كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

وَلَوْ سَرَقَ بَقَرَةً مَثَلًا فَتَبِعْهَا عِجْلُهَا لَمْ يَكُنْ الْعِجْلُ مُحْرَزًا إلَّا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ بِحَيْثُ يَرَاهُ إذَا الْتَفَتَ وَكَانَ يَلْتَفِتُ كُلَّ سَاعَةٍ تَقَدَّمَ فِي قَائِدِ الْقِطَارِ .

وَلَوْ دَخَلَ الْمُرَاحَ وَحَلَبَ مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ أَوْ جَزَّ مِنْ نَحْوِ صُوفِهَا كَوَبَرِهَا مَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَأَخْرَجَهُ قُطِعَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ اللَّبَنِ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَاحَ حِرْزٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهَا .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَاتٌ مِنْ أَحْرَازٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ضَرْعٍ حِرْزٌ لِلَبَنِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَأْتِي مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَزِّ الصُّوفِ وَنَحْوِهِ ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الدَّوَابُّ لِوَاحِدٍ أَوْ مُشْتَرَكَةً ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ قُطِعَ بِالثَّانِي كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا .

وَكَفَنٌ فِي قَبْرٍ بِبَيْتٍ مُحْرَزٍ مُحْرَزٌ .
( وَكَفَنٌ ) مَشْرُوعٌ كَائِنٌ ( فِي قَبْرٍ بِبَيْتٍ مُحْرَزٍ ) بِالْجَرِّ صِفَةُ بَيْتٍ ( مُحْرَزٌ ) بِالرَّفْعِ خَبَرُ كَفَنٍ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ مِنْهُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ بِرَفْعِهِ { مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَطَعَ نَبَّاشًا .

وَكَذَا بِمَقْبَرَةٍ بِطَرَفِ الْعِمَارَةِ فِي الْأَصَحِّ
( وَكَذَا ) كَفَنٌ بِقَبْرٍ ( بِمَقْبَرَةٍ ) كَائِنَةٍ ( بِطَرَفِ الْعِمَارَةِ ) فَإِنَّهُ مُحْرَزٌ يُقْطَعُ سَارِقُهُ حَيْثُ لَا حَارِسَ هُنَاكَ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْقَبْرَ فِي الْمَقَابِرِ حِرْزٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا أَنَّ الْبَيْتَ الْمُغْلَقَ فِي الْعُمْرَانِ حِرْزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ .
وَالثَّانِي إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ فَهُوَ غَيْرُ مُحْرَزٍ ، وَسَوَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ أَكَانَ الْكَفَنُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَإِنَّمَا قُطِعَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِانْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ عَنْهُ بِصَرْفِهِ إلَى الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ صَرَفَهُ إلَى الْحَيِّ ، وَسَوَاءٌ أَقُلْنَا : الْمِلْكُ فِي الْكَفَنِ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِلْوَارِثِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَجْلِ اخْتِصَاص الْمَيِّت بِهِ .
نَعَمْ لَوْ سَرَقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ ، أَوْ وَلَدُ بَعْضِهِمْ لَمْ يُقْطَعْ ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ أَنَّ حَارِسَ الْمَقْبَرَةِ إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَمْ يُقْطَعْ .
أَمَّا الْمَقْبَرَةُ الْمَحْفُورَةُ بِالْعِمَارَةِ الَّتِي يَنْدُرُ تَخَلُّفُ الطَّارِقِينَ عَنْهَا فِي زَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ النَّبْشُ ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا حُرَّاسٌ مُرَتَّبُونَ فَهُوَ بِمَثَابَةِ الْبَيْتِ الْمُحْرَزِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ إلَى خَارِجِهِ لَا مِنْ اللَّحْدِ إلَى فَضَاءِ الْقَبْرِ وَتَرْكِهِ ثُمَّ لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ حِرْزِهِ .
أَمَّا غَيْرُ الشَّرْعِيِّ كَأَنْ زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَثْوَابٍ فَلَيْسَ الزَّائِدُ مُحْرَزًا بِالْقَبْرِ كَمَا لَوْ وَضَعَ مَعَ الْكَفَنِ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ بِبَيْتٍ مُحْرَزٍ فَإِنَّهُ مُحْرَزٌ بِهِ ، وَلَوْ تَغَالَى فِي الْكَفَنِ بِحَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُخْلَى مِثْلُهُ بِلَا حَارِسٍ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ .

لَا بِمَضْيَعَةٍ فِي الْأَصَحِّ .

( لَا ) كَفَنٌ فِي قَبْرٍ ( بِمَضِيعَةٍ ) أَيْ : بُقْعَةٍ ضَائِعَةٍ ، وَهِيَ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بِوَزْنِ مَعِيشَةٍ ، أَوْ سَاكِنَةٍ بِوَزْنِ مَسْبَعَةٍ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَالدَّارِ الْبَعِيدَةِ عَنْ الْعُمْرَانِ ، لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ حَيْثُ كَانَ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَهَابُ الْمَوْتَى .
فُرُوعٌ : لَوْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ مِنْ التَّرِكَةِ فَنُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخِذَ مِنْهُ طَالَبَ بِهِ الْوَرَثَةُ مَنْ أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ وَإِنْ قَدِمَ بِهِ الْمَيِّتُ ، وَكَذَا لَوْ سَرَقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ وَلَدُهُ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ أَكَلَ الْمَيِّتَ سَبْعٌ ، أَوْ ذَهَبَ بِهِ سَيْلٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ اقْتَسَمُوهُ كَذَلِكَ ، وَلَوْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ سَيِّدٌ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ كُفِّنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ كَالْعَارِيَّةِ لِلْمَيِّتِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : لِأَنَّ نَقْلَ الْمِلْكِ إلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ابْتِدَاءً فَكَانَ الْمُكَفِّنُ مُعِيرًا عَارِيَّةً لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا كَإِعَارَةِ الْأَرْضِ لِلدَّفْنِ فَيُقْطَعُ بِهِ غَيْرُ الْمُكَفِّنِينَ ، وَالْخَصْمُ فِيهِ الْمَالِكُ فِي الْأَوَّلَيْنِ ، وَالْإِمَامُ فِي الثَّالِثَةِ ، وَلَوْ سُرِقَ الْكَفَنُ وَضَاعَ وَلَمْ تُقَسَّمْ التَّرِكَةُ وَجَبَ إبْدَالُهُ مِنْ التَّرِكَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرِكَةٌ فَكَمَنْ مَاتَ وَلَا تَرِكَةَ لَهُ ، وَإِنْ قُسِّمَتْ ثُمَّ سُرِقَ اُسْتُحِبَّ لَهُمْ إبْدَالُهُ .
هَذَا إذَا كُفِّنَ أَوَّلًا فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ التَّكْفِينُ بِهَا عَلَى رِضَا الْوَرَثَةِ .
أَمَّا لَوْ كُفِّنَ مِنْهَا بِوَاحِدٍ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ يَلْزَمَهُمْ تَكْفِينُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِثَانٍ وَثَالِثٍ ، وَالْفَسَاقِي الْمَعْرُوفَةِ كَبَيْتٍ مَعْقُودٍ حَتَّى إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِرْزٍ وَلَا لَهَا حَافِظٌ لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ مِنْهَا كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، فَإِنَّ اللِّصَّ لَا يَلْقَى عَنَاءً فِي

النَّبْشِ بِخِلَافِ الْقَبْرِ الْمُحْكَمِ فِي الْعَادَةِ ، وَجَمْعُ الْحِجَارَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَفْرِ كَالدَّفْنِ لِلضَّرُورَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ الْحَفْرُ ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ حِرْزًا لِكَفَنِ الْمَيِّتِ الْمَطْرُوحِ فِيهِ فَلَا يُقْطَعُ آخِذُهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَضَعَ الْمَيِّتَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَأَخَذَ كَفَنَهُ فَإِنْ غَاصَ فِي الْمَاءِ فَلَا قَطْعَ عَلَى آخِذِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ طَرْحَهُ فِي الْمَاءِ لَا يُعَدُّ إحْرَازًا ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَغَيَّبَهُ الرِّيحُ بِالتُّرَابِ ، وَلَوْ أُخْرِجَ الْمَيِّتُ مَعَ الْكَفَنِ فَفِي الْقَطْعِ وَجْهَانِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَضِيَّةُ مَا سَيَأْتِي مِنْ عَدَمِ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ الْحُرِّ الْعَاقِلِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ ، وَإِذَا أَخَذَ الْكَفَنَ حِينَئِذٍ لَا قَطْعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ حِرْزٍ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَيِّتِ مُحْتَرَمًا لِيَخْرُجَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ مُحْتَرَمًا لِيَخْرُجَ قَبْرٌ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ .

[ فَصْلٌ ] يُقْطَعُ مُؤَجِّرُ الْحِرْزِ
[ فَصْلٌ ] فِيمَا لَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ وَمَا يَمْنَعُهُ وَمَا يَكُونُ حِرْزًا لِشَخْصٍ دُونَ آخَرَ .
وَلَوْ أَخَّرَ هَذَا الْفَصْلَ إلَى قَوْلِهِ : وَلَا يُقْطَعُ مُخْتَلِسٌ كَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلَ الرُّكْنِ الثَّانِي لِلْقَطْعِ ( يُقْطَعُ ) جَزْمًا ( مُؤَجِّرُ الْحِرْزِ ) إجَارَةِ صَحِيحَةً بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ مَالَ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ إذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِحْرَازُ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ الْمَالِكُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ فِي الْمَحَلِّ ، وَبِخِلَافِ مَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَضْعُهُ فِيهِ كَأَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَآوَى إلَيْهَا مَاشِيَةً مَثَلًا ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْهَا بَعْدَ فَرَاغِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَمْ يُقْطَعْ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً فَلَا قَطْعَ .
تَنْبِيهٌ : يَرُدُّ عَلَى جَزْمِ الْمُصَنِّفِ قَطْعُ الْمُؤَجِّرِ لَوْ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ بِأَنْ ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ ، كَمَا لَوْ بَلَغَهُ لَيْلًا إفْلَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ فَسَرَقَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْحِرْزِ فَفِيهِ خِلَافُ الْمُعِيرِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَمَا أَنَّ الْمُعِيرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَّةِ ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ بَحْثًا .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ .

وَكَذَا مُعِيرُهُ فِي الْأَصَحِّ .

( وَكَذَا ) يُقْطَعُ ( مُعِيرُهُ ) أَيْ الْحِرْزِ إعَارَةً صَحِيحَةً بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَعِيرِ الَّذِي لَهُ وَضْعُهُ فِيهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ النِّصَابَ مِنْ حِرْزٍ مُحْتَرَمٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ إذَا رَجَعَ .
وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَا تَلْزَمُ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْعَارِيَّةِ الْجَائِزَةِ .
أَمَّا الْإِعَارَةُ اللَّازِمَةُ فَيُقْطَعُ فِيهَا قَطْعًا كَالْمُؤَجِّرِ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ رُجُوعٌ فَإِنْ رَجَعَ أَوَّلًا فِي الْعَارِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ الرَّدِّ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَلَا قَطْعَ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ حِينَئِذٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَ كَالْغَاصِبِ وَإِنْ سَرَقَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ قَبْلَ إمْكَانِ التَّفْرِيعِ فَلَا قَطْعَ كَمَا لَوْ سَرَقَ الْمُشْتَرِي مَالَ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ بَعْدَ تَوْفِيَةِ الثَّمَنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَقَبْلَ إمْكَانِ التَّفْرِيعِ .
أَمَّا قَبْلَ تَوْفِيَةِ الثَّمَنِ فَيُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ حَقَّ الْحَبْسِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَأْجِرَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا لَمْ يُقْطَعْ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرٌ ، وَخَرَجَ بِالصَّحِيحَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَا قَطْعَ فِيهَا لِمَا مَرَّ فِي الْإِجَارَةِ وَبِمَالِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ مَا لَوْ اسْتَعَارَ لِلزِّرَاعَةِ فَغَرَسَ وَدَخَلَ الْمُسْتَعِيرُ فَسَرَقَ مِنْ الْغِرَاسِ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ السَّابِقَةِ .
تَنْبِيهٌ : مِثْلُ إعَارَةِ الْحِرْزِ إعَارَةُ رَقِيقٍ لِحِفْظِ مَالٍ أَوْ رَعْيِ غَنَمٍ ثُمَّ سَرَقَ مِمَّا يَحْفَظُهُ رَقِيقُهُ وَقَدْ خَرَجَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْحِرْزِ مَا لَوْ أَعَارَهُ قَمِيصًا فَطَرَّ الْمُعِيرُ جَيْبَهُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَنَقْبُ الْجِدَارِ : أَيْ : الْمُعَارِ كَطَرِّ الْجَيْبِ فِيمَا يَظْهَرُ .

وَلَوْ غَصَبَ حِرْزًا لَمْ يُقْطَعْ مَالِكُهُ ، وَكَذَا أَجْنَبِيٌّ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ غَصَبَ حِرْزًا لَمْ يُقْطَعْ مَالِكُهُ ) بِسَرِقَةِ مَا أَحْرَزَهُ الْغَاصِبُ فِيهِ جَزْمًا ، لِأَنَّ لَهُ الدُّخُولَ وَالْهُجُومَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرَزًا عَنْهُ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ ظَالِمٌ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ } ( وَكَذَا أَجْنَبِيٌّ ) لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَسْتَحِقُّهَا .
وَالثَّانِي يُقْطَعُ إذْ لَا حَقَّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ بِدَارِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَرِضَاهُ فَسُرِقَ هَلْ يُقْطَعُ سَارِقُهُ ؟ قَالَ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ : قِيلَ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَا يَكُونُ حِرْزًا فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حِرْزًا ، وَقِيلَ : يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ يَرْجِعُ إلَى صَوْنِ الْمَتَاعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا .
قَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : غَصَبَ حِرْزًا .

وَلَوْ غَصَبَ مَالًا وَأَحْرَزَهُ بِحِرْزِهِ فَسَرَقَ الْمَالِكُ مِنْهُ مَالَ الْغَاصِبِ ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ الْمَغْصُوبَ فَلَا قَطْعَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ غَصَبَ مَالًا ) أَوْ سَرَقَهُ ( وَأَحْرَزَهُ بِحِرْزِهِ فَسَرَقَ الْمَالِكُ مِنْهُ مَالَ الْغَاصِبِ ، أَوْ ) سَرَقَ ( أَجْنَبِيٌّ ) مِنْهُ الْمَالَ ( الْمَغْصُوبَ ) أَوْ الْمَسْرُوقَ ( فَلَا قَطْعَ ) عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) أَمَّا فِي الْمَالِكِ فَلِأَنَّ لَهُ دُخُولَ الْحِرْزِ وَهَتْكَهُ لِأَخْذِ مَالِهِ ، فَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ أَوْ السَّارِقِ يَأْخُذُهُ وَهُوَ مُحْرَزٌ عَنْهُ .
وَالثَّانِي يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ غَيْرَ مَالِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَخَصَّصَ الْمُحَقِّقُونَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ بِمَا إذَا كَانَ مَالُ الْغَاصِبِ مُتَمَيِّزًا عَنْ مَالِهِ فَأَخَذَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَالِ نَفْسِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَخْلُوطًا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ جَزْمًا .
وَأَمَّا فِي الْأَجْنَبِيِّ فَلِأَنَّ الْحِرْزَ لَيْسَ بِرِضَا الْمَالِكِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ .
وَالثَّانِي نَظَرَ إلَى أَنَّهُ حِرْزٌ فِي نَفْسِهِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : مَالَ الْغَاصِبِ ، عَمَّا لَوْ سَرَقَ مَالَ نَفْسِهِ وَحْدَهُ فَلَا قَطْعَ قَطْعًا ، وَبِقَوْلِهِ : أَوْ أَجْنَبِيٌّ الْمَغْصُوبَ عَمَّا لَوْ سَرَقَ الْأَجْنَبِيُّ غَيْرَ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ قَطْعًا .
تَنْبِيهٌ : فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : أَوْ سَرَقَ أَجْنَبِيٌّ ، إشَارَةٌ لِتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِدُخُولِ الْأَجْنَبِيِّ بِقَصْدِ سَرِقَةِ الْمَغْصُوبِ .
أَمَّا إذَا أَخَذَهُ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ فَلَا يُقْطَعُ جَزْمًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ .

وَلَا يُقْطَعُ مُخْتَلِسٌ وَمُنْتَهِبٌ وَجَاحِدٌ وَدِيعَةً .
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً كَمَا مَرَّ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَا يُقْطَعُ مُخْتَلِسٌ ) وَهُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ الْهَرَبَ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ مَعَ مُعَايَنَةِ الْمَالِكِ ( وَ ) لَا ( مُنْتَهِبٌ ) وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ عَيَانًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ ( وَ ) لَا ( جَاحِدٌ ) أَيْ : مُنْكِرٌ ( وَدِيعَةً ) وَعَارِيَّةً لِحَدِيثِ { لَيْسَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْخَائِنِ قَطْعٌ } ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفَرَّقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّارِقِ بِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً ، وَلَا يَتَأَتَّى مَنْعُهُ فَشُرِعَ الْقَطْعُ زَجْرًا لَهُ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَقْصِدُونَهُ عَيَانًا فَيُمْكِنُ مَنْعُهُمْ بِالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ ، كَذَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَلَعَلَّ هَذَا حُكْمٌ عَلَى الْأَغْلَبِ ، وَإِلَّا فَالْجَاحِدُ لَا يَقْصِدُ الْأَخْذَ عِنْدَ جُحُودِهِ عَيَانًا فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ بِالسُّلْطَانِ وَلَا غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : دَخَلَ فِي تَفْسِيرِهِمْ الْمُنْتَهِبَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُخْرِجُهُ .

وَلَوْ نَقَبَ وَعَادَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى فَسَرَقَ قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ .
قُلْت : هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ لِمَالِكِ النَّقْبِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِلطَّارِقِينَ ، وَإِلَّا فَلَا يُقْطَعُ قَطْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَوْ نَقَبَ ) فِي لَيْلَةٍ وَلَمْ يَسْرِقْ ( وَعَادَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى ) قَبْلَ إعَادَةِ الْحِرْزِ ( فَسَرَقَ قُطِعَ فِي الْأَصَحِّ ) كَمَا لَوْ نَقَبَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَسَرَقَ فِي آخِرِهِ .
وَالثَّانِي لَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ بَعْدَ انْتِهَاكِ الْحِرْزِ ، وَالْأَوَّلُ أَبْقَى الْحِرْزَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، فَإِنْ أُعِيدَ الْحِرْزُ فَسَرَقَ قُطِعَ جَزْمًا كَمَا سَبَقَ أَوَّلَ الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزٍ مَرَّتَيْنِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : وَعَادَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى عَمَّا لَوْ نَقَبَ وَأَخْرَجَ النِّصَابَ عَقِبَ النَّقْبِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَزْمًا ( قُلْتُ ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( هَذَا ) أَيْ : الْقَطْعُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَتْنِ ( إذَا لَمْ يُعْلَمْ لِمَالِكِ النَّقْبِ وَلَمْ يَظْهَرْ ) بِأَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ ( لِلطَّارِقِينَ ) لِخَفَائِهِ عَلَيْهِمْ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ عَلِمَ الْمَالِكُ النَّقْبَ ، أَوْ ظَهَرَ لِلطَّارِقِينَ ( فَلَا يُقْطَعُ قَطْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِانْتِهَاكِ الْحِرْزِ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا جُزِمَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الْقَطْعِ عِنْدَ الِاشْتِهَارِ يُخَالِفُ مَا رَجَّحَهُ فِيمَا إذَا أَخْرَجَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَمَّ تَمَّمَ السَّرِقَةَ لَمْ يَضُرَّ فِيهَا الِاشْتِهَارُ ، وَهُنَا ابْتَدَأَهَا .
تَنْبِيهٌ : يَقَعُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَإِلَّا فَيُقْطَعُ قَطْعًا وَهُوَ غَلَطٌ ، وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ حَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي خَطِّ الْمُصَنِّفِ ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .

وَلَوْ نَقَبَ وَأَخْرَجَ غَيْرُهُ فَلَا قَطْعَ .
( وَلَوْ نَقَبَهُ ) شَخْصٌ ( وَأَخْرَجَ غَيْرُهُ ) الْمَالَ مِنْ النَّقْبِ وَلَوْ فِي الْحَالِ ( فَلَا قَطْعَ ) عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّاقِبَ لَمْ يَسْرِقْ ، وَالْآخِذُ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَيَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ الْجِدَارِ ، وَعَلَى الثَّانِي ضَمَانُ الْمَأْخُوذِ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ ، وَصُورَتُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَافِظٌ قَرِيبٌ مِنْ النَّقْبِ وَهُوَ يُلَاحِظُ الْمَتَاعَ فَالْمَالُ مُحْرَزٌ بِهِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى الْآخِذِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَنْ نَامَ وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ ، وَمَحَلُّ مَنْعِ الْقَطْعِ عَلَى النَّاقِبِ إذَا كَانَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْبِنَاءِ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَإِلَّا فَيُقْطَعُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْجِدَارَ حِرْزٌ لِآلَةِ الْبِنَاءِ ، وَفِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لِلدَّبِيلِيِّ : إذَا نَقَبَ حَائِطًا فَأَخْرَجَ مِنْهُ آجُرًّا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ بَلَغَ قِيمَةُ الْآجُرِّ مِقْدَارًا يَجِبُ بِهِ الْقَطْعُ قُطِعَ .
انْتَهَى ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ : لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْرِقْ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مَا فِي الْحِرْزِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمُخْرِجُ مُمَيِّزًا .

أَمَّا لَوْ نَقَبَ ثُمَّ أَمَرَ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَوْ نَحْوَهُ بِالْإِخْرَاجِ فَأَخْرَجَ قُطِعَ الْآمِرُ ، وَإِنْ أَمَرَ مُمَيِّزًا أَوْ قِرْدًا فَلَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ آلَةً لَهُ ، وَلِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ اخْتِيَارًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا كَانَ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ كَالْقِرْدِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْقِرْدِ أَقْوَى .
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : لَوْ عَلَّمَهُ الْقَتْلَ ثُمَّ أَرْسَلَهُ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ فَهَلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ هُنَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ ، وَهَلْ الْقِرْدُ مِثَالٌ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ حَيَوَانٍ مُعَلَّمٍ أَوْ لَا ؟ الَّذِي يَظْهَرُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ عَزَمَ عَلَى عِفْرِيتٍ فَأَخْرَجَ نِصَابًا هَلْ يُقْطَعُ أَوْ لَا ؟ الَّذِي يَظْهَرُ الثَّانِي كَمَا لَوْ أَكْرَهَ بَالِغًا مُمَيِّزًا عَلَى الْإِخْرَاجِ فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

وَلَوْ تَعَاوَنَا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ أَوْ وَضَعَهُ نَاقِبٌ بِقُرْبِ النَّقْبِ فَأَخْرَجَهُ آخَرُ قُطِعَ الْمُخْرِجُ .
( وَلَوْ تَعَاوَنَا ) أَيْ اثْنَانِ ( فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ ) لِنِصَابٍ فَأَكْثَرَ ( أَوْ وَضَعَهُ نَاقِبٌ ) أَيْ أَحَدُ النَّاقِبِينَ ( بِقُرْبِ النَّقْبِ فَأَخْرَجَهُ آخَرُ ) مَعَ مُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي النَّقْبِ وَسَاوَى مَا أَخْرَجَهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ ( قُطِعَ الْمُخْرِجُ ) فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهُ السَّارِقُ .
تَنْبِيهٌ : جُمْلَةُ وَضَعَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ انْفَرَدَ فَهِيَ مِنْ تَتِمَّةِ مَسْأَلَةِ التَّعَاوُنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْمُخْرِجَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي النَّقْبِ بِخِلَافِ هَذِهِ ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ الْآخَرِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لَكَانَ أَوْلَى ، وَتَحْصُلُ الشَّرِكَةُ ، وَإِنْ أَخَذَ هَذَا لِبَنَاتٍ وَهَذَا لِبَنَاتٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقِيلَ : لَا بُدَّ فِي حُصُولِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَتَحَامَلَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ .

وَلَوْ وَضَعَهُ بِوَسَطِ نَقْبِهِ فَأَخَذَهُ خَارِجٌ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابَيْنِ لَمْ يُقْطَعَا فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ وَضَعَهُ بِوَسَطِ نَقْبِهِ ) بِفَتْحِ السِّينِ لِأَنَّهُ اسْمٌ أُرِيدَ بِهِ مَوْضِعَ النَّقْبِ ( فَأَخَذَهُ ) شَخْصٌ ( خَارِجٌ ) أَوْ نَاوَلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ فَمِ النَّقْبِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابَيْنِ ) فَأَكْثَرَ ( لَمْ يُقْطَعَا فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ تَمَامِ الْحِرْزِ وَهُوَ الْجِدَارُ .
وَيُسَمَّى هَذَا السَّارِقُ الظَّرِيفُ - أَيْ : الْفَقِيهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، وَالثَّانِي يُقْطَعَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي النَّقْبِ وَالْإِخْرَاجِ ، وَلِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْعِلَّةِ الْأُولَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا تَعَاوَنَا فِي النَّقْبِ ثُمَّ دَخَلَ أَحَدُهُمَا وَوَضَعَ الْمَتَاعَ فِي بَعْضِ النَّقْبِ فَمَدَّ الْآخَرُ يَدَهُ وَأَخَذَهُ ، وَإِنْ أَوْهَمَ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ جَرَيَانَ الْخِلَافِ وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ غَيْرَ نَاقِبٍ ، فَلَوْ قَالَ فَأَخَذَهُ شَرِيكُهُ فِي النَّقْبِ لَكَانَ أَصَرْحَ فِي الْمَقْصُودِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ وَيُسَاوِي نِصَابَيْنِ مَا إذَا كَانَ يُسَاوِي دُونَ النِّصَابَيْنِ فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا جَزْمًا ، وَلَوْ رَبَطَ الْمَالَ لِشَرِيكِهِ الْخَارِجِ فَجَرَّهُ قُطِعَ الْخَارِجُ دُونَ الدَّاخِلِ وَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ .

وَيُقْطَعُ الْأَعْمَى بِسَرِقَةِ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ الزَّمِنُ ، وَإِنْ حَمَلَهُ وَدَخَلَ بِهِ الْحِرْزَ لِيَدُلَّهُ عَلَى الْمَالِ وَخَرَجَ بِهِ لِأَنَّهُ السَّارِقُ ، وَيُقْطَعُ الزَّمِنُ بِمَا أَخْرَجَهُ وَالْأَعْمَى حَامِلٌ لِلزَّمِنِ لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْطَعْ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَيْسَ حَامِلًا لِلْمَالِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْمِلُ طَبَقًا فَحَمَلَ رَجُلًا حَامِلًا طَبَقًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَالزَّمِنِ غَيْرُهُ ، وَفَتْحُ الْبَابِ وَالْقُفْلِ بِكَسْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَسَوُّرُ الْحَائِطِ كَالنَّقْبِ فِيمَا مَرَّ .

وَلَوْ رَمَاهُ إلَى خَارِجِ حِرْزٍ أَوْ وَضَعَهُ بِمَاءٍ جَارٍ أَوْ ظَهْرِ دَابَّةٍ سَائِرَةٍ أَوْ عَرَّضَهُ لِرِيحٍ هَابَّةٍ فَأَخْرَجَتْهُ قُطِعَ .

( وَلَوْ رَمَاهُ ) أَيْ الْمَالَ الْمُحْرَزَ شَخْصٌ ( إلَى خَارِجِ حِرْزٍ ) أَوْ أَخَذَهُ فِي يَدِهِ وَأَخْرَجَهَا بِهِ مِنْ الْحِرْزِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَهُ ( أَوْ وَضَعَهُ بِمَاءٍ جَارٍ ) فِي الْحِرْزِ فَخَرَجَ الْمَاءُ بِهِ مِنْهُ أَوْ رَاكِدًا فَحَرَّكَهُ فَخَرَجَ بِهِ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى ( أَوْ ) وَضَعَهُ عَلَى ( ظَهْرِ دَابَّةٍ سَائِرَةٍ ) أَوْ وَاقِفَةٍ سَيَّرَهَا هُوَ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ فَخَرَجَتْ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ ( أَوْ عَرَّضَهُ ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ( لِرِيحٍ هَابَّةٍ فَأَخْرَجَتْهُ ) مِنْهُ ( قُطِعَ ) فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ فِي الْجَمِيعِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ رَمَاهُ مِنْ النَّقْبِ أَمْ الْبَابِ أَمْ مِنْ فَوْقِ الْجِدَارِ ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ بَعْدَ الرَّمْيِ أَمْ لَا ، أَخَذَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا ، تَلِفَ كَأَنْ رَمَاهُ فِي نَارٍ ، أَمْ لَا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ الْحِرْزَ كَالْمُحَرَّرِ كَانَ أَوْلَى ، لِأَنَّ تَنْكِيرَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ الصُّنْدُوقَ وَأَخَذَ مِنْهُ النَّقْدَ وَرَمَاهُ فِي أَرْضِ الْبَيْتِ فَتَلِفَ أَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي ، وَاحْتَرَزَ بِالْمَاءِ الْجَارِي أَوْ الرَّاكِدِ إذَا حَرَّكَهُ عَمَّا لَوْ طَرَحَ الْمَتَاعَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ فَزَادَ بِانْفِجَارٍ أَوْ سَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأَخْرَجَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ لِخُرُوجِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، وَلَوْ وَضَعَهُ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ فَحَرَّكَهُ غَيْرُهُ حَتَّى خَرَجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الْمُحَرِّكِ ، وَقَدْ يَرِدُ عَلَى إطْلَاقِهِ مَا لَوْ كَانَ خَارِجَ الْحِرْزِ وَاحْتَالَ بِرَمْيِ أَحْجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ الْأُتْرُجُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الثِّمَارِ فِي الْمَاءِ وَخَرَجَتْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخِرِ ، فَالْأَصَحُّ لَا قَطْعَ ، وَبِقَوْلِهِ هَابَّةٍ عَمَّا إذَا كَانَتْ سَاكِنَةً وَوَضَعَهُ عَلَى الطَّرْفِ فَهَبَّتْ وَأَخْرَجَتْهُ فَلَا قَطْعَ عَلَى الْأَصَحِّ كَالْمَاءِ الرَّاكِدِ فِيمَا مَرَّ ، وَقَوْلُهُ : عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ سَائِرَةٍ : أَيْ لِيَخْرُجَ مِنْ الْحِرْزِ .
أَمَّا لَوْ كَانَتْ سَائِرَةً مِنْ

جَانِبٍ مِنْ الدَّارِ إلَى جَانِبٍ آخَرَ مِنْهَا فَوَضَعَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّهُ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاقِفَةٌ ثُمَّ سَارَتْ ، وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ .

أَوْ وَاقِفَةٍ فَمَشَتْ بِوَضْعِهِ فَلَا فِي الْأَصَحِّ .
( أَوْ ) وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ ( وَاقِفَةٍ فَمَشَتْ بِوَضْعِهِ ) حَتَّى خَرَجَتْ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ ( فَلَا ) قَطْعَ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ لَهَا اخْتِيَارًا فِي السَّيْرِ ، فَإِذَا لَمْ يَسُقْهَا فَقَدْ سَارَتْ بِاخْتِيَارِهَا ، وَالثَّانِي يُقْطَعُ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ الدَّابَّةَ إذَا حَمَلَتْ سَارَتْ ، وَالثَّالِثُ إنْ سَارَتْ عَقِبَ الْوَضْعِ قُطِعَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُصَحَّحِ فِي فَتْحِ قَفَصِ الطَّائِرِ .

فُرُوعٌ : لَوْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً مَثَلًا فِي الْحِرْزِ وَخَرَجَ مِنْهُ قُطِعَ إنْ خَرَجَتْ مِنْهُ بَعْدُ لِبَقَائِهَا بِحَالِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا فِيهِ أَوْ وِعَاءٍ ، فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ فَلَا قَطْعَ لِاسْتِهْلَاكِهَا فِي الْحِرْزِ كَمَا لَوْ أَكَلَ الْمَسْرُوقَ فِي الْحِرْزِ ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَتْ مِنْهُ لَكِنْ ( نَقَصَتْ ) قِيمَتُهَا حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبَارِزِيُّ .

وَلَوْ تَضَمَّخَ بِطِيبٍ فِي الْحِرْزِ وَخَرَجَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ ، وَلَوْ جُمِعَ مِنْ جِسْمِهِ نِصَابٌ مِنْهُ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ يُعَدُّ إتْلَافًا لَهُ كَالطَّعَامِ .

وَلَوْ رَبَطَ لُؤْلُؤَةً مَثَلًا بِجَنَاحِ طَائِرٍ ثُمَّ طَيَّرَهُ قُطِعَ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ ثُمَّ سَيَّرَهَا .

وَلَا يُضْمَنُ حُرٌّ بِيَدٍ ، وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ .
( وَلَا يُضْمَنُ حُرٌّ بِيَدٍ وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ ) وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْبَغَوِيّ الْمُكَاتَبَ ، وَالرَّافِعِيُّ الْمُبَعَّضَ .
فَإِنْ قِيلَ : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُتِيَ بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فَيَبِيعُهُمْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ } فَمَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَرِقَّاءِ ، وَحُكْمُهُمْ أَنَّهُ إنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ رَقِيقًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِصِغَرٍ أَوْ عُجْمَةٍ أَوْ جُنُونٍ قُطِعَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَحِرْزُهُ فِنَاءُ الدَّارِ وَنَحْوُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مَطْرُوقًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَسَوَاءٌ أَحَمَلَهُ السَّارِقُ أَوْ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ لِأَنَّهُ كَالْبَهِيمَةِ تُسَاقُ أَوْ تُقَادُ ، وَلَوْ أَكْرَهَ الْمُمَيِّزَ فَخَرَجَ مِنْ الْحِرْزِ قُطِعَ كَمَا لَوْ سَاقَ الْبَهِيمَةَ بِالضَّرْبِ ، وَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي هِيَ الْحِرْزُ قَدْ زَالَتْ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ بِخَدِيعَةٍ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لَا سَرِقَةٌ ، وَلَوْ حَمَلَ عَبْدًا مُمَيِّزًا قَوِيًّا عَلَى الِامْتِنَاعِ نَائِمًا أَوْ سَكْرَانَ قُطِعَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٌ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلَهُ مُسْتَيْقِظًا فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِقُوَّتِهِ وَهِيَ مَعَهُ .

وَلَوْ سَرَقَ صَغِيرًا بِقِلَادَةٍ فَكَذَا فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ سَرَقَ ) حُرًّا ( صَغِيرًا ) لَا يُمَيِّزُ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ أَعْمًى مِنْ مَوْضِعٍ لَا يُنْسَبُ لِتَضْيِيعٍ ( بِقِلَادَةٍ ) أَوْ مَالٍ غَيْرِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهِ مِنْ حِيلَةٍ وَمُلَابَسَةٍ وَذَلِكَ نِصَابٌ ( فَكَذَا ) لَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ لِلْحُرِّ يَدًا عَلَى مَا مَعَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ مُنْفَرِدًا وَمَعَهُ حُلِيٌّ حُكِمَ لَهُ بِهِ فَصَارَ كَمَنْ سَرَقَ جَمَلًا وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ ، وَالثَّانِي يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ .
أَمَّا إذَا سَرَقَهُ مِنْ مَوْضِعٍ يُنْسَبُ لِتَضْيِيعٍ فَلَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ أَوْ كَانَ مَا مَعَهُ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ قُطِعَ بِلَا خِلَافٍ ، أَوْ مِنْ حِرْزٍ يَصْلُحُ لِلصَّبِيِّ دُونَهُ لَمْ يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ ، ذَكَرَهُ فِي الْكِفَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِلَادَةُ لِلصَّبِيِّ ، فَلَوْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهَا قُطِعَ وَإِلَّا فَلَا جَزْمًا .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ أَخْرَجَ الصَّبِيَّ مِنْ الْحِرْزِ ثُمَّ نَزَعَ الْقِلَادَةَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ حِرْزٍ .

وَلَوْ سَرَقَ قِلَادَةً مَثَلًا مُعَلَّقَةً عَلَى صَغِيرٍ وَلَوْ حُرًّا أَوْ كَلْبٍ مُحْرَزَيْنِ أَوْ سَرَقَهَا مَعَ الْكَلْبِ قُطِعَ ، وَحِرْزُ الْحُرِّ الصَّغِيرِ حِرْزُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ ، وَحِرْزُ الْكَلْبِ حِرْزُ الدَّوَابِّ .

وَلَوْ نَامَ عَبْدٌ عَلَى بَعِيرٍ فَقَادَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ الْقَافِلَةِ قُطِعَ ، أَوْ حُرٌّ فَلَا فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ نَامَ عَبْدٌ عَلَى بَعِيرٍ ) فَجَاءَ سَارِقٌ ( فَقَادَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ الْقَافِلَةِ ) إلَى مَضْيَعَةٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ( قُطِعَ ) لِأَنَّهُ كَانَ مُحْرَزًا بِالْقَافِلَةِ وَالْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ مَسْرُوقٌ وَثَبَتَتْ الْيَدُ وَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ ( أَوْ ) نَامَ ( حُرٌّ ) عَلَى بَعِيرٍ إلَخْ ( فَلَا ) يُقْطَعُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْبَعِيرَ بِيَدِهِ ، سَوَاءٌ أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْهُ أَمْ لَا ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّهْذِيبِ وَمِثْلُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْمُبَعَّضُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْجَزْمَ فِي الْعَبْدِ ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي الْأُولَى لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الْبَعِيرِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْبَعِيرَ كَانَ مُحْرَزًا بِالْقَافِلَةِ ، وَخَرَجَ بِنَامَ مَا لَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ ، وَلَوْ أَخْرَجَهُ إلَى قَافِلَةٍ أُخْرَى أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَمْ يُقْطَعْ فِي الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَمُقْتَضَى مَا فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي الْأُولَى أَيْضًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَلِهَذَا أَسْقَطَ ابْنُ الْمُقْرِي ذِكْرَ الْمَضْيَعَةِ مِنْ رَوْضِهِ .

وَلَوْ نَقَلَ
( وَلَوْ نَقَلَ ) الْمَالَ مِنْ بَعْضِ زَوَايَا الْبَيْتِ لِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ .

مِنْ بَيْتٍ مُغْلَقٍ إلَى صَحْنِ دَارٍ بَابُهَا مَفْتُوحٌ قُطِعَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقِيلَ إنْ كَانَا مُغْلَقَيْنِ قُطِعَ .
أَوْ نَقَلَ الْمَالَ ( مِنْ بَيْتٍ مُغْلَقٍ ) بِفَتْحِ اللَّامِ ( إلَى صَحْنِ دَارٍ بَابُهَا مَفْتُوحٌ ) وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْهَا ( قُطِعَ ) جَزْمًا لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ وَجَعَلَهُ فِي مَحَلِّ الضَّيَاعِ ( وَإِلَّا ) صَادِقٌ بِثَلَاثِ صُوَرٍ : الْأُولَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ مَفْتُوحًا وَبَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا ، الثَّانِيَة أَنْ يَكُونَا مُغْلَقَيْنِ وَالْعَرْصَةُ حِرْزٌ لِلْمَخْرَجِ ، الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَا مَفْتُوحَتَيْنِ وَلَا حَافِظَ ثَمَّ ( فَلَا ) يُقْطَعُ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ فِي الْأُولَيَيْنِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ الْحِرْزِ ، وَالْمَالُ فِي الثَّالِثَةِ غَيْرُ مُحْرَزٍ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّهُ فِي الثَّالِثَةِ إذَا فَتَحَ الْبَابَ غَيْرُ السَّارِقِ كَأَنْ تَسَوَّرَ السَّارِقُ الْجِدَارَ وَفَتَحَ الْبَابَ غَيْرُهُ .
أَمَّا إذَا فَتَحَهُ هُوَ فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَالْمُغْلَقِ حَتَّى لَا يُقْطَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ الْحِرْزِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يُقْطَعَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ( وَقِيلَ إنْ كَانَا ) أَيْ : بَابُ الْبَيْتِ وَالدَّارِ ( مُغْلَقَيْنِ قُطِعَ ) لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزٍ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ الْحِرْزِ فَأَشْبَهَ مَا إذَا أُخْرِجَ مِنْ الصُّنْدُوقِ الْمُغْلَقِ إلَى الْبَيْتِ الْمُغْلَقِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْبَيْتِ .

وَبَيْتُ خَانٍ وَصَحْنُهُ كَبَيْتٍ ، وَ دَارٍ فِي الْأَصَحِّ .
( وَبَيْتُ خَانٍ ) أَوْ رِبَاطٌ أَوْ نَحْوُهُ ( وَصَحْنُهُ كَبَيْتٍ ، وَ ) صَحْنُ ( دَارٍ فِي الْأَصَحِّ ) فَيَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْخَانِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا كَمَا إذَا أُخْرِجَ مِنْ الْبَيْتِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ ، وَالثَّانِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ صَحْنَ الْخَانِ لَيْسَ حِرْزًا لِصَاحِبِ الْبَيْتِ : بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فَهُوَ كَالسِّكَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ السَّارِقُ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ وَسَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ وَالْحُجْرَةِ الْمُغْلَقَيْنِ قُطِعَ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْعَرْصَةِ لَمْ يُقْطَعْ .

فُرُوعٌ : لَوْ سَرَقَ الضَّيْفُ مِنْ مَكَانٍ مُضِيفِهِ أَوْ الْجَارُ مِنْ حَانُوتِ جَارِهِ أَوْ الْمُغْتَسِلُ مِنْ الْحَمَّامِ ، وَإِنْ دَخَلَ لِيَسْرِقَ أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْ الدُّكَّانِ الْمَطْرُوقِ لِلنَّاسِ مَا لَيْسَ مُحْرَزًا عَنْهُ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي سَرِقَةِ ذَلِكَ ، وَإِنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ لِيَسْرِقَ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : أَوْ لِيَغْتَسِلَ وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَتَغَفَّلَ حَمَّامِيًّا أَوْ غَيْرَهُ اُسْتُحْفِظَ مَتَاعًا فَحَفِظَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْحَمَّامِ قُطِعَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يُسْتَحْفَظْ أَوْ اُسْتُحْفِظَ فَلَمْ يَحْفَظْ لِنَوْمٍ أَوْ إعْرَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ حَافِظٌ ، وَلَوْ نَزَعَ شَخْصٌ ثِيَابَهُ فِي الْحَمَّامِ وَالْحَمَّامِيُّ أَوْ الْحَارِسُ جَالِسٌ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ وَلَا اسْتَحْفَظَهُ : بَلْ دَخَلَ عَلَى الْعَادَةِ فَسُرِقَتْ فَلَا قَطْعَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَمَّامِيِّ وَلَا عَلَى الْحَارِسِ .

وَلَوْ سَرَقَ السُّفُنَ مِنْ الشَّطِّ وَهُوَ جَانِبُ النَّهْرِ وَالْوَادِي وَجَمْعُهُ شُطُوطٌ وَهِيَ مَشْدُودَةٌ قُطِعَ لِأَنَّهَا مُحْرَزَةٌ بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْدُودَةٌ فَلَا قَطْعَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ فِي الْعَادَةِ .

[ فَصْلٌ ] لَا يُقْطَعُ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَمُكْرَهٌ .
[ فَصْلٌ ] فِي شُرُوطِ السَّارِقِ وَفِيمَا تَثْبُتُ بِهِ السَّرِقَةُ وَمَا يُقْطَعُ بِهَا ، وَشُرُوطُ السَّارِقِ تَكْلِيفٌ ، وَاخْتِيَارٌ ، وَالْتِزَامٌ ، وَعِلْمُ تَحْرِيمِ السَّرِقَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْفَارِقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَحِينَئِذٍ ( لَا يُقْطَعُ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَمُكْرَهٌ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ ، لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ وَحَرْبِيٌّ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ ، وَأَعْجَمِيٌّ أَمَرَ بِسَرِقَةٍ وَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهَا أَوْ جَهِلَ التَّحْرِيمَ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ لِعُذْرِهِ ، وَقُطِعَ السَّكْرَانُ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ يُقْطَعُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ بِالْفَتْحِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِعُجْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، فَقَدْ سَبَقَ عَنْ الْجُمْهُورِ فِيمَا لَوْ نَقَبَ ثُمَّ أَمَرَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَأَخْرَجَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى الْآمِرِ فَلْيَكُنْ هُنَا مِثْلَهُ .

وَيُقْطَعُ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ بِمَالِ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، وَفِي مُعَاهَدٍ أَقْوَالٌ : أَحْسَنُهَا إنْ شُرِطَ قَطْعُهُ بِسَرِقَةٍ قُطِعَ ، وَإِلَّا فَلَا .
قُلْت : الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا قَطْعَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَيُقْطَعُ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ بِمَالِ مُسْلِمٍ وَ ) مَالِ ( ذِمِّيٍّ ) أَمَّا قَطْعُ الْمُسْلِمِ بِمَالِ الْمُسْلِمِ فَبِإِجْمَاعٍ .
وَأَمَّا قَطْعُهُ بِمَالِ الذِّمِّيِّ فَعَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ بِذِمَّتِهِ ، وَقِيلَ : لَا يُقْطَعُ كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ .
وَأَمَّا قَطْعُ الذِّمِّيِّ بِمَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فَلِالْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ ، سَوَاءٌ أَرَضِيَ بِحُكْمِنَا أَمْ لَا .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ لَا يُقْطَعُ بِمَالِ الْمُعَاهَدِ وَالْمُؤْمِنِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَاهَدَ لَا يُقْطَعُ بِمَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَفِي ) سَرِقَةِ ( مُعَاهَدٍ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ بِخَطِّهِ ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا ، وَمُسْتَأْمَنٍ إذَا سَرَقَ وَلَوْ لِمُعَاهَدٍ ( أَقْوَالٌ : أَحْسَنُهَا ) كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ ، وَفِي الصَّغِيرِ أَنَّهُ الْأَقْرَبُ ( إنْ شُرِطَ ) عَلَيْهِ فِي عَهْدِهِ ( قَطْعُهُ بِسَرِقَةٍ قُطِعَ ) لِالْتِزَامِهِ ( وَإِلَّا فَلَا ) يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ ( قُلْت : الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا قَطْعَ ) مُطْلَقًا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَقَالَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ : إنَّهُ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَحْكَامَ فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ ، وَالثَّالِثُ يُقْطَعُ مُطْلَقًا كَالذِّمِّيِّ ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُرْشِدِ وَصَحَّحَهُ مُجَلِّي ، وَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلَافَ بِمَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ ، فَإِنْ سَرَقَ مَالَ مُعَاهَدٍ فَلَا يُقْطَعُ قَطْعًا .
وَأَمَّا الْمَالُ الْمَسْرُوقُ فَيَجِبُ اسْتِرْدَادُهُ مِنْهُ جَزْمًا إنْ بَقِيَ ، وَبَدَلُهُ إنْ تَلِفَ .

وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ فِي الْأَصَحِّ ، أَوْ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ ، وَالْمَذْهَبُ قَبُولُ رُجُوعِهِ .

( وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ ) كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى شَخْصٍ سَرِقَةَ نِصَابٍ فَيَنْكُلُ عَنْ الْيَمِينِ فَتُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي وَيُحَلَّفُ فَيَجِبُ الْقَطْعُ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَنَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَصْحِيحِ الْمُحَرَّرِ ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ ، وَالْقَطْعُ يَجِبُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَأَشْبَهَ الْقِصَاصَ ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ بِهَا لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : أُكْرِهُ أَمَتِي عَلَى الزِّنَا ، وَحَلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُثْبِتُ الْمَهْرَ دُونَ حَدِّ الزِّنَا ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَا بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ فِي الْيَمِينِ مِنْ الدَّعَاوَى ، وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ هُنَا .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ .
وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ الْمُعْتَمَدُ لِنَصِّ الْأُمِّ ، وَالْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَإِقْرَارِ السَّارِقِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ .
أَمَّا الْمَالُ فَيَثْبُتُ قَطْعًا ( أَوْ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ ) مُؤَاخَذَةٌ لَهُ بِقَوْلِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْإِقْرَارَ وَلَهُ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ قَبْلَهَا لَمْ يَثْبُتْ الْقَطْعُ فِي الْمَالِ : بَلْ يُوقَفُ عَلَى حُضُورِ الْمَالِكِ وَطَلَبِهِ كَمَا سَيَأْتِي .
ثَانِيهُمَا أَنْ يُفَصِّلَ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ فَيُبَيِّنُ السَّرِقَةَ وَالْمَسْرُوقَ مِنْهُ وَقَدْرَ الْمَسْرُوقِ وَالْحِرْزِ بِتَعْيِينٍ أَوْ وَصْفٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ غَيْرَ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ سَرِقَةً مُوجِبَةً لَهُ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِعِلْمِ الْقَاضِي ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ السَّيِّدِ

فَإِنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي رَقِيقِهِ كَمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا ( وَالْمَذْهَبُ قَبُولُ رُجُوعِهِ ) عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ ، وَلَوْ فِي أَثْنَائِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْ الْقَطْعِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَا يَضُرُّ إبْقَاؤُهُ قَطَعَهُ هُوَ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ قَطْعُهُ .
أَمَّا الْغُرْمُ فَلَا لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ ، وَيُقْبَلُ فِي الْقَطْعِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَالثَّالِثُ يُقْبَلُ فِي الْقَطْعِ لَا فِي الْمَالِ عَلَى الْأَصَحِّ .

فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : لَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثُمَّ كَذَّبَ رُجُوعَهُ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ .
ثَانِيهِمَا : لَوْ أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ رَجَعَ .
قَالَ الْقَاضِي : سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ كَانَ بِالْإِقْرَارِ ا هـ .
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الزِّنَا عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالتَّرْجِيحُ فِيهِ ، وَهُوَ إنْ أَسْنَدَ الْحُكْمَ إلَى الْبَيِّنَةِ لَا يَسْقُطُ ، أَوْ إلَى الْإِقْرَارِ قَبْلَ رُجُوعِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُقِرَّيْنِ بِالسَّرِقَةِ عَنْ إقْرَارِهِ دُونَ الْآخَرِ فَقَطْ .

وَمَنْ أَقَرَّ بِعُقُوبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ ، وَلَا يَقُولُ : ارْجِعْ .
( وَمَنْ أَقَرَّ ) ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ دَعْوَى ( بِعُقُوبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ) أَيْ بِمُقْتَضِيهَا كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا ( فَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ ) أَيْ : لِلْمُقِرِّ ( بِالرُّجُوعِ ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِمَّا يَقْبَلُ فِيهِ رُجُوعَهُ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ فِي السَّرِقَةِ : لَعَلَّكَ أَخَذْتَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَفِي الزِّنَا : لَعَلَّك فَاخَذْتَ أَوْ لَمَسْتَ ، وَفِي الشُّرْبِ لَعَلَّك لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ مَا شَرِبْته مُسْكِرٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِمَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ ؟ قَالَ : بَلَى ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ } .
وَقَالَ لِمَاعِزٍ : { لَعَلَّكَ قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( وَلَا ) يُصَرِّحُ بِذَلِكَ فَلَا ( يَقُولُ ) لَهُ ( ارْجِعْ ) عَنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَأَجْحِدْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْكَذِبِ ، وَالثَّانِي لَا يُعَرِّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ كَمَا لَا يُصَرِّحُ لَهُ بِهِ ، وَالثَّالِثُ ، يُعَرِّضُ لَهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَإِنْ عَلِمَ فَلَا .
تَنْبِيهَاتٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ .
لَكِنْ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ ، وَاحْتَرَزَ بِالْإِقْرَارِ عَمَّا إذَا ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ ، وَبِقَوْلِهِ : وَمَنْ أَقَرَّ ، عَمَّا قَبْلَ الْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِالْإِنْكَارِ وَيَحْمِلَهُ عَلَيْهِ : أَيْ يُلَقِّنَهُ إيَّاهُ قَطْعًا ، وَبِقَوْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ لَا يُعَرِّضُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا .

وَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ نَعَمْ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي السِّتْرِ ، وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَوْ مَكْرُوهٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ الْأَوَّلُ ا هـ .
وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ : وَلَا يَقُولُ : ارْجِعْ ، مِنْ تَتِمَّةِ مَا قَالَ : إنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هُوَ مَجْزُومٌ بِهِ فِي الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فِي الْحَدِّ ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ تَشْفِيعَهُ فِيهِ .
أَمَّا قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ فَأَجَازَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْفَعْ ، وَسَتَأْتِي الشَّفَاعَةُ فِي التَّعْزِيرِ فِي بَابِهِ .

وَلَوْ أَقَرَّ بِلَا دَعْوَى أَنَّهُ سَرَقَ مَالَ زَيْدٍ الْغَائِبِ لَمْ يُقْطَعْ فِي الْحَالِ ، بَلْ يُنْتَظَرُ حُضُورُهُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ أَقَرَّ ) شَخْصٌ ( بِلَا ) سَبْقِ ( دَعْوَى ) عَلَيْهِ ( أَنَّهُ سَرَقَ مَالِ زَيْدٍ الْغَائِبِ لَمْ يُقْطَعْ فِي الْحَالِ ، بَلْ يُنْتَظَرُ حُضُورُهُ ) وَمُطَالَبَتُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَضَرَ وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَبَاحَ لَهُ الْمَالَ أَوْ يُقِرُّ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّارِقُ لِلشُّبْهَةِ ، وَالثَّانِي يُقْطَعُ فِي الْحَالِ عَمَلًا بِإِقْرَارِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَإِنَّهُ لَا يُنْتَظَرُ حُضُورُهَا ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَسْقُطُ بِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِإِبَاحَةِ الْمَالِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ يُحْبَسُ إلَى أَنْ يَقْدُمَ الْغَائِبُ أَوْ لَا ؟ فِيهِ خِلَافٌ قَالَ : وَأَشَارَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَصَحَّحَهُ فِي الْكِفَايَةِ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ سُرِقَ مَالُ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ .
قَالَ شَيْخُنَا : أَوْ سَفِيهٍ فِيمَا يَظْهَرُ انْتَظَرْنَا بُلُوغَهُ أَوْ إفَاقَتَهُ أَوْ رُشْدَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا سَرَقَهُ كَالْغَائِبِ .

فَرْعَانِ : لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ لِغَائِبٍ بِمَالٍ لَمْ يُطَالِبْهُ الْحَاكِمُ بِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَالِ الْغَائِبِ إلَّا إنْ مَاتَ الْغَائِبُ عَنْ الْمَالِ وَخَلَّفَهُ لِطِفْلٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُقِرَّ بِهِ وَيَحْبِسَهُ .

أَوْ أَنَّهُ أَكْرَهَ أَمَةَ غَائِبٍ عَلَى زِنًا حُدَّ فِي الْحَالِ فِي الْأَصَحِّ .
وَلَوْ أَقَرَّ عَبْدٌ بِسَرِقَةٍ دُونَ النِّصَابِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا إنْ صَدَّقَهُ سَيِّدُهُ أَوْ نِصَابٍ قُطِعَ كَإِقْرَارِهِ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ قِصَاصًا وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ وَإِنْ كَانَ بِيَدِهِ كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ ( أَوْ ) أَقَرَّ ( أَنَّهُ أَكْرَهَ أَمَةَ غَائِبٍ عَلَى زِنًا حُدَّ فِي الْحَالِ ) وَلَمْ يُنْتَظَرْ حُضُورُ الْغَائِبِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّلَبِ ، وَلَوْ حَضَرَ وَقَالَ : كُنْت أَبَحْتُهَا لَهُ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ ، لِأَنَّ إبَاحَةَ الْبُضْعِ مُلْغَاةٌ .
وَالثَّانِي يُنْتَظَرُ حُضُورُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ وَقَفَهَا عَلَيْهِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ الْحَدَّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ ، إنْ جَعَلْنَاهُ لَهُ فَلَا حَدَّ ، وَإِلَّا حُدَّ .
تَنْبِيهٌ : ذِكْرُ الْإِكْرَاهِ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : زَنَيْت بِأَمَةِ فُلَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ إكْرَاهًا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِلسَّيِّدِ ، وَهُوَ الْمَهْرُ ، لَكِنَّ هَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْحَدِّ .

وَتَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، فَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ وَلَا قَطْعَ ، وَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ الشَّاهِدِ
( وَتَثْبُتُ ) السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ ( بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ) كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ غَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ خُصَّ بِمَزِيدِ الْعَدَدِ ( فَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) بِسَرِقَةٍ أَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا بِهَا وَحَلَفَ مَعَهُ ( ثَبَتَ الْمَالُ وَلَا قَطْعَ ) عَلَى السَّارِقِ ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعِتْقَ عَلَى غَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَشَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ثُبُوتِ الْمَالِ مَا إذَا شَهِدُوا بَعْدَ دَعْوَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ ، فَلَوْ شَهِدُوا حِسْبَةً لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُنْصَبَّةٌ إلَى الْمَالِ ، وَشَهَادَةَ الْحِسْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ( وَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ الشَّاهِدِ ) بِسَرِقَةِ مَالٍ .

شُرُوطُ السَّرِقَةِ .
( شُرُوطُ السَّرِقَةِ ) الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِبَيَانِ السَّارِقِ بِالْإِشَارَةِ إلَى عَيْنِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا ، وَبِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ إنْ كَانَ غَائِبًا .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ عَلَى غَائِبٍ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهَا إنَّمَا سُمِعَتْ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمَالِ ، وَلِهَذَا لَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالِكُ وَيَدَّعِيَ بِمَالِهِ كَمَا مَرَّ ، وَبِبَيَانِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقِ ، وَكَوْنُ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ بِتَعْيِينِهِ أَوْ وَصْفِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يَكْفِي الْإِطْلَاقُ ، إذْ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِسَرِقَةٍ سَرِقَةً لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ إطْلَاقِهِ مَوَاضِعَ .
إحْدَاهَا : أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقَطْعِ كَوْنُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا ، وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَذْكُرَهُ الشَّاهِدُ ، بَلْ يَكْفِي تَعْيِينُ الْمَسْرُوقِ ، ثُمَّ الْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ نِصَابٌ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ .
ثَانِيهَا وَمِنْ شُرُوطِهِ كَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ ، وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ : سَرَقَ هَذَا ، ثُمَّ الْمَالِكُ يَقُولُ هَذَا مِلْكِي وَالسَّارِقُ يُوَافِقُهُ .
ثَالِثُهَا : وَمِنْ شُرُوطِهِ عَدَمُ الشُّبْهَةِ ، وَمُقْتَضَاهُ اعْتِبَارُ أَنْ يَقُولَ فِي شَهَادَتِهِ : وَلَا أَعْلَمُ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً ، وَقَدْ حَكَاهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ .
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَلَكِنَّ هَذَا تَأْكِيدًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشُّبْهَةِ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى عَلَى هَذَا ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ ، وَقِيَاسُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَيُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمَا فِي شَهَادَتِهِمَا .

وَلَوْ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ كَقَوْلِهِ : سَرَقَ بُكْرَةً ، وَالْآخَرِ عَشِيَّةً فَبَاطِلَةٌ .
( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ ) فِي وَقْتِ الشَّهَادَةِ ( كَقَوْلِهِ ) أَيْ : أَحَدِهِمَا ( سَرَقَ بُكْرَةً ، وَ ) قَوْلِ ( الْآخَرِ ) سَرَقَ ( عَشِيَّةً فَبَاطِلَةٌ ) هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : فَبَاطِلَةٌ : أَيْ : النِّسْبَةُ إلَى الْقَطْعِ .
أَمَّا الْمَالُ فَإِنْ حَلَفَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعَ الشَّاهِدِ أَخَذَ الْغُرْمَ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، كَذَا قَالَاهُ ، وَالْمُرَادُ حَلَفَ مَعَ مَنْ وَافَقَتْ شَهَادَتُهُ دَعْوَاهُ : أَيْ : الْحَقُّ فِي زَعْمِهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْكِفَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الِاخْتِلَافَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَادِحُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقَ كِيسًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : كِيسَيْنِ ، ثَبَتَ الْوَاحِدُ وَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ إنْ كَانَ نِصَابًا ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِسَرِقَةٍ وَاثْنَانِ بِسَرِقَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ثَبَتَ الْقَطْعُ وَالْمَالَانِ ، وَإِنْ تَوَارَدَا عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَأَنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ كَذَا غَدْوَةٌ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَهُ عَشِيَّةً تَعَارَضَتَا فَلَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَآخَرُ بِأَسْوَدَ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا ، وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ الثَّوْبَ الْآخَرَ وَيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَلَا يُقَالُ : تَعَارَضَتْ شَهَادَتُهُمَا ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ ، وَلَا قَطْعَ لِاخْتِلَافِ شَهَادَتِهِمَا .

( وَعَلَى السَّارِقِ رَدُّ مَا سَرَقَ ) إنْ بَقِيَ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ قُطِعَ لَمْ يَغْرَمْ ، وَإِنْ غَرِمَ لَهُ لَمْ يُقْطَعْ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا .
لَنَا أَنَّ الْقَطْعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالضَّمَانَ لِآدَمِيٍّ فَلَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَمْنَعُ الْفَقْرُ إسْقَاطَ مَالِ الْغَيْرِ .

وَلَوْ كَانَ لِلْمَسْرُوقِ مَنْفَعَةٌ اسْتَوْفَاهَا السَّارِقُ أَوْ عَطَّلَهَا وَجَبَتْ أُجْرَتُهَا كَالْمَغْصُوبِ .

وَعَلَى السَّارِقِ رَدُّ مَا سَرَقَ ، فَإِنْ تَلِفَ ضَمِنَهُ
وَلَوْ أَعَادَ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ إلَى الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ وَلَا الضَّمَانُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْقُطَانِ .
وَعَنْ مَالِكٍ لَا ضَمَانَ وَيُقْطَعُ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَلَوْ قِيلَ بِالْعَكْسِ لَكَانَ مَذْهَبًا لِدَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ ( فَإِنْ تَلِفَ ضَمِنَهُ ) بِبَدَلِهِ جَبْرًا لِمَا فَاتَ .

وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ .
فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا بَعْدَ قَطْعِهَا فَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ، وَثَالِثًا يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَرَابِعًا رِجْلُهُ الْيُمْنَى ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعَزَّرُ وَيُغْمَسُ مَحَلُّ الْقَطْعِ بِزَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ مُغْلًى ، قِيلَ : هُوَ تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ ، فَمُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ وَلِلْإِمَامِ إهْمَالُهُ .

( وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ ) أَيْ يَدُهُ الْيُمْنَى أَوَّلًا وَإِنْ كَانَ أَعْسَرَ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَمِينَهُ } ، وَكَذَا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقَالَ تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَقُرِئَ شَاذًّا : فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الِاحْتِجَاجِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا ، فَقَلَّدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ فَجَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ : { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : فَاحْذَرْ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ وَلَمْ يُقْطَعْ ذَكَرُ الزَّانِي ؟ .
أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْيَدَ لِلسَّارِقِ مِثْلُهَا غَالِبًا فَلَمْ تَفُتْ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ إبْطَالُ النَّسْلِ غَالِبًا ، وَالْحِكْمَةُ فِي قَطْعِ الْيُمْنَى أَوَّلًا أَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى غَالِبًا فَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهَا أَرْدَعُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ قَطْعِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ شَلَّاءَ وَإِلَّا رُوجِعَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : يَنْقَطِعُ الدَّمُ وَتُسَدُّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ قُطِعَتْ وَاكْتُفِيَ بِهَا ، وَإِلَّا لَمْ تُقْطَعْ .
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الرُّوحِ ( فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا بَعْدَ قَطْعِهَا ) أَيْ : يَدِهِ الْيُمْنَى ( فَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ) تُقْطَعُ إنْ بَرِئَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ، وَإِلَّا أُخِّرَتْ لِلْبُرْءِ ( وَ ) إنْ سَرَقَ ( ثَالِثًا ) بَعْدَ قَطْعِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى تُقْطَعُ ( يَدُهُ الْيُسْرَى وَ ) إنْ سَرَقَ ( رَابِعًا ) بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى تُقْطَعُ ( رِجْلُهُ الْيُمْنَى ) لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي السَّارِقِ : إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ

فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ } .
وَالْحِكْمَةُ فِي قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ أَنَّ اعْتِمَادَ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ عَلَى الْبَطْشِ وَالْمَشْيِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيَنْقُلُ بِرِجْلِهِ فَتَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِهِمَا ، وَإِنَّمَا قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ لِئَلَّا يَفُوتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَتَضْعُفُ حَرَكَتُهُ كَمَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَرَّتَيْنِ تَعْدِلُ الْحِرَابَةَ شَرْعًا ، وَالْمُحَارِبُ تُقْطَعُ أَوَّلًا يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْطَعْ الرِّجْلُ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ الْيَدِ ؛ لِئَلَّا تُفْضِيَ الْمُوَالَاةُ إلَى الْهَلَاكِ ، وَخَالَفَ مُوَالَاتَهُمَا فِي الْحِرَابَةِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُمَا فِيهَا حَدٌّ وَاحِدٌ ( وَبَعْدَ ذَلِكَ ) أَيْ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إذَا سَرَقَ خَامِسًا فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ ( يُعَزَّرُ ) لِأَنَّ الْقَطْعَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ ، وَالسَّرِقَةُ مَعْصِيَةٌ فَتَعَيَّنَ التَّعْزِيرُ : كَمَا لَوْ سَقَطَتْ أَطْرَافُهُ أَوَّلًا وَلَا يُقْتَلُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَدِيمِ وَمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهُ .
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بِزِنًا .
أَوْ اسْتِحْلَالٍ كَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ ، بَلْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّهُ مُنْكَرٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ حَدًّا لَمْ يُوجِبْ تَكْرَارُهَا الْقَتْلَ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ ( وَيُغْمَسُ مَحَلُّ الْقَطْعِ بِزَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ مُغْلًى ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَغْلَى .
أَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدُ الْيَاءِ عَلَى زِنَةِ مَفْعُولٍ فَلَحْنٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ قَاسِمٍ ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ لِلْأَمْرِ بِهِ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ سَدُّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ

.
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ امْتِنَاعُهُ بِغَيْرِ الزَّيْتِ وَالدُّهْنِ ، وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى الْحَسْمِ بِالنَّارِ ، وَفَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي فَجَعَلَ الزَّيْتَ لِلْحَضَرِيِّ ، وَالنَّارَ لِلْبَدْوِيِّ ؛ لِأَنَّهَا عَادَتُهُمْ وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ ( قِيلَ : هُوَ ) أَيْ : الْغَمْسُ الْمُسَمَّى بِالْحَسْمِ ( تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ ) فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِعْلُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إهْمَالُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَزِيدَ إيلَامٍ ( وَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( أَنَّهُ ) أَيْ : الْغَمْسَ الْمَذْكُورَ ( حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمُعَالَجَةُ وَدَفْعُ الْهَلَاكِ بِنَزْفِ الدَّمِ ( فَمُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ ) كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ إلَى أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ مَنْ يَنْصِبُ الْحُدُودَ وَيَرْزُقَهُ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمُؤْنَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى الْمَقْطُوعِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُؤْنَةِ الْجَلَّادِ ( وَ ) عَلَى الْأَصَحِّ ( لِلْإِمَامِ إهْمَالُهُ ) وَلَا يُجْبَرُ الْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ، وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ الْأَمْرُ بِهِ عَقِبَ الْقَطْعِ ، وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَقْطُوعِ ، لِأَنَّهُ نَوْعُ مُدَاوَاةٍ .
نَعَمْ لَوْ كَانَ إهْمَالُهُ يُؤَدِّي إلَى تَلَفٍ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ إهْمَالُهُ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَتُقْطَعُ الْيَدُ مِنْ الْكُوعِ ، وَالرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْقَدَمِ .
( وَتُقْطَعُ الْيَدُ ) بِحَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً ( مِنْ الْكُوعِ ) أَيْ : مَفْصِلِهِ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي خَبَرِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْبَطْشَ بِالْكَفِّ وَمَا زَادَ مِنْ الذِّرَاعِ تَابِعٌ ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ الدِّيَةُ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ( وَ ) تُقْطَعُ ( الرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْقَدَمِ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الصَّادِ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ الْكَعْبُ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ .
تَنْبِيهٌ : يُنْدَبُ خَلْعُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ قَبْلَ قَطْعِهِ تَسْهِيلًا لِقَطْعِهِ ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ جَالِسًا ، وَأَنْ يُضْبَطَ لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ ، وَأَنْ يُعَلَّقَ الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ فِي عُنُقِهِ سَاعَةً لِلزَّجْرِ وَالتَّنْكِيلِ .

وَمَنْ سَرَقَ مِرَارًا بِلَا قَطْعٍ كَفَتْ يَمِينُهُ .
( وَمَنْ سَرَقَ مِرَارًا ) مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ ( بِلَا قَطْعٍ كَفَتْ يَمِينُهُ ) أَيْ : قَطْعُهَا فَقَطْ عَنْ جَمِيعِ الْمِرَارِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ : كَمَا لَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ مِرَارًا فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَبِسَ الْمَحْرَمَ أَوْ تَطَيَّبَ فِي مَجَالِسَ فَإِنَّ الْفِدْيَةَ تَعَدُّدٌ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ إلَيْهِ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ بِخِلَافِ الْحَدِّ .

وَإِنْ نَقَصَتْ أَرْبَعَ أَصَابِعَ قُلْت : وَكَذَا لَوْ ذَهَبَتْ الْخَمْسُ فِي الْأَصَحِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
تَنْبِيهٌ : بِمَا يَبْدَأُ فِي الْقَطْعِ غَيْرُ الْيَدِ الْيُمْنَى فِي ذَلِكَ مِثْلُهَا وَيَكْفِي قَطْعُهَا ( وَإِنْ نَقَصَتْ ) يَمِينُهُ ( أَرْبَعَ أَصَابِعَ ) وَلَا يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ لِحُصُولِ الْإِيلَامِ وَالتَّنْكِيلِ ( قُلْت ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ( وَكَذَا لَوْ ذَهَبَتْ ) الْأَصَابِعُ ( الْخَمْسُ ) كُلُّهَا كَفَتْ أَيْضًا ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ نَقْصِ أَصَابِعِهَا كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ زِيَادَتِهَا فَانْدَرَجَتْ فِي الْآيَةِ .
وَالثَّانِي لَا تَكْفِي بَلْ يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ لِانْتِفَاءِ الْبَطْشِ .
تَنْبِيهٌ : يَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ سَقَطَ بَعْضُ الْكَفِّ وَبَقِيَ مَحَلُّ الْقَطْعِ ، فَلَوْ قَالَ : وَكَذَا لَوْ سَقَطَ بَعْضُ الْكَفِّ مَعَ الْخَمْسِ لَأَفَادَ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .

وَتُقْطَعُ يَدٌ زَائِدَةٌ أُصْبُعًا فِي الْأَصَحِّ .

( وَتُقْطَعُ يَدٌ زَائِدَةٌ أُصْبُعًا ) أَوْ أَكْثَرَ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ مَا عَلَيْهِ خَمْسٌ أَوْ أَكْثَرُ .
وَالثَّانِي لَا ، بَلْ يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَ لَهُ كَفَّانِ عَلَى مِعْصَمِهِ قُطِعَتْ الْأَصْلِيَّةُ مِنْهُمَا إنْ تَمَيَّزَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا بِدُونِ الزَّائِدَةِ وَإِلَّا فَيُقْطَعَانِ ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ قُطِعَتْ إحْدَاهُمَا فَقَطْ .
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ الْأَصْحَابِ قَطْعَهَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ ، وَاَلَّذِي فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ إنْ تَمَيَّزَتْ الْأَصْلِيَّةُ قُطِعَتْ وَإِلَّا فَإِحْدَاهُمَا فَقَطْ ، وَلَا يُقْطَعَانِ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ يَدٍ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا أَحْسَنُ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ : إنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ وَصَوَّبَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : لَنْ يُشْكِلَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ صُحِّحَ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكَلِ كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّهُ لَا يُخْتَنُ فِي أَحَدِ فَرْجَيْهِ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْجُرْحَ مَعَ الْإِشْكَالِ مُمْتَنِعٌ ، وَلَوْ قِيلَ بِإِجْرَاءِ وَجْهٍ ثَالِثٍ : إنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ، لَمْ يُبْعَدْ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا يَجُوزُ قَطْعُهَا ، وَقَدْ الْتَبَسَتْ بِالْأَصْلِيَّةِ ا هـ .
وَيُجَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ السَّارِقَ إنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ مَعَ الْإِشْكَالِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ ، وَعَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ قَطْعُ الْأَصْلِيَّةِ إلَّا بِالزَّائِدَةِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ قَطْعُ إحْدَاهُمَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فَإِنَّهُ يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ قَطْعُ الْأَصْلِيَّةِ وَقَطَعْنَاهَا ، ثُمَّ سَرَقَ ثَانِيًا ، وَقَدْ صَارَتْ الزَّائِدَةُ أَصْلِيَّةً بِأَنْ صَارَتْ بَاطِشَةً أَوْ كَانَتْ الْكَفَّانِ أَصْلِيَّتَيْنِ وَقُطِعَتْ إحْدَاهُمَا فِي سَرِقَةٍ قُطِعَتْ الثَّانِيَةُ ، وَلَا

يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا فَرِجْلُهُ الْيُسْرَى .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى الْخِلْقَة الْمُعْتَادَةِ الْغَالِبَةِ .

وَلَوْ سَرَقَ فَسَقَطَتْ يَمِينُهُ بِآفَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ ، أَوْ يَسَارُهُ فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ .
( وَلَوْ سَرَقَ ) شَخْصٌ ( فَسَقَطَتْ يَمِينُهُ ) مَثَلًا ( بِآفَةٍ ) سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَأَنْ قُطِعَتْ فِي قِصَاصٍ ( سَقَطَ الْقَطْعُ ) فِي الْيَدِ السَّاقِطَةِ ، وَلَا يَعْدِلُ إلَى الرِّجْلِ لِأَنَّ الْقَطْعَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهَا فَسَقَطَ بِفَوَاتِهَا كَمَوْتِ الْمُرْتَدِّ ، وَكَذَا لَوْ شُلَّتْ بَعْدَ السَّرِقَةِ وَخِيفَ مِنْ قَطْعِهَا تَلَفُ النَّفْسِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَمِينَ لَهُ ، فَإِنَّ رِجْلَهُ تُقْطَعُ ( أَوْ ) سَقَطَتْ ( يَسَارُهُ ) بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مَعَ بَقَاءِ الْيَمِينِ ( فَلَا ) يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَمِينِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْقَطْعِ ، وَقِيلَ : يَسْقُطُ فِي قَوْلٍ ، وَحُكْمُ الرِّجْلِ حُكْمُ الْيَدِ فِيمَا ذُكِرَ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ لِلْجَلَّادِ يَسَارَهُ فَقَطَعَهَا سُئِلَ الْجَلَّادُ ، فَإِنْ قَالَ : ظَنَنْتُهَا الْيَمِينَ أَوْ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهَا ، غَرِمَ الدِّيَةَ بَعْدَ حَلِفِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ إنْ كَذَّبَهُ السَّارِقُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُحْتَمَلٌ فَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الدِّيَةُ لِقَطْعِهِ عُضْوًا مَعْصُومًا وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ قَطْعِ الْيَمِينِ لِئَلَّا تُقْطَعَ يَدَاهُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ .
أَوْ قَالَ : عَلِمْتهَا الْيَسَارَ وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا عَمْدًا بِلَا شُبْهَةٍ .
هَذَا إنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُخْرِجُ بَدَلَهَا عَنْ الْيَمِينِ أَوْ إبَاحَتَهَا ، وَإِلَّا فَلَا كَمَا مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ ، وَلَمْ تُجْزِهِ الْيَسَارُ .
عَنْ الْيَمِينِ ، بَلْ تُقْطَعُ يَمِينُهُ حَدًّا لِأَنَّهَا الَّذِي وَجَبَ قَطْعُهَا وَهِيَ بَاقِيَةً فَلَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهَا كَالْقِصَاصِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْجَلَّادَ يُسْأَلُ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ وَابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ حَكَاهَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَحَكَى مَعَهَا طَرِيقَةً أُخْرَى ، وَهِيَ إنْ قَالَ الْمُخْرِجُ : ظَنَنْتهَا الْيَمِينَ أَوْ أَنَّهَا تُجْزِئُ ، أَجْزَأَتْهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَلَامُ أَصْلِ الرَّوْضَةِ يُومِئُ إلَى الْأُولَى وَهِيَ الصَّحِيحَةُ ، وَإِنْ صَحَّحَ الْإِسْنَوِيُّ الثَّانِيَةَ .

بَابُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ هُوَ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ لَهُ شَوْكَةٌ ، لَا مُخْتَلِسُونَ يَتَعَرَّضُونَ لِآخِرِ قَافِلَةٍ يَعْتَمِدُونَ الْهَرَبَ ، وَاَلَّذِينَ يَغْلِبُونَ شِرْذِمَةً بِقُوَّتِهِمْ قُطَّاعٌ فِي حَقِّهِمْ ، لَا لِقَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَحَيْثُ يَلْحَقُ غَوْثٌ لَيْسَ بِقُطَّاعٍ ، وَفَقْدُ الْغَوْثِ يَكُونُ لِلْبُعْدِ أَوْ لِضَعْفٍ وَقَدْ يَغْلِبُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي بَلَدٍ فَهُمْ قُطَّاعٌ .

( بَابُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ خَوْفًا مِنْهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةَ .
قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : نَزَلَتْ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ ، لَا فِي الْكُفَّارِ ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ ، إذْ الْمُرَادُ التَّوْبَةُ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْكُفَّارَ لَكَانَتْ تَوْبَتُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ دَافِعٌ لِلْعُقُوبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِهِمْ ، وَفِي أَبِي دَاوُد أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ ، وَفِي النَّسَائِيّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ هُوَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ إرْعَابٍ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الشَّوْكَةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنْ الْغَوْثِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ ( هُوَ ) أَيْ قَاطِعُ الطَّرِيقِ مُلْتَزِمٌ لِلْأَحْكَامِ ( مُسْلِمٌ ) أَوْ مُرْتَدٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ كَمَا فِي السَّارِقِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِذَلِكَ الْمُصَنِّفُ لَكَانَ أَوْلَى ، فَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ أَرَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بَعْدَ الْكَشْفِ التَّامِّ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ الْإِسْلَامُ إلَّا فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : قَدْ رَأَيْتُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي آخِرِ الْأُمِّ مُصَرِّحًا بِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ .
قَالَ : وَلَا أَثَرَ لِلتَّعَلُّقِ بِسَبَبِ النُّزُولِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ عَلَى الْأَصَحِّ ( مُكَلَّفٌ ) وَلَوْ

عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً ، وَمِثْلُهُ السَّكْرَانُ فَإِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْمُكَلَّفِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مُخْتَارٌ ( لَهُ شَوْكَةٌ ) أَيْ : قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ يَغْلِبُ بِهَا غَيْرَهُ .
تَنْبِيهٌ : إفْرَادُ الْمُصَنِّفِ الصِّفَاتِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ عَدَدٌ وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا سِلَاحٌ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَالْوَاحِدُ وَلَوْ أُنْثَى إذَا كَانَ لَهُ فَضْلُ قُوَّةٍ يَغْلِبُ بِهَا الْجَمَاعَةَ وَتَعَرَّضَ لِلنَّفْسِ وَلِلْمَالِ مُجَاهَرَةً مَعَ الْبُعْدِ عَنْ الْغَوْثِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدُ : وَفَقَدَ الْغَوْثَ .
.
إلَخْ قَاطِعٍ ، وَكَذَا الْخَارِجُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ إنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ يَغْلِبُ بِهَا الْجَمَاعَةَ وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ وَقِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ آلَةٍ ، وَخَرَجَ بِمُلْتَزِمٍ الْحَرْبِيُّ وَالْمُعَاهَدُ ، وَبِالْمُكَلَّفِ غَيْرُهُ إلَّا السَّكْرَانَ كَمَا مَرَّ ، وَإِنْ ضَمِنَ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ النَّفْسَ وَالْمَالَ كَمَا لَوْ أَتْلَفُوا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَبِالِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهُ ، وَبِالشَّوْكَةِ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( لَا مُخْتَلِسُونَ ) قَلِيلُونَ ( يَتَعَرَّضُونَ لِآخِرِ قَافِلَةٍ ) عَظِيمَةٍ ( يَعْتَمِدُونَ الْهَرَبَ ) بِرَكْضِ الْخَيْلِ أَوْ نَحْوِهَا أَوْ الْعَدُوِّ عَلَى الْأَقْدَامِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَيْسُوا قُطَّاعًا لِانْتِفَاءِ الشَّوْكَةِ ، وَحُكْمُهُمْ فِي الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ كَغَيْرِهِمْ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَمِدَ عَلَى الشَّوْكَةِ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنْ الرُّفْقَةِ فَغَلُظَتْ عُقُوبَتُهُ رَدْعًا لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُخْتَلِسِ أَوْ الْمُنْتَهِبِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى قُوَّةٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : لِآخِرِ قَافِلَةٍ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ : بَلْ حُكْمُ التَّعَرُّضِ لِأَوَّلِهَا وَجَوَانِبِهَا كَذَلِكَ ، فَلَوْ قَهَرُوهُمْ وَلَوْ مَعَ كَوْنِهِمْ قَلِيلِينَ فَقُطَّاعٌ لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الشَّوْكَةِ ، فَلَا يُعَدُّ أَهْلُ الْعَاقِلَةِ مُقَصِّرِينَ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَجْتَمِعُ كَلِمَتُهُمْ وَلَا يَضْبِطهُمْ مُطَاعٌ وَلَا عَزْمَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ ، وَبَيَّنَ

الْمُصَنِّفُ هُنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِشَوْكَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِالنَّظَرِ لِمَنْ يَخْرُجُونَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ ( وَاَلَّذِينَ يَغْلِبُونَ شِرْذِمَةً ) وَهِيَ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ : طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ ( بِقُوَّتِهِمْ ) لَوْ قَاوَمَهُمْ ( قُطَّاعٌ فِي حَقِّهِمْ ) لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الشَّوْكَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمَاعَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَإِنْ هَرَبُوا مِنْهُمْ وَتَرَكُوا الْأَمْوَالَ لِعِلْمِهِمْ بِعَجْزِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ سَاقَهُمْ اللُّصُوصُ مَعَ الْأَمْوَالِ إلَى دِيَارِهِمْ كَانُوا قُطَّاعًا فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ ( لَا ) قُطَّاعَ ( لِقَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ ) أَخَذُوا شَيْئًا مِنْهُمْ ، إذْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ مَعَ الْقَافِلَةِ الْكَبِيرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي حَقِّهِمْ مُخْتَلِسُونَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ الْقَادِرُونَ عَلَى دَفْعِهِمْ حَتَّى قُتِلُوا أَوْ أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ فَمُنْتَهَبُونَ لَا قُطَّاعَ ، وَإِنْ كَانَ ضَامِنِينَ لِمَا أَخَذُوهُ لِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَمْ يُصْدَرْ عَنْ شَوْكَتِهِمْ : بَلْ عَنْ تَفْرِيطِ الْقَافِلَةِ ( وَحَيْثُ يَلْحَقُ غَوْثٌ ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَبَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ ، وَهِيَ كَقَوْلِ الشَّخْصِ : يَا غَوْثَاهُ ( لَيْسَ ) حِينَئِذٍ ذُو الشَّوْكَةِ بِمَنْ مَعَهُ ( بِقُطَّاعٍ ) بَلْ مُنْتَهِبُونَ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغَاثَةِ ( وَفَقْدُ الْغَوْثِ يَكُونُ لِلْبُعْدِ ) عَنْ الْعُمْرَانِ وَعَسَاكِرِ السُّلْطَانِ ( أَوْ ) لِلْقُرْبِ لَكِنْ ( لِضَعْفٍ ) فِي السُّلْطَانِ كَذَا قَيَّدَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ، وَاسْتُحْسِنَ إطْلَاقُ الْمِنْهَاجِ الضَّعْفَ لِشَمُولِهِ مَا لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ دَارًا لَيْلًا وَشَهَرُوا السِّلَاحَ وَمَنَعُوا أَهْلَ الدَّارِ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعٌ عَلَى الصَّحِيحِ مَعَ قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَحُضُورِهِ ( وَ ) ذَوُو الشَّوْكَةِ ( قَدْ يَغْلِبُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ) أَيْ : ضَعْفُ السُّلْطَانِ أَوْ بُعْدُهُ أَوْ بُعْدُ أَعْوَانِهِ وَإِنْ كَانُوا ( فِي بَلَدٍ ) لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهَا إلَى طَرَفِهَا وَلَا إلَى صَحْرَاءَ ( فَهُمْ قُطَّاعٌ ) لِوُجُودِ

الشُّرُوطِ فِيهِمْ وَلِأَنَّهُمْ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَدُّ فِي الصَّحْرَاءِ وَهِيَ مَوْضِعُ الْخَوْفِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْبَلَدِ وَهِيَ مَوْضِعُ الْأَمْنِ أَوْلَى لِعِظَمِ جَرَاءَتِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْفِرْقَتَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا خِلَافُهُ .

وَلَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ قَوْمًا يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا وَلَا نَفْسًا عَزَّرَهُمْ بِحَبْسٍ وَغَيْرِهِ .
( وَلَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ قَوْمًا يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ ) أَيْ الْمَارِّينَ فِيهَا ( وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ) أَيْ نِصَابًا ( وَلَا ) قَتَلُوا ( نَفْسًا عَزَّرَهُمْ بِحَبْسٍ وَغَيْرِهِ ) لِارْتِكَابِهِمْ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْحِرَابَةُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ النَّفْيِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَالْأَمْرُ فِي جِنْسِ هَذَا التَّعْزِيرِ رَاجِعٌ إلَى الْإِمَامِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَهُ تَرْكُهُ إنْ رَآهُ مَصْلَحَةً ، وَلَا يُقَدَّرُ الْحَبْسُ بِمُدَّةٍ : بَلْ يُسْتَدَامُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ ، وَقِيلَ : يُقَدَّرُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ يُنْقِصُ مِنْهَا شَيْئًا لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الْعَبْدِ فِي الزِّنَا ، وَقِيلَ : يُقَدَّرُ بِسَنَةٍ يُنْقِصُ مِنْهَا شَيْئًا لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الْحُرِّ فِي الزِّنَا وَالْحَبْسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ ، وَقَوْلُهُ عَلِمَ الْإِمَامُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ : إنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا مَرَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، وَمُقْتَضَى عِبَارَتِهِ كَالرَّوْضَةِ الْوُجُوبُ وَهُوَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ كَالشَّرْحِ يَنْبَغِي .

وَإِذَا أَخَذَ الْقَاطِعُ نِصَابَ السَّرِقَةِ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ فَيُسْرَاهُ وَيُمْنَاهُ .
( وَإِذَا أَخَذَ الْقَاطِعُ ) وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ ( نِصَابَ السَّرِقَةِ ) فَأَكْثَرَ ( قَطَعَ ) الْإِمَامُ ( يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى ) دَفْعَةً أَوْ عَلَى الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ ( فَإِنْ عَادَ ) بَعْدَ قَطْعِهِمَا مَرَّةً أُخْرَى ( فَيُسْرَاهُ وَيُمْنَاهُ ) تُقَطَّعْنَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } وَإِنَّمَا قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ لِمَا مَرَّ فِي السَّرِقَةِ وَقُطِعَتْ الْيُمْنَى لِلْمَالِ كَالسَّرِقَةِ ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِي الْقَطْعِ النِّصَابُ ، وَقِيلَ : لِلْمُحَارَبَةِ ، وَالرِّجْلُ قِيلَ لِلْمَالِ وَالْمُجَاهِرَةِ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ سَرِقَةٍ ثَانِيَةٍ ، وَقِيلَ لِلْمُحَارَبَةِ .
قَالَهُ الْعِمْرَانِيُّ : وَهُوَ أَشَبَهُ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى فَقَدْ تَعَدَّى وَلَزِمَهُ الْقَوَدُ فِي رِجْلِهِ إنْ تَعَمَّدَ وَدِيَتُهَا إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ، وَلَا يَسْقُطُ قَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا يَضْمَنُ وَأَجْزَأَهُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَطْعَهُمَا مِنْ خِلَافٍ نَصٌّ يُوجِبُ خِلَافُهُ الضَّمَانَ ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى اجْتِهَادٌ يَسْقُطُ بِمُخَالَفَتِهِ الضَّمَانُ ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا شَكَّ فِي الْإِسَاءَةِ وَتَوَقَّفَ فِي الْقَوَدِ وَعَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى .
فَإِنْ قِيلَ : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَضِيَّةُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ فِي السَّرِقَةِ يَدَهُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَامِدًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى عَلَيْهَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى ثَبَتَ ثَمَّ بِالِاجْتِهَادِ : بَلْ بِالنَّصِّ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ قُرِئَ شَاذًّا - فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا - وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَسَكَتُوا هُنَا عَنْ تَوَقُّفِ الْقَطْعِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ وَعَلَى عَدَمِ دَعْوَى الْمِلْكِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُسْقِطَاتِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا مَرَّ فِي السَّرِقَةِ ا هـ .

وَكَلَامُ الْمُصَنِّفُ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْحِرْزَ وَهُوَ وَجْهٌ ، وَالْمَشْهُورُ وَجَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ ، فَلَوْ كَانَ الْمَالُ تَسِيرُ بِهِ الدَّوَابُّ بِلَا حَافِظٍ أَوْ كَانَتْ الْجِمَالُ مَقْطُورَةً وَلَمْ تَتَعَهَّدْ كَمَا شُرِطَ فِي السَّرِقَةِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ وَالْحِرْزُ هُنَا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَعَ مَالِكِهِ أَوْ بِحَيْثُ يَرَاهُ ، وَتَعَذَّرَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مَنْ يَأْخُذُهُ وَمَحَلُّ قَطْعِهِمَا إذَا وُجِدَتَا ، فَإِنْ فُقِدَتْ إحْدَاهُمَا اُكْتُفِيَ بِقَطْعِ الْأُخْرَى ، وَفِي مَعْنَى الْفَقْدِ أَنْ تَكُونَ شَلَّاءَ لَا تَنْحَسِمُ عُرُوقُهَا لَوْ قُطِعَتْ .

قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ : وَيُحْسَمُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ كَمَا فِي السَّارِقِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْسِمَ الْيَدَ ثُمَّ تُقْطَعُ الرِّجْلُ ، وَأَنْ تُقْطَعَا جَمِيعًا ثُمَّ يُحْسَمَا .

وَيُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَأْخُوذِ فِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ إنْ كَانَ مَوْضِعُ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ حَالَ السَّلَامَةِ لَا عِنْدَ اسْتِسْلَامِ النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ فَأَقْرَبُ مَوْضِعٍ إلَيْهِ يُوجَد فِيهِ بَيْعُ ذَلِكَ وَشِرَاؤُهُ .
قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ : .

وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ حَتْمًا .
( وَإِنْ قَتَلَ ) مَعْصُومًا مُكَافِئًا لَهُ عَمْدًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا ( قُتِلَ حَتْمًا ) لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ ، وَإِنَّمَا تَحَتَّمَ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ إلَى جِنَايَتِهِ إخَافَةَ السَّبِيلِ الْمُقْتَضِيَةِ زِيَادَةَ الْعُقُوبَةِ وَلَا زِيَادَةَ هُنَا إلَّا بِالتَّحَتُّمِ .
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ : وَمَحَلُّ تَحَتُّمِ الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ لِأَخْذِ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَا يَتَحَتَّمُ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الْأُمِّ ، وَمَعْنَى تَحَتُّمِهِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ وَلَا بِعَفْوِ السُّلْطَانِ عَمَّنْ لَا وَارِثَ لَهُ ، وَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَتْلِ صَبْرًا وَبَيْنَ الْجَرْحِ وَالْمَوْتِ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ قَبْلَ الظَّفَرِ بِهِ وَالتَّوْبَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ إقْرَارِهِ .
.

أَمَّا إذَا قَتَلَ غَيْرَ مَعْصُومٍ أَوْ غَيْرَ مُكَافِئٍ لَهُ أَوْ قَتَلَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَلَا يُقْتَلُ .

وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ ثَلَاثًا ثُمَّ يُنَزَّلُ ، وَقِيلَ يَبْقَى حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ ، وَفِي قَوْلٍ يُصْلَبُ قَلِيلًا ثُمَّ يُنَزَّلُ فَيُقْتَلُ .

( وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا ) نِصَابًا فَأَكْثَرَ ، وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ وَعَدَمُ الشُّبْهَةِ ( قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ ) حَتْمًا زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ وَيَكُونُ صَلْبُهُ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ فِي الْجَنَائِزِ ، وَالْغَرَضُ مِنْ صَلْبِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ التَّنْكِيلُ بِهِ وَزَجْرُ غَيْرِهِ ، وَبِمَا تَقَرَّرَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ فَقَالَ : الْمَعْنَى : { أَنْ يُقَتَّلُوا } إنْ قَتَلُوا { أَوْ يُصَلَّبُوا } مَعَ ذَلِكَ إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } إنْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ ، { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } إنْ أَرْعَبُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا فَحَمَلَ كَلِمَةَ " أَوْ " عَلَى التَّنْوِيعِ لَا التَّخْيِيرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : " وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى " إذْ لَمْ يُخَيَّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ، وَإِنَّمَا صُلِبَ بَعْدَ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ فِي صَلْبِهِ قَبْلَهُ زِيَادَةَ تَعْذِيبٍ ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ } وَيُصْلَبُ عَلَى خَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا ( ثَلَاثًا ) مِنْ الْأَيَّامِ لِيَشْتَهِرَ الْحَالُ وَيَتِمَّ النَّكَالُ ، وَلِأَنَّ لَهَا اعْتِبَارًا فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا غَايَةٌ ( ثُمَّ يُنَزَّلُ ) هَذَا إذَا لَمْ يُخَفْ التَّغَيُّرُ ، فَإِنْ خِيفَ قَبْلَ الثَّلَاثِ أُنْزِلَ عَلَى الْأَصَحِّ وَحُمِلَ النَّصُّ فِي الثَّلَاثِ عَلَى زَمَنِ الْبَرْدِ وَالِاعْتِدَالِ .
تَنْبِيهٌ : أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالصَّلْبِ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَكُونُ قَتْلُهُمْ وَصَلْبُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَارَبُوا فِيهِ لَا أَنْ يَكُونَ بِمَفَازَةٍ لَا يَمُرُّ بِهَا أَحَدٌ فَيُقْتَلُونَ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثَةً ، لِأَنَّ الْأَيَّامَ مُذَكَّرَةٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ التَّاءُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْدُودَ إذَا حُذِفَ يَجُوزُ فِيهِ

الْوَجْهَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ } ( وَقِيلَ يَبْقَى ) مَصْلُوبًا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ ) وَهُوَ مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ مُخْتَلِطًا بِدَمٍ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَتَنْفِيرًا عَنْ فِعْلِهِ ( وَفِي قَوْلٍ يُصْلَبُ ) حَيًّا صَلْبًا ( قَلِيلًا ثُمَّ يُنَزَّلُ فَيُقْتَلُ ) لِأَنَّ الصَّلْبَ شُرِعَ عُقُوبَةً لَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَيٌّ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُهُ لَا يُوَافِقُ أَصْلَهُ ، وَلَا الشَّرْحَ وَالرَّوْضَةَ ، فَإِنَّ عِبَارَةَ الْمُحَرَّرِ يُصْلَبُ صَلْبًا لَا يَمُوتُ مِنْهُ ، وَعِبَارَةُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ : يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُقْتَلُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عِبَارَتَهُ لَا تُنَافِي ذَلِكَ ، بَلْ هِيَ بَيَانٌ لِلْعِبَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْقَلِيلَ يُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ ثَلَاثًا فَسَبَقَ الْقَلَمُ فَكَتَبَ قَلِيلًا ا هـ .
وَلَعَلَّهُ إنَّمَا كَتَبَهَا قَصْدًا فَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْوُجُوبِ .

وَمَنْ أَعَانَهُمْ وَكَثَّرَ جَمْعَهُمْ عُزِّرَ بِحَبْسٍ وَتَغْرِيبٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَقِيلَ : يَتَعَيَّنُ التَّغْرِيبُ إلَى حَيْثُ يَرَاهُ .
( وَمَنْ أَعَانَهُمْ ) أَيْ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ ( وَكَثَّرَ جَمْعَهُمْ ) وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ مَالًا نِصَابًا وَلَا قَتَلَ نَفْسًا ( عُزِّرَ بِحَبْسٍ وَتَغْرِيبٍ وَغَيْرِهِمَا ) كَسَائِرِ الْمَعَاصِي ، وَفِي الْخَبَرِ { مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } .
تَنْبِيهٌ : الْوَاوُ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ : أَيْ : يُعَزِّرُهُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ ، وَتَعْيِينُهُ لِرَأْيِ الْإِمَامِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُخِيفَيْنِ ( وَقِيلَ : يَتَعَيَّنُ التَّغْرِيبُ إلَى حَيْثُ ) أَيُّ مَكَان ( يَرَاهُ ) الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ عُقُوبَتَهُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يُعَزِّرُهُ فِي الْبَلَدِ الْمَنْفِيِّ إلَيْهِ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا أَنَّ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَمَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ .

وَقَتْلُ الْقَاطِعِ يُغَلَّبُ فِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ ، وَفِي قَوْلٍ الْحَدِّ
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ فِي الْمَعْنَى الْمُغَلَّبِ فِي قَتْلِ الْقَاطِعِ بِقَوْلِهِ ( وَقَتْلُ الْقَاطِعِ يُغَلَّبُ فِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ ) لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ .
وَالْأَصْلُ فِيمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِبِنَائِهِ عَلَى الضِّيقِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ بِلَا مُحَارَبَةٍ ثَبَتَ لِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ فَكَيْفَ يُحْبَطُ حَقُّهُ بِقَتْلِهِ فِيهَا ؟ ( وَفِي قَوْلٍ ) مَعْنَى ( الْحَدِّ ) وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ ، وَيَسْتَوْفِيه الْإِمَامُ بِدُونِ طَلَبِ الْوَلِيِّ .

فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ وَ ذِمِّيٍّ .
وَفَرَّعَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَسَائِلَ خَمْسَةً ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ ( فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُقْتَلُ ) وَالِدٌ ( بِوَلَدِهِ ) الَّذِي قَتَلَهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ( وَ ) لَا ( ذِمِّيٍّ ) إذَا كَانَ هُوَ مُسْلِمًا ، وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يُكَافِئُهُ كَعَبْدٍ وَالْقَاطِعُ حُرٌّ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ أَوْ الْقِيمَةُ ، وَعَلَى الثَّانِي يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مَعْصُومٍ كَمُرْتَدٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ .

وَلَوْ مَاتَ فَدِيَةٌ .
( وَلَوْ مَاتَ ) الْقَاطِعُ مِنْ غَيْرِ قَتْلِهِ قِصَاصًا ( فَدِيَةٌ ) عَلَى الْأَوَّلِ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي قَتْلِ حُرٍّ وَقِيمَةٌ فِي قَتْلِ عَبْدٍ ، وَعَلَى الثَّانِي لَا شَيْءَ كَمَا قَالَاهُ وَإِنْ صَحَّحَ الْبُلْقِينِيُّ وُجُوبَ الدِّيَةِ .

وَلَوْ قَتَلَ جَمْعًا قُتِلَ بِوَاحِدٍ ، وَلِلْبَاقِينَ دِيَاتٌ .
( وَلَوْ قَتَلَ جَمْعًا ) مَعًا ( قُتِلَ بِوَاحِدٍ ) مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ ( وَلِلْبَاقِينَ دِيَاتٌ ) عَلَى الْأَوَّلِ كَالْقِصَاصِ ، وَعَلَى الثَّانِي يُقْتَلُ بِهِمْ .
أَمَّا إذَا قَتَلَهُمْ مُرَتَّبًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَتْمًا بِأَوَّلِهِمْ وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُ الْمَتْنِ خِلَافَهُ ، حَتَّى لَوْ عَفَا وَلِيُّهُ لَمْ يَسْقُطْ لِتَحَتُّمِهِ .

وَلَوْ عَفَا وَلِيُّهُ بِمَالٍ وَجَبَ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيُقْتَلُ حَدًّا .
( وَلَوْ عَفَا ) عَنْ الْقِصَاصِ ( وَلِيُّهُ ) أَيْ الْمَقْتُولِ ( بِمَالٍ ) أَيْ : عَلَيْهِ صَحَّ الْعَفْوُ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَ ( وَجَبَ ) الْمَالُ ( وَسَقَطَ الْقِصَاصُ ) عَنْهُ ( وَيُقْتَلُ ) بَعْدَ ذَلِكَ ( حَدًّا ) كَمَا لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى مُرْتَدٍّ فَعَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ ، وَعَلَى الثَّانِي فَالْعَفْوُ لَغْوٌ كَمَا قَالَاهُ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ لَغْوٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالْعَفْوِ شَيْئًا لِتَحَتُّمِ قَتْلِهِ بِالْمُحَارَبَةِ .

وَلَوْ قَتَلَ بِمُثْقَلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ .
( وَلَوْ قَتَلَ ) الْقَاطِعُ شَخْصًا ( بِمُثْقَلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ ) أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ( فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ ) عَلَى الْأَوَّلِ تَغْلِيبًا لِلْقِصَاصِ ، وَعَلَى الثَّانِي يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ كَمَا قَالَاهُ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَلَا نَظَرَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ .

تَنْبِيهٌ : مِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ أَيْضًا مَا لَوْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّانِي .

وَلَوْ جَرَحَ فَانْدَمَلَ لَمْ يَتَحَتَّمْ قِصَاصٌ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَلَوْ جَرَحَ ) قَاطِعُ الطَّرِيقِ شَخْصًا جَرْحًا يُوجِبُ قِصَاصًا كَقَطْعِ يَدٍ ( فَانْدَمَلَ ) الْجَرْحُ ( لَمْ يَتَحَتَّمْ ) عَلَى الْقَاطِعِ ( قِصَاصٌ ) فِي ذَلِكَ الطَّرْفِ الْمَجْرُوحِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) بَلْ يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ ؛ لِأَنَّ التَّحَتُّم تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَاخْتَصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْجَرْحَ فِي الْآيَةِ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ .
وَالثَّانِي يَتَحَتَّمُ كَالنَّفْسِ .
وَالثَّالِثُ يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَنَحْوِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ فَانْدَمَلَ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ فَهُوَ كَالْقَتْلِ ، لَكِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الِانْدِمَالَ قَيْدٌ لِمَحَلِّ الْخِلَافِ .
وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ جَرَى الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِي التَّحَتُّمِ فِي قِصَاصِ الْيَدِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ لَمْ يَتَحَتَّمْ بِتَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا فِيهِ قَوَدٌ مِنْ الْأَعْضَاءِ .
أَمَّا غَيْرُهُ كَجَائِفَةٍ فَوَاجِبُهُ الْمَالُ .

وَتَسْقُطُ عُقُوبَاتٌ تَخُصُّ الْقَاطِعَ بِتَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، لَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَلَا تَسْقُطُ سَائِرُ الْحُدُودِ بِهَا فِي الْأَظْهَرِ .

( وَتَسْقُطُ عُقُوبَاتٌ تَخُصُّ الْقَاطِعَ ) مِنْ تَحَتُّمِ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ ، وَكَذَا الْيَدُ فِي الْأَصَحِّ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الْمُصَنِّفُ يُوهِمُ خِلَافَهُ ، فَإِنَّ الرِّجْلَ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ ، فَلَوْ قَالَ : تُسْقِطُ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى لَاسْتَقَامَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَيْسَ عُقُوبَةً كَامِلَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ جُزْءُ عُقُوبَةٍ ، فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ .
عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهَا سَقَطَ كُلُّهَا ( بِتَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ ( لَا بَعْدَهَا ) أَيْ : الْقُدْرَةِ فَلَا تَسْقُطُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَفْهُومِ الْآيَةِ ، وَإِلَّا لِمَا كَانَ لِلتَّخْصِيصِ بِقَوْلِهِ - مِنْ قَبْلِ - فَائِدَةٌ ، وَالْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ مُتَّهَمٌ لِدَفْعِ قَصْدِ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْ التُّهْمَةِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ ، وَقَوْلُهُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَقِيلَ : فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَوْلَانِ كَالْقَوْلَيْنِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزَّانِي وَالسَّارِقِ بِالتَّوْبَةِ .
أَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ مِمَّا ذُكِرَ هُنَا مِنْ قِصَاصٍ وَضَمَانٍ وَغَيْرِهِمَا فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مُطْلَقًا كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ الثَّابِتَةِ فَلَوْ ظَفَرْنَا بِهِ فَادَّعَى سَبْقَ تَوْبَتِهِ فَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ إنْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ التَّوْبَةِ الَّتِي قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا فَإِنَّ الْأُولَى يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِهَا ، وَالثَّانِيَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا إصْلَاحُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَصَحَّحَهُ

الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ وَالصَّغِيرِ ، وَلَوْ ثَبَتَ قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ فِي أَوَائِلِ الْإِقْرَارِ ( وَلَا تَسْقُطُ سَائِرُ ) أَيْ : بَاقِي ( الْحُدُودِ ) الْمُخْتَصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ( بِهَا ) أَيْ : التَّوْبَةِ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ مَاعِزٌ وَأَقَرَّ بِالزِّنَا حَدَّهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ إلَّا وَهُوَ تَائِبٌ فَلَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْمُحَارِبِ وَحْدَهُ وَالثَّانِي تَسْقُطُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ .
تَنْبِيهٌ : يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ تَابَ سَقَطَ الْقَتْلُ قَطْعًا وَالْكَافِرُ إذَا زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ النَّصِّ ، وَمَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي بَابِ الزِّنَا ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ حَيْثُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيَسْقُطُ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَرَّ يُقْتَلُ كُفْرًا لَا حَدًّا ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ ، تُسْقِطُ أَثَرَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا } وَوَرَدَ { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ } وَإِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُقَمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَهُ الْجِيلِيُّ لِحَدِيثِ : { اللَّهُ أَعْدَلُ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عَبْدِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ } وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةٍ فِي أَوَّلِ بَابِ الْجِرَاحِ .

[ فَصْلٌ ] مَنْ لَزِمَهُ قِصَاصٌ وَقَطْعٌ وَحَدُّ قَذْفٍ وَطَالَبُوهُ جُلِدَ ثُمَّ قُطِعَ ثُمَّ قُتِلَ ، وَيُبَادَرُ بِقَتْلِهِ بَعْدَ قَطْعِهِ لَا قَطْعُهُ بَعْدَ جَلْدِهِ إنْ غَابَ مُسْتَحِقُّ قَتْلِهِ ، وَكَذَا إنْ حَضَرَ وَقَالَ عَجِّلُوا الْقَطْعَ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِذَا أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ حَقَّهُ جُلِدَ فَإِذَا بَرِئَ قُطِعَ ، وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ طَرَفٍ جُلِدَ ، وَعَلَى مُسْتَحِقِّ النَّفْسِ الصَّبْرُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الطَّرَفَ فَإِنْ بَادَرَ فَقَتَلَ فَلِمُسْتَحِقِّ الطَّرَفِ دِيَةٌ ، وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الْجَلْدِ حَقَّهُ فَالْقِيَاسُ صَبْرُ الْآخَرِينَ .

[ فَصْلٌ ] فِي اجْتِمَاعِ عُقُوبَاتٍ فِي غَيْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ، وَهِيَ إمَّا لِآدَمِيٍّ ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ لَهُمَا ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ ( مَنْ لَزِمَهُ ) لِجَمَاعَةٍ ( قِصَاصٌ ) فِي نَفْسٍ ( وَقَطْعٌ ) لِطَرَفِ آدَمِيٍّ ( وَحَدُّ قَذْفٍ ) لِآخَرَ ( وَطَالَبُوهُ ) بِذَلِكَ ( جُلِدَ ) أَوَّلًا لِلْقَذْفِ ( ثُمَّ قُطِعَ ) لِقِصَاصِ الطَّرَفِ ( ثُمَّ قُتِلَ ) لِقِصَاصِ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَ مَعَ ذَلِكَ تَعْزِيرٌ لِآدَمِيٍّ بُدِئَ بِهِ ( وَيُبَادَرُ بِقَتْلِهِ بَعْدَ قَطْعِهِ ) فَلَا تَجِبُ الْمُهْلَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مُسْتَوْفَاةٌ ( لَا قَطْعُهُ بَعْدَ جَلْدِهِ إنْ غَابَ مُسْتَحِقُّ قَتْلِهِ ) جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُهْلَكُ بِالْمُوَالَاةِ فَيَفُوتُ قِصَاصُ النَّفْسِ ( وَكَذَا إنْ حَضَرَ وَقَالَ عَجِّلُوا الْقَطْعَ ) وَأَنَا أُبَادِرُ بِالْقَتْلِ بَعْدَهُ فَإِنَّا لَا نُعَجِّلُهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِمَا مَرَّ .
وَالثَّانِي نُبَادِرُ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّقْدِيمِ ( وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ حَقَّهُ ) وَطَلَبَ الْآخَرَانِ حَقَّهُمَا ( جُلِدَ ) لِلْقَذْفِ أَوَّلًا ( فَإِذَا بَرِئَ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا مِنْ الْجَلْدِ ( قُطِعَ ) لِلطَّرَفِ ، وَلَا يُوَالِي بَيْنَهُمَا خَوْفَ الْهَلَاكِ فَيَفُوتُ قِصَاصُ النَّفْسِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْمُصَنِّفُ فِي غِنًى عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرَ فِيمَا إذَا غَابَ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَعَادَهُ لِضَرُورَةِ التَّقْسِيمِ ( وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ طَرَفٍ ) حَقَّهُ ، وَطَلَبَ الْمَقْذُوفُ حَقَّهُ مِنْ قَاذِفِهِ ( جُلِدَ ، وَ ) وَجَبَ ( عَلَى مُسْتَحِقِّ النَّفْسِ الصَّبْرُ ) بِحَقِّهِ ( حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الطَّرَفَ ) سَوَاءٌ أَتَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُ النَّفْسِ أَمْ تَأَخَّرَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِهِ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : الَّذِي نَقُولُهُ : إنْ لِمُسْتَحِقِّ النَّفْسِ أَنْ يَقُولَ لِمُسْتَحِقِّ الطَّرَفِ : إمَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ أَوْ تَعْفُوَ أَوْ تَأْذَنَ لِي فِي التَّقْدِيمِ ، وَيُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى

أَحَدِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ مَكَّنَ الْحَاكِمُ مُسْتَحِقَّ النَّفْسِ مِنْ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الضَّرَرُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الطَّرَفِ ، وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ طَالِبُ حَقٍّ أَثْبَتَهُ اللَّهُ لَهُ بِقَوْلِهِ : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } ( فَإِنْ بَادَرَ ) مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ ( فَقَتَلَ فَلِمُسْتَحِقِّ الطَّرَفِ دِيَةٌ ) فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ ( وَلَوْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الْجَلْدِ حَقَّهُ فَالْقِيَاسُ ) مِمَّا سَبَقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِهَا فِي الصَّغِيرِ ، وَعَبَّرَ بِهَا فِي الْمُحَرَّرِ : يَنْبَغِي ( صَبْرُ الْآخَرِينَ ) حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُهُمَا لِئَلَّا يُفَوِّتَا عَلَيْهِ حَقَّهُ وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ بِقَوْلِهِ : تَبِعَ فِي الْقِيَاسِ الرَّافِعِيَّ ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقْطَعَ ، ثُمَّ لَا يَفُوتُ الْجَلْدُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْبُرْءِ مِنْ الْقَطْعِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الطَّرَفُ أُذُنًا أَوْ أُنْمُلَةً أَوْ نَحْوِهِمَا .

وَلَوْ اجْتَمَعَ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى قُدِّمَ الْأَخَفُّ فَالْأَخَفُّ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَقَالَ ( وَلَوْ اجْتَمَعَ ) عَلَى شَخْصٍ ( حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى ) كَأَنْ شَرِبَ وَزَنَى ، وَهُوَ بِكْرٌ وَسَرَقَ وَارْتَدَّ ( قُدِّمَ ) وُجُوبًا ( الْأَخَفُّ ) مِنْهَا ( فَالْأَخَفُّ ) سَعْيًا فِي إقَامَةِ الْجَمِيعِ ، فَأَخَفُّهَا حَدُّ الشُّرْبِ فَيُحَدُّ لَهُ ، ثُمَّ يُمْهَلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْهُ ، ثُمَّ يُجْلَدُ لِلزِّنَا ، ثُمَّ يُمْهَلُ حَتَّى يَبْرَأَ ، ثُمَّ يُقْطَعُ لِلسَّرِقَةِ ، ثُمَّ يُقْتَلُ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مُسْتَوْفَاةٌ ، وَهَلْ يُقَدَّمُ قَطْعُ السَّرِقَةِ عَلَى التَّغْرِيبِ ؟ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا تَعَرُّضًا لَهُ .
وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ تَقَدُّمِهِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ تَفُوتُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : يُقَدَّمُ الْأَخَفُّ أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ مَعَ الْحُدُودِ تَعْزِيرٌ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَمِنْ قَوْلِهِ : فَالْأَخَفُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ إذَا تَفَاوَتَتْ الْحُدُودُ ، فَلَوْ اجْتَمَعَ قَتْلُ رِدَّةٍ ، وَرَجْمُ زِنًا قَالَ الْقَاضِي : يُقَدَّمُ قَتْلُ الرِّدَّةِ ، إذْ فَسَادُهَا أَشَدُّ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : يُرْجَمُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ أَكْثَرُ نَكَالًا ، وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَلَوْ اجْتَمَعَا وَقَتْلُ قَطْعِ الطَّرِيقِ .
قَالَ الْقَاضِي : قُدِّمَ وَإِنْ جُعِلَ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَلَوْ اجْتَمَعَ قَطْعُ سَرِقَةٍ وَقَطْعُ مُحَارَبَةٍ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لَهُمَا ، وَهَلْ تُقْطَعُ الرِّجْلُ مَعَهَا ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا نَعَمْ .
وَقِيلَ تُؤَخَّرُ حَتَّى تَبْرَأَ الْيَدُ .

أَوْ عُقُوبَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْآدَمِيِّينَ قُدِّمَ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى زِنًا ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى حَدِّ شُرْبِ ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلًا وَقَطْعًا يُقَدَّمُ عَلَى الزِّنَا .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ ، فَقَالَ ( أَوْ ) اجْتَمَعَ ( عُقُوبَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْآدَمِيِّينَ ) كَأَنْ انْضَمَّ إلَى هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ حَدُّ قَذْفٍ ( قُدِّمَ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى ) حَدِّ ( زِنًا ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّتِهِ .
قِيلَ لِأَنَّهُ أَخَفُّ ، وَالْأَصَحُّ كَوْنُهُ حَقَّ آدَمِيٍّ ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَقِبَهَا ، وَهِيَ قَوْلُهُ : ( وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُهُ ) أَيْ حَدُّ الْقَذْفِ ( عَلَى حَدِّ الشُّرْبِ ) بِنَاءً عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ ، وَمُقَابِلُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى ( وَأَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلًا وَقَطْعًا يُقَدَّمُ عَلَى الزِّنَا ) مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَمُقَابِلُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى ، وَلَا يُوَالِي بَيْنَ حَدِّ الشُّرْبِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بَلْ يُمْهَلُ لِئَلَّا يَهْلِكَ بِالتَّوَالِي .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي تَقْدِيمِ حَدِّ الزِّنَا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الرَّجْمَ ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا قُدِّمَ عَلَى الْقَتْلِ قَطْعًا ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي تَقْدِيمِ قَطْعِ الْقِصَاصِ عَلَى حَدِّ الزِّنَا إذَا كَانَ جَلْدًا ، فَإِنْ كَانَ رَجْمًا قُدِّمَ الْقَطْعُ قَطْعًا .

خَاتِمَةٌ : لَوْ اجْتَمَعَ قَتْلُ قِصَاصٍ فِي غَيْرِ مُحَارَبَةٍ وَقَتْلُ مُحَارَبَةٍ قُدِّمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَرَجَعَ الْآخَرُ إلَى الدِّيَةِ ، وَفِي انْدِرَاجِ قَطْعِ السَّرِقَةِ فِي قَتْلِ الْمُحَارَبَةِ فِيمَا لَوْ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا نَعَمْ ، وَمَنْ زَنَى مَرَّاتٍ أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ كَذَلِكَ أَجْزَأَهُ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ فَتَدَاخَلَتْ .
قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : وَهُوَ مُقَابِلُ الزِّنْيَاتِ كُلِّهَا لِئَلَّا يَخْلُوَ بَعْضُهَا عَنْهُ كَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ يُقَابِلُ كُلَّ الْوَطْئَاتِ ، وَهَلْ وَجَبَ حُدُودٌ عَلَى عَدَدِ الزِّنْيَاتِ ثُمَّ تَدَاخَلَتْ ، أَوْ حَدٌّ وَاحِدٌ فَقَطْ ، وَتُجْعَلُ الزِّنْيَاتُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَدٌّ كَحَرَكَاتِ زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ ، وَمَا فِي فُرُوعِ ابْنِ الْحَدَّادِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ثَبَتَ زِنَاهًا بِلِعَانِ زَوْجَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا حَدَّانِ أَنْكَرَهُ الْأَصْحَابُ ، وَقَالُوا : إنَّهُمَا حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَا .

وَإِنْ جُلِدَ لِلزِّنَا ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا قَبْلَ التَّغْرِيبِ أَوْ جُلِدَ لَهُ خَمْسِينَ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا كَفَاهُ فِيهِمَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبٌ وَاحِدٌ ، وَدَخَلَ فِي الْمِائَةِ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ ، وَفِي التَّغْرِيبِ لِلثَّانِي التَّغْرِيبُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ زَنَى بِكْرًا ثُمَّ مُحْصَنًا قَبْلَ أَنْ يُجْلَدَ دَخَلَ التَّغْرِيبُ تَحْتَ الرَّجْمِ لِئَلَّا تَطُولُ الْمُدَّةُ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ مُسْتَوْفَاةٌ وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ صِفَةٌ ، فَيُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَلْدُ فِي الرَّجْمِ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي لِاخْتِلَافِ الْعُقُوبَتَيْنِ وَقِيلَ يَدْخُلُ لِأَنَّهُمَا عُقُوبَةُ جَرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ .

وَلَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ مُحْصَنٌ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ وَاسْتُرِقَّ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا فَفِي دُخُولِ الْجَلْدِ فِي الرَّجْمِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ الْمَنْعُ ، وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ الْأَصَحُّ الدُّخُولُ كَالْحَدَّيْنِ .

وَيَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِإِقْرَارِ الْقَاطِعِ بِهِ لَا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ خِلَافًا لِمَا فِي الْكِتَابِ وَبِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لَا رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَيَمِينٍ وَأَمَّا الْمَالُ فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ التَّفْصِيلُ ، وَتَعْيِينُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ، وَمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ كَمَا سَبَقَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى السَّرِقَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الرُّفْقَةِ عَلَى الْمُحَارِبِ لِغَيْرِهِمَا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنْ الرُّفْقَةِ أَوْ لَا ، وَإِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَنْ يُجِيبَا ، فَإِنْ قَالَا : نَهَبُونَا وَأَخَذُوا مَالَنَا أَوْ مَالَ رُفْقَتِنَا لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ .

كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ وَالتَّعَازِيرِ ، وَالْأَشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ بِمَعْنَى مَشْرُوبٍ ، وَالشَّرِيبُ : الْمُولَعُ بِالشَّرَابِ ، وَالشَّرْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونُ الرَّاءِ : الْجَمَاعَةُ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَشُرْبُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُحَرَّمَاتِ ، بَلْ هِيَ أُمُّ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } وَهُوَ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ وَتَظَافَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَحْرِيمِهَا .
رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَمْرَةَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى قَوْلِ مَنْ حُكِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا .
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِصْحَابًا مِنْهُمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ بِشَرْعٍ فِي إبَاحَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، رَجَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَوَّلَ ، وَالْمُصَنِّفُ الثَّانِي .
وَكَانَ تَحْرِيمُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أُحُدٍ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ الْمُبَاحُ الشُّرْبَ ، لَا مَا يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ فَإِنَّهُ حُرِّمَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ

عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَهُوَ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَالْخَمْرُ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَقْذِفَ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ .

تَنْبِيهٌ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى الْأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً ، فَقَالَ الْمُزَنِيّ وَجَمَاعَةٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ ، وَنَسَبَ الرَّافِعِيُّ إلَى الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا مَجَازًا .
أَمَّا فِي التَّحْرِيمِ وَالْحَدِّ فَهُوَ كَالْخَمْرِ ، لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا دُونَ تِلْكَ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِهَا ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّ الْخَمْرِ .
قَالَ وَكَيْفَ نُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ ، وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ مَنْ يَرُدُّ أَصْلَهُ ، وَإِنَّمَا نُبَدِّعُهُ ، وَأَوَّلَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا إذَا صَدَّقَ الْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ ثَبَتَ شَرْعًا ثُمَّ حَلَّلَهُ فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلشَّرْعِ ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ .
ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إنْ صَحَّ فَلْيَجْرِ فِي سَائِرِ مَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى افْتِرَاضِهِ فَنَفَاهُ ، أَوْ تَحْرِيمِهِ فَأَثْبَتَهُ .
وَأَجَابَ عَنْهُ الزَّنْجَانِيُّ بِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ لَا نُكَفِّرُهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فَقَطْ ، بَلْ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَلَيْهِ ، وَشَمِلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ .

كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ .
( كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ ) هُوَ ، وَ ( قَلِيلُهُ ) جَمِيعُ الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ خَبَرَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ } ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ قَلِيلُهُ حَرَامٌ } ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ مِنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِ ، وَاسْتَنَدَ لِأَحَادِيثَ مَعْلُومَةٍ بَيْنَ الْحُفَّاظِ ، وَأَيْضًا أَحَادِيثُ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَإِنَّمَا حَرُمَ الْقَلِيلُ .

وَحُدَّ شَارِبُهُ إلَّا صَبِيًّا وَمَجْنُونًا وَحَرْبِيًّا وَذِمِّيًّا وَمُوجَرًا وَكَذَا مُكْرَهٌ عَلَى شُرْبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ .

( وَحُدَّ شَارِبُهُ ) وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ كَمَا حَرُمَ تَقْبِيلُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ ، وَلِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ } وَقِيسَ بِهِ شُرْبُ النَّبِيذِ ، وَلَوْ فُرِضَ شَخْصٌ لَا يُسْكِرُهُ شُرْبُ الْخَمْرِ حَرُمَ شُرْبُهُ لِلنَّجَاسَةِ لَا لِلْإِسْكَارِ ، وَيُحَدُّ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ : وَغَيْرُهُ حَسْمًا لِلْبَابِ كَمَنْ شَرِبَ قَدْرًا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَا يُسْكِرُ ، وَمَنْ حُدَّ ثُمَّ شَرِبَ الْمُسْكِرَ حَالَ سُكْرِهِ فِي الشُّرْبِ الْأَوَّلِ حُدَّ ثَانِيًا .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالشَّارِبِ الْمُتَعَاطِي شُرْبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، وَسَوَاءٌ جَامِدُهُ وَمَائِعُهُ مَطْبُوخُهُ وَنِيئِهِ ، وَسَوَاءٌ أَتَنَاوَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ أَمْ إبَاحَتَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ لِضَعْفِ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ كَمَا مَرَّ ، وَخَرَجَ بِالشَّرَابِ النَّبَاتُ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : كَالْحَشِيشَةِ الَّتِي تَأْكُلُهَا الْحَرَافِيشُ ، وَنَقَلَ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ أَنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ وَلَا حَدَّ فِيهَا .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ : يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا التَّعْزِيرُ وَالزَّجْرُ دُونَ الْحَدِّ ، وَلَا تَبْطُلُ بِحَمْلِهَا الصَّلَاةُ .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّ الْحَشِيشَةَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ فِي آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ حِينَ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرِ ، وَشَرٌّ مِنْ الْخَمْرِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا تُورِثُ نَشْوَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَيَصْعُبُ الْفِطَامُ عَنْهَا أَكْثَر مِنْ الْخَمْرِ ، وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَائِلُ فِيهَا : حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ وَكُلُّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَحْوِ بَنْجٍ لَا حَدَّ فِيهِ كَالْحَشِيشَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلَذُّ وَلَا يُطْرِبُ وَلَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ ، بَلْ فِيهِ التَّعْزِيرُ ، وَلَا تُرَادُ

الْخَمْرَةُ الْمَعْقُودَةُ وَالْحَشِيشُ الْمُذَابُ نَظَرًا لِأَصْلِهِمَا ، وَبِالْمُسْكِرِ غَيْرُهُ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْكِرِ الْمُنَصَّفُ ، وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ ، وَالْخَلِيطُ وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ ؛ لِأَنَّ الْإِسْكَارَ يُسْرِعُ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَيَكُونُ مُسْكِرًا ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ شَارِبِهِ مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا لِلْأَحْكَامِ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَمُحْتَرَزُ هَذِهِ الْقُيُودِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ ( إلَّا صَبِيًّا وَمَجْنُونًا ) لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا ( وَحَرْبِيًّا ) لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ ( وَذِمِّيًّا ) لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بِالذِّمَّةِ مَا لَا يَعْتَقِدُ إلَّا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعِبَادِ ( وَمُوجَرًا ) أَيْ : مَصْبُوبًا فِي حَلْقِهِ قَهْرًا ( وَكَذَا مُكْرَهٌ عَلَى شُرْبِهِ ) أَيْ الْمُسْكِرِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِحَدِيثِ { وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَيُقَابِلُ الْمَذْهَبُ طَرِيقَةً حَاكِيَةً لِوَجْهَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ : إلَّا صَبِيًّا وَمَا بَعْدَهُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ ، لَكِنَّ الْأَصْحَابَ إنَّمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَعَدَمِهِ ، نَعَمْ تَعَرَّضُوا لِلْحِلِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِكْرَاهِ وَالصَّحِيحُ الْحِلُّ ، وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الْجِرَاحِ : وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ ، وَقِيلَ يَجِبُ ، وَقِيلَ يُسَنُّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ .

وَمَنْ جَهِلَ كَوْنَهَا خَمْرًا : لَمْ يُحَدَّ ، وَلَوْ قَرُبَ إسْلَامُهُ فَقَالَ : جَهِلْتُ تَحْرِيمَهَا لَمْ يُحَدَّ ، أَوْ جَهِلْتُ الْحَدَّ حُدَّ .
( وَمَنْ جَهِلَ كَوْنَهَا ) أَيْ الْخَمْرِ ( خَمْرًا ) فَشَرِبَهَا ظَانًّا كَوْنَهَا شَرَابًا لَا يُسْكِرُ ( لَمْ يُحَدَّ ) لِلْعُذْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ مُدَّةِ السُّكْرِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ السَّكْرَانُ بَعْدَ الْإِصْحَاءِ كُنْتُ مُكْرَهًا ، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الَّذِي شَرِبْتُهُ مُسْكِرًا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ .
قَالَهُ فِي الْبَحْرِ : فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ( وَلَوْ قَرُبَ إسْلَامُهُ فَقَالَ جَهِلْتُ تَحْرِيمَهَا لَمْ يُحَدَّ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ مَنْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
أَمَّا مَنْ نَشَأَ فِيهَا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ا هـ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ الظَّاهِرُ ( أَوْ ) قَالَ : عَلِمْتُ تَحْرِيمَهَا وَلَكِنْ ( جَهِلْتُ الْحَدَّ ) بِشُرْبِهَا ( حُدَّ ) لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ إذَا عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَنْ يَمْتَنِعَ .

وَيُحَدُّ بِدُرْدِيِّ خَمْرٍ لَا بِخُبْزٍ عُجِنَ دَقِيقُهُ بِهَا ، وَمَعْجُونٍ هِيَ فِيهِ ، وَكَذَا حُقْنَةٌ وَسَعُوطٌ فِي الْأَصَحِّ .
( وَيُحَدُّ بِدُرْدِيِّ خَمْرٍ ) وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ : مَا فِي أَسْفَلِ وِعَاءِ الْخَمْرِ مِنْ عَكَرٍ لِأَنَّهُ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ دُرْدِيَّ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ ، وَيُحَدُّ بِالثَّخِينِ مِنْهَا إذَا أَكَلَهُ ، وَ ( لَا ) يُحَدُّ بِشُرْبِهَا فِيمَا اُسْتُهْلِكَتْ فِيهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْإِمَامِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الرَّضَاعِ وَلَا ( بِخُبْزٍ عُجِنَ دَقِيقُهُ بِهَا ) عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ أَكَلَتْهَا النَّارُ وَبَقِيَ الْخُبْزُ نَجِسًا ( وَ ) لَا ( مَعْجُونٍ هِيَ فِيهِ ) لِاسْتِهْلَاكِهَا وَلَا بِأَكْلِ لَحْمٍ طُبِخَ بِهَا بِخِلَافِ مَرَقِهِ إذَا شَرِبَهُ أَوْ غَمَسَ فِيهِ أَوْ ثَرَدَ بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِبَقَاءِ عَيْنِهَا ( وَكَذَا حُقْنَةٌ ) بِهَا بِأَنْ أَدْخَلَهَا دُبُرَهُ ( وَسَعُوطٌ ) بِفَتْحِ السِّينِ بِأَنْ أَدْخَلَهَا أَنْفَهُ ، فَلَا يُحَدُّ بِذَلِكَ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ هُنَا فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَدْعُو إلَيْهِ .
وَالثَّانِي يُحَدُّ فِيهِمَا كَمَا يَحْصُلُ الْإِفْطَارُ بِهِمَا لِلصَّائِمِ .
وَالثَّالِثُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ يُحَدُّ فِي السَّعُوطِ دُونَ الْحُقْنَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَبُ بِهِ بِخِلَافِ الْحُقْنَةِ .

وَمَنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ أَسَاغَهَا بِخَمْرٍ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِدَوَاءٍ وَعَطَشٍ .

( وَمَنْ غَصَّ ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِخَطِّهِ ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ .
قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ فِي تَهْذِيبِهِ : أَيْ : شَرِقَ ( بِلُقْمَةٍ ) مَثَلًا ( أَسَاغَهَا ) أَيْ أَزَالَهَا ( بِخَمْرٍ ) وُجُوبًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ) وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إنْقَاذًا لِلنَّفْسِ مِنْ الْهَلَاكِ وَالسَّلَامَةُ بِذَلِكَ قَطْعِيَّةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَاجِبَةٌ ( وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا ) أَيْ تَنَاوُلِهَا عَلَى مُكَلَّفٍ ( لِدَوَاءٍ وَعَطَشٍ ) أَمَّا تَحْرِيمُ الدَّوَاءِ بِهَا فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا سُئِلَ عَنْ التَّدَاوِي بِهَا .
قَالَ { إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَبَ الْخَمْرَ مَنَافِعَهَا عِنْدَمَا حَرَّمَهَا ، وَيَدُلُّ لِهَذَا ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَمْرِ ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَةَ سَلَبَهَا الْمَنَافِعَ } وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ إنَّمَا هُوَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ، وَإِنْ سُلِّمَ بَقَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَتَحْرِيمُهَا مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَحُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا مَظْنُونٌ ، فَلَا يَقْوَى عَلَى إزَالَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ ، وَأَمَّا تَحْرِيمُهَا لِلْعَطَشِ فَلِأَنَّهَا لَا تُزِيلُهُ ، بَلْ تَزِيدُهُ ؛ لِأَنَّ طَبْعَهَا حَارٌّ يَابِسٌ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الطِّبِّ ، وَلِهَذَا يَحْرِصُ شَارِبُهَا عَلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : سَأَلْتُ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا .
فَقَالَ تَرْوِي فِي الْحَالِ ثُمَّ تُثِيرُ عَطَشًا شَدِيدًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ رِوَايَةُ فَاسِقٍ لَا تُقْبَلُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخْبَرَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ .
وَالثَّانِي يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا : أَيْ : بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ ، وَيَجُوزُ شُرْبُهَا لِإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِهَا ، وَقِيلَ يَجُوزُ التَّدَاوِي

بِهَا دُونَ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ ، وَقِيلَ عَكْسُهُ ، وَشُرْبُهَا لِدَفْعِ الْجُوعِ كَشُرْبِهَا لِدَفْعِ الْعَطَشِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّدَاوِي بِهَا بِصَرْفِهَا .
أَمَّا التِّرْيَاقُ الْمَعْجُونُ بِهَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تُسْتَهْلَكُ فِيهِ فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ عِنْدَ فَقْدِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّدَاوِي مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَالتَّدَاوِي بِنَجَسٍ كَلَحْمِ حَيَّةٍ وَبَوْلٍ ، وَلَوْ كَانَ التَّدَاوِي بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ شِفَاءٍ بِشَرْطِ إخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ أَوْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّدَاوِي بِهِ ، وَالنَّدُّ بِالْفَتْحِ الْمَعْجُونُ بِخَمْرٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِنَجَاسَتِهِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجَوَّزَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ لِإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِنَقْعِهِ فِي الْمَاءِ ، وَدُخَانُهُ كَدُخَانِ النَّجَاسَةِ ، فَفِي تَنَجُّسِ الْمُتَبَخِّرِ بِهِ وَجْهَانِ ، وَقَضِيَّةُ تَشْبِيهِهِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَخُّرِ بِهِ ، وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ لِقَطْعِ عُضْوٍ .
أَمَّا الْأَشْرِبَةُ فَلَا يَجُوزُ تَعَاطِيهَا لِذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا أَوْ لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ إلَّا بِهَا جَوَازُهُ ، وَيُقَدَّمُ النَّبِيذُ عَلَى الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي حُرْمَتِهِ ، وَمَحَلُّهُ فِي شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ إذَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْهَلَاكِ ، فَإِنْ انْتَهَى بِهِ إلَى ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ إجْمَاعِ الْأَصْحَابِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِهَا وَشُرْبِهَا لَا حَدَّ ، وَكَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ فِي التَّدَاوِي عَنْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، لِشُبْهَةِ قَصْدِ التَّدَاوِي وَمِثْلُهُ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ ، وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِذَلِكَ ضَعَّفَهُ الرَّافِعِيُّ فِي

الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَجَزَمَ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ بِجَوَازِ إسْقَائِهَا لِلْبَهَائِمِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ بِهَا .

( وَحَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ ) جَلْدَةً لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ } .

وَحَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ وَرَقِيقٍ عِشْرُونَ
( وَ ) حَدُّ ( رَقِيقٍ ) وَلَوْ مُبَعَّضًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ : ( عِشْرُونَ ) لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَتَنَصَّفَ عَلَى الرَّقِيقِ كَحَدِّ الزِّنَا .

تَنْبِيهٌ : لَوْ تَعَدَّدَ الشُّرْبُ كَفَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الرَّابِعَةِ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ .
وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ الْقَائِلَ : إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ لِتَرْوِيَ عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا جَلَدَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِرَارًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ ، وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدْ نَبَتَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ أُصُولِ كَرْمٍ وَقَدْ طَالَتْ وَانْتَشَرَتْ وَهِيَ مُعَرِّشَةٌ عَلَى قَبْرِهِ بِنَوَاحِي جُرْجَانَ .

بِسَوْطٍ أَوْ أَيْدٍ أَوْ نِعَالٍ أَوْ أَطْرَافِ ثِيَابٍ ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ سَوْطٌ .
وَالْأَصْلُ فِي الْجَلْدِ أَنْ يَكُونَ ( بِسَوْطٍ أَوْ أَيْدٍ أَوْ نِعَالٍ أَوْ أَطْرَافِ ثِيَابٍ ) لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ } وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ ، فَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ ، وَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِنَعْلِهِ ، وَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِثَوْبِهِ } .
تَنْبِيهٌ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِطَرَفِ الثَّوْبِ : الضَّرْبُ بِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يُفْتَلُ حَتَّى يَشْتَدَّ ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ ( وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ ) لِلْجَلْدِ ( سَوْطٌ ) لِلسَّلِيمِ الْقَوِيِّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْمُتَّخَذُ مِنْ جُلُودِ سُيُورٍ تُلْوَى وَتُلَفُّ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسَوِّطُ اللَّحْمَ بِالدَّمِ : أَيْ يَخْلِطُهُ .
أَمَّا نِضْوُ الْخَلْقِ فَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ بِسَوْطٍ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ .

وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ ، وَالزِّيَادَةُ تَعْزِيرَاتٌ ، وَقِيلَ حَدٌّ .

( وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ ) أَيْ الْحَدِّ لِلْحُرِّ ( ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الِافْتِرَاءِ ثَمَانُونَ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أُتِيَ بِشَيْخٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ وَنَفَاهُ إلَى الشَّامِ .
وَقَالَ : فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَيْخًا يَتَصَابَى " .
قَالَ : " وَأُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِشَيْخٍ سَكِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْغَدِ وَضَرَبَهُ عِشْرِينَ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا ضَرَبْتُكَ هَذِهِ الْعِشْرِينَ لِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ " وَالثَّانِي لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ لِرُجُوعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَانَ يَجْلِدُ فِي خِلَافَتِهِ أَرْبَعِينَ .
تَنْبِيهٌ : يَجْرِي الْخِلَافُ فِي بُلُوغِهِ فِي الرَّقِيقِ أَرْبَعِينَ ( وَالزِّيَادَةُ ) عَلَيْهَا فِي الْحُرِّ ، وَعَلَى الْعِشْرِينَ فِي غَيْرِهِ ( تَعْزِيرَاتٌ ) لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَدًّا لِمَا جَازَ تَرْكُهَا ( وَقِيلَ حَدٌّ ) لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جِنَايَةٍ مُحَقَّقَةٍ .
وَاعْتُرِضَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ وَضْعَ التَّعْزِيرِ النَّقْصُ عَنْ الْحَدِّ فَكَيْفَ يُسَاوِيهِ ؟ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِجِنَايَةٍ تَوَلَّدَتْ مِنْ الشَّارِبِ ، وَلِهَذَا اُسْتُحْسِنَ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفُ بِتَعْزِيرَاتٍ عَلَى تَعْبِيرِ الْمُحَرَّرِ بِتَعْزِيرٍ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ شَافِيًا فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَتَّى يُعَزَّرَ ، وَالْجِنَايَاتُ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْ الْخَمْرِ لَا تَنْحَصِرُ فَلْتَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَقَدْ مَنَعُوهَا .
قَالَ : وَفِي قِصَّةِ تَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ الضَّرْبَ

ثَمَانِينَ أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْكُلَّ حَدٌّ ، وَعَلَيْهِ فَحَدُّ الشُّرْبِ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُدُودِ بِأَنْ يَتَحَتَّمَ بَعْضُهُ وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ .
ا هـ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تَعْزِيرَاتٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ .

وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، لَا بِرِيحِ خَمْرٍ وَسُكْرٍ وَقَيْءٍ ، وَيَكْفِي فِي إقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ شَرِبَ خَمْرًا ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُخْتَارٌ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ شُرْبُ الْمُسْكِرِ .
فَقَالَ ( وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ ) كَقَوْلِهِ : شَرِبْتُ خَمْرًا أَوْ شَرِبْتُ مِمَّا شَرِبَ مِنْهُ غَيْرِي فَسَكِرَ مِنْهُ ( أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ) يَشْهَدَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ( لَا ) بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ نَاقِصَةٌ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَلَا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ لِمَا مَرَّ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، وَلَا ( بِرِيحِ خَمْرٍ وَسُكْرٍ وَقَيْءٍ ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شَرِبَ غَالِطًا أَوْ مُكْرَهًا ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، نَعَمْ سَيِّدُ الْعَبْدِ يَسْتَوْفِيهِ بِعِلْمِهِ لِإِصْلَاحِ مِلْكِهِ ( وَ ) لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ تَفْصِيلٌ ، بَلْ ( يَكْفِي ) الْإِطْلَاقُ ( فِي إقْرَارٍ ) مِنْ شَخْصٍ بِأَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا ( وَ ) فِي ( شَهَادَةٍ ) بِشُرْبِ مُسْكِرٍ ( شَرِبَ ) فُلَانٌ ( خَمْرًا ) وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ مُخْتَارٌ عَالِمٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ ، وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الشَّارِبِ عِلْمُهُ بِمَا يَشْرَبُهُ فَنَزَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ ( وَقِيلَ يُشْتَرَطُ ) التَّفْصِيلُ بِأَنْ يُزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
كَقَوْلِ الْمُقِرِّ : وَأَنَا عَالِمٌ مُخْتَارٌ : وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ ( وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُخْتَارٌ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَاقَبُ بِالْيَقِينِ كَالشَّهَادَةِ بِالزِّنَا ، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الزِّنَا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا حَدَّ فِيهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ { الْعَيْنَانِ يَزْنِيَانِ } بِخِلَافِ سُكْرِ الْمُسْكِرِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَنْ حُكْمِ رُجُوعِ الْمُقِرِّ بِشُرْبِ خَمْرٍ وَهُوَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي حَدِّ الزِّنَا .
فَإِنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّ آدَمِيٍّ يُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ .

( وَلَا يُحَدُّ حَالَ سُكْرِهِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَعَ السُّكْرِ ، بَلْ يُؤَخَّرُ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْوَرْدِيِّ فِي بَهْجَتِهِ لِيَرْتَدِعَ .
فَإِنْ حُدَّ قَبْلَهَا فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ : الِاعْتِدَادُ بِهِ .

وَلَا يُحَدُّ حَالَ سُكْرِهِ ، وَسَوْطُ الْحُدُودِ بَيْنَ قَضِيبٍ وَعَصًا وَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ إلَّا الْمَقَاتِلَ وَالْوَجْهَ ، قِيلَ : وَالرَّأْسَ وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ ، وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ ، وَيُوَالِي الضَّرْبَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ زَجْرٌ وَتَنْكِيلٌ .

( وَسَوْطُ الْحُدُودِ ) أَوْ التَّعَازِيرِ ( بَيْنَ قَضِيبٍ ) وَهُوَ الْغُصْنُ ( وَعَصًا ) غَيْرِ مُعْتَدِلَةٍ ( وَ ) بَيْنَ ( رَطْبٍ وَيَابِسٍ ) بِأَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الْجِرْمِ وَالرُّطُوبَةِ لِلِاتِّبَاعِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِوُجُوبِ هَذَا وَلَا بِنَدْبِهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ الْوُجُوبُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِفَةِ السَّوْطِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةِ عَدَدِ الضَّرْبِ بِقَوْلِهِ ( وَيُفَرِّقُهُ ) أَيْ : السَّوْطَ : أَيْ : الضَّرْبَ بِهِ ( عَلَى الْأَعْضَاءِ ) فَلَا يَجْمَعُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ : " أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ " وَالتَّفْرِيقُ وَاجِبٌ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ يَعْظُمُ أَلَمُهُ بِالْمُوَالَاةِ ، وَقَدْ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْأَصْحَابِ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَعْضَاءِ قَوْلَهُ ( إلَّا الْمَقَاتِلَ ) وَهِيَ مَوَاضِعُ يُسْرِعُ الْقَتْلُ إلَيْهَا بِالضَّرْبِ كَقَلْبٍ وَثُغْرَةِ نَحْرٍ وَفَرْجٍ فَلَا يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ : وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ رَدْعُهُ لَا قَتْلُهُ ، فَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى مَقْتَلٍ فَمَاتَ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الدَّارِمِيِّ تَرْجِيحُ نَفْيِ الضَّمَانِ ( وَ ) إلَّا ( الْوَجْهَ ) فَلَا يَضْرِبُهُ عَلَيْهِ وُجُوبًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ } وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ فَيَعْظُمُ أَثَرُ شَيْنِهِ ( قِيلَ : وَ ) إلَّا ( الرَّأْسَ ) فَلَا يَضْرِبُهُ لِشَرَفِهِ كَالْوَجْهِ ، وَالْأَصَحُّ وَعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ لَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ مُعَظَّمٌ غَالِبًا فَلَا يَخَافُ تَشْوِيهَهُ بِالضَّرْبِ بِخِلَافِ الْوَجْهِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ : اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ

الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : وَفِي قَوْلٍ وَالرَّأْسُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ حَكَاهُ عَنْ نَصِّ الْبُوَيْطِيِّ وَرَجَّحَهُ ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَصَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي التَّجْرِبَةِ : غَلِطَ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَجُوزُ لِلْجَلَّادِ رَفْعُ يَدِهِ بِحَيْثُ يَبْدُو بَيَاضُ إبِطِهِ ، وَلَا يَخْفِضُهَا خَفْضًا شَدِيدًا ، بَلْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ خَفْضٍ وَرَفْعٍ ، فَيَرْفَعُ ذِرَاعَهُ لَا عَضُدَهُ ، وَلَا يُبَالِي بِكَوْنِ الْمَجْلُودِ رَقِيقَ الْجِلْدِ يُدْمِيهِ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ ( وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ ) أَيْ : الْمَجْلُودِ بَلْ تُتْرَكُ مُطْلَقَةً يَتَّقِي بِهَا ، وَإِذَا وَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ ضَرَبَ غَيْرَهُ ، وَلَا يُلْقَى عَلَى وَجْهِهِ ، وَلَا يُرْبَطُ ، وَلَا يُمَدُّ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ بَلْ يُجْلَدُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً ( وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ ) الْخَفِيفَةُ الَّتِي لَا تَمْنَعُ أَثَرَ الضَّرْبِ .
أَمَّا مَا يَمْنَعُ كَالْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَالْفَرْوَةِ فَتُنْزَعُ عَنْهُ مُرَاعَاةً لِمَقْصُودِ الْحَدِّ ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا ، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ، وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ أَوْ مَحْرَمٌ ، وَيَكُونُ بِقُرْبِهَا إنْ تَكَشَّفَتْ سَتَرَهَا .
وَأَمَّا الْجَلْدُ فَيَتَوَلَّاهُ الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذُكِرَ ، لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ بِشَدِّ ثِيَابِهِ الْمَرْأَةُ وَنَحْوُهَا ، وَيُحْتَمَلُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا تَعَيُّنُ الْمَحْرَمِ وَنَحْوِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ضُرِبَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْخَلَوَاتِ ، وَإِلَّا فَفِي الْمَلَأ ، وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ فِي الْمَسْجِدِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ } وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَلَوَّثَ مِنْ جِرَاحَةٍ تَحْدُثُ ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ ، كَذَا قَالَاهُ هُنَا ، وَقَضِيَّتُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ ،

وَبِهِ جَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَاهُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ، بَلْ يُكْرَهُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَهُوَ الظَّاهِرُ ( وَيُوَالِي الضَّرْبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ زَجْرٌ وَتَنْكِيلٌ ) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ عَلَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ لِعَدَمِ الْإِيلَامِ الْمَقْصُودِ فِي الْحَدِّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ إذَا فَرَّقَهَا عَلَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ ؛ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْأَيْمَانِ إلَى الِاسْمِ ، وَهُنَا التَّنْكِيلُ وَالزَّجْرُ وَلَمْ يَحْصُلْ ، وَلَوْ جُلِدَ لِلزِّنَا خَمْسِينَ وِلَاءً وَفِي غَدِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يُضْبَطْ التَّفْرِيقُ الْجَائِزُ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الْإِمَامُ : إنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ أَلَمٌ لَهُ وَقَعَ كَسَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَهَذَا لَيْسَ بِحَدٍّ ، وَإِنْ آلَمَ وَأَثَّرَ بِمَا لَهُ وَقْعٌ ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ زَمَنٌ يَزُولُ فِيهِ الْأَلَمُ الْأَوَّلُ كَفَى ، وَإِنْ تَخَلَّلَ لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ ، ثُمَّ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجِنَايَاتِ السَّبْعَ الْمُوجِبَةَ لِلْحَدِّ بِالتَّعْزِيرِ ، وَتَرْجَمَ لَهُ بِفَصْلٍ .

[ فَصْلٌ ] يُعَزَّرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا كَفَّارَةَ .

فَقَالَ : [ فَصْلٌ ] فِي التَّعْزِيرِ ، وَهُوَ لُغَةً .
التَّأْدِيبُ .
وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَتُعَزِّرُوهُ } أَيْ : تَدْفَعُوا الْعَدُوَّ عَنْهُ وَتَمْنَعُوهُ ، وَيُخَالِفُ الْحَدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ ، فَتَعْزِيرُ ذَوِي الْهَيْئَاتِ أَخَفُّ وَيَسْتَوُونَ فِي الْحَدِّ .
وَالثَّانِي تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ وَالْعَفْوُ بَلْ يُسْتَحَبَّانِ .
وَالثَّالِثُ التَّالِفُ بِهِ مَضْمُونٌ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَشَرْعًا : تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( يُعَزَّرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا كَفَّارَةَ ) سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِآدَمِيٍّ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَا فِيهِ حَدٌّ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ ، وَسَرِقَةِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ ، وَالسَّبِّ بِمَا لَيْسَ بِقَذْفٍ أَمْ لَا كَالتَّزْوِيرِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالضَّرْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنُشُوزِ الْمَرْأَةِ وَمَنْعِ الزَّوْجِ حَقَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } الْآيَةَ فَأَبَاحَ الضَّرْبَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَكَانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّعْزِيرِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ : إذَا كَانَ دُونَ نِصَابٍ غُرْمُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ ؟ فَقَالَ : يُعَزَّرُ .
تَنْبِيهٌ : اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ .
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ : تَعْزِيرُ ذِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ .
الْأُولَى : إذَا صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى صَغِيرَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .
قَالَ : وَقَدْ جَهِلَ أَكْثَرُ النَّاسِ

فَزَعَمُوا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَسْقُطُ بِالصَّغِيرَةِ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ { أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الْحُدُودَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْمُرَادُ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ فَيَزِلُّ أَحَدُهُمْ الزَّلَّةُ ، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ عَزَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَهُمْ رُءُوسُ الْأَوْلِيَاءِ وَسَادَةُ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَوَّلِ زَلَّةٍ زَلَّهَا مُطِيعٌ .
الثَّانِيَة : إذَا قَطَعَ شَخْصٌ أَطْرَافَ نَفْسِهِ .
الثَّالِثَةُ إذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ أَوَأَمَته فِي دُبُرِهَا فَلَا يُعَزَّرُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ ، بَلْ يُنْهَى عَنْ الْعَوْدِ ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ .
الرَّابِعَةُ : الْأَصْلُ لَا يُعَزَّرُ لِحَقِّ الْفَرْعِ كَمَا لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ .
الْخَامِسَةُ : إذَا رَأَى مَنْ يَزْنِي بِزَوْجَتِهِ وَهُوَ مُحْصَنٌ فَقَتَلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَإِنْ افْتَاتَ عَلَى الْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ ، حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ أَبِي دَاوُد .
السَّادِسَةُ : إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْقُوَى إلَى الْحِمَى الَّذِي حَمَاهُ الْإِمَامُ لِلضِّعْفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَرَعَى مِنْهُمْ لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَلَا غُرْمَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَآثِمًا ، لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الرَّعْيِ ، كَذَا نَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ هُنَاكَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَأَقَرَّهُ .
السَّابِعَةُ : إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ .
الثَّامِنَةُ : إذَا كَلَّفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مَا لَا يُطِيقُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَزَّرُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ لَا تَعُدْ ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ ، ذَكَرَهُ

الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ اللِّعَانِ .
التَّاسِعَةُ : إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ قَدَرَ عَلَى إجَابَتِهَا فَهُوَ حَتْمٌ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُوَكَّلُ بِهِ ، وَلَكِنْ يَعْصِي بِمَنْعِهِ ، الْعَاشِرَةُ : إذَا عَرَّضَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِسَبِّ الْإِمَامِ لَمْ يُعَزَّرُوا عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ حَدٌّ كَالزِّنَا ، أَوْ كَفَّارَةٌ كَالتَّمَتُّعِ بِطِيبٍ فِي الْإِحْرَامِ يَنْتَفِي التَّعْزِيرُ لِإِيجَابِ الْأَوَّلِ لِلْحَدِّ وَالثَّانِي لِلْكَفَّارَةِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ .
الْأُولَى : إفْسَادُ الصَّائِمِ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ .
الثَّانِيَة : الْمُظَاهِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ .
الثَّالِثَةُ : إذَا قَتَلَ مَنْ لَا يُقَادُ بِهِ كَوَلَدِهِ وَعَبْدِهِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : نَعَمْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ لَيْسَ لِلْمَعْصِيَةِ ، بَلْ لِإِعْدَامِ النَّفْسِ بِدَلِيلِ إيجَابِهَا بِقَتْلِ الْخَطَأِ ، فَلَمَّا بَقِيَ التَّعَمُّدَ خَالِيًا عَنْ الزَّجْرِ أَوْجَبْنَا فِيهِ التَّعْزِيرَ .
الرَّابِعَةُ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ يَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ وَالتَّعْزِيرُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهَذَّبِ الْخَامِسَةُ : الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ إلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِيرَاتٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ .
السَّادِسَةُ : مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأُمِّهِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ مُعْتَكِفٌ مُحْرِمٌ لَزِمَهُ الْعِتْقُ وَالْبَدَنَةُ ، وَيُحَدُّ لِلزِّنَا ، وَيُعَزَّرُ لِقَطْعِ رَحِمَهُ ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ .
السَّابِعَةُ : مَا ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ أَنَّ السَّارِقَ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ يُعَزَّرُ .
قَالَ فِي الذَّخَائِرِ : إنْ أَرَادَ بِهِ تَعْلِيقَ

يَدِهِ فِي عُنُقِهِ فَحَسَنٌ ، أَوْ غَيْرَهُ فَمُنْفَرِدٌ بِهِ ، وَتَعْلِيقُ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ ضَرْبٌ مِنْ النَّكَالِ ، نُصَّ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْحَدِّ قَطْعًا إذْ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ أَحَدٌ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ .
الْأَوَّلُ : الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُعَزَّرَانِ إذَا فَعَلَا مَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ الْبَالِغُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمَا مَعْصِيَةً ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الصَّبِيِّ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْمَجْنُونِ .
الثَّانِيَة .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ يَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مَنْ يَكْتَسِبُ بِاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذُ وَالْمُعْطِيَ ، وَظَاهِرُهُ تَنَاوُلُ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ .
ثَالِثُهَا نَفْيُ الْمُخَنَّثِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، وَإِنَّمَا فُعِلَ لِلْمَصْلَحَةِ .

بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ أَوْ تَوْبِيخٍ ، وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ، وَقِيلَ إنْ تَعَلَّقَ بِآدَمِيٍّ لَمْ يَكْفِ تَوْبِيخٌ .

، وَتَعْلِيقُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ سَابِقًا يُعَزَّرُ قَوْلَهُ هُنَا ( بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ ) وَهُوَ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ ( أَوْ تَوْبِيخٍ ) بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ عَنْ الْجَرِيمَةِ ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ التَّأْدِيبَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ فَعَنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ الْمُبَرِّحِ وَلَا غَيْرِهِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ بِضَرْبِهِ غَيْرَ مُبَرِّحٍ إقَامَةً لِصُورَةِ الْوَاجِبِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْهَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَفِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْحَبْسِ مُدَّةٌ ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ، بَلْ شَرْطُهُ النَّقْصُ عَنْ سَنَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَصَرَّحَ بِهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا الْحَصْرُ فِيمَا ذَكَرَهُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ، فَإِنَّ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ النَّفْيَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ ، وَمِنْهُ كَشْفُ الرَّأْسِ وَالْقِيَامُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَالْإِعْرَاضُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ( وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا مُوكَلٌ إلَى رَأْيِهِ يَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الْأَصْلَحِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَعَاصِي فَلَهُ أَنْ يُشْهِرَ فِي النَّاسِ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ دُونَ لِحْيَتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَلَا مِنْ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ ، وَيُصَلِّي يَوْمِيًّا وَيُعِيدُ إذَا أَرْسَلَ ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ا هـ .
وَاعْتُرِضَ مَنْعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ مُتَمَكِّنًا ،

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ ، وَفِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَجْهَانِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْجَوَازِ ، وَلَهُ إرْكَابُهُ الدَّابَّةَ مَنْكُوسًا ، وَعَلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَالتَّدْرِيجِ اللَّائِقِ بِالْحَالِ فِي الْقَدْرِ وَالنَّوْعِ كَمَا يُرَاعِيهِ فِي دَفْعِ الصَّائِلِ ، فَلَا يَرْقَى إلَى مَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا كَافِيًا مُؤَثِّرًا كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَإِنْ أَوْهَمَ عَطْفُ الْمُصَنِّفِ بِأَوْ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْيِيرِ خِلَافَهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا الْإِمَامُ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ مَسَائِلُ .
الْأُولَى : لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ضَرْبُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ زَجْرًا لَهُمَا عَنْ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَإِصْلَاحًا لَهُمَا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَمِثْلُهُمَا السَّفِيهُ ، وَعِبَارَةُ الدَّمِيرِيِّ : وَلَيْسَ لِلْأَبِ تَعْزِيرُ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ شُهْبَةَ .
الثَّانِيَة لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُؤَدِّبَ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ ، لَكِنْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ .
الثَّالِثَةُ لِلزَّوْجِ ضَرْبُ زَوْجَتِهِ لِنُشُوزِهَا وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ الْبَرَزِيِّ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَمْرُ زَوْجَتِهِ بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُهَا عَلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا أَمْرُهُ لَهَا بِالصَّلَاةِ فَمُسَلَّمٌ .
الرَّابِعَةُ لِلسَّيِّدِ ضَرْبُ رَقِيقِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَمَا فِي الزَّوْجِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ سَلْطَنَتَهُ أَقْوَى ، وَكَذَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي الزِّنَا ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمُسْتَثْنَاةُ تَعْزِيرًا ، وَقِيلَ إنَّمَا يُسَمَّى مَا عَدَا ضَرْبَ الْإِمَامِ

وَنَائِبِهِ تَأْدِيبًا لَا تَعْزِيرًا ، وَعَلَى هَذَا لَا اسْتِثْنَاءَ ( وَقِيلَ إنْ تَعَلَّقَ ) التَّعْزِيرُ ( بِآدَمِيٍّ لَمْ يَكْفِ ) فِيهِ ( تَوْبِيخٌ ) لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ كَمَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .

فَإِنْ جَلَدَ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ فِي عَبْدٍ عَنْ عَشْرٍ جَلْدَةً وَحُرٍّ عَنْ أَرْبَعِينَ ، وَقِيلَ عِشْرِينَ ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي فِي الْأَصَحِّ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ قَدْرِ التَّعْزِيرِ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ جَلَدَ ) الْإِمَامُ ( وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ فِي عَبْدٍ عَنْ عِشْرِينَ جَلْدَةً وَ ) فِي ( حُرٍّ عَنْ أَرْبَعِينَ ) جَلْدَةً أَدْنَى حُدُودِهِمَا ، لِخَبَرِ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَالَ : الْمَحْفُوظُ إرْسَالُهُ ، وَكَمَا يَجِبُ نَقْصُ الْحُكُومَةِ عَنْ الدِّيَةِ وَالرَّضْخِ عَنْ السَّهْمِ ( وَقِيلَ ) يَجِبُ أَنْ يُنْقِصَ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ عَنْ ( عِشْرِينَ ) جَلْدَةً لِأَنَّهَا حَدُّ الْعَبْدِ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقِيلَ لَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِهِمَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ لِحَدِيثِ { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى } وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اتِّبَاعِ الْخَبَرِ ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ : لَوْ بَلَغَ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ .
قَالَ الْقُونَوِيُّ : وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ أَهْوَنُ مِنْ النَّسْخِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ .
فَائِدَةٌ : أَهْلُ بَدْرٍ إذَا عَمِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَنْبًا يَقْتَضِي حَدًّا أَوْ غَيْرَهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ ، فَقِيلَ : مَعْنَاهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ : الْمُرَادُ الْمَاضِي لَا الْمُسْتَقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ لَكَانَ إطْلَاقًا فِي الذُّنُوبِ ، وَلَا وَجْهَ لَهُ { وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَيْمَانَ فِي الْخَمْرِ ، } وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ فِيهِ أَيْضًا ، وَكَانَا بَدْرِيَّيْنِ ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِسْطَحًا الْحَدَّ ، وَكَانَ بَدْرِيًّا ( وَيَسْتَوِي فِي هَذَا ) الْمَذْكُورِ ( جَمِيعُ الْمَعَاصِي ) السَّابِقَةُ :

أَيْ : مَعْصِيَةُ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) فَيَلْحَقُ مَا هُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْحُدُودِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا ، إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّفْرِقَةِ ، وَالثَّانِي لَا بَلْ يُقَاسُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ .

وَلَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدٍّ فَلَا تَعْزِيرَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ ، أَوْ تَعْزِيرٍ فَلَهُ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدٍّ ) عَنْهُ كَحَدِّ قَذْفٍ ( فَلَا تَعْزِيرَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ لَازِمٌ مُقَدَّرٌ لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ فَجَازَ إسْقَاطُهُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ .
وَالثَّانِي لَهُ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ( أَوْ ) عَفَا مُسْتَحِقُّ ( تَعْزِيرٍ فَلَهُ ) أَيْ : الْإِمَامِ التَّعْزِيرُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَا يُعَزِّرُ بِدُونِ عَفْوٍ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ أَصْلُهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إسْقَاطُ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَتَوْبِيخٍ وَحَبْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَيَحْصُلُ بِقَلِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَكَثِيرِهَا ، وَمُسْتَحِقُّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَوْعًا مُعَيَّنًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَازِيرِ وَلَا مِقْدَارًا مُعَيَّنًا بَلْ اسْتَحَقَّ مَجْهُولًا وَالْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ أَسْقَطَهُ .

خَاتِمَةٌ : لِلْإِمَامِ تَرْكُ تَعْزِيرٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْرَاضِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمَاعَةٍ اسْتَحَقُّوهُ كَالْغَالِّ فِي الْغَنِيمَةِ وَلَاوِي شِدْقَهُ فِي حُكْمِهِ لِلزُّبَيْرِ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إنْ كَانَ لِآدَمِيٍّ عِنْدَ طَلَبِهِ كَالْقِصَاصِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْحَاوِي الصَّغِيرُ وَمُخْتَصَرُهُ خِلَافًا لِمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُعَزَّرُ مَنْ وَافَقَ الْكُفَّارَ فِي أَعْيَادِهِمْ ، وَمَنْ يُمْسِكُ الْحَيَّةَ وَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَمَنْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا حَاجُّ ، وَمَنْ هَنَّأَهُ بِعِيدِهِ ، وَمَنْ سَمَّى زَائِرَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ حَاجًّا ، وَالسَّاعِي بِالنَّمِيمَةِ لِكَثْرَةِ إفْسَادِهَا بَيْنَ النَّاسِ .
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : يُفْسِدُ النَّمَّامُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُهُ السَّاحِرُ فِي السَّنَةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنْ الْحَدِّ ، وَلَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ } وَفِي الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ } وَتُسَنُّ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حَدٍّ أَوْ أَمْرٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ كَالشَّفَاعَةِ إلَى نَاظِرِ يَتِيمٍ أَوْ وَقْفٍ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي فِي وِلَايَتِهِ ، فَهَذِهِ شَفَاعَةُ سُوءٍ مُحَرَّمَةٌ ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } الْآيَةَ ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { كَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ ، وَقَالَ : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } .

كِتَابُ الصِّيَالِ وَضَمَانِ الْوُلَاةِ لَهُ دَفْعُ كُلِّ صَائِلٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ .

كِتَابُ الصِّيَالِ هُوَ وَالْمُصَاوَلَةُ : الِاسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ ، وَالصَّائِلُ الظَّالِمُ ( وَضَمَانِ الْوُلَاةِ ) وَأَدْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حُكْمَ الْخِتَانِ وَإِتْلَافِ الْبَهَائِمِ ، وَعَقَدَ فِي الرَّوْضَةِ لِإِتْلَافِ الْبَهَائِمِ بَابًا ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْخِتَانِ فِي بَابِ ضَمَانِ إتْلَافِ الْإِمَامِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَافْتَتَحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ بِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا } وَالصَّائِلُ ظَالِمٌ فَيُمْنَعُ مِنْ ظُلْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ .
( لَهُ ) أَيْ الْمَصُولِ عَلَيْهِ ( دَفْعُ كُلِّ صَائِلٍ ) مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا ، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا ، قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ( عَلَى ) مَعْصُومٍ مِنْ ( نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ) أَوْ مَنْفَعَةٍ ( أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ ) لِخَبَرِ { مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ شَهِيدًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ : كَمَا أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ لَمَّا كَانَ شَهِيدًا كَانَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ .
تَنْبِيهٌ : فِي مَعْنَى الْبُضْعِ مَنْ قَصَدَ الِاسْتِمْتَاعَ بِأَهْلِهِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْقُبْلَةِ ، وَأَلْحَقَ الرُّويَانِيُّ الْأُخْتَ وَالْبِنْتَ بِالزَّوْجَةِ ، وَشَمَلَ قَوْلُهُ أَوْ مَالُ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ كَدِرْهَمٍ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ فِي السَّرِقَةِ أَكْثَرَ وَمَا فِيهِ سِوَى قَطْعِ الطَّرَفِ ، وَقَدْ يُؤَدِّي الدَّفْعُ إلَى هَلَاكِ النَّفْسِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَالْمَالُ فِيهِ قَلِيلٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَطْعَ الطَّرَفِ مُحَقَّقٌ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ هَلَاكِ النَّفْسِ وَمَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ جَوَازِ الدَّفْعِ عَنْ الْمَالِ مَا لَوْ صَالَ مُكْرَهًا عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ

لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ ، بَلْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ كَمَا يُنَاوِلُ الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ قُبَيْلَ الدِّيَاتِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعُ الْمُكْرَهِ ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْمَالِ قَدْ يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْكَلْبِ الْمُقْتَنَى وَالسِّرْجِينِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرِهِ إلْحَاقُهُ بِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَهُ دَفْعُ مُسْلِمٍ عَنْ ذِمِّيٍّ وَوَالِدٍ عَنْ وَلَدِهِ وَسَيِّدٍ عَنْ عَبْدِهِ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ .

، وَلَوْ صَالَ قَوْمٌ عَلَى النَّفْسِ وَالْبُضْعِ وَالْمَالِ قُدِّمَ الدَّفْعُ عَنْ النَّفْسِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْبُضْعِ وَالْمَالِ ، وَالدَّفْعُ عَنْ الْبُضْعِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمَالِ ، وَالْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى الْحَقِيرِ ، وَلَوْ صَالَ اثْنَانِ عَلَى مُتَسَاوِيَيْنِ فِي نَفْسَيْنِ أَوْ بُضْعَيْنِ أَوْ مَالَيْنِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ دَفْعُهُمَا مَعًا دَفَعَ أَيَّهُمَا شَاءَ ، وَلَوْ صَالَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَبِيٍّ بِاللِّوَاطِ ، وَالْآخَرُ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
أَحَدُهُمَا يُبْدَأُ بِصَاحِبِ الزِّنَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ .
وَالثَّانِي بِصَاحِبِ اللِّوَاطِ ، إذْ لَيْسَ إلَى حِلِّهِ سَبِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهُوَ أَوْجَهُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ .

فَإِنْ قَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ .
( فَإِنْ قَتَلَهُ ) أَيْ الْمُصَوَّلُ عَلَيْهِ الصَّائِلَ دَفْعًا ( فَلَا ضَمَانَ ) بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ وَلَا إثْمٍ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِهِ ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ ، حَتَّى لَوْ صَالَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَعَارُ عَلَى مَالِكِهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا لَمْ يَبْرَأْ الْغَاصِبُ وَلَا الْمُسْتَعِيرُ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ الْمُضْطَرُّ إذَا قَتَلَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ دَفْعًا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ .
قَالَ الدَّبِيلِيُّ : فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ .
تَنْبِيهٌ : دَخَلَ فِي كَلَامِهِمْ مَا لَوْ صَالَتْ حَامِلٌ عَلَى إنْسَانٍ فَدَفَعَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا فَالْأَصَحُّ لَا يَضْمَنُهُ ، وَقَاسَهُ الْقَاضِي عَلَى مَا إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ حَالَ الْقِتَالِ بِمُسْلِمٍ ، وَاضْطُرَّ الْمُسْلِمُونَ إلَى قَتْلِهِ .

وَلَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ مَالٍ
( وَلَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ مَالٍ ) لَا رُوحَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْآحَادِ .
فَأَمَّا الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الدَّفْعُ عَنْ أَمْوَالِ رَعَايَاهُمْ ، وَكَذَا إنْ كَانَ مَالَهُ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَإِنْ كَانَ مَالَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ وَقْفٍ أَوْ مَالًا مُودَعًا وَجَبَ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الدَّفْعُ عَنْهُ ا هـ .
أَمَّا مَا فِيهِ رُوحٌ فَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ إذَا قُصِدَ إتْلَافُهُ مَا لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بُضْعٌ لِحُرْمَةِ الرُّوحُ حَتَّى لَوْ رَأَى أَجْنَبِيٌّ شَخْصًا يُتْلِفُ حَيَوَانَ نَفْسِهِ إتْلَافًا مُحَرَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ .

وَيَجِبُ عَنْ بُضْعٍ ، وَكَذَا نَفْسٍ قَصَدَهَا كَافِرٌ ، أَوْ بَهِيمَةٌ ، لَا مُسْلِمٌ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَيَجِبُ ) الدَّفْعُ ( عَنْ بُضْعٍ ) لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إبَاحَتِهِ ، وَسَوَاءٌ بُضْعُ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُهُ ، وَمِثْلُ الْبُضْعِ مُقَدِّمَاتُهُ وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي ( وَكَذَا نَفْسٍ ) لِلشَّخْصِ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهَا إذَا ( قَصَدَهَا كَافِرٌ ) وَلَوْ مَعْصُومًا ، إذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ جَوَازُ اسْتِسْلَامِ الْكَافِرِ لِلْكَافِرِ وَبَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَنْعِ جَوَازِ اسْتِسْلَامِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ إذَا لَمْ يُجَوَّزْ الْأَسْرُ ، فَإِنْ جَوَّزَهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ ( أَوْ ) قَصَدَهَا ( بَهِيمَةٌ ) لِأَنَّهَا تُذْبَحُ لِاسْتِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ ، فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِسْلَامِ لَهَا ، وَظَاهِرٌ أَنَّ عُضْوَهُ وَمَنْفَعَتَهُ كَنَفْسِهِ ( لَا ) إنْ قَصَدَهَا ( مُسْلِمٌ ) وَلَوْ مَجْنُونًا وَمُرَاهِقًا أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ ( فِي الْأَظْهَرِ ) بَلْ يَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ ، بَلْ يُسَنُّ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد { كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ } يَعْنِي قَابِيلَ وَهَابِيلَ ، وَلِمَنْعِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَبِيدَهُ وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ ، وَقَالَ : مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ حُرٌّ ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ .
وَالثَّانِي يَجِبُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصَانَةُ نَفْسِهِ بِأَكْلِ مَا يَجِدُهُ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي الْقَتْلِ شَهَادَةً بِخِلَافِ تَرْكِ الْأَكْلِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْمَحْقُونِ الدَّمُ كَمَا قَيَّدَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ : لِيَخْرُجَ الْمُهْدَرُ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ

تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، فَإِنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ الْكَافِرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَظْهَرُ الدَّفْعُ عَنْ الْعُضْوِ عِنْدَ ظَنِّ السَّلَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا شَهَادَةٌ ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَنْ النَّفْسِ إذَا أَمْكَنَ عِنْدَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِقَتْلِهِ مَفَاسِدُ فِي الْحَرِيمِ وَالْأَطْفَالِ ا هـ وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ .

وَالدَّفْعُ عَنْ غَيْرِهِ كَهُوَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَقِيلَ يَجِبُ قَطْعًا .

( وَالدَّفْعُ عَنْ ) نَفْسِ ( غَيْرِهِ ) إذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا وَلَوْ رَقِيقًا ( كَهُوَ عَنْ نَفْسِهِ ) فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي ، إذْ لَا يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَتْنِ مِنْ جَرِّ ضَمِيرِ الْغَائِبِ بِالْكَافِ وَهُوَ قَلِيلٌ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْوُجُوبِ إذَا أُمِنَ الْهَلَاكُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ بَدَلًا عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ : نَعَمْ إنْ كَانَ فِي قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ أَوْ الْمُرْتَدِّينَ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ ظَاهِرٌ ، إذَا كَانَ فِي الصَّفِّ وَكَانُوا مِثْلَيْهِ فَأَقَلَّ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ الدَّفْعُ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ ، بَلْ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِابْنَ الدَّفْعُ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا .
قَالَ : وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ : أَيْ : لِوُضُوحِهِ .
أَمَّا لَوْ صَالَ شَخْصٌ عَلَى غَيْرِ مُحْتَرَمٍ حَرْبِيٍّ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ دَفْعُهُ عَنْهُ ، وَإِنْ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ ( وَقِيلَ يَجِبُ ) الدَّفْعُ عَنْ غَيْرِهِ ( قَطْعًا ) لِأَنَّ لَهُ الْإِيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ .
أَمَّا الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْوُلَاةِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ، وَقَضِيَّةُ الْوُجُوبِ أَوْ الْجَوَازِ عَدَمُ الضَّمَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ دَفْعًا عَنْ مَالِ غَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ غَيْرَ نَبِيٍّ ، أَمَّا هُوَ فَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ قَطْعًا كَمَا

قَالَهُ الْفُورَانِيُّ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِالصَّائِلِ ، بَلْ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلِبَعْضِ الْآحَادِ مَنْعُهُ ، وَلَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ حَتَّى قَالُوا : لَوْ ظَهَرَ فِي بَيْتٍ خَمْرٌ يُشْرَبُ أَوْ طُنْبُورٌ يُضْرَبُ أَوْ نَحْوُهُمَا ، فَلَهُ الْهُجُومُ عَلَى مُتَعَاطِيهِ لِإِزَالَتِهِ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَلَهُ قِتَالُهُمْ ، وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ عَبَّرُوا هُنَا بِالْوُجُوبِ وَلَا يُنَافِيهِ تَعْبِيرُ الْأَصْحَابِ بِالْجَوَازِ ، إذْ لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ ، بَلْ إنَّهُ جَائِزٌ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ قَبْلَ ارْتِكَابِ ذَلِكَ وَهُوَ صَادِقٌ بِالْوُجُوبِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّف أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ ، لَكِنْ قَالَ الْغَزَالِيُّ : مَهْمَا قَدَرَ عَلَى حِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الضَّيَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنَالَهُ تَعَبٌ فِي بَدَنِهِ ، أَوْ خُسْرَانٌ فِي مَالِهِ ، أَوْ نُقْصَانٌ فِي جَاهِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَالَ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ يَضِيعُ بِظُلْمِ ظَالِمٍ وَكَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا وَيَعْصِي بِتَرْكِهَا .

وَلَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إلَّا بِكَسْرِهَا ضَمِنَهَا فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ ) مَثَلًا وَهِيَ بِفَتْحِ الْجِيمِ : إنَاءٌ مِنْ فَخَّارٍ عَلَى إنْسَانٍ ( وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إلَّا بِكَسْرِهَا ) جَازَ لَهُ ، بَلْ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ بِوُجُوبِهِ صِيَانَةً لِرُوحِهِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْجَوَازَ كَمَا مَرَّ ، وَإِذَا كَسَرَهَا ( ضَمِنَهَا فِي الْأَصَحِّ ) إذْ لَا قَصْدَ لَهَا وَلَا اخْتِيَارَ حَتَّى يُحَالَ عَلَيْهَا ، فَصَارَ كَالْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ يَأْكُلُهُ وَيَضْمَنُهُ ، وَالثَّانِي لَا ، لِأَنَّهُ دَافِعٌ لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا نَوْعُ اخْتِيَارٍ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً بِمَحَلِّ غَيْرِ عُدْوَانٍ ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِمَحَلِّ عُدْوَانٍ كَأَنْ وُضِعَتْ بِرَوْشَنٍ ، أَوْ عَلَى مُعْتَدِلٍ لَكِنَّهَا مَائِلَةٌ أَوْ عَلَى حَالَةٍ يَغْلِبُ فِيهَا سُقُوطُهَا لَمْ يَضْمَنْهَا قَطْعًا ، قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ : لَكِنْ لَوْ أَبْدَلَ قَوْلَهُ : عُدْوَانٍ بِيَضْمَنُ بِهِ كَانَ أَوْلَى ، وَيَضْمَنُ بَهِيمَةً لَمْ يُمْكِنْ جَائِعًا وُصُولُهُ إلَى طَعَامِهِ إلَّا بِقَتْلِهَا وَقَتَلَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْهُ وَقَتْلُهُ لَهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْجُوعِ فَكَانَ كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَصَحُّ هُنَا نَفْيَ الضَّمَانِ ، كَمَا لَوْ عَمَّ الْجَرَادُ الْمَسَالِكَ فَوَطِئَهَا الْمُحْرِمُ وَقَتَلَ بَعْضَهَا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقَّ ثَمَّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُنَا لِلْآدَمِيِّ .

وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالْأَخَفِّ ، فَإِنْ أَمْكَنَ بِكَلَامٍ وَاسْتِغَاثَةٍ حَرُمَ الضَّرْبُ ، أَوْ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ سَوْطٌ ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ عَصًا ، أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ قَتْلٌ ، فَإِنْ أَمْكَنَ هَرَبٌ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ ، وَتَحْرِيمُ قِتَالٍ .

ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ دَفْعِ الصَّائِلِ بِقَوْلِهِ : ( وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالْأَخَفِّ ) فَالْأَخَفِّ إنْ أَمْكَنَ ، وَالْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ ( فَإِنْ أَمْكَنَ ) دَفْعُهُ ( بِكَلَامٍ وَاسْتِغَاثَةٍ ) بَغَيْنَ مُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ بِالنَّاسِ ( حَرُمَ الضَّرْبُ ) أَيْ : الدَّفْعُ بِهِ ( أَوْ ) أَمْكَنَ دَفْعُهُ ( بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ سَوْطٌ ، أَوْ ) أَمْكَنَ دَفْعُهُ ( بِسَوْطٍ حَرُمَ عَصًا ، أَوْ ) أَمْكَنَ دَفْعُهُ ( بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ قَتْلٌ ) لِأَنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأَثْقَلِ مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِالْأَسْهَلِ ، وَلَوْ انْدَفَعَ شَرُّهُ كَأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ أَوْ انْكَسَرَتْ رِجْلَهُ ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ لَمْ يَضْرِبْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ .
وَفَائِدَةُ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ وَعَدَلَ إلَى رُتْبَةٍ مَعَ إمْكَانِ الِاكْتِفَاءِ بِمَا دُونَهَا ضَمِنَ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : لَوْ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَنْ الضَّبْطِ سَقَطَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ .
الثَّانِيَةُ : مَا سَيَأْتِي فِي النَّظَرِ إلَى الْحُرَمِ أَنَّهُ يَرْمِي بِالْحَصَاةِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ يَأْتِي .
الثَّالِثَةُ : لَوْ كَانَ الصَّائِلُ يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ إلَّا السَّيْفَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ الضَّرْبَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِهِ ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ .
الرَّابِعَةُ : إذَا رَآهُ يُولِجُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مُوَاقِعٌ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالْأَنَاةِ كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ الشَّيْخَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا : إذَا وَجَدَ رَجُلًا يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا لَزِمَهُ مَنْعُهُ وَدَفْعُهُ ، فَإِنْ هَلَكَ فِي الدَّفْعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ

انْدَفَعَ بِضَرْبٍ وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا ، فَإِنْ كَانَ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْجِنَايَاتِ ا هـ .
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ ( فَإِنْ أَمْكَنَ ) الْمَصُولُ عَلَيْهِ ( هَرَبٌ ) أَوْ الْتِجَاءٌ لِحِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ( فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ وَتَحْرِيمُ قِتَالٍ ) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ وَمَا ذُكِرَ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى الْأَشَدِّ .
وَالثَّانِي لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ فَلَا يُكَلَّفُ الِانْصِرَافُ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي إنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِهَرَبٍ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا حَمْلًا لِلنَّصَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ الْمَتْنِ أَنَّهُ لَوْ قَاتَلَ مَعَ إمْكَانِ الْهَرَبِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ الْمَنْعُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِمَا مَرَّ ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمَتْنِ : وُجُوبُ الْهَرَبِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ أَوْ بُضْعَهُ ، وَتَعْلِيلُ الرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ الْهَرَبُ ، وَيَدَعُ مَالَهُ إذَا كَانَ الصِّيَالُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ مَالِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْهَرَبُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْبُضْعَ فَقَضِيَّةُ الْبِنَاءِ عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْهَرَبُ ، بَلْ يَثْبُتُ إنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ .

وَلَوْ عُضَّتْ يَدُهُ خَلَّصَهَا بِالْأَسْهَلِ مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ وَضَرْبِ شِدْقَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ فَسَلَّهَا فَنَدَرَتْ أَسْنَانُهُ فَهَدَرٌ .

( وَلَوْ عُضَّتْ يَدُهُ ) أَوْ غَيْرُهَا ( خَلَّصَهَا بِالْأَسْهَلِ مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ ) أَيْ : رَفْعِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى بِلَا جَرْحٍ ( وَضَرْبِ ) أَيْ : أَوْ ضَرْبِ ( شِدْقَيْهِ ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهُمَا جَانِبَا الْفَمِ ( فَإِنْ عَجَزَ ) عَنْ الْأَسْهَلِ ( فَسَلَّهَا فَنَدَرَتْ ) بِنُونٍ : أَيْ : سَقَطَتْ ( أَسْنَانُهُ فَهَدَرٌ ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَكَ } وَلِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُضْمَنُ بِالدَّفْعِ فَالْأَجْزَاءُ أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاضُّ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ؛ لِأَنَّ الْعَضَّ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ .
قَالَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ : إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّخَلُّصَ إلَّا بِهِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ ، نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ وَقَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ فَكِّ اللَّحْيِ وَالضَّرْبِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْفَكُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الضَّرْبِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ؛ لِأَنَّهُ أَسَهْلُ .
وَالثَّانِي الْحَصْرُ فِيمَا ذُكِرَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا ، فَالصَّحِيحُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّخَلُّصَ إلَّا بِبَعْجِ بَطْنِهِ ، أَوْ فَقْءِ عَيْنِهِ ، أَوْ عَصْرِ خُصْيَيْهِ جَازَ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فَلَوْ عَدَلَ عَنْ الْأَخَفِّ مَعَ إمْكَانِهِ ضَمِنَ ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَإِطْلَاقُ كَثِيرِينَ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ سَلَّ يَدَهُ ابْتِدَاءً فَنَدَرَتْ أَسْنَانُهُ كَانَتْ مُهْدَرَةً وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ا هـ .
وَلَا يَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ الْإِنْذَارُ بِالْقَوْلِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي إمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ صُدِّقَ الدَّافِعُ بِيَمِينِهِ ، جَزَمَ بِهِ فِي الْبَحْرِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ :

وَلْيَكُنْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الصَّائِلِ .
فَائِدَةٌ : الْعَضُّ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ إذَا كَانَ بِجَارِحَةٍ ، وَبِظَاءٍ مُعْجَمَةٍ إذَا كَانَ بِغَيْرِهَا : نَحْوُ عَظَّتْ الْحَرْبُ وَعَظَّ الزَّمَانُ .
قَالَتْ عُتْبَةُ أُمُّ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ : لَعَمْرِي لَقِدْمًا عَظَّنِي الدَّهْرُ عِظَةً فَيَا لَيْتَ أَنْ لَا أَمْنَعَ الدَّهْرَ جَائِعًا وَقُولَا لِعَذَا اللَّائِمِ الْيَوْمَ أَعْفِنِي فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَعَضَّ الْأَصَابُعَا .

وَمَنْ نُظِرَ إلَى حُرَمِهِ فِي دَارِهِ مِنْ كَوَّةٍ أَوْ ثَقْبٍ عَمْدًا فَرَمَاهُ بِخَفِيفٍ كَحَصَاةٍ فَأَعْمَاهُ ، أَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ ، بِشَرْطِ عَدَمِ مَحْرَمٍ وَزَوْجَةٍ لِلنَّاظِرِ ، قِيلَ وَاسْتِتَارِ الْحُرَمِ ، قِيلَ : وَإِنْذَارٍ قَبْلَ رَمْيِهِ .

( وَمَنْ نُظِرَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ ( إلَى حُرَمِهِ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ الْمُهْمَلَيْنِ وَبِهَاءِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ لِمَنْ ، وَالْمُرَادُ بِهِنَّ : الزَّوْجَاتُ وَالْإِمَاءُ وَالْمَحَارِمُ ( فِي دَارِهِ ) الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ ( مِنْ كَوَّةٍ ) أَيْ : طَاقَةٍ ، وَمَرَّ فِي الصُّلْحِ أَنَّهَا بِفَتْحِ الْكَافِ ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا ( أَوْ ثَقْبٍ ) بِفَتْحٍ الْمُثَلَّثَةِ أَوَّلِهِ : أَيْ : خَرْقٌ فِي الدَّارِ ، وَقَوْلُهُ ( عَمْدًا ) قَيْدٌ فِي النَّظَرِ ( فَرَمَاهُ ) أَيْ : رَمَى صَاحِبُ الدَّارِ مَنْ نَظَرَ إلَى حُرَمِهِ حَالَ نَظَرِهِ ( بِخَفِيفٍ ) تُقْصَدُ الْعَيْنُ بِمِثْلِهِ ( كَحَصَاةٍ فَأَعْمَاهُ ، أَوْ ) لَمْ يُعْمِهِ ، بَلْ ( أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ ) فَسَرَى الْجَرْحُ ( فَمَاتَ فَهَدَرٌ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَوْ اطَّلَعَ أَحَدٌ فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ : فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ النَّظَرِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ حُرَمُهُ مَسْتُورَةً أَوْ فِي مُنْعَطَفٍ أَمْ لَا ، لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرَهَا عَنْ الْأَعْيُنِ وَإِنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ قَوْلُهُ : وَمَنْ نُظِرَ : الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ عِنْدَ نَظَرِهَا مَا لَا يَجُوزُ ، وَالْخُنْثَى وَالْمُرَاهِقَ وَهُوَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَاهِقُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحُدُودُ فَكَيْفَ يَجُوزُ رَمْيُهُ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّمْيَ لَيْسَ لِلتَّكْلِيفِ بَلْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ ، فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَحْصُلُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : نُظِرَ الْأَعْمَى ، وَمَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُمَا ، إذْ لَيْسَ السَّمْعُ كَالْبَصَرِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ ، وَبِقَوْلِهِ : حُرَمِهِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْمَالِكُ وَحْدَهُ ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا ، وَهُوَ إنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ فَلَهُ الرَّمْيُ ، وَإِلَّا فَلَا

فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَذْرَعِيُّ الرَّمْيَ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَارِّ ، وَمَا إذَا كَانَ فِيهَا خُنْثَى مُشْكِلٌ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْمِيهِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ الْأَقْرَبُ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : يَنْبَغِي تَخْرِيجهُ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَيْهِ ، وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : فِي دَارِهِ رَاجِعٌ لِمَنْ لَهُ الْحُرَمُ .
أَمَّا النَّاظِرُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِع الَّذِي يَطَّلِعُ مِنْهُ مِلْكَهُ أَوْ شَارِعًا أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاطِّلَاعُ ، وَبِقَوْلِهِ مِنْ كَوَّةٍ أَوْ ثَقْبٍ مَا إذَا نَظَرَ مِنْ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ فَلَا يَرْمِيهِ لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ الْكَوَّةِ بِالصَّغِيرَةِ .
أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَكَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ ، وَفِي مَعْنَاهَا الشُّبَّاكُ الْوَاسِعُ الْعَيْنِ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ إلَّا أَنْ يُنْذَرَهُ فَيَرْمِيَهُ كَمَا صَرَّحَ الْحَاوِي الصَّغِيرُ وَغَيْرُهُ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَاتِحُ لِلْبَابِ هُوَ النَّاظِرُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ رَبُّ الدَّارِ مِنْ إغْلَاقِهِ جَازَ الرَّمْيُ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَحُكْمُ النَّظَرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ وَالْمُؤَذِّنِ مِنْ الْمَنَارَةِ كَالْكَوَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ ، إذْ لَا تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ ، وَبِقَوْلِهِ عَمْدًا مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الِاطِّلَاعُ كَأَنْ كَانَ مَجْنُونًا ، أَوْ كَانَ مُخْطِئًا ، أَوْ وَقَعَ نَظَرُهُ اتِّفَاقًا ، فَإِنَّهُ لَا يَرْمِيهِ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ ، فَإِنْ رَمَاهُ وَادَّعَى الْمَرْمِيُّ عَدَمَ الْقَصْدِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ حَصَلَ ، وَالْقَصْدَ بَاطِنٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا ذَهَابٌ إلَى جَوَازِ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ الْقَصْدِ ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ وَهُوَ حَسَنٌ ا هـ .
وَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ ذَهَابًا لِذَلِكَ ، إذْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ تَحَقُّقَ الْأَمْرِ بِقَرَائِنَ يَعْرِفُ بِهَا الرَّامِي قَصْدَ النَّاظِرِ ، وَلَا

يَجُوزُ رَمْيُ مَنْ انْصَرَفَ عَنْ النَّظَرِ كَالصَّائِلِ إذَا رَجَعَ عَنْ صِيَالِهِ ، وَبِقَوْلِهِ : بِخَفِيفِ الثَّقِيلِ كَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالنَّشَّابِ ، وَيَضْمَنُ إنْ رَمَى بِذَلِكَ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ .
نَعَمْ لَوْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ ذَلِكَ جَازَ كَنَظِيرِهِ فِي الصِّيَالِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِالْعَصَا وَلَمْ يَجِدْ إلَّا السَّيْفَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ رَمْيُ عَيْنِهِ ، أَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِرَمْيِهِ بِالْخَفِيفِ اسْتَغَاثَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ غَوْثٍ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَنْشُدَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ لَهُ ضَرْبُهُ بِالسِّلَاحِ وَمَا يَرْدَعَهُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِمْ النَّاظِرَ صُورَتَانِ : الْأُولَى مَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أُصُولِهِ الَّذِينَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلَا حَدَّ قَذْفٍ فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَدٍّ ، فَإِنْ رَمَاهُ وَفَقَأَهُ ضَمِنَ .
الثَّانِيَة مَا إذَا كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَهُ لِخِطْبَةٍ وَنَحْوِهَا بِشَرْطِهِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَلِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ رَمْيُ الْمَالِكِ ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ رَمْيُ الْمُعِيرِ ؟ وَجْهَانِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ بِلَا تَرْجِيحٍ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : الْأَقْوَى الْجَوَازُ وَلَوْ كَانَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ مَسْجِدٍ ، أَوْ شَارِعٍ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ ، أَوْ هُوَ وَأَهْلُهُ فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، وَالْخَيْمَةُ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْبَيْتِ فِي الْبُنْيَانِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ ( بِشَرْطِ عَدَمِ مَحْرَمٍ وَزَوْجَةٍ لِلنَّاظِرِ ) فَإِنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ رَمْيُهُ ، لِأَنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً كَمَا لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ .
تَنْبِيهٌ : الْوَاوُ فِي عِبَارَتِهِ بِمَعْنَى " أَوْ " ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا كَافٍ ، وَمِثْلُ الزَّوْجَةِ الْأَمَةُ ، وَيَرِدُ عَلَى طَرْدِهِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ هُنَاكَ مَتَاعٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُ كَمَا جَزَمَا بِهِ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ

، وَعَلَى عَكْسِهِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ هُنَاكَ مَحْرَمٌ وَلَكِنْ مُتَجَرِّدَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ رَمْيُهُ ، إذْ لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا .
ثُمَّ أَشَارَ لِاعْتِبَارِ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ عَلَى مَرْجُوحٍ .
أَحَدُهُمَا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( قِيلَ : وَ ) بِشَرْطِ عَدَمِ ( اسْتِتَارِ الْحُرَمِ ) فَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ بِالثِّيَابِ ، أَوْ فِي مُنْعَطَفِ لَا يَرَاهُنَّ النَّاظِرُ لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِنَّ ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ النَّظَرِ ، فَقَدْ يُرِيدُ سَتْرَ حُرَمِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( قِيلَ : وَ ) بِشَرْطِ ( إنْذَارٍ ) بِمُعْجَمَةٍ ( قَبْلَ رَمْيِهِ ) عَلَى قِيَاسِ الدَّفْعِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ ، إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْإِنْذَارُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَمَجَالُ التَّرَدُّدِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَوْعِظَةٌ وَتَخْجِيلٌ قَدْ يُفِيدُ وَقَدْ لَا يُفِيدُ .
فَأَمَّا مَا يُوثَقُ بِكَوْنِهِ دَافِعًا مِنْ تَخْوِيفٍ وَزَعْقَةٍ مُزْعِجَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وُجُوبِ الْبَدَاءَةِ خِلَافٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَا حَسَنٌ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : تَصْحِيحُ عَدَمِ وُجُوبِ الْإِنْذَارِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ شَخْصٌ دَارِهِ أَوْ خَيْمَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لَهُ دَفْعَهُ ، وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ إنْذَارِهِ عَلَى الْأَصَحِّ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الدَّفْعِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ رَمْيَ الْمُتَطَلِّعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ كَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ ، وَدَفْعُ الدَّاخِلِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَزِمَ سُلُوكُ مَا يُمْكِنُ ، وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا مَرَّ فِي تَخْلِيصِ الْيَدِ مِنْ عَاضِّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَهْدَرَ ثَنِيَّةَ الْعَاضِّ بِنُزَّعِ الْمَعْضُوضِ يَدَهُ مِنْ .
فِيهِ لَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ وُجُودِ

الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ .

وَلَوْ قَتَلَ شَخْصٌ آخَرَ فِي دَارِهِ وَقَالَ : إنَّمَا قَتَلْتُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِي أَوْ مَالِي وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا ، وَيَكْفِي قَوْلُهَا دَخَلَ دَارِهِ شَاهِرَ السِّلَاحِ ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهَا دَخَلَ بِسِلَاحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ إلَّا إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ضَرْبُ رِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بِهِمَا لِأَنَّهُ دَخَلَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ عُضْوٍ بِعَيْنِهِ .
وَلَوْ أَخَذَ الْمَتَاعَ وَخَرَجَ فَلَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيُقَاتِلَهُ إلَى أَنْ يَطْرَحَهُ ، وَلَا يَجُوزُ دُخُولُ بَيْتِ شَخْصٍ إلَّا بِإِذْنِهِ مَالِكًا كَانَ أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُسْتَعِيرًا ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا ، أَوْ قَرِيبًا غَيْرَ مَحْرَمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنٍ صَرِيحٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ لَا ، وَإِنْ كَانَ مَحْرَمًا فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا مَعَ صَاحِبِهِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْذَانُ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِرَهُ بِدُخُولِهِ بِتَنَحْنُحٍ أَوْ شِدَّةُ وَطْءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فَإِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بِإِذْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ : وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِئْذَانُ .

فُرُوعٌ : لَوْ صَالَ عَبْدٌ مَغْصُوبٌ أَوْ مُسْتَعَارٌ عَلَى الْمَالِكِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا لَمْ يَبْرَأْ كُلٌّ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ مِنْ الضَّمَانِ إذْ لَا أَثَرَ بِقَتْلِهِ دَفْعًا .

وَلَوْ قَطَعَ يَدَ صَائِلٍ دَفْعًا ، وَوَلَّى فَتَبِعَهُ فَقَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَلَّى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَنْقُصُ بِنَقْصِ الْيَدِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ مَنْ لَهُ يَدَانِ مِنْ لَيْسَ لَهْ إلَّا يَدٌ قُتِلَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْهَرَبُ مِنْ فَحْلٍ صَائِلٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَهْرُبْ فَقَتَلَهُ دَفْعًا ضَمِنَ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ .

وَفِي حِلِّ أَكْلِ لَحْمِ الْفَحْلِ الصَّائِلُ الَّذِي تَلِفَ بِالدَّفْعِ إنْ أُصِيبَ مَذْبَحُهُ وَجْهَانِ .
وَجْهُ مَنْعِ الْحِلِّ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الذَّبْحَ وَالْأَكْلَ وَالرَّاجِحُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ الْحِلُّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ .

وَلَوْ عَزَّرَ وَلِيٌّ وَوَالٍ وَزَوْجٌ وَمُعَلَّمٌ فَمَضْمُونٌ .

( وَلَوْ عَزَّرَ وَلِيٌّ ) مَحْجُورَهُ ( وَوَالٍ ) مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ ( وَزَوْجٌ ) زَوْجَتَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نُشُوزٍ وَغَيْرِهِ ( وَمُعَلَّمٌ ) صَغِيرًا يَتَعَلَّمُ وَلَوْ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ( فَمَضْمُونٌ ) تَعْزِيرُهُمْ ، فَإِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ ، فَإِنْ كَانَ بِضَرْبٍ يُقْتَلُ غَالِبًا ، فَالْقِصَاصُ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ ، وَإِلَّا فَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ، إذْ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لَا الْهَلَاكُ ، فَإِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَوْ الرَّائِضِ لِتَعَلُّمِ الرِّيَاضَةِ الضَّرْبَ الْمُعْتَادَ فَهَلَكَتْ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِهَا ، وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِ الْآدَمِيِّ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ فَضَمِنَهُ .
تَنْبِيهٌ : دَخَلَ فِي تَعْبِيرِهِ مَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ كَتَوْبِيخِ غَيْرِ الْحَامِلِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفْيِ وَالصَّفْعَةِ الْخَفِيفَةِ لِذِكْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَالصَّفْعِ وَالتَّوْبِيخِ ، ثُمَّ أَطْلَقَ التَّعْزِيرَ هُنَا مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ قَطْعًا ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ يُخْرِجُ السَّيِّدَ فِي تَعْزِيرِ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، إذْ لَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَكَذَا لَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِغَيْرِهِ فِي ضَرْبِ مَمْلُوكِهِ فَضَرَبَهُ فَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ .
وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الضَّمَانِ مَا إذَا اعْتَرَفَ بِمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَطَلَبَ بِنَفْسِهِ مِنْ الْوَالِي تَعْزِيرَهُ فَعَزَّرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا إذَا عَيَّنَ لَهُ نَوْعَ التَّعْزِيرِ وَقَدْرَهُ ، وَالزَّرْكَشِيُّ : الْحَاكِمُ إذَا عَزَّرَ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْحَقِّ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ ، وَتَسْمِيَةُ

ضَرْبِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ تَعْزِيرًا هُوَ أَشْهُرُ الِاصْطِلَاحَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ .
قَالَ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّ لَفْظَ التَّعْزِيرِ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَضَرْبَ الْبَاقِي بِتَسْمِيَتِهِ تَأْدِيبًا لَا تَعْزِيرًا .

وَلَوْ حَدَّ مُقَدَّرًا فَلَا ضَمَانَ .
( وَلَوْ حَدَّ ) الْإِمَامُ حَيْثُ كَانَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ ( مُقَدَّرًا ) بِنَصٍّ فِيهِ كَحَدِّ قَذْفٍ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ ( فَلَا ضَمَانَ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَلْدُ وَالْقَطْعُ وَسَوَاءٌ جَلَدَهُ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ مُفْرِطَيْنِ أَمْ لَا كَمَا مَرَّ فِي آخِرِ حَدِّ الزِّنَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَمْ لَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا مَعْنَى لِوَصْفِ الْحَدِّ بِالتَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَدَّرًا .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ حَدِّ الشُّرْبِ إذَا بَلَغَ بِهِ ثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي .

وَلَوْ ضُرِبَ شَارِبٌ بِنِعَالٍ وَثِيَابٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَكَذَا أَرْبَعُونَ سَوْطًا عَلَى الْمَشْهُورِ .
( وَلَوْ ضُرِبَ شَارِبٌ بِنِعَالٍ وَثِيَابٍ ) فَمَاتَ ( فَلَا ضَمَانَ ) فِيهِ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ .
وَالثَّانِي يُضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ هَكَذَا بِأَنْ يَتَعَيَّنَ السَّوْطُ ( وَكَذَا أَرْبَعُونَ سَوْطًا ) ضَرَبَهَا الشَّارِبُ الْحُرُّ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً ، وَلِأَنَّهُ جَلْدٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ .
وَالثَّانِي فِيهِ الضَّمَانُ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ بِالْأَرْبَعِينَ كَانَ بِاجْتِهَادٍ ، وَكَذَا عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ } فَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا مَنَعْنَا السِّيَاطَ ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ الْأَصَحِّ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ ضَمِنَ الْجَمِيعُ وَقِيلَ النِّصْفُ .

أَوْ أَكْثَرُ وَجَبَ قِسْطُهُ بِالْعَدَدِ ، وَفِي قَوْلٍ نِصْفُ دِيَةٍ ، وَيَجْرِيَانِ فِي قَاذِفٍ جُلِدَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ .
( أَوْ ) جَلَدَ الْإِمَامُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ ( أَكْثَرُ ) مِنْ أَرْبَعِينَ جَلْدَةٍ فَمَاتَ ( وَجَبَ قِسْطُهُ ) أَيْ الْأَكْثَرُ ( بِالْعَدَدِ ) أَيْ عَدَدِ الْجَلَدَاتِ نَظَرًا لِلزَّائِدِ فَقَطْ ، وَسَقَطَ الْبَاقِي لِأَنَّ الضَّرْبَ يَقَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ ، فَهُوَ قَرِيبُ التَّمَاثُلِ فَيُقَسِّطُ الضَّمَانُ عَلَى عَدَدِهِ ، فَفِي إحْدَى وَأَرْبَعِينَ جَلْدَةً جُزْءٌ مِنْ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ ، وَفِي عَشَرَةٍ خُمْسُ الدِّيَةِ وَهَكَذَا ( وَفِي قَوْلٍ نِصْفُ الدِّيَةِ ) لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ مَضْمُونٍ وَغَيْرِهِ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : لَمْ أَقِفْ عَلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَلَكِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ .
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ الْأَوَّلَ بِأَنَّ حِصَّةَ السَّوْطِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ مَثَلًا لَا تُسَاوِي حِصَّةَ السَّوْطِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ بَدَنًا صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الضَّرْبُ ، بِخِلَافِ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ صَادَفَ بَدَنًا قَدْ ضَعُفَ بِأَرْبَعِينَ ، وَلَكِنَّ الْأَصْحَابَ قَطَعُوا النَّظَرَ عَنْ ذَلِكَ ( وَيَجْرِيَانِ فِي قَاذِفٍ جُلِدَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ ) فَمَاتَ ، فَفِي قَوْلٍ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَالْأَظْهَرُ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : أَحَدًا كَذَا هُوَ فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَذَكَرَهُ لِإِرَادَةِ السَّوْطِ ، وَفِي الْمُحَرَّرِ إحْدَى لِإِرَادَةِ الْجَلْدَةِ وَهُوَ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ : { مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، { ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا ضَرَبَهُ الزَّائِدَ مَعَ بَقَاءِ أَلَمِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ ضَرَبَهُ الْحَدَّ كَامِلًا وَزَالَ أَلَمُ الضَّرْبِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ الزَّائِدُ فَمَاتَ ضَمِنَ دِيَتَهُ كُلَّهَا بِلَا خِلَافٍ .

وَلِمُسْتَقِلٍّ قَطْعُ سِلْعَةٍ إلَّا مَخُوفَةً لَا خَطَرَ فِي تَرْكِهَا ، أَوْ الْخَطَرُ فِي قَطْعِهَا أَكْثَرُ ، وَلِأَبٍ وَجَدٍّ قَطْعُهَا مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ مَعَ الْخَطَرِ إنْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ لَا لِسُلْطَانٍ ، وَلَهُ وَلِسُلْطَانٍ قَطْعُهَا بِلَا خَطَرٍ ، وَفَصْدٌ وَحِجَامَةٌ ، فَلَوْ مَاتَ بِجَائِزٍ مِنْ هَذَا فَلَا ضَمَانَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ فَعَلَ سُلْطَانٌ بِصَبِيٍّ مَا مُنِعَ فَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ

( وَلِمُسْتَقِلٍّ ) بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَلَوْ سَفِيهًا ( قَطْعُ سِلْعَةٍ ) مِنْهُ وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا : خُرَّاجٌ كَهَيْئَةِ الْغُدَّةِ يَخْرُجُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ يَكُونُ مِنْ الْحِمَّصَةِ إلَى الْبِطِّيخَةِ ، وَلَهُ فِعْلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي إزَالَةِ الشِّينِ ( إلَّا ) سِلْعَةً ( مَخُوفَةً ) قَطْعُهَا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَوْ وَاحِدٍ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ( لَا خَطَرَ فِي تَرْكِهَا ) أَصْلًا ( أَوْ الْخَطَرُ فِي قَطْعِهَا أَكْثَرُ ) مِنْهُ فِي تَرْكِهَا فَيُمْتَنَعُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } أَمَّا الَّتِي خَطَرُ تَرْكِهَا أَكْثَرُ أَوْ الْقَطْعُ وَالتَّرْكُ فِيهَا سِيَّانِ ، فَيَجُوزُ لَهُ قَطْعُهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْأُولَى ، وَالْأَصَحُّ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا كَمَا يَجُوزُ قَطْعُهُ لِغَيْرِ الْمَخُوفَةِ لِزِيَادَةِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مَعَ إزَالَةِ الشِّينِ ، وَإِنْ نَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي الْجَوَازِ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا ، وَقَالَ لَوْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ : إنْ لَمْ تَقْطَعْ حَصَلَ أَمْرٌ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ وَجَبَ الْقَطْعُ كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْمُهْلِكَاتِ وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِحْبَابُ ا هـ .
وَهَذَا الثَّانِي أَوْجَهُ ، وَمِثْلُ السِّلْعَةِ فِيمَا ذُكِرَ وَفِيمَا يَأْتِي : الْعُضْوُ الْمُتَأَكِّلُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَيَجُوزُ الْكَيُّ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ لِلْحَاجَةِ ، وَيُسَنُّ تَرْكُهُ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُتَأَلِّمِ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ وَإِنْ عَظُمَ أَلَمُهُ وَلَمْ يُطِقْهُ لِأَنَّ بَرَأَهُ مَرْجُوٌّ ، فَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مُحْرِقٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهُ إلَّا إلَى مَائِعٍ مُغْرِقٍ وَرَآهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى لَفَحَاتِ الْمُحْرِقِ جَازَ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّ لَهُ قَتْلَ

نَفْسِهِ بِغَيْرِ إغْرَاقٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ وَالِدِهِ ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ( وَلِأَبٍ وَجَدٍّ ) وَإِنْ عَلَا ( قَطْعُهَا ) أَيْ السِّلْعَةِ ( مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ مَعَ الْخَطَرِ ) فِيهِ ( إنْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ ) عَلَى خَطَرِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ صَوْنُ مَالِهِمَا عَنْ الضَّيَاعِ فَبَدَنُهُمَا أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ الْمَنْعَ فِيمَا إذَا زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَفِيمَا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ وَهُوَ مَا نَقَلَا تَصْحِيحَهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ فِي الْمُسْتَقِلِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَطْعُ حِينَئِذٍ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ كَمَا قَالَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ ؟ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَطْعَ ثَمَّ مِنْ نَفْسِهِ ، وَهُنَا مِنْ غَيْرِهِ فَاحْتِيطَ فِيهِ ( لَا لِسُلْطَانٍ ) وَلَا لِغَيْرِهِ مَا عَدَا الْأَبَ ، وَالْجَدَّ كَالْوَصِيِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ وَفَرَاغٍ وَشَفَقَةٍ تَامَّيْنِ ، وَكَمَا أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجَ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ وَصِيَّةً جَازَ لَهَا ذَلِكَ وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرٌ ( وَلَهُ ) أَيْ مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَبٍ وَجَدٍّ ( وَلِسُلْطَانٍ ) لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لَا الْأَجْنَبِيِّ ( قَطْعُهَا بِلَا خَطَرٍ ) فِيهِ لِعَدَمِ الضَّرَرِ ، وَنَازَعَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ ، وَقَالَ : إنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ وَجَرَيَا عَلَيْهِ .
أَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِحَالٍ ، فَإِنْ فَعَلَ وَسَرَى إلَى النَّفْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ( وَ ) يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا وَلِبَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ ( فَصْدٌ وَحِجَامَةٌ ) وَنَحْوِهِمَا بِلَا خَطَرٍ عِنْدَ إشَارَةِ الْأَطِبَّاءِ بِذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ الرَّقِيقَ وَالسَّفِيهَ كَالْأَجْنَبِيِّ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ ( فَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ

وَالْمَجْنُونُ ) ( بِجَائِزٍ مِنْ هَذَا ) الْمَذْكُورُ ( فَلَا ضَمَانَ فِي الْأَصَحِّ ) لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ إذَا أَفْضَى إلَى التَّلَفِ ( وَلَوْ فَعَلَ سُلْطَانٌ بِصَبِيٍّ ) أَوْ مَجْنُونٍ ( مَا مُنِعَ ) مِنْهُ فِي حَقِّهِ فَمَاتَ ( فَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ ) لِتَعَدِّيهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا مَعْنَى لِلتَّقْيِيدِ بِالسُّلْطَانِ ، بَلْ الْأَبُ وَالْجَدُّ كَذَلِكَ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِشُبْهَةِ الْإِصْلَاحِ وَلِلْبَعْضِيَّةِ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَدَخَلَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ كَانَ الْخَوْفُ فِي الْقَطْعِ أَكْثَرُ مِنْ التَّرْكِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي هَذِهِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى السُّلْطَانِ .

وَمَا وَجَبَ بِخَطَأِ إمَامٍ فِي حَدٍّ أَوْ حُكْمٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَفِي قَوْلٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
( وَمَا وَجَبَ بِخَطَأِ إمَامٍ فِي حَدٍّ أَوْ حُكْمٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ ) كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ ( وَفِي قَوْلٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّ خَطَأَهُ قَدْ يَكْثُر لِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِالْعَاقِلَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ ، فَإِنْ ظَهَرَ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الْحَامِلِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَالْغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَطْعًا ، وَاحْتُرِزَ بِخَطَئِهِ عَمَّا يَتَعَدَّى فِيهِ فَهُوَ فِيهِ كَآحَادِ النَّاسِ ، وَبِقَوْلِهِ : فِي حَدٍّ أَوْ حُكْمٍ مِنْ خَطَئِهِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ فِيهِ كَآحَادِ النَّاسِ أَيْضًا كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَيُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا فِي مَالِهِ عَلَى الْأَوَّلِ قَطْعًا وَعَلَى الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقَوْلُهُ فِي حُكْمٍ قَدْ يَشْمَلُ التَّعْزِيرَ فَإِنَّهُ كَالْحَدِّ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْخَطَأُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَقَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْجَهُ : يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ .
وَالثَّانِي بَيْتِ الْمَالِ .

وَلَوْ حَدَّهُ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَوْ ، مُرَاهِقَيْنِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي اخْتِبَارِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَالْقَوْلَانِ ، فَإِنْ ضَمَّنَا عَاقِلَةً أَوْ بَيْتَ مَالٍ فَلَا رُجُوعَ عَلَى الذِّمِّيَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَوْ حَدَّهُ ) أَيْ الْإِمَامُ شَخْصًا ( بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا عَبْدَيْنِ ) أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ أَصْلَيْهِ أَوْ فَرْعَيْهِ أَوْ فَاسِقَيْنِ ( أَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَوْ مُرَاهِقَيْنِ ) وَمَاتَ الْمَحْدُودُ نَظَرْتَ ( فَإِنْ قَصَّرَ ) الْإِمَامُ ( فِي اخْتِبَارِهِمَا ) بِأَنْ تَرَكَهُ جُمْلَةً كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ) أَيْ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ إنْ تَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّ الْهُجُومَ عَلَى الْقَتْلِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ وَجَبَ الْمَالُ فَهُوَ عَلَيْهِ أَيْضًا لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَا فِي بَيْتِ الْمَالِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ غَيْرَ مَقْبُولَيْ الشَّهَادَةِ لِشَمْلِ مَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ ، وَلَوْ قَالَ : فَبَانَا كَافِرَيْنِ لَشَمَلَ الْحَرْبِيَّيْنِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا ضَمَانٌ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي اخْتِبَارِهِمَا بَلْ بَحَثَ وَبَذَلَ وُسْعَهُ ( فَالْقَوْلَانِ ) فِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَقَدْ مَرَّ تَوْجِيهِهِمَا وَأَنَّ أَظْهَرَهُمَا الْأَوَّلُ .
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ قَوْلَهُ ( فَإِنْ ضَمَّنَا عَاقِلَةً ) عَلَى الْأَظْهَرِ ( أَوْ بَيْتَ مَالٍ ) عَلَى مُقَابِلِهِ ( فَلَا رُجُوعَ عَلَى الذِّمِّيَّيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ ) وَالْفَاسِقَيْنِ وَالْمُرَاهِقَيْنِ وَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ تَعَدٍّ فِيمَا أَتَوْا بِهِ .
وَالثَّانِي لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ غَرُّوا الْقَاضِي .
وَالثَّالِثُ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ لِلْعَاقِلَةِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُتَجَاهِرِ بِالْفِسْقِ بِمَا غَرِمَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ يُشْعِرُ بِتَدْلِيسٍ مِنْهُ وَتَغْرِيرٍ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُتَجَاهِرِ بِذَلِكَ ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُتَجَاهِرِ لِأَنَّ عَقِيدَتَهُ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ :

أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَهُوَ مَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ قُبَيْلَ الدَّعَاوَى ، لَكِنْ فِي أَصْلِهَا فِي الْقِصَاصِ أَنَّ الْمُزَكِّيَ الرَّاجِعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ فِي الْأَصَحِّ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .

وَمَنْ حَجَمَ أَوْ فَصَدَ بِإِذْنٍ لَمْ يَضْمَنْ .
( وَمَنْ حَجَمَ ) غَيْرَهُ ( أَوْ فَصَدَ ) هـ ( بِإِذْنٍ ) مُعْتَبَرٍ كَقَوْلِ حُرٍّ مُكَلَّفٍ لِحَاجِمٍ اُحْجُمْنِي أَوَافْصِدُنِي فَفَعَلَ وَأَفْضَى لِلتَّلَفِ ( لَمْ يَضْمَنْ ) مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلُهُ أَحَدٌ .
هَذَا إنْ لَمْ يُخْطِئْ ، فَإِنْ أَخْطَأَ ضَمِنَ وَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْخَاتِنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ .

وَقَتْلُ جَلَّادٍ وَضَرْبُهُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ كَمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ إنْ جَهِلَ ظُلْمَهُ وَخَطَأَهُ وَإِلَّا فَالْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ إنْ لَمْ يَكُنْ إكْرَاهٌ .

( وَقَتْلُ جَلَّادٍ وَضَرْبُهُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ كَمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ ) الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ ( إنْ جَهِلَ ) الْجَلَّادُ ( ظُلْمَهُ ) أَيْ الْإِمَامِ ( وَخَطَأَهُ ) فَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِالْإِمَامِ قَوَدًا وَمَالًا لَا بِالْجَلَّادِ لِأَنَّهُ آلَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي السِّيَاسَةِ ، فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْجَلْدَ أَحَدٌ ، لَكِنْ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَهَذَا مِنْ النَّوَادِرِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشِرٌ مُخْتَارٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ عَلِمَ ظُلْمَهُ أَوْ خَطَأَهُ ( فَالْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ ) وَحْدَهُ .
هَذَا ( إنْ لَمْ يَكُنْ ) هُنَاكَ ( إكْرَاهٌ ) مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ لِتَعَدِّيهِ ، إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ لِمَا عَلِمَ الْحَالَ أَنْ يَمْتَنِعَ ، إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةٍ ، نَعَمْ إنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الطَّاعَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ، نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْوَافِي وَأَقَرَّاهُ ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ إكْرَاهٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالْمَالِ قَطْعًا وَبِالْقِصَاصِ عَلَى الْأَظْهَرِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَا ذُكِرَ فِي خَطَأٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ كَقَتْلِ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ وَحُرٍّ بِعَبْدٍ ، فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَوْ اعْتَقَدَ الْإِمَامُ جَوَازَهُ دُونَ الْجَلَّادِ ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ إكْرَاهٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، وَإِلَّا فَعَلَى الْجَلَّادِ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ الْجَوَازَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ الْإِمَامُ الْمَنْعَ وَالْجَلَّادُ الْجَوَازَ ، فَقِيلَ بِبِنَائِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي عَكْسِهِ وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ الْجَلَّادَ مُخْتَارٌ عَالِمٌ بِالْحَالِ وَالْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ ، بَلْ الْقَتْلَ فَقَطْ ، فَالْجَلَّادُ كَالْمُسْتَقِلِّ .
كَذَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَمَا ضَعَّفَهُ جَزَمَ

بِهِ جَمْعٌ ، وَلَوْ أَسْرَفَ الْمُعَزِّرُ مَثَلًا أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْقَتْلِ تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصَّاصُ أَوْ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ فِي مَالِهِ .

وَيَجِبُ خِتَانُ الْمَرْأَةِ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّحْمَةِ بِأَعْلَى الْفَرْجِ ، وَالرَّجُلِ بِقَطْعِ مَا تُغَطِّي حَشَفَتَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ .

( وَيَجِبُ خِتَانُ الْمَرْأَةِ بِجُزْءٍ ) أَيْ قَطْعُهُ ( مِنْ اللَّحْمَةِ ) الْكَائِنَةِ ( بِأَعْلَى الْفَرْجِ ) وَهِيَ فَوْقَ ثُقْبَةِ الْبَوْلِ تُشْبِهُ عُرْفَ الدِّيكِ ، فَإِذَا قُطِعَتْ بَقِيَ أَصْلُهَا كَالنَّوَاةِ ، وَيَكْفِي قَطْعُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ .
قَالَ فِي التَّحْقِيقِ : وَتَقْلِيلُهُ أَفْضَلُ ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِلْخَتَّانَةِ : أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ } : أَيْ أَكْثَرُ لِمَاءِ وَجْهِهَا وَدَمِهِ وَأَحَبُّ لِلْبَعْلِ : أَيْ أَحْسَنُ فِي جِمَاعِهَا ( وَ ) خِتَانُ ( الرَّجُلِ ) ( بِقَطْعِ مَا ) أَيْ جِلْدَةٍ ( تُغَطِّي حَشَفَتَهُ ) حَتَّى تَظْهَرَ كُلُّهَا ، فَلَا يَكْفِي قَطْعُ بَعْضِهَا ، وَيُقَالُ لِتِلْكَ الْجِلْدَةِ الْقُلْفَةُ ، وَقَوْلُهُ ( بَعْدَ الْبُلُوغِ ) ظَرْفٌ لِيَجِبَ وَيَكُونُ بَعْدَ الْعَقْلِ أَيْضًا وَاحْتِمَالِ الْخِتَانِ .
أَمَّا وُجُوبُهُ ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَكَانَ مِنْ مِلَّتِهِ الْخِتَانُ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ اخْتَتَنَ وَعُمْرُهُ ثَمَانُونَ سَنَةً } وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ " مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً " وَقِيلَ سَبْعُونَ سَنَةً ، وَلِأَنَّهُ قَطْعُ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُخَلِّفُ تَعَبُّدًا فَلَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ ، وَاحْتُرِزَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ عَنْ الظُّفْرِ وَالشَّعْرِ ، وَبِالثَّانِي عَنْ الْقَطْعِ لِلْأَكَلَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا مُدَاوَاةٍ ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لِمَا جَازَ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِالْخِتَانِ رَجُلًا أَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ } وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ خَرَجَ إلْقَاءُ الشَّعْرِ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ فِي الْخِتَانِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ ، وَقِيلَ هُوَ سُنَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ : قَدْ أَسْلَمَ النَّاسُ وَلَمْ يَخْتَتِنُوا وَقِيلَ وَاجِبٌ لِلذُّكُورِ سُنَّةٌ لِلْإِنَاثِ .
قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَهُوَ

قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَمَّا كَيْفِيَّتِهِ فَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلَوْ وُلِدَ مَخْتُونًا أَجْزَأَهُ .
فَائِدَةٌ : أَوَّلُ مَنْ اخْتَتَنَ مِنْ الرِّجَالِ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ الْإِنَاثِ هَاجَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا .
تَنْبِيهٌ : خُلِقَ آدَم مَخْتُونًا وَوُلِدَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَخْتُونًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ : شِيثُ ، وَنُوحٌ ، وَهُودٌ ، وَصَالِحٌ ، وَلُوطٌ ، وَشُعَيْبُ ، وَيُوسُفُ ، وَمُوسَى ، وَسُلَيْمَانُ ، وَزَكَرِيَّا ، وَعِيسَى ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَوْقُوفًا { أَنَّ جِبْرِيلَ خَتَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَهَّرَ قَلْبَهُ } وَرَوَى أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم سَابِعَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا } وَخَرَجَ بِالْبَالِغِ الصَّغِيرُ ، وَبِالْعَاقِلِ الْمَجْنُونُ ، وَبِمَنْ يَحْتَمِلُهُ مَنْ لَا يَحْتَمِلُهُ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، وَالثَّالِثِ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ خِتَانُ ضَعِيفِ خِلْقَةٍ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَيُتْرَكُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ مِنْهُ اُسْتُحِبَّ تَأْخِيرُهُ حَتَّى يَحْتَمِلَهُ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَهَذَا شَرْطٌ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ ، وَبِالْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ، فَلَا يَجُوزُ خِتَانُهُ مُطْلَقًا ، لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يَجُوزُ بِالشَّكِّ .
هَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ خِتَانُ فَرْجَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ أَحْسَنَ الْخَتْنَ ، خَتَنَ نَفْسَهُ ، وَإِلَّا ابْتَاعَ أَمَةً تَخْتِنُهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا تَوَلَّاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ كَالطَّبِيبِ ،

وَمَنْ لَهُ ذَكَرَانِ عَامِلَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ خَتْنُهُمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامِلًا فَقَطْ وَجَبَ عَلَيْهِ خَتْنُهُ فَقَطْ ، وَإِنْ شَكَّ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَالْخُنْثَى ، وَهَلْ يُعْرَفُ الْعَمَلُ بِالْجِمَاعِ أَوْ الْبَوْلِ ؟ وَجْهَانِ ، جَزَمَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْغُسْلِ بِالثَّانِي وَرَجَّحَهُ فِي التَّحْقِيقِ .

وَيُنْدَبُ تَعْجِيلُهُ فِي سَابِعِهِ فَإِنْ ضَعُفَ عَنْ احْتِمَالِهِ أُخِّرَ ، وَمَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ لَزِمَهُ قِصَاصٌ إلَّا وَالِدًا ، فَإِنْ احْتَمَلَهُ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ فَلَا ضَمَانَ فِي الْأَصَحِّ .

( وَيُنْدَبُ تَعْجِيلُهُ ) أَيْ الْخِتَانِ ( فِي سَابِعِهِ ) أَيْ يَوْمَ الْوِلَادَةِ ، لِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلَادَتِهِمَا } وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَا يُحْسَبُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مِنْ السَّبْعَةِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ صُحِّحَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُحْسَبُ وَإِنَّمَا حُسِبَ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مِنْهَا فِي الْعَقِيقَةِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَتَسْمِيَةِ الْوَلَدِ لَمَّا فِي الْخَتْنِ مِنْ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِهِ الْمُنَاسِبُ لَهُ التَّأْخِيرُ الْمُفِيدُ لِلْقُوَّةِ عَلَى تَحَمُّلِهِ ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ فِي السَّابِعِ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُطِيقُهُ ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ يَفْعَلُونَهُ فَالْأَوْلَى مُخَالَفَتُهُمْ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِحْيَاءِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُكْرَهُ قَبْلَ السَّابِعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّابِعِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُخْتَنَ فِي الْأَرْبَعِينَ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا ، فَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ( فَإِنْ ضَعُفَ ) الطِّفْلُ ( عَنْ احْتِمَالِهِ ) فِي السَّابِعِ ( أُخِّرَ ) حَتْمًا إلَى أَنْ يَحْتَمِلَهُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ ( وَمَنْ خَتَنَهُ ) مِنْ وَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ( فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ ) فَمَاتَ ( لَزِمَهُ قِصَاصٌ ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِتَعَدِّيهِ بِالْجُرْحِ الْمُهْلِكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَطْعًا فَإِنْ ظَنَّ احْتِمَالَهُ كَأَنْ قَالَ لَهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَحْتَمِلُهُ فَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ ، وَيَجِبُ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ ( إلَّا وَالِدًا ) وَإِنْ عَلَا خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِلْبَعْضِيَّةِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ .
تَنْبِيهٌ : السَّيِّدُ فِي خِتَانِ رَقِيقِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْلِمُ فِي خِتَانِ كَافِرٍ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ( فَإِنْ

احْتَمَلَهُ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ ) فَمَاتَ ( فَلَا ضَمَانَ ) عَلَيْهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالتَّقْدِيمُ أَسْهَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ فَلَمْ يُبَحْ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ .
تَنْبِيهٌ : يَشْمَلُ قَوْلُهُ ( وَلِيٌّ ) الْأَبَ وَالْجَدَّ وَالْحَاكِمَ وَالْقَيِّمَ وَالْوَصِيَّ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ يَضْمَنُ قَطْعًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِتَعَدِّيهِ بِالْمُهْلِكِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إلَّا إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ إقَامَةَ الشِّعَارِ فَلَا يُتَّجَهُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ شُبْهَةً فِي التَّعَدِّي ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي قَطْعِهِ يَدَ السَّارِقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ا هـ وَالْبَالِغُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ مُلْحَقٌ بِالصَّغِيرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْوَافِي ، وَالْمُسْتَقِلُّ إذَا خَتَنَهُ بِإِذْنِهِ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ .

وَأُجْرَتُهُ فِي مَالِ الْمَخْتُونِ .
( وَأُجْرَتُهُ ) أَيْ الْخَتْنِ وَبَاقِي مُؤَنِهِ ( فِي مَالِ الْمَخْتُونِ ) الْحُرِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِهِ فَأَشْبَهَ تَعْلِيمَ الْفَاتِحَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، وَفِي وَجْهٍ أَنَّهَا عَلَى الْوَالِدِ .
أَمَّا الرَّقِيقُ فَأُجْرَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ إنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الْكَسْبِ لَهَا .

تَتِمَّةٌ : يُجْبِرُ الْإِمَامُ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ عَلَى الْخِتَانِ إذَا احْتَمَلَهُ وَامْتَنَعَ مِنْهُ ، وَلَا يَضْمَنُهُ حِينَئِذٍ إنْ مَاتَ بِالْخِتَانِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ ، فَلَوْ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ فَخُتِنَ أَوْ خَتَنَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ فَمَاتَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْأَبِ وَالْجَدِّ نِصْفُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْخِتَانِ وَاجِبٌ وَالْهَلَاكُ حَصَلَ مِنْ مُسْتَحِقٍّ وَغَيْرِهِ ، وَيُفَارِقُ الْحَدَّ بِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ إلَى الْإِمَامِ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَا يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ ، وَالْخِتَانُ يَتَوَلَّاهُ الْمَخْتُونُ أَوْ وَالِدُهُ غَالِبًا .
فَإِذَا تَوَلَّاهُ هُوَ شَرَطَ فِيهِ عَلَيْهِ غَلَبَةَ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ، وَبِذَلِكَ عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَالِدِ فِي الْخِتَانِ ، وَمَنْ مَاتَ بِغَيْرِ خِتَانٍ لَمْ يُخْتَنْ فِي الْأَصَحِّ ، وَقِيلَ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ ، وَقَطْعُ السُّرَّةِ مِنْ الْمَوْلُودِ وَاجِبٌ عَلَى الْوَلِيِّ لِيَمْتَنِعَ الطَّعَامُ مِنْ الْخُرُوجِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ حُكْمًا وَتَعْلِيلًا وَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَفِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ لِابْنِ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ فِي خِتَانِ الذُّكُورِ إظْهَارُهُ وَفِي خِتَانِ الْإِنَاثِ إخْفَاؤُهُ .
.

[ فَصْلٌ ] مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ أَوْ دَوَابَّ ضَمِنَ إتْلَافَهَا نَفْسًا وَمَالًا لَيْلًا وَنَهَارًا .

فَصْلٌ ] فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الْبَهَائِمُ ( مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ أَوْ دَوَابَّ ) سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا ، أَمْ مُسْتَأْجِرًا ، أَمْ مُودَعًا ، أَمْ مُسْتَعِيرًا ، أَمْ غَاصِبًا ( ضَمِنَ إتْلَافَهَا ) بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( نَفْسًا وَمَالًا لَيْلًا وَنَهَارًا ) لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَإِلَّا نُسِبَ إلَيْهَا كَالْكَلْبِ إذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ وَقَتَلَ الصَّيْدَ حَلَّ ، وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا فَجِنَايَتُهَا كَجِنَايَتِهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَائِقَهَا أَمْ قَائِدَهَا أَمْ رَاكِبَهَا ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا ؟ وَجْهَانِ : أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ دُونَ الرَّدِيفِ ؟ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ أَطْلَقُوا الضَّمَانَ لِلنَّفْسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَصْبِ الْحَجَرِ كَمَا نَقَلَاهُ فِي آخَرِ الْبَابِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ ، وَأَفْهَمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفُ مَعَ دَابَّةٍ أَنَّهَا إذَا تَفَلَّتَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا لَا ضَمَانَ وَهُوَ كَذَلِكَ لِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ ، وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ مَا إذَا كَانَتْ مَعَهُ فِي مَسْكَنِهِ فَدَخَلَ فِيهِ إنْسَانٌ فَرَمَحَتْه أَوْ عَضَّتْهُ فَلَا ضَمَانَ ، فَلَوْ قَالَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَرِدْ ، وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ : نَفْسًا وَمَالًا صَيْدَ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَشَجَرَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَيْسَ نَفْسًا وَلَا مَالًا ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا وَهُوَ لَمْ يَقُلْ لِآدَمِيٍّ فَلَا يُرَدُّ ذَلِكَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ

صُوَرٌ : إحْدَاهَا لَوْ أَرْكَبَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ .
ثَانِيهَا لَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا قَيَّدَ الْبَغَوِيّ فَرَمَحَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ ، وَقِيلَ عَلَيْهِمَا .
فَإِنْ أَذِنَ الرَّاكِبُ فِي النَّخْسِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا .
ثَالِثُهَا لَوْ غَلَبَتْهُ دَابَّتُهُ فَاسْتَقْبَلَهَا إنْسَانٌ فَرَدَّهَا فَأَتْلَفَتْ فِي انْصِرَافِهَا شَيْئًا ضَمِنَهُ الرَّادُّ .
رَابِعُهَا : لَوْ سَقَطَتْ الدَّابَّةُ مَيِّتَةً فَتَلِفَ بِهَا شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ هُوَ مَيِّتًا عَلَى شَيْءٍ وَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِسُقُوطِهَا مَيِّتَةً سُقُوطُهَا بِمَرَضٍ أَوْ عَارِضِ رِيحٍ شَدِيدٍ وَنَحْوِهِ .
خَامِسُهَا : لَوْ كَانَ الرَّاكِبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهَا فَعَضَّتْ اللِّجَامُ وَرَكِبَتْ رَأْسَهَا فَهَلْ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ ؟ قَوْلَانِ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ اصْطِدَامُ الرَّاكِبَيْنِ تَرْجِيحُ الضَّمَانِ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ .
سَادِسُهَا : لَوْ كَانَ مَعَ الدَّوَابِّ رَاعٍ فَهَاجَتْ رِيحٌ وَأَظْلَمَ النَّهَارُ فَتَفَرَّقَتْ الدَّوَابُّ وَوَقَعَتْ فِي زَرْعٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِي الْأَظْهَرِ لِلْغَلَبَةِ كَمَا لَوْ نَدَّ بَعِيرُهُ أَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ مِنْ يَدِهِ فَأَفْسَدَتْ شَيْئًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَفَرَّقَتْ الْغَنَمُ لِنَوْمِهِ فَيَضْمَنُ ، وَلَوْ رَكِبَ صَبِيٌّ أَوْ بَالِغٌ دَابَّةَ إنْسَانٍ بِلَا إذْنِهِ فَغَلَبَتْهُ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا ضَمِنَهُ .
قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ الصَّعْبَةَ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ سَاقَ الْإِبِلَ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ فِيهَا ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ لِتَقْصِيرِهِ بِذَلِكَ .

فَرْعٌ : لَوْ انْتَفَخَ مَيِّتٌ فَتَكَسَّرَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْهُ ، بِخِلَافِ طِفْلٍ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِعْلًا بِخِلَافِ الْمَيِّتِ .

وَلَوْ بَالَتْ أَوْ رَاثَتْ بِطَرِيقٍ فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ .
( وَلَوْ بَالَتْ أَوْ رَاثَتْ ) بِمُثَلَّثَةٍ ( بِطَرِيقٍ ) وَلَوْ وَاقِفَةً ( فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ ) لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْ الطَّرِيقِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : مَا جَزَمَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ كَذَا هُوَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا ، وَخَالَفَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَجَزَمَا فِيهِ بِالضَّمَانِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَإِخْرَاجِ الْجُنَاحِ وَالرَّوْشَن إلَى الطَّرِيقِ ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ ، وَالْأَوَّلُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ فَإِنَّهُ نَقَلَ فِي بَابِ وَضْعِ الْحَجَرِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ ضَمِنَ مَا تُتْلِفُهُ بِبَوْلِهَا فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ ، ثُمَّ أَبْدَى احْتِمَالًا لِنَفْسِهِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ ، ثُمَّ إنَّهُ جَرَى عَلَى احْتِمَالِهِ هُنَا وَجَزَمَ بِهِ فَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا جَزَمَ بِهِ هُنَا تَبَعًا لِلْإِمَامِ لَا يُنْكَرُ اتِّجَاهُهُ ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ نَقَلَهُ ا هـ .
وَمِنْ هُنَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : عَدَمُ الضَّمَانِ فِيمَا تَلِفَ بِرَكْضٍ مُعْتَادٍ بَحْثٌ لِلْإِمَامِ بَنَاهُ عَلَى احْتِمَالِهِ الْمَذْكُورِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ الضَّمَانُ ، وَإِطْلَاقُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ قَاضِيَةٌ بِهِ ا هـ .
ثُمَّ مَحَلُّ الضَّمَانِ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمَارُّ ، فَلَوْ مَشَى قَصْدًا عَلَى مَوْضِعِ الرَّشِّ أَوْ الْبَوْلِ فَتَلِفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا هُنَاكَ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِطَرِيقٍ عَمَّا لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ مُوجِبَاتِ الدِّيَةِ .

( وَيَحْتَرِزُ ) رَاكِبُ الدَّابَّةِ ( عَمَّا لَا يُعْتَادُ ) فِعْلُهُ لَهُ ( كَرَكْضٍ شَدِيدٍ فِي وَحَلٍ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ ( فَإِنْ خَالَفَ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ) لِتَعَدِّيهِ ، وَفِي مَعْنَى الرَّكْضِ فِي الْوَحَلِ الرَّكْضُ فِي مُجْتَمَعِ النَّاسِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْبَسِيطِ ، وَاحْتَرَزَ بِالرَّكْضِ الشَّدِيدِ عَنْ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ فِيهِ ، فَلَا يَضْمَنُ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، فَلَوْ رَكَضَهَا كَالْعَادَةِ رَكْضًا وَمَحِلًّا وَطَارَتْ حَصَاةٌ لِعَيْنِ إنْسَانٍ لَمْ يَضْمَنْ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هَذَا التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَةِ الْإِمَامِ .
أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ فَيَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : عَمَّا لَا يُعْتَادُ يَقْتَضِي أَنَّ سَوْقَ الْأَغْنَامِ لَا يَضْمَنُ بِتَلَفِهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ فِي الْغَنَمِ دُونَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ إطْلَاقُ الْحُكْمِ فِي الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ .

وَيَحْتَرِزُ عَمَّا لَا يَعْتَادُ كَرَكْضٍ شَدِيدٍ فِي وَحْلٍ فَإِنْ خَالَفَ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، وَمَنْ حَمَلَ حَطَبًا عَلَى ظَهْرِهِ ، أَوْ بَهِيمَةٍ فَحَكَّ بِنَاءً فَسَقَطَ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ دَخَلَ سُوقًا فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ ضَمِنَ إنْ كَانَ زِحَامٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَتَمَزَّقَ ثَوْبٌ فَلَا ، إلَّا ثَوْبَ أَعْمَى وَمُسْتَدْبِرِ الْبَهِيمَةِ فَيَجِبُ تَنْبِيهُهُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الْمَالِ ، فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ وَضَعَهُ بِطَرِيقٍ أَوْ عَرَّضَهُ لِلدَّابَّةِ فَلَا .

( وَمَنْ حَمَلَ حَطَبًا عَلَى ظَهْرِهِ ، أَوْ ) عَلَى ( بَهِيمَةٍ ) لَيْلًا أَوَنَهَارًا ( فَحَكَّ بِنَاءً ) لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ( فَسَقَطَ ضَمِنَهُ ) لِوُجُودِ التَّلَفِ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ دَابَّتِهِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْهَدْمِ وَلَمْ يَتْلَفْ مِنْ الْآلَةِ شَيْءٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا سَقَطَ فِي الْحَالِ ، فَلَوْ وَقَفَ سَاعَةً ثُمَّ سَقَطَ فَكَمِنْ أَسْنَدَ خَشَبَةٌ إلَى جِدَارِ الْغَيْرِ فَلَا يَضْمَنُ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يُنْسَبْ السُّقُوطُ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ ( وَإِنْ دَخَلَ سُوقًا ) مَثَلًا بِذَلِكَ الْحَطَبُ ( فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ ضَمِنَ ) مَا تَلِفَ بِهِ ( إنْ كَانَ ) هُنَاكَ ( زِحَامٌ ) بِكَسْرِ الزَّايِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مُسْتَقْبِلًا أَمْ مُسْتَدْبِرًا لِإِتْيَانِهِ بِمَا لَا يُعْتَادُ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) زِحَامٌ ( وَتَمَزَّقَ ) بِهِ ( ثَوْبٌ ) مَثَلًا ( فَلَا ) يَضْمَنُهُ ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ صَاحِبِ الثَّوْبِ ، إذْ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ ( إلَّا ثَوْبَ أَعْمَى ) وَلَوْ مُقْبِلًا ( وَ ) إلَّا ثَوْبَ ( مُسْتَدْبِرِ الْبَهِيمَةِ فَيَجِبُ تَنْبِيهُهُ ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يُنَبِّهْهُ ضَمِنَهُ لِتَقْصِيرِهِ .
وَإِنْ نَبَّهَهُ وَأَمْكَنَهُ الِاحْتِرَازُ وَلَمْ يَحْتَرِزْ فَلَا ضَمَانَ ، وَأَلْحَقَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ بِمَا إذَا لَمْ يُنَبِّهْهُ مَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ ، وَيُلْحَقُ بِالْأَعْمَى مَعْصُوبَ الْعَيْنِ لِرَمَدٍ وَنَحْوِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ضَمَانِ جَمِيعِ الثَّوْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الثَّوْبِ جَذْبٌ ، فَإِنْ عَلَّقَ الثَّوْبَ فِي الْحَطَبِ فَجَذَبَهُ صَاحِبُهُ وَجَذَبَتْهُ الْبَهِيمَةُ فَعَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ نِصْفُ الضَّمَانِ كَلَاحِقٍ وَطِئَ مَدَاسٍ سَابِقٍ فَانْقَطَعَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الضَّمَانِ ، لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ السَّابِقِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنْ انْقَطَعَ مُؤَخِّرُ السَّابِقِ فَالضَّمَانُ عَلَى

اللَّاحِقِ ، أَوْ مُقَدَّمُ مَدَاسِ اللَّاحِقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّابِقِ ، وَلَوْ دَخَلَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الزِّحَامِ وَتَوَسَّطَ السُّوقَ فَحَدَثَ الزِّحَامُ ، فَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إلْحَاقُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ زِحَامٌ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ ، كَمَا لَوْ حَدَثَتْ الرِّيحُ وَأَخْرَجَتْ الْمَالَ مِنْ الثُّقْبِ لَا قَطْعَ فِيهِ ، بِخِلَافِ تَعْرِيضِهِ لِلرِّيحِ الْهَابَّةِ ، وَقَيَّدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْبَصِيرَ الْمُقْبِلَ بِمَا إذَا وُجِدَ مُنْحَرِفًا .
وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْهُ لِضِيقٍ وَعَدَمِ عَطْفَةٍ يَضْمَنُ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّحَامِ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ( وَ ) صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ ( إنَّمَا يَضْمَنُهُ ) أَيْ مَا أَتْلَفَتْهُ بَهِيمَتُهُ ( إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الْمَالِ ) فِيهِ ( فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ وَضَعَهُ ) أَيْ الْمَالَ ( بِطَرِيقٍ أَوْ عَرَّضَهُ لِلِدَّابَّةِ فَلَا ) يَضْمَنُهُ فَإِنَّهُ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ مَا إذَا كَانَ يَمْشِي مِنْ جِهَةٍ وَحِمَارُ الْحَطَبِ مِنْ أُخْرَى فَمَرَّ عَلَى جَانِبِ الْحِمَارِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحِمَارَ فَتَعَلَّقَ ثَوْبُهُ بِالْحَطَبِ وَتَمَزَّقَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّائِقِ ، لِأَنَّهُ جَنَى بِمُرُورِهِ عَلَى الْحَطَبِ .
تَنْبِيهٌ : قَسِيمُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ سَابِقًا مَنْ كَانَ مَعَهُ دَابَّةٌ قَوْلُهُ هُنَا .

وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ وَحْدَهَا فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا ، أَوْ لَيْلًا ضَمِنَ ، إلَّا أَنْ لَا يُفَرِّطَ فِي رَبْطِهَا .

( وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ وَحْدَهَا فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا ، أَوْ لَيْلًا ضَمِنَ ) لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا بِخِلَافِهِ نَهَارًا لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إرْسَالَ الْبَهَائِمِ أَوْ حِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْ مُطْلَقًا .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ نَهَارًا صُوَرٌ : إحْدَاهَا : مَا إذَا رَبَطَ الدَّابَّةَ فِي الطَّرِيقِ عَلَى بَابِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَإِشْرَاعِ الْجُنَاحِ .
نَعَمْ إنْ رَبَطَهَا فِي الْمُتَّسَعِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِيهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ ، قَالَهُ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ ثَانِيهَا : مَا إذَا كَانَتْ الْمَرَاعِي مُتَوَسِّطَةً الْمَزَارِعَ ، وَكَانَتْ الْبَهَائِمُ تَرْعَى فِي حَرِيمِ السَّوَّاقِي فَيَجِبُ ضَمَانُ مَا تُفْسِدُهُ إذَا أَرْسَلَهَا بِلَا رَاعٍ عَلَى الْمَذْهَبِ لِاعْتِيَادِ الرَّعْيِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
ثَالِثُهَا : مَا إذَا أَخْرَجَهَا عَنْ زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ غَيْرِهِ فَأَتْلَفَتْهُ ضَمِنَهُ ، إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِيَ مَالَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ مَحْفُوفَةً بِمَزَارِعِ النَّاسِ وَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهَا إلَّا بِإِدْخَالِهَا مَزْرَعَةَ غَيْرِهِ تَرَكَهَا فِي زَرْعِهِ وَغَرِمَ صَاحِبُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ .
رَابِعُهَا : مَا إذَا أَرْسَلَهَا فِي الْبَلَدِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ مُطْلَقًا لِمُخَالِفَةِ الْعَادَةَ .

خَامِسُهَا : مَا لَوْ تَكَاثَرَتْ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ حَتَّى عَجَزَ أَصْحَابُ الزَّرْعِ عَنْ حِفْظِهَا فَحَكَى فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهَيْنِ : رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ مِنْهُمَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى أَصْحَابِ الْمَوَاشِي لِخُرُوجِ هَذَا عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عَلَى الْأَصَحِّ .
سَادِسُهَا : مَا لَوْ أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فِي مَوْضِعٍ مَغْصُوبٍ فَانْتَشَرَتْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَأَفْسَدَتْهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى مَنْ أَرْسَلَهَا وَلَوْ كَانَ نَهَارًا ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ : إنَّهُ إذَا خَلَّاهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا فَهُوَ مَضْمُونٌ ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إرْسَالِهَا .
سَابِعُهَا : لَوْ أَرْسَلَ الدَّابَّةَ الْمَوْدُوعَةَ فَأَتْلَفَتْ وَلَوْ نَهَارًا لَزِمَ الْمُرْسِلَ الضَّمَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَجِيرٌ يَحْفَظُهَا .
ثَامِنُهَا : لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفَظُ دَوَابَّهُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى الْأَجِيرِ الضَّمَانُ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيّ ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا فِي الْوَقْتَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ : وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْفَظُهُ الْمُلَّاكُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْأَجِيرُ وَالْمُودَعُ إذَا أَتْلَفَتْ نَهَارًا ؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ حِفْظَهُ نَهَارًا ، وَتَفْرِيطُ الْأَجِيرِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ يَضْمَنُهُ ا هـ .
وَحَيْثُ وَجَبَ الضَّمَانُ فَهُوَ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَمْ يُعَلِّقُوا الضَّمَانَ بِرَقَبَةِ الْبَهَائِمِ كَمَا عَلَّقُوهُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيمَا تُتْلِفُهُ الْبَهِيمَةُ يُحَالُ عَلَى تَقْصِيرِ صَاحِبِهَا وَالْعَبْدُ ذُو ذِمَّةٍ يَلْتَزِمُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ الدَّوَابِّ الْحَمَّامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الطُّيُورِ فَلَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا كَمَا حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ

إرْسَالُهَا ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النَّحْلُ ، وَقَدْ أَفْتَى الْبُلْقِينِيُّ فِي نَحْلٍ لِإِنْسَانٍ قَتَلَ جَمَلًا لِآخَرَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ صَاحِبَ النَّحْلِ لَا يُمْكِنُهُ ضَبْطُهُ وَالتَّقْصِيرُ مِنْ صَاحِبِ الْجَمَلِ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ تَضْمِينِ الْمَالِكِ لَيْلًا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ لَا يُفَرِّطَ ) صَاحِبُ الدَّابَّةِ ( فِي رَبْطِهَا ) لَيْلًا بِأَنْ أَحْكَمَهُ فَانْحَلَّ ، أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَيْهَا فَفَتَحَهُ لِصٌّ ، أَوْ انْهَدَمَ الْجِدَارُ فَخَرَجَتْ لَيْلًا فَأَتْلَفَتْ زَرْعَ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ خَلَّاهَا فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهَا مِنْهُ إلَى الْمَنْزِلِ لَيْلًا كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ .

أَوْ حَضَرَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَتَهَاوَنَ فِي دَفْعِهَا ، وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي مَحُوطٍ لَهُ بَابٌ تَرْكِهِ مَفْتُوحًا فِي الْأَصَحِّ .
( أَوْ ) فَرَّطَ فِي رَبْطِهَا لَكِنْ ( حَضَرَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَتَهَاوَنَ فِي دَفْعِهَا ) عَنْهُ حَتَّى أَتْلَفَتْهُ فَلَا يَضْمَنُ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِالْجَزْمِ بِهِ لِتَفْرِيطِهِ ، فَإِنْ كَانَ زَرْعُهُ مَحْفُوفًا بِمَزَارِعِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهَا إلَّا بِإِدْخَالِهَا مَزْرَعَةَ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقِيَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ ، بَلْ يَصْبِرُ وَيَغْرَمُ صَاحِبُهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ( وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي ) مَكَانٍ ( مَحُوطٍ لَهُ بَابٌ تَرْكِهِ ) صَاحِبُهُ ( مَفْتُوحًا ) فَلَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا وَلَوْ لَيْلًا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِعَدَمِ غَلْقِهِ .
وَالثَّانِي يَضْمَنُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْعَادَةِ فِي رَبْطِهَا لَيْلًا .

فُرُوعٌ : لَوْ أَلْقَتْ الرِّيحُ فِي حِجْرِهِ ثَوْبًا مَثَلًا فَأَلْقَاهُ ضَمِنَهُ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَلْيُسَلِّمْهُ إلَى الْمَالِكِ وَلَوْ إلَى نَائِبِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَالْحَاكِمِ .

، وَلَوْ دَخَلَتْ دَابَّةُ الْغَيْرِ مِلْكَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا لِمَالِكِهَا إلَّا إنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي سَيَّبَهَا فَلْيُحْمَلْ قَوْلُهُمْ فِيمَا مَرَّ : أَخْرَجَهَا مِنْ زَرْعِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ زَرْعُهُ مَحْفُوفًا بِزَرْعِ غَيْرِهِ عَلَى مَا إذَا سَيَّبَهَا الْمَالِكُ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُسَيِّبْهَا فَيَضْمَنُهَا مُخْرِجُهَا ، إذْ حَقُّهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمَالِكِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَإِلَى الْحَاكِمِ .

وَلَوْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ سَطْحِ غَيْرِهِ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ فِي مِلْكِهِ فَدَفَعَهُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى وَقَعَ خَارِجَ مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ .

وَيَدْفَعُ صَاحِبُ الزَّرْعِ الدَّابَّةَ عَنْ زَرْعِهِ دَفْعَ الصَّائِلِ ، فَإِنْ تَنَحَّتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ شَغَلَهَا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يُبِيحُ إضَاعَةَ مَالِ غَيْرِهِ .

وَلَوْ دَخَلَتْ دَابَّةٌ مِلْكَهُ فَرَمَحَتْه فَمَاتَ فَكَإِتْلَافِهَا زَرْعَهُ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلَوْ حَمَلَ مَتَاعَهُ فِي مَفَازَةٍ عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ وَغَابَ فَأَلْقَاهُ الرَّجُلُ عَنْهَا ، أَوْ أَدْخَلَ دَابَّتَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ زَرْعِهِ فَوْقَ قَدْرِ الْحَاجَةِ فَضَاعَتْ فَفِي الضَّمَانِ عَلَيْهِ لَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْجَهُ : لَا لِتَعَدِّي الْمَالِكِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَوْجَهُ الثَّانِي وَهُوَ الضَّمَانُ لِتَعَدِّي الْفَاعِلِ بِالتَّضْيِيعِ .

وَهِرَّةٌ تُتْلِفُ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا إنْ عُهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا ضَمِنَ مَالِكُهَا فِي الْأَصَحِّ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَصَحِّ .

( وَهِرَّةٌ تُتْلِفُ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا ) أَوْ غَيْرَهُ ( إنْ عُهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا ضَمِنَ مَالِكُهَا ) أَيْ صَاحِبُهَا الَّذِي يُؤْوِيهَا مَا أَتْلَفَتْهُ ( فِي الْأَصَحِّ لَيْلًا ) كَانَ ( أَوْ نَهَارًا ) كَمَا يَضْمَنُ مُرْسِلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مَا يُتْلِفُهُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا ، وَكَذَا كُلُّ حَيَوَانٍ مُولَعٍ بِالتَّعَدِّي كَالْجَمَلِ وَالْحِمَارِ اللَّذَيْنِ عُرِفَا بِعَقْرِ الدَّوَابِّ وَإِتْلَافِهَا .
وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِرَبْطِهَا .
وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْمُفْسِدُ مِمَّا يُرْبَطُ عَادَةً فَتَرَكَهُ ضَمِنَ مَا يُتْلِفُهُ قَطْعًا ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْمُرَادُ تَعَهُّدُ الْمَالِكِ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ مِنْهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُقَصِّرٌ بِإِرْسَالِهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَعْهَدْ مِنْهَا إتْلَافَ مَا ذُكِرَ ( فَلَا ) يَضْمَنُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْعَادَةَ حِفْظُ الطَّعَامِ عَنْهَا لَا رَبْطُهَا .
وَالثَّانِي يَضْمَنُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ كَالدَّابَّةِ ، وَلَوْ هَلَكَتْ فِي الدَّفْعِ عَنْ حَمَّامٍ وَنَحْوِهِ فَهَدَرٌ لِصِيَالِهَا ، وَلَوْ أَخِذَتْ حَمَامَةً وَهِيَ حَيَّةٌ جَازَ فَتْلُ أُذُنِهَا وَضَرْبُ فَمهَا لِتُرْسِلَهَا فَتُدْفَعُ دَفْعَ الصَّائِلٍ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ ، وَلَوْ صَارَتْ ضَارِيَةً مُفْسِدَةً فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهَا .
حَالَ سُكُونِهَا ؟ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ضَرَاوَتَهَا عَارِضَةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْهَا سَهْلٌ ، وَجَوَّزَ الْقَاضِي قَتْلَهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا إلْحَاقًا لَهَا بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فَيَجُوزُ قَتْلُهَا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ ظُهُورِ الشَّرِّ ، وَلَا يَجْرِي الْمِلْكُ عَلَيْهَا ، وَلَا أَثَرَ لِلْيَدِ وَالِاخْتِصَاصِ فِيهَا .
تَنْبِيهٌ : سَكَتُوا عَنْ ضَبْطِ الْعَادَةِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَمَا فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ دَخَلَتْ بَقَرَةٌ مَثَلًا مُسَيَّبَةٌ مِلْكَ شَخْصٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَوْضِعٍ يَعْسُرُ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ مِنْهُ فَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا .

، وَلَوْ ضَرَبَ شَجَرَةً فِي مِلْكِهِ لِيَقْطَعَهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ تَسْقُطُ عَلَى غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْهُ الْقَاطِعُ بِهِ فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ فَأَتْلَفَتْهُ ضَمِنَهُ وَإِنْ دَخَلَ مِلْكَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاطِعُ بِذَلِكَ أَوْ عَلِمَ بِهِ وَعَلِمَ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَيْضًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَكِنْ أَعْلَمَهُ الْقَاطِعُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ .

، وَلَوْ حَلَّ قَيْدَ دَابَّةِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا تُتْلِفُهُ كَمَا لَوْ نَقَبَ الْحِرْزَ وَأَخَذَ الْمَالَ غَيْرُهُ ، .

وَسُئِلَ الْقَفَّالُ عَنْ حَبْسِ الطُّيُورِ فِي أَقْفَاصٍ لِسَمَاعِ أَصْوَاتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَأَجَابَ بِالْجَوَازِ إذَا تَعَهَّدَهَا مَالِكُهَا بِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ ، لِأَنَّهَا كَالْبَهِيمَةِ تُرْبَطُ .

، وَلَوْ كَانَ بِدَارِهِ كَلْبٌ عَقُورٌ أَوْ دَابَّةٌ جَمُوحٌ وَدَخَلَهَا شَخْصٌ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِالْحَالِ فَعَضَّهُ الْكَلْبُ أَوْ رَمَحَتْهُ الدَّابَّةُ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ بَصِيرًا أَوْ دَخَلَهَا بِلَا إذْنٍ أَوْ أَعْلَمَهُ بِالْحَالِ فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ .

وَلَوْ أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ الْمُسْتَعَارَةُ أَوْ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا زَرْعًا مَثَلًا لِمَالِكِهَا ضَمِنَهُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْبَائِعُ ، لِأَنَّهَا فِي يَدِهِمَا ، أَوْ أَتْلَفَتْ مِلْكَ غَيْرِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِلْبَائِعِ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا لِلدَّابَّةِ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَهُ وَيَصِيرُ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ .

كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ كِفَايَةٍ ، وَقِيلَ عَيْنٍ

كِتَابُ السِّيَرِ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ ، جَمْعُ سِيرَةٍ بِسُكُونِهَا ، وَهِيَ السُّنَّةُ وَالطَّرِيقَةُ ، وَغَرَضُهُ مِنْ التَّرْجَمَةِ ذِكْرُ الْجِهَادِ وَأَحْكَامِهِ ، وَعَدَلَ عَنْ التَّرْجَمَةِ بِهِ أَوْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ إلَى السِّيَرِ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مُتَلَقٍّ مِنْ سَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَخَبَرِ مُسْلِمٍ { لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَةً فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، فَلْنَذْكُرْ نُبْذَةً مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ فَنَقُولُ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَمَضَانَ ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ ، وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ بَعْدَهَا قِيلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ ، وَقِيلَ ابْنُ عَشْرٍ ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ ، وَقِيلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، ثُمَّ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ .
وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالدُّعَاءِ إلَى التَّوْحِيدِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَمِّلِ ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا ، ثُمَّ نُسِخَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ ، وَقِيلَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِخَمْسٍ أَوْ سِتٍّ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ

الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ فُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ تَقْرِيبًا ، وَفُرِضَتْ الزَّكَاةُ بَعْدَ الصَّوْمِ ، وَقِيلَ قَبْلَهُ .
وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ مِنْ الْهِجْرَةِ حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ ، وَفِيهَا فُرِضَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَفِيهَا ابْتَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ ، ثُمَّ عِيدِ الْأَضْحَى .
ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ ، وَلَمْ يَحُجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعًا ، وَ ( كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَعْدَ الْهِجْرَةِ ( فَرْضَ كِفَايَةٍ ) أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَبِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ : فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فَفَاضَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْقَاعِدِينَ ، وَوَعَدَ كُلًّا الْحُسْنَى ، وَالْعَاصِي لَا يُوعَدُ بِهَا ، وَلَا يُفَاضَلُ بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَأْزُورٍ ، وَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَكَانَ مَمْنُوعًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ } الْآيَةَ ، ثُمَّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ مَبْعَثِهِ ، وَقِيلَ بَعْدَ عَشْرَةٍ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ إذَا اُبْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } ثُمَّ أُبِيحَ لَهُ ابْتِدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } الْآيَةَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَرْطٍ وَلَا زَمَانٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وَقَدْ غَزَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51