كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

تَنْبِيهٌ : لَوْ شَرَطَ عَلَى الْغَنِيِّ كَذَا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ كَذَا ، وَأَطْلَقَ الشَّرْطَ صَحَّ وَاعْتُبِرَ الْغِنَى وَغَيْرُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ ، فَإِنْ قُيِّدَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِوَقْتٍ اُتُّبِعَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي التَّوَسُّطِ أَوْ الْفَقِيرِ بِيَمِينِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ أَوْ عُهِدَ لَهُ مَالٌ ، وَكَذَا مَنْ غَابَ وَأَسْلَمَ ثُمَّ حَضَرَ ، وَقَالَ : أَسْلَمْتُ مِنْ وَقْتِ كَذَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ .

وَلَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ أَوْ مَاتَ بَعْدَ سِنِينَ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا ، وَيُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ آدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ ، أَوْ فِي خِلَالِ سَنَةٍ فَقِسْطٌ ، وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ .

( وَلَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ ) أَوْ نَبَذَ الْعَهْدَ ( أَوْ مَاتَ بَعْدَ سِنِينَ ) وَلَهُ وَارِثٌ مُسْتَغْرِقٌ ( أُخِذَتْ جِزْيَتُهُنَّ ) مِنْهُ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَفِي الثَّالِثَةِ ( مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى ) حَقِّ الْوَرَثَةِ وَ ( الْوَصَايَا ) كَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ إسْلَامِهِ كَمَا ذَكَرَتْهُ لِوُضُوحِهِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا فَتَرِكَتُهُ فَيْءٌ فَلَا مَعْنَى لَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ التَّرِكَةِ ، ثُمَّ رَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ ، أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَا يَسْتَغْرِقُ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ أُخِذَ مِنْ نَصِيبِ الْوَارِثِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْجِزْيَةُ ، وَسَقَطَتْ حِصَّةُ بَيْتِ الْمَالِ ( وَيُسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ آدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ حَتَّى تَكُونَ كَالزَّكَاةِ فَيُوَفَّى الْجَمِيعُ إنْ وَفَّتْ التَّرِكَةُ ، وَإِلَّا ضَارَبَ الْإِمَامُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالْجِزْيَةِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّهَا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ فَتُقَدَّمُ هِيَ فِي قَوْلٍ ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ فِي قَوْلٍ ، وَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي قَوْلٍ ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْجِزْيَةَ غَلَبَ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أُجْرَةٌ ( أَوْ ) أَسْلَمَ أَوْ نَبَذَ الْعَهْدَ أَوْ مَاتَ ( فِي خِلَالِ سَنَةٍ فَقِسْطٌ ) لِمَا مَضَى ، كَالْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ بَعْضَ الْمُدَّةِ وَجَبَ الْقِسْطُ ( وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ ) ؛ لِأَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْحَوْلُ فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ كَالزَّكَاةِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ فِي أَثْنَاءِ الْعَامِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِسْطُ حِينَئِذٍ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهُوَ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ ، لَكِنْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَخْذِهِ .
ا هـ .
وَحَمَلَ شَيْخِي النَّصَّ عَلَى مَا إذَا قُسِّمَ مَالُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، وَكَلَامُ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ حَمْلٌ

حَسَنٌ ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ شُهْبَةَ وَالْأُشْمُونِيُّ عَلَى عِبَارَةِ النَّصِّ وَقَالَا كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ ، قَالَ يَعْنِي الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ فَرْعٌ حَسَنٌ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَتَمَّ وَهُوَ مَجْنُونٌ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ بِالْقِسْطِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
.

وَتُؤْخَذُ بِإِهَانَةٍ فَيَجْلِسُ الْآخِذُ وَيَقُومُ الذِّمِّيُّ وَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَضَعُهَا فِي الْمِيزَانِ ، وَيَقْبِضُ الْآخِذُ لِحْيَتَهُ ، وَيَضْرِبُ لِهْزِمَتَيْهِ ، وَكُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ ، وَقِيلَ وَاجِبٌ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ بِالْأَدَاءِ وَ حَوَالَةٌ عَلَيْهِ وَأَنْ يَضْمَنَهَا قُلْتُ : هَذِهِ الْهَيْئَةُ بَاطِلَةٌ وَدَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا أَشَدُّ خَطَأً .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَيُسْتَحَبُّ

ثُمَّ شَرَعَ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ ( وَتُؤْخَذُ ) الْجِزْيَةُ ( بِإِهَانَةٍ فَيَجْلِسُ الْآخِذُ ) بِالْمَدِّ : أَيْ الْمُسْلِمُ ( وَيَقُومُ الذِّمِّيُّ وَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَضَعُهَا ) أَيْ الْجِزْيَةَ ( فِي ) كِفَّةِ ( الْمِيزَانِ وَيَقْبِضُ الْآخِذُ ) مِنْهُ الْجِزْيَةَ ( لِحْيَتَهُ وَيَضْرِبُ لِهْزِمَتَيْهِ ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالزَّايِ ، وَهُمَا مَجْمَعُ اللَّحْمِ بَيْنَ الْمَاضِغِ وَالْأُذُنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الصَّغَارَ فِي الْآيَةِ بِهَذَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَضْرِبُ كُلَّ لِهْزِمَةٍ ضَرْبَةً وَهُوَ كَذَلِكَ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : يُشْبِهُ أَنْ يَكْفِيَ الضَّرْبُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ يَضْرِبُهُ بِالْكَفِّ مَفْتُوحًا .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : وَيَقُولُ : يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَدِّ حَقَّ اللَّهِ ( وَكُلُّهُ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَةِ ( مُسْتَحَبٌّ ) لِسُقُوطِهِ بِتَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ كَمَا سَيَأْتِي ( وَقِيلَ وَاجِبٌ ) لِيَحْصُلَ الصَّغَارُ الْمَذْكُورُ ( فَعَلَى الْأَوَّلِ ) وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ ( لَهُ ) أَيْ الذِّمِّيِّ ( تَوْكِيلُ مُسْلِمٍ بِالْأَدَاءِ ) لِلْجِزْيَةِ ( وَ ) لَهُ ( حَوَالَةٌ ) بِهَا ( عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَضْمَنَهَا ) ؛ لِأَنَّ الصَّغَارَ حَاصِلٌ بِالْتِزَامِهِ الْمَالَ وَانْقِيَادِهِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ بِخِلَافِهِ عَلَى الثَّانِي ، وَهُوَ الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : مُسْلِمٌ قَدْ يُفْهِمُ صِحَّةَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ بِهِ قَطْعًا ، وَنَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالصَّغَارِ وَأَقَرَّاهُ ، فَلَوْ حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لَشَمِلَ ذَلِكَ ، وَاحْتُرِزَ بِالْأَدَاءِ عَنْ تَوْكِيلِهِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الصَّغَارَ يُرَاعَى عِنْدَ الْأَدَاءِ ، لَا عِنْدَ الْعَقْدِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا فِيمَا يُؤَدَّى بِاسْمِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ كَانَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ سَقَطَتْ الْإِهَانَةُ قَطْعًا (

قُلْتُ : هَذِهِ الْهَيْئَةُ ) الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُحَرَّرِ ( بَاطِلَةٌ ) ؛ لِأَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ ، وَلَا نُقِلَ عَنْ فِعْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( دَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا أَشَدُّ خَطَأً ) مِنْ دَعْوَى جَوَازِهَا ، وَدَعْوَى وُجُوبِهَا أَشَدُّ خَطَأً مِنْ دَعْوَى اسْتِحْبَابِهَا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ : أَشَدُّ بُطْلَانًا لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ : بَاطِلَةٌ .
قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ : وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَاطِلَةِ الْخَطَأَ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ .
وَقَالَ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ : تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ بِرِفْقٍ كَأَخْذِ الدُّيُونِ .
ا هـ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ تَحَمُّلٌ عَلَى الذَّاكِرِينَ لَهَا ، وَلِلْخِلَافِ فِيهَا الْمُسْتَنِدِ إلَى تَفْسِيرِ الصَّغَارِ فِي الْآيَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ .
وَقَضِيَّةُ كَوْنِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ التَّحْرِيمُ .
ا هـ .
وَتَصْرِيحُ الْمُصَنِّفِ بِالْبُطْلَانِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَجْبِيَ الْجِزْيَةَ وَعُشْرَ التِّجَارَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ( وَيُسْتَحَبُّ ) وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ .

لِلْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِمْ إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ زَائِدًا عَلَى أَقَلِّ جِزْيَةٍ ، وَقِيلَ يَجُوزُ مِنْهَا ، وَتُجْعَلُ عَلَى غَنِيٍّ وَمُتَوَسِّطٍ ، لَا فَقِيرٍ فِي الْأَصَحّ ، وَيَذْكُرُ عَدَدَ الضِّيفَانِ رِجَالًا وَفُرْسَانًا ، وَجِنْسُ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَقَدْرُهُمَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا ، وَعَلَفَ الدَّوَابِّ ، وَمَنْزِلَ الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ وَفَاضِلِ مَسْكَنٍ وَمُقَامَهُمْ ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .

( لِلْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَشْرِطَ ) بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ ( عَلَيْهِمْ ) أَيْ الْكُفَّارِ ( إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَارُّ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا .
لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ ، وَعَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَغْنِيَائِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَا يَبِيعُونَ مِنْهُمْ إذَا مَرُّوا بِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ ، فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ ضِيَافَتَهُمْ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةٌ بَادَرُوا إلَى الْبَيْعِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِهِمْ عِنْدَهُمْ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ فِي بَلَدِهِمْ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِيمَا إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِنَا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَبِهِ صَرَّحَ سُلَيْمٌ فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَوْ صُولِحُوا فِي بِلَادِنَا وَانْفَرَدُوا فِي قَرْيَةٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَكَلَامُ كَثِيرٍ يَقْتَضِيهِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : أَنْ يَشْرِطَ هُوَ الْمَفْعُولُ النَّائِبُ عَنْ فَاعِلِ يُسْتَحَبُّ : أَيْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ لَا أَنَّهُ فَاعِلُ أَمْكَنَهُ وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ ( زَائِدًا عَلَى أَقَلِّ جِزْيَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّمَلُّكِ ، وَالضِّيَافَةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاكْتِفَاءُ بِهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ( وَقِيلَ يَجُوزُ ) أَنْ تُحْسَبَ الضِّيَافَةُ ( مِنْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إلَّا الْجِزْيَةُ ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ( وَتُجْعَلُ ) الضِّيَافَةُ ( عَلَى غَنِيٍّ وَمُتَوَسِّطٍ ، لَا ) عَلَى ( فَقِيرٍ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَكَرَّرُ فَيَعْجِزُ عَنْهَا .
وَالثَّانِي عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْجِزْيَةِ ( وَيَذْكُرُ ) الْعَاقِدُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الضِّيَافَةِ (

عَدَدَ الضِّيفَانِ ) بِكَسْرِ الضَّادِ جَمْعُ ضَيْفٍ ، مِنْ ضَافَ إذَا مَالَ ( رِجَالًا وَفُرْسَانًا ) ؛ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلْمُنَازَعَةِ وَأَنْفَى لِلْغَرَرِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ صَادِقٌ بِأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنْ يَقُولَ : أَقْرَرْتُكُمْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْكُمْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَضِيَافَةَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَجَّالَةً كَذَا وَفُرْسَانًا كَذَا ، أَوْ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَأَنْ تُضَيِّفُوا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ مُسْلِمٍ ، ثُمَّ هُمْ يُوَزِّعُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، أَوْ يَتَحَمَّلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، وَإِذَا تَفَاوَتُوا فِي الْجِزْيَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهُمْ فِي الضِّيَافَةِ فَيَجْعَلُ عَلَى الْغَنِيِّ عِشْرِينَ مَثَلًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ عَشَرَةً ، وَلَا يُفَاوِتُ بَيْنَهُمْ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْغَنِيِّ أَطْعِمَةً فَاخِرَةً أَجْحَفَ بِهِ الضِّيفَانَ ، وَإِنْ ازْدَحَمَ الضِّيفَانُ عَلَى الْمُضِيفِ لَهُمْ أَوْ عَكْسُهُ خُيِّرَ الْمُزْدَحَمُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ الضِّيفَانُ عَلَيْهِمْ بَدَءُوا بِالسَّابِقِ لِسَبْقِهِ ، وَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ ، وَلْيَكُنْ لِلضِّيفَانِ عَرِيفٌ يُرَتِّبُ أَمْرَهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ( وَ ) يُذْكَرُ ( جِنْسُ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ وَقَدْرُهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ ) مِنْ الضِّيفَانِ ( كَذَا ) مِنْ الْخُبْزِ ، وَكَذَا مِنْ السَّمْنِ أَوْ الزَّيْتِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْغَرَرِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ طَعَامُهُمْ وَأُدْمُهُمْ نَفْيًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الْحِنْطَةَ وَيَتَأَدَّمُونَ بِاللَّحْمِ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ وَيَتَأَدَّمُونَ بِالْأَلْبَانِ أَضَافُوهُمْ بِذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذِكْرِ الطَّعَامِ وَالْأُدْمِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ لَا يَلْزَمُهُمْ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ إنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا غَالِبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ

شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي زَمَانِهَا ، بِخِلَافِ الْفَوَاكِهِ النَّادِرَةِ وَالْحَلْوَاءِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَمَّامِ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ ، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ أَنْ تُكَلِّفَهُمْ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ ، وَلَا ذَبْحَ دَجَاجِهِمْ ، وَقَوْلُهُ : وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا هُوَ بِخَطِّهِ ، وَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْوَاوِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ وَيُقَدَّمُ الطَّعَامُ وَالْأُدْمُ فَيَقُولُ : لِكُلِّ وَاحِدٍ كَذَا مِنْ الْخُبْزِ وَكَذَا مِنْ السَّمْنِ ( وَ ) يَذْكُرُ ( عَلَفَ الدَّوَابِّ ) وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ بَلْ يَكْفِي الْإِطْلَاقُ ، وَيُحْمَلُ عَلَى تِبْنٍ وَقَتٍّ وَحَشِيشٍ ، وَيُرْجَعُ فِيهِ لِلْعَادَةِ ، وَلَا يَجِبُ الشَّعِيرُ وَنَحْوُهُ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِهِ فَإِنْ ذَكَرَهُ بَيَّنَ قَدْرَهُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُوهِمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ يَعْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَوَابَّهُ ، لَكِنْ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا مِنْهَا لَمْ يَعْلِفْ إلَّا وَاحِدَةً عَلَى النَّصِّ ( وَ ) يَذْكُرُ ( مَنْزِلَ الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ وَفَاضِلِ مَسْكَنٍ ) عَنْ أَهْلِهِ وَلَا يُخْرِجُونَ أَهْلَ الْمَسَاكِنِ مِنْهَا وَإِنْ ضَاقَتْ ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ الْأَبْوَابُ لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ رُكْبَانًا كَمَا شَرَطَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ ( وَ ) يَذْكُرُ ( مُقَامَهُمْ ) بِضَمِّ الْمِيمِ : أَيْ قَدْرَ إقَامَةِ الضِّيفَانِ .
فِي الْحَوْلِ كَعِشْرِينَ يَوْمًا .
أَمَّا بِفَتْحِهِ فَمَعْنَاهُ الْقِيَامُ ( وَلَا يُجَاوِزُ ) الْمُضِيفُ فِي الْمُدَّةِ ( ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ } وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَشَقَّةً ، فَإِنْ وَقَعَ تَوَافُقٌ عَلَى زِيَادَةٍ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَنَقَلَ فِي الذَّخَائِرِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ تَزْوِيدَ الضَّيْفِ كِفَايَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ اعْتَاضَ الْإِمَامُ عَنْ الضِّيَافَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِرِضَاهُمْ جَازَ ، وَاخْتَصَّتْ بِأَهْلِ الْفَيْءِ ،

وَلِضَيْفِهِمْ حَمْلُ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ بِخِلَافِ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُمَةٌ ، وَمَا هُنَا مُعَاوَضَةٌ ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ ، وَلَا طَعَامِ الْغَدِ ، وَلَا طَعَامِ أَمْسِ الَّذِي لَمْ يَأْتُوا بِطَعَامِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِزْيَةِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الضِّيَافَةِ جَمَاعَةٌ أُجْبِرُوا عَلَيْهَا ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْكُلُّ قُوتِلُوا ، فَإِنْ قَاتَلُوا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ، قَالَهُ مُجَلِّي .

وَلَوْ قَالَ قَوْمٌ نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ صَدَقَةٍ لَا جِزْيَةٍ فَلِلْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إذَا رَأَى .

( وَلَوْ قَالَ قَوْمٌ ) مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّنْ تُعْقَدُ لَهُمْ الْجِزْيَةُ ( نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ صَدَقَةٍ ، لَا ) بِاسْمِ ( جِزْيَةٍ ) وَقَدْ عَرَفُوهَا حُكْمًا وَشَرْطًا ( فَلِلْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إذَا رَأَى ) ذَلِكَ وَتَسْقُطُ عَنْهُمْ الْإِهَانَةُ وَاسْمُ الْجِزْيَةِ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْ تَنَصَّرَ مِنْ الْعَرَبِ قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَنُوخُ وَنَهَرَا وَبَنُو تَغْلِبَ لَمَّا طَلَبَهَا مِنْهُمْ أَبَوْا دَفْعَهَا وَقَالُوا نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا تُؤَدِّي الْعَجَمُ ، فَخُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، يُرِيدُونَ الزَّكَاةَ ، فَقَالَ إنَّهَا طُهْرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهَا ، فَقَالُوا : تَأْخُذُ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ ، فَأَبَى فَارْتَحَلُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَلْتَحِقُوا بِالرُّومِ ، فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذَهَا جِزْيَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَعَقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةَ مُؤَبَّدًا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُ مَا فَعَلَهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، هَذَا إذَا تَيَقَّنَّا وَفَاءَهَا بِدِينَارٍ ، وَإِلَّا فَلَا يُجَابُوا ، وَلَوْ اقْتَضَى إجَابَتَهُمْ تَسْلِيمُ بَعْضٍ مِنْهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا الْتَزَمُوهُ فَإِنَّهُمْ يُجَابُونَ ، وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ يَلْتَزِمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ وَغَرَضُنَا تَحْصِيلُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ ، فَيَقُولُ الْإِمَامُ فِي صُورَةِ الْعَقْدِ : جَعَلْتُ عَلَيْكُمْ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ ، أَوْ صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ ، أَوْ نَحْوُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : فَلِلْإِمَامِ إلَخْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ وَهُوَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ بَذْلِهِمْ الدِّينَارَ .
نَعَمْ تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِنَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا أَبَوْا الدَّفْعَ إلَّا بِاسْمِ

الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ حَقِيقَةً كَمَا سَيَأْتِي .
.

وَيُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ فَمِنْ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ شَاتَانِ ، وَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَا مَخَاضٍ ، وَ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ ، وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةٌ وَخُمُسُ الْمُعَشَّرَاتِ ، وَلَوْ وَجَبَ بِنْتَا مَخَاضٍ مَعَ جُبْرَانٍ لَمْ يُضَعِّفْ الْجُبْرَانَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضَ نِصَابٍ لَمْ يَجِبْ قِسْطُهُ فِي الْأَظْهَرِ ، ثُمَّ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةٌ ، فَلَا

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَيَانِ التَّضْعِيفِ فَقَالَ ( وَيُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ ، فَمِنْ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ شَاتَانِ ) وَمِنْ عَشَرَةٍ أَرْبَعَةٌ ، وَمِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ سِتُّ شِيَاهٍ ، وَمِنْ عِشْرِينَ ثَمَانِ شِيَاهٍ ( وَ ) مِنْ ( خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ) بَعِيرًا ( بِنْتَا مَخَاضٍ ) وَمِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاتَانِ ، وَمِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعَانِ ، وَمِنْ مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ ثَمَانِ حِقَاقٍ ، أَوْ عَشْرُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَلَا يُفَرِّقُ فَلَا يَأْخُذُ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، كَمَا لَا يُفَرِّقُ فِي الزَّكَاةِ ، كَذَا قَالَاهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي : قُلْتُ : وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا تَشْقِيصَ هُنَا بِخِلَافِ مَا هُنَاكَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَمِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ ، وَ ) مِنْ ( مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةٌ ) مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَمِنْ الرِّكَازِ خُمُسَانِ ( وَخُمُسُ الْمُعَشَّرَاتِ ) فِيمَا سُقِيَ بِلَا مُؤْنَةٍ ، وَالْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِهَا ( وَلَوْ وَجَبَ ) عَلَى كَافِرٍ ( بِنْتَا مَخَاضٍ ) مَثَلًا ( مَعَ جُبْرَانٍ ) كَأَنْ كَانَ عِنْدَهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَفَقَدَ بِنْتَيْ لَبُونٍ ( لَمْ يُضَعِّفْ الْجُبْرَانَ ) عَلَيْهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِئَلَّا يَكْثُرَ التَّضْعِيفُ ، وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّ الْجُبْرَانَ تَارَةً يُؤْخَذُ وَتَارَةً يُدْفَعُ ، وَلَوْ ضَعَّفْنَاهُ عِنْدَ الْأَخْذِ لَزِمَ أَنْ يُضَعَّفَ عِنْد الدَّفْعِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ قَطْعًا .
وَالثَّانِي يُضَعَّفُ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْبَعَ شِيَاهِ ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَلَوْ دَفَعَ حِقَّتَيْنِ بَدَلَ بِنْتَيْ لَبُونٍ لَمْ يُضَعَّفْ لَهُ الْجُبْرَانُ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْأَصَحِّ مُنَاقَشَةٌ ، فَإِنَّ مُقَابِلَهُ سَاقِطٌ ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ : إنَّهُ غَلَطٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي عَدُّهُ مِنْ الْمَذْهَبِ ا هـ .
وَيُعْطِي الْإِمَامُ الْجُبْرَانَ مِنْ الْفَيْءِ كَمَا يَصْرِفُهُ إذَا أَخَذَهُ إلَى

الْفَيْءِ ( وَلَوْ كَانَ ) مَا عِنْدَ الْكَافِرِ ( بَعْضَ نِصَابٍ ) مِنْ مَالٍ زَكَوِيٍّ كَمِائَةِ دِرْهَمٍ ( لَمْ يَجِبْ قِسْطُهُ ) مِنْ تَمَامِ النِّصَابِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَشَاةٍ مِنْ عِشْرِينَ وَنِصْفِ شَاةٍ مِنْ عَشَرَةٍ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا وَرَدَ فِي تَضْعِيفِ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ لَا فِي إيجَابِ مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَالثَّانِي يَجِبُ قِسْطُهُ رِعَايَةً لِلتَّضْعِيفِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إنْ لَمْ يُخَالِطْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ خَلَطَ عِشْرِينَ شَاةً بِعِشْرِينَ شَاةً لِغَيْرِهِ أَخَذَ مِنْهُ شَاةً إنْ ضَعَّفْنَا ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْمَشْهُورِ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مُقَابِلَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْأَوْقَاصِ الَّتِي بَيْنَ النُّصُبِ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ النِّصَابُ كُلَّ الْحَوْلِ أَوْ آخِرَهُ ؟ وَجْهَانِ : فِي الْكِفَايَةِ قِيَاسُ بَابِ الزَّكَاةِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ ، وَقِيَاسُ اعْتِبَارِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالتَّوَسُّطِ آخِرَ الْحَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْجِيحُ الثَّانِي ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( ثُمَّ الْمَأْخُوذُ ) بِاسْمِ الزَّكَاةِ مُضَعَّفًا أَوْ غَيْرَ مُضَعَّفٍ ( جِزْيَةٌ ) وَإِنْ بُدِّلَ اسْمُهَا تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ .
فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ حَمْقَاءُ أَبَوْا الِاسْمَ وَرَضَوْا بِالْمَعْنَى .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : جِزْيَةٌ هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ ، يُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَتْنِ : بَعْدَ جِزْيَةٍ حَقِيقَةً ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى إسْقَاطِ الْخَافِضِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِغَيْرِهِ ، وَعَلَى كَوْنِ الْمَأْخُوذِ جِزْيَةً ( فَلَا ) يَنْقُصُ عَنْ دِينَارٍ حَتَّى لَوْ وَفَّى قَدْرَ الزَّكَاةِ بِلَا تَضْعِيفٍ أَوْ نِصْفَهَا بِالدِّينَارِ يَقِينًا لَا ظَنًّا كَفَى أَخْذُهُ ، فَلَوْ كَثُرُوا وَعَسُرَ عَدَدُهُمْ لِمَعْرِفَةِ الْوَفَاءِ بِالدِّينَارِ لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ ، بَلْ يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ أَخْذِ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ

تَضْعِيفُهَا ، وَلَا تَنْصِيفُهَا ، فَيَجُوزُ تَرْبِيعُهَا وَتَخْمِيسُهَا وَنَحْوُهُمَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ .

وَلَا ( يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ) كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى بِخِلَافِ الْفَقِيرِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَإِذَا شُرِطَ ضِعْفُ الصَّدَقَةِ وَزَادَ عَلَى دِينَارٍ ، ثُمَّ سَأَلُوا إسْقَاطَ الزِّيَادَةِ وَإِعَادَةَ اسْمِ الْجِزْيَةِ أُجِيبُوا عَلَى الصَّحِيحِ ا هـ .
وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا لَوْ عُقِدَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ ثُمَّ عَلِمُوا جَوَازَ دِينَارٍ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمُوا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ .
تَتِمَّةٌ : لَوْ صَالَحْنَاهُمْ وَأَبْقَيْنَا أَرْضَهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ وَضَرَبْنَا عَلَيْهَا خَرَاجًا يُؤَدُّونَهُ كُلَّ سَنَةٍ عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ كَذَا يَفِي ذَلِكَ الْخَرَاجُ بِالْجِزْيَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ فَالْمَأْخُوذُ جِزْيَةً يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى ، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ الْأَرْضُ ، أَوْ بَاعُوهَا ، أَوْ وَهَبُوهَا مَا لَمْ يُسْلِمُوا ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ كَمَا مَرَّ فَإِنْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ ، وَالْخَرَاجُ بَاقٍ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْخَرَاجُ فِي مَوَاتٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ ، لَا فِيمَا لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ وَإِنْ أَحْيَوْهُ إلَّا إنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْيُونَهُ ، وَإِنْ ضَرَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَيَسْكُنُونَهَا وَيُؤَدُّونَ كُلَّ سَنَةِ عَنْ كُلِّ جَرِيبٍ كَذَا فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ أُجْرَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقْدُ إجَارَةٍ فَلَا سَقَطَ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَبْلُغَ دِينَارًا وَالْجِزْيَةُ بَاقِيَةٌ فَتَجِبُ مَعَ الْأُجْرَةِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ الْأَرْضِ وَلَا هِبَتُهَا ، وَلَهُمْ إجَارَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يُؤَجِّرُ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَرْضِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ .
.

فَصْل يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ .
يَلْزَمُنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ
[ فَصْلٌ ] فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا مَرَّ ( يَلْزَمُنَا ) بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ الصَّحِيحِ لِلْكُفَّارِ ( الْكَفُّ عَنْهُمْ ) نَفْسًا وَمَالًا ، وَخَلَاصُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَالْكَفُّ عَنْ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَسَائِرِ مَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُظْهِرُوهُ بَيْنَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا قِتَالَهُمْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ ، وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ فَكَذَا الْجِزْيَةُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد خَبَرَ { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أَوْ انْتَقَصَهُ ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وَضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ عَلَيْهِمْ نَفْسًا وَمَالًا وَدَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ وَقِيلَ إنْ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْنَا الدَّفْعُ .

( وَ ) يَلْزَمُنَا ( ضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ عَلَيْهِمْ نَفْسًا وَمَالًا ) أَيْ يَضْمَنُهُ الْمُتْلِفُ مِنَّا كَمَا يَضْمَنُ مَالَ الْمُسْلِمِ وَنَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَائِدَةُ عَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَاحْتُرِزَ بِالْمَالِ عَنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَمْ لَا ، لَكِنْ مَنْ غَصَبَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَعْصَى بِإِتْلَافِهَا إلَّا إنْ أَظْهَرُوهَا ، وَتُرَاقُ خَمْرُ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ وَقَبَضَهَا وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِإِخْرَاجِهَا إلَيْهِ ، وَلَوْ قَضَى الذِّمِّيُّ دَيْنَ مُسْلِمٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبُولُهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَمَنُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي عَقِيدَتِهِ ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْقَبُولُ ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ قَبُولُهُ مَعَ الْعِلْمِ مَرْدُودٌ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ نَفْسًا وَمَالًا مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ الْكَفِّ وَحُذِفَا مِنْ قَوْلِهِ وَضَمَانُ مَا نُتْلِفُهُ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ ، وَالتَّمْيِيزُ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ وَضَمَانُ مِنْ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ ؛ لِأَنَّكَ إنْ أَعْمَلْتَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا أَضْمَرْتَ فِي الثَّانِي فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً ، وَإِنْ أَعْمَلْتَ الثَّانِي لَزِمَ الْحَذْفُ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيَلْزَمُنَا اسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ( وَ ) يَلْزَمُنَا ( دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ ) وَغَيْرِهِمْ ( عَنْهُمْ ) إذَا كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّبِّ عَنْ الدَّارِ ، وَمَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ طُرُوقِهَا ( وَقِيلَ إنْ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ ) بِجِوَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي الرَّوْضَةِ ( لَمْ يَلْزَمْنَا الدَّفْعُ ) عَنْهُمْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ الذَّبُّ عَنَّا عِنْدَ طُرُوقِ الْعَدُوِّ لَنَا ، وَالْأَصَحُّ اللُّزُومُ إنْ

أَمْكَنَ إلْحَاقًا لَهُمْ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِصْمَةِ وَالصِّيَانَةِ .
أَمَّا الْمُسْتَوْطِنُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ ، فَلَا يَلْزَمُنَا الدَّفْعُ عَنْهُمْ جَزْمًا إلَّا إنْ شُرِطَ الذَّبُّ عَنْهُمْ هُنَاكَ فَيَلْزَمُنَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ .
فَإِنْ لَمْ نَدْفَعْ عَنْهُمْ حَيْثُ لَزِمَنَا ذَلِكَ ، فَلَا جِزْيَةَ لِمُدَّةِ عَدَمِ الدَّفْعِ .
فَإِنْ ظَفِرَ الْإِمَامُ مِمَّنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا وَجَدَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ إنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا مَالَنَا .

وَنَمْنَعُهُمْ إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةَ لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ ، أَوْ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا ، وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ ، وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ جَازَ ، وَإِنْ أُطْلِقَ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ، أَوْ لَهُمْ قُرِّرَتْ ، وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ .

( وَنَمْنَعُهُمْ ) وُجُوبًا ( إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ ) وَبَيْعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ ، وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ ( فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ ) كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْقَاهِرَةِ ، لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرَبَ مِنْهَا } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إلَيْهِمْ كِتَابًا " أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَلِأَنَّ إحْدَاثَ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، فَلَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ بَنَوْا ذَلِكَ هُدِمَ ، سَوَاءٌ أَشُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا ، وَلَوْ عَاقِدِهِمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ( أَوْ ) بَلَدٍ ( أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ) كَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْيَمَنِ ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِمَّا ذُكِرَ لِمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ وُجِدَتْ كَنَائِسُ أَوْ نَحْوُهَا فِيمَا ذُكِرَ وَجُهِلَ أَصْلُهَا بَقِيَتْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ فَاتَّصَلَ بِهَا عُمْرَانٌ مَا أَحْدَثُ مِنَّا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عُلِمَ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ .
هَذَا إذَا بُنِيَ ذَلِكَ لِلتَّعَبُّدِ .
فَإِنْ بُنِيَ لِنُزُولِ الْمَارَّةِ نُظِرَ ، إنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ فَوَجْهَانِ : جَزَمَ صَاحِبُ الشَّامِلِ مِنْهُمَا بِالْجَوَازِ ( وَمَا ) أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي ( فُتِحَ عَنْوَةَ ) كَمِصْرِ وَأَصْبَهَانَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ ( لَا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَيُمْتَنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا لَا يَجُوزُ إعَادَتُهَا إذَا انْهَدَمَتْ ( وَلَا يُقَرُّونَ

عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا مَرَّ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ .
كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَا بِالْعِرَاقِ ، وَالثَّانِي يُقَرُّونَ ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقَائِمَةِ عِنْدَ الْفَتْحِ .
أَمَّا الْمُنْهَدِمَةُ أَوْ الَّتِي هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ اسْتَوْلَى أَهْلُ حَرْبٍ عَلَى بَلْدَةِ أَهْلِ ذِمَّةٍ وَفِيهَا كَنَائِسُهُمْ .
ثُمَّ اسْتَعَدْنَاهَا مِنْهُمْ عَنْوَةً أُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، قَالَهُ صَاحِبُ الْوَافِي : وَاسْتَظْهَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( أَوْ ) فُتِحَ الْبَلَدُ ( صُلْحًا ) كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ( بِشَرْطِ ) كَوْنِ ( الْأَرْضِ لَنَا وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ ) فِيهَا بِخَرَاجٍ ( وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ ) مَثَلًا لَهُمْ ( جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْبَلَدِ لَهُمْ فَعَلَى بَعْضِهِ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : " وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ " يَقْتَضِي مَنْعَهُمْ مِنْ إحْدَاثِهَا ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ إذَا صُولِحُوا عَلَى إحْدَاثِهَا جَازَ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرَا خِلَافَهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ مَحْمُولٌ مَا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ ا هـ .
وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَوَازِ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْمَنْعِ ، إذْ الْجَوَازُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَوَازِ ذَلِكَ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ السُّبْكِيُّ ( وَإِنْ ) فُتِحَ الْبَلَدُ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا وَ ( أُطْلِقَ ) الصُّلْحُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ وَلَا عَدَمَهُ ( فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ) مِنْ إبْقَائِهَا فَيُهْدَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا ، وَالثَّانِي لَا ، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ بِقَرِينَةِ الْحَالِ

لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ .
فَائِدَةٌ : قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ كَنَائِسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ دُخُولَهُمْ إلَيْهَا ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَازُ بِالْإِذْنِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا صُورَةٌ .
فَإِنْ كَانَ وَهِيَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ حَرُمَ هَذَا إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِزَالَةِ ، وَغَالِبُ كَنَائِسِهِمْ الْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ( أَوْ ) فُتِحَ صُلْحًا بِشَرْطِ الْأَرْضِ ( لَهُمْ ) وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ( قُرِّرَتْ ) كَنَائِسُهُمْ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمْ ( وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِهِمْ كَخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ ، وَأَعْيَادِهِمْ كَضَرْبِ نَاقُوسِهِمْ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إيوَاءِ الْجَاسُوسِ وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَسَائِرِ مَا نَتَضَرَّرُ بِهِ فِي دِيَارِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ جَوَّزْنَا أَيْضًا الْكَنَائِسَ ، فَلَا مَنَعَ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا اسْتُهْدِمَتْ ؛ لِأَنَّهَا مُبْقَاةٌ ، وَهَلْ يَجِبُ إخْفَاءُ الْعِمَارَةِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا لَا ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَطْيِينِهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ ، وَتَجُوزُ إعَادَةُ الْجُدْرَانِ السَّاقِطَةِ ، وَإِذَا انْهَدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهَا عَلَى الْأَصَحِّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْدَاثٍ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ : وَلَا أَرَى الْفَتْوَى بِذَلِكَ .
فَإِنَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ أَوْ نَحْوِهَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلًا مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ زَرْقَاءُ ، فَعِنْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ طَلَبَنِي ذَلِكَ الْعَالِمُ فَوَجَدْتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهِ ، وَبِيَدِهِ كُرَّاسَةٌ فِي

تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ ، يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِجَوَازِ التَّرْمِيمِ وَيَسْتَعِينَ بِي فَذَكَرْتُ وَاعْتَبَرْتُ .
قَالَ : وَمَعْنَى قَوْلِنَا لَا نَمْنَعُهُمْ التَّرْمِيمَ ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَائِزٌ ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي الَّتِي يُقَرُّونَ عَلَيْهَا كَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ فِيهِ كَمَا يَأْذَنُ فِي الْأَشْيَاءِ الْجَائِزَةِ فِي الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى تَمْكِينِهِمْ التَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَلَوْ اشْتَرَوْهُمَا أَوْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَكْتُبُهُمَا لَهُمْ لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّتِهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْعَلُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَأَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِيهِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا لَهُ وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ .
قَالَ : وَالْمُرَادُ بِالتَّرْمِيمِ الْإِعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لَا بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ .
قَالَ : وَهَذَا مَدْلُولُ لَفْظِ الْإِعَادَةِ وَالتَّرْمِيمِ ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِنَقْلٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا التَّمْكِينُ وَالْحَقُّ عِنْدِي خِلَافُهُ ا هـ .
وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُرَمَّمُ بِآلَاتٍ جَدِيدَةٍ ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَوْسِيعُهَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأُولَى .

وَيُمْنَعُونَ وُجُوبًا ، وَقِيلَ نَدْبًا مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ عَلَى بِنَاءِ جَارٍ مُسْلِمٍ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ لَمْ يُمْنَعُوا .

( وَيُمْنَعُونَ ) أَيْ الذِّمِّيُّونَ ( وُجُوبًا وَقِيلَ نَدْبًا مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ ) لَهُمْ ( عَلَى بِنَاءِ جَارٍ ) لَهُمْ ( مُسْلِمٍ ) وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } وَلِيَتَمَيَّزَ الْبِنَاءَانِ ، وَلِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِنَا ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى الْجَارُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لِحَقِّ الدِّينِ لَا لِمَحْضِ حَقِّ الْجَارِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِنَاءُ الْمُسْلِمِ مُعْتَدِلًا أَمْ فِي غَايَةِ الِانْخِفَاضِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْمَنْعِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ : إذَا كَانَ بِنَاءُ الْمُسْلِمِ مِمَّا يُعْتَادُ فِي السُّكْنَى ، فَلَوْ كَانَ قَصِيرًا لَا يُعْتَادُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بِنَاؤُهُ أَوْ أَنَّهُ هَدَمَهُ إلَى أَنْ صَارَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ الذِّمِّيُّ مِنْ بِنَاءِ جِدَارِهِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُعْتَادُ فِي السُّكْنَى ، لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ حَقُّهَا الَّذِي عَطَّلَهُ الْمُسْلِمُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ تُعَطَّلُ عَلَيْهِ بِإِعْسَارِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ كَمَا قَالَ الْجُرْجَانِيِّ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ دُونَ جَمِيعِ الْبَلَدِ ( وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ) أَيْضًا بَيْنَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ } فَيَنْبَغِي اسْتِحْقَارُهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَمْيِيزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمُلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ الْإِسْلَامِ ، وَلَا عُلُوَّ مَعَ الْمُسَاوَاةِ .
تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ رَفْعُ تَصْوِيرٍ الْمَنْعُ بِالْإِحْدَاثِ ، فَلَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ دَارًا مُسَاوِيَةً أَوْ عَالِيَةً لَمْ يُكَلَّفْ هَدْمَهَا ، وَكَذَا مَا بَنَوْهُ قَبْلَ أَنْ تُمْلَكَ بِلَادُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ ، لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ طُلُوعِ سَطْحِهِ إلَّا بَعْدَ تَحْجِيرِهِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ مَأْمُونٌ ، وَيُمْنَعُ صِبْيَانُهُمْ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِخِلَافِ صِبْيَانِنَا ، حَكَاهُ فِي

الْكِفَايَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَذْكُورُ امْتَنَعَ الْعُلُوُّ وَالْمُسَاوَاةُ ، وَلَوْ رَفَعَ بِنَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ عَلَيْهِ لَمْ يُؤَخَّرْ هَدْمُ بِنَائِهِ بِذَلِكَ ، فَلَوْ تَأَخَّرَ نَقَضَهُ حَتَّى رَفَعَ الْمُسْلِمُ بِنَاءَهُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ النَّقْضِ بِذَلِكَ ، وَلَوْ رَفَعَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ فَبَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ النَّقْضِ ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى حَوَاشِي كِفَايَتِهِ : يَظْهَرُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا بَاعَ الْمُسْتَعِيرُ مَا بَنَاهُ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ .
وَكَذَا بَيْعُ الْبِنَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُجَوِّزُوهُ انْبَنَى عَلَى مَنْ اشْتَرَى فَصِيلًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْأَرْضَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ ؟ وَجْهَانِ .
ا هـ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ النَّقْضُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنَقْضِهِ إذَا بَاعَهُ لِمُسْلِمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَحَكَمْتُ أَيَّامَ قَضَائِي عَلَى يَهُودِيٍّ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ ، وَبِالتَّنْقِيصِ عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِجَارِهِ فَأَسْلَمَ فَأَقْرَرْته عَلَى بِنَائِهِ وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ ، وَظَنِّي أَنِّي كُنْتُ قُلْتُ لَهُ إنْ أَسْلَمْتَ لَمْ أَهْدِمْهُ ا هـ .
بَلْ الْوَجْهُ عَدَمُ الْهَدْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } الْآيَةَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سُكْنَاهَا بِلَا خِلَافٍ ، قَالَهُ فِي الْمُرْشِدِ ، وَهَلْ يَجْرِي مِثْلُهُ فِيمَا لَوْ مَلَكَ دَارًا لَهَا رَوْشَنٌ حَيْثُ قُلْنَا لَا يُشْرَعُ لَهُ رَوْشَنٌ : أَيْ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، أَوْ لَا يَجْرِي ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالرَّوْشَنُ لِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَقَدْ زَالَ ؟ فِيهِ نَظَرٌ ا هـ .
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ : " الْمُسْلِمُ " ، رَفْعُ أَهْلِ

الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ فَفِي مَنْعِ عُلُوِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ : وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَالْبَحْرِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِهِ الْجَوَازُ ( وَ ) الْأَصَحُّ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ( أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ ) عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرَفٍ مِنْ الْبَلَدِ ، مُنْقَطِعٍ عَنْ الْعِمَارَةِ ( لَمْ يُمْنَعُوا ) مِنْ رَفْعِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ الْمُطَاوَلَةُ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِ بِنَاءِ مُسْلِمٍ وَلِامْتِنَاعِ خَوْفِ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
أَمَّا إذَا الْتَصَقَتْ دُورُ الْبَلَدِ مِنْ أَحَدِ جَوَانِبِهَا ، فَإِنَّا نَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ فِيهِ بِنَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى بِنَاءِ مَنْ يُجَاوِرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَانِبِ ، إذْ لَا جَارَ لَهُمْ .

وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ رُكُوبَ خَيْلٍ لَا حَمِيرٍ ، وَبِغَالٍ نَفِيسَةٍ ، وَيَرْكَبُ بِإِكَافٍ وَرِكَابِ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ ، وَلَا سَرْجٍ ، وَيُلْجَأُ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ .

( وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ ) الذَّكَرُ الْمُكَلَّفُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ( رُكُوبَ خَيْلٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } فَأَمَرَ أَوْلِيَاءَهُ بِإِعْدَادِهَا لِأَعْدَائِهِ - وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنَى بِهِ الْغَنِيمَةَ وَهُمْ مَغْنُومُونَ .
وَرُوِيَ { الْخَيْلُ ظُهُورُهَا عِزٌّ } وَهُمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ .
أَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي غَيْرِ دَارِنَا لَمْ يُمْنَعُوا فِي أَقْرَبِ الْوَجْهَيْنِ إلَى النَّصِّ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، قَالَ : وَلَوْ اسْتَعَنَّا بِهِمْ فِي حَرْبٍ حَيْثُ يَجُوزُ ، فَالظَّاهِرُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ رُكُوبِهَا زَمَنَ الْقِتَالِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ رُكُوبِ الْخَيْلِ بَيْنَ النَّفِيسِ مِنْهَا وَالْخَسِيسِ ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، لَكِنْ اسْتَثْنَى الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهَا الْبَرَازِينُ الْخَسِيسَةَ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ( لَا ) رُكُوبَ ( حَمِيرٍ ) قَطْعًا وَلَوْ رَفِيعَةَ الْقِيمَةِ ( وَ ) لَا ( بِغَالٍ نَفِيسَةٍ ) فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَسِيسَةٌ ، وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ الْبِغَالَ النَّفِيسَةَ بِالْخَيْلِ ، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَإِنَّ التَّجَمُّلَ وَالتَّعَاظُمَ بِرُكُوبِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْخَيْلِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : لَا تَوَقُّفَ عِنْدَنَا فِي الْفَتْوَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَعْيَانُ النَّاسِ ، أَوْ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ ا هـ .
وَيُمْنَع تَشَبُّهُهُمْ بِأَعْيَانِ النَّاسِ ، أَوْ مَنْ يُتَشَبَّهُ بِهِمْ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَيَرْكَبُ بِإِكَافٍ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ : أَيْ بَرْذَعَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ( وَرِكَابِ خَشَبٍ لَا حَدِيدٍ ) وَنَحْوِهِ ( وَلَا سَرْجٍ ) اتِّبَاعَا لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالْمَعْنَى

فِيهِ أَنْ يَتَمَيَّزُوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَهُ الرُّكُوبُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ خَشَبٍ كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَيَرْكَبُ عَرْضًا بِأَنْ يَجْعَلَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبِ وَاحِدٍ وَظَهْرَهُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيَحْسُنُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَرْكَبَ إلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ الْبَلَدِ أَوْ إلَى بَعِيدَةٍ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَيُمْنَعُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَمِنْ اللُّجُمِ الْمُزَيَّنَةِ بِالنَّقْدَيْنِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَعَلَّ مَنْعَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَضَرِ وَنَحْوِهِ دُونَ الْأَسْفَارِ الْمَخُوفَةِ وَالطَّوِيلَةِ .
أَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ ، حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ كَجٍّ وَأَقَرَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَحَّحُوا أَنَّ النِّسَاءَ يُؤْمَرْنَ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ وَالتَّمْيِيزِ فِي الْحَمَّامِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا هُنَاكَ كَالضَّرُورِيِّ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِهِ بِخِلَافِ مَا هُنَا .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَيَنْبَغِي مَنْعُهُمْ مِنْ خِدْمَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ ( وَيُلْجَأُ ) الذِّمِّيُّ عِنْدَ زَحْمَةِ الْمُسْلِمِينَ ( إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ ) بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ وَلَا يَصْدِمُهُ جِدَارٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ } .
أَمَّا إذَا خَلَتْ الطَّرِيقُ عَنْ الزَّحْمَةِ فَلَا حَرَجَ ، قَالَ فِي الْحَاوِي : وَلَا يَمْشُونَ إلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ .

وَلَا يُوَقَّرُونَ ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجْلِسٍ .
( وَلَا يُوَقَّرُونَ وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجْلِسٍ ) فِيهِ مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّهُمْ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ تَحْرِيمُ ذَلِكَ .
فَائِدَةٌ : دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ عَلَى الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ ، وَكَانَ إلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ فَوَعَظَ الطُّرْطُوشِيُّ الْأَمِيرَ حَتَّى بَكَى ، ثُمَّ أَنْشَدَ : يَا ذَا الَّذِي طَاعَتُهُ قُرْبَةٌ وَحُبُّهُ مُفْتَرَضٌ وَاجِبُ إنَّ الَّذِي شَرُفْتَ مِنْ أَجَلِهِ - أَيْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ هَذَا - أَيْ النَّصْرَانِيُّ - أَنَّهُ كَاذِبُ فَأَقَامَهُ الْأَفْضَلُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، هَكَذَا كَانَتْ الْعُلَمَاءُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُلُوكِ .

وَتَحْرُمُ مَوَدَّةُ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِنْ قِيلَ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ أَنَّ مُخَالَطَتَهُ مَكْرُوهَةٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ تَرْجِعُ إلَى الظَّاهِرِ ، وَالْمَوَدَّةَ إلَى الْمِيلِ الْقَلْبِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمِيلُ الْقَلْبِيُّ لَا اخْتِيَارَ لِلشَّخْصِ فِيهِ ؟ .
أُجِيبَ بِإِمْكَانِ رَفْعِهِ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا مِيلُ الْقَلْبِ ، كَمَا قِيلَ : الْإِسَاءَةُ تَقْطَعُ عُرُوقَ الْمَحَبَّةِ .

وَيُؤْمَرُ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ فَوْقَ الثِّيَابِ .

( وَيُؤْمَرُ ) الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ الْمُكَلَّفَانِ فِي الْإِسْلَامِ وُجُوبًا ( بِالْغِيَارِ ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَنْ يَخِيطَ كَلٌّ مِنْهُمَا بِمَوْضِعٍ لَا يُعْتَادُ الْخَيَّاطَةُ عَلَيْهِ ، كَالْكَتِفِ عَلَى ثَوْبِهِ الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ ثَوْبِهِ وَيَلْبِسهُ ، وَذَلِكَ لِلتَّمْيِيزِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَفْعَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ ، مَعْرُوفِينَ ، فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَخَافُوا مِنْ الْتِبَاسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إلَى تَمْيِيزِهِمْ وَإِلْقَاءِ مِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ كَالْخِيَاطَةِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَإِنْ اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَالْأَوْلَى بِالْيَهُودِ : الْأَصْفَرُ ، وَبِالنَّصَارَى : الْأَزْرَقُ وَالْأَكْهَبُ ، وَيُقَالُ لَهُ الرَّمَادِيُّ ، وَبِالْمَجُوسِ الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَسْوَدُ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْلَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ا هـ .
وَيَكْفِي عَنْ الْخِيَاطَةِ الْعِمَامَةُ كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ .
أَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ فَلَهُمْ تَرْكُ الْغِيَارِ كَمَا قَالَهُ فِي الْبَحْرِ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ ( وَ ) يُؤْمَرُ الذِّمِّيُّ أَيْضًا بِشَدِّ ( الزُّنَّارِ ) وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ : خَيْطٌ غَلِيظٌ يُشَدُّ فِي الْوَسَطِ ( فَوْقَ الثِّيَابِ ) ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، هَذَا فِي الرَّجُلِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَشُدُّهُ تَحْتَ الْإِزَارِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ ، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ ، لَكِنْ مَعَ ظُهُورِ بَعْضِهِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ فَائِدَةٌ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْأَلْوَانِ .
قَالَ فِي أَصْلِ

الرَّوْضَةِ : وَلَيْسَ لَهُمْ إبْدَالُهُ بِمِنْطَقَةٍ وَمِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِمَا ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ أَوْلَى ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ، وَمَنْ لَبِسَ مِنْهُمْ قَلَنْسُوَةً يُمَيِّزُهَا عَنْ قَلَانِسِنَا بِعَلَامَةٍ فِيهَا .

وَإِذَا دَخَلَ حَمَّامًا فِيهِ مُسْلِمُونَ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ خَاتَمَ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ وَنَحْوُهُ .
( وَإِذَا دَخَلَ ) الذِّمِّيُّ مُتَجَرِّدًا ( حَمَّامًا ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ ( فِيهِ مُسْلِمُونَ أَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ ) بَيْنَ مُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ ( جَعَلَ ) وُجُوبًا ( فِي عُنُقِهِ خَاتَمَ حَدِيدٍ ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا ( أَوْ رَصَاصٍ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَقَوْلُهُ ( وَنَحْوُهُ ) مَرْفُوعٌ بِخَطِّهِ ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى خَاتَمٍ لَا رَصَاصٍ ، وَأَرَادَ بِنَحْوِ الْخَاتَمِ الْجُلْجُلَ وَنَحْوَهُ ، وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الرَّصَاصِ ، وَيُرَادُ حِينَئِذٍ بِنَحْوِهِ النُّحَاسُ وَنَحْوُهُ ، بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالْخَاتَمُ طَوْقٌ يَكُونُ فِي الْعُنُقِ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ النِّسَاءَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِهِنَّ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ ، وَالْأَصَحُّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ فِي الدِّينِ ، وَتَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ مَالَهُ بِهَذَا تَعَلُّقٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دُخُولِ الْمُسْلِمَاتِ الْحَمَّامَ فِي بَابِ الْغُسْلِ .
.

وَيُمْنَعُ مِنْ إسْمَاعِهِ الْمُسْلِمِينَ شِرْكًا ، وَقَوْلَهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ ، وَمِنْ إظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ وَعِيدٍ .

فُرُوعٌ : لَوْ لَبِسَ الذِّمِّيُّ الْحَرِيرَ وَتَعَمَّمَ أَوْ تَطَيْلَسَ لَمْ يُمْنَعْ كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ رَفِيعِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ التَّشَبُّهِ بِلِبَاسِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ ، لَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعَاظُمِ وَالتِّيهِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيُمْنَعُونَ مِنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، لَمَا فِيهِ مِنْ التَّطَاوُلِ وَالْمُبَاهَاةِ ، وَتَجْعَلُ الْمَرْأَةُ خُفَّهَا لَوْنَيْنِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، بَلْ يَكْفِي بَعْضُهَا .
قَالَ الْحَلِيمِيُّ : وَلَا يَنْبَغِي لِفَعَلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَصُيَّاغِهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا لِلْمُشْرِكِينَ كَنِيسَةً أَوْ صَلِيبًا .
وَأَمَّا نَسْجُ الزَّنَانِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لَهُمْ ( وَيُمْنَعُ ) الْكَافِرُ ( مِنْ إسْمَاعِهِ الْمُسْلِمِينَ ) قَوْلًا ( شِرْكًا ) كَقَوْلِهِمْ : اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( وَقَوْلَهُمْ ) بِالنَّصْبِ بِخَطِّهِ عَطْفًا عَلَى شِرْكًا ( فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى بَقِيَّةِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَمِنْ إظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ ) وَهُوَ مَا تَضْرِبُ بِهِ النَّصَارَى لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ( وَعِيدٍ ) وَمِنْ إظْهَارِ قِرَاءَتِهِمْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْكُفْرِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا وَمَتَى أَظْهَرُوا خُمُورَهُمْ أُرِيقَتْ ، وَقِيَاسُهُ إتْلَافُ النَّاقُوسِ إذَا أَظْهَرُوهُ ، وَإِذَا فَعَلُوا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ ، وَذَلِكَ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ عِنْدَهُمْ كَشَرْعِنَا ، بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ

بِشُرْبِهِ فِي الْأَصَحِّ ، وَفُهِمَ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَكَذَا إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ .

وَلَوْ شُرِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فَخَالَفُوا لَمْ يُنْتَقَضْ الْعَهْدُ .
فُرُوعٌ : يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ إظْهَارِ دَفْنِ مَوْتَاهُمْ ، وَمِنْ النَّوْحِ وَاللَّطْمِ ، وَمِنْ إسْقَاءِ مُسْلِمٍ خَمْرًا ، وَمِنْ إطْعَامِهِ خِنْزِيرًا ، وَمِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ اسْتِبْذَالِهِمْ إيَّاهُمْ فِي الْخِدْمَةِ بِأُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا ، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عُزِّرُوا ، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي الْعَقْدِ ( وَلَوْ شُرِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ ) مِنْ إحْدَاثِ الْكَنِيسَةِ فَمَا بَعْدَهُ فِي الْعَقْدِ : أَيْ شَرْطُ نَفْيِهَا ( فَخَالَفُوا ) ذَلِكَ بِإِظْهَارِهَا ( لَمْ يُنْتَقَضْ الْعَهْدُ ) بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا بِخِلَافِ الْقِتَالِ وَنَحْوِهِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَحَمَلُوا الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ عَلَى تَخْوِيفِهِمْ .

وَلَوْ قَاتَلُونَا أَوْ امْتَنَعُوا مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ إجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ .
( وَلَوْ قَاتَلُونَا ) وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ ( أَوْ امْتَنَعُوا مِنْ ) أَدَاءِ ( الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ إجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ ) عَلَيْهِمْ ( انْتَقَضَ ) عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِمْ الِانْتِقَاضُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ .
أَمَّا إذَا كَانَتْ شُبْهَةٌ كَأَنْ أَعَانُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَادْعُوَا الْجَهْلَ أَوْ صَالَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَلَصِّصِي الْمُسْلِمِينَ وَقُطَّاعِهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ دَفْعًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ أَصْلِ الْجِزْيَةِ أَوْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى الدِّينَارِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْقَادِرِ .
أَمَّا الْعَاجِزُ إذَا اُسْتُمْهِلَ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا يَبْعُدُ أَخْذُهَا مِنْ الْمُوسِرِ قَهْرًا وَلَا يُنْتَقَضُ وَيُخَصُّ بِالْمُتَغَلِّبِ الْمُقَاتِلُ وَأَقَرَّهُ الرَّافِعِيُّ قَالَ الْإِمَامُ : وَإِنَّمَا يُؤْثَرُ عَدَمُ الِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِقُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَنَصْبٍ لِلْقِتَالِ .
وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ هَارِبًا فَلَا يُنْتَقَضُ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ .

وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ ، أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ ، أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ ، أَوْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوءٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا اُنْتُقِضَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَمَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ جَازَ دَفْعُهُ ، وَقَتْلُهُ أَوْ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ فِي الْأَظْهَرِ ، بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا وَرِقًّا وَمَنًّا وَفِدَاءً ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ امْتَنَعَ الرِّقُّ .

( وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ ) مَعَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهَا حَالَ الزِّنَا ، وَسَيَأْتِي جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَالْأَصَحُّ إلَخْ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّانِي بِإِسْلَامِهَا كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى كَافِرَةٍ فَأَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَأَصَابَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ ( أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ ) أَيْ بِاسْمِهِ أَوْ لَاطَ بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا قَتْلًا يُوجِبُ قِصَاصًا ، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ عَلَيْهِ كَذِمِّيٍّ حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا عَلَى مُسْلِمٍ ( أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ ) أَيْ خَلَلٍ ( لِلْمُسْلِمِينَ ) الْمَوْجُودِ فِيهِمْ بِسَبَبِ ضَعْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ آوَى جَاسُوسًا لَهُمْ ( أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ ) أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا أَوْ دَعَاهُ إلَى دِينِهِمْ ( أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ ) سَبَّ اللَّهَ أَوْ ( ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ ( بِسُوءٍ ) مِمَّا لَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ جَهْرًا ( فَالْأَصَحُّ ) فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ( أَنَّهُ إنْ شُرِطَ ) عَلَيْهِمْ ( انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا اُنْتُقِضَ ، وَإِلَّا فَلَا ) يُنْتَقَضُ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَهَذَا مَا فِي الْمُحَرَّرِ ، وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ، وَالثَّانِي يُنْتَقَضُ مُطْلَقًا ، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَالثَّالِثُ لَا يُنْتَقَضُ مُطْلَقًا ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ تَصْحِيحُهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ نَكَحَ كَافِرَةً ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ مُطْلَقًا ، فَقَدْ يُسْلِمُ فَيَسْتَمِرُّ نِكَاحُهُ ، أَمَّا مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ كَقَوْلِهِمْ : الْقُرْآنُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، أَوْ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ ، فَلَا انْتِقَاضَ بِهِ مُطْلَقًا وَيُعَزَّرُونَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ شَرَطَ

عَلَيْهِ الِانْتِقَاضَ بِذَلِكَ ثُمَّ قُتِلَ بِمُسْلِمٍ أَوْ بِزِنَاهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مُحْصَنًا بِمُسْلِمَةٍ صَارَ مَالُهُ فَيْئًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْتُولٌ تَحْتَ أَيْدِينَا لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ لِأَقَارِبِهِ الذِّمِّيِّينَ لِعَدَمِ التَّوَارُثِ ، وَلَا لِلْحَرْبِيِّينَ ؛ لِأَنَّا إذَا قَدَرْنَا عَلَى مَالِهِمْ أَخَذْنَاهُ فَيْئًا أَوْ غَنِيمَةً ، وَشَرْطُ الْغَنِيمَةِ هُنَا لَيْسَ مَوْجُودًا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَوْ أَشْكَلَ الْحَالُ فِي شَرْطِ مَا ذُكِرَ وَعَدَمِهِ ، لَكِنْ قَالَ فِي الِانْتِصَارِ : يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ فِي مُطْلَقِ الشَّرْعِ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ ( وَمَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ جَازَ دَفْعُهُ ) بِغَيْرِهِ ( وَ ) جَازَ أَيْضًا ( قَتْلُهُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَلَا يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ مَعَ نَصْبِهِ الْقِتَالَ ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيمَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ مِنْ الْأَحْرَارِ الْكَامِلِينَ كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي الْأَسِيرِ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْجَوَازِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجِهَادَ عِنْدَ دُخُولِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي كَانَتْ لَهَا ذِمَّةٌ ثُمَّ انْتَقَضَتْ ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ : فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِمْ وَالسَّعْيِ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ ( أَوْ ) انْتَقَضَ عَهْدُهُ ( بِغَيْرِهِ ) أَيْ الْقِتَالِ وَلَمْ يَسْأَلْ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ ( لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ ) بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ : أَيْ مَكَانًا يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) وَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ : أَقْرَبُ بِلَادِ الْحَرْبِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَلْزَمُنَا إلْحَاقُهُ بِبَلَدِهِ الَّذِي

يَسْكُنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ بِلَادِ الْكُفْرِ وَمَسْكَنِهِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُحْتَاجُ لِلْمُرُورِ عَلَيْهِ ( بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا ) وَأَسْرًا ( وَرِقًا ، وَمَنًّا ، وَفِدَاءً ) ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ كَالْحَرْبِيِّ .
وَالثَّانِي يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ قَبْلَ الرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ : كَمَا لَوْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بِأَمَانِ صَبِيٍّ يَعْتَقِدُ لِنَفْسِهِ أَمَانًا ، وَهَذَا فَعَلَ بِاخْتِيَارِهِ مَا أَوْجَبَ الِانْتِقَاضَ ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَوْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَقَمْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِّ ، وَمِثْلُهُ التَّعْزِيرُ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أَنَّهُ صَلَبَ يَهُودِيًّا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ " ، أَمَّا إذَا سَأَلَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ فَتَجِبُ إجَابَتُهُ ( فَإِنْ أَسْلَمَ ) مَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ ( قَبْلَ الِاخْتِيَارِ ) مِنْ الْإِمَامِ لِشَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ ( امْتَنَعَ ) الْقَتْلُ ، وَ ( الرِّقُّ ) وَالْفِدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْقَهْرِ ، وَلَهُ أَمَانٌ مُتَقَدِّمٌ فَخَفَّ أَمْرُهُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ تَعَيَّنَ مَنْ كَانَ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ .

وَإِذَا بَطَلَ أَمَانُ رِجَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَمَانُ نِسَائِهِمْ وَالصَّبِيَّانِ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِذَا اخْتَارَ ذِمِّيٌّ نَبْذَ الْعَهْدِ وَاللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَلَغَ الْمَأْمَنَ .

( وَإِذَا بَطَلَ أَمَانُ رِجَالٍ لَمْ يَبْطُلْ أَمَانُ نِسَائِهِمْ ، وَ ) أَمَانُ ( الصَّبِيَّانِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ الْأَمَانُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ نَاقِضٌ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِي دَارِنَا .
وَالثَّانِي يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا تَبَعًا فَيَزُولُ بِزَوَالِ الْأَصْلِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ طَلَبُوا الرُّجُوعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ .
أُجِيبَ النِّسَاءُ دُونَ الصِّبْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَإِنْ طَلَبَهُمْ مُسْتَحِقُّ الْحَضَانَةِ أُجِيبَ ، فَإِنْ بَلَغُوا وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ فَذَاكَ ، وَإِلَّا أُلْحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ .
تَنْبِيهٌ : الْخَنَاثَى كَالنِّسَاءِ ، وَالْمَجَانِينُ كَالصِّبْيَانِ وَالْإِفَاقَةُ كَالْبُلُوغِ ( وَإِذَا اخْتَارَ ذِمِّيٌّ نَبْذَ الْعَهْدِ وَاللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَلَغَ ) عَلَى الْمَذْهَبِ ( الْمَأْمَنَ ) السَّابِقَ تَفْسِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ خِيَانَةٌ ، وَلَا مَا يُوجِبُ نَقْضَ عَهْدِهِ فَبَلَغَ مَكَانًا يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَوْ رَجَعَ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى بِلَادِهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِتِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، وَإِنْ رَجَعَ لِلِاسْتِيطَانِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ ، وَلَوْ رَجَعَ وَمَاتَ فِي بِلَادِهِ وَاخْتَلَفَ الْوَارِثُ وَالْإِمَامُ هَلْ انْتَقَلَ لِلْإِقَامَةِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ .
أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ الْإِقَامَةُ .
فَائِدَةٌ : رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَعَتَقْت أَخْوَالَهُ ، وَلَوَضَعْت الْجِزْيَةَ عَنْ كُلِّ قِبْطِيٍّ } وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَلَّمَ مُعَاوِيَةَ فِي أَهْلِ قَرْيَةِ أُمِّ إبْرَاهِيمَ فَسَامَحَهُمْ بِالْجِزْيَةِ إكْرَامًا لِسَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا بَاطِلٌ .

خَاتِمَةٌ : الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ اسْمَ مَنْ عَقَدَ لَهُ وَدِينَهُ وَحِلْيَتَهُ ، وَيَتَعَرَّضَ لِسِنِّهِ أَهُوَ شَيْخٌ أَمْ شَابٌّ ، وَيَصِفَ أَعْضَاءَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبِيهِ وَعَيْنَيْهِ وَشَفَتَيْهِ وَأَنْفِهِ وَأَسْنَانِهِ وَآثَارِ وَجْهِهِ إنْ كَانَ فِيهِ آثَارٌ وَلَوْنُهُ مِنْ سُمْرَةٍ وَشُقْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَيَجْعَلَ لِكُلٍّ مِنْ طَوَائِفِهِمْ عَرِيفًا مُسْلِمًا يَضْبِطُهُمْ لِيُعَرِّفَهُ بِمِنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ مِنْهُمْ أَوْ دَخَلَ فِيهِمْ .
وَأَمَّا مَنْ يَحْضُرُهُمْ لِيُؤَدِّيَ كُلٌّ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ ، أَوْ يَشْتَكِي إلَى الْإِمَامِ مَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ عَرِّيفًا كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ إسْلَامُهُ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ .
.

عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إقْلِيمٍ يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا ، وَلِبَلْدَةٍ يَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ أَيْضًا .

بَابُ الْهُدْنَةِ وَتُسَمَّى الْمُوَادَعَةَ وَالْمُعَاهَدَةَ وَالْمُسَالَمَةَ وَالْمُهَادَنَةَ ، وَهِيَ لُغَةً الْمُصَالَحَةُ .
وَشَرْعًا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعِينَةً بَعُوضٍ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِيهِمْ مَنْ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَمَنْ لَمْ يُقَرَّ ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهُدُونِ ، وَهُوَ السُّكُونُ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الْآيَةَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ، وَمُهَادَنَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( عَقْدُهَا لِكُفَّارِ إقْلِيمٍ ) كَالرُّومِ وَالْهِنْدِ ( يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِيهَا ) أَيْ عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ ، وَالْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ الْعِظَامَ ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْآحَادِ ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَلَا يَقُومُ إمَامُ الْبُغَاةِ مَقَامَ إمَامِ الْهُدْنَةِ فِي ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ مَنْعِ عَقْدِهَا مِنْ الْآحَادِ لِأَهْلِ إقْلِيمٍ مَنْعُ عَقْدِهَا لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا مِنْ بَابٍ أَوْلَى ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُحَرَّرِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، فَإِنْ تَعَاطَاهَا الْآحَادُ لَمْ يَصِحَّ ، لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ بَلْ يَبْلُغُونَ الْمَأْمَنَ ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ أَمَانِهِ ( وَ ) عَقْدُهَا ( لِبَلْدَةٍ ) أَيْ كُفَّارِهَا ( يَجُوزُ لِوَالِي الْإِقْلِيمِ ) لِتِلْكَ الْبَلْدَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْإِقْلِيمِ إلَيْهِ ، وَلِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَالْمَفْسَدَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ لَوْ أَخْطَأَ ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ ( أَيْضًا ) أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ لِكُفَّارِ بَلْدَةٍ مِنْ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَيْضًا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْقُصُورُ عَلَى

بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى مُهَادَنَةِ أَهْلِ بِلَادٍ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ وَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ فُهِمَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِعَقْدِهَا اعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، لَكِنْ عَلَى كَيْفِيَّةِ مَا سَبَقَ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ : أَنَّ وَالِيَ الْإِقْلِيمِ لَا يُهَادِنُ جَمِيعَ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الْعِمْرَانِيِّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ لِلْوَالِي فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ ، لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَالْإِقْلِيمُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَحَدُ الْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ الَّتِي فِي الرُّبْعِ الْمَسْكُونِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَأَقَالِيمُهَا أَقْسَامُهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَقْسُومَةٌ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ عَلَى تَقْدِيرِ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ .
.

وَإِنَّمَا تُعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ كَضَعْفِنَا بِقِلَّةِ عَدَدٍ وَأُهْبَةٍ أَوْ رَجَاءِ إسْلَامِهِمْ أَوْ بَذْلِ جِزْيَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا سَنَةً ، وَكَذَا دُونَهَا فِي الْأَظْهَرِ ، وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ فَقَطْ ، وَمَتَى زَادَ عَلَى الْجَائِزِ فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَإِطْلَاقُ الْعَهْدِ يُفْسِدُهُ

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَإِنَّمَا تُعْقَدُ لِمَصْلَحَةٍ ) وَلَا يَكْفِي انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ بِلَا مَصْلَحَةٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصْلَحَةَ بِقَوْلِهِ ( كَضَعْفِنَا بِقِلَّةِ عَدَدٍ ) لَنَا ( وَأُهْبَةٍ ، أَوْ ) لَا لِضَعْفِنَا ، بَلْ لِأَجْلِ ( رَجَاءِ إسْلَامِهِمْ ، أَوْ بَذْلِ جِزْيَةٍ ) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْإِمَامِ إلَى إعَانَتِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَادَنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَامَ الْفَتْحِ } وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِ ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ مُضِيِّهَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : أَوْ رَجَاءِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَضَعْفِنَا ، لَا عَلَى الَّذِي يَلِيهِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا قَدَّرْتُهُ ، فَكَانَ يَنْبَغِي إعَادَةُ الْجَارِ فِيهِ : أَيْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَارَةً تَكُونُ لِضَعْفِنَا لِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْأُهْبَةِ ، وَتَارَةً مَعَ قُوَّتِنَا ، وَلَكِنْ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) بِنَا ضَعْفٌ وَرَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِيهَا ( جَازَتْ ) وَلَوْ بِلَا عِوَضٍ ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) لِلْآيَةِ الْمَارَّةِ ، وَلِمُهَادَنَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْوَانَ كَمَا مَرَّ ( لَا سَنَةً ) فَلَا يَجُوزُ جَزْمًا ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَلَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ فِيهَا بِلَا جِزْيَةٍ ( وَكَذَا دُونَهَا ) فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِزِيَادَتِهَا عَلَى مُدَّةِ السِّيَاحَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } هُوَ عَامٌّ إلَّا مَا خُصَّ لِدَلِيلٍ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ .
وَالثَّانِي يَجُوزُ لِنَقْصِهَا عَنْ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ ، وَالْأَوَّلُ نَظَرَ إلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ

فِي النُّفُوسِ .
أَمَّا أَمْوَالُهُمْ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا ، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدِّيَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا الْجَوَازُ .
وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ الْمُهَادَنَةَ مَعَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ ( وَلِضَعْفٍ تَجُوزُ عَشْرَ سِنِينَ ) فَمَا دُونَهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ( فَقَطْ ) فَيُمْتَنَعُ أَكْثَرُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا غَايَةُ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الْوُصُولُ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْوَى الْإِسْلَامُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ جَرَى فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى عَشْرٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ ، لَكِنْ إنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ اُسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .
وَأَمَّا اسْتِئْنَافُ عَقْدٍ إثْرَ عَقْدٍ كَمَا قَالَهُ الْفُورَانِيُّ فَغَرِيبٌ لَا أَحْسَبُ الْأَصْحَابَ يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ أَصْلًا .
انْتَهَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَإِذَا عَقَدَ لَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ اسْتَقْوَيْنَا قَبْلَ فَرَاغِهَا تَمَّتْ لَهُمْ عَمَلًا بِالْعَقْدِ ( وَمَتَى زَادَ ) الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي عَقْدِهَا ( عَلَى ) الصَّدْرِ ( الْجَائِزِ ) فِيهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ بِأَنْ زَادَ فِي حَالِ قُوَّتِنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، أَوْ حَالِ ضَعْفِنَا عَلَى عَشْرِ سِنِينَ ( فَقَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ) فِي عَقْدِهَا ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ، أَظْهَرُهُمَا يَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ فَقَطْ ( وَإِطْلَاقُ الْعَهْدِ ) عَنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهِ ( يُفْسِدُهُ ) أَيْ عَقَدَ الْهُدْنَةِ لِاقْتِضَائِهِ التَّأْبِيدَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمُنَافَاةِ مَقْصُودِهِ الْمَصْلَحَةَ .
.

وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنْ شَرَطَ مَنْعَ فَكِّ أَسْرَانَا ، أَوْ تَرْكَ مَالِنَا لَهُمْ ، أَوْ لِتُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ بِدُونِ دِينَارٍ ، أَوْ بِدَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ بِقَوْلِهِ ( وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ) أَيْ يُشْتَرَطُ خُلُوُّ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مِنْ كُلِّ شَرْطٍ فَاسِدٍ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ ( بِأَنْ شَرَطَ مَنْعَ فَكِّ أَسْرَانَا ) مِنْهُمْ ( أَوْ تَرْكَ مَالِنَا ) الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بَحْثًا : أَوْ مَالِ ذِمِّيٍّ ( لَهُمْ أَوْ لِتُعْقَدَ لَهُمْ ) أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ( ذِمَّةٌ بِدُونِ دِينَارٍ ، أَوْ ) لِتُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ ( بِدَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ ) وَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى بِدُونِ ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ انْحِصَارَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِيمَا ذَكَرَهُ .
وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَمِنْهُ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُقِيمُوا بِالْحِجَازِ ، أَوْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ ، أَوْ يُظْهِرُوا الْخُمُورَ فِي دَارِنَا ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، فَلَوْ أَتَى الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ كَانَ أَوْلَى .
وَالْأَصْلُ فِي مَنْعِ مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } وَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ إهَانَةٌ يَنْبُو الْإِسْلَامُ عَنْهَا .
أَمَّا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِهِ بِأَنْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْأَسْرَى فَفَدَيْنَاهُمْ ، أَوْ أَحَاطُوا بِنَا وَخِفْنَا الِاصْطِلَامَ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَتَصْحِيحُهُ وُجُوبُ الْبَذْلِ هُنَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ آخِرَ السِّيَرِ : إنَّ فَكَّ الْأَسْرَى مُسْتَحَبٌّ .
انْتَهَى ، وَحَمَلَ الْبُلْقِينِيُّ اسْتِحْبَابَ فَكِّ الْأَسْرَى عَلَى مَا إذَا لَمْ يُعَاقَبُوا ، فَإِنْ عُوقِبُوا وَجَبَ ، وَحَمَلَ الْغَزِّيُّ الِاسْتِحْبَابَ عَلَى الْآحَادِ ، وَالْوُجُوبَ عَلَى الْإِمَامِ وَهَذَا أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : إذَا عَقَدْنَا لَهُمْ عَلَى دَفْعِ مَالٍ إلَيْهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ هَلْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ أَوْ لَا ؟ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : عِبَارَةُ كَثِيرٍ تُفْهِمُ صِحَّتَهُ ، وَهُوَ بَعِيدٌ ، وَالظَّاهِرُ بُطْلَانُهُ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ انْتَهَى ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَا أُعْطِيَ لَهُمْ

لِأَخْذِهِمْ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ .

وَتَصِحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ مَتَى شَاءَ .
( وَتَصِحُّ الْهُدْنَةُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ مَتَى شَاءَ ) لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَقَالَ : أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ الْآنَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ الْإِمَامِ ، بَلْ لَوْ قَالَ مَتَى شَاءَ فُلَانٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ عَدْلٌ ذُو رَأْيٍ صَحَّ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَا شَاءَ فُلَانٌ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ .
.

فَصْل وَمَتَى صَحَّتْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَوْ يَنْقُضُوهَا بِتَصْرِيحٍ أَوْ قِتَالِنَا ، أَوْ مُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ لَنَا ، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ ، وَإِذَا انْتَقَضَتْ جَازَتْ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتُهُمْ ، وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ انْتَقَضَ فِيهِمْ أَيْضًا ، وَإِنْ أَنْكَرُوا بِاعْتِزَالِهِمْ أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ فَلَا ، وَلَوْ خَافَ خِيَانَتَهُمْ فَلَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ وَيُبْلِغُهُمْ الْمَأْمَنَ ، وَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ فَقَالَ ( وَمَتَى صَحَّتْ وَجَبَ ) عَلَى عَاقِدِهَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ( الْكَفُّ ) وَدَفْعُ الْأَذَى مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ( عَنْهُمْ ) وَفَاءً بِالْعَهْدِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } أَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَلَا يَلْزَمُنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ وَلَا مَنْعُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْهُدْنَةِ الْكَفُّ لَا الْحِفْظُ بِخِلَافِ الذِّمَّةِ .
نَعَمْ إنْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّونَ مَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَظَفِرْنَا بِهِ رَدَدْنَاهُ إلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا اسْتِنْقَاذُهُ وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ ( حَتَّى تَنْقَضِيَ ) مُدَّتُهَا ( أَوْ يَنْقُضُوهَا ) أَوْ يَنْقُضَهَا الْإِمَامُ إذَا عُلِّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ ، وَكَذَا غَيْرُهُ إذَا عُلِّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ } وَنَقْضُهُمْ لَهَا يَكُونُ مَعَ مَا مَرَّ آنِفًا ( بِتَصْرِيحٍ ) مِنْهُمْ ( أَوْ قِتَالِنَا ) حَيْثُ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ .
فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ كَأَنْ أَعَانُوا الْبُغَاةَ مُكْرَهِينَ فَلَا يُنْتَقَضُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( أَوْ مُكَاتَبَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِعَوْرَةٍ ) أَيْ خَلَلٍ ( لَنَا ) وَقَوْلُهُ ( أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ ) يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَلَا يَنْحَصِرُ الِانْتِقَاضُ فِيمَا ذَكَرَهُ ، بَلْ تُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ ، مِنْهَا لَوْ سَبُّوا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي انْتِقَاضِ الذِّمَّةِ بِهِ تُنْتَقَضُ الْهُدْنَةُ جَزْمًا ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ ضَعِيفَةٌ غَيْرُ مُتَأَكَّدَةٍ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ صَحَتْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يَجِبُ إنْذَارُهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْعَقْدَ الثَّانِيَ فَاسِدًا ، فَإِنْ

كَانَ فَسَادٌ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَفْسَخْهُ ، وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَسْخَهُ ( وَإِذَا انْتَقَضَتْ ) أَيْ الْهُدْنَةُ وَهُوَ بِبِلَادِهِمْ ( جَازَتْ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ وَبَيَاتُهُمْ ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَوَّلَهُ .
وَهُوَ الْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ لَيْلًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ، سَوَاءٌ أَعْلِمُوا أَنَّهُ نَاقِضٌ أَمْ لَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } الْآيَةَ ، وَلِأَنَّهُمْ صَارُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الْهُدْنَةِ .
أَمَّا إذَا كَانُوا بِبِلَادِنَا فَلَا نُقَاتِلُهُمْ : بَلْ نُبْلِغُهُمْ الْمَأْمَنَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( وَلَوْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ ) الْهُدْنَةَ بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ ( وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ ) عَلَيْهِمْ ( بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ ) بِأَنْ سَكَتُوا وَلَمْ يَعْتَزِلُوهُمْ ( انْتَقَضَ فِيهِمْ ) أَيْ الْبَاقِينَ ( أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ يُشْعِرُ بِالرِّضَا فَجُعِلَ نَقْضًا مِنْهُمْ كَمَا أَنَّ هُدْنَةَ الْبَعْضِ وَسُكُوتَ الْبَاقِينَ هُدْنَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ فَلَيْسَ نَقْضُهُ مِنْ بَعْضِهِمْ نَقْضًا مِنْ الْكُلِّ لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِ الْهُدْنَةِ ( وَإِنْ أَنْكَرُوا بِاعْتِزَالِهِمْ ) عَنْهُمْ ( أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ ) أَيْ إعْلَامِ الْبَعْضِ الْمُنْكَرِينَ الْإِمَامَ ( بِبَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ ، فَلَا ) يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِي حَقِّهِمْ ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِضُ رَئِيسَهُمْ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ } فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ اعْتِزَالٍ أَوْ إعْلَامِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ فَنَاقِضُونَ بِخِلَافِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا أَتَى بِمِثَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْكَارٌ فِعْلِيٌّ ، وَالثَّانِي قَوْلِيٌّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكَرِ النَّقْضِ بِيَمِينِهِ .
( وَلَوْ خَافَ ) الْإِمَامُ ( خِيَانَتَهُمْ ) بِظُهُورِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ لَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ ( فَلَهُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ إلَيْهِمْ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً } الْآيَةَ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ الْخِيَانَةَ لَا يَجُوزُ نَبْذُ عَهْدِهِمْ ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ عَقْدَهَا لَازِمٌ ( وَ ) يُنْذِرهُمْ بَعْدَ نَبْذِ عَهْدِهِمْ ، وَ ( يُبْلِغُهُمْ ) وُجُوبًا ( الْمَأْمَنَ ) بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَفَاءً بِالْعَهْدِ ، وَسَبَقَ تَفْسِيرُ الْمَأْمَنِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ ( وَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِتُهَمَةٍ ) بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ : أَيْ بِمُجَرَّدِهَا عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْإِمَامِ خِيَانَتَهُمْ بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ يُغَلَّبُ جَانِبُهُمْ ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ إذَا طَلَبُوا ، وَفِي الْهُدْنَةِ يُغَلَّبُ جَانِبُنَا ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ .
الثَّانِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ خِيَانَتُهُمْ أَمْكَنَهُ تَدَارُكهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ .
الثَّالِثُ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .

وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَأْتِينَا مِنْهُمْ ، فَإِنْ شُرِطَ فَسَدَ الشَّرْطُ وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَجُوزُ ) فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ ( شَرْطُ رَدِّ مُسْلِمَةٍ تَأْتِينَا مِنْهُمْ ) وَإِنْ أَسْلَمَتْ عِنْدنَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهَا زَوْجُهَا الْكَافِرُ أَوْ تُزَوَّجَ بِكَافِرٍ ، وَلِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ الْهَرَبِ مِنْهُمْ وَقَرِيبَةٌ مِنْ الِافْتِتَانِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهَا .
تَنْبِيهٌ : لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ، وَبَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ ، وَلَوْ أَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ تَأْتِينَا لَكَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ جَاءَتْ إلَيْنَا كَافِرَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ( فَإِنْ شُرِطَ ) فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ رَدُّ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ ( فَسَدَ الشَّرْطُ ) قَطْعًا ، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهَا عَشِيرَةٌ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ حَرَامًا ( وَكَذَا الْعَقْدُ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ لِفَسَادِ الشَّرْطِ .
وَالثَّانِي لَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ النِّكَاحِ وَهُوَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : هَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْمَارُّ فِي قَوْلِهِ : وَكَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّهُ ضَعَّفَهُ هُنَاكَ فَكَرَّرَ وَنَاقَضَ .
وَسَلِمَتْ الرَّوْضَةُ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ عَبَّرَ أَوَّلًا بِالصَّحِيحِ ، ثُمَّ أَحَالَ ثَانِيًا عَلَيْهِ ا هـ .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الشَّارِحُ فَقَالَ : وَأَشَارَ بِهِ : أَيْ بِالتَّعْبِيرِ بِالْأَصَحِّ إلَى قُوَّةِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَعَبَّرَ فِي صُوَرٍ تَقَدَّمَتْ بِالصَّحِيحِ إشَارَةً إلَى ضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهَا ، فَلَا تَكْرَارَ وَلَا تَخَالُفَ ا هـ .
وَخَرَجَ بِالْمُسْلِمَةِ الْكَافِرَةُ ، فَيَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهَا .

وَإِنْ شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ رَدًّا فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ إلَى زَوْجِهَا فِي الْأَظْهَرِ .

( وَإِنْ شَرَطَ ) الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَهُمْ ( رَدَّ مَنْ جَاءَ ) مِنْهُمْ ( مُسْلِمًا ) إلَيْنَا ( أَوْ ) عَقَدَ ، وَأَطْلَقَ بِأَنْ ( لَمْ يَذْكُرْ رَدًّا ) وَلَا عَدَمَهُ ( فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ ) مُسْلِمَةٌ ( لَمْ يَجِبْ دَفْعُ مَهْرٍ ) بِارْتِفَاعِ نِكَاحِهَا بِإِسْلَامِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ( إلَى زَوْجِهَا فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى يَشْمَلُهُ الْأَمَانُ ، وَالثَّانِي ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } : أَيْ مِنْ الْمُهُورِ ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُوبِ وَلِلنَّدْبِ الصَّادِقِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ ، وَرَجَّحُوهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَّا قَامِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا غُرْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَهْرَ ، فَلِأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَتْنَا مُسْلِمَةً .
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } فَغَرِمَ حِينَئِذٍ لِامْتِنَاعِ رَدِّهَا بَعْدَ شَرْطِهِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا يُسْتَحَقُّ الْمَهْرُ إذَا أَوْجَبْنَاهُ بِتِسْعِ شُرُوطٍ جَمَعَهَا الْمَاوَرْدِيُّ ، وَهِيَ مُفَرَّقَةٌ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ .
أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ زَوْجَهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إلَى زَوْجِهَا .
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ سَاقَ إلَيْهَا مَهْرَهَا .
الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ مُسْلِمَةً ، أَوْ جَاءَتْ ذِمِّيَّةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ .
الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً عَاقِلَةٌ .
الْخَامِسُ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةَ الْحَيَاةِ ، فَلَوْ مَاتَتْ قَبْلَ طَلَبِهِ فَلَا .
السَّادِسُ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي الْعِدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ شَيْءٌ قَطْعًا ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ : بَحْثًا ، وَنَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ : عَنْ نَصِّ الْأُمِّ .
السَّابِعُ أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى دِينِهِ لِيَكُونَ الْمَانِعُ مِنْهَا .
الثَّامِنُ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى النِّكَاحِ ، فَلَوْ خَالَعْنَا بَعْدَ الطَّلَبِ لَمْ يَسْقُطْ

حَقُّهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ .
التَّاسِعُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ إلَى بَلَدٍ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ، وَإِلَّا فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْعُهَا حِسْبَةً ، وَلَا يَغْرَمُونَ الْمَهْرَ وَلَا الْإِمَامُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدًّا عَمَّا إذَا شُرِطَ تَرْكُ الرَّدِّ ، فَإِنَّهُ لَا غُرْمَ قَطْعًا .

وَلَا يُرَدُّ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ ، وَكَذَا عَبْدٌ وَحُرٌّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَلَا يُرَدُّ ) مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَيْنَا وَهُوَ ( صَبِيٌّ ) وَصَفَ الْإِسْلَامَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، طَلَبَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ أَمْ لَا ( وَ ) لَا يُرَدُّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَيْنَا وَهُوَ ( مَجْنُونٌ ) بَالِغٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، طَرَأَ جُنُونُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، مُشْرِكًا أَمْ لَا لِضَعْفِهِمَا كَالنِّسَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِشَرْطِ رَدِّهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَجَّحَا فِي بَابِ اللَّقِيطِ أَنَّ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الصَّبِيِّ إذَا أَسْلَمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مُسْتَحَبَّةٌ وَاجِبَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانُوا فِي دَارِنَا ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي جَوَازِ رَدِّهِ إلَى الْكُفْرِ ، فَإِنَّهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اسْتِمَالَتِهِ وَرَدِّهِ إلَى الْكُفْرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدنَا ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ .
ثُمَّ وَصَفَا الْكُفْرَ رُدَّا ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَصِفَا شَيْئًا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَإِنْ وَصَفَا الْإِسْلَامَ لَمْ يَرُدَّا كَمَا لَوْ كَانَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، أَوْ وَقَعَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مِنْ الْجُنُونِ ، وَلَوْ شَكَكْنَا فِي أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ جُنُونِهِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُرَدَّ أَيْضًا ( وَكَذَا ) لَا يُرَدُّ ( عَبْدٌ ) مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ ( وَ ) كَذَا لَا يُرَدُّ ( حُرٌّ لَا عَشِيرَةَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَذَلُّ عِنْدَهُمْ كَالْعَبْدِ ، وَقِيلَ يُرَدَّانِ لِقُوَّتِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمَا ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالرَّدِّ فِي الْحُرِّ ، وَالْجُمْهُورُ بِعَدَمِهِ فِي الْعَبْدِ .
أَمَّا الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ وَلَوْ مُكَاتَبَةً وَمُسْتَوْلَدَةً فَلَا تُرَدُّ قَطْعًا .
.

وَيُرَدُّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ طَلَبَتْهُ إلَيْهَا لَا إلَى غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَقْدِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَّالِبِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ ، وَمَعْنَى الرَّدِّ : أَنْ يُخْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَالِبِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ ، وَلَهُ قَتْلُ الطَّالِبِ ، وَلَنَا التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ لَا التَّصْرِيحُ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ هَاجَرَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ أَوْ بَعْدَهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، وَلَوْ مُسْتَوْلَدَةً وَمُكَاتَبَةً ثُمَّ أَسْلَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ قَاهِرًا لِسَيِّدِهِ مَلَكَ نَفْسَهُ بِالْقَهْرِ فَيَعْتِقُ ، وَلِأَنَّ الْهُدْنَةَ لَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، فَبِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى نَفْسِهِ مَلَكَهَا ، وَيَعْتِقُ أَيْضًا إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ هَاجَرَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ لِوُقُوعِ قَهْرِهِ حَالَ الْإِبَاحَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا فَلَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْظُورَةٌ حِينَئِذٍ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُ بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ إلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسْتَرِقُّهُ وَيُهِينُهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ تَحْمِيهِ : بَلْ يُعْتِقُهُ السَّيِّدُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَأَعْتَقَهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ وَلَاؤُهُ ، وَكَالْمُهَاجَرَةِ الْهَرَبُ إلَى الْمَأْمَنِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هِجْرَتَهُ ؛ لِأَنَّ بِهَا يُعْلَمُ عِتْقُهُ غَالِبًا .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَتَبْقَى مُكَاتَبَةً إنْ لَمْ تُعْتَقْ ، فَإِنْ أَدَّتْ نُجُومَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ بِهَا وَوَلَاؤُهَا لِسَيِّدِهَا ، وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ وَقَدْ أَدَّتْ شَيْئًا مِنْ النُّجُومِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا قَبْلَهُ حَسَبَ مَا أَدَّتْهُ مِنْ قِيمَتِهَا ، فَإِنْ وَفِيَ بِهَا أَوْ زَادَ عَلَيْهَا عَتَقَتْ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْ سَيِّدِهَا الزَّائِدُ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا وُفِّيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ( وَيُرَدُّ مَنْ ) أَيْ حُرٌّ ( لَهُ عَشِيرَةٌ طَلَبَتْهُ ) أَنْ يُرَدَّ ( إلَيْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو } ، كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ : وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْهُ وَيَحْمُونَهُ .
تَنْبِيهٌ : هَلْ الِاعْتِبَارُ فِي الطَّلَبِ بِحُضُورِ الْعَشِيرَةِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، أَوْ يَكْفِي بَعْثُ رَسُولِهِمْ إذَا غَلَبَ

عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ؟ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي .
قَالَ : وَإِذَا شُرِطَ رَدُّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ كَانَ الشَّرْطُ جَائِزًا ، صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ يَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهِ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَهُوَ ضَابِطٌ حَسَنٌ وَ ( لَا ) يَجُوزُ رَدُّهُ ( إلَى غَيْرِهَا ) أَيْ عَشِيرَتِهِ إذَا طَلَبَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ ( إلَّا أَنْ يَقْدِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى قَهْرِ الطَّالِبِ ) لَهُ ( وَالْهَرَبِ مِنْهُ ) فَيُرَدُّ إلَيْهِ حِينَئِذٍ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ رَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ فِي طَلَبِهِ رَجُلَانِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي الطَّرِيقِ وَأَفْلَتَ الْآخَرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَمَّا إذَا لَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ فَلَا يُرَدُّ ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ مُطْلَقًا ( وَمَعْنَى الرَّدِّ : أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُ ) أَيْ الْمَطْلُوبِ ( وَبَيْنَ طَالِبِهِ ) عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الشَّرْطِ ، وَلَا تَبْعُدُ تَسْمِيَةُ التَّخْلِيَةِ رَدًّا كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ( وَلَا يُجْبَرُ ) الْمَطْلُوبُ ( عَلَى الرُّجُوعِ ) إلَى طَالِبِهِ ؛ لِأَنَّ إجْبَارَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ رَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَصِيرٍ وَأَبَا جَنْدَلٍ ( وَلَا يَلْزَمُهُ ) أَيْ الْمَطْلُوبَ ( الرُّجُوعُ ) إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ لَمْ يَجُزْ مَعَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِنَاعَهُ وَلَا قَتَلَهُ طَالِبَهُ بَلْ سَرَّهُ مَا فَعَلَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ ( وَلَهُ قَتْلُ الطَّالِبِ ) دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ لِقِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ ( وَلَنَا ) هُوَ صَادِقٌ بِالْإِمَامِ وَبِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ ( التَّعْرِيضُ لَهُ بِهِ ) أَيْ الْمَطْلُوبِ بِقَتْلِ طَالِبِهِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ

حِينَ رُدَّ إلَى أَبِيهِ : اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ فَإِنَّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ يُعَرِّضُ لَهُ بِقَتْلِ أَبِيهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ( لَا التَّصْرِيحُ ) لَهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ .
نَعَمْ لَوْ أَسْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى نَفْسِهِ أَمَانًا لَهُمْ وَلَا تَنَاوَلَهُ شَرْطُ الْإِمَامِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ .

وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا : لَزِمَهُمْ الْوَفَاءُ فَإِنْ أَبَوْا فَقَدْ نَقَضُوا ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ شَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا .

( وَلَوْ شَرَطَ ) عَلَيْهِمْ فِي الْهُدْنَةِ ( أَنْ يَرُدُّوا مَنْ جَاءَهُمْ مُرْتَدًّا مِنَّا ) رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا أَوْ رَقِيقًا ( لَزِمَهُمْ الْوَفَاءُ ) بِالشَّرْطِ عَمَلًا بِالْتِزَامِهِمْ .
فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّهِ فَنَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ لِمُخَالَفَتِهِمْ الشَّرْطَ ( وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ شَرْطِ أَنْ لَا يَرُدُّوا ) وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرَطَ ذَلِكَ فِي مُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ ، حَيْثُ قَالَ لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَدْ جَاءَ رَسُولًا مِنْهُمْ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ مُسْلِمًا رَدَدْنَاهُ ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا فَسُحْقًا سُحْقًا } وَلَكِنْ يَغْرَمُونَ مَهْرَ الْمُرْتَدَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ لِمَ غَرِمُوا وَلَمْ نَغْرَمْ نَحْنُ مَهْرَ الْمُسْلِمَةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَيْنَا الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْنَا ، وَأَيْضًا الْمَانِعُ جَاءَ مِنْ جِهَتِهَا وَالزَّوْجُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ ، الزَّوْجُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ .
خَاتِمَةٌ : يَغْرَمُونَ أَيْضًا قِيمَةَ رَقِيقٍ ارْتَدَّ دُونَ الْحُرِّ .
فَإِنْ عَادَ الرَّقِيقُ الْمُرْتَدُّ إلَيْنَا بَعْدَ أَخْذِنَا قِيمَتَهُ رَدَدْنَاهَا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ نَظِيرِهِ فِي الْمَهْرِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : لِأَنَّ الرَّقِيقَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ ، وَالنِّسَاءَ لَا يَصِرْنَ زَوْجَاتٍ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِنَا بِصِحَّةِ بَيْعِ الْمُرْتَدِّ لِلْكَافِرِ ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً ، وَاغْتُفِرَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَيَغْرَمُ الْإِمَامُ لِزَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ مَا أُنْفِقَ مِنْ صَدَاقِهَا ؛ لِأَنَّا بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ خَلَّيْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَوْلَاهُ لَقَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى يَرُدُّوهَا ا هـ .
وَيُشْبِهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ لِزَوْجِهَا مُفَرَّعًا عَلَى الْغُرْمِ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ .
قَالَ

الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَجُوزُ شِرَاءُ أَوْلَادِ الْمُهَادَنِينَ مِنْهُمْ لَا سَبْيُهُمْ .

كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ ذَكَاةُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِذَبْحِهِ فِي حَلْقٍ أَوْ لَبَّةٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَبِعَقْرٍ مُزْهِقٍ حَيْثُ كَانَ

كِتَابُ الصَّيْدِ هُوَ : مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا ، ثُمَّ أُطْلِقَ الصَّيْدُ عَلَى الْمَصِيدِ .
قَالَ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ( وَالذَّبَائِحُ ) جَمْعُ ذَبِيحَةٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحَةٍ ، وَلَمَّا كَانَ الصَّيْدُ مَصْدَرًا أَفْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ وَجَمَعَ الذَّبَائِحَ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِالسِّكِّينِ أَوْ السَّهْمِ أَوْ الْجَوَارِحِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ، وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } وَالْمُذَكَّى مِنْ الطَّيِّبَاتِ ، وَمِنْ السُّنَّةِ مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حِلِّهَا .
تَنْبِيهٌ : قَدَّمَ الذَّبَائِحَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الصَّيْدِ عَكْسَ مَا فِي التَّرْجَمَةِ ، لَكِنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ هَذَا الْكِتَابَ وَمَا بَعْدَهُ هُنَا وِفَاقًا لِلْمُزَنِيِّ ، وَخَالَفَ فِي الرَّوْضَةِ فَذَكَرَهُ آخِرَ رُبْعِ الْعِبَادَاتِ تَبَعًا لِطَائِفَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ .
قَالَ وَهُوَ أَنْسَبُ .
قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ : وَلَعَلَّ وَجْهَ الْأَنْسَبِيَّةِ أَنَّ طَلَبَ الْحَلَالِ فَرْضُ عَيْنٍ ا هـ .
وَأَرْكَانُ الذَّبْحِ بِالْمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ أَرْبَعَةٌ : ذَبْحٌ ، وَذَابِحٌ ، وَذَبِيحَةٌ ، وَآلَةٌ ، وَبَدَأَ بِالْأَوَّلِ .
فَقَالَ ( ذَكَاةُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ ) الْبَرِّيِّ الْمُفِيدَةُ لِحِلِّ أَكْلِهِ إنْسِيًّا كَانَ الْحَيَوَانُ أَوْ وَحْشِيًّا تَأَنَّسَ تَحْصُلُ شَرْعًا بِطَرِيقَتَيْنِ ، ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ إحْدَاهُمَا فِي قَوْلِهِ ( بِذَبْحِهِ ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ ( فِي حَلْقٍ ) وَهُوَ أَعْلَى الْعُنُقِ ( أَوْ ) فِي ( لَبَّةٍ ) وَهِيَ بِلَامٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ : أَسْفَلُ الْعُنُقِ ( إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ) بِالْإِجْمَاعِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ ذَكَاتَهُ بِقَطْعِ كُلِّ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، فَهُوَ مَعْنَى الذَّبْحِ وَذَالُهُمَا مُعْجَمَةٌ ، فَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُمَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ

شَرْعِيَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } فَإِنْ قِيلَ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ تَسْمِيَةُ الْكُلِّ ذَبْحًا ، وَيُخَالِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : وَيُسَنُّ نَحْرُ إبِلٍ وَذَبْحُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْإِبِلِ لَا يُسَمَّى ذَبْحًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالنَّحْرِ لَا تُنَافِي تَسْمِيَتَهُ ذَبْحًا ، بَلْ تُسَمَّى نَحْرًا وَذَبْحًا ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ( فَبِعَقْرٍ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ ( مُزْهِقٍ ) لِلرُّوحِ ( حَيْثُ ) أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ ( كَانَ ) الْعَقْرُ ذَكَاتَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَرِدُ عَلَى الْحَصْرِ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْجَنِينُ ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الذَّكَاةِ اسْتِقْلَالًا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْجَنِينِ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
.

فَصْلٌ وَشَرْطُ ذَابِحٍ وَصَائِدٍ حِلُّ مُنَاكَحَتِهِ ، وَتَحِلُّ ذَكَاةُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ ، وَلَوْ شَارَكَ مَجُوسِيٌّ مُسْلِمًا فِي ذَبْحٍ أَوْ اصْطِيَادٍ حَرُمَ ، وَلَوْ أَرْسَلَا كَلْبَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ فَإِنْ سَبَقَ آلَةُ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَ أَوْ أَنْهَاهُ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ حَلَّ ، وَلَوْ انْعَكَسَ أَوْ جَرَحَاهُ مَعًا أَوْ جُهِلَ أَوْ مُرَتَّبًا وَلَمْ يُذَفِّفْ أَحَدُهُمَا حَرُمَ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي ، وَهُوَ الذَّابِحُ .
فَقَالَ ( وَشَرْطُ ذَابِحٍ ) أَيْ وَعَاقِرٍ ( وَصَائِدٍ ) لِغَيْرِ سَمَكٍ وَجَرَادٍ لِيَحِلَّ مَذْبُوحُهُ وَمَعْقُورُهُ وَمَصِيدُهُ ( حِلُّ مُنَاكَحَتِهِ ) لِلْمُسْلِمِينَ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ فِي مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " إنَّمَا أُحِلَّتْ ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَسَوَاءٌ اعْتَقَدُوا إبَاحَتَهُ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَمْ تَحْرِيمَهُ كَالْإِبِلِ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْكُفَّارِ كَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ فَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ وَلَا مَصِيدُهُمْ وَلَا مَعْقُورُهُمْ لِعَدَمِ حِلِّ مُنَاكَحَتِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : إنْ قُلْنَا : تَحِلُّ مُنَاكَحَةُ الْجِنِّ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُمْ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ، وَبَقِيَّةُ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهَا لَوْ عَلِمَتْ الذَّبْحَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّائِدِ كَوْنَهُ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الذَّابِحِ كَوْنَهُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي الْوَحْشِيِّ أَوْ الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ ، وَفِي الْمَذْبُوحِ كَوْنَهُ غَيْرَ صَيْدٍ حَرَمِيٍّ عَلَى حَلَالٍ أَوْ مُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ فِي مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مُبَاحُ الذَّبِيحَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَكِنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ .
أَمَّا صَائِدُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ؛ لِأَنَّ مَيْتَتَهُمَا حَلَالٌ ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْفِعْلِ ، وَلَا أَثَرَ لِلرِّقِّ فِي الذَّابِحِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( تَحِلُّ ذَكَاةُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ ) وَإِنْ حُرِّمَ مُنَاكَحَتُهَا لِعُمُومِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهَذِهِ

مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوْلِهِ وَشَرْطُ ذَابِحٍ حِلُّ مُنَاكَحَتِهِ ، وَاسْتَثْنَى الْإِسْنَوِيُّ أَيْضًا زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُنَّ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُنَّ وَتَحِلُّ ذَبِيحَتُهُنَّ .
قَالَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي الضَّابِطِ مَنْ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ لِنَقْصِهِ ، وَاعْتَرَضَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ أَنْ نَكَحَهُنَّ ، فَالتَّحْرِيمُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ رَأْسُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ فَلَا يُورِدُ ذَلِكَ إلَّا قَلِيلُ الْبَصِيرَةِ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُصَحَّحَ الِاسْتِثْنَاءُ بِأَنْ يُقَالَ زَوْجَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ وَتَحِلُّ ذَبِيحَتُهُنَّ ا هـ .
وَالْأَوْلَى عَدَمُ اسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِشَيْءٍ فِيهِنَّ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ فِيهَا ، وَهُوَ رِقُّهَا مَعَ كُفْرِهَا .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ حِلُّ ذَكَاةِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا ، وَقِيلَ تُكْرَهُ ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ الْأُضْحِيَّةَ ، وَالْخُنْثَى كَالْأُنْثَى ( وَلَوْ شَارَكَ مَجُوسِيٌّ ) أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى ( مُسْلِمًا فِي ذَبْحٍ أَوْ اصْطِيَادٍ ) يَحْتَاجُ لِتَذْكِيَةٍ كَأَنْ أَمَرَّا سِكِّينًا عَلَى حَلْقِ شَاةٍ أَوْ قَتَلَا صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ ( حَرُمَ ) الْمَذْبُوحُ وَالْمُصَادُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ ( وَلَوْ أَرْسَلَا ) أَيْ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ ( كَلْبَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ ) أَوْ أَحَدُهُمَا كَلْبًا وَالْآخَرُ سَهْمًا عَلَى صَيْدٍ ( فَإِنْ سَبَقَ آلَةُ الْمُسْلِمِ ) آلَةَ الْمَجُوسِيِّ فِي صُورَةِ السَّهْمَيْنِ أَوْ كَلْبُ الْمُسْلِمِ كَلْبَ الْمَجُوسِيِّ فِي صُورَةِ الْكَلْبَيْنِ ( فَقَتَلَ )

الصَّيْدَ ( أَوْ ) لَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ ( أَنْهَاهُ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ ) ثُمَّ أَصَابَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ سَهْمُهُ ( حَلَّ ) وَلَا يَقْدَحُ مَا وُجِدَ مِنْ الْمَجُوسِيِّ كَمَا لَوْ ذَبَحَ الْمُسْلِمُ شَاةً فَقَدَّهَا مَجُوسِيٌّ ، فَلَوْ أَدْرَكَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ سَهْمُهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَتَلَهُ حَرُمَ وَضَمِنَهُ الْمَجُوسِيُّ لِلْمُسْلِمِ .
( وَلَوْ انْعَكَسَ ) مَا ذُكِرَ بِأَنْ سَبَقَ آلَةُ الْمَجُوسِيِّ فَقَتَلَ أَوْ أَنْهَاهُ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ ( أَوْ ) لَمْ يَسْبِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ( جَرَحَاهُ مَعًا ) وَحَصَلَ الْهَلَاكُ بِهِمَا ( أَوْ جُهِلَ ) ذَلِكَ ، وَهَذِهِ مَزِيدَةٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ ( أَوْ ) جَرَحَاهُ ( مُرَتَّبًا ) بِأَنْ سَبَقَ آلَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ ( وَ ) لَكِنْ ( لَمْ يُذَفِّفْ أَحَدُهُمَا ) بِإِعْجَامِ الذَّالِ وَإِهْمَالِهَا : أَيْ لَمْ يُقْتَلْ سَرِيعًا فَهَلَكَ بِهِمَا ( حَرُمَ ) الصَّيْدُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَكْسِ ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ سَبَقَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَجْرَحْ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ يَحِلُّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هُوَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْسَكَهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ، فَلَا يَحِلُّ بِقَتْلِ كَلْبِ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ أَثْخَنَ مُسْلِمٌ بِجِرَاحَتِهِ صَيْدًا فَقَدْ زَالَ امْتِنَاعُهُ وَمِلْكُهُ ، فَإِذَا جَرْحَهُ مَجُوسِيٌّ وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ حَرُمَ ، وَعَلَى الْمَجُوسِيِّ قِيمَتُهُ مُثْخَنًا ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهُ بِجَعْلِهِ مَيْتَةً ، وَلَوْ أَكْرَهَ مَجُوسِيٌّ مُسْلِمًا عَلَى ذَبْحٍ وَلَوْ أَمْسَكَ لَهُ صَيْدًا فَذَبَحَهُ أَوْ شَارَكَهُ فِي قَتْلِهِ بِسَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ وَهُوَ فِي حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ أَوْ شَارَكَهُ فِي رَدِّ الصَّيْدِ عَلَى كَلْبِ الْمُسْلِمِ بِأَنْ رَدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يَحْرُمْ ، إذْ الْمَقْصُودُ الْفِعْلُ ، وَقَدْ حَصَلَ مِمَّنْ يَحِلُّ ذَبْحُهُ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَلَا غَيْرُهُ بِمَا ذُكِرَ ، وَيَحِلُّ مَا اصْطَادَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ قَطْعًا ،

وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ وَنَحْوُهُ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَوَقَعَ بِالصَّيْدِ ، لَمْ يَحِلَّ نَظَرًا إلَى أَغْلَظِ الْحَالَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَالَتَيْ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ وَتَخَلَّلَتْ الرِّدَّةُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا .
فَائِدَةٌ : قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ الذَّبْحِ وَإِنْهَارِ الدَّمِ تَمْيِيزُ حَلَالِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ مِنْ حَرَامِهِمَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لِبَقَاءِ دَمِهَا .

وَيَحِلُّ ذَبْحُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ ، وَكَذَا غَيْرُ مُمَيِّزٍ وَمَجْنُونٌ وَسَكْرَانُ فِي الْأَظْهَرِ
( وَيَحِلُّ ذَبْحُ ) وَصَيْدُ ( صَبِيٍّ ) مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ ( مُمَيِّزٍ ) ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ صَحِيحٌ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا ، فَانْدَرَجَ تَحْتَ الْأَدِلَّةِ كَالْبَالِغِ ، ( وَكَذَا ) صَبِيٌّ ( غَيْرُ مُمَيِّزٍ وَمَجْنُونٌ وَسَكْرَانُ ) يَحِلُّ ذَبْحُهُمْ ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا وَإِرَادَةً فِي الْجُمْلَةِ ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ خَوْفًا عَنْ عُدُولِهِمْ عَنْ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِهِ ، فَلَوْ قَالَ : وَيُكْرَهُ كَأَعْمَى كَانَ أَوْلَى وَأَخْصَرَ ، وَالثَّانِي لَا تَحِلُّ لِفَسَادِ قَصْدِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَمْيِيزٌ أَصْلًا ، فَإِنْ كَانَ لَهُمَا أَدْنَى تَمْيِيزٍ حَلَّ قَطْعًا ، قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَمَحَلُّ حِلِّ ذَبْحِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ إذَا أَطَاقَ الذَّبْحَ ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ لَمْ يَحِلَّ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، بَلْ الْمُمَيِّزُ إذَا لَمْ يُطِقْ الْحُكْمَ فِيهِ كَذَلِكَ ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ .

وَتُكْرَهُ ذَكَاةُ أَعْمَى ، وَيَحْرُمُ صَيْدُهُ بِرَمْيٍ وَكَلْبٍ فِي الْأَصَحِّ .
( وَتُكْرَهُ ذَكَاةُ أَعْمَى ) لِمَا مَرَّ ( وَيَحْرُمُ صَيْدُهُ بِرَمْيٍ أَوْ كَلْبٍ ) وَغَيْرِهِ مِنْ جَوَارِحِ السِّبَاعِ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الصَّيْدَ فَصَارَ كَاسْتِرْسَالِ الْكَلْبِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ بِنَفْسِهِ ، وَالثَّانِي يَحِلُّ كَذَبْحِهِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُهُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْأَعْمَى يَقْتَضِي أَنَّ صَيْدَ مَنْ قَبْلَهُ حَلَالٌ ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْقَصْدِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءِ ا هـ .
وَقَوْلُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا إنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي الْأَعْمَى يَجْرِيَانِ فِي اصْطِيَادِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ وَإِنْ جَرَى ابْنُ الْمُقْرِي عَلَى الِاتِّحَادِ ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِي ذَبْحِ النَّائِمِ وَجْهَيْنِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِهِ عَدَمُ حِلِّهِ .
وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ فَتَحِلُّ وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ كَالْمَجْنُونِ .
فَرْعٌ : قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ قَالَ أَصْحَابُنَا : أَوْلَى النَّاسِ بِالذَّكَاةِ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ الْمُسْلِمُ ، ثُمَّ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ ، ثُمَّ الصَّبِيُّ الْمُسْلِمُ ، ثُمَّ الْكِتَابِيُّ ، ثُمَّ الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ .
انْتَهَى .
قَالَ شَيْخُنَا : وَالصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فِي مَعْنَى الْأَخِيرَيْنِ .

وَتَحِلُّ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ، وَلَوْ صَادَهُمَا مَجُوسِيٌّ .
( وَتَحِلُّ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ) بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ نَظِيرُ الْأَوَّلِ فِي الْبَرِّ مُحَرَّمًا كَكَلْبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } وَلِخَبَرِ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ } وَلِخَبَرِ { هُوَ : أَيْ الْبَحْرُ : الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَلِأَنَّ ذَبْحَهُمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ سَوَاءٌ مَاتَا بِسَبَبٍ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ طَافِيًا أَمْ رَاسِبًا ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّافِي ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكَلَ مِنْ الْعَنْبَرِ ، وَهُوَ الْحُوتُ الَّذِي طَفَا ، وَكَانَ أَكْلُهُ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَلَوْ صَادَهُمَا ) أَيْ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ ( مَجُوسِيٌّ ) ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ مَيْتَةً وَمَيْتَتُهُمَا حَلَالٌ كَمَا مَرَّ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِفِعْلِهِ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : وَلَوْ ذَبَحَ مَجُوسِيٌّ سَمَكَةً حَلَّتْ أَيْضًا ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَوْ قَتَلَهُمَا مَجُوسِيٌّ لَكَانَ أَوْلَى .
وَأَمَّا قَتْلُ الْمُحْرِمِ الْجَرَادَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَيُسَنُّ ذَبْحُ كِبَارِ السَّمَكِ الَّذِي يَطُولُ بَقَاؤُهُ إرَاحَةً لَهُ ، وَيُكْرَهُ ذَبْحُ صِغَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَتَعَبٌ بِلَا فَائِدَةٍ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ حِلُّ مَيْتَةِ السَّمَكِ مَا لَوْ وُجِدَتْ سَمَكَةٌ مَيِّتَةً فِي جَوْفِ أُخْرَى فَتَحِلُّ : كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ مُتَغَيِّرَةً وَإِنْ لَمْ تَتَقَطَّعْ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالرَّوْثِ وَالْقَيْءِ .

وَكَذَا الدُّودُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ طَعَامٍ كَخَلٍّ وَفَاكِهَةٍ إذَا أُكِلَ مَعَهُ فِي الْأَصَحِّ .

( وَكَذَا الدُّودُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ طَعَامٍ كَخَلٍّ ) وَجُبْنٍ ( وَفَاكِهَةٍ إذَا أُكِلَ مَعَهُ ) مَيْتًا يَحِلُّ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِعُسْرِ تَمْيِيزِهِ ، وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اللَّحْمَ الْمُدَوِّدَ بِالْفَاكِهَةِ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ إذَا سَهُلَ تَمْيِيزُهُ كَالتُّفَّاحِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَهُ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَهُوَ ظَاهِرٌ : أَيْ إذَا كَانَ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا فَيَحْرُمُ لِنَجَاسَتِهِ وَاسْتِقْذَارِهِ ، وَكَذَا لَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، أَوْ تَنَحَّى بِنَفْسِهِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ إمْكَانِ صَوْنِهِ عَنْهُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَالثَّانِي يَحِلُّ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْهُ .
وَالثَّالِثُ يَحْرُمُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ .
تَنْبِيهٌ : حَقُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تُذْكَرَ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَثُرَ مِنْ الدُّودِ أَوْ لَا ، وَقَضِيَّةُ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَنَّهُ إذَا كَثُرَ وَغَيَّرَ يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ يُنَجِّسُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ وُقُوعَ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يُمْكِنُ صَوْنُ الْمَائِعِ عَنْ كَثْرَتِهِ بِخِلَافِهِ هُنَا .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَيُقَاسَ بِالدُّودِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الطَّعَامِ التَّمْرُ وَالْبَاقِلَاءُ الْمُسَوِّسَانِ إذَا طُبِخَا وَمَاتَ السُّوسُ فِيهِمَا ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الزَّرْكَشِيّ : وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالْفُولِ بِأَنَّ التَّمْرَ يُشَقُّ عَادَةً وَيُزَالُ مَا فِيهِ ، بِخِلَافِ الْفُولِ لَكَانَ مُتَّجَهًا ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْعَسَلِ نَمْلٌ وَطُبِخَ جَازَ أَكْلُهُ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي تَنْقِيَتِهِ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَعَتْ نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ ذُبَابَةٌ فِي قِدْرِ طَبِيخٍ وَتَهَرَّتْ أَجْزَاؤُهَا فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُ ذَلِكَ الطَّبِيخِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَقْذَرُ ، وَمِثْلُ الْوَاحِدَةِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ ، وَلَوْ

وَقَعَ فِي الْقِدْرِ جُزْءٌ مِنْ لَحْمِ آدَمِيٍّ وَإِنْ قَلَّ .
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : حُرِّمَ أَكْلُ مَا فِيهَا لَا لِنَجَاسَتِهِ ، بَلْ لِحُرْمَتِهِ ، وَخَالَفَهُ فِي الرَّوْضَةِ فَقَالَ : الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ لِاسْتِهْلَاكِهِ .

وَلَا يَقْطَعُ بَعْضَ سَمَكَةٍ حَيَّة ، فَإِنْ فَعَلَ أَوْ بَلِعَ سَمَكَةً حَيَّةً حَلَّ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَقْطَعُ ) شَخْصٌ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ( بَعْضَ سَمَكَةٍ حَيَّةٍ ) أَوْ جَرَادَةٍ حَيَّةٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ كَمَا قِيلَ ؛ لِأَنَّ عَيْشَهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ : كَمَا يُكْرَهُ قَلْيُهُ حَيًّا فِي الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ لِمَا ذُكِرَ ( فَإِنْ فَعَلَ ) أَيْ قَطَعَ بَعْضَ مَا ذُكِرَ وَبَلِعَ ذَلِكَ الْمَقْطُوعَ ( أَوْ بَلِعَ ) بِكَسْرِ اللَّامِ فِي الْأَشْهَرِ ( سَمَكَةً ) أَوْ جَرَادَةً ( حَيَّةً حَلَّ ) مَا ذُكِرَ ( فِي الْأَصَحِّ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمُبَانَ كَالْمَيْتَةِ ، وَمَيْتَةُ هَذَا الْحَيَوَانِ حَلَالٌ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ قَتْلِهَا وَهُوَ جَائِزٌ .
وَالثَّانِي لَا يَحِلُّ الْمَقْطُوعُ كَمَا فِي غَيْرِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ، وَلَا الْمَبْلُوعُ لِمَا فِي جَوْفِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ .
تَنْبِيهَاتٌ : أَحَدُهَا : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْأُولَى إنَّمَا هُوَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أُبِينَ مَعَ بَقَاءِ حَيَاةِ السَّمَكَةِ أَوْ الْجَرَادَةِ .
أَمَّا لَوْ قَطَعَ وَلَمْ يَبْقَ فِي الْبَاقِي حَيَاةٌ حَلَّ قَطْعًا ، وَمَحَلُّهُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ ، فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِلتَّدَاوِي جَازَ قَطْعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ .
ثَانِيهَا : لَوْ أُكِلَ مَشْوِيُّ صِغَارِ السَّمَكِ بِرَوْثِهِ حَلَّ وَعُفِيَ عَنْ رَوْثِهِ لِعُسْرِ تَتَبُّعِهِ .
وَأَمَّا كِبَارُهُ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ الرَّوْثِ مَعَهُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ .
ثَالِثُهَا : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَيَّةً قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَيْتَةِ بِلَا خِلَافٍ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً امْتَنَعَ لِعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ نَجَاسَةِ رَوْثِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ شُهْبَةَ فِي الْكَبِيرَةِ وَالزَّرْكَشِيُّ فِي الصَّغِيرَةِ .

وَإِذَا رَمَى صَيْدًا مُتَوَحِّشًا ، أَوْ بَعِيرًا نَدَّ ، أَوْ شَاةً شَرَدَتْ بِسَهْمٍ ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ جَارِحَةً فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ وَمَاتَ فِي الْحَالِ حَلَّ .
( وَإِذَا رَمَى ) بِسَهْمٍ ( صَيْدًا مُتَوَحِّشًا ، أَوْ ) رَمَى ( بَعِيرًا ) إنْسِيًّا تَوَحَّشَ كَأَنْ ( نَدَّ ) بِفَتْحِ النُّونِ أَوَّلَهُ : أَيْ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ شَارِدًا ( أَوْ ) رَمَى ( شَاةً ) إنْسِيَّةً تَوَحَّشَتْ كَأَنْ ( شَرَدَتْ بِسَهْمٍ ) فِيهِ نَصْلٌ أَوْ لَهُ حَدٌّ ، أَوْ بِسَيْفٍ ، أَوْ رُمْحٍ ، أَوْ نَحْوِهِ ( أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ ) أَيْ الصَّيْدِ ( جَارِحَةً ) مِنْ سِبَاعٍ أَوْ طُيُورٍ ( فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ ) حَلْقًا أَوْ لَبَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ( وَمَاتَ فِي الْحَالِ حَلَّ ) فِي الْجَمِيعِ .
أَمَّا فِي الْمُتَوَحِّشِ فَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا فِي الْبَعِيرِ النَّادِّ فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعِيرًا نَدَّ ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ : أَيْ قَتَلَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا } وَقِيسَ بِمَا فِيهِ غَيْرُهُ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : وَمَاتَ فِي الْحَالِ مَا لَوْ أَدْرَكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَأَمْكَنَهُ ذَبْحُهُ وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : الِاعْتِبَارُ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ ، فَلَوْ رَمَى غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَصَارَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ثُمَّ أَصَابَ غَيْرَ الْمَذْبَحِ حَرُمَ أَوْ بِالْعَكْسِ حَلَّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مُتَوَحِّشًا عَنْ الصَّيْدِ الْمُسْتَأْنَسِ ، فَهُوَ كَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ ذَبْحِهِ .

وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيرٌ وَنَحْوُهُ فِي بِئْرٍ وَلَمْ يُمْكِنْ قَطْعُ حُلْقُومِهِ فَكَنَادٍّ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ لَا يَحِلُّ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ .
وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَتَى تَيَسَّرَ لُحُوقُهُ بِعَدْوٍ أَوْ اسْتِعَانَةٍ بِمَنْ يَسْتَقْبِلُهُ فَمَقْدُورٌ عَلَيْهِ ، وَيَكْفِي فِي النَّادِّ وَالْمُتَرَدِّي جُرْحٌ يُفْضِي إلَى الزُّهُوقِ ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُذَفِّفٌ .

( وَلَوْ تَرَدَّى ) أَيْ سَقَطَ ( بَعِيرٌ وَنَحْوُهُ فِي بِئْرٍ ) أَوْ نَحْوِهَا ( وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَطْعُ حُلْقُومِهِ ) وَمَرِيئِهِ ( فَكَنَادٍّ ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ : أَيْ شَارِدٍ فِي حِلِّهِ بِالرَّمْيِ ، وَكَذَا بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ فِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ الْبَصْرِيُّونَ فَتَصِيرُ أَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا مَذْبَحًا .
أَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ مَوْضِعُ الذَّبْحِ ظَاهِرًا فَلَا تَصِحُّ ذَكَاتُهُ إلَّا فِي حَلْقٍ أَوْ لَبَّةٍ .
وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى تَشْبِيهِ الْمُحَرَّرِ الْمُتَرَدِّيَ بِالنَّادِّ أَنَّهُ يَحِلُّ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ السَّهْمُ اسْتَدْرَكَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ لَا يَحِلُّ ) الْمُتَرَدِّي ( بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ ) عَلَيْهِ ( وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ ) وَهُوَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ نِسْبَةً لِرُويَانَ مِنْ بِلَادِ طَبَرِسْتَانَ عَبْدُ الْوَاحِدِ أَبُو الْمَحَاسِنِ شَافِعِيُّ زَمَانِهِ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ ، الْقَائِلُ : لَوْ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ أَمْلَيْتُهَا مِنْ حِفْظِي ( وَالشَّاشِيُّ ) فَخْرُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّهُ نَقَلَ عَدَمَ حِلِّ الْمُتَرَدِّي بِمَا ذَكَرَ عَنْ الرُّويَانِيِّ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَدِيدَ يُسْتَبَاحُ بِهِ الذَّبْحُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْجَارِحَةِ ، وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيرٌ فَوْقَ بَعِيرٍ فَغَرَزَ رُمْحًا فِي الْأَوَّلِ حَتَّى نَفَذَ مِنْهُ إلَى الثَّانِي حَلَّا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالثَّانِي ، قَالَهُ الْقَاضِي ، فَإِنْ مَاتَ الْأَسْفَلُ بِثِقَلِ الْأَعْلَى لَمْ يَحِلَّ ، وَلَوْ دَخَلَتْ الطَّعْنَةُ إلَيْهِ وَشَكَّ هَلْ مَاتَ بِهَا أَوْ بِالثِّقَلِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ مَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ( وَمَتَى تَيَسَّرَ لُحُوقُهُ ) أَيْ النَّادِّ ( بِعَدْوٍ أَوْ اسْتِعَانَةٍ ) بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ بِخَطِّهِ مِنْ الْعَوْنِ ، وَتَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ مِنْ الْغَوْثِ ( بِمَنْ يَسْتَقْبِلُهُ ) مَثَلًا ( فَمَقْدُورٌ ) أَيْ حُكْمُهُ كَحَيَوَانٍ مَقْدُورٍ ( عَلَيْهِ ) لَا

يَحِلُّ إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فِي حَلْقٍ أَوْ لَبَّةٍ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُمْ يُفْهِمُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ وَتَعَسَّرَ ذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْهُ فِي الْحَالِ ( وَيَكْفِي فِي ) الْحَيَوَانِ ( النَّادِّ وَالْمُتَرَدِّي ) السَّابِقَيْنِ ، وَفِي الْوَحْشِيِّ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ ( جُرْحٌ يُفْضِي ) غَالِبًا ( إلَى الزُّهُوقِ ) أَيْ الْمَوْتِ سَوَاءٌ أَذُفِّفَ الْجُرْحُ أَمْ لَا ، وَهَذَا مَا نَسَبَهُ الرَّافِعِيُّ لِلْمُعْظَمِ وَالْمُصَنِّفُ لِلْأَكْثَرِينَ ( وَقِيلَ يُشْتَرَطُ ) فِي الرَّمْيِ بِسَهْمٍ جُرْحٌ ( مُذَفِّفٌ ) وَهُوَ الْمُسْرِعُ لِلْقَتْلِ ، وَحَكَى هَذَا الْإِمَامُ عَنْ الْقَفَّالِ وَالْمُحَقِّقِينَ .
أَمَّا إرْسَالُ الْكَلْبِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَذْفِيفٌ جَزْمًا .

وَإِذَا أَرْسَلَ سَهْمًا أَوْ كَلْبًا أَوْ طَائِرًا عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَمَاتَ فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ فِيهِ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً أَوْ أَدْرَكَهَا وَتَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِلَا تَقْصِيرٍ بِأَنْ سَلَّ السِّكِّينَ فَمَاتَ قَبْلَ إمْكَانٍ أَوْ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ حَلَّ ، وَإِنْ مَاتَ لِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ لَا يَكُونُ مَعَهُ سِكِّينٌ أَوْ غُصِبَتْ أَوْ نَشِبَتْ فِي الْغِمْدِ حَرُمَ .

( وَإِذَا أَرْسَلَ ) الصَّائِدُ آلَةَ صَيْدٍ ( سَهْمًا أَوْ كَلْبًا ) مُعَلَّمًا ( أَوْ طَائِرًا ) مُعَلَّمًا ( عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَمَاتَ ) نَظَرْتَ ( فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ فِيهِ ) أَيْ الصَّائِدُ فِي الصَّيْدِ ( حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً أَوْ أَدْرَكَهَا ) أَيْ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِيهِ ( وَتَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِلَا تَقْصِيرٍ ) مِنْ الصَّائِدِ ( بِأَنْ ) أَيْ كَأَنْ ( سَلَّ السِّكِّينَ ) عَلَى الصَّيْدِ ، أَوْ ضَاقَ الزَّمَانُ ، أَوْ مَشَى لَهُ عَلَى هَيْنَتِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ عَدْوًا ، أَوْ اشْتَغَلَ بِتَوْجِيهِهِ لِلْقِبْلَةِ ، أَوْ بِتَحْرِيفِهِ وَهُوَ مُنْكَبٌّ أَوْ بِطَلَبِ الْمَذْبَحِ ، أَوْ بِتَنَاوُلِ السِّكِّينِ ، أَوْ مَنَعَ مِنْهُ سَبُعٌ ( فَمَاتَ قَبْلَ إمْكَانٍ ) مِنْهُ لَذَبْحِهِ ( أَوْ امْتَنَعَ ) مِنْهُ ( بِقُوَّتِهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ) عَلَيْهِ ( حَلَّ ) فِي الْجَمِيعِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْرِكْ حَيَاتَهُ .
نَعَمْ يُسَنُّ ذَبْحُهُ إذَا وَجَدَ فِيهِ حَيَاةً غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : فَأَصَابَهُ وَمَاتَ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ مَوْرِدًا لِلتَّقْسِيمِ ، فَإِنَّ مِنْهَا إدْرَاكَهُ بِالْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ ، وَالْمَيْتُ لَا حَيَاةَ فِيهِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ : فَأَصَابَ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا ، وَلِلْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ قَرَائِنُ وَأَمَارَاتٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ فَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَمِنْ أَمَارَاتِهَا الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ وَانْفِجَارُ الدَّمِ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْحَرَكَةَ الشَّدِيدَةَ تَكْفِي وَحْدَهَا ، فَإِنْ شَكَكْنَا فِي حُصُولِهَا وَلَمْ يَتَرَجَّحْ ظَنٌّ فَالْأَصَحُّ التَّحْرِيمُ ( وَإِنْ مَاتَ لِتَقْصِيرِهِ ) أَيْ الصَّائِدِ ( بِأَنْ ) أَيْ كَأَنْ ( لَا يَكُونَ مَعَهُ سِكِّينٌ ) أَوْ لَمْ تَكُنْ مَحْدُودَةً ، أَوْ ذَبَحَ بِظَهْرِهَا خَطَأً ( أَوْ غُصِبَتْ ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَوَّلَهُ : أَيْ أَخَذَهَا مِنْهُ غَاصِبٌ ( أَوْ نَشِبَتْ ) بِفَتْحِ النُّونِ أَوَّلَهُ ، وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ : أَيْ عَسُرَ إخْرَاجُهَا بِأَنْ تَعَلَّقَتْ ( فِي الْغِمْدِ )

بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ، وَهُوَ الْغِلَافُ كَمَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي الْإِقْرَارِ ( حَرُمَ ) الصَّيْدُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لِلتَّقْصِيرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُعَانِي الصَّيْدَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْآلَةَ فِي غِمْدٍ يُوَافِقُ ، وَسُقُوطُهَا مِنْهُ وَسَرِقَتُهَا تَقْصِيرٌ .
نَعَمْ لَوْ اتَّخَذَ لِلسِّكِّينِ غِمْدًا مُعْتَادًا فَنَشِبَتْ لِعَارِضٍ حَلَّ كَمَا يُفْهِمُهُ التَّعْبِيرُ بِالتَّقْصِيرِ ؛ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ شَكَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ هَلْ قَصَّرَ فِي ذَبْحِهِ أَمْ لَا ؟ حَلَّ فِي الْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْصِيرِ .
فَائِدَةٌ : فِي السِّكِّينِ لُغَتَانِ : التَّذْكِيرُ ، وَالتَّأْنِيثُ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا حَيْثُ قَالَ : مَعَهُ سِكِّينٌ ، ثُمَّ قَالَ غُصِبَتْ ، وَاسْتَعْمَلَ التَّذْكِيرَ فَقَطْ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ : وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ سِكِّينٌ فَسَقَطَ .

وَلَوْ رَمَاهُ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ حَلَّا ، وَلَوْ أَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ حَلَّ الْعُضْوُ وَالْبَدَنُ ، أَوْ بِغَيْرِ مُذَفِّفٍ ثُمَّ ذَبَحَهُ أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ مُذَفِّفًا حُرِّمَ الْعُضْوُ وَحَلَّ الْبَاقِي ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ حَلَّ الْجَمِيعُ ، وَقِيلَ يَحْرُمُ الْعُضْوُ .

( وَلَوْ رَمَاهُ ) أَيْ الصَّيْدَ ( فَقَدَّهُ ) أَيْ قَطَعَهُ ( نِصْفَيْنِ ) مَثَلًا ( حَلَّا ) أَيْ النِّصْفَانِ تَسَاوَيَا أَوْ تَفَاوَتَا لِحُصُولِ الْجُرْحِ الْمُذَفِّفِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ الَّتِي مَعَ الرَّأْسِ فِي صُورَةِ التَّفَاوُتِ أَقَلَّ حَلَّا بِلَا خِلَافٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الذَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَكْسُ حَلَّا أَيْضًا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَلَّمَهُ ( وَلَوْ أَبَانَ مِنْهُ ) أَيْ الصَّيْدِ ( عُضْوًا ) كَيَدِهِ ( بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ ) أَيْ مُسْرِعٍ لِلْقَتْلِ فَمَاتَ فِي الْحَالِ ( حَلَّ الْعُضْوُ وَالْبَدَنُ ) أَيْ بَاقِيهِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَكَاةِ الصَّيْدِ كُلُّ الْبَدَنِ ( أَوْ ) أَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا ( بِغَيْرِ ) أَيْ بِجُرْحٍ غَيْرِ ( مُذَفِّفٍ ثُمَّ ذَبَحَهُ ، أَوْ ) لَمْ يَذْبَحْهُ بَلْ ( جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ مُذَفِّفًا ) وَلَمْ يُثْبِتْهُ بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ فَمَاتَ ( حُرِّمَ الْعُضْوُ ) فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ أُبِينَ مِنْ حَيٍّ ( وَحَلَّ الْبَاقِي ) لِوُجُودِ الذَّكَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَقِيَامِ الْمُذَفِّفِ مَقَامَهَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ مُثْبِتًا بِغَيْرِ ذَبْحِهِ فَلَا يُجْزِئُ الْجُرْحُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ ) الْأَوَّلِ ( حَلَّ الْجَمِيعُ ) الْعُضْوُ وَالْبَدَنُ ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ كَالذَّبْحِ لِلْجُمْلَةِ فَيَتْبَعُهَا الْعُضْوُ ، هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ ( وَقِيلَ ) وَهُوَ الْمُصَحَّحُ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ ( يَحْرُمُ الْعُضْوُ ) ؛ لِأَنَّهُ أُبِينَ مِنْ حَيٍّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ أَلْيَةَ شَاةٍ ثُمَّ ذَبَحَهَا لَا تَحِلُّ الْأَلْيَةُ وَأَمَّا بَاقِي الْبَدَنِ فَيَحِلُّ جَزْمًا .
.

فَصْلٌ وَذَكَاةُ كُلِّ حَيَوَانٍ قُدِرَ عَلَيْهِ بِقَطْعِ كُلِّ الْحُلْقُومِ ، وَهُوَ مَخْرَجُ النَّفَسِ وَالْمَرِيءِ وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ ، وَيُسْتَحَبُّ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ ، وَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيْ الْعُنُقِ ، وَلَوْ ذَبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ عَصَى ، فَإِنْ أَسْرَعَ فَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ حَلَّ ، وَإِلَّا فَلَا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ ، وَهُوَ الذَّبِيحُ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ فَقَالَ ( وَذَكَاةُ كُلِّ حَيَوَانٍ ) إنْسِيٍّ أَوْ وَحْشِيٍّ ( قُدِرَ عَلَيْهِ ) وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَقْتَ ابْتِدَاءِ ذَبْحِهِ تَحْصُلُ فِي الْأَصَحِّ ( بِقَطْعِ كُلِّ الْحُلْقُومِ ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ( وَهُوَ مَخْرَجُ ) أَيْ مَجْرَى ( النَّفَسِ ) خُرُوجًا وَدُخُولًا ( وَ ) بِقَطْعِ كُلِّ ( الْمَرِيءِ ) بِفَتْحِ مِيمِهِ وَهَمْزِ آخِرِهِ ، وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهُ ( وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ ) وَالشَّرَابِ مِنْ الْحَلْقِ إلَى الْمَعِدَةِ وَتَحْتَ الْحُلْقُومِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ تُفْقَدُ بِفَقْدِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِالْقَطْعِ عَمَّا لَوْ اخْتَطَفَ رَأْسَ عُصْفُورٍ أَوْ غَيْرِهِ بِيَدِهِ ، أَوْ بِبُنْدُقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنَّهُ مَيْتَةٌ لَا يُسَمَّى ذَكَاةً بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْخَنْقِ ، لَا فِي مَعْنَى الْقَطْعِ ، وَبِقَوْلِهِ قُدِرَ عَلَيْهِ عَمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَرَّ ، وَبِقَوْلِهِ : كُلِّ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ عَمَّا لَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَوْ يَسِيرًا فَلَا يَحِلُّ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ خَاصَّةً كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَفِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ ، وَقَدْ يُخِلُّ فِي قَوْلِهِ : قُدِرَ عَلَيْهِ مَا إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْجَنِينِ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، لَكِنْ صَحَّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ حِلَّهُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ ( وَيُسْتَحَبُّ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ ) بِوَاوٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَتَيْنِ تَثْنِيَةُ وَدَجٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا ( وَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيْ الْعُنُقِ ) مُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ ، وَقِيلَ بِالْمَرِيءِ ، وَهُمَا الْوَرِيدَانِ مِنْ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَوْحَى وَأَسْهَلُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ ، فَهُوَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبْحِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا لَمْ يَجِبْ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يُسَلَّانِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَيَبْقَى ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يُشْتَرَطُ قَطْعُهُ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ ، وَلَا

يُسَنُّ قَطْعُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ( وَلَوْ ذَبَحَهُ ) أَيْ الْحَيَوَانَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ ( مِنْ قَفَاهُ ) أَوْ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ ( عَصَى ) بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْذِيبِ ( فَإِنْ أَسْرَعَ ) فِي ذَلِكَ ( فَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ ، وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ) أَوَّلَ قَطْعِهِمَا ( حَلَّ ) ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ صَادَفَتْهُ وَهُوَ حَيٌّ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ الْحَيَوَانِ ثُمَّ ذَكَّاهُ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُسْرِعْ قَطْعَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بَلْ انْتَهَى إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ ( فَلَا ) يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَيْتَةً فَلَا يُفِيدُهُ الذَّبْحُ بَعْدَ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ ذَبَحَ شَخْصٌ حَيَوَانًا وَأَخْرَجَ آخَرُ أَمْعَاءَهُ أَوْ نَخَسَ خَاصِرَتَهُ مَعًا لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّ التَّذْفِيفَ لَمْ يَتَمَحَّضْ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ .
قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : سَوَاءٌ أَكَانَ مَا قَطَعَ بِهِ الْحُلْقُومَ مِمَّا يُذَفِّفُ لَوْ انْفَرَدَ أَمْ كَانَ يُعِينُ عَلَى التَّذْفِيفِ وَلَوْ اقْتَرَنَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِقَطْعِ رَقَبَةِ الشَّاةِ مِنْ قَفَاهَا بِأَنْ أَجْرَى سِكِّينًا مِنْ الْقَفَا وَسِكِّينًا مِنْ الْحُلْقُومِ حَتَّى الْتَقَيَا فَهِيَ مَيْتَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ التَّذْفِيفَ إنَّمَا حَصَلَ بِذَبْحَيْنِ خِلَافَ مَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْمَتْنِ مِنْ الْحِلِّ ، فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ قَطْعِ الْمَرِيءِ ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِقَطْعِ الْمَذْبَحِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ ، بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ بِوُجُودِهَا بِقَرِينَةٍ ، وَلَوْ عُرِفَتْ بِشِدَّةِ الْحَرَكَةِ أَوْ انْفِجَارِ الدَّمِ ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ ، فَلَوْ وَصَلَ بِجُرْحٍ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ وَفِيهِ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ ، ثُمَّ ذُبِحَ لَمْ

يَحِلَّ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ عِنْدَ الذَّبْحِ تَارَةً تُتَيَقَّنُ ، وَتَارَةَ تُظَنُّ بِعَلَامَاتٍ وَقَرَائِنَ ، فَإِنْ شَكَكْنَا فِي اسْتِقْرَارِهَا حَرُمَ لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ وَتَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ ، فَإِنْ مَرِضَ أَوْ جَاعَ فَذَبَحَهُ ، وَقَدْ صَارَ آخِرَ رَمَقٍ حَلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ مَرِضَ بِأَكْلِ نَبَاتٍ مُضِرٍّ حَتَّى صَارَ آخِرَ رَمَقٍ كَانَ سَبَبًا يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحِلَّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي مَرَّةً وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْهِ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى ، وَإِنْ جَرَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .

وَكَذَا إدْخَالُ سِكِّينٍ بِأُذُنِ ثَعْلَبٍ ، وَيُسَنُّ نَحْرُ إبِلٍ
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ قَطْعُ الْجِلْدِ الَّذِي فَوْقَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( وَكَذَا إدْخَالُ سِكِّينٍ بِأُذُنِ ثَعْلَبٍ ) لِيَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ دَاخِلَ الْجِلْدِ لِأَجْلِ جِلْدِهِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِلتَّعْذِيبِ .
ثُمَّ إنْ أَسْرَعَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ دَاخِلَ الْجِلْدِ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ حَلَّ ، وَإِلَّا فَلَا .
تَنْبِيهٌ : الثَّعْلَبُ مِثَالٌ لَا قَيْدٌ ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ .

( وَيُسَنُّ نَحْرُ إبِلٍ ) فِي اللَّبَّةِ ، وَهِيَ أَسْفَلُ الْعُنُقِ كَمَا مَرَّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَلِلْأَمْرِ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَسْرَعُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ لِطُولِ عُنُقِهَا ، وَقِيَاسُ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : أَنْ يَأْتِيَ فِي كُلِّ مَا طَالَ عُنُقُهُ كَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ .

وَذَبْحُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَعِيرُ قَائِمًا مَعْقُولَ الرُّكْبَةِ ، وَالْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ مُضْجَعَةً لِجَنْبِهَا الْأَيْسَرِ ، وَيُتْرَكُ رِجْلُهَا الْيُمْنَى ، وَتُشَدُّ بَاقِي الْقَوَائِمِ .

( وَ ) يُسَنُّ ( ذَبْحُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ ) وَنَحْوِهِمَا كَخَيْلٍ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ الْكَائِنَيْنِ أَعْلَى الْعُنُقِ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا ( وَيَجُوزُ ) بِلَا كَرَاهَةٍ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ( عَكْسُهُ ) وَهُوَ ذَبْحُ إبِلٍ وَنَحْوِهَا وَنَحْرُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ وَنَحْوِهِمَا لِعَدَمِ وُرُودِ نَهْيٍ فِيهِ ( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يَكُونَ ) نَحْرُ ( الْبَعِيرِ قَائِمًا ) عَلَى ثَلَاثٍ ( مَعْقُولَ ) بِالتَّنْوِينِ بِخَطِّهِ ( الرُّكْبَةِ ) وَهِيَ الْيُسْرَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَيْ قِيَامًا عَلَى ثَلَاثٍ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : أَلِفَ الصُّفُوفَ فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَثِيرًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا فَبَارِكًا ، وَالنَّحْرُ الطَّعْنُ بِمَا لَهُ حَدٌّ فِي الْمَنْحَرِ ، وَهُوَ الْوَهْدَةُ الَّتِي فِي أَعْلَى الصَّدْرِ ، وَأَصْلِ الْعُنُقِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّ إيجَابَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَاسْتِحْبَابَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ مَخْصُوصٌ بِالذَّبْحِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ فِي النَّحْرِ أَيْضًا ، وَحَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْحَاوِي وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا ( وَ ) أَنْ تَكُونَ ( الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ ) حَالَ ذَبْحِ كُلٍّ مِنْهُمَا ( مُضْجَعَةً لِجَنْبِهَا الْأَيْسَرِ ) أَمَّا الشَّاةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْجَعَهَا } وَقِيسَ عَلَيْهَا الْبَقَرُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلَ عَلَى الذَّابِحِ فِي أَخْذِهِ السِّكِّينَ بِالْيَمِينِ وَإِمْسَاكِ الرَّأْسِ بِالْيَسَارِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَ الذَّابِحُ أَعْسَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ وَلَا يُضْجِعُهَا عَلَى يَمِينِهَا كَمَا أَنَّ مَقْطُوعَ الْيَمِينِ لَا يُشِيرُ بِسَبَّابَتِهِ الْيُسْرَى ( وَيُتْرَكُ رِجْلُهَا الْيُمْنَى ) بِلَا شَدٍّ لِتَسْتَرِيحَ بِتَحْرِيكِهَا ( وَتُشَدُّ بَاقِي الْقَوَائِمِ ) لِئَلَّا تَضْطَرِبَ حَالَ الذَّبْحِ فَيَزِلَّ الذَّابِحُ .

وَأَنْ يُحِدَّ شَفْرَتَهُ ، وَيُوَجِّهَ لِلْقِبْلَةِ ذَبِيحَتَهُ .
( وَ ) يُسَنُّ لِلذَّابِحِ ( أَنْ يُحِدَّ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ( شَفْرَتَهُ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ : سِكِّينٌ عَظِيمَةٌ ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } .
تَنْبِيهٌ : لَوْ ذَبَحَ بِسِكِّينٍ كَالٍّ حَلَّ بِشَرْطَيْنِ : أَنْ لَا يَحْتَاجَ الْقَطْعُ إلَى قُوَّةِ الذَّابِحِ ، وَأَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ قَبْلَ انْتِهَائِهَا إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ ، وَيُسَنُّ إمْرَارُ السِّكِّينِ بِقُوَّةِ تَحَامُلٍ يَسِيرٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحُدَّ شَفْرَتَهُ وَالْبَهِيمَةُ تَنْظُرُ إلَيْهِ ، وَأَنْ يَذْبَحَ حَيَوَانًا وَآخَرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ ، فَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " رَأَى رَجُلًا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ " وَالْأَوْلَى أَنْ يُسَاقَ الْحَيَوَانُ إلَى الْمَذْبَحِ بِرِفْقٍ ، وَأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ قَبْلَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ عَلَى سُهُولَةِ سَلْخِهِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُبِينَ الرَّأْسَ ، وَأَنْ يَكْسِرَ الْعُنُقَ ، وَأَنْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ، وَأَنْ يُحَرِّكَهُ ، وَأَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَكَانٍ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ مِنْهُ ( وَ ) يُسَنُّ أَنْ ( يُوَجِّهَ ) الذَّابِحُ ( لِلْقِبْلَةِ ذَبِيحَتَهُ ) لِلِاتِّبَاعِ ، وَلِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَاتِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوَجِّهُ مَذْبَحَهَا لَا وَجْهَهَا لِيُمْكِنَهُ أَيْضًا هُوَ الِاسْتِقْبَالُ ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ الِاسْتِقْبَالُ لِلذَّابِحِ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كُرِهَ كَالْبَوْلِ إلَى الْقِبْلَةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ ، وَلِهَذَا شُرِعَ فِيهَا التَّسْمِيَةُ .

وَأَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقُلْ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَاسْمِ مُحَمَّدٍ .

كَمَا قَالَ ( وَأَنْ يَقُولَ ) عِنْدَ ذَبْحِهَا ( بِسْمِ اللَّهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَلَا تَجِبُ ، فَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَلَّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ تَعَمَّدَ لَمْ تَحِلَّ .
وَأَجَابَ أَئِمَّتُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } فَأَبَاحَ الْمُذَكَّى وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ غَالِبًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { إنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمَنَا حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَا بِلِحَامٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَأْكُلُ مِنْهَا ؟ فَقَالَ : اُذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَجَازَ الْأَكْلَ مَعَ الشَّكِّ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّ أَوْ لَمْ يُسَمِّ } { وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى ؟ فَقَالَ : اسْمُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } لَيْسَ مَعْطُوفًا لِلتَّبَايُنِ التَّامِّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ ، إذْ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ إنْشَائِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ اسْمِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِمَكَانِ الْوَاوِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً فَتَقَيَّدَ النَّهْيُ بِحَالِ كَوْنِ الذَّبْحِ فِسْقًا .
وَالْفِسْقُ فِي الذَّبِيحَةِ مُفَسَّرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، وَعَنْ ابْنِ

مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَجُوسَ الْفُرْسِ قَالُوا لِقُرَيْشٍ : تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَأَمَّا نَحْوُ خَبَرِ أَبِي ثَعْلَبَةَ { فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، ثُمَّ كُلْ ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، ثُمَّ كُلْ } فَأَجَابُوا عَنْهُ بِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَخْتَصُّ سَنُّ التَّسْمِيَةِ بِالذَّبْحِ ، بَلْ تُسَنُّ عِنْدَ إرْسَالِ السَّهْمِ وَالْجَارِحَةِ إلَى صَيْدٍ ، وَلَوْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ بِالسَّهْمِ ، وَالْعَضِّ مِنْ الْجَارِحَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ ، بَلْ حَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ النَّصِّ اسْتِحْبَابَهَا عِنْدَ صَيْدِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ ، وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَرْكِهَا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقُولَ فِي التَّسْمِيَةِ : " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ خُصُوصُ هَذَا اللَّفْظِ ، بَلْ لَوْ قَالَ : " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كَانَ حَسَنًا ، وَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : " فَإِنْ زَادَ شَيْئًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَالزِّيَادَةُ خَيْرٌ " فَالْأَكْمَلُ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيُسَنُّ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثًا ، وَأَنْ يَقُولَ " اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك " ( وَ ) أَنْ ( يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) عِنْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ شُرِعَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ ، فَشُرِعَ فِيهِ ذِكْرُ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ ، وَكَرِهَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالُوا : لَا يُذْكَرُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْحَلِيمِيِّ " وَحَاشَا اللَّهِ أَنْ

تُكْرَهَ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ طَاعَةٍ أَوَقُرْبَةً " : بَلْ يُكْرَهُ تَرْكُهَا عَمْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَلَا يَقُلْ ) أَيْ الذَّابِحُ وَالصَّائِدُ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ ، وَلَا ( بِسْمِ اللَّهِ ، وَاسْمِ مُحَمَّدٍ ) وَلَا بِاسْمِ اللَّهِ ، وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَرِّ : أَيْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِإِيهَامِهِ التَّشْرِيكَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : فَإِنْ أَرَادَ أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَأَتَبَرَّكُ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ ذَلِكَ ، وَيُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ نَفَى الْجَوَازَ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ يَصِحُّ نَفْيُ الْجَوَازِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ .
قَالَ : وَقَدْ تَنَازَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ قَزْوِينَ فِيهِ هَلْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَهَلْ يَكْفُرُ أَوْ لَا ؟ وَالصَّوَابُ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَذْبَحُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَقَرُّبًا لَهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا .
أَمَّا لَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ بِرَفْعِ مُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ ، بَلْ وَلَا يُكْرَهُ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا لِعَدَمِ إيهَامِهِ التَّشْرِيكَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي النَّحْوِيِّ .
أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَتَّجِهُ فِيهِ ذَلِكَ .
.

تَنْبِيهٌ : لَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، بَلْ إنْ ذَبَحَ الْمُسْلِمُ لِذَلِكَ تَعْظِيمًا وَعِبَادَةً كَفَرَ كَمَا لَوْ سَجَدَ لَهُ لِذَلِكَ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : مَنْ ذَبَحَ لِلْجِنِّ وَقَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَصْرِفَ شَرَّهُمْ عَنْهُ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَإِنْ قَصَدَ الذَّبْحَ لَهُمْ فَحَرَامٌ ، وَإِنْ ذَبَحَ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِلرُّسُلِ تَعْظِيمًا لِكَوْنِهَا بَيْتَ اللَّهِ أَوْ لِكَوْنِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ جَازَ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ قَوْلُ الْقَائِلِ أَهْدَيْتُ لِلْحَرَمِ أَوْ لِلْكَعْبَةِ ، وَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ إذَا ذُبِحَتْ تَقَرُّبًا إلَى السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِبْشَارَ بِقُدُومِهِ فَلَا بَأْسَ كَذَبْحِ الْعَقِيقَةِ لِوِلَادَةِ الْمَوْلُودِ ، وَعَدَّ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا يَذْبَحَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ : أَيْ فَيُكْرَهُ ، وَإِنْ قَالَ الْغَزَالِيُّ : فِي الْإِحْيَاءِ بِالتَّحْرِيمِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْآلَةُ مُتَرْجِمًا لِذَلِكَ بِفَصْلٍ فَقَالَ .

فَصْلٌ يَحِلُّ ذَبْحُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَجَرْحُ غَيْرِهِ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ يَجْرَحُ كَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ وَذَهَبٍ وَخَشَبٍ وَقَصَبٍ وَحَجَرٍ وَزُجَاجٍ
[ فَصْلٌ ] ( يَحِلُّ ذَبْحُ ) حَيَوَانٍ ( مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ) بِقَطْعِ حُلْقُومِهِ وَمَرِيئِهِ ( وَ ) يَحِلُّ ( جَرْحُ ) حَيَوَانٍ ( غَيْرِهِ ) أَيْ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْهُ ( بِكُلِّ مُحَدَّدٍ ) بِفَتْحِ الدَّالِ الشَّدِيدَةِ : أَيْ لَهُ حَدٌّ ( يَجْرَحُ ) أَيْ يَقْطَعُ ( كَحَدِيدٍ ) أَيْ مُحَدَّدِ حَدِيدٍ ( وَ ) مُحَدَّدِ ( نُحَاسٍ ) وَكَذَا بَقِيَّةُ الْمَعْطُوفَاتِ ( وَذَهَبٍ ) وَفِضَّةٍ وَرَصَاصٍ ( وَخَشَبٍ وَقَصَبٍ وَحَجَرٍ وَزُجَاجٍ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْحَى لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَحِلُّ ذَبْحُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ تَبِعَ فِيهِ الْمُحَرَّرَ وَهُوَ تَعْبِيرٌ مَعْكُوسٌ ، وَالصَّوَابُ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَهِيَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ إلَخْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَيَانُ مَا يَحِلُّ بِهِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ فَذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ بِقَوْلِهِ : ذَكَاةُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِذَبْحِهِ فِي حَلْقٍ أَوْ لَبَّةٍ إنْ قُدِرَ عَلَيْهِ .

إلَّا ظُفْرًا وَسِنًّا وَسَائِرَ الْعِظَامِ .
( إلَّا ظُفْرًا وَسِنًّا وَسَائِرَ ) أَيْ بَاقِي ( الْعِظَامِ ) مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ .
أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ .
وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ } وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ بَاقِي الْعِظَامِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الذَّبْحِ بِالْعِظَامِ قِيلَ تَعَبُّدٌ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَمَالَ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : مَعْنَاهُ لَا تَذْبَحُوا بِهَا فَإِنَّهَا تَنْجَسُ بِالدَّمِ ، وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ تَنَجُّسِهَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ لِكَوْنِهَا زَادَ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ ، فَلَوْ جَعَلَ نَصْلَ سَهْمٍ عَظْمًا فَقَتَلَ بِهِ صَيْدًا حَرُمَ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ ، وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ أَنَّهُ بِمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ أَوْلَى كَأَنْ يَذْبَحَ بِحَرْفِ رَغِيفٍ مُحَدَّدٍ ، وَمَعْلُومٌ مِمَّا يَأْتِي أَنَّ مَا قَتَلَتْهُ الْجَارِحَةُ بِظُفْرِهَا أَوْ نَابِهَا حَلَالٌ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِثْنَائِهِ .

فَلَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ أَوْ ثِقَلِ مُحَدَّدٍ كَبُنْدُقَةٍ وَسَوْطٍ وَسَهْمٍ بِلَا نَصْلٍ وَلَا حَدٍّ أَوْ سَهْمٍ وَبُنْدُقَةٍ أَوْ جَرَحَهُ نَصْلٌ وَأَثَّرَ فِيهِ عُرْضُ السَّهْمِ فِي مُرُورِهِ وَمَاتَ بِهِمَا ، أَوْ انْخَنَقَ بِأُحْبُولَةٍ ، أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ فَوَقَعَ بِأَرْضٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ سَقَطَ مِنْهُ حَرُمَ ، وَلَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ بِالْهَوَاءِ فَسَقَطَ بِأَرْضٍ وَمَاتَ حَلَّ .

وَخَرَجَ بِمُحَدَّدٍ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( فَلَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ ) بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ شَدِيدَةٍ : أَيْ شَيْءٍ ثَقِيلٍ ( أَوْ ثِقَلٍ مُحَدَّدٍ ) فَالْأَوَّلُ ( كَبُنْدُقَةٍ وَسَوْطٍ وَسَهْمٍ بِلَا نَصْلٍ وَلَا حَدٍّ ) وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمْ يُمَثِّلْ لَهُ ، وَذَلِكَ كَسَهْمٍ بِنَصْلٍ أَوْ حَدٍّ قَتَلَ بِثِقَلِهِ ، وَمِنْهُ السِّكِّينُ الْكَالُّ إذَا ذَبَحَتْ بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهَا .
ثُمَّ أَشَارَ لِصُوَرٍ يَقَعُ الْمَوْتُ فِيهَا بِسَبَبَيْنِ بِقَوْلِهِ ( أَوْ ) قَتَلَ بِنَحْوِ ( سَهْمٍ وَبُنْدُقَةٍ ) أَيْ قَتَلَهُ بِهِمَا ( أَوْ جَرَحَهُ ) أَيْ الصَّيْدَ ( نَصْلٌ وَأَثَّرَ فِيهِ عُرْضُ السَّهْمِ ) بِضَمِّ الْعَيْنِ : أَيْ جَانِبُهُ ( فِي مُرُورِهِ وَمَاتَ بِهِمَا ) أَيْ الْجُرْحِ وَالتَّأْثِيرِ ( أَوْ انْخَنَقَ ) وَمَاتَ ( بِأُحْبُولَةٍ ) مَنْصُوبَةٍ لِذَلِكَ ، وَهِيَ مَا تُعْمَلُ مِنْ الْحِبَالِ لِلِاصْطِيَادِ ( أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ ) فَجَرَحَهُ جُرْحًا مُؤَثِّرًا ( فَوَقَعَ بِأَرْضٍ ) عَالِيَةٍ ( أَوْ ) طَرَفِ ( جَبَلٍ ثُمَّ سَقَطَ مِنْهُ ) فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَمَاتَ ( حَرُمَ ) الصَّيْدُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، أَمَّا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ ، فَلِأَنَّهَا مَوْقُوذَةٌ فَإِنَّهَا مِمَّا قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لَا حَدَّ لَهُ ، وَأَمَّا مَوْتُهُ بِالسَّهْمِ وَالْبُنْدُقَةِ وَمَا بَعْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبَيْنِ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ ، فَغَلَبَ الْمُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْمَيْتَاتِ ، وَأَمَّا الْمُنْخَنِقَةُ بِالْأُحْبُولَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } .
وَأَمَّا إذَا أَصَابَهُ سَهْمٌ فَوَقَعَ بِأَرْضٍ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ الشُّرَّاحِ فِي تَصْوِيرِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ بِمَا إذَا أَصَابَهُ السَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ جُرْحًا بَلْ كَسَرَ جَنَاحَهُ فَوَقَعَ فَمَاتَ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِعَدَمِ مُبِيحٍ يُحَالُ الْمَوْتُ عَلَيْهِ .
أَمَّا إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ جُرْحًا مُؤَثِّرًا ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ بِمَا إذَا جَرَحَهُ

جُرْحًا مُؤَثِّرًا وَوَقَعَ بِأَرْضٍ عَالِيَةٍ ثُمَّ سَقَطَ مِنْهَا وَجَعَلَهُ مِنْ صُوَرِ الْمَوْتِ بِسَبَبَيْنِ ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَا يُدْرَى بِأَيِّهِمَا مَاتَ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا حَمَلْتُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ عَبَّرَ كَالْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ بِوُقُوعٍ عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ كَانَ أَوْلَى ، وَلَا بُدَّ فِي تَصْوِيرِ الْأَرْضِ وَالْجَبَلِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ .
أَمَّا إذَا أَنْهَاهُ السَّهْمُ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا أَثَرَ لِصَدْمَةِ الْأَرْضِ وَالْجَبَلِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ سَقَطَ عَمَّا إذَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ ، وَلَكِنْ تَدَحْرَجَ مِنْ جَنْبٍ إلَى جَنْبٍ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِلَا خِلَافٍ .
فَائِدَةٌ : أَفْتَى الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْبُنْدُقِ جَائِزٌ ، وَلَكِنَّ مَحِلُّهُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ لَا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا كَالْكَرْكِيِّ ، فَإِنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا كَالْعَصَافِيرِ وَصِغَارِ الْوَحْشِ حَرُمَ كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، فَإِنْ احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ ( وَلَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ بِالْهَوَاءِ ) أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا مُؤَثِّرًا ( فَسَقَطَ بِأَرْضٍ وَمَاتَ ) قَبْلَ وُصُولِهِ الْأَرْضَ ، أَوْ بَعْدَهُ ( حَلَّ ) ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْأَرْضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ قَائِمًا فَوَقَعَ عَلَى جَنْبَيْهِ لَمَّا أَصَابَهُ السَّهْمُ وَانْصَدَمَ بِالْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّائِرُ عَلَى شَجَرَةٍ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ فَسَقَطَ بِالْأَرْضِ .
فَإِنْ سَقَطَ عَلَى غُصْنٍ ، ثُمَّ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا لَوْ سَقَطَ عَلَى سَطْحٍ ثُمَّ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ ، وَخَرَجَ بِالْأَرْضِ مَا لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ حَلَّ إنْ لَمْ يَصْدِمْ جُدْرَانَهَا .
.

تَنْبِيهٌ : لَوْ رَمَى طَيْرَ الْمَاءِ ، وَهُوَ فِيهِ فَأَصَابَهُ ، وَمَاتَ حَلَّ ، وَالْمَاءُ لَهُ كَالْأَرْضِ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ فِي هَوَاءِ الْمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْمَاءِ ، وَلَوْ فِي نَحْوِ سَفِينَةٍ حَلَّ ، أَوْ فِي الْبَرِّ حَرُمَ إنْ لَمْ يُنْهِهِ بِالْجُرْحِ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ ، وَلَوْ كَانَ الطَّيْرُ خَارِجَ الْمَاءِ فَرَمَاهُ فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّامِي فِي الْمَاءِ أَمْ خَارِجَهُ حَرُمَ كَمَا فُهِمَ مِمَّا ذُكِرَ بِالْأَوْلَى ، وَكَمَا هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا بِلَا تَرْجِيحٍ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمَا أَنَّ طَيْرَ الْبَرِّ لَيْسَ كَطَيْرِ الْمَاءِ فِيمَا ذُكِرَ ، لَكِنَّ الْبَغَوِيَّ فِي تَعْلِيقِهِ جَعَلَهُ مِثْلَهُ ، فَإِنْ حُمِلَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي طَيْرِ الْمَاءِ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى مَعْنَى فِي فَلَا مُخَالَفَةَ ، وَهَذَا أَوْلَى ، وَمَحِلُّ مَا مَرَّ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إذَا لَمْ يَغْمِسْهُ السَّهْمُ فِي الْمَاءِ .
سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ أَمْ فِي هَوَائِهِ .
أَمَّا لَوْ غَمَسَهُ فِيهِ قَبْلَ إنْهَائِهِ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ ، أَوْ انْغَمَسَ فِيهِ بِالْوُقُوعِ لِثِقَلِ جُثَّتِهِ فَمَاتَ فَهُوَ غَرِيقٌ لَا يَحِلُّ قَطْعًا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا السَّاقِطُ فِي النَّارِ فَحَرَامٌ .

وَيَحِلُّ الِاصْطِيَادُ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ كَكَلْبٍ وَفَهْدٍ وَبَازٍ وَشَاهِينِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مُعَلَّمَةً بِأَنْ تَنْزَجِرَ جَارِحَةُ السِّبَاعِ بِزَجْرِ صَاحِبِهَا وَتَسْتَرْسِلَ بِإِرْسَالِهِ ، وَيُمْسِكَ الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ .

( وَيَحِلُّ الِاصْطِيَادُ ) أَيْ أَكْلُ الْمُصَادِ بِالشَّرْطِ الْآتِي فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ( بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ ) فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ جُرْحُهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِأَنْ أَدْرَكَهُ مَيِّتًا ، أَوْ فِي حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ ، أَمَّا الِاصْطِيَادُ بِمَعْنَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْجَوَارِحِ ، بَلْ يَحْصُلُ بِكُلِّ طَرِيقٍ تَيَسَّرَ كَمَا يَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ وَذَبْحُهُ كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ ، وَالْجَوَارِحُ جَمْعُ جَارِحٍ ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَجْرَحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِجَرْحِهِ الطَّيْرَ بِظُفْرِهِ ، أَوْ نَابِهِ .
ثُمَّ مَثَّلَ الْجَوَارِحَ بِقَوْلِهِ ( كَكَلْبٍ وَفَهْدٍ ) وَنَمِرٍ فِي السِّبَاعِ ( وَبَازٍ وَشَاهِينِ ) وَصَقْرٍ فِي الطَّيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } أَيْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَقَوْلُهُ فِي الْوَسِيطِ : فَرِيسَةُ الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ حَرَامٌ غَلَطٌ مَرْدُودٌ ؛ وَلَيْسَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ ، بَلْ هُمَا كَالْكَلْبِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، وَكُلُّ الْأَصْحَابِ ا هـ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَرَّحَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَأَصْلِهَا هُنَا بِعَدِّ النَّمِرِ فِي السِّبَاعِ الَّتِي يَحِلُّ الِاصْطِيَادُ بِهَا ، وَقَالَا فِي كِتَابِ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بَيْعُ النَّمِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ فِي نَمِرٍ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ ، وَمَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، فَإِذَا كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ أَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ صَحَّ بَيْعُهُ ( بِشَرْطِ كَوْنِهَا مُعَلَّمَةً ) لِلْآيَةِ وَلِلْحَدِيثِ الْمَارِّ ( بِأَنْ تَنْزَجِرَ ) أَيْ تَقِفَ ( جَارِحَةُ السِّبَاعِ بِزَجْرِ صَاحِبِهَا ) فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَبَعْدَهُ ( وَ ) أَنْ ( تَسْتَرْسِلَ بِإِرْسَالِهِ ) أَيْ تَهِيجَ بِإِغْرَائِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مُكَلِّبِينَ } قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : " إذَا أَمَرْتَ الْكَلْبَ فَائْتَمَرَ وَإِذَا نَهَيْتَهُ فَانْتَهَى فَهُوَ كَلْبٌ مُكَلَّبٌ " حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ

رِوَايَةِ يُونُسَ ( وَ ) أَنْ ( يُمْسِكَ ) أَيْ يَحْبِسَ ( الصَّيْدَ ) عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يُخَلِّيَهُ يَذْهَبُ ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلَا يَدْفَعَهُ عَنْهُ ( وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ لَحْمِهِ أَوْ نَحْوِهِ كَجِلْدِهِ وَحَشْوَتِهِ وَأُذُنِهِ وَعَظْمِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ لَهُ أَوْ عَقِبَهُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ ، وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } وَمَنْعُهُ الصَّائِدَ مِنْ الصَّيْدِ كَالْأَكْلِ مِنْهُ .
أَمَّا إذَا أَكَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ أَوْ قَتَلَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَعَادَ إلَيْهِ فَأَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي الْقَطْعُ فِي تَنَاوُلِهِ الشَّعْرَ بِالْحِلِّ ، إذْ لَيْسَ عَادَتُهُ الْأَكْلَ مِنْهُ ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَالرِّيشُ ، وَفِيمَا ذُكِرَ تَذْكِيرُ الْجَارِحَةِ ، وَسَيَأْتِي تَأْنِيثُهَا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى تَارَةً وَإِلَى اللَّفْظِ أُخْرَى .

وَيُشْتَرَطُ تَرْكُ الْأَكْلِ فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَيُشْتَرَطُ تَكَرُّرُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِحَيْثُ يَظُنُّ تَأَدُّبَ الْجَارِحَة ، وَلَوْ ظَهَرَ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ثُمَّ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَيُشْتَرَطُ تَرْكُ الْأَكْلِ فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ فِي الْأَظْهَرِ ) قِيَاسًا عَلَى جَارِحَةِ السِّبَاعِ .
وَالثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ لِتَتَعَلَّمَ تَرْكَ الْأَكْلِ ، بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا انْزِجَارُهَا بِالزَّجْرِ وَلَا إمْسَاكُهَا الصَّيْدَ لِصَاحِبِهَا ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ فِي الثَّانِي ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْأُولَى ، وَنَقَلَ عَنْ الْإِمَام أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي انْزِجَارِهَا بَعْدَ طَيَرَانِهَا ، لَكِنْ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِيهَا أَيْضًا كَمَا نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ كَغَيْرِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ فِي الْبَسِيطِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَقَالَةَ الْإِمَامِ بِلَفْظِ قِيلَ ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَنَقَلَهُ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَسُلَيْمٍ الرَّازِيِّ وَنَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي مَنْهَجِهِ ( وَيُشْتَرَطُ تَكَرُّرُ هَذِهِ الْأُمُورِ ) الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّعْلِيمِ ( بِحَيْثُ يَظُنُّ تَأَدُّبَ الْجَارِحَةِ ) وَلَا يَنْضَبِطُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ ، بَلْ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْجَوَارِحِ .
وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ تَكَرُّرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقِيلَ مَرَّتَيْنِ ( وَلَوْ ظَهَرَ ) بِمَا ذُكِرَ مِنْ الشُّرُوطِ ( كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ثُمَّ أَكَلَ ) مَرَّةً كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ( مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْأَظْهَرِ ) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَارِّ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْأَكْلِ شَرْطٌ فِي التَّعَلُّمِ ابْتِدَاءً ، فَكَذَا دَوَامًا ، وَالثَّانِي يَحِلُّ أَكْلُهُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ { إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ } وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ فِي رِجَالِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ ، وَإِنْ صَحَّ حَمْلٌ عَلَى مَا إذَا أَطْعَمَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ أَوْ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا قَتَلَهُ وَانْصَرَفَ

عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَكْلِ مَرَّةً كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، فَلَوْ تَكَرَّرَ الْأَكْلُ مِنْهُ حَرُمَ الْآخَرُ جَزْمًا ، وَمَا أَكَلَ مِنْهُ قَبْلَهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَنَبَّهَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ذَلِكَ الصَّيْدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَطِفُ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا اصْطَادَهُ قَبْلَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَكْلِ عَنْ التَّعْلِيمِ إذَا أَكَلَ مِمَّا أَرْسَلَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ اسْتَرْسَلَ الْمُعَلَّمُ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَ وَأَكَلَ لَمْ يُقْدَحْ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّمًا قَطْعًا ، وَقَوْلُهُ : مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ قَدْ يُخْرِجُ غَيْرَهُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يَلْحَقُ بِهِ نَحْوُهُ مِمَّا مَرَّ مِنْ جِلْدِهِ وَعَظْمِهِ وَحَشْوَتِهِ .

فَيُشْتَرَطُ تَعْلِيمٌ جَدِيدٌ ، وَلَا أَثَرَ لِلَعْقِ الدَّمِ ، وَمَعَضُّ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ نَجِسٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ ، وَأَنَّهُ يَكْفِي غَسْلُهُ بِمَاءٍ وَتُرَابٍ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُقَوَّرَ وَيُطْرَحَ .
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْأَظْهَرِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْحِلِّ قَوْلَهُ ( فَيُشْتَرَطُ ) فِي هَذِهِ الْجَارِحَةِ ( تَعْلِيمٌ جَدِيدٌ ) قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : لِفَسَادِ التَّعْلِيمِ الْأَوَّلِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِعَدَمِ انْعِطَافِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا صَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ا هـ .
وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفَسَادَ مِنْ حِينَ الْأَكْلِ ، وَلَمْ يَقُلْ لِتَبَيُّنِ فَسَادِ التَّعْلِيمِ ( وَلَا أَثَرَ لِلَعْقِ الدَّمِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلصَّائِدِ ، فَصَارَ كَتَنَاوُلِهِ الْفَرْثَ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مَنُوطٌ فِي الْحَدِيثِ بِالْأَكْلِ وَلَمْ يُوجَدْ ( وَمَعَضُّ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ نَجِسٌ ) كَغَيْرِهِ مِمَّا يُنَجِّسُهُ الْكَلْبُ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ ) كَوُلُوغِهِ ، وَالثَّانِي يُعْفَى عَنْهُ لِلْحَاجَةِ ، وَقَوَّاهُ فِي الْمَطْلَبِ ( وَ ) الْأَصَحُّ عَلَى الْأَوَّلِ ( أَنَّهُ يَكْفِي غَسْلُهُ ) أَيْ الْمَعَضِّ سَبْعًا ( بِمَاءٍ وَتُرَابٍ ) فِي إحْدَاهُنَّ كَغَيْرِهِ ( وَ ) أَنَّهُ ( لَا يَجِبُ أَنْ يُقَوَّرَ ) الْمَعَضُّ ( وَيُطْرَحَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ، وَالثَّانِي يَجِبُ ذَلِكَ ، وَلَا يَكْفِي الْغَسْلُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ تَشَرَّبَ لُعَابَهُ ، فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْمَاءُ .

وَلَوْ تَحَامَلَتْ الْجَارِحَةُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَتْهُ بِثِقَلِهَا حَلَّ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ تَحَامَلَتْ الْجَارِحَةُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَتْهُ بِثِقَلِهَا ) وَلَمْ تَجْرَحْهُ ( حَلَّ فِي الْأَظْهَرِ ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، وَلِأَنَّهُ يَعْسُرُ تَعْلِيمُهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ إلَّا بِجُرْحٍ ، وَالثَّانِي يَحْرُمُ : كَالْقَتْلِ بِثِقَلِ السَّيْفِ أَوْ الرُّمْحِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ تَجْرَحْهُ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ .
أَمَّا إذَا جَرَحَتْهُ ثُمَّ تَحَامَلَتْ عَلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَطْعًا ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : بِثِقَلِهِ مَا لَوْ مَاتَ فَزِعًا مِنْ الْجَارِحَةِ أَوْ مِنْ عَدْوِهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَطْعًا ، لَكِنَّ الثِّقَلَ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، بَلْ لَوْ مَاتَ بِصَدْمَتِهَا أَوْ بِعَضِّهَا أَوْ بِقُوَّةِ إمْسَاكِهَا مِنْ غَيْرِ عَقْرٍ كَانَ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : فَمَاتَ بِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ لَكَانَ أَشْمَلَ ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ بِقَيْدٍ أَيْضًا ، بَلْ لَوْ صَارَ بِالثِّقَلِ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .

وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ سِكِّينٌ فَسَقَطَ وَانْجَرَحَ بِهِ صَيْدٌ أَوْ احْتَكَّتْ بِهِ شَاةٌ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَانْقَطَعَ حُلْقُومُهَا وَمَرِيئُهَا أَوْ اسْتَرْسَلَ كَلْبٌ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَ لَمْ يَحِلَّ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَرْسَلَ كَلْبٌ فَأَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَزَادَ عَدْوُهُ لَمْ يَحِلَّ فِي الْأَصَحِّ .

( وَ ) يُشْتَرَطُ فِي الذَّبْحِ قَصْدُ الْعَيْنِ بِالْفِعْلِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ أَوْ قَصْدِ الْجِنْسِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْإِصَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَصْوِيرِهِمَا ، فَعَلَى هَذَا ( لَوْ كَانَ بِيَدِهِ ) أَيْ شَخْصٍ ( سِكِّينٌ ) مَثَلًا ( فَسَقَطَ ) مِنْ يَدِهِ ( وَانْجَرَحَ بِهِ صَيْدٌ ) مَثَلًا وَمَاتَ ( أَوْ احْتَكَّتْ بِهِ شَاةٌ ) مَثَلًا ( وَهُوَ فِي يَدِهِ ) سَوَاءٌ أَحَرَّكَهَا أَمْ لَا ( فَانْقَطَعَ حُلْقُومُهَا وَمَرِيئُهَا ) أَوْ تَعَقَّرَ بِهِ صَيْدٌ ( أَوْ اسْتَرْسَلَ كَلْبٌ ) مُعَلَّمٌ ( بِنَفْسِهِ فَقَتَلَ ) صَيْدًا ( لَمْ يَحِلَّ ) وَاحِدٌ مِمَّا ذُكِرَ قَطْعًا لِانْتِفَاءِ الذَّبْحِ وَقَصْدِهِ وَالْإِرْسَالِ ( وَكَذَا لَوْ اسْتَرْسَلَ كَلْبٌ فَأَغْرَاهُ صَاحِبُهُ ) أَوْ غَيْرُهُ ( فَزَادَ عَدْوُهُ لَمْ يَحِلَّ ) الصَّيْدُ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِاجْتِمَاعِ الِاسْتِرْسَالِ الْمَانِعِ وَالْإِغْرَاءِ الْمُبِيحِ فَغُلِّبَ جَانِبُ الْمَنْعِ .
وَالثَّانِي يَحِلُّ لِظُهُورِ أَثَرِ الْإِغْرَاءِ بِزِيَادَةِ الْعَدْوِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : فَزَادَ عَدْوُهُ عَمَّا إذَا لَمْ يَزِدْ ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ جَزْمًا .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْوَجْهَيْنِ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إغْرَاءٌ وَزَجْرٌ ، فَإِنْ تَقَدَّمَ بِأَنْ انْزَجَرَ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَاسْتَرْسَلَ وَاصْطَادَ حَلَّ قَطْعًا ، وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ فَأَغْرَاهُ فَزَادَ عَدْوُهُ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَالِكُهُ فَزَجَرَهُ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَاسْتَرْسَلَ وَأَخَذَ صَيْدًا فَهُوَ لِلْفُضُولِيِّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُرْسِلُ ، فَإِنْ زَجَرَهُ الْفُضُولِيُّ فَلَمْ يَنْزَجِرْ أَوْ لَمْ يَزْجُرْهُ بَلْ أَغْرَاهُ فَزَادَ عَدْوُهُ وَأَخَذَ صَيْدًا فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجَارِحِ ، وَلِلْأَجْنَبِيِّ أَخْذُ الصَّيْدِ مِنْ فَمِ جَارِحٍ مُعَلَّمٍ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ وَيَمْلِكُهُ بِالْأَخْذِ كَمَا لَوْ أَخَذَ فَرْخَ طَائِرٍ مِنْ شَجَرَةِ غَيْرِهِ لَا مِنْ فَمِ غَيْرِ مُعَلَّمٍ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ مَا صَادَهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ تَنْزِيلًا لِإِرْسَالِهِ مَنْزِلَةَ نَصْبِ شَبَكَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا الصَّيْدُ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ فَازْدَادَ عَدْوُهُ

بِإِغْرَاءِ مَجُوسِيٍّ حَلَّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِرْسَالِ لَا يَنْقَطِعُ بِالْإِغْرَاءِ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَأَغْرَاهُ مُسْلِمٌ حَرُمَ لِذَلِكَ .

وَلَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ بِإِعَانَةِ رِيحٍ حَلَّ وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا لِاخْتِبَارِ قُوَّتِهِ أَوْ إلَى غَرَضٍ فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ حَرُمَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا أَوْ سِرْبَ ظِبَاءٍ فَأَصَابَ وَاحِدَةً حَلَّتْ ، وَإِنْ قَصَدَ وَاحِدَةً فَأَصَابَ غَيْرَهَا حَلَّتْ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَوْ أَصَابَهُ ) أَيْ الصَّيْدَ ( سَهْمٌ بِإِعَانَةِ رِيحٍ ) مَثَلًا ( حَلَّ ) سَوَاءٌ اقْتَرَنَ الرِّيحُ بِابْتِدَاءِ رَمْيِ السَّهْمِ أَوْ هَجَمَ الرِّيحُ قَبْلَ خُرُوجِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُهُمْ ، إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ هُبُوبِهَا ، بِخِلَافِ حَمْلِهَا الْكَلَامَ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ الْمُصَنِّفُ كَغَيْرِهِ بِإِعَانَتِهَا إلَى أَنَّهُ لَوْ صَارَتْ الْإِصَابَةُ مَنْسُوبَةً إلَى الرِّيحِ خَاصَّةً لَمْ يَحِلَّ ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَافِي كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ وَأَقَرَّهُ ، وَلَوْ أَصَابَ السَّهْمُ الْأَرْضَ أَوْ جِدَارًا أَوْ حَجَرًا فَازْدَلَفَ وَنَفَذَ فِيهِ أَوْ انْقَطَعَ الْوَتَرُ عِنْدَ نَزْعِ الْقَوْسِ فَصُدِمَ الْفَوْقُ فَارْتَمَى السَّهْمُ وَأَصَابَ الصَّيْدَ فِي الْجَمِيعِ حَلَّ ؛ لِأَنَّهُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِ الرَّامِي مَنْسُوبٌ إلَيْهِ ، إذْ لَا اخْتِيَارَ لِلسَّهْمِ ( وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا ) مَثَلًا ( لِاخْتِبَارِ قُوَّتِهِ أَوْ إلَى غَرَضٍ ) يَرْمِي إلَيْهِ ( فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ ) ذَلِكَ السَّهْمُ ( حَرُمَ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدًا مُعَيَّنًا وَلَا مُبْهَمًا .
وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ نَظَرًا إلَى قَصْدِ الْفِعْلِ دُونَ مَوْرِدِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ مَا ظَنَّهُ ثَوْبًا فَبَانَ حَلْقَ شَاةٍ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ هُنَاكَ قَصَدَ عَيْنًا ، بِخِلَافِهِ هُنَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ قَوْلِهِ : فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ صَيْدٌ حَلَّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الِاصْطِيَادِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ ، فَلَوْ قَالَ : لَا بِقَصْدٍ لَكَانَ أَشْمَلَ ، وَفِي مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى مَا لَا يُؤْكَلُ كَخِنْزِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ حَيْثُ لَا صَيْدَ فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ ( وَلَوْ رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا ) أَوْ حَيَوَانًا لَا يُؤْكَلُ فَأَصَابَ صَيْدًا حَلَّ ( أَوْ ) رَمَى (

سِرْبَ ) بِكَسْرِ السِّينِ : أَيْ قَطِيعَ ( ظِبَاءٍ ) وَنَحْوِهَا مِنْ الْوُحُوشِ ( فَأَصَابَ وَاحِدَةً ) مِنْ ذَلِكَ السِّرْبِ ( حَلَّتْ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِفِعْلِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِظَنِّهِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ السِّرْبَ ، وَهَذِهِ مِنْهُ ( وَإِنْ قَصَدَ وَاحِدَةً ) مِنْ السِّرْبِ ( فَأَصَابَ غَيْرَهَا ) مِنْهُ ( حَلَّتْ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغَيْرُ عَلَى سَمْتِ الْأُولَى أَمْ لَا لِوُجُودِ قَصْدِ الصَّيْدِ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ ، وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَعَدَلَ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْإِرْسَالِ فَأَصَابَهُ وَمَاتَ حَلَّ كَمَا فِي السَّهْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ تَكْلِيفُهُ تَرْكَ الْعُدُولِ ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ لَوْ عَدَلَ فَتَبِعَهُ حَلَّ قَطْعًا ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ حِلُّهُ وَإِنْ ظَهَرَ لِلْكَلْبِ بَعْدَ إرْسَالِهِ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَمْسَكَهُ ثُمَّ عَنَّ لَهُ آخَرُ فَأَمْسَكَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ مَوْجُودًا أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ يُرْسِلَهُ عَلَى صَيْدٍ وَقَدْ وُجِدَ ، وَلَوْ قَصَدَ وَأَخْطَأَ فِي الظَّنِّ وَالْإِصَابَةِ مَعًا كَمَنْ رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا غَيْرَهُ حَرُمَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا ، فَلَا يَسْتَفِيدُ الْحِلَّ ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ بِأَنْ رَمَى حَجَرًا أَوْ خِنْزِيرًا ظَنَّهُ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا فَمَاتَ حَلَّ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُبَاحًا .

فُرُوعٌ : لَوْ رَمَى فِي ظُلْمَةٍ لَعَلَّهُ يُصَادِفُ صَيْدًا فَصَادَفَهُ وَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدًا صَحِيحًا ، وَقَدْ يُعَدُّ مِثْلُهُ سَفَهًا وَعَبَثًا ، وَلَوْ رَمَى شَاةً فَأَصَابَ مَذْبَحَهَا وَلَوْ اتِّفَاقًا بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ فَقَطَعَهُ حَلَّتْ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الرَّمْيَ إلَيْهَا ، وَلَوْ أَحَسَّ بِصَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ شَجَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَرَمَاهُ فَأَصَابَهُ وَمَاتَ حَلَّ ؛ لِأَنَّ لَهُ بِهِ نَوْعَ عِلْمٍ ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي عَدَمِ الْحِلِّ بِرَمْيِ الْأَعْمَى ، إذْ الْبَصِيرُ يَصِحُّ رَمْيُهُ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَعْمَى .

وَلَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ ، وَإِنْ جَرَحَهُ وَغَابَ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَلَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ ) الَّذِي أَرْسَلَهُ ( وَالصَّيْدُ ) قَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ ( ثُمَّ وَجَدَهُ ) أَيْ الصَّيْدَ ( مَيِّتًا حَرُمَ ) لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَلَا أَثَرَ لِتَلَطُّخِ الْكَلْبِ بِالدَّمِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْكَلْبَ جَرَحَهُ وَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ أُخْرَى ( وَإِنْ جَرَحَهُ ) الْكَلْبُ أَوْ أَصَابَهُ بِسَهْمٍ فَجَرَحَهُ جُرْحًا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ ( وَغَابَ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ فِي الْأَظْهَرِ ) لِمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي يَحِلُّ حَمْلًا عَلَى أَنَّ مَوْتَهُ بِالْجُرْحِ ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ .
وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ : إنَّهُ أَصَحُّ دَلِيلًا ، وَفِي الْمَجْمُوعِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ ، وَثَبَتَ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ دُونَ التَّحْرِيمِ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِطُرُقِ حَسَنَةٍ ، وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ صَيْدٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا يَرْمِي الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَيَجِدُهُ مَيِّتًا ؟ فَقَالَ : إذَا وَجَدْتَ فِيهِ أَثَرَ سَهْمِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَثَرُ سَبْعٍ وَعَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْ } فَهَذَا مُقَيِّدٌ لِبَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ وَدَالٌّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ ا هـ .
: أَيْ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ : أَيْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ ، فَتَحَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا فِي الْمَتْنِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَنْهَاهُ بِالْجُرْحِ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ وَإِلَّا فَيَحِلُّ جَزْمًا ، وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ غَيْرَ جُرْحِهِ ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ أَثَرَ صَدْمَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أُخْرَى حَرُمَ جَزْمًا .
تَتِمَّةٌ : لِمَسْأَلَةِ الْمَتْنِ نَظَائِرُ مِنْهَا مَا إذَا مَشَطَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَسَقَطَ مِنْهُ شَعْرٌ وَشَكَّ هَلْ انْتَتَفَ بِالْمُشْطِ أَوْ كَانَ مُنْتَتَفًا ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ .
وَمِنْهَا إذَا

قَدَّ مَلْفُوفًا وَمَرَّ مَا فِيهِ .
وَمِنْهَا إذَا بَالَتْ ظَبْيَةٌ فِي مَاءٍ ثُمَّ ظَهَرَ تَغَيُّرُهُ ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ نَجَاسَتُهُ إحَالَةً عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ كَمَا مَرَّ فِي مَحِلِّهِ ، وَهَذَا يُقَوِّي الْوَجْهَ الثَّانِيَ .
وَمِنْهَا إذَا جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ مَاتَ بِسَبَبِ جِرَاحَتِهِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَالْأَصَحُّ فِيهَا وُجُوبُ الْأَرْشِ لَا كَمَالُ الْجَزَاءِ ، إذْ الشَّكُّ فِيهِ أَوْجَبَ عَدَمَ وُجُوبِهِ ، وَهَذَا يُقَوِّي الْوَجْهَ الْأَوَّلَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ .

فَصْلٌ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِضَبْطِهِ بِيَدِهِ ، وَبِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ ، وَبِإِزْمَانٍ وَكَسْرِ جَنَاحٍ ، وَبِوُقُوعِهِ فِي شَبَكَةٍ نَصَبَهَا ، وَبِإِلْجَائِهِ إلَى مَضِيقٍ لَا يُفْلِتُ مِنْهُ .

[ فَصْلٌ ] فِيمَا يَمْلِكُ بِهِ الصَّيْدَ وَ مَا يُذْكَرُ مَعَهُ .
( يَمْلِكُ ) الصَّائِدُ ( الصَّيْدَ ) غَيْرَ الْحَرَمِيِّ مُمْتَنِعًا كَانَ أَمْ لَا ، إنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ مِلْكٍ كَخَضْبٍ ، وَقَصِّ جَنَاحٍ ، وَقُرْطٍ وَصَائِدُهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَغَيْرُ مُرْتَدٍّ ( بِضَبْطِهِ بِيَدِهِ ) وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ صَيْدًا لِيَنْظُرَ إلَيْهِ مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ .
نَعَمْ إنْ قَصَدَ أَخْذَهُ لِغَيْرِهِ نِيَابَةً عَنْهُ بِإِذْنِهِ مَلَكَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ مِلْكٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهُ ، بَلْ هُوَ ضَالَّةٌ أَوْ لُقَطَةٌ .
وَأَمَّا الصَّيْدُ الْحَرَمِيُّ وَالصَّائِدُ الْمُحْرِمُ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُمَا فِي مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَسَبَقَ فِي الرِّدَّةِ أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ إنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ ( وَ ) يَمْلِكُ الصَّيْدَ أَيْضًا ( بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ ) أَيْ مُسْرِعٍ لِلْهَلَاكِ ( وَبِإِزْمَانٍ وَكَسْرِ جَنَاحٍ ) بِحَيْثُ يَعْجَزُ عَنْ الطَّيَرَانِ وَالْعَدْوِ جَمِيعًا ، إنْ كَانَ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا وَإِلَّا فَبِإِبْطَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَقَصُّ الْجَنَاحِ كَكَسْرِهِ ، وَيَكْفِي لِلتَّمَلُّكِ إبْطَالُ شِدَّةِ الْعَدْوِ وَجَعْلُهُ بِحَيْثُ يَسْهُلُ إلْحَاقُهُ وَأَخْذُهُ ، وَلَوْ طَرَدَهُ فَوَقَفَ إعْيَاءً أَوْ جَرَحَهُ فَوَقَفَ عَطَشًا لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ فِي الْأَوَّلِ اسْتِرَاحَةٌ وَهِيَ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَفِي الثَّانِي لِعَدَمِ الْمَاءِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَرَحَهُ فَوَقَفَ عَطَشًا لِعَجْزِهِ عَنْ وُصُولِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْجِرَاحَةُ ( وَ ) يَمْلِكُ أَيْضًا ( بِوُقُوعِهِ فِي شَبَكَةٍ ) مِنْ الشَّبَكِ ، وَهُوَ الْخَيْطُ ( نَصَبَهَا ) لِلصَّيْدِ فَيَمْلِكُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَاضِرًا أَمْ

غَائِبًا طَرَدَهُ إلَيْهَا طَارِدٌ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الشَّبَكَةُ مُبَاحَةً أَمْ مَغْصُوبَةً ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ غَصَبَ عَبْدًا وَأَمَرَهُ بِالصَّيْدِ كَانَ الصَّيْدُ لِمَالِكِ الْعَبْدِ بِخِلَافِهِ هُنَا .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ دَخَلَ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ قَهْرًا ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ نَصَبَهَا عَمَّا لَوْ وَقَعَتْ الشَّبَكَةُ مِنْ يَدِهِ بِلَا قَصْدٍ ، وَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ نَصَبَهَا لَهُ كَالْمُحَرَّرِ أَوْ لِلصَّيْدِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ نَصْبِهَا لَا يَكْفِي حَتَّى يَقْصِدَ نَصْبَهَا لِلصَّيْدِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا ، فَإِنْ قَطَعَهَا الصَّيْدُ فَانْفَلَتَ مِنْهَا صَارَ مُبَاحًا يَمْلِكُهُ مَنْ صَادَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ تُثْبِتْهُ شَبَكَتُهُ ، وَإِنْ قَطَعَهَا غَيْرُهُ فَانْفَلَتَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا ، فَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ، وَلَوْ ذَهَبَ الصَّيْدُ بِالشَّبَكَةِ نُظِرَتْ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِأَنْ يَعْدُوَ وَيَمْتَنِعَ مَعَهَا فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَإِنْ كَانَ ثِقَلُهَا يَبْطُلُ امْتِنَاعُهُ بِحَيْثُ لَا يَتَيَسَّرُ أَخْذُهُ فَهُوَ لِصَاحِبِهَا ( وَ ) يَمْلِكُ أَيْضًا ( بِإِلْجَائِهِ إلَى مَضِيقٍ ) وَلَوْ مَغْصُوبًا ( لَا يُفْلِتُ مِنْهُ ) أَيْ لَا يَقْدِرُ الصَّيْدُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ كَبَيْتٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَدَرَ الصَّيْدُ عَلَى التَّفَلُّتِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُلْجِئُ ، وَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ .
تَنْبِيهٌ : يُفْلِتُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ بِخَطِّهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَضَبَطَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ .
قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ : وَهُوَ مُخَالِفٌ لِضَبْطِ الْمُصَنِّفِ ، وَقَدْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِحَصْرِ مِلْكِ الصَّيْدِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الصُّوَرِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ عَشَّشَ طَائِرٌ فِي

بِنَائِهِ ، وَقَصَدَ بِبِنَائِهِ تَعْشِيشَهُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ لِقَصْدِهِ ذَلِكَ ، وَالضَّابِطُ الَّذِي تُرَدُّ إلَيْهِ صُوَرُ مِلْكِ الصَّيْدِ هُوَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ إبْطَالُ امْتِنَاعِهِ وَحُصُولُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ عَبَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ كَانَ أَوْلَى لِيَسْلَمَ مِنْ الْبَسْطِ وَالْحَذْفِ ، وَلَوْ دَخَلَ السَّمَكُ حَوْضًا لَهُ فَسَدَّ الْمَنْفَذَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ صَغِيرًا يُمْكِنُهُ تَنَاوُلُ مَا فِيهِ بِالْيَدِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا فِيهِ إلَّا بِجَهْدٍ وَتَعَبٍ أَوْ إلْقَاءِ شَبَكَةٍ فِي الْمَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَصِيدُهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ .
فَرْعٌ : الدُّرَّةُ الَّتِي تُوجَدُ فِي السَّمَكَةِ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ مِلْكٌ لِلصَّائِدِ إنْ لَمْ يَبِعْ السَّمَكَةَ .
وَلِلْمُشْتَرِي إنْ بَاعَهَا تَبَعًا لَهَا ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : كَذَا فِي التَّهْذِيبِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا فِي الثَّانِيَةِ لِلصَّائِدِ أَيْضًا كَالْكَنْزِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ لِمُحْيِيهَا ، وَمَا بَحَثَهُ هُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَثْقُوبَةً فَلِلْبَائِعِ ، وَصُورَتُهُ إنْ ادَّعَاهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْعٌ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَدَّعِهَا الْبَائِعُ فَلُقَطَةٌ ، وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ مَا ذُكِرَ بِمَا إذَا صَادَ مِنْ بَحْرِ الْجَوْهَرِ وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُهَا ، بَلْ تَكُونُ لُقَطَةً .

وَلَوْ وَقَعَ صَيْدٌ فِي مِلْكِهِ وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بِتَوَحُّلٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَمَتَى مَلَكَهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ بِانْفِلَاتِهِ ، وَكَذَا بِإِرْسَالِ الْمَالِكِ لَهُ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَوْ وَقَعَ صَيْدٌ ) اتِّفَاقًا ( فِي مِلْكِهِ ) أَوْ مُسْتَأْجَرٍ لَهُ أَوْ مُعَارٌ أَوْ مَغْصُوبٍ تَحْتَ يَدِ الْغَاصِبِ ( وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بِتَوَحُّلٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ ) وَلَا مَا حَصَلَ مِنْهُ كَبَيْضِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الِاصْطِيَادُ ، وَالْقَصْدُ مَرْعِيٌّ فِي التَّمَلُّكِ ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالثَّانِي يَمْلِكُهُ كَوُقُوعِهِ فِي شَبَكَةٍ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ سَقْيُ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَوَحُّلُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ فَهُوَ كَنَصْبِ الشَّبَكَةِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ هُنَا عَنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ ، لَكِنَّهُ نَقَلَ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ عَنْ الْإِمَامِ خِلَافَهُ ، وَضَعَّفَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَجَمَعَ الْبُلْقِينِيُّ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ مَا هُنَا عَلَى سَقْيٍ اُعْتِيدَ الِاصْطِيَادُ بِهِ ، وَمَا هُنَاكَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَهُوَ حَسَنٌ ، وَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً وَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ إنْ كَانَ الْحَفْرُ لِلصَّيْدِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً فَدَخَلَهَا سَمَكٌ هَلْ يَمْلِكُهُ الْمُسْتَأْجِرُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ مَنَافِعِهَا لَهُ ، أَوْ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَقَعُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا ؟ وَجْهَانِ فِي فُرُوقِ ابْنِ جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيِّ أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَمَتَى مَلَكَهُ ) أَيْ الصَّيْدَ ( لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ ) عَنْهُ ( بِانْفِلَاتِهِ ) فَمَنْ أَخَذَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ سَوَاءٌ أَكَانَ يَدُورُ فِي الْبَلَدِ أَمْ الْتَحَقَ بِالْوُحُوشِ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ أَوْ شَرَدَتْ الْبَهِيمَةُ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ انْفَلَتَ بِقَطْعِهِ مَا نُصِبَ لَهُ ، فَإِنَّهُ يَعُودُ مُبَاحًا وَيَمْلِكُهُ مَنْ يَصْطَادُهُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ( وَكَذَا ) لَا يَزُولُ مِلْكُهُ ( بِإِرْسَالِ الْمَالِكِ لَهُ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْهُ كَمَا لَوْ سَيَّبَ بَهِيمَتَهُ فَلَيْسَ

لِغَيْرِهِ أَنْ يَصِيدَهُ إذَا عَرَفَهُ .
وَالثَّانِي يَزُولُ وَيَجُوزُ اصْطِيَادُهُ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ .
وَالثَّالِثُ إنْ قَصَدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ زَالَ مِلْكُهُ ، وَإِلَّا فَلَا .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي مَالِكٍ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ .
أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ قَطْعًا ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ إرْسَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِطُ بِالْمُبَاحِ فَيُصَادُ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِفِعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ } وَالْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ ، وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ، وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ .
ثُمَّ تُثَنِّي أُنْثَى ، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إذَا وَصَلَتْ أُنْثَى بِأُنْثَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ ، وَالْحَامُ فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ ، فَإِذَا قُضِيَ ضِرَابُهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ مَا إذَا خِيفَ عَلَى وَلَدِ الصَّيْدِ بِحَبْسِ مَا صَادَهُ مِنْهُمَا فَيَنْبَغِي وُجُوبُ الْإِرْسَالِ صِيَانَةً لِرُوحِهِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْغَزَالَةِ الَّتِي أَطْلَقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَوْلَادِهَا لَمَا اسْتَجَارَتْ بِهِ ، وَحَدِيثُ الْحُمَّرَةِ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ فَرْخَيْهَا إلَيْهَا لَمَّا أُخِذَا ، وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ ، وَمَحِلُّ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا فِي صَيْدِ الْوَلَدِ أَنْ لَا

يَكُونَ مَأْكُولًا وَإِلَّا فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ .
وَلَوْ قَالَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ عِنْدَ إرْسَالِهِ : أَبَحْتُهُ لِمَنْ يَأْخُذُهُ ، أَوْ أَبَحْتُهُ فَقَطْ : كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا حَلَّ لِمَنْ أَخَذَهُ أَكْلُهُ بِلَا ضَمَانٍ ، وَلَهُ إطْعَامُ غَيْرِهِ مِنْهُ .
بَحَثَهُ شَيْخُنَا أَيْضًا ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ ، وَهَلْ يَحِلُّ إرْسَالُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ لَا ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ .
لَكِنْ أَفْتَى شَيْخِي بِالْأَوَّلِ .
وَأَمَّا كِسَرُ الْخُبْزِ وَالسَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا الَّتِي يَطْرَحُهَا مَالِكُهَا فَالْأَرْجَحُ فِيهَا أَنَّ آخِذَهَا يَمْلِكُهَا وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ أَحْوَالِ السَّلَفِ وَرَجَّحَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلَا فَرْقَ فِي السَّنَابِلِ بَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا الزَّكَاةُ أَمْ لَا نَظَرًا لِأَحْوَالِ السَّلَفِ ، ، وَإِنْ أَعْرَضَ عَنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ فَمَنْ دَبَغَهُ مَلَكَهُ وَيَزُولُ اخْتِصَاصُ الْمُعْرَضِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاخْتِصَاصِ يَضْعُفُ بِالْإِعْرَاضِ ( لَزِمَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرَ .

وَلَوْ تَحَوَّلَ حَمَامُهُ إلَى بُرْجِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ ، فَإِنْ اخْتَلَطَ وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ أَحَدِهِمَا ، وَهِبَتُهُ شَيْئًا مِنْهُ لِثَالِثٍ ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِنْ بَاعَاهُمَا وَالْعَدَدُ مَعْلُومٌ وَالْقِيمَةُ سَوَاءٌ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا .

( وَلَوْ تَحَوَّلَ حَمَامُهُ ) مِنْ بُرْجِهِ ( إلَى بُرْجِ غَيْرِهِ ) وَفِيهِ حَمَامٌ لَهُ ( لَزِمَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرَ ( رَدُّهُ ) إنْ تَمَيَّزَ عَنْ حَمَامِهِ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ كَالضَّالَّةِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِرَدِّهِ إعْلَامُ مَالِكِهِ بِهِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَخْذِهِ كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، لَا رَدُّهُ حَقِيقَةً ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ ضَمِنَهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذَا إذَا أَخَذَهُ .
قَالَ : فَإِنْ تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ نُظِرَ إنْ طَلَبَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَرُدَّهُ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لَمْ يَضْمَنْ وَنَسَبَهُ لِنَصِّ الْمُخْتَصَرِ .
فَرْعٌ : لَوْ وُجِدَ مِنْ الْحَمَامَيْنِ فَرْخٌ أَوْ بَيْضٌ فَهُوَ لِمَالِكِ الْأُنْثَى فَقَطْ ( فَإِنْ اخْتَلَطَ ) حَمَامُ بُرْجَيْهِمَا ( وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ أَحَدِهِمَا وَهِبَتُهُ شَيْئًا مِنْهُ لِثَالِثٍ ) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمِلْكِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ كَوْنُ ذَلِكَ الْمَبِيعِ مِلْكَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْآخَرِ .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ امْتِنَاعُ بَيْعِ الْجَمِيعِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْبَسِيطِ فَقَالَ : لَيْسَ لَهُ الْهُجُومُ عَلَى بَيْعِ الْكُلِّ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : لَكِنْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ أَوْ يَصِحُّ فِي الَّذِي يَمْلِكُهُ ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ ( وَيَجُوزُ ) بَيْعُ أَحَدِهِمَا وَهِبَتُهُ لِمَالِهِ مِنْهُ ( لِصَاحِبِهِ ) مَعَ الْجَهْلِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِلْحَاجَةِ ، وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى التَّسَامُحِ بِاخْتِلَالِ بَعْضِ الشُّرُوطِ ، وَلِهَذَا صَحَّحُوا الْقِرَاضَ وَالْجَعَالَةَ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ الْجَهَالَةِ .
وَالثَّانِي مَا يُغْتَفَرُ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ غَيْرُهُمَا مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ( فَإِنْ بَاعَاهُمَا ) أَيْ الْحَمَامَيْنِ لِثَالِثٍ ( وَالْعَدَدُ مَعْلُومٌ ) لَهُمَا ( وَالْقِيمَةُ سَوَاءٌ صَحَّ ) وَوُزِّعَ الثَّمَنُ عَلَى أَعْدَادِهِمَا ، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِائَتَانِ وَلِلْآخَرِ مِائَةٌ كَانَ الثَّمَنُ أَثْلَاثًا ، وَلَوْ بَاعَا

لِثَالِثٍ بَعْضَ الْعَيْنِ صَحَّ أَيْضًا بِالْجُزْئِيَّةِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ جُهِلَ الْعَدَدُ وَالْقِيمَةُ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ عُلِمَ وَلَمْ تَسْتَوِ الْقِيمَةُ ( فَلَا ) يَصِحُّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَعْرِفُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ .
تَنْبِيهٌ : إذَا مَنَعْنَا الْبَيْعَ فِي صُورَةِ الْمَتْنِ فَالْحِيلَةُ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِمَا لِثَالِثٍ أَنْ يَبِيعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ بِكَذَا فَيَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا .
أَوْ يُوَكِّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ فَيَبِيعَ الْجَمِيعَ بِثَمَنٍ فَيَقْتَسِمَاهُ ، أَوْ يَصْطَلِحَا فِي الْمُخْتَلَطِ عَلَى شَيْءٍ بِأَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ يَبِيعَاهُ لِثَالِثٍ فَيَصِحَّ الْبَيْعُ .
فُرُوعٌ : لَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْمَخْلُوطِ بِحَمَامِهِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُبَاحًا فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُبَاحٌ ، وَلَوْ اخْتَلَطَ حَمَامٌ مَمْلُوكٌ بِحَمَامٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ أَوْ انْصَبَّ مَاءُ مِلْكٍ فِي نَهْرٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَحَدٍ الِاصْطِيَادُ وَالِاسْتِقَاءُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَالِكِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَا لَا يَنْحَصِرُ لَا يَتَغَيَّرُ بِاخْتِلَاطِهِ بِمَا يَنْحَصِرُ ، أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَتْ مَحْرَمَةٌ بِنِسَاءٍ غَيْرِ مَحْصُورَاتٍ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ مِنْهُنَّ وَلَوْ كَانَ الْمُبَاحُ مَحْصُورًا حَرُمَ ذَلِكَ كَمَا يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ فِي نَظِيرِهِ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى الْمَحْصُورِ وَغَيْرِهِ فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّكَاحِ ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ أَوْ دُهْنٌ حَرَامٌ بِدَرَاهِمِهِ أَوْ دُهْنِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَمَيَّزَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَصَرَفَهُ إلَى مَا يَجِبُ صَرْفُهُ فِيهِ وَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي بِمَا أَرَادَ جَازَ لِلضَّرُورَةِ كَحَمَامَةٍ لِغَيْرِهِ اخْتَلَطَتْ بِحَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ إلَّا وَاحِدَةً ، كَمَا لَوْ اخْتَلَطَتْ تَمْرَةُ غَيْرِهِ بِتَمْرِهِ وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِلْمُتَّقِي

أَنْ يَجْتَنِبَ طَيْرَ الْبُرُوجِ وَبِنَاءَهَا .

وَلَوْ جَرَحَ الصَّيْدَ اثْنَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَإِنْ ذَفَّفَ الثَّانِي أَوْ أَزْمَنَ دُونَ الْأَوَّلِ فَهُوَ لِلثَّانِي ، وَإِنْ ذَفَّفَ الْأَوَّلُ فَلَهُ ، وَإِنْ أَزْمَنَ فَلَهُ ، ثُمَّ إنْ ذَفَّفَ الثَّانِي بِقَطْعِ حُلْقُومٍ وَمَرِيءٍ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَعَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ ، وَإِنْ ذَفَّفَ لَا بِقَطْعِهِمَا أَوْ لَمْ يُذَفِّفْ وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ فَحَرَامٌ ، وَيَضْمَنُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ ، وَإِنْ جَرَحَا مَعًا وَذَفَّفَا أَوْ أَزْمَنَا فَلَهُمَا ، وَإِنْ ذَفَّفَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَزْمَنَ دُونَ الْآخَرِ فَلَهُ ، وَإِنْ ذَفَّفَ وَاحِدٌ وَأَزْمَنَ آخَرُ وَجُهِلَ السَّابِقُ حَرُمَ عَلَى الْمَذْهَبِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِازْدِحَامِ بِالْجُرْحِ عَلَى الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ جَرَحَ الصَّيْدَ اثْنَانِ ) وَلِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ : الْحَالُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَقَعَ الْجُرْحَانِ ( مُتَعَاقِبَانِ ، فَإِنْ ذَفَّفَ ) أَيْ قَتَلَ ( الثَّانِي ) مِنْهُمَا الصَّيْدَ ( أَوْ أَزْمَنَ ) بِأَنْ أَزَالَ امْتِنَاعَهُ ( دُونَ الْأَوَّلِ ) مِنْهُمَا بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَذْفِيفٌ وَلَا إزْمَانٌ ( فَهُوَ لِلثَّانِي ) ؛ لِأَنَّ جُرْحَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي امْتِنَاعِهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ بِجُرْحِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا حِينَئِذٍ ( وَإِنْ ذَفَّفَ الْأَوَّلُ فَلَهُ ) الصَّيْدُ لِمَا مَرَّ ، وَلَهُ عَلَى الثَّانِي أَرْشُ مَا نَقَصَ مِنْ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ إنْ كَانَ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ( وَإِنْ أَزْمَنَ ) الْأَوَّلُ ( فَلَهُ ) الصَّيْدُ لِإِزْمَانِهِ إيَّاهُ ( ثُمَّ ) يُنْظَرُ ( إنْ ذَفَّفَ الثَّانِي بِقَطْعِ حُلْقُومٍ وَمَرِيءٍ فَهُوَ حَلَالٌ ) أَكْلُهُ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِفِعْلِ ذَابِحٍ ( وَعَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ ) أَرْشٌ وَهُوَ ( مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ ) وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ زَمِنًا وَمَذْبُوحًا ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( وَإِنْ ذَفَّفَ ) الثَّانِي ( لَا بِقَطْعِهِمَا ) أَيْ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ( أَوْ لَمْ يُذَفِّفْ ) أَصْلًا ( وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ فَحَرَامٌ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِاجْتِمَاعِ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ فِي الذَّبْحِ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ ( وَيَضْمَنُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ مِلْكَهُ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ زَمِنًا وَهُوَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ جُرْحُهُ مُذَفِّفًا ، فَإِنْ جُرِحَ بِلَا تَذْفِيفٍ وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ فَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْأَوَّلُ مِنْ ذَبْحِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ ، لَكِنْ اسْتَدْرَكَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فَقَالَ : إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ سَلِيمًا عَشَرَةً وَزَمِنًا تِسْعَةً وَمَذْبُوحًا ثَمَانِيَةً لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ

لِحُصُولِ الزُّهُوقِ بِفِعْلِهِمَا فَيُوَزَّعُ الدِّرْهَمُ الْفَائِتُ بِهَا عَلَيْهِمَا فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُهُ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ ، وَإِنْ تَمَكَّنَ الْأَوَّلُ مِنْ ذَبْحِهِ وَذَبَحَهُ بَعْدَ جُرْحِ الثَّانِي لَزِمَ الثَّانِيَ الْأَرْشُ إنْ حَصَلَ بِجُرْحِهِ نَقْصٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْهُ بَلْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الثَّانِيَ يَضْمَنُ زِيَادَةً عَلَى الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ امْتَنَعَ مِنْ تَدَارُكِ مَا تَعَرَّضَ لِلْفَسَادِ بِجِنَايَةِ الْجَانِي مَعَ إمْكَانِ التَّدَارُكِ وَهُوَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مُزْمِنًا ؛ لِأَنَّ تَفْرِيطَ الْأَوَّلِ صَيَّرَ فِعْلَهُ إفْسَادًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْجُرْحُ الثَّانِي وَتُرِكَ الذَّبْحُ كَانَ الصَّيْدُ مَيْتَةً ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ مَثَلًا : قِيمَةُ الصَّيْدِ عَشَرٌ فَنَقَصَ بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَاحِدٌ وَبِالثَّانِي وَاحِدٌ ، ثُمَّ مَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ فَتُجْمَعُ قِيمَتُهُ قَبْلَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَقِيمَتُهُ قَبْلَ الْجُرْحِ الثَّانِي فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ ، فَيُقْسَمُ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَاهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ .
فَحِصَّةُ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ ضَامِنًا عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةٍ ، وَيَلْزَمُ الثَّانِيَ تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحَالِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ جَرَحَا مَعًا وَذَفَّفَا ) بِجُرْحِهِمَا ( أَوْ أَزْمَنَا ) بِهِ ( فَلَهُمَا ) الصَّيْدُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ بِجُرْحِهِمَا سَوَاءٌ تَفَاوَتَ الْجُرْحَانِ صِغَرًا وَكِبَرًا أَمْ لَا ، كَانَ فِي الْمَذْبَحِ أَمْ لَا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحَالِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ ) جَرَحَا مَعًا ، وَ ( ذَفَّفَ ) فِي مَذْبَحٍ أَوْ غَيْرِهِ ( أَحَدُهُمَا أَوْ أَزْمَنَ دُونَ الْآخَرِ فَلَهُ ) أَيْ الْمُذَفِّفِ أَوْ الْمُزْمِنِ الصَّيْدُ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ لِوُقُوعِ جِرَاحَتِهِ حِينَ كَانَ مُبَاحًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ جُهِلَ كَوْنُ التَّذْفِيفِ أَوْ الْإِزْمَانِ مِنْهُمَا

أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَحِلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ تَوَرُّعًا مِنْ مَظِنَّةِ الشُّبْهَةِ ، فَلَوْ عُلِمَ تَأْثِيرُ أَحَدِهِمَا وَشُكَّ فِي تَأْثِيرِ الْآخَرِ وَقَفَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ تَبَيَّنَ الْحَالُ أَوْ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْءٍ فَوَاضِحٌ ، وَإِلَّا قُسِمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَسُلِّمَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِمَنْ أَثَّرَ جُرْحُهُ فَيَخْلُصُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الصَّيْدِ ، وَلِلْآخَرِ رُبْعُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَاقْتَضَى كَلَامُ الْغَزَالِيِّ تَرْجِيحَهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي خِلَافًا لِمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْقَفَّالِ مِنْ أَنَّهُ لَا وَقْفَ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحَالِ الرَّابِعِ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ ذَفَّفَ وَاحِدٌ ) فِي غَيْرِ مَذْبَحٍ ( وَأَزْمَنَ آخَرُ ) مُرَتَّبًا ( وَجُهِلَ السَّابِقُ ) مِنْهُمَا ( حَرُمَ ) الصَّيْدُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ سَبْقُ التَّذْفِيفِ فَيَحِلُّ ، أَوْ تَأَخُّرُهُ فَلَا يَحِلُّ بَعْدَهُ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ ثَانٍ لَا يَحْرُمُ لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ الْإِزْمَانِ .
أَمَّا لَوْ ذَفَّفَ أَحَدُهُمَا فِي الْمَذْبَحِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَطْعًا وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا كَمَا اسْتَظْهَرَهُ فِي الْمَطْلَبِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْجُرْحَيْنِ مُهْلِكٌ لَوْ انْفَرَدَ ، فَإِذَا جُهِلَ السَّابِقُ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ ، فَإِنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُزْمِنُ لَهُ أَوَّلًا فَلِكُلٍّ تَحْلِيفُ صَاحِبِهِ .
فَإِنْ حَلَفَا اقْتَسَمَاهُ وَلَا شَيْءَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، أَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَهُوَ لَهُ ، وَلَهُ عَلَى النَّاكِلِ أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ .
تَنْبِيهٌ : الِاعْتِبَارُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ بِالْإِصَابَةِ ، لَا بِابْتِدَاءِ الرَّمْيِ ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِحَالَةِ الْإِصَابَةِ ، فَلَوْ رَمَى غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَأَصَابَهُ وَهُوَ مَقْدُورٌ

عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِإِصَابَتِهِ فِي الْمَذْبَحِ ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ وَأَصَابَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ حَلَّ مُطْلَقًا .
خَاتِمَةٌ : لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَسَهْمًا فَأَزْمَنَهُ الْكَلْبُ ثُمَّ ذَبَحَهُ السَّهْمُ حَلَّ ، وَإِنْ أَزْمَنَهُ .
السَّهْمُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْكَلْبُ حَرُمَ ، وَلَوْ أَخْبَرَ فَاسِقٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَنَّهُ ذَبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ مَثَلًا حَلَّ أَكْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّبْحِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَجُوسٌ وَمُسْلِمُونَ وَجُهِلَ ذَابِحُ الشَّاةِ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا لِلشَّكِّ فِي الذَّبْحِ الْمُبِيحِ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، نَعَمْ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَغْلَبَ كَمَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ تَحِلَّ كَنَظِيرِهِ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ فِيمَا لَوْ وَجَدَ قِطْعَةَ لَحْمٍ .
أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجُوسٌ فَتَحِلُّ ، وَفِي مَعْنَى الْمَجُوسِ كُلُّ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ .

كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّحْوَةِ ، وَسُمِّيَتْ بِأَوَّلِ زَمَانِ فِعْلِهَا ، وَهُوَ الضُّحَى ، وَفِيهَا لُغَاتٌ : ضَمُّ هَمْزِهَا وَكَسْرُهُ ، وَتَشْدِيدُ يَائِهَا وَتَخْفِيفُهَا وَجَمْعُهَا أَضَاحٍ ، وَيُقَالُ ضَحِيَّةٌ بِفَتْحِ ضَادِهَا وَكَسْرِهِ وَجَمْعُهَا ضَحَايَا ، وَيُقَال أَيْضًا إضْحَاةٌ بِكَسْرِ هَمْزِهَا وَضَمِّهَا وَجَمْعُهَا أَضْحًى بِالتَّنْوِينِ كَأَرْطَاةٍ وَأَرْطَا ، فَهَذِهِ ثَمَانِ لُغَاتٍ فِيهَا .
وَهِيَ مَا يُذْبَحُ مِنْ النَّعَمِ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } فَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ دِينِ اللَّهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ الْعِيدِ ، وَبِالنَّحْرِ الضَّحَايَا ، وَخَبَرِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا } وَالْأَمْلَحُ قِيلَ الْأَبْيَضُ الْخَالِصُ ، وَقِيلَ الَّذِي بَيَاضُهُ أَكْثَرُ مِنْ سَوَادِهِ ، وَقِيلَ الَّذِي تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَخَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ عَمَلٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إرَاقَةِ الدَّمِ ، إنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنْ الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا } وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ حَدِيثَ { عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ } لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : إنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ .

كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ هِيَ سُنَّةٌ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْتِزَامٍ .

( هِيَ ) أَيْ التَّضْحِيَةُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِمَا لَا الْأُضْحِيَّةُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ اسْمٌ لِمَا يُضَحَّى بِهِ ( سُنَّةٌ ) مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّنَا .
أَمَّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاجِبَةٌ لِحَدِيثِ { أُمِرْتُ بِالنَّحْرِ وَهُوَ سُنَّةٌ لَكُمْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ { كُتِبَ عَلَيَّ النَّحْرُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكُمْ } .
قَالَ فِي الْعُدَّةِ : وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ تَعَدَّدَ أَهْلُ الْبَيْتِ ، فَإِذَا فَعَلَهَا وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَفَى عَنْ الْجَمِيعِ ، وَإِلَّا فَسُنَّةُ عَيْنٍ وَلَا تَجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لِمَا مَرَّ ، وَلِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ تَرَى النَّاسُ ذَلِكَ وَاجِبًا " وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْمُسْتَطِيعُ ، وَكَذَا الْمُبَعَّضُ إذَا مَلَكَ مَالًا بِبَعْضِهِ الْحُرِّ ، قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فَاضِلَةً عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ صَدَقَةٍ ا هـ .
.
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ فَاضِلَةً عَمَّا يَحْتَاجُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَكِسْوَةِ فَصْلِهِ كَمَا مَرَّ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فَاضِلَةً عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَإِنَّهُ وَقْتُهَا ، كَمَا أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَةَ الْعِيدِ وَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ .
وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ فَاضِلَةً عَنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهِيَ مِنْهُ تَبَرُّعٌ ، فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا يُضَحَّى عَمَّا فِي الْبَطْنِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ سُنِّيَّتَهَا تَتَعَلَّقُ بِمَنْ يُولَدُ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ ، فَمَنْ كَانَ حَمْلًا ذَلِكَ الْوَقْتِ ، ثُمَّ انْفَصَلَ بَعْدَ

يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ مَا بَعْدَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ سُنَّةُ الْأُضْحِيَّةِ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ وَخَرَّجْتُهُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَهْلَ الْبَوَادِي وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْحَاجَّ وَغَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ضَحَّى فِي مِنًى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
وَبِهَذَا رُدَّ عَلَى الْعَبْدَرِيِّ قَوْلُهُ إنَّهَا لَا تُسَنُّ لِلْحَاجِّ بِمِنًى ، وَأَنَّ الَّذِي يَنْحَرُهُ بِهَا هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةٌ ، فَيُكْرَهُ لِلْقَادِرِ تَرْكُهَا ، وَ ( لَا تَجِبُ ) لِمَا مَرَّ ( إلَّا بِالْتِزَامٍ ) كَسَائِرِ الْقُرَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ هِيَ سُنَّةٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَلِلتَّلْوِيحِ بِمُخَالَفَةِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَوْجَبَهَا عَلَى مُقِيمٍ بِالْبَلَدِ مَالِكٍ لِنِصَابٍ زَكَوِيٍّ ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا تَصِيرُ بِهِ أُضْحِيَّةً ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ لَا تَحْصُلُ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِنِيَّةِ الْعِتْقِ أَوْ الْوَقْفِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : " الْتِزَامٍ " اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ الِالْتِزَامِ وَرُدَّ عَلَيْهِ مَا لَوْ اُلْتُزِمَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَلَا تَجِبُ ، وَمَا لَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً كَمَا هُوَ أَقْيَسُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَجْمُوعِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّعْيِينِ ، وَقَدْ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ طَلَاقًا أَوْ عِتْقًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْتُ شَاةً فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، هَذَا إنْ قَصَدَ الشُّكْرَ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ فَنَذْرُ لَجَاجٍ وَسَيَأْتِي ، وَإِنْ أَرَادَ خُصُوصَ

الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ ، وَرُدَّ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ : جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً أَوْ هَذِهِ أُضْحِيَّةً ، فَإِنَّهُ يَجِبُ إنْ عُلِّقَ بِشِفَاءِ مَرِيضٍ قَطْعًا ، وَكَذَا إنْ أَطْلَقَ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَذْرٍ ، بَلْ أَلْحَقَهُ الْأَصْحَابُ بِالتَّحْرِيرِ وَالْوَقْفِ .

وَيُسَنُّ لِمُرِيدِهَا أَنْ لَا يُزِيلَ شَعْرَهُ وَلَا ظُفْرَهُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يُضَحِّيَ .

( وَيُسَنُّ لِمُرِيدِهَا ) إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ( أَنْ لَا يُزِيلَ شَعْرَهُ وَلَا ظُفْرَهُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يُضَحِّيَ ) بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَالْإِبِطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا ، بَلْ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ كَمَا حَكَاهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ : وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَتْ إزَالَتُهُ وَاجِبَةً كَخِتَانِ الْبَالِغِ وَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ ، وَالْجَانِي بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَمَا كَانَتْ إزَالَتُهُ مُسْتَحَبَّةً كَخِتَانِ الصَّبِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ مُمْتَنِعَةٌ ، إذْ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ لِمَالِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ بِهِ ، وَالْأُضْحِيَّةُ تَبَرُّعٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّضْحِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ ، فَإِنَّهُ لَوْ ضَحَّى شَخْصٌ وَأَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي الثَّوَابِ جَازَ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَهُ وَهُوَ الْأَوْجَهُ ، وَبِقَوْلِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْأَمْرِ ، وَعِبَارَاتُ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ ، وَهَذَا لَمْ يُرِدْهَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : لَوْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ تُكْرَهْ لَهُ الْإِزَالَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ دَخَلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَخْذُ شَعْرِهِ ، وَظُفْرُهُ مَمْنُوعٌ فِي الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ ، إذْ لَا يَخْلُو الشَّهْرُ مِنْ يَوْمِ جُمُعَةٍ .
أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إزَالَةُ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، يُفْهَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ يَوْمُ النَّحْرِ لَا بَأْسَ بِالْحَلْقِ فِي

أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَزْمِ التَّضْحِيَةِ فِي بَقِيَّتِهَا وَلَيْسَ مُرَادًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدْ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَفِي مَعْنَى مُرِيدِ الْأُضْحِيَّةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ شَيْئًا مِنْ النَّعَمِ إلَى الْبَيْتِ بَلْ أَوْلَى ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ سُرَاقَةَ ، قَالَ وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ حَتَّى يُضَحِّيَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ بِأَعْدَادٍ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ ، وَيُحْتَمَلُ بَقَاءُ النَّهْيِ إلَى آخِرِهَا ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ زَوَالُهَا بِالْأَوَّلِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَى آخِرِهَا ، وَلَوْ أَخَّرَ النَّاذِرُ التَّضْحِيَةَ بِمُعَيَّنٍ إلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : فَالْأَرْجَحُ بَقَاءُ الْكَرَاهَةِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا قَضَاءً .

وَأَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَلْيَشْهَدْهَا .

( وَ ) يُسَنُّ ( أَنْ يَذْبَحَهَا ) أَيْ الْأُضْحِيَّةَ الرَّجُلُ ( بِنَفْسِهِ ) إنْ أَحْسَنَ الذَّبْحَ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْلِهِ لِيَفْرَحُوا بِالذَّبْحِ وَيَتَمَتَّعُوا بِاللَّحْمِ ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْأُضْحِيَّةُ مُسَارَعَةً لِلْخَيْرَاتِ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَالسُّنَّةُ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ ، وَالْخُنْثَى مِثْلُهَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ اسْتِحْبَابُ التَّوْكِيلِ لِكُلِّ مَنْ ضَعُفَ عَنْ الذَّبْحِ مِنْ الرِّجَالِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِتْيَانُ ، وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ لِلْأَعْمَى وَكُلِّ مَنْ تُكْرَهُ ذَكَاتُهُ ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ الْأُضْحِيَّةَ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ( فَلْيَشْهَدْهَا ) لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : قُومِي إلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا ، فَإِنَّهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكِ } .
قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : { هَذَا لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ ، فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ قَالَ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُدْيَةَ فَنَحَرَ مَا غَبَرَ : أَيْ بَقِيَ } ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مُسْلِمًا فَقِيهًا بِبَابِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَيُكْرَهُ اسْتِنَابَةُ كِتَابِيٍّ وَصَبِيٍّ وَأَعْمَى قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَاسْتِنَابَةُ الْحَائِضِ خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَمِثْلُهَا النُّفَسَاءُ ، وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بَدَنَةً فِي الْمُصَلَّى ، وَأَنْ يَنْحَرَهَا بِنَفْسِهِ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ بَدَنَةٌ فَشَاةٌ لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ

الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : وَإِنْ ضَحَّى عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ ضَحَّى حَيْثُ شَاءَ .

وَلَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ إبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ .
( وَلَا تَصِحُّ ) أَيْ الْأُضْحِيَّةُ ، قَالَ الشَّارِحُ : مِنْ حَيْثُ التَّضْحِيَةُ بِهَا : أَيْ لَا مِنْ حَيْثُ حِلُّ ذَبْحِهَا وَأَكْلُ لَحْمِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ ( إلَّا مِنْ ) ( إبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ ) بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ التَّضْحِيَةَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ فَتَخْتَصُّ بِالنَّعَمِ كَالزَّكَاةِ ، فَلَا يُجْزِئُ غَيْرُ النَّعَمِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَغَيْرِهِ وَالظِّبَاءُ وَغَيْرُهَا .
تَنْبِيهٌ : الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مِنْ النِّعَمِ يُجْزِئُ هُنَا ، وَفِي الْعَقِيقَةِ وَالْهَدْيِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي اعْتِبَارُ أَعْلَى الْأَبَوَيْنِ سِنًّا فِي الْأُضْحِيَّةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ بُلُوغُهُ سَنَتَيْنِ وَيَطْعَنُ فِي الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ مُرَادُ شَيْخِنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ بِقَوْلِهِ : بُلُوغُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ إلْحَاقًا لَهُ بِأَعْلَى السِّنِينَ بِهِ .

وَشَرْطُ إبِلٍ أَنْ يَطْعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ ، وَبَقَرٍ وَمَعْزٍ فِي الثَّالِثَةِ ، وَضَأْنٍ فِي الثَّانِيَةِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي قَدْرِ سِنِّ ذَلِكَ .
فَقَالَ ( وَشَرْطُ إبِلٍ أَنْ يَطْعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ ، وَبَقَرٍ وَمَعْزٍ فِي ) السَّنَةِ ( الثَّالِثَةِ ، وَضَأْنٍ فِي ) السَّنَةِ ( الثَّانِيَةِ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذُكِرَ فِي الضَّأْنِ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ أَجْذَعَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ : أَيْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ لَا يُجْزِئُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَالْمَنْقُولُ فِي الرَّافِعِيِّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ وَالْبَغَوِيِّ : الْإِجْزَاءُ ، وَلِعُمُومِ خَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ { ضَحُّوا بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ } : أَيْ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْبُلُوغِ بِالسِّنِّ أَوْ الِاحْتِلَامِ ، فَإِنَّهُ يَكْفِي أَسْبَقُهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ .

وَيَجُوزُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى .
( وَيَجُوزُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى ) أَيْ التَّضْحِيَةُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَثُرَ نَزَوَانُ الذَّكَرِ وَوِلَادَةُ الْأُنْثَى .
نَعَمْ التَّضْحِيَةُ بِالذَّكَرِ أَفْضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَطْيَبُ كَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَنُقِلَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْهَدْيِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأُنْثَى أَحْسَنُ مِنْ الذَّكَرِ ؛ لِأَنَّهَا أَرْطَبُ لَحْمًا وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ نَزَوَانُهُ ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا كَثُرَ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يَتَعَرَّضْ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لِإِجْزَاءِ الْخُنْثَى فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : إنَّهُ يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، وَكِلَاهُمَا يُجْزِئُ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْقِصُ اللَّحْمَ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ : تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ الْأُنُوثَةِ ، وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الْأُنْثَى لِاحْتِمَالِ الذُّكُورَةِ .

وَخَصِيٌّ .
( وَ ) يَجُوزُ ( خَصِيٌّ ) ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ مَأْجُوَّينِ } أَيْ خَصِيَّيْنِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا ، وَالْخَصِيُّ مَا قُطِعَ خُصْيَتَاهُ : أَيْ جِلْدَتَا الْبَيْضَتَيْنِ ، مُثَنَّى خُصْيَةٍ ، وَهُوَ مِنْ النَّوَادِرِ ، وَالْخُصْيَتَانِ الْبَيْضَتَانِ ، وَجَبْرُ مَا قُطِعَ مِنْهُ زِيَادَةُ لَحْمِهِ طِيبًا وَكَثْرَةً .
نَعَمْ الْفَحْلُ أَفْضَلُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ ضِرَابٌ .

وَالْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ .
( وَالْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ ) يُجْزِئُ كُلٌّ مِنْهُمَا ( عَنْ سَبْعَةٍ ) لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ } " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ " { نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقُوا فِي نَوْعِ الْقُرْبَةِ أَمْ اخْتَلَفُوا ، كَمَا إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ التَّضْحِيَةَ ، وَبَعْضُهُمْ الْهَدْيَ ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ وَبَعْضُهُمْ الْأُضْحِيَّةَ وَلَهُمْ قِسْمَةُ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ قِسْمَةُ إفْرَازٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَخْتَصُّ إجْزَاءُ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ بِالتَّضْحِيَةِ ، بَلْ لَوْ لَزِمَتْ شَخْصًا سَبْعُ شِيَاهٍ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْفَوَاتِ وَمُبَاشَرَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ جَازَ عَنْ ذَلِكَ بَعِيرٌ أَوْ بَقَرَةٌ ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءَ الصَّيْدِ ، فَلَا تُجْزِئُ الْبَقَرَةُ أَوْ الْبَعِيرُ عَنْ سَبْعَةِ ظِبَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الصُّورَةُ .

وَالشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ .
( وَالشَّاةُ ) الْمُعَيَّنَةُ تُجْزِئُ ( عَنْ وَاحِدٍ ) فَإِنْ ذَبَحَهَا عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ أَوْ عَنْهُ وَأَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي ثَوَابِهَا جَازَ ، وَعَلَيْهِمَا حُمِلَ خَبَرُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ } وَهِيَ فِي الْأَوْلَى سُنَّةُ كِفَايَةٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ تَتَأَتَّى بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِذَلِكَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ فِي الْمُوَطَّإِ : أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ : كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ .
ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ بَعْدُ فَصَارَتْ مُبَاهَاةً ، وَلَكِنْ الثَّوَابُ فِيمَا ذُكِرَ لِلْمُضَحِّي خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ كَمَا فِي الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُوهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ الِاشْتِرَاكَ فِي شَاتَيْنِ مُشَاعَتَيْنِ بَيْنَهُمَا ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ، وَلِذَا يُقَالُ : لَوْ اشْتَرَكَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ فِي بَقَرَتَيْنِ مُشَاعَتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ عَنْهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَمْ يَخُصَّهُ سُبْعُ بَقَرَةٍ أَوْ بَعِيرٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ إبِلٍ وَغَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ وَغَنَمٍ يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَطْ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ .

وَأَفْضَلُهَا بَعِيرٌ ثُمَّ بَقَرَةٌ ثُمَّ ضَأْنٌ ثُمَّ مَعْزٌ ، وَسَبْعُ شِيَاهٍ أَفْضَلُ مِنْ بَعِيرٍ ، وَشَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ مُشَارَكَةٍ فِي بَعِيرٍ .

( وَأَفْضَلُهَا ) أَيْ أَنْوَاعِ الْأُضْحِيَّةِ بِالنَّظَرِ لِإِقَامَةِ شِعَارِهَا ( بَعِيرٌ ) أَيْ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ لَحْمًا ، وَالْقَصْدُ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ( ثُمَّ بَقَرَةٌ ) ؛ لِأَنَّ لَحْمَ الْبَدَنَةِ أَكْثَرُ مِنْ لَحْمِ الْبَقَرَةِ غَالِبًا ، وَفِي الْخَبَرِ { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً } .
قَالَ فِي الدَّقَائِقِ : وَهَذِهِ مَزِيدَةٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَقَدْ رَأَيْتُهَا فِي الْمُحَرَّرِ ، فَلَعَلَّ نُسَخَهُ مُخْتَلِفَةٌ ( ثُمَّ ضَأْنٌ ثُمَّ مَعْزٌ ) لِطِيبِ الضَّأْنِ عَلَى الْمَعْزِ وَبَعْدَ الْمَعْزِ الْمُشَارَكَةُ كَمَا سَيَأْتِي ، فَالِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ بَعْدَ الْمَعْزِ سَاقِطٌ .
أَمَّا بِالنَّظَرِ لِلَّحْمِ ، فَلَحْمُ الضَّأْنِ خَيْرُهَا ( وَسَبْعُ شِيَاهٍ ) مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ ( أَفْضَلُ مِنْ بَعِيرٍ ) أَوْ بَقَرَةٍ ؛ لِأَنَّ لَحْمَ الْغَنَمِ أَطْيَبُ وَلِكَثْرَةِ الدَّمِ الْمُرَاقِ ، وَقِيلَ الْبَدَنَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا لِكَثْرَةِ اللَّحْمِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ ؛ وَقَدْ يُؤَدِّي التَّعَارُضُ فِي مِثْل هَذَا إلَى التَّسَاوِي وَلَمْ يَذْكُرُوهُ ( وَشَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ مُشَارَكَةٍ فِي بَعِيرٍ ) لِلِانْفِرَادِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَطِيبِ اللَّحْمِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّ الشَّاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعِيرٍ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ : كَمَا لَوْ شَارَكَ وَاحِدٌ خَمْسَةً فِي بَعِيرٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَافِي تَفَقُّهًا ، لَكِنَّ الشَّارِحَ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِقَدْرِهَا فَأَفْهَمَ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى قَدْرِهَا يَكُونُ أَفْضَلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَوْ ضَحَّى بِبَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ بَدَلَ شَاةٍ وَاجِبَةٍ فَالزَّائِدُ عَلَى السُّبْعِ تَطَوُّعٌ فَلَهُ صَرْفُهُ مَصْرِفَ أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ مِنْ إهْدَاءٍ وَتَصَدُّقٍ .
تَنْبِيهٌ : اسْتِكْثَارُ الْقِيمَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِنَوْعٍ أَفْضَلُ مِنْ اسْتِكْثَارِ الْعَدَدِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ ، فَلَوْ

كَانَ مَعَهُ دِينَارٌ وَوَجَدَ بِهِ شَاةً سَمِينَةً وَشَاتَيْنِ دُونَهَا فَالشَّاةُ أَفْضَلُ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ وَأَرَادَ عِتْقَ مَا يَشْتَرِي بِهَا فَعَبْدَانِ خَسِيسَانِ أَفْضَلُ مِنْ عَبْدٍ نَفِيسٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا اللَّحْمُ ، وَلَحْمُ السَّمِينِ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ مِنْ الرِّقِّ ، وَتَخْلِيصُ عَدَدٍ أَوْلَى مِنْ تَخْلِيصِ وَاحِدٍ ، وَكَثْرَةُ اللَّحْمِ خَيْرٌ مِنْ كَثْرَةِ الشَّحْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَحْمًا رَدِيئًا ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّمِينِ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَاسْتَحَبُّوا تَسْمِينَهَا ، فَالسَّمِينَةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا .
ثُمَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الذَّوَاتِ ، وَأَمَّا فِي الْأَلْوَانِ ، فَالْبَيْضَاءُ أَفْضَلُ ، ثُمَّ الصَّفْرَاءُ ، ثُمَّ الْعَفْرَاءُ ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَصْفُو بَيَاضُهَا ، ثُمَّ الْحَمْرَاءُ ، ثُمَّ الْبَلْقَاءُ ، ثُمَّ السَّوْدَاءُ ، قِيلَ لِلتَّعَبُّدِ ، وَقِيلَ لِحُسْنِ الْمَنْظَرِ ، وَقِيلَ لِطِيبِ اللَّحْمِ ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ خَبَرَ { لَدَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ } .

وَشَرْطُهَا سَلَامَةٌ مِنْ عَيْبٍ يَنْقُصُ لَحْمًا فَلَا تُجْزِي عَجْفَاءُ ، وَمَجْنُونَةٌ ، وَمَقْطُوعَةُ بَعْضِ أُذُنٍ ، وَذَاتُ عَرَجٍ وَعَوَرٍ وَمَرَضٍ وَجَرَبٍ بَيِّنٍ ، وَلَا يَضُرُّ يَسِيرُهَا وَلَا فَقْدُ قَرْنٍ وَكَذَا شَقُّ أُذُنٍ وَثَقْبُهَا فِي الْأَصَحِّ .
قُلْتُ : الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ يَضُرُّ يَسِيرُ الْجَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَشَرْطُهَا ) أَيْ الْأُضْحِيَّةُ الْمُجْزِئَةِ ( سَلَامَةٌ مِنْ ) كُلِّ ( عَيْبٍ ) بِهَا ( يَنْقُصُ ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَالِثِهِ بِخَطِّهِ ( لَحْمًا ) أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُؤْكَلُ .
فَإِنَّ مَقْطُوعَ الْأُذُنِ أَوْ الْأَلْيَةِ لَا يُجْزِئُ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَحْمٍ ، فَلَوْ قَالَ مَا يَنْقُصُ مَأْكُولًا لَكَانَ أَوْلَى ، وَلَا فَرْقَ فِي النَّقْصِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَالِ كَقَطْعِ بَعْضِ أُذُنٍ ، أَوْ فِي الْمَآلِ كَعَرَجٍ بَيِّنٍ كَمَا سَيَأْتِي ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ اللَّحْمُ أَوْ نَحْوُهُ ، فَاعْتُبِرَ مَا يَنْقُصُهُ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي عَيْبِ الْمَبِيعِ مَا يُنْقِصُ الْمَالِيَّةَ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِيهِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ فِي وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الْأُضْحِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَلَوْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِمَعِيبَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ ، أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا أُضْحِيَّةً وَجَبَ ذَبْحُهَا فِدْيَةً ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهَا صَدَقَةً وَلَا تُجْزِئُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ ، وَتَخْتَصُّ بِوَقْتِ النَّحْرِ وَتَجْرِي مَجْرَى الْأُضْحِيَّةِ فِي الصَّرْفِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ عَدَمَ إجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ بِالْحَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُهْزِلُهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَغَيْرُهُمْ ، وَفِي بُيُوعِ الرَّوْضَةِ وَصَدَاقِهَا مَا يُوَافِقُهُ ، وَقَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ بِهَا مِنْ نَقْصِ اللَّحْمِ يَنْجَبِرُ بِالْجَنِينِ ، فَهُوَ كَالْخَصِيِّ ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْجَنِينَ قَدْ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الْأَكْلِ كَالْمُضْغَةِ ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّحْمِ لَا تَجْبُرُ عَيْبًا بِدَلِيلِ الْعَرْجَاءِ السَّمِينَةِ ، وَيَلْحَقُ بِهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ لِنَقْصِ لَحْمِهَا وَالْمُرْضِعُ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى شَرْطِ سَلَامَتِهَا مِنْ الْعَيْبِ ، قَوْلُهُ ( فَلَا تَجْزِيء عَجْفَاءُ ) أَيْ ذَاهِبَةُ الْمُخِّ مِنْ شِدَّةِ هُزَالِهَا ، وَالْمُخُّ دُهْنُ

الْعِظَامِ ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ { أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ : الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي } مَأْخُوذَةٌ مِنْ النِّقْيِ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ ، وَهُوَ الْمُخُّ : أَيْ لَا مُخَّ لَهَا ( وَ ) لَا ( مَجْنُونَةٌ ) وَهِيَ الَّتِي تَدُورُ فِي الْمَرْعَى وَلَا تَرْعَى إلَّا قَلِيلًا فَتَهْزُلُ ، وَتُسَمَّى أَيْضًا التَّوْلَاءَ ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِهَا ( وَ ) لَا ( مَقْطُوعَةُ بَعْضِ أُذُنٍ ) وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لِذَهَابِ جُزْءٍ مَأْكُولٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ دُونَ الثُّلُثِ أَجْزَأَ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَنْعَ كُلِّ الْأُذُنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْعَ الْمَخْلُوقَةِ بِلَا أُذُنٍ ، وَهُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ ، بِخِلَافِ فَاقِدَةِ الضَّرْعِ أَوْ الْأَلْيَةِ أَوْ الذَّنَبِ خِلْقَةً فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُذُنَ عُضْوٌ لَازِمٌ غَالِبًا ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلَيْنِ فَكَمَا يُجْزِئُ ذِكْرُ الْمَعْزِ .
وَأَمَّا فِي الثَّالِثِ فَقِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ قِيلَ هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقَةِ بِلَا أُذُنٍ .
أَمَّا إذَا فُقِدَ ذَلِكَ بِقَطْعٍ وَلَوْ لِبَعْضٍ مِنْهُ ، أَوْ بِقَطْعِ بَعْضِ لِسَانٍ فَإِنَّهُ يَضُرُّ لِحُدُوثِ مَا يُؤَثِّرُ فِي نَقْصِ اللَّحْمِ ، وَبَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ شَلَلَ الْأُذُنِ كَفَقْدِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَأْكُولًا ، وَلَا يَضُرُّ قَطْعُ فِلْقَةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ عُضْوٍ كَبِيرٍ كَفَخِذٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعُضْوِ فَلَا تُجْزِئُ لِنُقْصَانِ اللَّحْمِ ( وَ ) لَا ( ذَاتُ عَرَجٍ ) بَيِّنٍ ، وَلَوْ حَدَثَ تَحْتَ السِّكِّينِ ( وَ ) لَا ذَاتُ ( عَوَرٍ ) بَيِّنٍ وَإِنْ بَقِيَتْ الْحَدَقَةُ ( وَ ) لَا ذَاتُ ( مَرَضٍ ) بَيِّنٍ ( وَ ) لَا ذَاتُ ( جَرَبٍ ) وَقَوْلُهُ ( بَيِّنٍ ) رَاجِعٌ لِلْأَرْبَعِ كَمَا تَقَرَّرَ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا حَاجَةَ

لِتَقْيِيدِ الْعَوَرِ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي عَدَمِ إجْزَاءِ الْعَوْرَاءِ عَلَى فَاقِدَةِ الْبَصَرِ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : أَصْلُ الْعَوَرِ بَيَاضٌ يُغَطِّي النَّاظِرَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَارَةً يَكُونُ يَسِيرًا فَلَا يَضُرُّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْبَيِّنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ ، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَا يَضُرُّ يَسِيرُهَا ) أَيْ يَسِيرُ الْأَرْبَعِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي اللَّحْمِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُ إجْزَاءِ الْعَمْيَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَتُجْزِئُ الْعَمْشَاءُ ، وَهِيَ ضَعِيفَةُ الْبَصَرِ مَعَ سَيَلَانِ الدَّمْعِ غَالِبًا وَالْمَكْوِيَّةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ ، وَالْعَشْوَاءُ ، وَهِيَ الَّتِي لَا تُبْصِرُ لَيْلًا ؛ لِأَنَّهَا تُبْصِرُ وَقْتَ الرَّعْيِ غَالِبًا ( وَلَا ) يَضُرُّ ( فَقْدُ قَرْنٍ ) خِلْقَةً ، وَتُسَمَّى الْجَلْحَاءَ ، وَلَا كَسْرُهُ مَا لَمْ يَعِبْ اللَّحْمَ ، وَإِنْ دَمِيَ - بِالْكَسْرِ - لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ غَرَضٍ ، فَإِنْ عِيبَ اللَّحْمُ ضَرَّ كَالْجَرَبِ وَغَيْرِهِ ، وَذَاتُ الْقَرْنِ أَوْلَى لِخَبَرِ { خَيْرُ الضَّحِيَّةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ ، وَلِأَنَّهَا أَحْسَنُ مَنْظَرًا بَلْ يُكْرَهُ غَيْرُهَا كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَلَا يَضُرُّ ذَهَابُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاعْتِلَافِ وَنَقْصِ اللَّحْمِ ، فَلَوْ ذَهَبَ الْكُلُّ ضَرَّ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ ذَهَابَ الْبَعْضِ إذَا أَثَّرَ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ : وَيُجْزِئُ مَكْسُورُ سِنٍّ أَوْ سِنَّيْنِ ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( وَكَذَا ) لَا يَضُرُّ ( شَقُّ أُذُنٍ وَ ) لَا ( خَرْقُهَا وَ ) لَا ( ثَقْبُهَا فِي الْأَصَحِّ ) بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْقُطَ مِنْ الْأُذُنِ شَيْءٌ بِذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ مِنْ لَحْمِهَا شَيْءٌ ، وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ

التَّضْحِيَةِ بِالشَّرْقَاءِ ، وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ أَوْ عَلَى مَا أُبِينَ مِنْهُ شَيْءٌ بِالشَّرْقِ ، وَالثَّانِي يَضُرُّ لِظَاهِرِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ .
تَنْبِيهٌ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَرْقِ وَالثَّقْبِ تَبِعَ فِيهِ الْمُحَرَّرَ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَلَا وَجْهَ لَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ : فَسَّرَ الْخَرْقَ بِالثَّقْبِ ( قُلْتُ : الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ ) وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ قَضِيَّةُ مَا أَوْرَدَهُ الْمُعْظَمُ صَرِيحًا وَدَلَالَةً ، وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّهِ فِي الْجَدِيدِ ( يَضُرُّ يَسِيرُ الْجَرَبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) ؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ ، وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ كَالْمَرَضِ ، وَفِي مَعْنَى الْجَرَبِ الْبُثُورُ وَالْقُرُوحُ .

وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ كَرُمْحٍ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ مَضَى قَدْرُ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَيَبْقَى حَتَّى تَغْرُبَ آخِرَ التَّشْرِيقِ .
قُلْتُ : ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ فَضِيلَةٌ ، وَالشَّرْطُ طُلُوعُهَا ثُمَّ مُضِيُّ قَدْرِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا ) أَيْ التَّضْحِيَةِ ( إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ كَرُمْحٍ يَوْمَ النَّحْرِ ) وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ( ثُمَّ مَضَى قَدْرُ رَكْعَتَيْنِ ) خَفِيفَتَيْنِ ( وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ) فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَقَعْ أُضْحِيَّةً لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّي ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الثَّامِنِ غَلَطًا وَذَبَحُوا فِي التَّاسِعِ ثُمَّ بَانَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُمْ تَبَعًا لِلْحَجِّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الدَّارِمِيِّ ، وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى رَأْيٍ مَرْجُوحٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ يُجْزِئُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ، فَكَذَا الْأُضْحِيَّةُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ خَفِيفَتَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْخِفَّةِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ خَاصَّةً ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَيْضًا كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ فَلَوْ قَالَ خَفِيفَاتٍ لَسَلِمَ مِنْ هَذَا ، وَوَقَعَ فِي مَنَاسِكِ الْمُصَنِّفِ مُعْتَدِلَيْنِ بَدَلَ خَفِيفَتَيْنِ ، وَاسْتُغْرِبَ ( وَيَبْقَى ) وَقْتُ التَّضْحِيَةِ ( حَتَّى تَغْرُبَ ) الشَّمْسُ ( آخِرَ ) أَيَّامِ ( التَّشْرِيقِ ) وَهِيَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَاشِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ { فِي كُلِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ } ، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : يَوْمَانِ بَعْدَهُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ وَقَفُوا الْعَاشِرَ غَلَطًا حُسِبَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى حِسَابِ وُقُوفِهِمْ ، وَيُكْرَهُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ لَيْلًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، قِيلَ الْمَعْنَى فِيهِ خَوْفُ الْخَطَأِ فِي الْمَذْبَحِ ، وَقِيلَ : إنَّ الْفُقَرَاءَ لَا

يَحْضُرُونَ لِلْأُضْحِيَّةِ بِاللَّيْلِ حُضُورَهُمْ بِالنَّهَارِ ( قُلْتُ : ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ فَضِيلَةٌ ) فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ ( وَالشَّرْطُ طُلُوعُهَا ، ثُمَّ مُضِيُّ قَدْرِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ لِمَنْ قَالَ يَدْخُلُ بِالطُّلُوعِ .
قَالَ هُنَا : يُعْتَبَرُ قَدْرُ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ عَقِبَهُ ، وَمَنْ قَالَ بِالِارْتِفَاعِ يَعْتَبِرُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمُحَرَّرُ جَزَمَ هُنَاكَ بِالطُّلُوعِ وَهُنَا بِالِارْتِفَاعِ ، فَلِهَذَا اسْتَدْرَكَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ ، وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ ارْتِفَاعَ الشَّمْسِ فَضِيلَةٌ ، وَقَالَ : تَعْجِيلُ النَّحْرِ مَطْلُوبٌ فَلَا يُؤَخَّرُ .

وَمَنْ نَذَرَ مُعَيَّنَةً فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ .

( وَمَنْ نَذَرَ ) أُضْحِيَّةً ( مُعَيَّنَةً فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ ) الْبَقَرَةِ مَثَلًا ، أَوْ جَعَلْتُهَا أُضْحِيَّةً ، أَوْ هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ ، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لِلَّهِ تَعَالَى زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا وَ ( لَزِمَهُ ذَبْحُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ ) السَّابِقِ بَيَانُهُ ، وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتٍ يَلْقَاهُ بَعْدَ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أُضْحِيَّةً فَتَعَيَّنَ ذَبْحُهَا وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِلْعَامِ الْقَابِلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالُوا : لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لَا يَنْتَقِلُ بَلْ يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِهَا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ فِيهَا إلَى الْمَسَاكِينِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَهَا كَمَا سَيَأْتِي ، وَلَوْ أَتْلَفَ الْعَبْدَ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ فَلَا يُضْمَنُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنَّ مُسْتَحِقِّيهَا بَاقُونَ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ : " فَقَالَ " إلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى جَعْلَ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ الْبَدَنَةِ أُضْحِيَّةً وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةَ كَنُطْقِ النَّاطِقِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَضِيَّةُ التَّقْيِيدِ بِالْمُعَيَّنَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ يَكُونُ بِخِلَافِهِ ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ التَّأْقِيتُ أَيْضًا ، فَيَلْزَمُهُ ذَبْحُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ : أَيْ لِتَقَعَ أَدَاءً ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَّرَهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا بَعْدَهُ وَيَكُونُ قَضَاءً كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ .

فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَأَحْكَامُهَا خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : الْأَوَّلُ حُكْمُ التَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ تَلِفَتْ ) أَيْ الْأُضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ الْمُعَيَّنَةُ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الْوَقْتِ ، أَوْ فِيهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا وَلَمْ يُقَصِّرْ ( فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ ، وَهِيَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا ، فَإِنْ تَعَدَّى وَبَاعَهَا اسْتَرَدَّهَا إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَرَدَّ ثَمَنَهَا ، وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي اسْتَرَدَّ أَكْثَرَ قِيمَتِهَا مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إلَى وَقْتِ التَّلَفِ كَالْغَاصِبِ ، وَالْبَائِعُ طَرِيقٌ فِي الضَّمَانِ ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَيَشْتَرِي الْبَائِعُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْلَ التَّالِفَةِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا ، فَإِنْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ عَنْ تَحْصِيلِ مِثْلِهَا وَفَّى الْقِيمَةَ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ نِيَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ أُضْحِيَّةٌ صَارَ الْمِثْلُ أُضْحِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ يَنْوِ أَنَّهُ أُضْحِيَّةٌ فَيَجْعَلُهُ أُضْحِيَّةً ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ لِلْمَنَافِعِ ؛ فَإِنْ أَجَرَهَا وَسَلَّمَهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَتَلِفَتْ عِنْدَهُ بِرُكُوبٍ أَوْ غَيْرِهِ ضَمِنَهَا الْمُؤَجِّرُ بِقِيمَتِهَا ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ .
نَعَمْ إنْ عَلِمَ الْحَالَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأُجْرَةَ وَالْقِيمَةَ .
وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، ذَكَرَهُ الْإِسْنَوِيُّ ، وَتُصْرَفُ الْأُجْرَةُ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَّةِ كَالْقِيمَةِ فَيَفْعَلُ بِهَا مَا يُفْعَلُ بِهَا وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَأَمَّا إعَارَتُهَا فَجَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا ارْتِفَاقٌ ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الِارْتِفَاقُ بِهَا لِلْحَاجَةِ بِرِفْقٍ ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ فِيمَا تَلِفَ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ ؛ لِأَنَّ يَدَ مُعِيرِهِ يَدُ أَمَانَةٍ ، فَكَذَا هُوَ كَمَا ذَكَرَهُ

الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَمِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَتْلَفَ قَبْلَ وَقْتِ الذَّبْحِ ، فَإِنْ دَخَلَ وَقْتُهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهَا وَتَلِفَتْ ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ : أَيْ كَمَا يَضْمَنُ مُعِيرُهُ لِذَلِكَ .

وَإِنْ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهَا مِثْلَهَا وَيَذْبَحَهَا فِيهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ أَتْلَفَهَا ) أَجْنَبِيٌّ ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُتَقَوِّمَاتِ فَيَأْخُذُهَا مِنْهُ النَّاذِرُ وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهَا مِثْلَهَا اشْتَرَى دُونَهَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَنْذُورِ عِتْقُهُ إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ ، فَإِنَّ النَّاذِرَ يَأْخُذُ قِيمَتَهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا يُعْتِقُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَمُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ هُوَ الْعَبْدُ وَقَدْ هَلَكَ وَمُسْتَحِقُّوا الْأُضْحِيَّةِ بَاقُونَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُتْلَفَةُ ثَنِيَّةً مِنْ الضَّأْنِ مَثَلًا فَنَقَصَتْ الْقِيمَةُ مِنْ ثَمَنِهَا أُخِذَ عَنْهَا جَذَعَةٌ مِنْ الضَّأْنِ ، ثُمَّ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ ، ثُمَّ دُونَ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ، ثُمَّ سَهْمٌ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ، ثُمَّ لَحْمٌ ، فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَحْمُ جِنْسِ الْمَنْذُورَةِ ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ لِلضَّرُورَةِ ، وَإِنْ أَتْلَفَهَا النَّاذِرُ أَوْ قَصَّرَ ( لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهَا مِثْلَهَا ) جِنْسًا وَنَوْعًا وَسِنًّا ( وَيَذْبَحَهَا فِيهِ ) أَيْ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ الْمَذْكُورِ لِتَعَدِّيهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا فَقَطْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ مِثْلَهَا إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ وَجْهٌ ، وَالْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْإِتْلَافِ وَمِنْ قِيمَةِ مِثْلِهَا يَوْمَ النَّحْرِ : كَمَا لَوْ بَاعَهَا وَتَلِفَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الذَّبْحَ وَتَفْرِقَةَ اللَّحْمِ وَقَدْ فَوَّتَهُمَا ، وَبِهَذَا فَارَقَ إتْلَافَ الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنْ زَادَتْ الْقِيمَةُ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِ الْمُتْلَفَةِ لِرُخْصٍ حَدَثَ اشْتَرَى كَرِيمَةً ، أَوْ مِثْلَ الْمُتْلَفَةِ وَأَخَذَ بِالزَّائِدِ أُخْرَى إنْ وَفَّى بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُوَفِّ بِهَا تَرَتَّبَ الْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَمْ تَفِ الْقِيمَةُ بِمَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ .
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ

وَالْأَصْحَابُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالزَّائِدِ الَّذِي لَا يَفِي بِأُخْرَى ، وَأَنْ لَا يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا وَيَأْكُلَهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ بَدَلُ الزَّائِدِ الَّذِي يَذْبَحُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ كَالْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ أَنَّهُ مِلْكُهُ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الْوَاجِبِ كَامِلًا ، وَإِنْ ذَبَحَهَا النَّاذِرُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ اللَّحْمِ ، وَلَزِمَهُ أَيْضًا أَنْ يَذْبَحَ فِي وَقْتِهَا مِثْلَهَا بَدَلًا عَنْهَا ، وَإِنْ بَاعَهَا فَذَبَحَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْوَقْتِ أَخَذَ الْبَائِعُ مِنْهُ اللَّحْمَ وَتَصَدَّقَ بِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْأَرْشَ وَضَمَّ إلَيْهِ الْبَائِعُ مَا يَشْتَرِي بِهِ الْبَدَلَ ، وَلَوْ ذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ ، وَهَلْ يَعُودُ اللَّحْمُ مِلْكًا أَوْ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الضَّحَايَا ؟ وَجْهَانِ : فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اشْتَرَى النَّاذِرُ بِهِ وَبِالْأَرْشِ الَّذِي يَعُودُ مِلْكًا أُضْحِيَّةً وَذَبَحَهَا فِي الْوَقْتِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ، وَهُوَ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - الظَّاهِرُ فَرَّقَهُ وَاشْتَرَى بِالْأَرْشِ أُضْحِيَّةً إنْ أَمْكَنَ ، وَإِلَّا فَكَمَا مَرَّ .

وَإِنْ نَذَرَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ عَيَّنَ لَزِمَهُ ذَبْحُهُ فِيهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ بَقِيَ الْأَصْلُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ فِي الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ نَذَرَ فِي ذِمَّتِهِ ) مَا يُضَحِّي بِهِ كَأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أُضْحِيَّةٌ ( ثُمَّ عَيَّنَ ) الْمَنْذُورَ كَعَيَّنْت هَذَا الْبَعِيرَ لِنَذْرِي ( لَزِمَهُ ذَبْحُهُ ) أَيْ مَا عَيَّنَهُ ( فِيهِ ) أَيْ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أُضْحِيَّةً فِي الذِّمَّةِ ، وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ ، وَقِيلَ لَا تَتَأَقَّتُ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ كَدَمِ الْجُبْرَانَاتِ ( فَإِنْ تَلِفَتْ ) أَيْ الْمُعَيَّنَةُ عَنْ النَّذْرِ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الْوَقْتِ أَوْ فِيهِ ( بَقِيَ الْأَصْلُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْمُعَيَّنُ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي لَا يَجِبُ الْإِبْدَالُ ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالتَّعْيِينِ .

النَّوْعُ الثَّانِي حُكْمُ التَّعْيِيبِ ، فَإِذَا حَدَثَ فِي الْمَنْذُورَةِ الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً عَيْبٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّضْحِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ بِتَقْصِيرٍ مِنْ النَّاذِرِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَجْزَأَهُ ذَبْحُهَا فِي وَقْتِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ التَّعْيِيبِ ، فَإِنْ ذَبَحَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَا الْتَزَمَهُ بِتَقْصِيرِهِ وَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا دَرَاهِمَ أَيْضًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا أُضْحِيَّةً أُخْرَى ، إذْ مِثْلُ الْمَعِيبَةِ لَا يُجْزِئُ أُضْحِيَّةً ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا لَمْ تُجْزِهِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَأْخِيرِ ذَبْحِهَا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَأَنْ يَذْبَحَ بَدَلَهَا سَلِيمَةً ، وَلَوْ ذَبَحَ الْمَنْذُورَةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ لَحْمَهَا حَتَّى فَسَدَ لَزِمَهُ شِرَاءُ بَدَلِ اللَّحْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِثْلِيٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ أُخْرَى لِحُصُولِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَلَكِنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِهِ ، هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ ، وَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ لَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ وَلَوْ حَالَةَ الذَّبْحِ بَطَلَ تَعْيِينُهَا وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ الْأَصْلُ فِي ذِمَّتِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51