَى جِمَاعِكِ ، أَوْ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكِ مَنْ يُجَامِعُكِ ، وَلَا يُكْرَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِزَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ تَمَتُّعِهِ .

وَتَحْرُمُ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِجَابَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُجَبْ وَلَمْ يُرَدَّ ، لَمْ تَحْرُمْ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَتَحْرُمُ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِجَابَتِهِ ) وَلَوْ بِنَائِبِهِ ( إلَّا بِإِذْنِهِ ) مَعَ ظُهُورِ الرِّضَا بِالتَّرْكِ لَا لِرَغْبَةِ حَيَاءٍ وَنَحْوِهِ ، لِخَبَرِ : { لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ } ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ وَالتَّقَاطُعِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْأَوَّلُ مُسْلِمًا أَمْ لَا ، مُحْرِمًا أَوْ لَا ، وَذِكْرُ الْأَخِ فِي الْخَبَرِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ امْتِثَالًا .
نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي الْكَافِرِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا ، وَإِعْرَاضُ الْمُجِيبِ كَإِعْرَاضِ الْخَاطِبِ ، وَكَذَا لَوْ طَالَ الزَّمَانُ بَعْدَ إجَابَتِهِ بِحَيْثُ يُعَدُّ مُعْرِضًا كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَصْحَابِ ، أَوْ نَكَحَ مَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَخْطُوبَةِ ، وَسُكُوتُ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّحْرِيمِ أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةَ الْإِذْنِ ، وَمِنْ وَلِيِّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَتِهِ ، وَمِنْهَا مَعَ الْوَلِيِّ إنْ كَانَ الْخَاطِبُ غَيْرَ كُفْءٍ ، وَمِنْ السُّلْطَانِ إنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً بَالِغَةً فَاقِدَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَمِنْ السَّيِّدِ إنْ كَانَتْ أَمَةً غَيْرَ مُكَاتَبَةٍ كِتَابَةً صَحِيحَةً ، وَمِنْ السَّيِّدِ مَعَ الْمُكَاتَبَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمِنْ الْمُبَعَّضَةِ مَعَ سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ ، وَمِنْ السَّيِّدِ مَعَ وَلِيِّهَا إنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً ، وَشَرْطُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخِطْبَةِ وَالْإِجَابَةِ وَحُرْمَةِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ مِمَّنْ ذُكِرَ ، وَأَنْ تَكُونَ الْخِطْبَةُ الْأُولَى جَائِزَةً ، فَلَوْ رُدَّ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ أَوْ أُجِيبَ بِالتَّعْرِيضِ كَلَا رَغْبَةَ عَنْكَ أَوْ بِالتَّصْرِيحِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِهَا أَوْ بِالْحُرْمَةِ أَوْ عَلِمَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهَا بِالصَّرِيحِ أَوْ عَلِمَ كَوْنَهَا بِهِ وَحَصَلَ

إعْرَاضٌ مِمَّنْ ذُكِرَ ، أَوْ كَانَتْ الْخِطْبَةُ الْأُولَى مُحَرَّمَةً كَأَنْ خَطَبَ فِي عِدَّةِ غَيْرِهِ لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهُ ، وَلَوْ خَطَبَ رَجُلٌ خَمْسًا وَلَوْ بِالتَّرْتِيبِ وَصُرِّحَ لَهُ بِالْإِجَابَةِ حَرُمَتْ خِطْبَةُ كُلٍّ مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعَ مِنْهُنَّ أَوْ يَتْرُكَهُنَّ أَوْ بَعْضَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْغَبُ فِي الْخَامِسَةِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَوْ أَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ شَاءَ صَحَّ ، وَحَلَّ لِكُلِّ أَحَدٍ خِطْبَتُهَا عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ نُصَّ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ فِي الْبَحْرِ .
قَالَ شَيْخِي : وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ ، وَاَلَّذِي فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ يَحِلُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَهَا أَحَدٌ .
ا هـ .
وَعَلَى هَذَا لَا خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ ( فَإِنْ لَمْ يُجَبْ وَلَمْ يُرَدَّ ) بِأَنْ سُكِتَ عَنْ التَّصْرِيحِ لِلْخَاطِبِ بِإِجَابَةٍ أَوْ رَدٍّ وَالسَّاكِتُ غَيْرُ بِكْرٍ يَكْفِي سُكُوتُهَا أَوْ ذِكْرُ مَا يُشْعِرُ بِالرِّضَا ، نَحْوُ : لَا رَغْبَةَ عَنْكَ ( لَمْ تَحْرُمْ فِي الْأَظْهَرِ ) { لِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ } وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَاهَا ، وَخَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بَعْدَ خِطْبَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَجَابَتْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، وَالثَّانِي تَحْرُمُ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، وَقُطِعَ بِالْأَوَّلِ فِي السُّكُوتِ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ شَيْئًا .

تَنْبِيهٌ : قَدْ نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ خِطْبَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ الرِّجَالِ ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ وَأَجَابَ الْأَوَّلُ الرَّجُلَ وَكَانَتْ الْمُجَابَةُ يُكْمَلُ بِهَا الْعَدَدُ الشَّرْعِيُّ ، أَوْ كَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا وَاحِدَةً امْتَنَعَ أَنْ تَخْطِبَهُ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى مَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ هُنَا مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ، فَإِنْ انْتَفَى مَا مَرَّ جَازَ إذْ جَمْعُهُ بَيْنَ أَرْبَعٍ لَا مَانِعَ مِنْهُ .

وَمَنْ اُسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ ذَكَرَ مَسَاوِئَهُ بِصِدْقٍ .

( وَمَنْ اُسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ ) أَوْ مَخْطُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَرَادَ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ لِنَحْوِ مُعَامَلَةٍ أَوْ مُجَاوَرَةٍ كَالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ ( ذَكَرَ ) الْمُسْتَشَارُ جَوَازًا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَوُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْأَذْكَارِ وَالرِّيَاضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَشَارِ ، بَلْ أَوْجَبُوا فِي الْبَيْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إذَا عَلِمَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا أَنْ يُخْبِرَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ ، وَمِثْلُهُ الْبَقِيَّةُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْبِيرَ بِالْجَوَازِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ وَمَفْعُولُ ذَكَرَ قَوْلُهُ ( مَسَاوِئَهُ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ عُيُوبُهُ ( بِصِدْقٍ ) لِيَحْذَرَ ، بَذْلًا لِلنَّصِيحَةِ لَا لِلْإِيذَاءِ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَارِّ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهَا إلَّا بَعْدَ الِاسْتِشَارَةِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُهَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْكُورِ فِي الْبَيْعِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ خَيَالٌ ، بَلْ النَّصِيحَةُ هُنَا آكَدُ وَأَحَبُّ .
ا هـ .
وَفِيهِ تَلْمِيحٌ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْأَعْرَاضَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَمَحَلُّ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ ، فَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ بِأَنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ : لَا تَصْلُحُ لَكَ مُصَاهَرَتُهُ وَنَحْوِهِ كَلَا تَصْلُحُ مُعَامَلَتُهُ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ ذِكْرُ عُيُوبِهِ ، قَالَهُ فِي الْأَذْكَارِ تَبَعًا لِلْإِحْيَاءِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ الْأَذْرَعِيُّ ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ إذَا انْدَفَعَ بِذِكْرِ بَعْضِهَا حَرُمَ عَلَيْهَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَالْغِيبَةُ تُبَاحُ لِسِتَّةِ أَسْبَابٍ ، وَذَكَرَهَا وَجَمَعَهَا غَيْرُهُ

فِي هَذَا الْبَيْتِ حَيْثُ قَالَ : : لَقَبٌ وَمُسْتَفْتٍ وَفِسْقٌ ظَاهِرٌ وَالظُّلْمُ تَحْذِيرٌ مُزِيلُ الْمُنْكَرِ أَيْ فَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِذَلِكَ فَقَطْ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لِجَوَازِ ذِكْرِ غَيْرِهِ سَبَبٌ آخَرُ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُظَاهِرُ بِالْمَعْصِيَةِ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ فَتَمْتَنِعُ غِيبَتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا اطَّلَعُوا عَلَى زَلَّتِهِ تَسَاهَلُوا فِي ارْتِكَابِ الذَّنْبِ ، وَغِيبَةُ الْكَافِرِ مُحَرَّمَةٌ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ ، وَتَرْكًا لِوَفَاءِ الذِّمَّةِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَمَّعَ ذِمِّيًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَمُبَاحَةٌ إنْ كَانَ حَرْبِيًّا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ حَسَّانَ أَنْ يَهْجُوَ الْمُشْرِكِينَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغِيبَةَ ، وَهِيَ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُ ، وَلَوْ فِي مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ أَذَكَرَهُ بِلَفْظٍ ، أَمْ كِتَابَةٍ ، أَمْ إشَارَةٍ بِيَدٍ ، أَوْ رَأْسٍ ، أَوْ جَفْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهَا تُبَاحُ لِلْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ ، بَلْ قَدْ تَجِبُ بَذْلًا لِلنَّصِيحَةِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْبَارِزِيّ : وَلَوْ اُسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَجَبَ ذِكْرُهُ لِلزَّوْجَةِ ، إنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقَلِّلُ الرَّغْبَةَ عَنْهُ وَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَسُوءِ الْخُلُقِ وَالشُّحِّ اُسْتُحِبَّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَاصِي وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فِي الْحَالِ وَسَتْرُ نَفْسِهِ .
ا هـ .
وَوُجُوبُ هَذَا التَّفْصِيلُ بَعِيدٌ ، وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَكْفِيَهُ قَوْلُهُ أَنَا لَا أَصْلُحُ لَكُمْ ، وَسُمِّيَتْ عُيُوبُ الْإِنْسَانِ مَسَاوِئَ ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُهُ ذِكْرُهَا ، وَالْمُصَنِّفُ سَهَّلَ هَمْزَةُ مَسَاوِئَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ تَرْكَ الْهَمْزَةَ لَحْنٌ ،

وَمَسَاوِيَ بِوَزْنِ مَفَاعِلَ جَمْعُ مَفْعَلٍ كَمَسَاكِنَ جَمْعُ مَسْكَنٍ .

وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ خَطَبَ الْوَلِيُّ فَقَالَ الزَّوْجُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ .
قُلْتُ : الصَّحِيحُ لَا يُسْتَحَبُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، فَإِنْ طَالَ الذِّكْرُ الْفَاصِلُ لَمْ يَصِحَّ .

( وَيُسْتَحَبُّ ) لِلْخَاطِبِ أَوْ نَائِبِهِ ( تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ ) بِضَمِّ الْخَاءِ ، وَهِيَ الْكَلَامُ الْمُفْتَتَحُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَتَمُ بِالْوَصِيَّةِ وَالدُّعَاءِ لِخَبَرِ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ } فَيَحْمَدُ اللَّهَ الْخَاطِبُ أَوْ نَائِبُهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ ( قَبْلَ الْخِطْبَةِ ) بِكَسْرِ الْخَاءِ ، وَهِيَ الْتِمَاسُ التَّزْوِيجِ كَمَا مَرَّ ، فَيَقُولُ عَقِبَ الْخِطْبَةِ : جِئْتُ خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ فُلَانَةَ ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَقُولُ : لَسْتَ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ فِي الْخِطْبَةِ الْجَائِزِ فِيهَا التَّصْرِيحُ أَمَّا الْخِطْبَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا التَّعْرِيضُ ، فَلَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْخُطْبَةُ قَبْلَ الْخِطْبَةِ .
ا هـ .
وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ ظَاهِرٌ ( وَ ) يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ أُخْرَى ( قَبْلَ الْعَقْدِ ) وَهِيَ آكَدُ مِنْ الْأُولَى ، وَتَبَرَّكَ الْأَئِمَّةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا قَالَ : { إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْطُبَ لِحَاجَةٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلْيَقُلْ إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { رَقِيبًا } { يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } إلَى قَوْلِهِ : { عَظِيمًا } } وَتُسَمَّى هَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ ، وَكَانَ الْقَفَّالُ يَقُولُ بَعْدَهَا : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ يَقْضِي فِيهَا مَا يَشَاءُ وَيْحُكُمْ مَا يُرِيدُ ، لَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ ، وَلَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ ، وَلَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَكِتَابٍ قَدْ سَبَقَ ، فَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَقَدَّرَ أَنْ يَخْطِبَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ عَلَى صَدَاقِ كَذَا ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ أَجْمَعِينَ ( وَلَوْ خَطَبَ الْوَلِيُّ ) وَأَوْجَبَ كَأَنْ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْتُكَ إلَخْ ( فَقَالَ الزَّوْجُ ) قَبْلَ الْقَبُولِ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُ ) نِكَاحَهَا إلَخْ ( صَحَّ النِّكَاحُ ) مَعَ تَخَلُّلِ الْخُطْبَةِ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الْمُتَخَلَّلَ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ فَلَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ كَالْإِقَامَةِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ .
وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْفَاصِلَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ ، وَصَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّهُ أَقْوَى .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَذْفِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ مُوَافِقٌ لِتَصْوِيرِ الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا الْمَسْأَلَةَ بِذَلِكَ لَكِنَّهُمَا بَعْدَ هَذَا ذَكَرَا اسْتِحْبَابَهَا عَنْ الْجُمْهُورِ وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَإِنَّمَا حَذَفَ الْمُصَنِّفُ مَدْخُولَ قَبِلْتُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ ، وَلَوْ ذَكَرَهُ كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى ( بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ) الذِّكْرُ بَيْنَهُمَا لِلْخَبَرِ الْمَارِّ ( قُلْتُ : الصَّحِيحُ ) وَصَحَّحَهُ فِي الْأَذْكَارِ أَيْضًا ( لَا يُسْتَحَبُّ ) ذَلِكَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ ، بَلْ يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ يُونُسَ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَبْطَلَ بِهِ ، وَتَابَعَ فِي الرَّوْضَةِ الرَّافِعِيَّ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ، وَجَعَلَا فِي النِّكَاحِ أَرْبَعَ خُطَبٍ : خُطْبَةٌ مِنْ الْخَاطِبِ ، وَأُخْرَى مِنْ الْمُجِيبِ لِلْخِطْبَةِ ، وَخُطْبَتَيْنِ لِلْعَقْدِ ، وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْإِيجَابِ وَأُخْرَى قَبْلَ الْقَبُولِ ، فَمَا صَحَّحَهُ هُنَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ ، فَإِنَّ حَاصِلَ مَا فِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْبُطْلَانُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ الْكَلَامَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَالثَّانِي : وَنَقَلَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ : اسْتِحْبَابُهُ ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُبْطِلُ خَارِجٌ عَنْهُمَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يَبْطُلُ فَضْلًا عَنْ ضَعْفِ الْخِلَافِ ، وَمَتَى قِيلَ لَا يُسْتَحَبُّ اتَّجَهَ الْبُطْلَانُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ الْكَلَامَ الْأَجْنَبِيَّ ، وَذَكَرَ الْبُلْقِينِيُّ نَحْوَهُ ، وَفِي كَلَامِ السُّبْكِيّ إشَارَةٌ إلَيْهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْبُطْلَانُ عَلَى مَا إذَا طَالَ كَمَا قَالَ ( فَإِنْ طَالَ ) عُرْفَا ( الذِّكْرُ الْفَاصِلُ ) بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقَبُولِ ( لَمْ يَصِحَّ ) النِّكَاحُ جَزْمًا لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ ، لَكِنْ لَوْ عَبَّرَ بِالْمُعْتَمَدِ بَدَلَ الصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ الذِّكْرُ مُقَدِّمَةَ الْقَبُولِ وَجَبَ أَنْ لَا تَضُرَّ إطَالَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ .
وَأَجَابَ عَنْهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَبُولِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا هِيَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ لَا مَا زَادَ ، وَضَبَطَ الْقَفَّالُ الطُّولَ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ بِقَدْرِ لَوْ كَانَا سَاكِتَيْنِ فِيهِ لِخُرُوجِ الْجَوَابِ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا ا هـ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْبَطَ بِالْعُرْفِ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ الذِّكْرَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ كَلَامِ

أَجْنَبِيٌّ يُبْطِلُ وَلَوْ يَسِيرًا وَهُوَ الْأَصَحُّ هُنَا بِخِلَافِهِ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّهُمْ اغْتَفَرُوا فِيهِ الْيَسِيرَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْخُلْعِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى حَلِّ الْعِصْمَةِ ، وَيُغْتَفَرُ فِيهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي عَقْدِهَا .
قِيلَ : وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا صَدَرَ الْكَلَامُ مِنْ الْقَائِلِ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَوَابُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ ، وَاقْتَضَى إيرَادُهُ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْكَلِمَ وَالْكَلِمَةَ ، لَا الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ النُّحَاةِ .

تَتِمَّةٌ : يُسَنُّ لِلْوَلِيِّ عَرْضُ مُوَلِّيَتِهِ عَلَى ذَوِي الصَّلَاحِ كَمَا فَعَلَ شُعَيْبٌ بِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعُمَرُ بِعُثْمَانَ ثُمَّ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَنْوِيَ بِالنِّكَاحِ السُّنَّةَ وَالصِّيَانَةَ لِدِينِهِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَأَنْ يُدْعَى لِلزَّوْجَيْنِ بِالْبَرَكَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَبِالْجَمْعِ بِخَيْرٍ فَيُقَالُ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ الِالْتِئَامُ وَالِاتِّفَاقُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : رَفَأْتُ الثَّوْبَ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَأَنْ يُقَدِّمَ الْوَلِيُّ عَلَى الْعَقْدِ أُزَوِّجُكَ هَذِهِ أَوْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ ، وَلَوْ شَرَطَهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ لَمْ يُبْطِلْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالشَّرْعِ .
وَيُسَنُّ لِلزَّوْجِ أَوَّلَ مَا يَلْقَى زَوْجَتَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهَا وَيَقُولَ : بَارَكَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَّا فِي صَاحِبِهِ ، وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْجِمَاعِ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ، وَفِي الْإِحْيَاءِ : يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ ، وَالْأَخِيرَةِ مِنْهُ ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْهُ فَيُقَالُ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ الْجِمَاعَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي : وَيُقَالُ : إنَّهُ يُجَامِعُ .
قَالَ : وَإِذَا قَضَى وَطَرُهُ فَلْيُمْهِلْ عَلَيْهَا حَتَّى تَقْضِيَ وَطَرَهَا .
قَالَ : وَفِي الْوَطْءِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَجْرَانِ .
وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْجِمَاعَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَا يَحْرُمُ وَطْءُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ .

فَصْلٌ إنَّمَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِإِيجَابٍ ، وَهُوَ زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنْكَحْتُك ، وَقَبُولٌ : بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُ أَوْ نَكَحْتُ أَوْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا أَوْ تَزْوِيجَهَا ، وَيَصِحُّ تَقَدُّمُ لَفْظِ الزَّوْجِ عَلَى الْوَلِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوْ الْإِنْكَاحِ .

فَصْلٌ فِي أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا وَأَرْكَانُهُ خَمْسَةٌ : صِيغَةٌ ، وَزَوْجَةٌ ، وَشَاهِدَانِ ، وَزَوْجٌ ، وَوَلِيٌّ ، وَهُمَا الْعَاقِدَانِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ : ( إنَّمَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِإِيجَابٍ ، وَهُوَ ) قَوْلُ الْوَلِيِّ ( زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنْكَحْتُك ) ابْنَتِي مَثَلًا إلَخْ ( وَقَبُولٌ ) وَهُوَ ( بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُ ) هَا ( أَوْ نَكَحْتُ ) هَا إلَخْ ، وَحَذَفَ الْمُصَنِّفُ مَفْعُولُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ لِمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ( أَوْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ) وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَاحِ أَيْ قَبِلْتُ إنْكَاحَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ اللُّغَوِيِّينَ ، وَصَحَّ حِينَئِذٍ كَوْنَهُ قَبُولًا لِقَوْلِ الْوَلِيِّ أَنْكَحْتُكَ ( أَوْ ) قَبِلْتُ ( تَزْوِيجَهَا ) أَوْ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ التَّزْوِيجَ .
أَمَّا اعْتِبَارُ أَصْلِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَبِالِاتِّفَاقِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ .
وَأَمَّا هَذَا اللَّفْظُ فَلِمَا سَيَأْتِي ، وَرَضِيتُ نِكَاحَهَا كَقَبِلْتُ نِكَاحَهَا كَمَا حَكَاهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ عَنْ إجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ السُّبْكِيُّ ، وَمِثْلُهُ أَرَدْتُ أَوْ أَحْبَبْتُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَقَدْ يَدُلُّ لِقَوْلِ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلُ الْبُوَيْطِيِّ : وَمَتَى تَزَوَّجَ بِغَيْرِ اسْمِ التَّزْوِيجِ أَوْ الْإِنْكَاحِ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ : زَوَّجْتُكَ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُ ، أَوْ رَضِيتُ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ : قَبِلْتُ النِّكَاحَ أَوْ التَّزْوِيجَ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ : وَكَزَوَّجْتُك زَوَّجْتُ لَكَ أَوْ إلَيْكَ فَيَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الصِّيغَةِ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ .
ا هـ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ جَوَّزْتُكَ وَنَحْوُهُ ، أَوْ أَبْدَلَ الْكَافَ هَمْزَةً كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَلَوْ قَالَ قَبِلْتُ النِّكَاحَ أَوْ التَّزْوِيجَ ، أَوْ قَبِلْتُهَا فَعَنْ نَصِّ الْأُمِّ

الصِّحَّةُ فِي قَبِلْتُ النِّكَاحَ أَوْ التَّزْوِيجَ ، وَالْبُطْلَانُ فِي قَبِلْتُهَا ، وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : لَا يُشْتَرَطُ تَوَافُقُ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ فِي اللَّفْظِ ، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : زَوَّجْتُكَ فَقَالَ الزَّوْجُ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا صَحَّ ، وَبِهَذَا يَتِمُّ صَحَّ كَوْنُ أَوْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ : تَزَوَّجْتُ أَوْ نَكَحْتُ لَيْسَ قَبُولًا حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ إذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ الضَّمِيرُ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ .
أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى تَزَوَّجْتُ أَوْ نَكَحْتُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُهُ خِلَافَهُ وَتَقَدَّمَ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ فَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ الْقَبُولِ الْحَقِيقِيِّ ، وَهُوَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا أَوْ تَزْوِيجَهَا ، وَكَلَامُهُ يُفْهِمُ اشْتِرَاطَ التَّخَاطُبِ لَكِنْ قَالَا : لَوْ قَالَ الْمُتَوَسِّطُ لِلْوَلِيِّ : زَوَّجْتَ ابْنَتَكَ فُلَانًا فَقَالَ : زَوَّجْتُهَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ لِلزَّوْجِ : قَبِلْتَ نِكَاحَهَا فَقَالَ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُرْتَبِطَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَا أَوْ أَحَدُهُمَا نَعَمْ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ : زَوَّجْتُهَا لِفُلَانٍ ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى زَوَّجْتُهَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخِي ، وَهَذَا اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فَقَطْ .
وَأَمَّا الْمُسَمَّى فَلَا يَلْزَمُ إلَّا إذَا صَرَّحَ الزَّوْجُ بِهِ فِي لَفْظِهِ فَيَقُولُ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ وَنَحْوِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَهَذَا حِيلَةٌ فِيمَنْ لَمْ يُزَوِّجْهَا وَلِيُّهَا إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْقَبُولَ فِيهِ مُنَزَّلٌ عَلَى الْإِيجَابِ فَإِنَّ الثَّمَنَ رُكْنٌ فِيهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُهُ بِلَا صَدَاقٍ ، بَلْ مَعَ نَفْيِهِ ، وَلَا يَصِحُّ

النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْجُزْءِ مِنْ الْمَنْكُوحَةِ كَزَوَّجْتُكَ نِصْفَ ابْنَتِي ، قَالَهُ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَتْ : زَوَّجَكَ اللَّهُ بِنْتِي لَمْ يَصِحَّ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّهُ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كِنَايَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ مَا يَقْتَضِي صَرَاحَتَهَا .
وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ أَيْضًا إصْرَارُ الْعَاقِدِ وَبَقَاؤُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ حَتَّى يُوجَدَ الْقَبُولُ ، فَإِنْ أَوْجَبَ الْوَلِيُّ ثُمَّ رَجَعَ ، أَوْ جُنَّ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ رَجَعَتْ الْآذِنَةُ عَنْ إذْنِهَا ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا ، أَوْ جُنَّتْ ، أَوْ ارْتَدَّتْ امْتَنَعَ الْقَبُولُ وَكَوْنُ الْقَبُولِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ لَفْظِ الْإِيجَابِ أَيْ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَهْرِ كَمَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ .
قَالَ الْمُتَوَلِّي : وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الزَّوْجِ بِحِلِّ الْمَنْكُوحَةِ ، لَكِنْ فِي الْبَحْرِ : لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُمَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّ بَيْنَهُمَا أُخُوَّةً مِنْ رَضَاعٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ( وَيَصِحُّ تَقَدُّمُ لَفْظِ الزَّوْجِ عَلَى لَفْظِ الْوَلِيِّ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ فَيَقُولُ الزَّوْجُ : زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ ، أَوْ تَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ ، أَوْ أُنْكِحْتُهَا فَيَقُولُ الْوَلِيُّ : زَوَّجْتُكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ تَقَدُّمَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخُوَارِزْمِيُّ ، وَفِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ فِي التَّوْكِيلِ فِي النِّكَاحِ لَوْ قَالَ وَكِيلُ الزَّوْجِ أَوَّلًا : قَبِلْتُ نِكَاحَ فُلَانَةَ لِفُلَانٍ ، فَقَالَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ : زَوَّجْتُهَا فُلَانًا جَازَ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ السُّبْكِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ ( وَلَا يَصِحُّ ) عَقْدُ النِّكَاحِ ( إلَّا بِلَفْظِ ) مَا اُشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ ( التَّزْوِيجِ أَوْ الْإِنْكَاحِ ) دُونَ

لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } .
قَالُوا : وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ التَّزْوِيجُ أَوْ الْإِنْكَاحُ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزَعُ إلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيْ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ ، وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ امْرَأَةً ، فَقَالَ : مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } فَقِيلَ : وَهْمٌ مِنْ الرَّاوِي ، أَوْ إنَّ الرَّاوِيَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ظَنًّا مِنْهُ تَرَادُفَهُمَا ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مُعَارَضٌ بِرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ : زَوَّجْتُكَهَا .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَالْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ الْوَاحِدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْعٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ ، وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ قَوْله تَعَالَى : { خَالِصَةً لَكَ } [ الْأَحْزَابِ ] جَعَلَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظِ إلَخْ لَيْسَ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ : إنَّمَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِإِيجَابٍ إلَخْ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي اشْتِرَاطِ الصِّيغَةِ ، وَهُنَا فِي تَعْيِينِهَا .

وَيَصِحُّ بِالْعَجَمِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ ، لَا بِكِنَايَةٍ قَطْعًا ، وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ فَقَالَ قَبِلْتُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ .

( وَيَصِحُّ ) عَقْدُ النِّكَاحِ ( بِالْعَجَمِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ ) وَهِيَ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَإِنْ أَحْسَنَ قَائِلُهَا الْعَرَبِيَّةَ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إعْجَازٌ فَاكْتُفِيَ بِتَرْجَمَتِهِ ، وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ .
وَالثَّالِثُ : إنْ عَجَزَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا فَهِمَ كُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ كَلَامَ نَفْسِهِ وَكَلَامَ الْآخَرِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ اللُّغَاتُ أَمْ اخْتَلَفَتْ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا ، فَإِنْ فَهِمَهَا ثِقَةٌ دُونَهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا بِمَعْنَاهَا فَوَجْهَانِ ، رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ مِنْهُمَا الْمَنْعَ كَمَا فِي الْعَجَمِيِّ الَّذِي ذَكَرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ وَأَرَادَ مَعْنَاهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ .
قَالَ : وَصُورَتُهُ أَنْ لَا يَعْرِفَهَا إلَّا بَعْدَ إتْيَانِهِ بِهَا ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ بِمَعْنَاهُ قَبْلُ صَحَّ إنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ ( لَا بِكِنَايَةٍ ) كَأَحْلَلْتُكَ ابْنَتِي لَا يَصِحُّ بِهَا النِّكَاحُ ، إذْ لَا اطِّلَاعَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ ، وَقَوْلُهُ : ( قَطْعًا ) مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهِيَ زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ : فَاعْتَرَضَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ فِي الْمَطْلَبِ حِكَايَةَ خِلَافٍ فِيهِ ، وَالْمُرَادُ الْكِنَايَةُ بِالصِّيغَةِ .
أَمَّا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي فَقَبِلَ وَنَوَيَا مُعَيَّنَةً صَحَّ النِّكَاحُ كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّ الشُّهُودَ لَا اطِّلَاعَ لَهُمْ عَلَى النِّيَّةِ ، فَالْكِنَايَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ ؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ ، فَلَوْ قَالَ لِغَائِبٍ : زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي ، أَوْ قَالَ : زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلَانٍ ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَيْ الْخَبَرُ فَقَالَ : قَبِلْتُ لَمْ يَصِحَّ ، وَيَنْعَقِدُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ الَّتِي لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَطِنُونَ .
أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهَا الْفَطِنُونَ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا ؛

لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ ، وَفِي الْمَجْمُوعِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْأَخْرَسِ بِالْكِتَابَةِ بِلَا خِلَافٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْكِتَابَةُ كِنَايَةٌ هُنَا كَمَا مَرَّ ، وَفِي الطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ عِنْدَهُ بِلَا خِلَافٍ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْكِتَابَةَ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ لَا فِي تَزْوِيجِهِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَاتِبًا تَكُونُ الْوِلَايَةُ لَهُ ، فَيُوَكِّلُ مَنْ يُزَوِّجُهُ أَوْ يُزَوِّجُ مُوَلِّيَتَهُ ، وَالسَّائِلُ نَظَرَ إلَى مَنْ يُزَوِّجُهُ لَا إلَى وِلَايَتِهِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ بِهَا ( وَلَوْ قَالَ ) الْوَلِيُّ ( زَوَّجْتُكَ ) إلَخْ ( فَقَالَ ) الزَّوْجُ : ( قَبِلْتُ ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ( لَمْ يَنْعَقِدْ ) هَذَا النِّكَاحُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْرِيحُ بِوَاحِدٍ مِنْ لَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَنِيَّتُهُ لَا تُفِيدُ ، وَفِي قَوْلٍ يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا أَوْجَبَهُ الْوَلِيُّ فَإِنَّهُ كَالْمُعَادِ لَفْظًا كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْبَيْعِ ، وَفَارَقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْقَبُولَ وَإِنْ انْصَرَفَ إلَى مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَاتِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَقِيلَ : بِالْمَنْعِ قَطْعًا ، وَقِيلَ : بِالصِّحَّةِ قَطْعًا

وَلَوْ قَالَ : زَوِّجْنِي فَقَالَ زَوَّجْتُكَ أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ تَزَوَّجْهَا فَقَالَ تَزَوَّجْتُ صَحَّ .
( وَلَوْ قَالَ ) الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ ( زَوِّجْنِي ) بِنْتَك إلَخْ ( فَقَالَ ) الْوَلِيُّ لَهُ ( زَوَّجْتُكَ ) إلَخْ ( أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ ) لِلْخَاطِبِ ( تَزَوَّجْهَا ) أَيْ بِنْتِي إلَخْ ( فَقَالَ ) الْخَاطِبُ ( تَزَوَّجْتُ ) إلَخْ ( صَحَّ ) النِّكَاحُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُودِ الِاسْتِدْعَاءِ الْجَازِمِ ، وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي خَطَبَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : زَوِّجْنِيهَا ، فَقَالَ : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : قَبِلْتُ نِكَاحَهَا ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ الْخَاطِبُ : زَوَّجْتنِي ابْنَتَكَ أَوْ تُزَوِّجْنِيهَا أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : أَتَتَزَوَّجُ ابْنَتِي فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَيْعِ .

فَرْعٌ : لَوْ قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ : زَوَّجْتُ نَفْسِي ابْنَتَك وَقَبِلَ الْوَلِيُّ ، فَفِي انْعِقَادِهِ بِهَذَا خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُمَا شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَالْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ الْمَهْرُ لَا نَفْسُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي نِكَاحِ غَيْرِهَا مَعَهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ فَعَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ زَوَّجْتُ إنَّمَا يَلِيقُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالزَّوْجِ .

وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ ، وَلَوْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَقَالَ إنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا ، أَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ بِنْتِي طَلُقَتْ وَاعْتَدَّتْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ .

( وَ ) يُشْتَرَطُ كَوْنُ النِّكَاحِ مُنْجَزًا ، وَحِينَئِذٍ ( لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ ) كَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنْ بَاقِي الْمُعَاوَضَاتِ ، بَلْ أَوْلَى لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - صَحَّ كَمَا مَرَّ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ ( وَلَوْ بُشِّرَ ) شَخْصٌ ( بِوَلَدٍ فَقَالَ ) لِآخَرَ ( إنْ كَانَتْ أُنْثَى فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا ) إلَخْ فَقَبِلَ ( أَوْ قَالَ ) لَهُ ( إنْ كَانَتْ بِنْتِي طَلَقَتْ ) أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا ، وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ : ( وَاعْتَدَّتْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا ) وَكَانَتْ أَذِنَتْ لِأَبِيهَا فِي تَزْوِيجِهَا ، أَوْ قَالَ : إنْ وَرِثْتُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا ( فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ ) أَيْ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لِوُجُودِ صُورَةِ التَّعْلِيقِ وَفَسَادِ الصِّيغَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ مِنْ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِي الْبِكْرِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ وَاعْتَدَّتْ .
.
أُجِيبَ بِتَصَوُّرِهِ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ فِي الدُّبُرِ أَوْ اسْتَدْخَلَتْ مَاءَهُ ، وَفِي الْمَجْنُونَةِ أَوْ فِي الْعَاقِلَةِ إذَا أَذِنَتْ لَهُ إنْ طَلَقَتْ وَاعْتَدَّتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا كَمَا أَشَارَ إلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِذْنِ الْبَغَوِيِّ فِي فَتَاوِيهِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ وَأَقَرَّاهُ ، وَكَلَامُ الرَّوْضَةِ هُنَا يُفْهِمُهُ فَمَا لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ : أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِهَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ خِلَافُهُ ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ : وَاعْتَدَّتْ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لَصَحَّ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ فِي بِكْرٍ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : بُشِّرَ بِوَلَدٍ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ أُنْثَى إلَخْ عَمَّا لَوْ أُخْبِرَ بِحُدُوثِ بِنْتٍ لَهُ أَوْ

بِمَوْتِ إحْدَى نِسَاءِ زَيْدٍ مَثَلًا فَصَدَقَ الْمُخْبِرُ ثُمَّ قَالَ لِزَيْدٍ فِي الثَّانِيَةِ وَلِغَيْرِهِ فِي الْأُولَى : إنْ صَدَقَ الْمُخْبِرُ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ ، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ كَقَوْلِهِ : إنْ كُنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَتَكُونُ إنْ بِمَعْنَى إذْ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آلُ عِمْرَانَ ] كَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ ، ثُمَّ قَالَا : وَيَجِبُ فَرْضُهُ فِيمَا إذَا تُيُقِّنَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَإِلَّا فَلَفْظُ إنْ لِلتَّعْلِيقِ ، وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ السُّبْكِيُّ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَحَلُّ كَوْنِ التَّعْلِيقِ مَانِعًا إذَا كَانَ لَيْسَ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ وَإِلَّا فَيَنْعَقِدُ ، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي إنْ كَانَتْ حَيَّةً ، وَالصُّورَةُ أَنَّهَا كَانَتْ غَائِبَةً وَتَحَدَّثَ بِمَرَضِهَا أَوْ ذَكَرَ مَوْتَهَا أَوْ قَتْلَهَا وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَبَسَطَ ذَلِكَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ تَعْلِيقًا .

وَلَا تَوْقِيتُهُ .

( وَ ) يُشْتَرَطُ كَوْنُ النِّكَاحِ مُطْلَقًا ، وَحِينَئِذٍ ( لَا ) يَصِحُّ ( تَوْقِيتُهُ ) بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، كَشَهْرٍ ، أَوْ مَجْهُولَةٍ كَقُدُومِ زَيْدٍ ، وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَكَانَ جَائِزًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لِلْمُضْطَرِّ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ ، ثُمَّ حُرِّمَ عَامَ خَيْبَرَ ، ثُمَّ رُخِّصَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ ، وَقِيلَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، ثُمَّ حُرِّمَ أَبَدًا ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا حُرِّمَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ حُرِّمَ إلَّا الْمُتْعَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ : إنَّ الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ أَيْضًا ، وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَيْضًا حُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَذْهَبُ إلَى جَوَازِهَا ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهَا وَيَرُدُّ تَجْوِيزَهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُنْتُ قَدْ أَذِنْتُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَذِهِ النِّسْوَةِ ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا .
} تَنْبِيهٌ : اسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ بُطْلَانِ النِّكَاحِ مَا إذَا نَكَحَهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ أَوْ مُدَّةَ عُمْرِهَا .
قَالَ : فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمُطْلَقَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ لَا يَضُرُّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ .
قَالَ : وَفِي نَصِّ الْأُمِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ ، فَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا حَيَاتَكَ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ إذَا أَقَّتَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَبْقَى إلَيْهَا الدُّنْيَا غَالِبًا كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِصِيَغِ

الْعُقُودِ لَا بِمَعَانِيهَا .

وَلَا نِكَاحُ الشِّغَارِ وَهُوَ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى فَيَقْبَلُ ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ الْبُضْعَ صَدَاقًا فَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ ، وَلَوْ سَمَّيَا مَالًا مَعَ جَعْلِ الْبُضْعِ صَدَاقًا بَطَلَ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَا ) يَصِحُّ ( نِكَاحُ الشِّغَارِ ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( وَهُوَ ) بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِالْمُعْجَمَتَيْنِ ، نَحْوُ قَوْلِ الْوَلِيِّ لِلْخَاطِبِ ( زَوَّجْتُكَهَا ) أَيْ بِنْتِي مَثَلًا ( عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ ) مِنْهُمَا ( صَدَاقُ الْأُخْرَى فَيُقْبَلُ ) ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ وَزَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى مَا ذَكَرْتُ ، وَتَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ آخِرِ الْخَبَرِ الْمُحْتَمِلِ لَأَنْ يَكُونَ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ الرَّاوِي ، أَوْ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي عَنْهُ فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ ، وَالْمَعْنَى فِي الْبُطْلَانِ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ حَيْثُ جَعَلَ مَوْرِدَ النِّكَاحِ امْرَأَةً وَصَدَاقًا لِأُخْرَى فَأَشْبَهَ تَزْوِيجَ وَاحِدَةٍ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَقِيلَ : التَّعْلِيقُ وَقِيلَ : الْخُلُوُّ مِنْ الْمَهْرِ ، وَعَوَّلَ الْإِمَامُ عَلَى الْخَبَرِ ، وَضَعَّفَ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا وَهُوَ أَسْلَمُ .
وَسُمِّيَ شِغَارًا ، إمَّا مِنْ قَوْلِهِمْ : شَغَرَ الْبَلَدُ عَنْ السُّلْطَانِ إذَا خَلَا عَنْهُ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْمَهْرِ ، وَقِيلَ : لِخُلُوِّهِ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِطِ ، وَإِمَّا مِنْ قَوْلِهِمْ : شَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِيَبُولَ ؛ إذْ أَصْلُ الشِّغَارِ فِي اللُّغَةِ الرَّفْعُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخِرِ : لَا تَرْفَعْ رِجْلَ ابْنَتِي حَتَّى أَرْفَعَ رِجْلَ ابْنَتِكَ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ اسْتِيجَابٌ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ : وَزَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَإِلَّا لَوَجَبَ الْقَبُولُ بَعْدُ ( فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ الْبُضْعَ صَدَاقًا ) بِأَنْ سَكَتَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ فَقَبِلَ ( فَالْأَصَحُّ ) فِي الْعَقْدَيْنِ ( الصِّحَّةُ ) لِعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ

النِّكَاحَ ، وَلَكِنْ يُفْسِدُ الْمُسَمَّى ، وَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك وَبُضْعُ ابْنَتِك صَدَاقٌ لِابْنَتِي صَحَّ الْأَوَّلُ وَبَطَلَ الثَّانِي ؛ لِجَعْلِ بُضْعِ بِنْتِ الثَّانِي صَدَاقًا لِبِنْتِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ قَالَ : بُضْعُ ابْنَتِي صَدَاقٌ لِابْنَتِكَ بَطَلَ الْأَوَّلُ وَصَحَّ الثَّانِي لِمَا عُرِفَ ، وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْمَذْهَبُ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ ( وَلَوْ سَمَّيَا مَالًا مَعَ جَعْلِ الْبُضْعِ صَدَاقًا ) كَقَوْلِهِ : وَبُضْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَلْفٌ صَدَاقُ الْأُخْرَى ( بَطَلَ ) عَقْدُ كُلٍّ مِنْهُمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِوُجُودِ التَّشْرِيكِ الْمَوْجُودِ ، وَالثَّانِي : صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَفْسِيرِ صُورَةِ الشِّغَارِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْمَهْرِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : سَمَّيَا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ لَوْ سَمَّى أَحَدُهُمَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَمِنْ صُوَرِ الشِّغَارِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ لِابْنِ دَاوُد أَنْ يَقُولَ : زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ ابْنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى ، وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا مَا لَوْ قَالَ : زَوِّجْنِي ابْنَتَك عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك أَمَتِي ، وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنَّ بُضْعَكَ صَدَاقٌ لَهَا صَحَّ النِّكَاحُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ تَبَعًا لِشَيْخِنَا لِعَدَمِ التَّشْرِيكِ ، لَكِنْ يَفْسُدُ الصَّدَاقُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ سَمَّى خَمْرًا ، وَيَفْسُدُ الْمُسَمَّى دُونَ النِّكَاحِ أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِمَنْفَعَةِ أَمَتِكَ لِلْجَهْلِ بِالْمُسَمَّى .

فُرُوعٌ : لَوْ قَالَ لِمَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ : زَوَّجْتُكَ جَارِيَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك بِصَدَاقٍ لَهَا هُوَ رَقَبَةُ الْجَارِيَةِ فَزَوَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ النِّكَاحَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَشْرِيكَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّعْوِيضِ فِي الْأُولَى وَفَسَادِ الْمُسَمَّى فِي الثَّانِيَةِ ؛ إذْ لَوْ صَحَّ الْمُسَمَّى فِيهَا لَزِمَ صِحَّةُ نِكَاحِ الْأَبِ جَارِيَةَ بِنْتِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ .

، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ زَيْدٌ مَثَلًا ابْنَتَهُ وَصَدَاقُ الْبِنْتِ بُضْعُ الْمُطَلَّقَةِ فَزَوَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ التَّزْوِيجُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْمُسَمَّى ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ زَيْدٌ عَبْدَهُ وَيَكُونُ طَلَاقُهَا عِوَضًا مِنْ عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَلُقَتْ وَنَفَذَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ كَجٍّ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى السَّيِّدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَالسَّيِّدُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ .

وَالرُّكْنُ الثَّانِي : الزَّوْجَةُ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا خُلُوُّهَا مِنْ الْمَوَانِعِ الْآتِي بَيَانُهَا فِي بَابِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَزَوَّجْتُك إحْدَى بَنَاتِي أَوْ زَوَّجْتُ بِنْتِي مَثَلًا أَحَدَكُمَا بَاطِلٌ ، وَلَوْ مَعَ الْإِشَارَةِ كَالْبَيْعِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرُّؤْيَةُ ، وَإِنْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ بِعْتُكَ دَارِي ، وَكَانَ رَأَى دَارِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا صَحَّ كُلٌّ مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْبَيْعِ ، وَلَوْ سَمَّى الْبِنْتَ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْ غَلِطَ فِي حُدُودِ الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ ، أَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكِ هَذَا الْغُلَامَ ، وَأَشَارَ إلَى الْبِنْتِ الَّتِي يُرِيدُ تَزْوِيجَهَا صَحَّ كُلٌّ مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْبَيْعِ .
أَمَّا فِيمَا لَا إشَارَةَ فِيهِ فَلِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْبِنْتِيَّةِ وَالدَّارِيَّةِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ مُمَيَّزَةٌ ، فَاعْتُبِرَتْ وَلَغَا الِاسْمُ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهَا وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا .
وَأَمَّا فِيمَا فِيهِ إشَارَةٌ فَتَعْوِيلًا عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ بِنْتِهِ الْوَاحِدَةِ فَاطِمَةَ ، فَقَالَ : زَوَّجْتُكَ فَاطِمَةَ ، وَلَمْ يَقُلْ بِنْتِي لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لِكَثْرَةِ الْفَوَاطِمِ ، لَكِنْ لَوْ نَوَاهَا صَحَّ عَمَلًا بِمَا نَوَاهُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، فَإِنْ قِيلَ : يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ الْإِشْهَادُ وَالشُّهُودُ لَا اطِّلَاعَ لَهُمْ عَلَى النِّيَّةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُغْتَفَرَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ عَلَى أَنَّ الْخُوَارِزْمِيَّ اعْتَبَرَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا عِلْمَ الشُّهُودِ بِالْمَنْوِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ لَا سُؤَالَ ، وَلَوْ قَالَ ، وَلَهُ ابْنَتَانِ كُبْرَى وَصُغْرَى : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الْكُبْرَى وَسَمَّاهَا بِاسْمِ الصُّغْرَى صَحَّ فِي الْكُبْرَى اعْتِمَادًا عَلَى الْوَصْفِ ، وَلَوْ ذَكَرَ الْوَلِيُّ لِلزَّوْجِ اسْمَ وَاحِدَةٍ مِنْ بِنْتَيْهِ وَقَصْدُهُمَا الْأُخْرَى صَحَّ فِيمَا قَصَدَاهَا وَلَغَتْ التَّسْمِيَةُ ، وَفِيهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الْمُتَقَدِّمَانِ .
فَإِنْ اخْتَلَفَ

قَصْدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ الْوَلِيُّ ، وَلَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ الطَّوِيلَةَ ، وَكَانَتْ الطَّوِيلَةُ الْكَبِيرَةَ فَالتَّزْوِيجُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ كِلَا الْوَصْفَيْنِ لَازِمٌ ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا فِي تَمْيِيزِ الْمَنْكُوحَةِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْآخَرِ فَصَارَتْ مُبْهَمَةً قَالَهُ فِي الْبَحْرِ ، وَلَوْ خَطَبَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ امْرَأَةً وَعَقَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى خُطُوبَةِ الْآخَرِ وَلَوْ غَلَطًا صَحَّ النِّكَاحَانِ لِقَبُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَهُ الْوَلِيُّ .

وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَشَرْطُهُمَا حُرِّيَّةٌ ، وَذُكُورَةٌ وَعَدَالَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ ، وَفِي الْأَعْمَى وَجْهٌ وَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ بِابْنَيْ الزَّوْجَيْنِ وَعَدُوَّيْهِمَا ، وَيَنْعَقِدُ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، لَا مَسْتُورِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَلَوْ بَانَ فِسْقُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَبَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنَّمَا يَبِينُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ كُنَّا فَاسِقَيْنِ ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَإِلَّا فَكُلُّهُ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ ، فَقَالَ : ( وَلَا يَصِحُّ ) النِّكَاحُ ( إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ) لِخَبَرِ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ تَشَاحُّوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } .
قَالَ : وَلَا يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُهُ ، وَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِهِمَا الِاحْتِيَاطُ لِلْأَبْضَاعِ وَصِيَانَةُ الْأَنْكِحَةِ عَنْ الْجُحُودِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا عَبَّرَ بِالْحُضُورِ لِيُفْهَمَ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ حُضُورِهِمَا قَصْدًا أَوْ اتِّفَاقًا أَوْ حَضَرَا وَسَمِعَا الْعَقْدَ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا الصَّدَاقَ ، وَيُسَنُّ إحْضَارُ جَمْعٍ زِيَادَةً عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : ذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ أَنَّ حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطٌ ، لَكِنْ تَسَاهَلَ فِي تَسْمِيَتِهِ رُكْنًا ، وَبِالْجُمْلَةِ حُضُورُهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَنْكِحَةِ ، وَلِذَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِحُضُورِ ( وَشَرْطُهُمَا حُرِّيَّةٌ ) فَلَا يَنْعَقِدُ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ ؛ لِأَنَّ مَنْ فِيهِ رِقٌّ لَيْسَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ، وَلَوْ عُقِدَ بِحَضْرَةِ مَنْ أَعْتَقَهُ شَخْصٌ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا ؟ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ : وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعِتْقِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ .
ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ ، وَهُوَ الصِّحَّةُ إنْ لَمْ يُبْطِلْ ، وَعَدَمُهَا إنْ بَطَلَ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي إنْ كَانَ الشَّاهِدُ خُنْثَى ثُمَّ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ ذَكَرًا أَنَّهُ يَكْفِي ( وَذُكُورَةٌ ) فَلَا يَنْعَقِدُ بِالنِّسَاءِ وَلَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ بِخُنْثَيَيْنِ وَلَوْ بَانَا رَجُلَيْنِ ، لَكِنَّهُ صَحَّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ الصِّحَّةَ ، فَإِنْ قِيلَ : لَوْ عَقَدَ عَلَى مُشْكِلٍ أَوَّلَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ أُنْثَى فِي

الْأَوَّلِ أَوْ ذَكَرًا فِي الثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ مِنْ الشُّرُوطِ كَمَا مَرَّ عَنْ الْبَسِيطِ ، وَالشَّرْطُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تَحَقُّقُهُ ، بِخِلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ ، وَالرُّكْنُ يُعْتَبَرُ تَحَقُّقُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى رِضَا الْمَرْأَةِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا لَا يُشْتَرَطُ ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ رِضَاهَا لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا شُرِطَ فِيهِ ، وَإِذَا وُجِدَ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ كَفَى ، وَأَيْضًا الْخُنْثَى أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا بَانَ رَجُلًا اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ عَلَى الْخُنْثَى فَإِنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِ فِي حَالَةٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَاسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ عَنْ ذِكْرِ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ فِي الشَّاهِدِ بِقَوْلِهِ : ( وَعَدَالَةٌ ) وَلَوْ ظَاهِرَةً ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِفَاسِقَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا ( وَسَمْعٌ ) وَلَوْ بِرَفْعِ الصَّوْتِ ؛ إذْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَوْلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِهِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِأَصَمَّ ، وَفِيهِ وَجْهٌ ( وَبَصَرٌ ) لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ ( وَفِي الْأَعْمَى وَجْهٌ ) بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحَضْرَتِهِ ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إلَى النَّصِّ أَنْ يُعَبِّرَ بِقَوْلِ : وَبَقِيَ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ، وَهِيَ كَوْنُهُ نَاطِقًا رَشِيدًا ضَابِطًا ، وَلَوْ مَعَ النِّسْيَانِ عَنْ قُرْبٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ لِلْوِلَايَةِ كَأَبٍ وَأَخٍ مُنْفَرِدٍ وُكِّلَ وَحَضَرَ مَعَ آخَرَ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِشَاهِدَيْنِ

مَقْبُولَيْ شَهَادَةِ نِكَاحٍ كَانَ أَخْصَرَ وَأَعَمَّ ( وَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ ) أَيْ النِّكَاحِ ( بِابْنَيْ الزَّوْجَيْنِ ) أَيْ ابْنَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ ابْنِ أَحَدِهِمَا وَابْنِ الْآخَرِ ( وَعَدُوَّيْهِمَا ) أَيْ وَعَدُوَّيْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَدُوِّ أَحَدِهِمَا وَعَدُوِّ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَيَنْعَقِدُ بِهِمَا النِّكَاحُ فِي الْجُمْلَةِ .
وَالثَّانِي : لَا لِتَعَذُّرِ ثُبُوتِ هَذَا النِّكَاحِ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالِانْعِقَادِ فِي الْعَدَاوَةِ لِإِمْكَانِ زَوَالِهَا .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ ابْنَيْهِ مَعَ ابْنَيْهَا وَعَدُوَّيْهِ مَعَ عَدُوَّيْهَا بِلَا خِلَافٍ وَالْجَدُّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا كَالِابْنِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يَكُونُ الْأَبُ شَاهِدًا لِاخْتِلَافِ دَيْنٍ أَوْ رِقٍّ كَأَنْ تَكُونَ بِنْتُهُ رَقِيقَةً فَيُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا وَحَضَرَ ، وَهُوَ بِصِفَةِ الشُّهُودِ أَوْ كَافِرَةً فَزَوَّجَهَا أَخُوهَا مَثَلًا الْكَافِرُ وَحَضَرَهُ الْأَبُ ، وَيَنْعَقِدُ بِالْحَوَاشِي كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَهُمْ ، فَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مَثَلًا وَالْعَاقِدُ غَيْرُهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ لَا إنْ عَقَدَ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَهُ جَازَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ غَيْرُهُمَا بِوَكَالَةٍ مِمَّنْ ذُكِرَ لِمَا مَرَّ ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ : وَعَدُوَّيْهِمَا بِمَعْنَى أَوْ ، وَلِهَذَا حَكَى الرَّافِعِيُّ الْخِلَافَ فِي الْعَدُوَّيْنِ .
ثُمَّ قَالَ : وَيَجْرِي فِي الِابْنَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ انْعَقَدَ قَطْعًا عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ( وَيَنْعَقِدُ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ ) وَهُمَا الْمَعْرُوفَانِ بِهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِأَنْ عُرِفَتْ بِالْمُخَالَطَةِ دُونَ التَّزْكِيَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَجْرِي بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِّ ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ لَاحْتَاجُوا إلَى مَعْرِفَتِهَا لِيُحْضِرُوا مَنْ

هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا فَيَطُولُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَشُقُّ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ فِي انْعِقَادِهِ النِّكَاحَ بِالْمَسْتُورَيْنِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْقِدَ بِهِمَا الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي : فَإِنَّهُ صَحَّحَ أَنَّ الْحَاكِمَ كَغَيْرِهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُعَامَلَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا رَأَى مَالًا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِلَا مُنَازِعٍ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ الْيَدِ كَمَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْتَمِدَ ظَاهِرَ الْيَدِ ، وَلَا يُقَالُ : الْحَاكِمُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ طَلَبُ الْحُجَّةِ وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ وَالْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِهِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَنْعَقِدُ بِالْمَسْتُورَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ ، وَيُعْلَمُ مِنْ حُكْمِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ بِالْبُطْلَانِ فِيمَا إذَا بَانَ فِسْقُهُمَا عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْمَسْتُورِ إنَّمَا هِيَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَلَا يَنْعَقِدُ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا بِعَدْلَيْنِ بَاطِنًا ، وَيَبْطُلُ السِّتْرُ بِتَفْسِيقِ عَدْلٍ فِي الرِّوَايَةِ ، فَلَوْ أَخْبَرَ بِفِسْقِ الْمَسْتُورِ عَدْلٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ النِّكَاحُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْإِمَامِ ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ : الْأَشْبَهُ الصِّحَّةُ فَإِنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَمْ يُوجَدَا مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ إثْبَاتَ الْجُرْحِ بَلْ زَوَالُ ظَنِّ الْعَدَالَةِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِخَبَرِ الْعَدْلِ ، وَلَوْ تَحَاكَمَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ أَقَرَّا بِنِكَاحٍ عُقِدَ بِمَسْتُورَيْنِ فِي نَفَقَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَلِمَ الْحَاكِمُ بِفِسْقِ شُهُودِ الْعَقْدِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمَا ، كَذَا قَالَاهُ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا

بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ ، سَوَاءٌ أَتَرَافَعَا إلَيْهِ أَمْ لَا ، وَإِنْ عَلِمَ بِكَوْنِهِمَا مَسْتُورَيْنِ حَكَمَ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا يَعْقِدُ بِهِمَا أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِمَا هُنَا تَابِعٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ كَمَا يَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا تَبَعًا لِثُبُوتِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ ، وَلَا يَقْبَلُ الْمَسْتُورَيْنِ فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ وَلَا فَسَادِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَعْلَمَ بَاطِنَهُمَا ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفِ فِي نُكَتِهِ عَلَى هَذَا ، وَكَلَامُ الْمُتَوَلِّي وَإِطْلَاقُ الْمَتْنِ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ فَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَهَذَا أَوْلَى ( لَا مَسْتُورِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ ) بِأَنْ لَمْ يُعْرَفْ إسْلَامُهُ وَلَا حُرِّيَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْتَلِطُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفَّارِ وَالْأَحْرَارُ بِالْأَرِقَّاءِ وَلَا غَالِبَ ، أَوْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ بِالدَّارِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِهِ بِهِمَا بَاطِنًا لِسُهُولَةِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ بَيْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ وُجُودَ الْأَهْلِيَّةِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَمْ لَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا فَإِنَّهُ صَحَّحَ فِي الْخُنْثَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ ذُكُورَتُهُ الصِّحَّةُ كَمَا مَرَّ ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْخُنُوثَةَ لَا تَخْفَى غَالِبًا ، وَكَمَسْتُورِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ مَسْتُورُ الْبُلُوغِ كَمَا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ ، إذْ الْأَصْلُ الصِّبَا ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا عِنْدَ الْعَقْدِ صَحَّ عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ ( وَلَوْ بَانَ فِسْقُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَبَاطِلٌ ) أَيْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِفَوَاتِ الْعَدَالَةِ كَمَا لَوْ بَانَا كَافِرَيْنِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَاقِدِ إذْ ذَاكَ حَاكِمًا أَوْ لَا ، وَسَيُعِيدُ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي

كِتَابِ الشَّهَادَاتِ حَيْثُ يَقُولُ فِيهِ : وَمَتَى حُكِمَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا كَافِرَيْنِ إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَا فَاسِقَانِ فِي الْأَظْهَرِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا هَذَا ، وَالثَّانِي الِاكْتِفَاءُ بِالسَّتْرِ يَوْمَئِذٍ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : عِنْدَ الْعَقْدِ عَمَّا لَوْ تَبَيَّنَ الْفِسْقُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَعْلَمْ قِدَمَهُ وَلَا حُدُوثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِبُطْلَانِهِ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ : لَكِنْ لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِ هَذَا النِّكَاحِ إلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا .
قَالَ : وَكَذَا فِيمَا لَوْ تَبَيَّنَ فِسْقَهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَعَمَّا إذَا تَبَيَّنَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَقْيِيدُهُ بِزَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ الْمُعْتَبَرُ ( وَإِنَّمَا يَبِينُ ) فِسْقُ الشَّاهِدِ ( بِبَيِّنَةٍ ) تَقُومُ بِهِ حِسْبَةً أَوْ غَيْرَهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِلْمُ الْقَاضِي بِفِسْقِهِ كَالْبَيِّنَةِ كَمَا فِي الْبَيَانِ وَالتَّجْرِيدِ لَكِنَّهُمَا صَوَّرَاهُ بِالتَّرَافُعِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا نِكَاحٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ مَا لَمْ يَتَرَافَعَا إلَيْهِ فِيهِ كَسَائِرِ الْخِلَافِيَّاتِ .
قُلْت : يُحْتَمَلُ هَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعَا .
ا هـ .
وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ الْمُوَافِقُ لِمَا قُيِّدَ بِهِ الْأَوَّلَانِ ( أَوْ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ ) عَلَى فِسْقِهِ ، سَوَاءٌ أَقَالَا لَمْ نَعْلَمْهُ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ ، أَمْ عَلِمْنَاهُ ثُمَّ نَسِينَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَمْ عَلِمْنَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ بِعَدْلَيْنِ وَحُكِمَ عَلَيْهِمَا بِالصِّحَّةِ بِإِقْرَارِهِمَا ثُمَّ ادَّعَيَا أَنَّهُ عُقِدَ بِفَاسِقَيْنِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِهِمَا ثَانِيًا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ ظَاهِرٌ

بِالنِّسْبَةِ إلَى حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى تَقْرِيرِ النِّكَاحِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ تَبَيُّنِ الْبُطْلَانِ بِاعْتِرَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي حَقِّهِمَا ، أَمَّا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَوَافَقَا عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ بِهَذَا السَّبَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَاهُ بِلَا مُحَلِّلٍ كَمَا فِي الْكَافِي لِلْخُوَارِزْمِيِّ لِلتُّهْمَةِ ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَسْقُطُ بِقَوْلِهِمَا .
قَالَ : وَلَوْ أَقَامَا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُمَا وَلَا بَيِّنَتَهُمَا ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْقَاضِي ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْحِسْبَةِ تُقْبَلُ ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ مَحَلَّ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْحِسْبَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، كَأَنْ طَلَّقَ شَخْصٌ زَوْجَتَهُ وَهُوَ يُعَاشِرُهَا أَوْ أَعْتَقَ رَقِيقَهُ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، أَمَّا إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهَا حَاجَةٌ فَلَا تُسْمَعُ ، وَهُنَا كَذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخِي ، وَهُوَ حَسَنٌ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَمَحَلُّ عَدَمِ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إذَا أَرَادَ نِكَاحًا جَدِيدًا ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ التَّخَلُّصَ مِنْ الْمَهْرِ ، كَأَنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ أَرَادَتْ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَهْرَ الْمِثْلِ : أَيْ وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَيَنْبَغِي قَبُولُهَا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِمْ : يُقْبَلُ اعْتِرَافُهُمَا فِي حَقِّهِمَا .
ا هـ .
وَإِذَا سُمِعَتْ الْبَيِّنَةُ حِينَئِذٍ تَبَيَّنَ بِهَا بُطْلَانُ النِّكَاحِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حِيلَةً فِي دَفْعِ الْمُحَلِّلِ ( وَلَا أَثَرَ ) بِالنِّسْبَةِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ( لِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ كُنَّا ) عِنْدَ الْعَقْدِ ( فَاسِقَيْنِ ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لَهُمَا ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ تَفْرِيقِ الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا لَوْ حَضَرَا عَقْدَ أُخْتِهِمَا وَنَحْوِهَا ثُمَّ قَالَا ذَلِكَ وَمَاتَتْ وَهُمَا وَارِثَاهَا ، فَإِنَّ قَوْلَهُمَا

يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَفِي فَسَادِ الْمُسَمَّى بَعْدَهُ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَلَوْ اعْتَرَفَ بِهِ ) أَيْ بِفِسْقِ الشَّاهِدَيْنِ ( الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْ ) ذَلِكَ الزَّوْجَةُ ( فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ) مُؤَاخَذَةً لَهُ بِقَوْلِهِ ، وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ عَلَى الصَّحِيحِ ، فَلَا تُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ كَإِقْرَارِهِ بِالرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْشِئْ طَلَاقًا وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ ، وَقِيلَ : هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ تُنْقِصُهُ كَمَا لَوْ نَكَحَ أَمَةً وَقَالَ : نَكَحْتُهَا وَأَنَا وَاجِدٌ طَوْلَ حُرَّةٍ ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ ، وَاسْتَشْكَلَ السُّبْكِيُّ كُلًّا مِنْ الْوَجْهَيْنِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ يَقْتَضِي وُقُوعَ عَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ .
قَالَ : فَالْوَجْهُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ : الْفَسْخُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْبُطْلَانِ وَتَأْوِيلُ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ( وَعَلَيْهِ ) إذَا اعْتَرَفَ بِالْفِسْقِ ( نِصْفُ ) مَا سَمَّاهُ مِنْ ( الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَإِلَّا ) بِأَنْ دَخَلَ بِهَا ( فَكُلُّهُ ) لِأَنَّ حُكْمَ اعْتِرَافِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَلَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ بَعْدَ حَلِفِهَا أَنَّهُ عُقِدَ بِعَدْلَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِالزَّوْجِ عَمَّا لَوْ اعْتَرَفَتْ الزَّوْجَةُ بِالْفِسْقِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَإِنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهَا بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِيَدِهِ وَهِيَ تُرِيدُ رَفْعَهَا وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا ، وَتُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَضُرُّهَا ، فَلَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ وَطْءٍ سَقَطَ الْمَهْرُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إلَّا إذَا كَانَتْ مَحْجُورَةً بِسَفَهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسْقِطْ لِفَسَادِ إقْرَارِهَا فِي الْمَالِ وَالْأَمَةُ كَذَلِكَ ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَسُقُوطُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ

تَقْبِضْهُ ، فَإِنْ قَبَضَتْهُ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ .
ا هـ .
أَيْ لِأَنَّهَا تُقِرُّ لَهُ بِهِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَيَبْقَى فِي يَدِهَا وَلَوْ قَالَتْ : نَكَحْتَنِي بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشُهُودٍ فَقَالَ : بَلْ بِهِمَا نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الذَّخَائِرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْكَارٌ لِأَصْلِ الْعَقْدِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ .
ا هـ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي : الْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخِي تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ .

وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَى رِضَا الْمَرْأَةِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ .
( وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَى رِضَا الْمَرْأَةِ ) بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهَا كَأَنْ قَالَتْ : رَضِيت أَوْ أَذِنْت فِيهِ ( حَيْثُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا ) بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ احْتِيَاطًا لِيُؤْمَنَ إنْكَارُهَا ( وَلَا يُشْتَرَطُ ) الْإِشْهَادُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ وَرِضَاهَا الْكَافِي فِي الْعَقْدِ يَحْصُلُ بِإِذْنِهَا وَبِبَيِّنَةٍ ، وَكَذَا بِإِخْبَارِ وَلِيِّهَا مَعَ تَصْدِيقِ الزَّوْجِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِمَنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا كَتَزْوِيجِ الْأَبِ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ ، لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : يَنْبَغِي اسْتِحْبَابُهُ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ مِنْ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى مَنْ يَعْتَبِرُ إذْنَهَا مِنْ الْحُكَّامِ فَيُبْطِلَهُ إذَا جَحَدَتْهُ .
ا هـ .
وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ ، وَشَمَلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مَا لَوْ كَانَ الْمُزَوِّجُ هُوَ الْحَاكِمَ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْبُلْقِينِيُّ بِخِلَافِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ إذْنُهَا .

فَصْلٌ لَا تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا بِإِذْنٍ ، وَلَا غَيْرَهَا بِوَكَالَةٍ وَلَا تَقْبَلُ نِكَاحًا لِأَحَدٍ ، وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ ، لَا الْحَدَّ ، وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ بِالنِّكَاحِ إنْ اسْتَقَلَّ بِالْإِنْشَاءِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِالنِّكَاحِ عَلَى الْجَدِيدِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ ، وَهُمَا الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ ، أَوْ النَّائِبُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَرْجِمًا لِذَلِكَ بِفَصْلٍ فَقَالَ : فَصْلٌ ( لَا تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا ) أَيْ لَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ بِحَالٍ لَا ( بِإِذْنٍ ) وَلَا بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ؛ إذْ لَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ دُخُولُهَا فِيهِ لِمَا قُصِدَ مِنْهَا مِنْ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ ذِكْرِهِ أَصْلًا ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } [ النِّسَاءُ ] .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وقَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [ الْبَقَرَةُ ] أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِعَضْلِهِ مَعْنًى ، وَلِخَبَرِ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ خَبَرَ : { لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا } وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
نَعَمْ لَوْ عُدِمَ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ فَوَلَّتْ مَعَ خَاطِبِهَا أَمْرَهَا رَجُلًا مُجْتَهِدًا لِيُزَوِّجَهَا مِنْهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُحَكَّمٌ وَالْمُحَكَّمُ كَالْحَاكِمِ ، وَكَذَا لَوْ وَلَّتْ مَعَهُ عَدْلًا صَحَّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِهِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِفَقْدِ الْحَاكِمِ ، بَلْ يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ سَفَرًا وَحَضَرًا بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَمُرَادُ الْمُهِمَّاتِ مَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ .
وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَكْفِي الْعَدَالَةُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ فَشَرْطُهُ السَّفَرُ وَفَقْدُ الْقَاضِي .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : جَوَازُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْقَاضِي بَعِيدٌ مِنْ الْمَذْهَبِ وَالدَّلِيلُ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَلِيٌّ حَاضِرٌ ، وَيَظْهَرُ الْجَزْمُ

بِمَنْعِ الصِّحَّةِ إذَا أَمْكَنَ التَّزْوِيجُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ إمْكَانِ التَّزْوِيجِ مِنْ حَاكِمِ أَهْلٍ حَاضِرٍ بِالْبَلَدِ وَبَسَطَ ذَلِكَ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا فِي الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ( وَلَا ) تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ ( غَيْرَهَا بِوَكَالَةٍ ) عَنْ الْوَلِيِّ وَلَا بِوِلَايَةٍ ، وَلَوْ وَكَّلَ ابْنَتَهُ مَثَلًا أَنْ تُوَكِّلَ رَجُلًا فِي نِكَاحِهَا لَا عَنْهَا بَلْ عَنْهُ ، أَوْ أَطْلَقَ صَحَّ ؛ لِأَنَّهَا سَفِيرَةٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَتْ عَنْهَا .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ اُبْتُلِينَا بِإِمَامَةِ امْرَأَةٍ فَإِنَّ أَحْكَامَهَا تَنْفُذُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ وَقِيَاسُهُ تَصْحِيحُ تَزْوِيجِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِهَا إلَّا فِي مِلْكِهَا ، أَوْ فِي سَفِيهٍ ، أَوْ مَجْنُونٍ هِيَ وَصِيَّةٌ عَلَيْهِ ( وَلَا تَقْبَلُ نِكَاحًا لِأَحَدٍ ) بِوِلَايَةٍ وَلَا وَكَالَةٍ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ لَهَا فَلَا تَتَعَاطَاهُ لِلْغَيْرِ .
تَنْبِيهٌ : الْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الْخَنَاثَى وَقَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ بِحَثًا فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ ، وَقَالَ : لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا .
ا هـ .
نَعَمْ لَوْ زَوَّجَ الْخُنْثَى أُخْتَهُ ثُمَّ بَانَ ذَكَرًا فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ فِي الشَّاهِدِ الصِّحَّةُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَبِهِ جَزَمَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْخَنَاثَى ( وَالْوَطْءُ ) وَلَوْ فِي الدُّبُرِ ( فِي نِكَاحٍ ) بِشُهُودٍ ( بِلَا وَلِيٍّ ) كَتَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا ، أَوْ بِوَلِيٍّ بِلَا شُهُودٍ وَلَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِبُطْلَانِهِ لَا يُوجِبُ الْمُسَمَّى بَلْ ( يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ ) لِفَسَادِ النِّكَاحِ وَلِخَبَرِ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ

ثَلَاثًا ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَا ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إيجَابِ الْمَهْرِ مَا إذَا كَانَ النَّاكِحُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمَهْرِ يُفْهِمُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ مَعَهُ أَرْشُ بَكَارَةٍ لَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَنَّ إتْلَافَ الْبَكَارَةِ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَمَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَطْءُ وَ ( لَا ) يُوجِبُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ ( الْحَدَّ ) سَوَاءٌ أَصَدَرَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَمْ لَا لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ، لَكِنْ يُعَزَّرُ مُعْتَقِدُ تَحْرِيمِهِ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَلَوْ لَمْ يَطَأْ الزَّوْجُ فِي هَذَا النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ فَزَوَّجَهَا وَلِيُّهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا صَحَّ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَفْتَقِرْ صِحَّةُ نِكَاحِهِ لَهَا إلَى مُحَلِّلٍ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِبُطْلَانِهِ حَاكِمٌ يَرَاهُ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ ، فَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَامْتَنَعَ عَلَى الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ .
أَمَّا الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ جَزْمًا لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْعُلَمَاءِ ، ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى قَاعِدَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ الْإِنْشَاءَ مَلَكَ الْإِقْرَارَ غَالِبًا وَمَنْ لَا فَلَا بِقَوْلِهِ : ( وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ ) عَلَى مُوَلِّيَتِهِ (

بِالنِّكَاحِ ) بِعَدْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ تُوَافِقْهُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ عَلَيْهِ ( إنْ اسْتَقَلَّ بِالْإِنْشَاءِ ) وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ كَانَ مُجْبِرًا وَالزَّوْجُ كُفْئًا ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ الْإِنْشَاءَ مَلَكَ الْإِقْرَارَ غَالِبًا كَمَا مَرَّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِإِنْشَاءِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُجْبِرٍ ( فَلَا ) يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِنْشَاءِ إلَّا بِإِذْنِهَا .
تَنْبِيهٌ : يَدْخُلُ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ لَوْلَا الَّذِي قَدَّرْتُهُ مَا إذَا اسْتَقَلَّ بِالْإِنْشَاءِ وَكَانَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ كَمَا لَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا ادَّعَى أَنَّهُ زَوَّجَهَا حِينَ كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ اسْتَقَلَّ بِالْإِنْشَاءِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْإِنْشَاءِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمِنْهَاجِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَصْفُهُ بِذَلِكَ حِينَ الْإِقْرَارِ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ عَكْسِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ : ( وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ ) الْحُرَّةِ وَلَوْ سَفِيهَةً فَاسِقَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ( بِالنِّكَاحِ ) مِنْ زَوْجٍ صَدَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ غَيْرَ كُفْءٍ ( عَلَى الْجَدِيدِ ) وَإِنْ كَذَّبَهَا الْوَلِيُّ وَالشَّاهِدَانِ إنْ عَيَّنَتْهُمَا ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : مَا رَضِيتُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ كُفْءٍ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الزَّوْجَيْنِ فَثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ ، وَلِاحْتِمَالِ نِسْيَانِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَكَذِبِهِمْ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِهَا الْإِقْرَارَ فَتَقُولُ : زَوَّجَنِي مِنْهُ وَلِيِّي بِحَضْرَةِ عَدْلَيْنِ وَرِضَائِي إنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا .
فَإِنْ قِيلَ : سَيَأْتِي فِي الدَّعَاوَى أَنَّهُ يَكْفِي إقْرَارُهَا الْمُطْلَقُ فَيَكُونُ هُنَا كَذَلِكَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَاكَ مَحَلُّهُ فِي إقْرَارِهَا الْوَاقِعِ فِي جَوَابِ الدَّعْوَى وَمَا هُنَا فِي إقْرَارِهَا الْمُبْتَدَإِ ،

وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ رَقِيقًا اُشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقُ سَيِّدِهِ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْأَمَةِ ، وَمِثْلُهَا الْعَبْدُ ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا ، وَطَرِيقُ حِلِّهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ وَالْقَدِيمُ إنْ كَانَا غَرِيبَيْنِ يَثْبُتُ النِّكَاحُ وَإِلَّا طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ لِسُهُولَتِهَا ، وَعَنْ الْقَدِيمِ عَدَمُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ عَنْ الْقَدِيمِ وَحَمَلَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ الْغَيْرِ ، وَإِنْ أَقَرَّتْ لِزَوْجٍ وَالْمُجْبِرُ لِآخَرَ فَهَلْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ أَوْ إقْرَارُهَا أَوْ السَّابِقُ أَوْ يَبْطُلَانِ جَمِيعًا ؟ احْتِمَالَاتٌ لِلْإِمَامِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ السَّابِقِ ، فَإِنْ أَقَرَّا مَعًا فَالْأَرْجَحُ تَقْدِيمُ إقْرَارِ الْمَرْأَةِ لِتَعَلُّقِ ذَلِكَ بِبَدَنِهَا وَحَقِّهَا ، وَلَوْ جَهِلَ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ أَوْ يَبْطُلَانِ ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِصَاحِبِ الْمَطْلَبِ .
ا هـ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِإِقْرَارِهَا ؛ لِأَنَّا تَحَقَّقْنَا وَشَكَكْنَا فِي الْمُفْسِدِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَنُقِلَ فِي الْأَنْوَارِ عَنْ التَّلْخِيصِ تَرْجِيحُ السُّقُوطِ مُطْلَقًا ، وَلَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَذَكَرَ شَرَائِطَ الْعَقْدِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَاقُهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَاسْتِدَامَتُهُ تَنْفَكُّ عَنْ الصَّدَاقِ .

فَرْعٌ : لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ مُشِيرَةٌ إلَى شَخْصٍ : هَذَا زَوْجِي فَسَكَتَ فَمَاتَتْ وَرِثَهَا وَلَوْ مَاتَ هُوَ لَمْ تَرِثْهُ ، وَإِنْ قَالَ هُوَ : هَذِهِ زَوْجَتِي فَسَكَتَتْ فَمَاتَ وَرِثَتْهُ وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا عَلَى النَّصِّ .

وَلِلْأَبِ تَزْوِيجُ الْبِكْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً بِغَيْرِ إذْنِهَا ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ إلَّا بِإِذْنِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ تُزَوَّجْ حَتَّى تَبْلُغَ ، وَالْجَدُّ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَسَوَاءٌ زَالَتْ الْبَكَارَةُ بِوَطْءٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ ، وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِهَا بِلَا وَطْءٍ كَسَقْطَةٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَمَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ كَأَخٍ وَعَمٍّ لَا يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ ، وَتُزَوَّجُ الثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ بِصَرِيحِ الْإِذْنِ ، وَيَكْفِي فِي الْبِكْرِ سُكُوتُهَا فِي الْأَصَحِّ .

وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْوِلَايَةِ أَرْبَعَةٌ ، السَّبَبُ الْأَوَّلُ الْأُبُوَّةُ وَقَدْ شَرَعَ فِيهِ فَقَالَ ( وَلِلْأَبِ ) وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ وَهِيَ ( تَزْوِيجُ ) ابْنَتِهِ ( الْبِكْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ) عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ ( بِغَيْرِ إذْنِهَا ) لِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيّ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا } .
وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ : { وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا } حُمِلَتْ عَلَى النَّدْبِ ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسُ الرِّجَالَ بِالْوَطْءِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الْحَيَاءِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا بِخِلَافِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَحْتَاطُ لِمُوَلِّيَتِهِ لِخَوْفِ الْعَارِ وَغَيْرِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيِّ الْجَوَازَ .
تَنْبِيهٌ : لِتَزْوِيجِ الْأَبِ بِغَيْرِ إذْنِهَا شُرُوطٌ .
الْأَوَّلُ : أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ كَمَا مَرَّ .
الثَّانِي : أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ، الْخَامِسُ : أَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِالْمَهْرِ .
السَّادِسُ : أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا بِمَنْ تَتَضَرَّرُ بِمُعَاشَرَتِهِ كَأَعْمَى وَشَيْخٍ هَرِمٍ .
السَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ ، فَإِنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَمْنَعُهَا لِكَوْنِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي وَلَهَا غَرَضٌ فِي تَعْجِيلِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا .
قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ ، وَهَلْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ شُرُوطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ أَوْ لِجَوَازِ الْإِقْدَامِ فَقَطْ ؟ فِيهِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِهَذَا وَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِذَاكَ ، فَالْمُعْتَبَرُ لِلصِّحَّةِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلِيِّهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفْئًا وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِحَالِ الصَّدَاقِ ، وَلَيْسَ هَذَا مُفَرَّعًا عَلَى اعْتِبَارِ

كَوْنِ الْيَسَارِ مُعْتَبَرًا فِي الْكَفَاءَةِ كَمَا هُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، بَلْ لِأَنَّهُ بَخَسَهَا حَقَّهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ شُرُوطٌ لِجَوَازِ الْإِقْدَامِ ، قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِجْبَارِ أَيْضًا انْتِفَاءُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ .
ا هـ .
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ هُنَا كَمَا اُعْتُبِرَ ثَمَّ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ ، بَلْ قَدْ يُقَالُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى مَا قَالَهُ ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا إلَّا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهَا مِنْهُ حَظٌّ وَمَصْلَحَةٌ لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا ، أَمَّا مُجَرَّدُ كَرَاهَتِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلَا تُؤَثِّرُ ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهَا ) أَيْ الْبِكْرِ إذَا كَانَتْ مُكَلَّفَةً لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا ، أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفَةِ فَلَا إذْنَ لَهَا ، وَيُسَنُّ اسْتِفْهَامُ الْمُرَاهِقَةِ وَأَنْ لَا يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ ، وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا نِسْوَةٌ ثِقَاتٌ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا وَالْأُمُّ بِذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا ( وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ ) بَالِغَةٍ وَإِنْ عَادَتْ بَكَارَتُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ ( إلَّا بِإِذْنِهَا ) لِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيّ السَّابِقِ وَخَبَرِ : { لَا تُنْكِحُوا الْأَيَامَى حَتَّى تَسْتَأْمِرُوهُنَّ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَلِأَنَّهَا عَرَفَتْ مَقْصُودَ النِّكَاحِ فَلَا تُجْبَرُ بِخِلَافِ الْبِكْرِ ( فَإِنْ كَانَتْ ) تِلْكَ الثَّيِّبُ ( صَغِيرَةً ) غَيْرَ مَجْنُونَةٍ وَغَيْرَ أَمَةٍ ( لَمْ تُزَوَّجْ ) سَوَاءٌ احْتَمَلَتْ الْوَطْءَ أَمْ لَا ( حَتَّى تَبْلُغَ ) لِأَنَّ إذْنَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَامْتَنَعَ تَزْوِيجُهَا

إلَى الْبُلُوغِ ، أَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَيُزَوِّجُهَا الْأَبُ وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَلِسَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا وَكَذَا لِوَلِيِّ السَّيِّدِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ ( وَالْجَدُّ ) أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا ( كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ ) أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فِيمَا ذَكَرَ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً وَعُصُوبَةً كَالْأَبِ وَيَزِيدُ الْجَدُّ عَلَيْهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ كَمَا سَيَأْتِي بِخِلَافِ الْأَبِ ، وَوَكِيلُ الْأَبِ وَالْجَدُّ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ ، لَكِنَّ وَكِيلَ الْجَدِّ لَا يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَسَوَاءٌ ) فِي حُصُولِ الثُّيُوبَةِ وَاعْتِبَارِ إذْنِهَا ( زَالَتْ الْبَكَارَةُ بِوَطْءٍ ) فِي قُبُلِهَا ( حَلَالٍ ) كَالنِّكَاحِ ( أَوْ حَرَامٍ ) كَالزِّنَا أَوْ بِوَطْءٍ لَا يُوصَفُ بِهِمَا كَشُبْهَةٍ كَمَا شَمِلَهُ عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ : بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا بِحُرْمَةٍ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ ( وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِهَا بِلَا وَطْءٍ ) فِي الْقُبُلِ ( كَسَقْطَةٍ ) وَحِدَّةِ طَمْثٍ وَطُولِ تَعْنِيسٍ وَهُوَ الْكِبَرُ أَوْ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ بَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبْكَارِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسْ الرِّجَالَ فَهِيَ عَلَى غَبَاوَتِهَا وَحَيَائِهَا ، وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ فِيمَا ذُكِرَ ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِزَوَالِ الْعُذْرَةِ وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسْ الرِّجَالَ بِالْوَطْءِ فِي مَحَلِّ الْبَكَارَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْبِكْرَ لَوْ وُطِئَتْ فِي قُبُلِهَا وَلَمْ تَزُلْ بَكَارَتُهَا بِأَنْ كَانَتْ غَوْرَاءَ كَسَائِرِ الْأَبْكَارِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَنَظِيرِهِ الْآتِي فِي التَّحْلِيلِ عَلَى مَا يَأْتِي فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ تَعْلِيلِهِمْ

بِمُمَارَسَةِ الرِّجَالِ خِلَافَهُ كَمَا أَنَّ قَضِيَّتَهُ كَذَلِكَ إذَا زَالَتْ بِذَكَرِ حَيَوَانٍ غَيْرِ آدَمِيٍّ كَقِرْدٍ مَعَ أَنَّ الْأَوْجَهَ أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ ، وَلَوْ خُلِقَتْ بِلَا بَكَارَةٍ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبْكَارِ كَمَا حَكَى فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَأَقَرَّهُ وَتُصَدَّقُ الْمُكَلَّفَةُ فِي دَعْوَى الْبَكَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِقَةً .
قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي : بِلَا يَمِينٍ وَكَذَا فِي دَعْوَى الثُّيُوبَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ الْوَطْءِ ، فَإِنْ ادَّعَتْ الثُّيُوبَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِغَيْرِ إذْنِهَا نُطْقًا فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لِمَا فِي تَصْدِيقِهَا مِنْ إبْطَالِ النِّكَاحِ بَلْ لَوْ شَهِدَتْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلْ لِجَوَازِ إزَالَتِهَا بِأُصْبُعٍ أَوْ نَحْوِهِ ، أَوْ أَنَّهَا خُلِقَتْ بِدُونِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَإِنْ أَفْتَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ ( وَمَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ كَأَخٍ وَعَمٍّ ) لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَابْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا ( لَا يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ ) بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُزَوَّجُ بِالْإِذْنِ وَإِذْنُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ( وَتُزَوَّجُ الثَّيِّبُ ) الْعَاقِلَةُ ( الْبَالِغَةُ بِصَرِيحِ الْإِذْنِ ) لِلْأَبِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَكْفِي سُكُوتُهَا لِحَدِيثِ : { لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ ، وَلَوْ أَذِنَتْ بِلَفْظِ التَّوْكِيلِ جَازَ عَلَى النَّصِّ كَمَا نَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ : الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يَعُدُّونَهُ إذْنًا ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلٌ ، وَرُجُوعَهَا عَنْ الْإِذْنِ كَرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَقَبْلَ عِلْمِهِ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِذْنُ الْخَرْسَاءِ بِالْإِشَارَةِ

الْمُفْهِمَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِكَتْبِهَا .
قَالَ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ وَلَا كِتَابَةٌ هَلْ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونَةِ حَتَّى يُزَوِّجَهَا الْأَبُ وَالْجَدُّ ثُمَّ الْحَاكِمُ دُونَ غَيْرِهِمْ أَوْ لَا لِأَنَّهَا عَاقِلَةٌ ؟ لَمْ أَرَ فِيهَا شَيْئًا ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ ، وَمَا قَالَهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِكَتْبِ مَنْ لَهَا إشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ ظَاهِرٌ إنْ نَوَتْ بِهِ الْإِذْنَ كَمَا قَالُوا كِتَابَةُ الْأَخْرَسِ بِالطَّلَاقِ كِنَايَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ ( وَيَكْفِي فِي الْبِكْرِ ) الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا اُسْتُؤْذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِهِ ( سُكُوتُهَا فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ بَكَتْ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ إذْنٌ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا } فَإِنْ بَكَتْ بِصِيَاحٍ أَوْ ضَرْبِ خَدٍّ لَمْ يَكْفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرِّضَا .
وَالثَّانِي : لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ كَمَا فِي الثَّيِّبِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ الْمُجْبِرِ ، أَمَّا هُوَ فَالسُّكُوتُ كَافٍ قَطْعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إيرَادُ الْمُصَنِّفِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَخَرَجَ بِاسْتُؤْذِنَتْ مَا لَوْ زُوِّجَتْ بِحَضْرَتِهَا مَعَ سُكُوتِهَا فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ اسْتِئْذَانِهَا وَبِمَنْ كُفْءٌ أَوْ غَيْرُهُ مَا لَوْ اُسْتُؤْذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ بِدُونِ الْمَهْرِ أَصْلًا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَسَكَتَتْ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي سُكُوتُهَا لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ كَبَيْعِ مَالِهَا ، وَلَوْ اُسْتُؤْذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ بِرَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَسَكَتَتْ كَفَى فِيهِ سُكُوتُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّوْجِ فِي الْإِذْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَيَجُوزُ أَنْ أُزَوِّجَكِ أَوْ تَأْذَنِينَ .
فَقَالَتْ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَوْ لِمَ لَا آذَنُ كَفَى ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِرِضَاهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ الْخَاطِبُ : أَتُزَوِّجُنِي لَمْ يَكُنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51