كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

الْوَاقِفِ فِعْلٌ ، فَإِنْ وُجِدَ بِأَنْ انْحَرَفَ إلَى الْمَاشِي لَمَّا قَرُبَ مِنْهُ فَأَصَابَهُ فِي انْحِرَافِهِ وَمَاتَا فَهُمَا كَمَاشِيَيْنِ اصْطَدَمَا ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْحَرَفَ عَنْهُ فَأَصَابَهُ فِي انْحِرَافِهِ أَوْ انْحَرَفَ إلَيْهِ فَأَصَابَهُ بَعْدَ تَمَامِ انْحِرَافِهِ ، فَحُكْمُهُ لَوْ كَانَ وَاقِفًا لَا يَتَحَرَّكُ ، وَالْقَائِمُ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ أَوْ ضَيِّقٍ لِغَرَضٍ فَاسِدٍ : كَسَرِقَةٍ أَوْ أَذًى كَالْقَاعِدِ فِي ضَيِّقٍ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ يَضُرُّ بِالْمَارِّ كَانَ كَالْجُلُوسِ فَيَضْمَنُ بِهِ دِيَةَ الْعَاثِرِ ، وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ وَالِاضْطِجَاعُ لَا يَضُرُّهُمْ فَكَالْقِيَامِ ، فَلَوْ عَثَرَ الْمَاشِي بِوَاقِفٍ أَوْ قَاعِدٍ أَوْ نَائِمٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ مُسْتَحِقِّ مَنْفَعَتِهِ فَهَلَكَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَالْمَاشِي ضَامِنٌ وَمُهْدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ دُونَهُمْ فَلَيْسُوا بِضَامِنِينَ وَلَا مُهْدِرِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُهْدَرُ الْمَاشِي إنْ دَخَلَ بِلَا إذْنٍ مِمَّنْ ذُكِرَ ، فَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنٍ لَمْ يُهْدَرْ ، وَلَوْ وَقَفَ أَوْ قَعَدَ أَوْ نَامَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ تَعَدِّيًا فَعَثَرَ بِهِ الْمَالِكُ وَهُوَ مَاشٍ فَهُوَ هَدَرٌ لِتَعَدِّيهِ .
تَتِمَّةٌ : الْمَسْجِدُ لِقَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ فِيهِ ، وَكَذَا نَائِمٌ مُعْتَكِفٌ فِيهِ كَالْمِلْكِ لَهُمْ .
فَعَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ دِيَتُهُمْ وَهُوَ مُهْدَرٌ وَلِنَائِمٍ فِيهِ غَيْرِ مُعْتَكِفٍ وَقَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ فِيهِ لِمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ كَالطَّرِيقِ فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ كَمَا مَرَّ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَضْمِينِ وَاضِعِ الْقُمَامَةِ وَالْحَجَرِ وَالْحَافِرِ وَالْمُدَحْرِجِ وَالْعَاثِرِ وَغَيْرِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ بِالدِّيَةِ أَوْ بَعْضِهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ .

[ فَصْلٌ ] اصْطَدَمَا بِلَا قَصْدٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ .
فَصْلٌ : فِيمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الضَّمَانِ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ ، إذَا ( اصْطَدَمَا ) أَيْ حُرَّانِ كَامِلَانِ رَاكِبَانِ أَوْ مَاشِيَانِ أَوْ رَاكِبٌ وَمَاشٍ طَوِيلٌ سَوَاءٌ أَكَانَا مُقْبِلَيْنِ أَوْ مُدْبِرَيْنِ أَمْ أَحَدُهُمَا مُقْبِلًا وَالْآخَرُ مُدْبِرًا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ إطْلَاقُهُ وَإِنْ قَيَّدَ الرَّافِعِيُّ بِالْمُدْبِرَيْنِ ، وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ الِاصْطِدَامَ بِقَوْلِهِ ( بِلَا قَصْدٍ ) كَاصْطِدَامِ أَعْمَيَيْنِ ، أَوْ غَافِلَيْنِ ، أَوْ كَانَا فِي ظُلْمَةٍ لِيَشْمَلَ مَا إذَا غَلَبَتْهُمَا الدَّابَّتَانِ ، وَسَيَأْتِي مُحْتَرَزُهُ فِي كَلَامِهِ ، وَاسْتُفِيدَ تَقْيِيدُ الِاصْطِدَامِ بِالْحُرَّيْنِ مِنْ قَوْلِهِ ( فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ ) مِنْهُمَا ( نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ ) أَمَّا كَوْنُهُ نِصْفَ دِيَةٍ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ هَلَكَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ فَيُهْدَرُ النِّصْفُ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ مَعَ جِرَاحَةِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَا مُنْكَبَّيْنِ أَوْ مُسْتَلْقِيَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا وَالْآخَرُ مُسْتَلْقِيًا اتَّفَقَ الْمَرْكُوبَانِ كَفَرَسَيْنِ أَوْ لَا كَفَرَسٍ وَبَعِيرٍ وَبَغْلٍ اتَّفَقَ سَيْرُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ كَأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْدُو وَالْآخَرُ يَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ .

وَإِنْ قَصَدَا فَنِصْفُهَا مُغَلَّظَةٌ ، أَوْ أَحَدُهُمَا فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَى كُلٍّ كَفَّارَتَيْنِ ، وَإِنْ مَاتَا مَعَ مَرْكُوبَيْهِمَا فَكَذَلِكَ ، وَفِي تَرِكَةِ كُلٍّ نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ الْآخَرِ ، وَصَبِيَّانِ أَوْ مَجْنُونَانِ كَكَامِلَيْنِ ، وَقِيلَ إنْ أَرْكَبَهُمَا الْوَلِيُّ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ ، وَلَوْ أَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ ضَمِنَهُمَا وَدَابَّتَيْهِمَا .

( وَإِنْ قَصَدَا ) جَمِيعًا الِاصْطِدَامَ ( فَنِصْفُهَا مُغَلَّظَةٌ ) عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِوَرَثَةِ الْآخَرِ .
أَمَّا كَوْنُهَا نِصْفَ دِيَةٍ فَلِمَا مَرَّ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْقَتْلَ حِينَئِذٍ شِبْهُ عَمْدٍ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الِاصْطِدَامَ لَا يُفْضِي إلَى الْمَوْتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ( أَوْ ) قَصَدَ ( أَحَدُهُمَا ) الِاصْطِدَامَ دُونَ الْآخَرِ وَمَاتَا ( فَلِكُلٍّ ) مِنْهُمَا ( حُكْمُهُ ) مِنْ التَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ ذَلِكَ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ إحْدَى الدَّابَّتَيْنِ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِحَرَكَتِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِحَرَكَتِهَا حُكْمٌ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ فِي جِلْدَةِ الْعَقِبِ مَعَ الْجِرَاحَاتِ الْعَظِيمَةِ ، نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَوَاءٌ أَكَانَ أَحَدُ الرَّاكِبَيْنِ عَلَى فِيلٍ وَالْآخَرُ عَلَى كَبْشٍ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِحَرَكَةِ الْكَبْشِ مَعَ حَرَكَةِ الْفِيلِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي الْمَاشِيَيْنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ ( وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَى كُلٍّ ) مِنْهُمَا فِي تَرِكَتِهِ ( كَفَّارَتَيْنِ ) إحْدَاهُمَا لِقَتْلِ نَفْسِهِ وَالْأُخْرَى لِقَتْلِ صَاحِبِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إهْلَاكِ نَفْسَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَجَزَّأُ ، وَأَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ .
وَالثَّانِي عَلَى كُلٍّ كَفَّارَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَتَجَزَّأُ ( وَإِنْ مَاتَا مَعَ مَرْكُوبَيْهِمَا فَكَذَلِكَ ) الْحُكْمُ دِيَةٌ وَكَفَّارَةٌ ( وَ ) يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ( فِي تَرِكَةِ كُلٍّ ) مِنْهُمَا ( نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ الْآخَرِ ) أَيْ مَرْكُوبِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِتْلَافِ مَعَ هَدْرِ فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَقَدْ يَجِيءُ التَّقَاصُّ فِي ذَلِكَ وَلَا

يَجِيءُ فِي الدِّيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَرَثَتَهُ وَعُدِمَتْ الْإِبِلُ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّتَانِ لَهُمَا ، فَإِنْ كَانَتَا لِغَيْرِهِمَا كَالْمُعَارَتَيْنِ وَالْمُسْتَأْجَرَتَيْنِ لَمْ يُهْدَرْ مِنْهُمَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَ وَنَحْوَهُ مَضْمُونٌ ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجَرُ وَنَحْوُهُ إذَا أَتْلَفَهُ ذُو الْيَدِ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا فِي السَّفِينَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : إنْ كَانَتَا لَهُمَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّابَّتَيْنِ وَالسَّفِينَتَيْنِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمُقَدَّمِ وَإِطْلَاقُ الْمُؤَخَّرِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ .
أَمَّا غَيْرُ الْحُرَّيْنِ الْكَامِلَيْنِ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُمَا عَلَى الْأَثَرِ .
فُرُوعٌ : لَوْ كَانَ مَعَ كُلٍّ مِنْ الْمُصْطَدِمَيْنِ بَيْضَةٌ ، وَهِيَ مَا تُجْعَلُ عَلَى الرَّأْسِ فَكُسِرَتْ ، فَفِي الْبَحْرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ بَيْضَةِ الْآخَرِ ، وَلَوْ تَجَاذَبَا حَبْلًا لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا فَانْقَطَعَ وَسَقَطَا وَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ وَهُدِرَ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ الْآخَرِ سَوَاءٌ أَسَقَطَا مُنْكَبَّيْنِ أَمْ مُسْتَلْقِيَيْنِ ، أَمْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا وَالْآخَرُ مُسْتَلْقِيًا ، فَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُهُمَا فَمَاتَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ لَهُمَا ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بِإِرْخَاءِ الْآخَرِ الْحَبْلَ فَنِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَهُدِرَ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَبْلُ لِأَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ ظَالِمٌ فَالظَّالِمُ هَدَرٌ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ دِيَةِ الْمَالِكِ ، وَلَوْ كَانَ شَخْصٌ يَمْشِي فَوَقَعَ مَدَاسُهُ عَلَى مُؤَخَّرِ مَدَاسِ غَيْرِهِ وَتَمَزَّقَ لَزِمَهُ نِصْفُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَزَّقَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ ( وَصَبِيَّانِ أَوْ مَجْنُونَانِ ) أَوْ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ فِي اصْطِدَامِهِمْ ( كَكَامِلَيْنِ ) فِيمَا سَبَقَ فِيهِمَا وَمِنْهُ التَّغْلِيظُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ

، وَهُوَ الْأَصَحُّ إنْ كَانَا مُمَيِّزَيْنِ ، هَذَا إنْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا ، وَكَذَا إنْ أَرْكَبَهُمَا وَلِيُّهُمَا لِمَصْلَحَتِهِمَا وَكَانَا مِمَّنْ يَضْبِطُ الْمَرْكُوبَ ( وَقِيلَ ) وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( إنْ أَرْكَبَهُمَا الْوَلِيُّ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَجَوَازُهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ كَمَا لَوْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ مَا إذَا أَرْكَبَهُمَا لِزِينَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ غَيْرِ مُهِمَّةٍ ، فَإِنْ أَرْهَقَتْ إلَى إرْكَابِهِمَا حَاجَةٌ كَنَقْلِهِمَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَطْعًا ، قَالَا وَمَحَلُّهُ أَيْضًا عِنْدَ ظَنِّ السَّلَامَةِ ، فَإِنْ أَرْكَبَهُمَا الْوَلِيُّ دَابَّةً شَرِسَةً جَمُوحًا ضَمِنَ الْوَلِيُّ لِتَعَدِّيهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِيمَنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَلَوْ أَرْكَبَهُ دَابَّةً هَادِيَةً وَهُوَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ تَضْمِينِ الْوَلِيِّ مَا إذَا كَانَا غَيْرَ مُمَيِّزَيْنِ كَابْنِ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ فَأَرْكَبَهُمَا الْوَلِيُّ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنْ لَا يُنْسَبَ الْوَلِيُّ إلَى تَقْصِيرٍ فِي تَرْكِ مَنْ يَكُونُ مَعَهُمَا مِمَّنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِرْسَالِهِ مَعَهُمَا .
قَالَ : وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ هُنَا وَلِيُّ الْحَضَانَةِ الذَّكَرُ ، لَا وَلِيُّ الْمَالِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَبَسَطَ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي التَّكْمِلَةِ : يُشْبِهُ أَنَّهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ مِنْ أَبٍ وَغَيْرِهِ خَاصٍّ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ فِي الْخَادِمِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلِيُّ الْمَالِ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَلَامُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَلَوْ أَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ ) بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ وَلَوْ لِمَصْلَحَتِهِمَا (

ضَمِنَهُمَا وَدَابَّتَيْهِمَا ) لِتَعَدِّيهِ بِإِرْكَابِهِمَا ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ : إطْلَاقُهُ تَضْمِينَ الْأَجْنَبِيِّ مَا لَوْ تَعَمَّدَ الصَّبِيَّانِ الِاصْطِدَامَ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْوَسِيطِ يُحْتَمَلُ إحَالَةُ الْهَلَاكِ عَلَيْهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَمْدَهُمَا عَمْدٌ ، وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخَانِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ ضَعِيفَةٌ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ شَيْخِي ، وَقَوْلُهُ : ضَمِنَهُمَا وَدَابَّتَيْهِمَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ الضَّمَانُ الْأَوَّلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالثَّانِي عَلَيْهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ ضَمَانَ الْمُرْكِبِ بِذَلِكَ ثَابِتٌ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيَّانِ مِمَّنْ يَضْبِطَانِ الرُّكُوبَ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ نَصِّ الْأُمِّ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا كَمَا لَوْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا ، وَجَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ أَخْذًا مِنْ النَّصِّ الْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَإِنْ وَقَعَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ ضَمِنَهُ الْمُرْكِبُ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إرْكَابُهُ لِغَرَضٍ مِنْ فُرُوسِيَّةٍ وَنَحْوِهَا أَوْ لَا وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَجْنَبِيِّ ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ إذَا أَرْكَبَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ وَكَانَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَقَوْلُ الْمُتَوَلِّي : لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْأَجْنَبِيِّ حَمَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَا إذَا أَرْكَبَ بِإِذْنٍ مُعْتَبَرٍ .

أَوْ حَامِلَانِ وَأَسْقَطَتَا فَالدِّيَةُ كَمَا سَبَقَ ، وَعَلَى كُلٍّ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ نِصْفُ غُرَّتَيْ جَنِينَيْهِمَا .
( أَوْ ) اصْطَدَمَ ( حَامِلَانِ وَأَسْقَطَتَا ) بِأَنْ أَلْقَتَا جَنِينَيْهِمَا وَمَاتَتَا ( فَالدِّيَةُ كَمَا سَبَقَ ) مِنْ وُجُوبِ نِصْفِهَا عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِهْدَارِ النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ مَنْسُوبٌ إلَى فِعْلِهِمَا ( وَعَلَى ) أَيْ وَيَجِبُ فِي تَرِكَةِ ( كُلٍّ ) مِنْ الْحَامِلَيْنِ ( أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عَلَى الصَّحِيحِ ) بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ كَفَّارَةٌ لِنَفْسِهَا ، وَثَانِيَةٌ لِجَنِينِهَا ، وَثَالِثَةٌ لِصَاحِبَتِهَا ، وَرَابِعَةٌ لِجَنِينِهَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي إهْلَاكِ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ .
وَالثَّانِي تَجِبُ كَفَّارَتَانِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَعَلَى التَّجَزِّي ( وَ ) يَجِبُ ( عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ ) مِنْهُمَا ( نِصْفُ غُرَّتَيْ جَنِينَيْهِمَا ) نِصْفُ غُرَّةٍ لِجَنِينِهَا وَنِصْفُ غُرَّةٍ لِجَنِينِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا وَجَبَتْ الْغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا كَمَا لَوْ جَنَتْ عَلَى حَامِلٍ أُخْرَى وَلَا يُهْدَرُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْءٌ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نِصْفُهَا وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا كَمَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا بِخِلَافِ أَنْفُسِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ قَدْ يُوهِمُ وُجُوبَ رَقِيقٍ وَاحِدٍ نِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَاكَ ، وَعِبَارَةُ ابْنِ يُونُسَ لَهُ أَنْ يُسَلَّمَ نِصْفُ رَقِيقٍ عَنْ وَاحِدٍ وَنِصْفُ رَقِيقٍ عَنْ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ نِصْفُ غُرَّةٍ لِهَذَا وَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْأُخْرَى .

أَوْ عَبْدَانِ فَهَدَرٌ

( أَوْ ) اصْطَدَمَ ( عَبْدَانِ ) وَمَاتَا ( فَهَدَرٌ ) سَوَاءٌ مَاتَا مَعًا بِهَذَا الِاصْطِدَامِ أَمْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ قَبْلَ إمْكَانِ بَيْعِهِ ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قِيمَتُهُمَا أَمْ اخْتَلَفَتْ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ الْإِهْدَارِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : الْمَغْصُوبَانِ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ فِدَاءُ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهُمَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ، الثَّانِيَةُ إذَا أَوْصَى أَوْ وَقَفَ عَلَى أَرْشِ مَا يَجْنِيهِ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ مِنْهُ لِسَيِّدِ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُ قِيمَةِ عَبْدِهِ ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، لَكِنَّهُ فِقْهٌ وَاضِحٌ .
الثَّالِثَةُ : مَا إذَا امْتَنَعَ بَيْعُهُمَا كَأَنْ كَانَا ابْنَيْ مُسْتَوْلَدَتَيْنِ ، أَوْ مَوْقُوفَتَيْنِ ، أَوْ مَنْذُورًا إعْتَاقُهُمَا فَلَا يُهْدَرَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَالْمُسْتَوْلَدَتَيْنِ ، وَحُكْمُ الْمُسْتَوْلَدَتَيْنِ أَنَّ عَلَى سَيِّدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَدْرَ النِّصْفِ الَّذِي جَنَتْ عَلَيْهِ مُسْتَوْلَدَتُهُ لِلْآخَرِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بِاسْتِيلَادِهَا مَنَعَ بَيْعَهَا .
الرَّابِعَةُ : الْمُسْتَوْلَدَتَانِ أَيْضًا ، وَاسْتِثْنَاءُ هَذِهِ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى رَأْيِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ يَشْمَلُ الْأَمَةَ .
أَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَنِصْفُ قِيمَتِهِ فِي رَقَبَةِ الْحَيِّ ، وَكَذَا نِصْفُ قِيمَةِ مَا كَانَ مَعَهُ إنْ تَلِفَ أَيْضًا وَإِنْ أَثَّرَ فِعْلُ الْمَيِّتِ فِي الْحَيِّ نَقْصًا تَعَلَّقَ غُرْمُهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَةِ الْحَيِّ وَجَاءَ التَّقَاصُّ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ ، وَإِنْ اصْطَدَمَ عَبْدٌ وَحُرٌّ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَنِصْفُ قِيمَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَيُهْدَرُ الْبَاقِي أَوْ مَاتَ الْحُرُّ فَنِصْفُ دِيَتِهِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ مَاتَا مَعًا فَنِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ فَاتَتْ فَتَتَعَلَّقُ الدِّيَةُ بِبَدَلِهَا فَيَأْخُذُ

السَّيِّدُ مِنْ الْعَاقِلَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لِلْوَرَثَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ .

أَوْ سَفِينَتَانِ فَكَدَابَّتَيْنِ ، وَالْمَلَّاحَانِ كَرَاكِبَيْنِ إنْ كَانَتَا لَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَالُ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ كُلًّا نِصْفُ ضَمَانِهِ ، وَإِنْ كَانَتَا لِأَجْنَبِيٍّ لَزِمَ كُلًّا نِصْفُ قِيمَتِهِمَا .

( أَوْ ) اصْطَدَمَ ( سَفِينَتَانِ ) وَغَرِقَتَا ( فَكَدَابَّتَيْنِ ) اصْطَدَمَتَا وَمَاتَتَا فِي حُكْمِهِمَا السَّابِقِ ( وَالْمَلَّاحَانِ ) فِيهِمَا تَثْنِيَةُ مَلَّاحٍ ، وَهُوَ النُّوتِيُّ صَاحِبُ السَّفِينَةِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِجْرَائِهِ السَّفِينَةَ عَلَى الْمَاءِ الْمِلْحِ ، حُكْمُهُمَا ( كَرَاكِبَيْنِ ) مَاتَا بِاصْطِدَامٍ فِي حُكْمِهِمَا السَّابِقِ ( إنْ كَانَتَا ) أَيْ السَّفِينَتَانِ وَمَا فِيهِمَا ( لَهُمَا ) فَيُهْدَرُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ سَفِينَةٍ وَنِصْفُ بَدَلِ مَا فِيهَا ، فَإِنْ مَاتَا بِذَلِكَ لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَّارَتَانِ كَمَا سَبَقَ وَلَزِمَ عَاقِلَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ كَوْنِ الْمَلَّاحَيْنِ كَالرَّاكِبَيْنِ مَا إذَا قَصَدَ الْمَلَّاحَانِ الِاصْطِدَامَ بِمَا يَعُدُّهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مُهْلِكًا مُغْرِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ دِيَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَرِكَةِ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْمُصْطَدِمَيْنِ فَإِنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بِمَا صَدَرَ مِنْ الْمُتَعَمِّدِ دُونَ الْآخَرِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَيِّ بِنَاءً عَلَى إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ مَنْ يُقْتَلَانِ بِهِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ بِذَلِكَ ، فَلَوْ تَعَدَّدَ الْغَرْقَى قُتِلَ بِوَاحِدٍ وَوَجَبَ فِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَاتِ الْبَاقِينَ وَضَمَانُ الْكَفَّارَاتِ بِعَدَدِ مَنْ أَهْلَكَا ، وَإِنْ كَانَ الِاصْطِدَامُ لَا يُعَدُّ مُهْلِكًا غَالِبًا وَقَدْ يُهْلِكُ فَشِبْهُ عَمْدٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَلَّاحَانِ صَبِيَّيْنِ وَأَقَامَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ فِي السَّفِينَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنْ الصَّبِيَّيْنِ هُنَا هُوَ الْمُهْلِكُ ( فَإِنْ ) كَانَتْ السَّفِينَتَانِ لَهُمَا وَ ( كَانَ فِيهِمَا مَالُ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ كُلًّا ) مِنْهُمَا ( نِصْفُ ضَمَانِهِ ) سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَالُ فِي يَدِ مَالِكِهِ وَهُوَ السَّفِينَةُ أَمْ لَا لِتَعَدِّيهِمَا ،

وَيَتَخَيَّرُ الْأَجْنَبِيُّ بَيْنَ أَخْذِ جَمِيعِ بَدَلِ مَالِهِ مِنْ أَحَدِ الْمَلَّاحِينَ ثُمَّ هُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ مِنْهُ وَنِصْفَهُ مِنْ الْآخَر ، فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحَانِ رَقِيقَيْنِ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِمَا ( وَإِنْ كَانَتَا لِأَجْنَبِيٍّ ) وَالْمَلَّاحَانِ فِيهِمَا أَمِينَيْنِ أَوْ أَجِيرَيْنِ لِلْمَالِكِ ( لَزِمَ كُلًّا نِصْفُ قِيمَتِهِمَا ) لِأَنَّ مَالَ الْأَجْنَبِيِّ لَا يُهْدَرُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيَتَخَيَّرُ كُلٌّ مِنْ الْمَالِكَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ مِنْ مَلَّاحِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ بِنِصْفِهَا عَلَى الْمَلَّاحِ الْآخَرِ ، أَوْ يَأْخُذُ نِصْفَهَا مِنْهُ وَنِصْفَهَا مِنْ الْمَلَّاحِ الْآخَرِ ، فَلَوْ كَانَ الْمَلَّاحَانِ رَقِيقَيْنِ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ هَذَا التَّفْصِيلِ إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ بِفِعْلِهِمَا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَصَّرَا فِي الضَّبْطِ ، أَوْ سَيْرًا فِي رِيحٍ شَدِيدٍ ، فَإِنْ حَصَلَ الِاصْطِدَامُ بِغَلَبَةِ الرِّيحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَظْهَرِ ، بِخِلَافِ غَلَبَةِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ الضَّبْطَ ثَمَّ مُمْكِنٌ بِاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا بِيَمِينِهِمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي أَنَّهُمَا غُلِبَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِمَا وَإِنْ تَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَرَّطَ دُونَ الْآخَرِ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَرْبُوطَةً فَالضَّمَانُ عَلَى مُجْرِي السَّائِرَةِ .

تَتِمَّةٌ : لَوْ خَرَقَ شَخْصٌ سَفِينَتَهُ عَامِدًا خَرْقًا يُهْلِكُ غَالِبًا كَالْخَرْقِ الْوَاسِعِ الَّذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ فَغَرِقَ بِهِ إنْسَانٌ فَالْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْخَارِقِ ، وَإِنْ خَرَقَهَا لِإِصْلَاحِهَا أَوْ لِغَيْرِ إصْلَاحِهَا لَكِنْ لَا يُهْلِكُ غَالِبًا فَشِبْهُ عَمْدٍ ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ حَجَرٌ أَوْ غَيْرُهُ فَخَرَقَهَا أَوْ أَصَابَ بِالْآلَةِ غَيْرَ مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ ، وَلَوْ ثُقِّلَتْ سَفِينَةٌ بِتِسْعَةِ أَعْدَالٍ فَأَلْقَى إنْسَانٌ فِيهَا عَاشِرًا عُدْوَانًا فَغَرِقَتْ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْكُلَّ ؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ حَصَلَ بِثِقَلِ الْجَمِيعِ وَهَلْ يَضْمَنُ النِّصْفَ أَوْ الْعُشْرَ ؟ وَجْهَانِ : كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْجِلْدِ إذَا زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ ، ذَكَرَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَقَضِيَّتُهُ تَرْجِيحُ الْعُشْرِ .

وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى غَرَقٍ جَازَ طَرْحُ مَتَاعِهَا ، وَيَجِبُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ ، فَإِنْ طَرَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ ضَمِنَهُ ، وَإِلَّا فَلَا .

( وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى غَرَقٍ ) وَفِيهَا مَتَاعٌ وَرَاكِبٌ ( جَازَ ) لِرَاكِبِهَا ( طَرْحُ مَتَاعِهَا ) فِي الْبَحْرِ حِفْظًا لِلرُّوحِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ طَرْحُ جَمِيعِ الْمَتَاعِ وَهُوَ كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ غَرَقُهَا إلَّا بِهِ ، فَإِنْ انْدَفَعَ بِطَرْحِ بَعْضِهِ وَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ ( وَيَجِبُ ) طَرْحُهُ ( لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ ) الْمُحْتَرَمِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ .
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ : تَعْبِيرُهُ بِالْمَتَاعِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْقَاءَ الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يَجِبُ إلْقَاءُ الْحَيَوَانِ وَلَوْ مُحْتَرَمًا لِسَلَامَةِ آدَمِيٍّ مُحْتَرَمٍ إنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ إلْقَائِهِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ لَمْ يَجُزْ إلْقَاؤُهُ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ أَسْرَى مِنْ الْكُفَّارِ وَظَهَرَ لِلْأَمِيرِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِمْ فَيَبْدَأُ بِإِلْقَائِهِمْ قَبْلَ الْأَمْتِعَةِ وَقَبْلَ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ أَيْضًا أَنْ يُرَاعِيَ فِي الْإِلْقَاءِ الْأَخَسَّ فَالْأَخَسَّ قِيمَةً مِنْ الْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ إنْ أَمْكَنَ حِفْظًا لِلْمَالِ مَا أَمْكَنَ .
الثَّانِي لَا يَجُوزُ إلْقَاء الْأَرِقَّاءِ لِسَلَامَةِ الْأَحْرَارِ ، بَلْ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ فِيمَا ذُكِرَ ، وَإِنْ لَمْ يُلْقِ مَنْ لَزِمَهُ الْإِلْقَاءُ حَتَّى غَرِقَتْ السَّفِينَةُ فَهَلَكَ بِهِ شَيْءٌ أَثِمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُطْعِمْ مَالِكُ الطَّعَامِ الْمُضْطَرَّ حَتَّى مَاتَ .
الثَّالِثُ لَمْ يُمَيِّزْ الْمُصَنِّفُ حَالَةَ الْوُجُوبِ مِنْ حَالَةِ الْجَوَازِ ، وَقَوْلُهُ : لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ ، إنْ كَانَ تَعْلِيلًا لِلْمَسْأَلَتَيْنِ فَكَيْفَ تَصْلُحُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الْوَاحِدَةُ لِلْجَوَازِ تَارَةً وَلِلْوُجُوبِ أُخْرَى ؟ .
وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فَقَطْ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْجَوَازُ بِدُونِ ذَلِكَ ؟ وَالْقِيَاسُ الْوُجُوبُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ إنَّ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ إذَا جَازَ

وَجَبَ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي ذَلِكَ : إنْ حَصَلَ هَوْلٌ خِيفَ مِنْهُ الْهَلَاكُ مَعَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ جَازَ الْإِلْقَاءُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ وَإِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ بِالطَّرْحِ وَجَبَ .
ثُمَّ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُمْ : إنَّهُ يُطْرَحَ الْأَخَفُّ قِيمَةً وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَتْ الْحِيرَةُ فِي عَيْنِ الْمَطْرُوحِ لِلْمَلَّاحِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى إذْنِ صَاحِبِهِ فَقَدْ لَا يَأْذَنُ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمَالِكِ فِي حَالِ الْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ ، فَلَوْ كَانَتْ لِمَحْجُورٍ لَمْ يَجُزْ إلْقَاؤُهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ وَيَجِبُ فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ مَرْهُونَةً أَوْ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ ، أَوْ لِمُكَاتَبٍ ، أَوْ لِعَبْدٍ مَأْذُونٍ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَجَبَ إلْقَاؤُهَا فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ وَامْتَنَعَ فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، أَوْ السَّيِّدِ وَالْمُكَاتَبِ ، أَوْ السَّيِّدِ وَالْمَأْذُونِ وَالْغُرَمَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنْ أَلْقَى الْوَلِيُّ فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ بَعْضَ أَمْتِعَةِ مَحْجُورِهِ لِيَسْلَمَ بِهِ بَاقِيهَا فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ فِيمَا لَوْ خَافَ الْوَلِيُّ اسْتِيلَاءَ غَاصِبٍ عَلَى الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا لِتَخْلِيصِهِ جَوَازَهُ هُنَا ، وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ إلْقَاءُ الْمَالِ وَلَوْ مَالَهُ بِلَا خَوْفٍ ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ ( فَإِنْ طَرَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ ) مِنْهُ وَلَوْ فِي حَالِ الْخَوْفِ ( ضَمِنَهُ ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْجِئَهُ إلَى إتْلَافِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَكَلَ الْمُضْطَرُّ طَعَامَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( وَإِلَّا ) أَيْ بِأَنْ طَرَحَهُ بِإِذْنِهِ ، أَوْ أَلْقَى مَالَ نَفْسِهِ ، وَلَوْ اخْتَصَّ الْخَوْفُ بِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ بِالشَّطِّ أَوْ بِزَوْرَقٍ ( فَلَا ) ضَمَانَ لِلْإِذْنِ الْمُبِيحِ فِي الْأُولَى ، وَلِإِلْقَائِهِ مَالَ

نَفْسِهِ فِي الثَّانِيَة ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَمَا مَرَّ ، وَفَارَقَتْ هَذِهِ حِينَئِذٍ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إذَا أَطْعَمَهُ مَالِكُ الطَّعَامِ قَهْرًا بِأَنَّ الْمُطْعِمَ ثَمَّ دَافِعٌ لِلتَّلَفِ لَا مَحَالَةَ ، بِخِلَافِ الْمُلْقِي .

وَلَوْ قَالَ : أَلْقِ مَتَاعَك وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ضَمِنَهُ .
( وَلَوْ قَالَ ) شَخْصٌ لِآخَرَ فِي سَفِينَةٍ ( أَلْقِ مَتَاعَك ) فِي الْبَحْرِ ( وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ) لَهُ ، أَوْ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ فَأَلْقَاهُ فِيهِ ( ضَمِنَهُ ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْتَمِسِ فِيهَا شَيْءٌ وَلَمْ تَحْصُلْ النَّجَاةُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ إتْلَافًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُهُ ، كَمَا إذَا قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَكَ وَعَلَيَّ كَذَا ، أَوْ طَلِّقْ زَوْجَتَكَ ، أَوْ أَطْلِقْ الْأَسِيرَ ، أَوْ اُعْفُ عَنْ الْقِصَاصِ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا ، أَوْ عَلَى أَنْ أُعْطِيَك كَذَا فَأَجَابَ سُؤَالَهُ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ الْمَعْرُوفِ وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ الِافْتِدَاءُ مِنْ الْهَلَاكِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا الْجَائِعَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يُشِيرَ إلَى مَا يُلْقِيهِ ، أَوْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُ وَإِلَّا فَلَا يَضْمَنُ إلَّا مَا يُلْقِيهِ بِحَضْرَتِهِ مَمْنُوعٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَلْقِ فَلَا عَلَى الْمَذْهَبِ
فَرْعٌ : لَوْ أَلْقَى الْمَتَاعَ شَخْصٌ أَجْنَبِيٌّ بَعْدَ الضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَدْعَى ، وَكَذَا لَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ ، وَلَا بُدَّ فِي الضَّمَانِ مِنْ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الِالْتِزَامِ فَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ لَمْ يَضْمَنُ ( وَلَوْ اقْتَصَرَ ) الْمُلْتَمِسُ ( عَلَى ) قَوْلِهِ ( أَلْقِ ) مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ فَأَلْقَاهُ ( فَلَا ) ضَمَانَ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ ، وَفِي وَجْهٍ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي فِيهِ الضَّمَانُ كَقَوْلِهِ : أَدِّ دَيْنِي فَأَدَّاهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ بَرِئَ قَطْعًا ، وَالْإِلْقَاءُ قَدْ لَا يَنْفَعُهُ .
تَنْبِيهٌ : هَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِإِلْقَاءِ مَالِهِ أَعْجَمِيًّا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَةِ آمِرِهِ أَوْ لَا فَرْقَ ؟ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ عَدَمُ الْفَرْقِ ، لَكِنَّهُمْ فِي مَوَاضِعَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ ا هـ وَالْفَرْقُ أَوْجَهُ وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ .

وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مُلْتَمِسٌ لِخَوْفِ غَرَقٍ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ نَفْعُ الْإِلْقَاءِ بِالْمُلْقِي .
وَلَوْ أَلْقَى صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرُّكْبَانِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالَةٍ يَجِبُ فِيهَا الْإِلْقَاءُ ( وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مُلْتَمِسٌ ) مِنْ مَالِكِهِ طَرْحَ مَتَاعِهِ ( لِخَوْفِ غَرَقٍ ) لِلسَّفِينَةِ فَفِي حَالَةِ الْأَمْنِ لَا ضَمَانَ ، سَوَاءٌ أَقَالَ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ أَمْ لَا : كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : اهْدِمْ دَارَكَ أَوْ أَحْرِقْ مَتَاعَكَ فَفَعَلَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْخَوْفُ وَلَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : يَنْبَغِي تَخْرِيجُ خِلَافٍ فِيهِ مِنْ تَنْزِيلِ الْمُتَوَقَّعِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الضَّمَانِ ، ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِشَرْطِ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ ( وَلَمْ يَخْتَصَّ نَفْعُ الْإِلْقَاءِ بِالْمُلْقِي ) وَهُوَ مَالِكُ الْمَتَاعِ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْغَرَقِ غَيْرُهُ ، وَهَذَا صَادِقٌ بِسِتِّ صُوَرٍ : الْأُولَى أَنْ يَخْتَصَّ النَّفْعُ بِالْمُلْتَمِسِ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعُودَ لَهُ وَلِمَالِكِ الْمَتَاعِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِهِمَا .
الرَّابِعَةُ : أَنْ يَخْتَصَّ بِمَالِكِ الْمَتَاعِ وَأَجْنَبِيٍّ .
الْخَامِسَةُ : أَنْ يَعُودَ لِلْمُلْتَمِسِ وَأَجْنَبِيٍّ .
السَّادِسَةُ : أَنْ يَعُمَّ الثَّلَاثَةَ ، وَفِي جَمِيعهَا يَضْمَنُ الْمُلْتَمِسُ وَلَمْ يُصَرِّحَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ بِالثَّانِيَةِ وَلَا السَّادِسَةِ ، أَمَّا إذَا اخْتَصَّ نَفْعُ الْإِلْقَاءِ بِالْمُلْقِي وَحْدَهُ بِأَنْ أَشْرَفَتْ سَفِينَتُهُ عَلَى الْغَرَقِ وَفِيهَا مَتَاعُهُ ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ الشَّطِّ أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَأَلْقَاهُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ لِحِفْظِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عِوَضًا : كَمَا لَوْ قَالَ لِلْمُضْطَرِّ : كُلْ طَعَامَكَ وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَأَكَلَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ .

فُرُوعٌ : لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ : أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَضْمَنُهُ أَنَا وَرُكَّابُهَا ، أَوْ أَنَا ضَامِنٌ لَهُ وَهُمْ ضَامِنُونَ ، أَوْ أَنَا وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ لَهُ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ ضَامِنٌ لَزِمَهُ الْجَمِيعُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ ، أَوْ قَالَ : أَنَا وَرُكَّابُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ لَهُ لَزِمَهُ قِسْطُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مَعَهُ كُلٌّ مِنَّا بِالْحِصَّةِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ ضَمَانٍ سَبَقَ مِنْهُمْ فَصَدَّقُوهُ فِيهِ لَزِمَهُمْ ، وَإِنْ أَنْكَرُوا صُدِّقُوا ، وَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْضُهُمْ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْشَأْتُ عَنْهُمْ الضَّمَانَ ثِقَةً بِرِضَاهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ وَإِنْ رَضُوا ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ ، وَإِنْ قَالَ : أَنَا وَهُمْ ضُمَنَاءُ وَضَمِنْتُ عَنْهُمْ بِإِذْنِهِمْ طُولِبَ بِالْجَمِيعِ ، فَإِنْ أَنْكَرُوا الْإِذْنَ فَهُمْ الْمُصَدَّقُونَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ قَالَ : أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ لَهُ وَأُصَحِّحُهُ وَأُخَلِّصُهُ مِنْ مَالِهِمْ أَوْ مِنْ مَالِي لَزِمَهُ الْجَمِيعُ ، كَمَا لَوْ قَالَ اخْتَلِعْهَا عَلَى أَلْفٍ أُصَحِّحُهَا لَكَ وَأَضْمَنُهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا تَلْزَمُهُ الْأَلْفُ ، وَإِنْ قَالَ عَلَيَّ نِصْفُ الضَّمَانِ وَعَلَى فُلَانٍ ثُلُثُهُ وَعَلَى فُلَانٍ سُدُسُهُ لَزِمَهُ النِّصْفُ فَقَطْ لِأَنَّهُ الَّذِي الْتَزَمَهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَنَا وَهُمْ ضَامِنُونَ لَهُ ثُمَّ بَاشَرَ الْإِلْقَاءَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ضَمِنَ الْجَمِيعُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ نَصُّ الْأُمِّ ، وَقِيلَ بِالْقِسْطِ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ اللَّفْظِ ، وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِعَمْرٍو : أَلْقِ مَتَاعَ زَيْدٍ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَفَعَلَ ضَمِنَ عَمْرٌو دُونَ الْآخَر لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْإِتْلَافِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَضْمُونِ أَهُوَ الْمِثْلُ وَلَوْ صُورَةً كَالْقَرْضِ أَوْ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ أَوْ

الْقِيمَةُ مُطْلَقًا ؟ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُلْقَى حَيْثُ أَوْجَبْنَاهَا قُبَيْلَ هَيَجَانِ الْبَحْرِ ، إذْ لَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ وَلَا تُجْعَلُ قِيمَتُهُ فِي الْبَحْرِ مَعَ الْخَطَرِ كَقِيمَتِهِ فِي الْبَرِّ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ الْأَخِيرِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْقَى مِثْلِيًّا وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ لِمَا فِي إيجَابِ الْمِثْلِ مِنْ الْإِجْحَافِ ، وَعَلَّلَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لِمُشْرِفٍ عَلَى الْهَلَاكِ إلَّا مُشْرِفٍ عَلَى هَلَاكٍ وَذَلِكَ بَعِيدٌ ، وَجَزَمَ فِي الْكِفَايَةِ بِالْوَسَطِ وَرَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخِي أَوْجَهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلْقِينِيُّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، نَعَمْ إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَعْجَمِيًّا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَةِ آمِرِهِ ضَمِنَ الْآمِرُ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ وَلَوْ لَفَظَ الْبَحْرُ الْمَتَاعَ الْمُلْقَى فِيهِ عَلَى السَّاحِلِ فَظَفِرْنَا بِهِ أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَاسْتَرَدَّ الضَّامِنُ مِنْهُ عَيْنَ مَا أَعْطَى إنْ كَانَ بَاقِيًا وَبَدَلَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا مَا سِوَى الْأَرْشِ الْحَاصِلِ بِالْغَرَقِ فَلَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِسْنَوِيُّ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ وَاضِحٌ .

وَلَوْ عَادَ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ فَقَتَلَ أَحَدَ رُمَاتِهِ هُدِرَ قِسْطُهُ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْبَاقِينَ الْبَاقِي ، أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوهُ فَخَطَأٌ أَوْ قَصَدُوهُ فَعَمْدٌ فِي الْأَصَحِّ إنْ غَلَبَتْ الْإِصَابَةُ .

( وَلَوْ عَادَ ) أَيْ رَجَعَ ( حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ فِي الْأَشْهَرِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ : آلَةٌ تُرْمَى بِهَا الْحِجَارَةُ ، وَحُكِيَ كَسْرُ الْمِيمِ وَمَنْجَنُوقٍ بِالْوَاوِ وَمَنْجَلِيقٍ بِاللَّامِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي زِيَادَةِ مِيمِهِ وَنُونِهِ ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلَى أَنَّ مِيمَهُ أَصْلِيَّةٌ وَنُونَهُ زَائِدَةٌ ، وَلِذَلِكَ تَثْبُتُ فِي الْجَمْعِ ( فَقَتَلَ أَحَدَ رُمَاتِهِ ) وَكَانُوا عَشَرَةً مَثَلًا ( هُدِرَ قِسْطُهُ ) مِنْ دِيَتِهِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمِثَالِ عُشْرُهَا ( وَعَلَى عَاقِلَةِ ) كُلٍّ مِنْ التِّسْعَةِ ( الْبَاقِينَ الْبَاقِي ) مِنْ دِيَتِهِ ، وَهُوَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عُشْرُهَا لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِهِمْ فَسَقَطَ مَا قَابَلَ فِعْلَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ .
تَنْبِيهٌ : صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ مَدّ مَعَهُمْ الْحِبَالَ وَرَمَى بِالْحَجَرِ ، أَمَّا مَنْ أَمْسَكَ خَشَبَةُ الْمَنْجَنِيقِ إنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ أَوْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي الْكِفَّةِ وَلَمْ يَمُدَّ الْحِبَالَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَالْمُبَاشِرُ غَيْرُهُ ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ صَنَعَهُ رُفَقَاؤُهُ وَقَصَدُوا الرَّفِيقَ الْمَذْكُورَ لِسُقُوطِهِ عَلَيْهِ وَغَلَبَتْ إصَابَتُهُمْ فَهُوَ عَمْدٌ لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ بَلْ هُوَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مُخْطِئٍ .
قَالَ : وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ وَنَحْنُ صَوَّرْنَاهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ( أَوْ ) قَتَلَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ ( غَيْرَهُمْ ) أَيْ الرُّمَاةِ ( وَلَمْ يَقْصِدُوهُ ) أَيْ الْغَيْرَ ( فَخَطَأٌ ) قَتْلُهُ يُوجِبُ الدِّيَةَ الْمُخَفَّفَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ( أَوْ قَصَدُوهُ فَعَمْدٌ فِي الْأَصَحِّ ) قَتْلُهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَيْهِمْ أَيْ الدِّيَةَ الْمُغَلَّظَةَ فِي مَالِهِمْ ( إنْ غَلَبَتْ الْإِصَابَةُ ) مِنْهُمْ لِانْطِبَاقِهِ

حِينَئِذٍ عَلَى حَدِّ الْعَمْدِ .
وَالثَّانِي شِبْهُ عَمْدٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدُ مُعَيَّنٍ بِالْمَنْجَنِيقِ ، وَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ هَذَا ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إنْ غَلَبَتْ الْإِصَابَةُ عَمَّا إذَا لَمْ تَغْلِبْ إصَابَتُهُ بِأَنْ غَلَبَ عَدَمُهَا أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَإِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ .
تَتِمَّةٌ : لَوْ قَصَدُوا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَأَحَدِ الْجَمَاعَةِ كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ يَعْتَمِدُ قَصْدَ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِهِ : اُقْتُلْ أَحَدَ هَؤُلَاءِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَهُ .

[ فَصْلٌ ] دِيَةُ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ ، وَهُمْ عَصَبَتُهُ إلَّا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَقِيلَ يَعْقِلُ ابْنٌ هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَمَنْ يَلِيهِ ، وَمُدْلٍ بِأَبَوَيْنِ ، وَالْقَدِيمُ التَّسْوِيَةُ ، ثُمَّ مُعْتِقٌ ثُمَّ عَصَبَتُهُ ثُمَّ مُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ وَإِلَّا فَمُعْتِقُ أَبِي الْجَانِي ثُمَّ عَصَبَتُهُ ثُمَّ مُعْتِقُ مُعْتِقِ الْأَبِ وَعَصَبَتُهُ وَكَذَا أَبَدًا ، وَعَتِيقُهَا يَعْقِلُهُ عَاقِلَتُهَا ، وَمُعْتِقُونَ كَمُعْتِقٍ ، وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْ عَصَبَةِ كُلِّ مُعْتِقٍ يَحْمِلُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْمُعْتِقُ .

[ فَصْلٌ ] فِي الْعَاقِلَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَأْجِيلِ مَا تَحْمِلُهُ ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( دِيَةُ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ) فِي الْأَطْرَافِ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَا فِي نَفْسِ غَيْرِ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ ، وَكَذَا الْحُكُومَاتُ وَالْغُرَّةُ ( تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ ) لَا الْجَانِيَ كَمَا مَرَّ أَوَّلَ كِتَابِ الدِّيَاتِ ، وَذَكَرَهَا هُنَا تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهُ ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ زِيَادَةِ الْكُتَّابِ عَلَى الْمُحَرَّرِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْخَطَأَ فَقَطْ ، وَلَوْ عَكَسَ كَانَ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُلَاقِي الْجَانِيَ أَوَّلًا ، بَلْ يُلَاقِي الْعَاقِلَةَ ابْتِدَاءً ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُلَاقِيهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَتَحَمَّلُونَهَا إعَانَةً لَهُ كَقَضَاءِ دَيْنِ مَنْ غَرِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَتَغْرِيمُ غَيْرِ الْجَانِي خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ ، لَكِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَمْنَعُونَ مَنْ جَنَى مِنْهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ أَنْ يَدْنُوا مِنْهُ وَيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ فَجَعَلَ الشَّارِعُ بَدَلَ تِلْكَ النُّصْرَةِ بَذْلَ الْمَالِ ، وَخَصَّ ذَلِكَ بِالْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ لِكَثْرَتِهِمَا ، سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ يَتَعَاطَى حَمْلَ السِّلَاحِ فَأُعِينَ كَيْ لَا يَفْتَقِرَ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةٌ بِالْخَطَإِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ أَوْ اعْتَرَفَ بِهِ فَصَدَّقُوهُ وَإِنْ كَذَّبُوهُ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ يَحْلِفُونَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، فَإِذَا حَلَفُوا وَجَبَ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَهَذَا حِينَئِذٍ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
أَمَّا إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ .
فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ .
هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا ، فَإِنْ كَانَ مُبَعَّضًا وَقَتَلَ خَطَأً تَحَمَّلَتْ الْعَاقِلَةُ نِصْفَ الدِّيَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ كَالْخَطَإِ فِي ذَلِكَ ، وَجِهَاتُ

تَحَمُّلِ الدِّيَةِ ثَلَاثَةٌ : قَرَابَةٌ وَوَلَاءٌ وَبَيْتُ مَالٍ لَا غَيْرُهَا كَزَوْجِيَّةٍ وَمُحَالَفَةٍ وَقَرَابَةٍ لَيْسَتْ بِعَصَبَةٍ .
وَلَا الْعَدِيدُ الَّذِي لَا عَشِيرَةَ لَهُ فَيُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي قَبِيلَةٍ لِيُعَدَّ مِنْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ جِهَاتِ التَّحَمُّلِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ ( وَهُمْ عَصَبَتُهُ ) أَيْ الْجَانِي الَّذِينَ يَرِثُونَهُ بِالنَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ إذَا كَانُوا ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ لِمَا فِي خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ السَّابِقِ أَوَائِلَ كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي رِوَايَةٍ ، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَاتِهَا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا أَنَّ الْعَاقِلَةَ الْعَصَبَةُ ، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ .
قَالَ وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ وَإِنْ أَيْسَرَا لَا يَحْمِلَانِ شَيْئًا ، وَكَذَا الْمَعْتُوهُ عِنْدِي ا هـ .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ الْعَصَبَةِ أَصْلَ الْجَانِي وَفَرْعَهُ ، فَقَالَ ( إلَّا الْأَصْلَ ) مِنْ أَبٍ وَإِنْ عَلَا ( وَ ) إلَّا ( الْفَرْعَ ) مِنْ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَ لِأَنَّهُمْ أَبْعَاضُهُ ، فَكَمَا لَا يَتَحَمَّلُ الْجَانِي لَا يَتَحَمَّلُ أَبْعَاضُهُ ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ { لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَيْ جَرِيمَةِ ابْنِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِي خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ السَّابِقِ " وَبَرَّأَ الْوَلَدَ " أَيْ مِنْ الْعَقْلِ ، وَقِيسَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْأَبْعَاضِ ( وَقِيلَ يَعْقِلُ ) عَنْ الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ ( ابْنٌ ) لَهَا ( هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا ) أَوْ ابْنُ مُعْتِقِهَا كَمَا يَلِي نِكَاحَهَا ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ مَوْجُودَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ أَنَّ الْبُنُوَّةَ هُنَا مَانِعَةٌ وَهُنَاكَ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لَا مَانِعَةٍ ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضَى عَمِلَ عَمَلَهُ ( وَيُقَدَّمُ ) فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ مِنْ الْعَصَبَةِ ( الْأَقْرَبُ ) فَالْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ مِنْهُمْ ، وَالْأَقْرَبُ الْأُخُوَّةُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا ، ثُمَّ

الْأَعْمَامُ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا ( فَإِنْ ) لَمْ يُوفِ الْأَقْرَبُ بِالْوَاجِبِ بِأَنْ ( بَقِيَ ) مِنْهُ ( شَيْءٌ فَمَنْ ) أَيْ فَيُوَزَّعُ الْبَاقِي عَلَى مَنْ ( يَلِيهِ ) الْأَقْرَبُ ثُمَّ عَلَى مَنْ يَلِيهِ وَهَكَذَا ( وَ ) يُقَدَّمُ مِمَّنْ ذُكِرَ ( مُدْلٍ بِأَبَوَيْنِ ) عَلَى مُدْلٍ بِأَبٍ عَلَى الْجَدِيدِ كَالْإِرْثِ ( وَالْقَدِيمُ التَّسْوِيَةُ ) بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ ( ثُمَّ ) بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ إنْ فُقِدُوا أَوْ لَمْ يُوَفَّ مَا عَلَيْهِمْ بِالْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ يُقَدَّمُ ( مُعْتِقٌ ) ذَكَرٌ لِخَبَرِ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } ( ثُمَّ ) إنْ فُقِدَ الْمُعْتِقُ أَوْ لَمْ يَفِ مَا عَلَيْهِ بِالْوَاجِبِ تُقَدَّمُ ( عَصَبَتُهُ ) مِنْ نَسَبِ غَيْرِ أَصْلِهِ وَإِنْ عَلَا وَفَرْعِهِ وَإِنْ سَفَلَ كَمَا مَرَّ فِي أَصْلِ الْجَانِي ، وَفَرْعُهُ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ " أَنَّ عُمَرَ قَضَى عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بِأَنْ يَعْقِلَ عَنْ مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ " لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهَا دُونَ ابْنِهَا الزُّبَيْرِ ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، وَقِيسَ بِالِابْنِ غَيْرُهُ مِنْ الْأَبْعَاضِ ، وَصَحَّحَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ .
قَالَ : لِأَنَّ الْمُعْتِقَ يَتَحَمَّلُ فَهُمَا كَالْمُعْتِقِ لَا كَالْجَانِي وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجَانِي بِأَصْلِيَّةٍ وَلَا فَرْعِيَّةٍ .
وَأَجَابَ شَيْخِي عَنْ كَلَامِ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُعْتِقِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْجِنَايَةِ ، وَيَكْفِي هَذَا إسْنَادُهُ لِلْمَنْقُولِ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ مُشْكِلٌ ( ثُمَّ مُعْتِقُهُ ) أَيْ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ ( ثُمَّ عَصَبَتُهُ ) كَذَلِكَ وَهَكَذَا مَا عَدَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ عَلَى مَا مَرَّ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقٌ وَلَا عَصَبَةٌ ( فَمُعْتِقُ أَبِي الْجَانِي ثُمَّ عَصَبَتُهُ ) مِنْ

نَسَبِ غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ ( ثُمَّ مُعْتِقُ مُعْتِقِ الْأَبِ وَعَصَبَتُهُ ) غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ ، وَعَبَّرَ الْمُحَرَّرُ بِثُمَّ ، وَهُوَ أَوْلَى ( وَكَذَا أَبَدًا ) إذَا لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقُ الْأَبِ وَلَا عَصَبَتُهُ يَتَحَمَّلُ مُعْتِقُ الْجَدِّ ثُمَّ عَصَبَتُهُ كَذَلِكَ إلَى حَيْثُ يَنْتَهِي كَالْإِرْثِ ، وَيُفَارِقُ الْأَخْذُ مِنْ الْبَعِيدِ إذَا لَمْ يَفِ الْأَقْرَبُ بِالْوَاجِبِ الْإِرْثَ حَيْثُ يَحُوزُهُ الْأَقْرَبُ بِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِمِيرَاثِ الْعَصَبَةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ هُنَا فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ دِينَارٍ أَوْ رُبُعِهِ كَمَا سَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ ضَرَبْنَا عَلَى الْمُعْتِقِ فَبَقِيَ شَيْءٌ يُضْرَبُ عَلَى عَصَبَتِهِ فِي حَيَاتِهِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالتَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ الصَّغِيرِ بِرُجْحَانِ عَدَمِ الضَّرْبِ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّهُ الْقِيَاسُ ( وَعَتِيقُهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ الْجَانِي ( يَعْقِلُهُ عَاقِلَتُهَا ) وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَقْلَ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَحَمَّلُ عَنْهَا مَنْ يَتَحَمَّلُ جِنَايَتَهَا مِنْ عَصَبَاتِهَا كَمَا يُزَوِّجُ عَتِيقَهَا مَنْ يُزَوِّجُهَا إلْحَاقًا لِلْعَقْلِ بِالتَّزْوِيجِ لِعَجْزِهَا عَنْ الْأَمْرَيْنِ ( وَمُعْتِقُونَ ) فِي تَحَمُّلِهِمْ جِنَايَةَ عَتِيقِهِمْ ( كَمُعْتِقٍ ) وَاحِدٍ فِيمَا عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ أَوْ رُبُعِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ ( وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْ عَصَبَةِ كُلِّ مُعْتِقٍ يَحْمِلُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْمُعْتِقُ ) فِي حَيَاتِهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا وُزِّعَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ الْمَيِّتُ يَحْمِلُهُ ؟ .
أُجِيبَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمْ تَوَزُّعَهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ ، وَلَا يَرِثُونَ الْوَلَاءَ مِنْ الْمَيِّتِ بَلْ يَرِثُونَ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِكَوْنِ الْمُعْتِقِ جَمْعًا ، فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَمَاتَ عَنْهُ إخْوَةٌ مَثَلًا ضُرِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ الْمَيِّتُ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ

.

وَلَا يَعْقِلُ عَتِيقٌ فِي الْأَظْهَرِ ، فَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِلُ أَوْ لَمْ يَفِ عَقَلَ بَيْتُ الْمَالِ عَنْ الْمُسْلِمِ ، فَإِنْ فُقِدَ فَكُلُّهُ عَلَى الْجَانِي فِي الْأَظْهَرِ .

( وَلَا يَعْقِلُ عَتِيقٌ ) عَنْ مُعْتِقِهِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَا يَرِثُ ، وَالثَّانِي يَعْقِلُ ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لِلنُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ ، وَالْعَتِيقُ أَوْلَى بِهِمَا .
أَمَّا عَصَبَةُ الْعَتِيقِ فَلَا تَعْقِلُ عَنْ مُعْتِقِهِ قَطْعًا ( فَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِلُ ) مِمَّنْ ذُكِرَ ( أَوْ ) وُجِدَ ، وَ ( لَمْ يَفِ ) مَا عَلَيْهِ بِالْوَاجِبِ ( عَقَلَ ) ذَوُو الْأَرْحَامِ إنْ قُلْنَا بِتَوْرِيثِهِمْ ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ إذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَرَائِضِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ ذَكَرًا غَيْرَ أَصْلٍ وَفَرْعٍ ، فَإِنْ انْتَظَمَ عَقَلَ ( بَيْتُ الْمَالِ عَنْ ) الْجَانِي ( الْمُسْلِمِ ) كَمَا يَرِثُهُ ، وَلِخَبَرِ { أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَالْمُسْلِمُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمُعَاهِدِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِيهِ مَا لَهُمْ فَيْئًا ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَا لَهُمْ مُؤَجَّلَةً ، فَإِنْ مَاتُوا حَلَّتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ تَنْبِيهٌ : اُسْتُثْنِيَ مِنْ عَقْلِ بَيْتِ الْمَالِ اللَّقِيطُ إذَا جُنِيَ عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً وَفُقِدَتْ عَاقِلَةُ قَاتِلِهِ ، فَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي بَابِ اللَّقِيطِ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِهَا مِنْهُ لِتُعَادَ إلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ إلَّا بَيْتُ الْمَالِ كَذَلِكَ ( فَإِنْ فُقِدَ ) بَيْتُ الْمَالِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَيْءٌ ، أَوْ لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُهُ بِحَيْلُولَةِ الظَّلَمَةِ دُونَهُ أَوْ لَمْ يَفِ ( فَكُلُّهُ ) أَيْ الْوَاجِبِ أَوْ الْبَاقِي مِنْهُ ( عَلَى الْجَانِي فِي الْأَظْهَرِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَكَانَ يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ بِالْأَصَحِّ بَدَلَ الْأَظْهَرِ

كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ : أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَحْمِلُ مَعَ وُجُودِ مَنْ ذُكِرَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ مَتَى وُزِّعَ الْوَاجِبُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ وَفَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْجَانِي مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ كَالْعَاقِلَةِ ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي صُوَرٍ أُخَرُ ، مِنْهَا مَا لَوْ جَرَحَ ابْنُ عَتِيقَةٍ أَبُوهُ رَقِيقٌ شَخْصًا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ثُمَّ انْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ بِعِتْقِهِ ثُمَّ مَاتَ الْجَرِيحُ بِالسِّرَايَةِ فَعَلَى مَوَالِي الْأُمِّ أَرْشُ الْجُرْحِ ، ثُمَّ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَعَلَى الْجَانِي لِحُصُولِ السِّرَايَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِجِنَايَةٍ قَبْلَهُ ، لَا عَلَى مَوَالِي أَبِيهِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ عَلَى الِانْجِرَارِ ، وَلَا عَلَى مَوَالِي أُمِّهِ لِانْتِقَالِ الْوَلَاءِ عَنْهُمْ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، وَلَا بَيْتِ الْمَالِ لِوُجُودِ جِهَةِ الْوَلَاءِ بِكُلِّ حَالٍ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بِأَنْ سَاوَى أَرْشُ الْجُرْحِ الدِّيَةَ : كَأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ عَتَقَ الْأَبُ ثُمَّ مَاتَ الْجَرِيحُ فَعَلَى مَوَالِي الْأُمِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الْجُرْحَ حِينَ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُمْ يُوجِبُ هَذَا الْقَدْرَ ، وَلَوْ جَرَحَهُ هَذَا الْجَارِحُ ثَانِيًا خَطَأً بَعْدَ عِتْقِ أَبِيهِ وَمَاتَ الْجَرِيحُ سِرَايَةً مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ لَزِمَ مَوَالِيَ الْأُمِّ أَرْشُ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَلَزِمَ مَوَالِيَ الْأَبِ بَاقِيَ الدِّيَةِ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ شَخْصًا خَطَأً وَمَاتَ الْجَرِيحُ بِالسِّرَايَةِ بَعْدَ إسْلَامِ الذِّمِّيِّ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الذِّمِّيِّينَ مَا يَخُصُّ الْجُرْحَ وَبَاقِي الدِّيَةِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ كَأَنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الذِّمِّيِّينَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِمَا مَرَّ فِي نَظِيرِهِ ، وَلَوْ جَرَحَهُ هَذَا الْجَارِحُ ثَانِيًا خَطَأً بَعْدَ إسْلَامِهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الذِّمِّيِّينَ أَرْشُ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ بَاقِي الدِّيَةِ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ رَمَى شَخْصٌ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ رَجُلًا بَعْدَ أَنْ

تَخَلَّلَتْ مِنْهُ رِدَّةٌ أَوْ إسْلَامٌ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَحَمُّلِهَا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ مَعَ الْفِعْلِ إلَى الْفَوَاتِ .

وَتُؤَجَّلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةٍ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثٌ .
( وَتُؤَجَّلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) وَلَوْ مِنْ غَيْرِ ضَرْبِ الْقَاضِي ( دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةٍ ) بِإِسْلَامٍ وَحُرِّيَّةٍ وَذُكُورِيَّةٍ ( ثَلَاثَ سِنِينَ ) بِنَصْبِ ثَلَاثٍ ( فِي ) آخِرِ ( كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثٌ ) مِنْ الدِّيَةِ .
أَمَّا كَوْنُهَا فِي ثَلَاثٍ فَلِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَزَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ إلَى قَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثًا فَتَوْزِيعًا لَهَا عَلَى السِّنِينَ الثَّلَاثِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي آخِرِ السَّنَةِ ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ الْفَوَائِدَ كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ فَاعْتُبِرَ مُضِيُّهَا لِيَجْتَمِعَ عِنْدَهُمْ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ فَيُوَاسُونَ عَنْ تَمَكُّنٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : تُؤَجَّلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَأْجِيلٍ بِضَرْبِ الْحَاكِمِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا قَطْعًا كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْعَاقِلَةِ يُخْرِجُ بَيْتَ الْمَالِ وَالْجَانِيَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا فَقَدْ صَرَّحَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً ، وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِتَأْجِيلِهَا عَلَى الْجَانِي إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُخَالِفُهُمْ إلَّا فِي أَمْرَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ الْحَوْلِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يُطَالَبُ إلَّا بِنِصْفِ دِينَارٍ أَوْ رُبُعٍ .
ثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَحِلُّ الْأَجَلُ عَلَى الْأَصَحِّ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ ، وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَالْوُجُوبُ عَلَى الْجَانِي سَبِيلُهُ صِيَانَةُ الْحَقِّ مِنْ الضَّيَاعِ فَلَا يَسْقُطُ كَيْ لَا يَضِيعَ .

وَذِمِّيٍّ سَنَةً ، وَقِيلَ ثَلَاثًا ، وَامْرَأَةٍ سَنَتَيْنِ فِي الْأُولَى ثُلُثٌ ، وَقِيلَ ثَلَاثًا .
وَلَمَّا كَانَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ فِي مَعْنَى تَأْجِيلِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَوْنَهَا بَدَلَ نَفْسٍ كَامِلَةٍ ، وَأَنَّ مُقَابَلَةَ كَوْنِهَا بَدَلَ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ أَشَارَ إلَى مَسَائِلَ تَظْهَرُ فِيهَا فَائِدَةُ الْخِلَافِ ، فَقَالَ ( وَ ) تُؤَجَّلُ دِيَةُ ( ذِمِّيٍّ ) عَلَى الْأَصَحِّ ( سَنَةً ) لِأَنَّهَا قَدْرُ ثُلُثِ دِيَةِ مُسْلِمٍ ( وَقِيلَ ) تُؤَجَّلُ ( ثَلَاثًا ) أَيْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ ( وَ ) تُؤَجَّلُ دِيَةُ ( امْرَأَةٍ ) مُسْلِمَةٍ ( سَنَتَيْنِ فِي ) آخِرِ ( الْأُولَى ) مِنْهُمَا ( ثُلُثٌ ) مِنْ دِيَةِ نَفْسٍ كَامِلَةٍ ، وَالْبَاقِي آخِرَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ( وَقِيلَ ) تُؤَجَّلُ دِيَتُهَا ( ثَلَاثًا ) أَيْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ .
تَنْبِيهٌ : الْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذُكِرَ .

وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْعَبْدَ فِي الْأَظْهَرِ ، فَفِي كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ ثُلُثِ دِيَةٍ ، وَقِيلَ فِي ثَلَاثٍ .
( وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْعَبْدَ ) أَيْ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُرِّ ، لَكِنْ بِقِيمَتِهِ خَطَأً وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) الْجَدِيدِ لِأَنَّهُ بَدَلُ آدَمِيٍّ وَتَعَلَّقَ قِصَاصٌ وَكَفَّارَةٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ ، وَالثَّانِي لَا تَحْمِلُهُ بَلْ هِيَ عَلَى الْجَانِي لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ الْبَهِيمَةَ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْرَ ثُلُثِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فَأَقَلَّ ضُرِبَتْ فِي سَنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ( فَفِي ) آخِرِ ( كُلِّ سَنَةٍ ) يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَتِهِ ( قَدْرُ ثُلُثِ دِيَةٍ ) كَامِلَةٍ نَظَرًا إلَى الْمِقْدَارِ ( وَقِيلَ ) تُؤْخَذُ كُلُّهَا ( فِي ثَلَاثٍ ) مِنْ السِّنِينَ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ اخْتَلَفَ الْعَاقِلَةُ وَالسَّيِّدُ فِي قِيمَتِهِ صُدِّقُوا بِأَيْمَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ غَارِمِينَ .

وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فَفِي ثَلَاثٍ ، وَقِيلَ سِتٌّ ، وَالْأَطْرَافُ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ ثُلُثِ دِيَةٍ ، وَقِيلَ كُلُّهَا فِي سَنَةٍ وَأَجَلُ النَّفْسِ مِنْ الزُّهُوقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِنَايَةِ ، وَمَنْ مَاتَ فِي بَعْضِ سَنَةٍ سَقَطَ .

( وَلَوْ قَتَلَ ) شَخْصٌ ( رَجُلَيْنِ ) مَثَلًا كَامِلَيْنِ مَعًا أَوْ مُرَتِّبًا ( فَفِي ) أَيْ فَتُؤَجَّلُ دِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ( ثَلَاثٍ ) مِنْ السِّنِينَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دِيَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَالْمُسْتَحِقُّ يَخْتَلِفُ ، فَلَا يُؤَخَّرُ حَقُّ وَاحِدٍ بِاسْتِحْقَاقِ آخَرَ كَالدُّيُونِ الْمُخْتَلِفَةِ إذَا اتَّفَقَ انْقِضَاءُ آجَالِهَا ( وَقِيلَ ) تُؤَجَّلُ دِيَةُ مَنْ ذُكِرَ فِي ( سِتٍّ ) فِي كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ سُدُسِ دِيَةٍ لِأَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يُضْرَبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيُزَادُ لِلْأُخْرَى مِثْلُهَا وَفِي عَكْسِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَا لَوْ قَتَلَ اثْنَانِ وَاحِدًا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي سَنَتَيْنِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمُسْتَحِقِّ .
وَالثَّانِي ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّ سَنَةٍ ثُلُثُ مَا يَخُصُّهُ كَجَمِيعِ الدِّيَةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، وَلَوْ قَتَلَ شَخْصٌ امْرَأَتَيْنِ أُجِّلَتْ دِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي سَنَتَيْنِ لِمَا مَرَّ ( وَالْأَطْرَافُ ) كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالْحُكُومَاتُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ تُؤَجَّلُ ( فِي كُلِّ سَنَةٍ قَدْرَ ثُلُثِ دِيَةٍ ) كَامِلَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ دِيَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثُلُثَيْهَا ضُرِبَ فِي سَنَتَيْنِ وَأُخِذَ قَدْرُ الثُّلُثِ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى وَالْبَاقِي فِي آخِرِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ زَادَ : أَيْ الْوَاجِبُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى دِيَةِ نَفْسٍ ضُرِبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ نَفْسٍ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَفِي سِتِّ سِنِينَ ( وَقِيلَ ) تُؤْخَذُ ( كُلُّهَا فِي سَنَةٍ ) بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بَدَلَ نَفْسٍ حَتَّى تُؤَجَّلَ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْأَرْشُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَهُ أَوْ دُونَهُ ضُرِبَ فِي سَنَةٍ قَطْعًا ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْأَطْرَافِ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ تُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَدِيَةِ النَّفْسِ كَمَا مَرَّتْ

الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ( وَأَجَلُ ) دِيَةِ ( النَّفْسِ ) يُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ ( مِنْ الزُّهُوقِ ) لِأَنَّهُ وَقْتُ اسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ ( وَ ) أَجَلُ دِيَةِ ( غَيْرِهَا ) أَيْ النَّفْسِ كَقَطْعِ يَدٍ انْدَمَلَ ( مِنْ ) ابْتِدَاءِ ( الْجِنَايَةِ ) فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهَا حَالَةُ الْوُجُوبِ فَأُنِيطَ الِابْتِدَاءُ بِهَا كَمَا نِيطَ بِحَالَةِ الزَّهُوقِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ وَجَبَ دِيَتُهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِبَدَلِهَا إلَّا بَعْدَ الِانْدِمَالِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَنْدَمِلْ بِأَنْ سَرَى مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ : كَأَنْ قُطِعَ أُصْبُعُهُ فَسَرَتْ إلَى كَفِّهِ فَأَجَلُ أَرْشِ الْأُصْبُعِ مِنْ قَطْعِهَا وَالْكَفِّ مِنْ سُقُوطِهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبَا الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَالْأَنْوَارِ ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَمَنْ مَاتَ ) مِنْ الْعَاقِلَةِ ( فِي بَعْضِ ) أَيْ فِي أَثْنَاءِ ( سَنَةٍ سَقَطَ ) مِنْ وَاجِبِ تِلْكَ السَّنَةِ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ كَالزَّكَاةِ ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : فِي بَعْضِ سَنَةٍ عَمَّا لَوْ مَاتَ بَعْدَهَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا يَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ .

وَلَا يَعْقِلُ فَقِيرٌ وَرَقِيقٌ وَصَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَمُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَعَكْسِهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ ، وَهِيَ خَمْسٌ : الذُّكُورَةُ ، وَعَدَمُ الْفَقْرِ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالتَّكْلِيفُ ، وَاتِّفَاقُ الدِّينِ .
أَمَّا الصِّفَةُ الْأُولَى فَقَدْ اسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ عَنْ ذِكْرِهَا بِقَوْلِهِ سَابِقًا : وَعَتِيقُهَا يَعْقِلُهُ عَاقِلَتُهَا ، أَيْ لَا هِيَ ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَعْقِلْ الْمَرْأَةُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهَا لِلنُّصْرَةِ وَلِعَدَمِ الْوِلَايَةِ ، فَلَوْ بَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا هَلْ يَغْرَمُ حِصَّتَهُ الَّتِي أَدَّاهَا غَيْرُهُ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا نَعَمْ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي اعْتِبَارًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا فِي شَاهِدِ النِّكَاحِ وَوَلِيِّهِ ، وَرَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ الثَّانِيَ قَالَ لِبِنَاءِ التَّحَمُّلِ عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي سَتْرِ الثَّوْبِ كَالْأُنْثَى فَلَا نُصْرَةَ بِهِ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ بِالْقُوَّةِ ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّانِيَة فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ ( وَلَا يَعْقِلُ فَقِيرٌ ) وَلَوْ كَسُوبًا لِأَنَّ الْعَقْلَ مُوَاسَاةٌ ، وَلَيْسَ الْفَقِيرُ مِنْ أَهْلِهَا كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ ، فَهَلَّا كَانَ مِثْلَ هَذَا ؟ .
أُجِيبَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَوْضُوعَةٌ لِحَقْنِ الدَّمِ وَلِإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ عِوَضًا ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ ( وَ ) لَا يَعْقِلُ ( رَقِيقٌ ) وَلَوْ مُكَاتَبًا ، إذْ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا مُوَاسَاةَ ، وَالْمُكَاتَبُ وَإِنْ مَلَكَ فَمِلْكُهُ ضَعِيفٌ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَأَلْحَقَ الْبُلْقِينِيُّ الْمُبَعَّضَ بِالْمُكَاتَبِ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ ( وَ ) لَا يَعْقِلُ ( صَبِيٌّ وَ ) لَا ( مَجْنُونٌ ) لِأَنَّ مَبْنَى الْعَقْلِ عَلَى النُّصْرَةِ وَلَا نُصْرَةَ فِيهِمَا لَا بِالْعَقْلِ وَلَا بِالرَّأْيِ ، بِخِلَافِ الزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُمْ

يَتَحَمَّلُونَ لِأَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ بِالْقَوْلِ وَالرَّأْيِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ الْمُتَقَطِّعِ وَالْمُطْبِقِ ، وَيُحْتَمَلُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ الْوُجُوبُ فِيمَا إذَا كَانَ يُجَنُّ فِي الْعَامِ يَوْمًا وَاحِدًا ، وَلَيْسَ هُوَ آخِرُ السَّنَةِ ، فَإِنَّ هَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ ( وَ ) لَا يَعْقِلُ ( مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَعَكْسُهُ ) لِأَنَّهُ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَوَارُثَ فَلَا مُنَاصَرَةَ .

وَيَعْقِلُ يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ وَعَكْسُهُ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَيَعْقِلُ يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ وَعَكْسُهُ فِي الْأَظْهَرِ ) كَالْإِرْثِ ، إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالثَّانِي لَا ، لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا .
تَنْبِيهٌ : يَتَعَاقَلُ ذِمِّيٌّ وَمُعَاهِدٌ إنْ زَادَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ عَلَى مُدَّةِ الْأَجَلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَصَتْ عَنْهَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ سَاوَتْهَا تَقْدِيمًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضَى ، وَيَكْفِي فِي تَحَمُّلِ كُلِّ حَوْلٍ عَلَى انْفِرَادِهِ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْعَهْدِ عَلَيْهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَحَمُّلِ الذِّمِّيِّ وَنَحْوِهِ مَحَلُّهُ إذَا كَانُوا فِي دَارِنَا ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ حُكْمِنَا ، وَلَا تَعَاقُلَ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَحَرْبِيٍّ ، وَالْمُعَاهَدُ كَالذِّمِّيِّ .

وَعَلَى الْغَنِيِّ نِصْفُ دِينَارٍ ، وَالْمُتَوَسِّطِ رُبُعٌ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ ، وَقِيلَ هُوَ وَاجِبُ الثَّلَاثِ ، وَيُعْتَبَرَانِ آخِرَ الْحَوْلِ ، وَمَنْ أَعْسَرَ فِيهِ سَقَطَ .

ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَقَالَ ( وَعَلَى الْغَنِيِّ ) مِنْ الْعَاقِلَةِ ، وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ فَاضِلًا عَمَّا يَبْقَى لَهُ فِي الْكَفَّارَةِ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ قَدْرَهَا اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ ( نِصْفُ دِينَارٍ ) عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ، أَوْ قَدْرُهُ دَرَاهِمَ عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ دَرَجَةِ الْمُوَاسَاةِ فِي زَكَاةِ النَّقْدِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا ضَابِطَ لَهَا ( وَ ) عَلَى ( الْمُتَوَسِّطِ ) مِنْهُمْ ، وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ .
فَاضِلًا عَمَّا ذُكِرَ دُونَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ قَدْرَهَا ، وَفَوْقَ رُبُعِ دِينَارٍ لِئَلَّا يَبْقَى فَقِيرًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ بِهِ الْغَنِيُّ لِئَلَّا يَبْقَى مُتَوَسِّطًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ ( رُبُعٌ ) مِنْ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، لِأَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالْغَنِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ نِصْفُ دِينَارٍ ، وَلَمْ نُجِزْ إلْحَاقَهُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّهُ إفْرَاطٌ أَوْ تَفْرِيطٌ فَتَوَسَّطَ فِيهِ بِرُبُعِ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّ النَّاقِصَ عَنْهُ تَافِهٌ بِدَلِيلِ عَدَمِ الْقَطْعِ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَا ضَبَطْنَا بِهِ الْغَنِيَّ وَالْمُتَوَسِّطَ هُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ، وَضَبَطَهُ الْبَغَوِيّ تَبَعًا لِلْقَاضِي بِالْعُرْفِ ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الرَّوْضَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَكَوْنُ الْغَنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّينَارِ ، وَالْمُتَوَسِّطِ رُبُعٌ لَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ نَاصٌّ وَلَا خَبَرٌ ، لَكِنَّهُمْ رَاعَوْا مَعْنَى الْمُوَاسَاةِ ، وَيَجِبُ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ ( كُلَّ سَنَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ ) لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِهِ كَالزَّكَاةِ ، فَجَمِيعُ مَا يَلْزَمُ الْغَنِيَّ فِي الثَّلَاثِ سِنِينَ دِينَارٌ وَنِصْفٌ ، وَالْمُتَوَسِّطَ نِصْفٌ وَرُبُعٌ ( وَقِيلَ هُوَ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ ( وَاجِبُ

الثَّلَاثِ ) أَخَذًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ : إنَّ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ يَحْمِلُ إذَا قُوِّمَتْ الدِّيَةُ نِصْفَ دِينَارٍ ، وَمَنْ كَانَ دُونَهُ رُبُعَ دِينَارٍ ، لَا يُزَادُ عَلَى هَذَا وَلَا يُنْقَصُ ، وَعَلَى هَذَا يُؤَدِّي الْغَنِيُّ كُلَّ سَنَةٍ سُدُسَ دِينَارٍ ، وَالْمُتَوَسِّطُ نِصْفَ سُدُسٍ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ كَثُرَتْ الْعَاقِلَةُ أَوْ قَلَّ الْوَاجِبُ نَقَصَ الْقِسْطُ فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ حِصَّتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِشُمُولِ جِهَةِ التَّحَمُّلِ لَهُمْ ، وَإِنْ قَلُّوا أَوْ كَثُرَ الْوَاجِبُ لَمْ يَزِدْ الْقِسْطُ لِتَضَرُّرِهِمْ بِذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ مِقْدَارُ نِصْفِ الدِّينَارِ وَرُبُعِهِ لَا عَيْنُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْوَاجِبَةُ ، وَمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ نِصْفٍ وَرُبُعٍ يُصْرَفُ إلَيْهَا ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ لَا يَأْخُذَ غَيْرَهَا لِمَا مَرَّ ، وَالدَّعْوَى بِالدِّيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ ، بَلْ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ هُمْ يَدْفَعُونَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهِ أَيْضًا ( وَ ) الْغَنِيُّ الْمُتَوَسِّطُ ( يُعْتَبَرَانِ آخِرَ الْحَوْلِ ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَوْلِ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاسَاةِ فَاعْتُبِرَ بِآخِرَةِ كَالزَّكَاةِ فَلَا يُؤْثَرُ الْغِنَى وَضِدُّهُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَلَوْ أَيْسَرَ آخِرَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ ثُمَّ أَعْسَرَ ثَبَتَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ( وَمَنْ أَعْسَرَ فِيهِ ) أَيْ آخِرِ الْحَوْلِ ( سَقَطَ ) أَرَادَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمُوَاسَاةِ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَالْأُجْرَةِ لِسُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ ادَّعَى الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى حَلَفَ وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَمَّلُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِغِنَاهُ ، وَمَنْ كَانَ أَوَّلَ الْحَوْلِ نَاقِصًا بِرِقٍّ ، أَوْ كُفْرٍ ، أَوْ جُنُونٍ ، أَوْ صِبًا ، وَصَارَ فِي آخِرِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لَمْ

يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلنُّصْرَةِ بِالْبَدَنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يُكَلَّفُونَ النُّصْرَةَ بِالْمَالِ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَالْمُعْسِرُ كَامِلٌ أَهْلٌ لِلنُّصْرَةِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَالُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهُ .

[ فَصْلٌ ] مَالُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَلِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ لَهَا ، وَفِدَاؤُهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَرْشِهَا وَفِي الْقَدِيمِ بِأَرْشِهَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَعَ رَقَبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ ، وَلَوْ فَدَاهُ ثُمَّ جَنَى سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ أَوْ فَدَاهُ ، وَلَوْ جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ الْفِدَاءِ بَاعَهُ فِيهِمَا أَوْ فَدَاهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشَيْنِ ، وَفِي الْقَدِيمِ بِالْأَرْشَيْنِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ وَصَحَّحْنَاهُمَا أَوْ قَتَلَهُ فَدَاهُ بِالْأَقَلِّ ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ .

وَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَجِبُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ شَرَعَ فِيمَا يَجِبُ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ مُتَرْجِمًا لِذَلِكَ بِفَصْلٍ فَقَالَ : [ فَصْلٌ ] فِي جِنَايَةِ الرَّقِيقِ ( مَالُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ ) الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ عَمْدٍ أَوْ عَمْدًا وَعَفَا عَلَى مَالٍ ( يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، إذْ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُهُ لِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَى عِتْقِهِ لِلْأَضْرَارِ بِالْمُسْتَحِقِّ ، بِخِلَافِ مُعَامَلَةِ غَيْرِهِ لَهُ لِرِضَاهُ بِذِمَّتِهِ ، فَلْتُعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ طَرِيقٌ وَسَطٌ فِي رِعَايَةِ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْحُرِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَفَارَقَ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ حَيْثُ يَضْمَنُهَا مَالِكُهَا إذَا قَصَّرَ ؛ لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ اخْتِيَارًا .
تَنْبِيهُ : مَعْنَى التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ أَنْ يُبَاعَ ، وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ إلَى الْجِنَايَةِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ السَّيِّدِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِدَاءِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ جِنَايَةُ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْأَعْجَمِيِّ الَّذِي يُعْتَقَدُ طَاعَةُ آمِرِهِ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْآمِرِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا ذَكَرَاهُ فِي الرَّهْنِ ، وَالْمُبَعَّضُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبِ جِنَايَتِهِ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ وَبَاقِيهِ مِنْ الرِّقِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَاقِي وَاجِبِ الْجِنَايَةِ فَيَفْدِيهِ السَّيِّدُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حِصَّتَيْ وَاجِبِهَا وَالْقِيمَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ( وَلِسَيِّدِهِ ) وَلَوْ بِنَائِبِهِ ( بَيْعُهُ لَهَا ) أَيْ الْجِنَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَلَهُ تَسْلِيمُهُ لِيُبَاعَ فِيهَا ، وَلَا يُبَاعُ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ إلَّا بِإِذْنِ

سَيِّدِهِ أَوْ ضَرُورَةٍ كَأَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضَهُ ، وَيَتَعَلَّقُ الْأَرْشُ بِجَمِيعِ رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا أَوْ أَكْثَرَ ، وَكَذَا إنْ كَانَ أَقَلَّ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ .
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُسْتَحِقُّ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبِ انْفَكَّ مِنْ الْعَبْدِ بِقَسْطِهِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي دَوْرِيَّاتِ الْوَصَايَا .
وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ بِالْمَرْهُونِ دُونَ تَعَلُّقِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ الرَّهْنِ ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ التَّعَلُّقَ الْجَعْلِيَّ أَقْوَى مِنْ الشَّرْعِيِّ ( وَ ) لَهُ أَيْضًا ( فِدَاؤُهُ ) فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَيَفْدِيهِ فِي الْجَدِيدِ ( بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَرْشِهَا ) لِأَنَّ الْأَقَلَّ إنْ كَانَ الْقِيمَةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ تَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ بَدَلُهَا ، أَوْ الْأَرْشِ فَهُوَ الْوَاجِبُ ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ كَمَا حُكِيَ عَنْ النَّصِّ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ لِتَوَجُّهِ طَلَبِ الْفِدَاءِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ يَوْمَ تَعَلُّقِهَا ، وَاعْتَبَرَ الْقَفَّالُ يَوْمَ الْفِدَاءِ ، لَا النَّقْصَ قَبْلَهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَحُمِلَ النَّصُّ عَلَى مَا لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ حَالَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي فِي إرْشَادِهِ وَشَرْحِهِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ هُوَ الْمُتَّجَهُ ( وَفِي الْقَدِيمِ ) يَفْدِيهِ ( بِأَرْشِهَا ) بَالِغًا مَا بَلَغَ ، لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهُ رُبَّمَا بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَالْجَدِيدُ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ( وَلَا يَتَعَلَّقُ ) مَالُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ ( بِذِمَّتِهِ مَعَ رَقَبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ ) وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْجِنَايَةِ ، وَإِلَّا لَمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ كَدُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ حَتَّى لَوْ بَقِيَ شَيْءٌ لَا يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ

.
وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَالرَّقَبَةُ مَرْهُونَةٌ بِمَا فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يُوفِ الثَّمَنُ بِهِ طُولِبَ الْعَبْدُ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْعِتْقِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : بِذِمَّتِهِ مَعَ رَقَبَتِهِ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِالرَّقَبَةِ بِأَنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ أَوْ أَقَرَّ بِهَا السَّيِّدُ .
فَأَمَّا لَوْ تَعَذَّرَ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ بِأَنْ أَقَرَّ بِهَا الْعَبْدُ وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ قَالَ الْإِمَامُ : فَلَا وَجْهَ إلَّا الْقَطْعُ بِالتَّعَلُّقِ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِأَنَّ عَبْدَهُ جَنَى عَلَى عَبْدٍ خَطَأً قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَقَالَ الْعَبْدُ : قِيمَتُهُ أَلْفَانِ لَزِمَ الْعَبْدَ بَعْدَ الْعِتْقِ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى النَّصِّ فِي الْأُمِّ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ وَالتَّعَلُّقُ بِالذِّمَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ لَكِنْ لَمْ يَتَّحِدْ مَحَلُّ التَّعَلُّقِ .
فَرْعٌ : لَوْ اطَّلَعَ سَيِّدُ الْعَبْدِ عَلَى لُقَطَةٍ فِي يَدِهِ وَأَقَرَّهَا عِنْدَهُ أَوْ أَهْمَلَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ ، وَفَرَّعْنَا عَلَى الْأَظْهَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ فَأَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ تَعَلَّقَ الْمَالُ بِرَقَبَتِهِ وَسَائِرُ أَمْوَالِ السَّيِّدِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ .
فَرْعٌ : حَمْلُ الْجَانِيَةِ لِلسَّيِّدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَرْشُ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْجِنَايَةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهَا فَلَا تُبَاعُ حَتَّى تَضَعَ إذْ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ السَّيِّدِ عَلَى بَيْعِ الْحَمْلِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِثْنَاؤُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْدِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا بِيعَا مَعًا وَأَخَذَ السَّيِّدُ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَأَخَذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ ( وَلَوْ فَدَاهُ ) السَّيِّدُ ( ثُمَّ جَنَى ) بَعْدَ الْفِدَاءِ ( سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ ) أَيْ لِيُبَاعَ أَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ ( أَوْ فَدَاهُ ) كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارًا ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ لَمْ

يَتَعَلَّقْ بِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ( وَلَوْ جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ الْفِدَاءِ بَاعَهُ فِيهِمَا ) أَيْ الْجِنَايَتَيْنِ ، أَوْ سَلَّمَهُ لِيُبَاعَ فِيهِمَا ، وَوَزَّعَ ثَمَنَهُ عَلَيْهِمَا ( أَوْ فَدَاهُ ) السَّيِّدُ ( بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشَيْنِ ) عَلَى الْجَدِيدِ ( وَفِي الْقَدِيمِ بِالْأَرْشَيْنِ ) لِمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، فَإِنْ مُنِعَ لَزِمَهُ أَنْ يَفْدِيَ كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى جِنَايَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ ، وَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْجِنَايَتَيْنِ ، مَحَلُّهُ أَنْ يَتَّحِدَا فَلَوْ جَنَى خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ عَمْدًا وَلَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ ، وَلَا عَفَا صَاحِبُ الْعَمْدِ ، فَفِي فُرُوعِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْخَطَإِ وَحْدَهُ ، وَلِصَاحِبِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ كَمَنْ جَنَى خَطَأً ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنَّا نَبِيعُهُ ثُمَّ نَقْتُلُهُ بِالرِّدَّةِ إنْ لَمْ يَتُبْ قَالَ الْمُعَلِّقُ عَنْهُ : فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِتَعَلُّقِ الْقَوَدِ بِهِ فَعِنْدِي أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِصَاحِبِهِ : إنَّ صَاحِبَ الْخَطَإِ قَدْ مَنَعَكَ فَلَوْ أَقَدْنَاكَ لَأَبْطَلْنَا حَقَّهُ فَأَعْدَلُ الْأُمُورِ أَنْ تَشْتَرِكَا فِيهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِتَرْكِ الْقَوَدِ ، كَذَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَأَقَرَّهُ ، وَفِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ نَظَرٌ ( وَلَوْ أَعْتَقَهُ ) أَيْ الْعَبْدَ الْجَانِيَ ( أَوْ بَاعَهُ ) فَإِنْ أَبْطَلْنَاهُمَا فَظَاهِرُ حُكْمِهِ ( وَ ) إنْ ( صَحَّحْنَاهُمَا ) أَيْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِمَا بِأَنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَالْبَائِعُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَهُوَ فِي الْأُولَى رَاجِحٌ ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَرْجُوحٌ ( أَوْ قَتَلَهُ ) السَّيِّدُ ( فَدَاهُ ) حَتْمًا ( بِالْأَقَلِّ ) مِنْ قِيمَتِهِ وَالْأَرْشِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَحَلَّ حَقِّهِ ، ثُمَّ أَشَارَ لِطَرِيقَةٍ حَاكِيَةٍ لِلْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ السَّابِقَيْنِ بِقَوْلِهِ ( وَقِيلَ ) فِي فِدَائِهِ ( الْقَوْلَانِ ) السَّابِقَانِ

، وَمَا رَجَّحَهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْقَطْعِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ هُنَا ، وَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الْجَانِي بِطَرِيقَةِ الْخِلَافِ .

وَلَوْ هَرَبَ أَوْ مَاتَ بَرِئَ سَيِّدُهُ إلَّا إذَا طُلِبَ فَمَنَعَهُ ، وَلَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَتَسْلِيمَهُ

( وَلَوْ هَرَبَ ) الْعَبْدُ الْجَانِي ( أَوْ مَاتَ ) قَبْلَ اخْتِيَارِ السَّيِّدِ الْفِدَاءَ ( بَرِئَ سَيِّدُهُ ) مِنْ عُهْدَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ ( إلَّا إذَا طُلِبَ ) مِنْهُ تَسْلِيمُهُ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ ( فَمَنَعَهُ ) فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ ، بَلْ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِتَعَدِّيهِ بِالْمَنْعِ ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ صَادِقٌ بِأَنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَلِمَ السَّيِّدُ مَوْضِعَ الْعَبْدِ الْهَارِبِ وَأَمْكَنَهُ رَدُّهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : يُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ أَجْنَبِيٌّ قَتْلًا يُوجِبُ مَالًا بِأَنْ قَتَلَهُ خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، أَوْ يُوجِبُ قِصَاصًا وَعَفَا السَّيِّدُ عَلَى مَالٍ تَعَلَّقَتْ جِنَايَاتُهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ ، فَإِذَا أُخِذَتْ سَلَّمَهَا السَّيِّدُ أَوْ بَدَلَهَا مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْفُ السَّيِّدُ بَلْ اقْتَصَّ وَهُوَ جَائِزٌ لَهُ .
قَالَ الْبَغَوِيّ : لَزِمَهُ الْفِدَاءُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَقَرَّاهُ ، وَهَذَا مَا قَالَهُ شَيْخِي مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ .
أَمَّا إذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَالْمَرْهُونِ إذَا قُتِلَ وَاقْتَصَّ السَّيِّدُ ( وَلَوْ اخْتَارَ ) السَّيِّدُ ( الْفِدَاءَ فَالْأَصَحُّ ) وَفِي الرَّوْضَةِ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَوْلَى ( أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ ) عَنْهُ ( وَ ) أَنَّ عَلَيْهِ ( تَسْلِيمَهُ ) حِينَئِذٍ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَعْدٌ وَلَا أَثَرَ لَهُ ، وَالْيَأْسُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ بَيْعِهِ .
وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ عَمَلًا بِالْتِزَامِهِ .
تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَتَسْلِيمَهُ بَقَاءُ الْعَبْدِ ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ قَطْعًا ، وَمَحَلُّ الرُّجُوعِ إذَا كَانَ بَاقِيًا كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ إذَا لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الرُّجُوعِ وَيَلْزَمُهُ

الْفِدَاءُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ بِاخْتِيَارِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا أُسَلِّمُهُ وَأَغْرَمُ النَّقْصَ قُبِلَ ، وَمَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ بِتَأْخِيرِ بَيْعِهِ تَأْخِيرٌ يَضُرُّ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ ، فَإِنْ حَصَلَ وَلِلسَّيِّدِ مَالٌ غَيْرُهُ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ ، وَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْفِدَاءِ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ ، وَشَمَلَ كَلَامُهُ الِاخْتِيَارَ الْفِعْلِيَّ كَأَنْ وَطِئَ الْأَمَةَ الْجَانِيَةَ وَلَيْسَ مُرَادًا فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ ، وَقَوْلُهُ : وَتَسْلِيمَهُ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى اسْمِ أَنَّ ، وَالْمَعْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهُ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ خَبَرِ أَنَّ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ .

وَيَفْدِي أُمَّ وَلَدِهِ بِالْأَقَلِّ ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ ، وَجِنَايَاتُهَا كَوَاحِدَةٍ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَيَفْدِي ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ السَّيِّدُ وُجُوبًا ( أُمَّ وَلَدِهِ ) الْجَانِيَةَ حَتْمًا ( بِالْأَقَلِّ ) مِنْ قِيمَتِهَا وَالْأَرْشِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيلَادِ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الرِّقِّ فِيهَا فَأَشْبَهَ مَا إذَا جَنَى الْقِنُّ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ لِلْبَيْعِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ : السَّيِّدُ بِالِاسْتِيلَادِ مُسْتَمْتِعٌ بِحَقِّهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ ، فَجَعْلُهُ مُلْتَزِمًا لِلْفِدَاءِ بِجِنَايَةٍ تَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ فِيهِ غُمُوضٌ ، وَلَكِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَصْحَابِ ( وَقِيلَ ) فِي جِنَايَةِ أُمِّ وَلَدِهِ ( الْقَوْلَانِ ) السَّابِقَانِ فِي جِنَايَةِ الْقِنِّ ، وَلَعَلَّ مَأْخَذُهُ جَوَازُ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ وُجُوبِ فِدَائِهَا عَلَى السَّيِّدِ إذَا امْتَنَعَ بَيْعُهَا كَمَا اقْتَضَاهُ التَّعْلِيلُ السَّابِقُ ، فَلَوْ كَانَتْ تُبَاعُ لِكَوْنِهِ اسْتَوْلَدَهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَتُبَاعُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَصَحِّ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ لُزُومِ فِدَائِهَا وَوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى بَيْعِهَا الْمَمْنُوعِ بِالْإِحْبَالِ ، وَقِيلَ يَوْمُ الِاسْتِيلَادِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ ، وَشَمِلَ كَلَامُهُ الْأَمَةَ الَّتِي اسْتَوْلَدَهَا سَيِّدُهَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ هُنَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقِيمَةِ يَوْمِ الْإِحْبَالِ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ بَيْعُهَا حَالَ الْجِنَايَةِ فَتُعْتَبَرَ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ ( وَجِنَايَاتُهَا ) حُكْمُهَا ( كَوَاحِدَةٍ فِي الْأَظْهَرِ ) فَيَلْزَمُهُ لِلْكُلِّ فِدَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ ، وَإِتْلَافُ الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً ، كَمَا لَوْ جَنَى عَبْدُهُ جِنَايَاتٍ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا وَجَنَتْ جِنَايَتَيْنِ وَأَرْشُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَبَضَ أَلْفًا اسْتَرَدَّ مِنْهُ الثَّانِي نِصْفَهُ ، أَوْ أَرْشُ

الثَّانِيَةِ خَمْسُمِائَةٍ اسْتَرَدَّ مِنْهُ ثُلُثَهُ ، أَوْ أَرْشُ الثَّانِيَةِ أَلْفٌ وَالْأُولَى خَمْسُمِائَةٍ اسْتَرَدَّ مِنْهُ ثُلُثَهَا وَمِنْ السَّيِّدِ خَمْسَمِائَةٍ تَمَامَ الْقِيمَةِ لِيَصِيرَ مَعَهُ ثُلُثَا الْأَلْفِ ، وَمَعَ الْأَوَّلِ ثُلُثُهُ كَدُيُونِ الْمَيِّتِ إذَا قُسِّمَتْ تَرِكَتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ حَدَثَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ كَأَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فَهَلَكَ بِهَا شَيْءٌ فَيُزَاحِمُ الْمُسْتَحِقُّ الْغُرَمَاءَ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ أُمَّ الْوَلَدِ الَّتِي تُبَاعُ بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ إذَا جَنَتْ جِنَايَةً تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَلَا تَكُونُ جِنَايَاتُهَا كَوَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا ، بَلْ هِيَ كَالْقِنِّ يَجْنِي جِنَايَةً بَعْدَ أُخْرَى فَيَأْتِي فِيهَا التَّفْصِيلُ الْمَارُّ .
وَالثَّانِي يَفْدِيهَا فِي كُلِّ جِنَايَةٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَأَرْشِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَالْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ ، وَالْبَاقِي مِنْ الْقِيمَةِ لَا يَفِي بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْأُولَى دُونَ الْقِيمَةِ وَفَدَاهَا بِهِ ، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهَا يَفِي بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَدَاهَا بِأَرْشِهَا قَطْعًا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَسَكَتُوا عَنْ التَّعَلُّقِ بِذِمَّتِهَا وَيُشَبَّهُ الْقَطْعُ بِهِ لِتَعَذُّرِ التَّعَلُّقِ بِرَقَبَتِهَا ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْأَشْبَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْقَطْعُ بِالتَّعَلُّقِ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ لِأَنَّهُ مَنَعَ بَيْعَهَا ، فَلَوْ مَاتَتْ عَقِبَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَسْقُطْ الْأَرْشُ عَنْ السَّيِّدِ فِي الْأَصَحِّ بِخِلَافِ الْقِنِّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى جِنَايَةِ الْمَوْقُوفِ .
تَتِمَّةٌ : حُكْمُ الْمَوْقُوفِ حُكْمُ الْمُسْتَوْلَدَةِ لِمَنْعِ الْوَاقِفِ بَيْعَهُ بِوَقْفِهِ ، الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا : إنَّ الْمَنْذُورَ عِتْقُهُ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَذَكَرَ

الْمُصَنِّفُ جِنَايَتَهُ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ .

[ فَصْلٌ ] فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ إنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ فِي حَيَاتِهَا أَوْ مَوْتِهَا ، وَكَذَا إنْ ظَهَرَ بِلَا انْفِصَالٍ فِي الْأَصَحِّ وَإِلَّا فَلَا ، أَوْ حَيًّا وَبَقِيَ زَمَانًا بِلَا أَلَمٍ ثُمَّ مَاتَ فَلَا ضَمَانَ وَإِنْ مَاتَ حِينَ خَرَجَ أَوْ دَامَ أَلَمُهُ وَمَاتَ فَدِيَةُ نَفْسٍ .

[ فَصْلٌ ] ( فِي ) دِيَةِ ( الْجَنِينِ ) الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ( غُرَّةٌ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ } بِتَرْكِ تَنْوِينِ غُرَّةٍ عَلَى الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ وَتَنْوِينُهَا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْهَا ، وَأَصْلُ الْغُرَّةِ الْبَيَاضُ فِي وَجْهِ الْفَرَسِ ، وَلِهَذَا شَرَطَ عَمْرُو بْنُ الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبْيَضَ وَالْأَمَةُ بَيْضَاءَ ، وَحَكَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْأَكْثَرُونَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : النَّسَمَةُ مِنْ الرَّقِيقِ غُرَّةٌ لِأَنَّهَا غُرَّةُ مَا يَمْلِكُ : أَيْ أَفْضَلُهُ ، وَغُرَّةُ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْغُرَّةُ فِيهِ ( إنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ ) عَلَى أُمِّهِ الْحَيَّةِ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْجِنَايَةُ بِالْقَوْلِ كَالتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ الْمُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْجَنِينِ ، أَمْ بِالْفِعْلِ كَأَنْ يَضْرِبَهَا أَوْ يُوجِرَهَا دَوَاءً أَوْ غَيْرَهُ فَتُلْقِي جَنِينًا ، أَمْ بِالتَّرْكِ كَأَنْ يَمْنَعَهَا الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ حَتَّى تُلْقِيَ الْجَنِينَ وَكَانَتْ الْأَجِنَّةُ تَسْقُطُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ دَعَتْهَا ضَرُورَةٌ إلَى شُرْبِ دَوَاءٍ ، فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهَا لَا تَضْمَنُ بِسَبَبِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ الصَّوْمُ وَلَوْ فِي رَمَضَانَ إذَا خَشِيَتْ مِنْهُ الْإِجْهَاضَ ، فَإِذَا فَعَلَتْهُ فَأَجْهَضَتْ ضَمِنَتْهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَلَا تَرِثُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَمْ غَيْرَهُ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، لِأَنَّ دِيَتَهُمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ لَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ غَيْرَهُ فَسَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا كَأَصْلِ الصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ يَكُونُ بَدَلَ اللَّبَنِ فِي الْمُصَرَّاةِ ، سَوَاءٌ أَقَلَّ اللَّبَنُ أَمْ كَثُرَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ تَامَّ الْأَعْضَاءِ أَمْ نَاقِصَهَا ثَابِتَ النَّسَبِ أَمْ لَا ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مَضْمُونًا عَلَى

الْجَانِي عِنْدَ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمُّهُ مَعْصُومَةً أَوْ مَضْمُونَةً عِنْدَهَا .
أَمَّا الْجَنِينُ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ فَذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْفَصْلِ وَلَا أَثَرَ لِنَحْوِ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ كَمَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الدِّيَةِ وَلَا لِضَرْبَةٍ قَوِيَّةٍ أَقَامَتْ بَعْدَهَا بِلَا أَلَمٍ ، ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ .
تَنْبِيهٌ : سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِاسْتِتَارِهِ وَمِنْهُ الْجِنُّ ، وَقَوْلُهُ ( فِي حَيَاتِهَا أَوْ مَوْتِهَا ) مُتَعَلِّقٌ بِانْفَصَلَ : أَيْ انْفَصَلَ فِي حَيَاتِهَا بِجِنَايَةٍ أَوْ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِجِنَايَةٍ فِي حَيَاتِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهَا أَوْ مَوْتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِجِنَايَةٍ ، فَيَشْمَلُ مَا لَوْ ضَرَبَ مَيِّتَةً فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ فَأَوْجَبَا الْغُرَّةَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَلَمْ يُرَجِّحْ الشَّيْخَانِ شَيْئًا ( وَكَذَا إنْ ظَهَرَ ) بَعْضُ الْجَنِينِ ( بِلَا انْفِصَالٍ ) مِنْ أُمِّهِ كَخُرُوجِ رَأْسِهِ مَيِّتًا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِتَحَقُّقِ وُجُودِهِ ، وَالثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ انْفِصَالِهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ كَالْعُضْوِ مِنْهَا ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَجَنِينِ حَرْبِيَّةٍ مِنْ حَرْبِيٍّ ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا كَأَنْ كَانَ الْجَانِي مَالِكًا لِلْجَنِينِ وَلِأُمِّهِ بِأَنْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ الْحَامِلِ وَجَنِينُهَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ فَعَتَقَتْ ، ثُمَّ أَلْقَتْ الْجَنِينَ أَوْ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَيِّتَةً أَوْ لَمْ يَنْفَصِلْ وَلَا ظَهَرَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أُمِّهِ ( فَلَا ) شَيْءَ فِيهِ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ فِي الْأُولَى ، وَعَدَمِ ضَمَانِ الْجَانِي فِي الثَّانِيَةِ وَلِظُهُورِ مَوْتِهِ بِمَوْتِهَا فِي الثَّالِثَةِ ، وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ فِي

الْأَخِيرَتَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : تَقْيِيدُ الْجَنِينِ بِالْعِصْمَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِ الْأُمِّ بِهَا لِإِيهَامِ أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى حَرْبِيَّةٍ جَنِينُهَا مَعْصُومٌ حِينَ الْجِنَايَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَلَمْ يَنْفَصِلْ الْوَلَدُ وَلَمْ يَظْهَرْ فَلَا غُرَّةَ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ وُجُودَ الْجَنِينِ فَلَا نُوجِبُ شَيْئًا بِالشَّكِّ ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُنْتَفِخَةَ الْبَطْنِ فَضَرَبَهَا ضَارِبٌ فَزَالَ الِانْتِفَاخُ أَوْ وَكَانَتْ تَجِدُ حَرَكَةً فِي بَطْنِهَا فَانْقَطَعَتْ بِالضَّرْبَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا فَانْفَشَّتْ وَسَكَنَ ( أَوْ ) انْفَصَلَ ( حَيًّا وَبَقِيَ ) بَعْدَ انْفِصَالِهِ ( زَمَانًا بِلَا أَلَمٍ ) فِيهِ ( ثُمَّ مَاتَ ) ( فَلَا ضَمَانَ ) عَلَى الْجَانِي ، سَوَاءٌ أَزَالَ أَلَمُ الْجِنَايَةِ عَنْ أُمِّهِ قَبْلَ إلْقَائِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ ( وَإِنْ مَاتَ حِينَ خَرَجَ ) بَعْدَ انْفِصَالِهِ أَوْ تَحَرَّكَ تَحَرُّكًا شَدِيدًا كَقَبْضِ يَدٍ وَبَسْطِهَا ، وَلَوْ حَرَكَةَ مَذْبُوحٍ لَا اخْتِلَاجًا ( أَوْ دَامَ أَلَمُهُ وَمَاتَ ) مِنْهُ ( فَدِيَةُ نَفْسٍ ) كَامِلَةٌ عَلَى الْجَانِي ، وَلَوْ انْفَصَلَ الْجَنِينُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا حَيَاتَهُ ، وَالظَّاهِرُ مَوْتُهُ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ اخْتِلَاجِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ انْتِشَارًا بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَضِيقِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ حَزَّهُ شَخْصٌ وَقَدْ انْفَصَلَ بِلَا جِنَايَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً أَوْ بِجِنَايَةٍ وَحَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ بِجِنَايَةٍ وَحَيَاتُهُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ ، فَالْقَاتِلُ لَهُ هُوَ الْجَانِي عَلَى أُمِّهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَازِّ إلَّا التَّعْزِيرُ ، وَلَوْ خَرَجَ رَأْسُهُ وَصَاحَ فَحَزَّهُ شَخْصٌ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالصِّيَاحِ حَيَاتَهُ .

وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ فَغُرَّتَانِ ، أَوْ يَدًا فَغُرَّةٌ ، إنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ فِي حَيَاتِهَا أَوْ مَوْتِهَا ، وَكَذَا إنْ ظَهَرَ بِلَا انْفِصَالٍ فِي الْأَصَحِّ وَإِلَّا فَلَا .
( وَلَوْ أَلْقَتْ ) أَيْ امْرَأَةٌ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهَا ( جَنِينَيْنِ ) مَيِّتَيْنِ ( فَغُرَّتَانِ ) تَجِبَانِ فِيهِمَا ، أَوْ ثَلَاثًا فَثَلَاثَةٌ ، وَهَكَذَا لِأَنَّ الْغُرَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ الْجَنِينِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ ، وَلَوْ أَلْقَتْ مَيِّتًا وَحَيًّا وَاسْتَمَرَّ أَلَمُ الْحَيِّ حَتَّى مَاتَ فَغُرَّةٌ لِلْأَوَّلِ وَدِيَةٌ لِلثَّانِي ، وَلَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْإِجْهَاضِ اشْتَرَكُوا فِي الْغُرَّةِ كَمَا فِي الدِّيَةِ ( أَوْ ) أَلْقَتْ ( يَدًا ) أَوْ رِجْلًا وَمَاتَتْ ( فَغُرَّةٌ ) تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَلَ بِوُجُودِ الْجَنِينِ ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْيَدَ بَانَتْ بِالْجِنَايَةِ ، وَخَرَجَ بِمَاتَتْ مَا لَوْ عَاشَتْ وَلَمْ تُلْقِ جَنِينًا ، فَلَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ غُرَّةٍ كَمَا أَنَّ يَدَ الْحَيِّ لَا يَجِبُ فِيهَا إلَّا نِصْفُ دِيَةٍ وَلَا يُضْمَنُ بَاقِيهِ ، لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ .

فُرُوعٌ : لَوْ أَلْقَتْ بَدَنَيْنِ وَلَوْ مُلْتَصِقَيْنِ فَغُرَّتَانِ ، إذْ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَنَانِ ، فَالْبَدَنَانِ حَقِيقَةً يَلْتَزِمَانِ رَأْسَيْنِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا رَأْسٌ فَالْمَجْمُوعُ بَدَنٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً فَلَا تَجِبُ إلَّا غُرَّةُ وَاحِدَةٍ .

وَلَوْ أَلْقَتْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا مِنْ الْأَيْدِي أَوْ الْأَرْجُلِ أَوْ رَأْسَيْنِ وَجَبَ غُرَّةُ فَقْدٍ لِإِمْكَانِ كَوْنِهَا لِجَنِينٍ وَاحِدٍ ، بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا زَائِدٌ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِامْرَأَةٍ لَهَا رَأْسَانِ فَنَكَحَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَطَلَّقَهَا ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْعُضْوِ الزَّائِدِ حُكُومَةٌ .

وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا ثُمَّ جَنِينًا مَيِّتًا بِلَا يَدٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ مِنْ الْأُمِّ فَغُرَّةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْيَدَ مُبَانَةٌ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ ، أَوْ حَيًّا فَمَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَدِيَةٌ وَدَخَلَ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ ، فَإِنْ عَاشَ وَشَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ فَنِصْفُ دِيَةٍ لِلْيَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْقَوَابِلُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ فَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْيَدِ عَمَلًا بِالْيَقِينِ ، أَوْ أَلْقَتَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ أُهْدِرَ الْجَنِينُ لِزَوَالِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ وَوَجَبَ لِلْيَدِ الْمُلْقَاةِ قَبْلَهُ إنْ خَرَجَ مَيِّتًا نِصْفُ غُرَّةٍ أَوْ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ فَنِصْفُ دِيَةٍ إنْ شَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْدَ إلْقَاءِ الْيَدِ مَيِّتًا كَامِلِ الْأَطْرَافِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَفِي الْيَدِ حُكُومَةٌ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا أَوْ قَبْلَ الِانْدِمَالِ مَيِّتًا فَغُرَّةُ فَقْدٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْيَدَ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ زَائِدَةً لِهَذَا الْجَنِينِ وَانْمَحَقَ أَثَرُهَا ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ فَدِيَةٌ لَا غُرَّةٌ كَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَإِنْ عَاشَ فَحُكُومَةٌ وَتَأَخُّرُ الْيَدِ عَنْ الْجَنِينِ إلْقَاءً كَتَقَدُّمٍ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ .

وَكَذَا لَحْمٌ قَالَ الْقَوَابِلُ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ ، قِيلَ أَوْ لَا قُلْنَ لَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ .
( وَكَذَا لَحْمٌ ) أَلْقَتْهُ امْرَأَةٌ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهَا يَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ إذَا ( قَالَ الْقَوَابِلُ ) وَهُنَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ( فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ ) عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلَا يَعْرِفُهَا سِوَاهُنَّ لِحَذْقِهِنَّ .
فَائِدَةٌ : تَظْهَرُ الصُّورَةُ الْخَفِيَّةُ بِوَضْعِهِ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ ، وَيَكْفِي تَصَوُّرُ أُصْبُعٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ ظُفْرٍ أَوْ مَا بَانَ مِنْ خَلْقِ آدَمِيٍّ ( قِيلَ أَوْ لَا ) صُورَةَ أَيْ تَجِبُ الْغُرَّةُ أَيْضًا فِي إلْقَاءِ لَحْمٍ لَا صُورَةَ فِيهِ أَصْلًا تَعْرِفُهَا الْقَوَابِلُ ، وَلَكِنْ ( قُلْنَ ) إنَّهُ ( لَوْ بَقِيَ ) ذَلِكَ اللَّحْمُ ( لَتَصَوَّرَ ) أَيْ تَخَلَّقَ كَمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ، وَالْمَذْهَبُ لَا غُرَّةَ كَمَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَمَرَّ إيضَاحُ هَذَا فِي بَابِ الْعَدَدِ تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ تَعْبِيرُهُ بِاللَّحْمِ تَصْوِيرَ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُضْغَةِ ، فَلَوْ أَلْقَتْ عَلَقَةً لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ قَطْعًا كَمَا لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ .

وَهِيَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، مُمَيِّزٌ سَلِيمٌ مِنْ عَيْبِ مَبِيعٍ ، وَالْأَصَحُّ قَبُولُ كَبِيرٍ لَمْ يَعْجَزْ بِهَرَمٍ ، وَيُشْتَرَطُ بُلُوغُهَا نِصْفَ عُشْرِ دِيَةٍ .

( وَهِيَ ) أَيْ الْغُرَّةُ الْوَاجِبَةُ ( عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ) كَمَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ ، وَالْخِيَرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى الْغَارِمِ ، وَيُجْبَرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى قَبُولِهَا مِنْ أَيْ نَوْعٍ كَانَتْ .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُ الْخُنْثَى كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى فِي الظَّاهِرِ ، وَأَشَارَ لِوَصْفِ الْغُرَّةِ بِقَوْلِهِ ( مُمَيِّزٌ ) فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ هِيَ الْخِيَارُ كَمَا مَرَّ ، وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ لَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ، وَلَفْظُ الْجَنِينِ وَإِنْ كَانَ يَشْمَلُ الْمُمَيِّزَ وَغَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَخُصُّهُ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْغُرَّةِ جَبْرُ الْخَلَلِ وَلَا جَبْرَ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ اعْتِبَارُ التَّمْيِيزِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى السِّنِّ ، حَتَّى لَوْ مَيَّزَ قَبْلَ السَّبْعِ أَجْزَأَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا : بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا السِّنِّ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ .
قَالَ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ( سَلِيمٌ مِنْ عَيْبِ مَبِيعٍ ) لِأَنَّ الْمَعِيبَ لَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اكْتَفَى فِي الْكُفَّارِ بِالْمَعِيبِ إذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُخِلُّ بِالْعَمَلِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْغُرَّةُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ بِالْمَعِيبِ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ : قَبُولَ الْكَافِرِ ، لَكِنْ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ خَصِيٍّ وَخُنْثَى وَكَافِرٍ ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ مَحْمُولٌ بِقَرِينَةِ مَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ عَلَى كَافِرٍ بِبَلَدٍ تَقِلُّ فِيهِ الرَّغْبَةُ أَوْ عَلَى مُرْتَدٍّ أَوْ كَافِرَةٍ يَمْتَنِعُ وَطْؤُهَا لِتَمَجُّسٍ وَنَحْوِهِ ، وَمَا هُنَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَفْهَمَ امْتِنَاعُ الْحَامِلِ لِجَزْمِهِمْ فِي كِتَابِ

الْبَيْعِ بِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْجَوَارِي ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ، فَقَالَ : لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ حَامِلٍ وَلَا مَوْطُوءَةٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ حَمْلِهَا ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْمَوْطُوءَةِ الَّتِي لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ حَمْلِهَا مَمْنُوعٌ ، فَقَدْ قَالَ فِي الْبَحْرِ بِقَبُولِهَا هُنَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الدَّوَابِّ الْحَمْلُ بِخِلَافِ بَنَاتِ آدَمَ ( وَالْأَصَحُّ قَبُولُ ) رَقِيقٍ ( كَبِيرٍ ) مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ( لَمْ يَعْجَزْ بِهَرَمٍ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْخِيَارِ مَا لَمْ تَنْقُصْ مَنَافِعُهُ ، وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةٍ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ يَنْقُصُ حِينَئِذٍ ، وَالثَّالِثُ لَا يُقْبَلُ بَعْدَهَا فِي الْأَمَةِ وَبَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْعَبْدِ ، وَضَعُفَ الْوَجْهَانِ بِأَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يُقَابِلُهُ زِيَادَةُ الْمَنْفَعَةِ .
أَمَّا الْعَاجِزُ بِالْهَرَمِ فَلَا يُقْبَلُ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ وَضَبْطُهُ سُلَيْمٌ فِي الْمُجَرَّدِ بِأَنْ يَبْلُغَ إلَى حَدٍّ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الطِّفْلِ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ( وَيُشْتَرَطُ ) فِي الْغُرَّةِ ( بُلُوغُهَا ) فِي الْقِيمَةِ ( نِصْفَ عُشْرِ دِيَةٍ ) مِنْ الْأَبِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ الْمُسْلِمَةِ ، فَفِي الْحُرِّ الْمُسْلِمِ رَقِيقٌ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهَا دِيَةٌ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَسَائِرِ الدِّيَاتِ ، وَلِأَنَّ الْجَنِينَ عَلَى أَقَلِّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَقَلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ الدِّيَاتِ وَهُوَ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَالسِّنِّ .

فَإِنْ فُقِدَتْ فَخَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ فَلِلْفَقْدِ قِيمَتُهَا
( فَإِنْ فُقِدَتْ ) تِلْكَ الْغُرَّةُ حِسًّا بِأَنْ لَمْ تُوجَدْ ، أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وُجِدَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا ( فَخَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ ) بَدَلًا عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا فَعِنْدَ عَدَمِهَا يُؤْخَذُ مَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الدِّيَاتِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا عِنْدَ فَقْدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ فُقِدَتْ الْإِبِلُ وَجَبَ قِيمَتُهَا كَمَا فِي فَقْدِ إبِلِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهَا وَجَبَتْ قِيمَتُهُ مَعَ الْمَوْجُودِ ( وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ) بُلُوغُهَا مَا ذُكِرَ : بَلْ مَتَى وُجِدَتْ سَلِيمَةً مُمَيِّزَةً وَجَبَ قَبُولُهَا وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهَا لِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الْخَبَرِ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الرَّوْضَةِ بِالْقَوْلِ ( فَلِلْفَقْدِ قِيمَتُهَا ) أَيْ الْغُرَّةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ .
تَنْبِيهٌ : الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْغُرَّةِ لَا يَصِحُّ كَالِاعْتِيَاضِ عَنْ الدِّيَةِ .

وَهِيَ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ
( وَهِيَ ) أَيْ الْغُرَّةُ ( لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ ) عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ ، وَيُقَدَّرُ انْفِصَالُهُ حَيًّا ثُمَّ مَوْتِهِ .

وَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي ، وَقِيلَ إنْ تَعَمَّدَ فَعَلَيْهِ .
( وَ ) هِيَ أَيْ وَاجِبَةٌ ( عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَارِّ ( وَقِيلَ إنْ تَعَمَّدَ ) الْجِنَايَةَ بِأَنْ قَصَدَهَا بِمَا يُلْقِي غَالِبًا ( فَعَلَيْهِ ) وَهَذَا قَدْ يُفْهِمُ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِ الْعَمْدِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى أُمِّهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ حَتَّى يَقْصِدَ : بَلْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شِبْهُ الْعَمْدِ أَيْضًا وَهُوَ قَوِيٌّ وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ شِبْهِ الْعَمْدِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَصْدُ الشَّخْصِ كَالْعَمْدِ ، وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجَنِينِ إذَا خَرَجَ حَيًّا وَمَاتَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَمْدُ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : يُغَلَّظُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ فَيُؤْخَذُ عِنْدَ فَقْدِ الْغُرَّةِ حِقَّةٌ وَنِصْفٌ وَجَذَعَةٌ وَنِصْفٌ وَخِلْفَتَانِ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُغَلَّظَ فِي الْغُرَّةِ أَيْضًا بِأَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَاسْتَحْسَنَاهُ ، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ يَقْتَضِي تَحَمُّلَ عَصَبَاتِهِ مِنْ النَّسَبِ ، ثُمَّ الْوَلَاءِ ، ثُمَّ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ الْمَالِ ضُرِبَتْ عَلَى الْجَانِي ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْعَاقِلَةُ بِالْوَاجِبِ وَجَبَ عَلَى الْجَانِي الْبَاقِي .

وَالْجَنِينُ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ قِيلَ كَمُسْلِمٍ ، وَقِيلَ هَدَرٌ ، وَالْأَصَحُّ غُرَّةٌ كَثُلُثِ غُرَّةِ مُسْلِمٍ .
، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الْكَافِرِ ، فَقَالَ ( وَالْجَنِينُ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ ) بِالتَّبَعِ لِأَبَوَيْهِ ( قِيلَ كَمُسْلِمٍ ) فِي الْغُرَّةِ ( وَقِيلَ ) هُوَ ( هَدَرٌ ) وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْغُرَّةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالْقِيمَةِ ( وَالْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغُرَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ عُشْرِ دِيَةِ الْأَبِ فِي الْجَنِينِ الْمَذْكُورِ ( غُرَّةٌ كَثُلُثِ غُرَّةِ مُسْلِمٍ ) كَمَا فِي دِيَتِهِ وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلُثَا بَعِيرٍ ، وَفِي الْجَنِينِ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثُ خُمُسِ غُرَّةِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي دِيَتِهِ وَهُوَ ثُلُثُ بَعِيرٍ ، وَأَمَّا الْجَنِينُ الْحَرْبِيُّ وَالْجَنِينُ الْمُرْتَدُّ بِالتَّبَعِ لِأَبَوَيْهِمَا فَمُهْدَرَانِ .

وَالرَّقِيقُ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَقِيلَ الْإِجْهَاضُ لِسَيِّدِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً وَالْجَنِينُ سَلِيمٌ قُوِّمَتْ سَلِيمَةً فِي الْأَصَحِّ ، وَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي الْأَظْهَرِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الرَّقِيقِ ، فَقَالَ ( وَ ) الْجَنِينُ ( الرَّقِيقُ ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فِيهِ ( عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ) قِنَّةً كَانَتْ أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَوْلَدَةً قِيَاسًا عَلَى الْجَنِينِ الْحُرِّ ، فَإِنَّ الْغُرَّةَ فِي الْجَنِينِ مُعْتَبَرَةٌ بِعُشْرِ مَا تَضْمَنُ بِهِ الْأُمُّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا قِيمَتَهُ فِي نَفْسِهِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ اسْتِقْلَالِهِ بِانْفِصَالِهِ مَيِّتًا ، وَاسْتُثْنِيَ مَا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ هِيَ الْجَانِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي جَنِينِهَا الْمَمْلُوكِ لِلسَّيِّدِ شَيْءٌ ، إذْ لَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ عَلَى رَقِيقِهِ شَيْءٌ ، وَخَرَجَ بِالرَّقِيقِ الْمُبَعَّضُ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ ، قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُوَزَّعَ الْغُرَّةُ عَلَى الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ ( يَوْمَ الْجِنَايَةِ ) عَلَيْهَا لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ ( وَقِيلَ ) يَوْمَ ( الْإِجْهَاضِ ) لِلْجَنِينِ لِأَنَّهُ وَقْتُ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ .
تَنْبِيهٌ : إطْلَاقُهُ اعْتِبَارَ يَوْمِ الْجِنَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الْإِجْهَاضِ أَمْ أَقَلَّ .
وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَنْصُوصَ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّا نَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْجِنَايَةِ إلَى الْإِجْهَاضِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا انْفَصَلَ مَيِّتًا كَمَا عُلِمَ مِنْ التَّعْلِيلِ السَّابِقِ ، فَإِنْ انْفَصَلَ حَيًّا وَمَاتَ مِنْ أَثَرِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ الِانْفِصَالِ قَطْعًا وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ ، وَيُصْرَفُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّقِيقِ ( لِسَيِّدِهَا ) أَيْ أُمِّ الْجَنِينِ ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ لِلسَّيِّدِ أَيْ سَيِّدِ الْجَنِينِ ، وَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّ الْجَنِينَ قَدْ يَكُونُ لِشَخْصٍ وَصَّى لَهُ بِهِ وَتَكُونُ الْأُمُّ لِآخَرَ فَالْبَدَلُ لِسَيِّدِهِ لَا لِسَيِّدِهَا ، وَقَدْ يُعْتَذَرُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ

جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ الْمَمْلُوكَ لِسَيِّدِ الْأُمِّ ( فَإِنْ كَانَتْ ) تِلْكَ الْأُمُّ ( مَقْطُوعَةً ) أَطْرَافُهَا ( وَالْجَنِينُ سَلِيمٌ ) أَطْرَافُهُ ( قُوِّمَتْ ) بِتَقْدِيرِهَا ( سَلِيمَةً فِي الْأَصَحِّ ) لِسَلَامَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ كَافِرَةً وَالْجَنِينُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَتُقَوَّمُ مُسْلِمَةً ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَالْجَنِينُ رَقِيقٌ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ رَقِيقَةً .
وَصُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ لِشَخْصٍ وَالْجَنِينُ لِآخَرَ بِوَصِيَّةٍ فَيُعْتِقُهَا مَالِكُهَا ، وَالثَّانِي لَا تُقَدَّرُ سَلِيمَةً لِأَنَّ نُقْصَانَ الْأَعْضَاءِ أَمْرٌ خِلْقِيٌّ ، وَفِي تَقْدِيرِ خِلَافِهِ بُعْدٌ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَنِينُ مَقْطُوعًا وَالْأُمُّ سَلِيمَةً قُوِّمَتْ الْأُمُّ مَقْطُوعَةً ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ تُقَوَّمُ سَلِيمَةً أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْجَنِينِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَثَرِ الْجِنَايَةِ ، وَاللَّائِقُ التَّغْلِيظُ عَلَى الْجَانِي لَا التَّخْفِيفُ ، فَلَوْ قَالَ : وَعَكْسُهُ لَشَمِلَ هَذِهِ الصُّورَةَ ( وَتَحْمِلُهُ ) أَيْ الْعُشْرَ الْمَذْكُورَ ( الْعَاقِلَةُ ) أَيْ عَاقِلَةُ الْجَانِي ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِمَا مَرَّ فِي الْغُرَّةِ ، وَهَذَا قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ سَابِقًا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ : وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْعَبْدَ فِي الْأَظْهَرِ .
.

تَتِمَّةٌ : سَقَطَ جَنِينٌ مَيِّتًا فَادَّعَى وَارِثُهُ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ سَقَطَ بِجِنَايَتِهِ فَأَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ، وَلَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ وَأَنْكَرَ الْإِسْقَاطَ وَقَالَ السَّقْطُ مُلْتَقَطٌ فَهُوَ الْمُصَدَّقُ أَيْضًا وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ، وَيُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ وِلَادَةٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ وَالْإِسْقَاطِ وَأَنْكَرَ كَوْنَ الْإِسْقَاطِ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ نُظِرَ إنْ أَسْقَطَتْ عَقِبَ الْجِنَايَةِ فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَأَلِّمَةً حَتَّى أَسْقَطَتْ ، وَلَا يُقْبَلُ هُنَا إلَّا رَجُلَانِ ، وَضَبَطَ الْمُتَوَلِّي الْمُدَّةَ الْمُتَخَلَّلَةَ بِمَا يَزُولُ فِيهَا أَلَمُ الْجِنَايَةِ وَأَثَرُهَا غَالِبًا ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى سُقُوطِهِ بِجِنَايَةٍ وَقَالَ الْجَانِي : سَقَطَ مَيِّتًا فَالْوَاجِبُ الْغُرَّةُ وَقَالَ الْوَارِثُ : بَلْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ ، فَعَلَى الْوَارِثِ الْبَيِّنَةُ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ اسْتِهْلَالٍ وَغَيْرِهِ ، وَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَالِبًا إلَّا النِّسَاءُ ، وَلَوْ أَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً بِمَا يَدَّعِيهِ فَبَيِّنَةُ الْوَارِثِ أَوْلَى لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ .
.

وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا وَعَامِدًا وَمُخْطِئًا وَمُتَسَبِّبًا بِقَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِدَارِ حَرْبٍ ، وَذِمِّيٍّ وَجَنِينٍ وَعَبْدِ نَفْسِهِ وَنَفْسِهِ ، وَفِي نَفْسِهِ وَجْهٌ .

[ فَصْلٌ ] فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ ( يَجِبُ بِالْقَتْلِ ) عَمْدًا كَانَ أَوْ شِبْهَهُ أَوْ خَطَأً كَمَا سَيَأْتِي ( كَفَّارَةٌ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [ النِّسَاءُ ] وقَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [ النِّسَاءُ ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [ النِّسَاءُ ] وَخَبَرِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ { أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ ، فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ .
وَخَرَجَ بِالْقَتْلِ الْأَطْرَافُ وَالْجُرُوحُ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِعَدَمِ وُرُودِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ تَكْلِيفٌ ، بَلْ تَجِبُ ( وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الضَّمَانِ فَتَجِبُ فِي مَالِهِمَا فَيُعْتِقُ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا وَلَا يَصُومُ عَنْهُمَا بِحَالٍ ، فَإِنْ صَامَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ أَجْزَأَهُ ، وَأَلْحَقَ الشَّيْخَانِ بِهِ الْمَجْنُونَ فِي هَذَا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَبْطُلُ بِطَرَيَانِ جُنُونِهِ ، وَإِلَّا لَمْ تُتَصَوَّرْ الْمَسْأَلَةُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا جَازَ وَكَأَنَّهُ مَلَكَهَا ثُمَّ نَابَ عَنْهُمَا فِي الْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ كَانَ قَيِّمًا أَوْ وَصِيًّا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَقْبَلَ الْقَاضِي لَهُمَا التَّمْلِيكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هُنَا عَنْ الْبَغَوِيِّ ، وَقَالَا فِي بَابِ الصَّدَاقِ : لَوْ لَزِمَ الصَّبِيَّ كَفَّارَةُ قَتْلٍ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ وَلَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ دُخُولَهُ فِي مِلْكِهِ وَإِعْتَاقَهُ

عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ عَبْدِ الطِّفْلِ ، وَكَلَامُ الْمُتَوَلِّي يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ عِتْقُ التَّبَرُّعِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ كَلَامَيْ الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفِيهِ ، وَذَكَرَا فِي بَابِ الْحَجْرِ أَنَّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَا يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ بَلْ بِالصَّوْمِ كَالْعَبْدِ ، وَقَدْ يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ كَذَلِكَ ، لَكِنْ صَرَّحَ الصَّيْمَرِيُّ بِوُجُوبِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي مَالِهِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا الْحُرِّيَّةُ ، بَلْ تَجِبُ ( وَ ) إنْ كَانَ الْقَاتِلُ ( عَبْدًا ) كَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ ، لَكِنْ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ ( وَذِمِّيًّا ) لِالْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا ، وَقُلْنَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ أَوَّلًا ( أَوْ ذِمِّيًّا ) وَيُتَصَوَّرُ إعْتَاقُهُ عَبْدًا مُسْلِمًا فِي صُوَرٍ : مِنْهَا أَنْ يُسْلِمَ فِي مِلْكِهِ أَوْ يَرِثَهُ أَوْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ كَفَّارَتِي فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ إعْتَاقُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : لَا يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا الْخَطَأُ بَلْ تَجِبُ ( وَ ) إنْ كَانَ الْقَاتِلُ ( عَامِدًا ) لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ الْمَارِّ أَوَّلَ الْفَصْلِ ، فَإِنَّ فِيهِ فِي صَاحِبٍ لَنَا اسْتَوْجَبَ النَّارَ ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ إلَّا فِي الْعَمْدِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْجَبْرِ وَالْعَامِدُ أَحْوَجُ إلَيْهَا ، وَمِثْلُهُ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : عَامِدًا أَوْ لَا دَخَلَ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الْعَمْدِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا قِيَاسٌ ( وَ ) أَمَّا إذَا كَانَ ( مُخْطِئًا ) فَبِالْإِجْمَاعِ ، وَلِلْآيَةِ السَّابِقَةِ .
تَنْبِيهٌ :

قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ شَخْصًا بِإِذْنِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ عَدَمَ الْوُجُوبِ لِقَوْلِهِ : هَدَرٌ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ الْجَلَّادُ الْقَاتِلُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ إذَا جَرَى عَلَى يَدِهِ قَتْلٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَهُوَ جَاهِلٌ بِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْحَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ سَيْفُ الْإِمَامِ وَآلَةُ سِيَاسَتِهِ ( وَ ) لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا الْمُبَاشَرَةُ بَلْ تَجِبُ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ ( مُتَسَبِّبًا ) كَالْمُكْرِهِ وَالْآمِرِ بِهِ لِمَنْ لَا يُمَيِّزُ وَشَاهِدِ الزُّورِ ، وَحَافِرِ بِئْرٍ عُدْوَانًا وَلَوْ حَصَلَ التَّرَدِّي بَعْدَ مَوْتِ الْحَافِرِ الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْقَاتِلِ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ فَشَمِلَتْهُمَا الْآيَةُ ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ .
تَنْبِيهٌ : الشَّرْطُ كَالسَّبَبِ وَإِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ : مُتَسَبِّبًا عَلَى الْأَعَمِّ دَخَلَ الشَّرْطُ فِي عِبَارَتِهِ ، وَتَقَدَّمَ أَوَائِلَ كِتَابِ الْجِرَاحِ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ ذُكِرَ ( بِقَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ ) كَانَ ( بِدَارِ حَرْبٍ ) وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَلَا الدِّيَةُ لِلْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَدْ مَرَّ فِيهَا أَنَّ { مِنْ قَوْمٍ } بِمَعْنَى فِي قَوْمٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ تَبَعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تُهْدِرُ دَمَهُ ، وَسَبَبُ الْعِصْمَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ قَائِمٌ ، وَسَوَاءٌ ظُنَّ كُفْرُهُ أَوْ تَتَرَّسَ بِهِ الْعَدُوُّ أَمْ لَا ( وَ ) بِقَتْلِ ( ذِمِّيٍّ ) وَمُسْتَأْمِنٍ لِلْآيَةِ الْأَخِيرَةِ ، فَإِنَّ الذِّمَّةَ وَالْعَهْدَ مِنْ الْمَوَاثِيقِ ( وَ ) بِقَتْلِ ( جَنِينٍ ) مَضْمُونٍ بِالْغُرَّةِ أَوْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ ، وَبِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَ ) بِقَتْلِ ( عَبْدِ نَفْسِهِ ) لِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ لَا تَجِبُ فِيهَا

عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لَهُ ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا وَجَبَتْ فِي عَبْدِ نَفْسِهِ فَفِي عَبْدِ غَيْرِهِ أَوْلَى ( وَ ) بِقَتْلِ ( نَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ .
أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ نَفْسُهُ مَعْصُومَةً بِأَنْ كَانَتْ مُهْدَرَةً فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ لَا تَجِبَ الْكَفَّارَةُ ( وَفِي ) قَتْلِ ( نَفْسِهِ وَجْهٌ ) أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا الْكَفَّارَةُ كَمَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالْمَالِ .

لَا امْرَأَةٍ ، وَصَبِيٍّ حَرْبِيَّيْنِ وَبَاغٍ وَصَائِلٍ وَمُقْتَصٍّ مِنْهُ .
وَ ( لَا ) تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ ( امْرَأَةٍ ، وَ ) لَا بِقَتْلِ ( صَبِيٍّ حَرْبِيَّيْنِ ) وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ قَتْلُهُمَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِهِمَا لَيْسَ لِحُرْمَتِهِمَا بَلْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ الِارْتِفَاقُ بِهِمَا ( وَ ) لَا بِقَتْلِ مُبَاحِ الدَّمِ كَقَتْلِ ( بَاغٍ وَصَائِلٍ ) لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ وَمُرْتَدٍّ وَزَانٍ : مُحْصَنٍ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسَاوِي وَحَرْبِيٍّ وَلَوْ قَتَلَهُ مِثْلُهُ ( وَمُقْتَصٍّ مِنْهُ ) بِقَتْلِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَتَلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِبَعْضِهِ كَأَنْ انْفَرَدَ بَعْضُ الْأَوْلَادِ بِقَتْلِ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّهُ الْمُتَّجَهُ ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَوَلِّي عِنْدَ إذْنِ الْبَاقِينَ ، وَكَلَامَ ابْنِ الرِّفْعَةِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُ فِي قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .

وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الشُّرَكَاءِ كَفَّارَةٌ فِي الْأَصَحِّ .
( وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الشُّرَكَاءِ ) فِي الْقَتْلِ ( كَفَّارَةٌ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ فَلَا يَتَبَعَّضُ كَالْقِصَاصِ .
فَإِنْ قِيلَ هَلَّا تَبَعَّضَتْ كَالدِّيَةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ النَّفْسِ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَالْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ الْقَتْلِ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ قَاتِلٌ ، وَلِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَالْعِبَادَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَا تَتَبَعَّضُ ، وَالثَّانِي عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَقَتْلِ الصَّيْدِ .

وَهِيَ كَظِهَارٍ لَكِنْ لَا إطْعَامَ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَهِيَ ) أَيْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ ( كَظِهَارٍ ) أَيْ كَصِفَةِ كَفَّارَتِهِ فِي التَّرْتِيبِ فَيُعْتِقُ أَوَّلًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِلْآيَةِ ( لَكِنْ لَا إطْعَامَ ) فِيهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الصَّوْمِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) اقْتِصَارًا عَلَى الْوَارِدِ فِيهَا ، إذْ الْمُتَّبَعُ فِي الْكَفَّارَاتِ النَّصُّ لَا الْقِيَاسُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ غَيْرَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الظِّهَارِ كَمَا فَعَلُوا فِي قَيْدِ الْأَيْمَانِ حَيْثُ اُعْتُبِرُوهُ ثَمَّ حَمْلًا عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَاكَ إلْحَاقٌ فِي وَصْفٍ ، وَهَذَا إلْحَاقٌ فِي أَصْلٍ ، وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ لَا يُلْحَقُ بِالْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْيَدَ الْمُطْلَقَةَ فِي التَّيَمُّمِ حُمِلَتْ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ ، وَلَمْ يُحْمَلُ إهْمَالُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى ذِكْرِهِمَا فِي الْوُضُوءِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الصَّوْمِ أَطْعَمَ مِنْ تَرِكَتِهِ كَفَائِتِ صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَالثَّانِي يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَالظِّهَارِ .
تَنْبِيهٌ : الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّقَبَةِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَةِ .

خَاتِمَةٌ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَصَابَ غَيْرَهُ بِالْعَيْنِ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ حَقًّا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا ، وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا .

كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ ، يُشْتَرَطُ أَنْ يُفَصِّلَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَإٍ وَانْفِرَادٍ وَشِرْكَةٍ ، فَإِنْ أَطْلَقَ اسْتَفْصَلَهُ الْقَاضِي وَقِيلَ يُعْرِضُ عَنْهُ وَأَنْ يُعَيِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَوْ قَالَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ لَا يُحَلِّفُهُمْ الْقَاضِي فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجْرِيَانِ فِي دَعْوَى غَصْبٍ وَسَرِقَةٍ وَإِتْلَافٍ ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ عَلَى مِثْلِهِ ، وَلَوْ ادَّعَى انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ لَمْ تُسْمَعْ الثَّانِيَةُ ، أَوْ عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ ، لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الدَّعْوَى فِي الْأَظْهَرِ .

كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ أَيْ الْقَتْلِ ، وَعَبَّرَ بِهِ لِلُزُومِهِ لَهُ غَالِبًا ( وَالْقَسَامَةِ ) وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ : اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ الَّتِي تُقَسَّمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقَسَمِ ، وَهُوَ الْيَمِينُ ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَذُكِرَ فِي الْبَابِ أَيْضًا الشَّهَادَةُ عَلَى الدَّمِ ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ التَّرْجَمَةِ لَهَا لِأَنَّ الدَّعْوَى بِالدَّمِ تَسْتَتْبِعُ الشَّهَادَةَ ، وَاسْتَفْتَحَ الْبَابَ فِي الْمُحَرَّرِ بِحَدِيثِ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ } ، وَفِي إسْنَادِهِ لِينٌ ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَقَرَّهَا الشَّارِعُ فِي الْإِسْلَامِ ، ( يُشْتَرَطُ ) لِكُلِّ دَعْوَى بِدَمٍ أَوْ غَيْرِهِ كَغَصْبٍ وَسَرِقَةٍ وَإِتْلَافٍ .
سِتَّةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا ( أَنْ ) تَكُونَ مَعْلُومَةً غَالِبًا بِأَنْ ( يُفَصِّلَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَإٍ ) وَشِبْهِ عَمْدٍ ( وَ ) مِنْ ( انْفِرَادٍ وَشِرْكَةٍ ) وَعَدَدُ الشُّرَكَاءِ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الدِّيَةَ لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ بِذَلِكَ .
نَعَمْ إنْ قَالَ : أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَشَرَةٍ مَثَلًا سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَطَالَبَ بِحِصَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا طَالَبَهُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ أُوجِبَ الْقَوَدُ لَمْ يَجِبْ فِي الْأَصَحِّ بَيَانُ عَدَدِ الشُّرَكَاءِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ التَّفْصِيلِ السِّحْرُ ، فَلَوْ ادَّعَى عَلَى سَاحِرٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ مَثَلًا بِسِحْرِهِ لَمْ يُفَصِّلْ فِي الدَّعْوَى بَلْ يُسْأَلُ السَّاحِرُ وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى بَيَانِهِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : إطْلَاقُ غَيْرِهِ يُخَالِفُهُ ( فَإِنْ أَطْلَقَ ) الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ كَقَوْلِهِ : هَذَا قَتَلَ أَبِي ( اسْتَفْصَلَهُ الْقَاضِي ) نَدْبًا عَمَّا ذُكِرَ لِيَصِحَّ بِتَفْصِيلِهِ دَعْوَاهُ وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْوُجُوبَ فَيَقُولُ لَهُ : كَيْفَ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ ؟ فَإِنْ عَيَّنَ نَوْعًا مِنْهَا

سَأَلَ عَنْ صِفَتِهِ لِأَنَّهُ نَطَقَ عَنْ صِفَتِهِ الْعَمْدَ مَحْضًا ( وَقِيلَ ) لَا يَسْتَفْصِلُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ بَلْ ( يُعْرِضُ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّلْقِينِ ، وَمَنْعُ الْأَوَّلِ كَوْنُهُ تَلْقِينًا بَلْ التَّلْقِينُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : قُلْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ .
وَثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ مُلْزِمَةً فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى هِبَةِ شَيْءٍ أَوْ بَيْعِهِ أَوْ إقْرَارِهِ بِهِ حَتَّى يَقُولَ الْمُدَّعِي : وَقَبَضْتُهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ ، وَيَلْزَمُ الْبَائِعَ أَوْ الْمُقِرَّ التَّسْلِيمُ إلَيَّ ( وَ ) .
ثَالِثُهَا ( أَنْ يُعَيِّنَ ) الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ ( الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا مُعَيَّنًا كَثَلَاثَةٍ حَاضِرِينَ ( فَلَوْ قَالَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ ) فَأَنْكَرُوا وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ ( لَا يُحَلِّفُهُمْ الْقَاضِي فِي الْأَصَحِّ ) لِلْإِبْهَامِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى أَحَدِ رَجُلَيْنِ .
وَالثَّانِي يُحَلِّفُهُمْ ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي مُسْقِطَاتِ اللَّوْثِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ : وَهُوَ خِلَافُ الصَّحِيحِ ، فَقَدْ مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَتَلَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي تَحْلِيفَ وَاحِدٍ لَمْ يُجِبْهُ لِلْإِبْهَامِ ، وَسَبَبُ مَا وَقَعَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ هُنَا أَنَّ الْغَزَالِيَّ فِي الْوَجِيزِ ذَكَرَهُ هُنَا كَذَلِكَ ، وَهُوَ مِمَّنْ يُصَحِّحُ سَمَاعَ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ نَقَلَهُ ذَاهِلًا عَمَّا مَرَّ ا هـ .
وَجَمَعَ شَيْخِي بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ بِأَنَّ مَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا ، وَمَا فِي مُسْقِطَاتِ اللَّوْثِ عِنْدَ وُجُوبِ اللَّوْثِ ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ نَكَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ الْيَمِينِ فَذَلِكَ لَوْثٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْقَاتِلُ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ ، فَلَوْ نَكَلُوا كُلُّهُمْ عَنْ الْيَمِينِ أَوْ قَالَ عَرَفْتُهُ فَلَهُ تَعْيِينُهُ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ اللَّوْثَ حَاصِلُ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ أَنَّ الْقَاتِلَ

هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ ، وَلَا يَخْتَصُّ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ بِدَعْوَى الدَّمِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( يَجْرِيَانِ فِي دَعْوَى غَصْبٍ وَسَرِقَةٍ وَإِتْلَافٍ ) وَنَحْوِهَا ، إذْ السَّبَبُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فِيهِ اخْتِيَارُهُ وَالْمُبَاشِرُ لَهُ يَقْصِدُ الْكِتْمَانَ فَأَشْبَهَ الدَّمَ .
تَنْبِيهٌ : ضَابِطُ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الدَّعْوَى يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيُجْهَلُ تَعْيِينُهُ ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْشَأُ بِاخْتِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَشَأْنُهَا أَنْ يَضْبِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ .
فَرْعٌ : لَوْ نَشَأَتْ الدَّعْوَى عَنْ مُعَامَلَةِ وَكِيلِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَمَاتَا أَوْ صَدَرَتْ عَنْ مُوَرِّثِهِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : اُحْتُمِلَ إجْرَاءُ الْخِلَافِ لِلْمَعْنَى ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَجْرِيَ ، لِأَنَّ أَصْلَهَا مَعْلُومٌ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ا هـ .
وَإِجْرَاءُ الْخِلَافِ أَوْجَهُ ( وَ ) .
رَابِعُهَا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( إنَّمَا تُسْمَعُ ) الدَّعْوَى ( مِنْ مُكَلَّفٍ ) أَيْ بَالِغٍ عَاقِلٍ حَالَةَ الدَّعْوَى ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ ، لَا يَضُرُّ كَوْنُهُ صَبِيًّا ، أَوْ مَجْنُونًا ، أَوْ أَجْنَبِيًّا حَالَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ عِنْدَ الدَّعْوَى ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ الْحَالَ بِالتَّسَامُعِ ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ فِي مَظِنَّةِ الْحَلِفِ إذَا عُرِفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي أَوْ سَمَاعِ كَلَامِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنًا وَقَبَضَهَا فَادَّعَى رَجُلٌ مِلْكَهَا فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ اشْتِرَاطُهُ التَّكْلِيفَ أَنَّ السَّكْرَانَ الْمُتَعَدِّيَ بِسُكْرِهِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ ، وَإِلَّا لَاسْتَثْنَاهُ كَمَا اسْتَثْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ .
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ سَكَتَ عَنْهُ هُنَا لِمَا عُلِمَ مِنْ هُنَاكَ ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي

الْمُدَّعِي الرُّشْدُ فَتَصِحُّ دَعْوَى السَّفِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ، لَكِنْ لَا يَقُولُ فِي الدَّعْوَى : وَأَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ ذَلِكَ ، بَلْ يَقُولُ تَسْلِيمُهُ إلَى وَلِيٍّ ( مُلْتَزِمٍ ) فَلَا تُسْمَعُ مِنْ حَرْبِيٍّ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قِصَاصًا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ أَنَّ دَعْوَى الْحَرْبِيِّ لَا تُسْمَعُ ذُهُولٌ عَنْ قَوَاعِدَ مَذْكُورَةٍ فِي السِّيَرِ ، فَقَدْ نَصُّوا هُنَاكَ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ دَخَلَ بِأَمَانٍ وَأَوْدَعَ عِنْدَنَا مَالًا ثُمَّ عَادَ لِلِاسْتِيطَانِ لَمْ يُنْقَضْ الْأَمَانُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَذَكَرَ مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : إنَّ الصَّوَابَ حَذْفُ قَيْدِ الِالْتِزَامِ .
وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُهِمَّاتِ بِأَنَّ مَا هُنَا فِي حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ وَمَا فِي السِّيَرِ فِي حَرْبِيٍّ لَهُ أَمَانٌ ، فَلَا مُخَالَفَةَ ، وَعَنْ قَوْلِ الزَّرْكَشِيّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْتَزِمِ مَنْ لَهُ أَمَانٌ فَيَدْخُلُ الْمُعَاهِدُ فَإِنَّهُ لَا تَوَقُّفَ فِي سَمَاعِ دَعْوَاهُ بِمَالِهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ ، وَلَا فِي دَعْوَاهُ دَمَ مُوَرِّثِهِ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ .
وَخَامِسُهَا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى ( عَلَى ) مُدَّعًى عَلَيْهِ ( مِثْلِهِ ) أَيْ الْمُدَّعِي فِي كَوْنِهِ مُكَلَّفًا فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ ، بَلْ إنْ تَوَجَّهَ عَلَى الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ حَقٌّ مَالِيٌّ ادَّعَى مُسْتَحِقُّهُ عَلَى وَلِيِّهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَالدَّعْوَى عَلَيْهِمَا كَالدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ فَلَا تُسْمَعُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ وَيُحْتَاجُ مَعَهَا إلَى يَمِينِ الِاسْتِظْهَارِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، فَمَا هُنَا مَحَلُّهُ عِنْدَ حُضُورِ وَلِيِّهِمَا ، وَمَا هُنَاكَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : دَخَلَ فِي الْمُكَلَّفِ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ وَالْفَلَسِ

وَالرِّقِّ ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمْ بِهِ فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بِالْقَتْلِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ سُمِعَتْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ فَإِنْ ادَّعَى مَا يُوجِبُ الْقِصَاصُ سُمِعَتْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ مَقْبُولٌ ، وَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ ، فَإِنْ أَقَرَّ أَمْضَى حُكْمَهُ ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَاقْتَصَدَ وَإِنْ ادَّعَى خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ لَمْ تُسْمَعْ ، إذْ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالْإِتْلَافِ وَتُسْمَعُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ أَوْ رِقٍّ فِيمَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِيهِ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي الدَّعَاوَى ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُلْتَزِمًا فَلَيْسَ فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا تَعَرُّضٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا فِيهَا اشْتِرَاطُ التَّكْلِيفِ خَاصَّةً ، لَكِنْ إذَا شَرَطَ الِالْتِزَامَ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْلَى ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ هُنَا أَيْضًا كَمَا سَبَقَ انْتَهَى .
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا مَرَّ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُدَّعَى بِهِ لِإِتْلَافِهِ فِي حَالِ حِرَابَتِهِ لَمْ يُسْمَعْ ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ فِي حَالِ الْتِزَامِهِ سُمِعَتْ ، وَهُوَ إذْ ذَاكَ لَيْسَ بِحَرْبِيٍّ ( وَ ) .
سَادِسُهَا أَنْ لَا تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي ، وَحِينَئِذٍ ( لَوْ ادَّعَى ) عَلَى شَخْصٍ ( انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ ) أَنَّهُ شَرِيكُهُ أَوْ مُنْفَرِدٌ ( لَمْ تُسْمَعْ ) الدَّعْوَى ( الثَّانِيَةُ ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ الْأُولَى وَمُنَاقَضَتِهَا ، وَسَوَاءٌ أَقْسَمَ عَلَى الْأُولَى وَمَضَى الْحُكْمُ فِيهِ أَمْ لَا .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ بَقَاءَ الدَّعْوَى الْأُولَى بِحَالِهَا وَفِيهَا تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لِأَنَّ الثَّانِيَة تُكَذِّبُهَا ،

وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ مُكِّنَ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ ، وَمَحَلُّ عَدَمِ سَمَاعِ الثَّانِيَة مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الثَّانِي ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِإِقْرَارِهِ وَتُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا ( أَوْ ) ادَّعَى ( عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ ) مِنْ خَطَإٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ وَعَكْسُهُ بَطَلَ الْوَصْفُ فَقَطْ ، وَ ( لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الدَّعْوَى ) وَهُوَ دَعْوَى الْقَتْلِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا وَعَكْسَهُ وَحِينَئِذٍ يُعْتَمَدُ تَفْسِيرُهُ وَيَمْضِي حُكْمُهُ .
وَالثَّانِي يَبْطُلُ لِأَنَّ فِي دَعْوَى الْعَمْدِ اعْتِرَافًا بِبَرَاءَةِ الْعَاقِلَةِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ عَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَى تَجْدِيدِ دَعْوَى ، لَكِنْ جَزَمَ بِتَجْدِيدِهَا ابْنُ دَاوُد فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ .

وَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ ، فِي الْقَتْلِ بِمَحَلِّ لَوْثٍ ، وَهُوَ قَرِينَةٌ لِصِدْقِ الْمُدَّعِي بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ لِأَعْدَائِهِ ، أَوْ تَفَرَّقَ عَنْهُ جَمْعٌ ، وَلَوْ تَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ وَانْكَشَفُوا عَنْ قَتِيلٍ ، فَإِنْ الْتَحَمَ قِتَالٌ فَلَوْثٌ فِي حَقِّ الصَّفِّ الْآخَرِ ، وَإِلَّا فَفِي حَقِّ صَفِّهِ .

وَلَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شُرُوطِ دَعْوَى الدَّمِ شَرَعَ فِي الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ الْقَسَامَةُ مُعَرِّضًا لِمَحَلِّهَا فَقَالَ ( وَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ ) وَسَبَقَ تَفْسِيرُهَا ( فِي الْقَتْلِ ) لِلنَّفْسِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ جُرْحٍ أَوْ إتْلَافِ مَالٍ كَمَا سَيَأْتِي ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْقَتْلِ ( بِمَحَلِّ ) أَيْ مَكَانِ ( لَوْثٍ ) بِالْمُثَلَّثَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ اللَّوْثُ لُغَةً الْقُوَّةُ ، وَيُقَالُ الضَّعْفُ ، يُقَالُ لَاثَ فِي كَلَامِهِ : أَيْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ ضَعِيفٍ ، وَاصْطِلَاحًا ( قَرِينَةٌ ) حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ ( لِصِدْقِ ) أَيْ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ ( الْمُدَّعِي ) بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ، وَفَسَّرَ الْقَرِينَةَ بِقَوْلِهِ ( بِأَنْ ) أَيْ كَأَنْ ( وُجِدَ قَتِيلٌ ) أَوْ بَعْضُهُ كَرَأْسِهِ إذَا تَحَقَّقَ مَوْتُهُ ( فِي مَحَلَّةٍ ) مُنْفَصِلَةٍ تِلْكَ الْمَحَلَّةُ عَنْ بَلَدٍ كَبِيرٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَلَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ ، وَلَا بَيِّنَةَ بِقَتْلِهِ ( أَوْ ) فِي ( قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ لِأَعْدَائِهِ ) سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ إذَا كَانَتْ تَبْعَثُ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ وَلَمْ يُسَاكِنْهُمْ فِي الْقَرْيَةِ غَيْرُهُمْ ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَيْرَ قَتَلَهُ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ حَتَّى لَوْ وَكَانَتْ الْقَرْيَةُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَكَانَ يَطْرُقُهَا الْمُسَافِرُونَ وَالْمُجْتَازُونَ فَلَا لَوْثَ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ؟ .
وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ الثَّانِي ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَكَى الْأَوَّلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ ، وَالْمُرَادُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ بِغَيْرِهِمْ مَنْ لَمْ تُعْلَمْ صَدَاقَتُهُ لِلْقَتِيلِ ، وَلَا كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَعْدَائِهِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ عَدَاوَتِهِمْ لِلْقَتِيلِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونُوا أَعْدَاءً

لِقَبِيلَتِهِ .
فُرُوعٌ : لَوْ انْفَرَدَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ أَوْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَدَاوَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي زَوَائِدِهِ وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَالْمَوْجُودُ بِقُرْبِ الْقَرْيَةِ كَمَنْ هُوَ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عِمَارَةٌ أُخْرَى ، وَلَا مَنْ يُقِيمُ بِالصَّحْرَاءِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ اشْتِرَاطَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ طَرِيقٌ جَادَّةٌ كَثِيرَةُ الطَّارِقِينَ ، وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ وَلَمْ يُعْرَفْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا عَدَاوَةٌ لَمْ نَجْعَلْ قُرْبَهُ إحْدَاهُمَا لَوْثًا كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ ، وَلَوْ وُجِدَ بَعْضُ قَتِيلٍ فِي مَحَلَّةِ أَعْدَائِهِ وَبَعْضُهُ فِي أُخْرَى لِأَعْدَاءٍ لَهُ آخَرِينَ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ وَيُقَسِّمَ وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِمَا وَيُقَسِّمَ ( أَوْ ) وُجِدَ قَتْلٌ ( تَفَرَّقَ عَنْهُ جَمْعٌ ) كَأَنْ ازْدَحَمُوا عَلَى بِئْرٍ أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ قَتِيلٍ لِقُوَّةِ الظَّنِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ هُنَا كَوْنُهُمْ أَعْدَاءً ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتِيلِ .
قَالَ : وَإِلَّا لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى وَلَمْ يُقَسِّمْ ، فَلَوْ ادَّعَى عَلَى عَدَدٍ مِنْهُمْ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْقَتِيلِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ تُسْمَعَ ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الْقَسَامَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَدْ صَرَّحَ الدَّارِمِيُّ بِمُقْتَضَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ النَّصِّ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا أَبْرَأَ الْبَعْضَ خَالَطُوهُمْ ا هـ .
وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الرَّوْضَةِ فَلَا تَضُرُّ الْمُخَالَطَةُ .
تَنْبِيهٌ : لَا يُشْتَرَطُ فِي اللَّوْثِ وَالْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلَا جُرْحٍ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِذَا ظَهَرَ

أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَإِنْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ إنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ ، وَقَوْلَ الْجُمْهُورِ ثُبُوتُ الْقَسَامَةِ

( وَلَوْ تَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ ) وَاقْتَتَلُوا ( وَانْكَشَفُوا عَنْ قَتِيلٍ ) مِنْ أَحَدِهِمَا طَرِيٍّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( فَإِنْ الْتَحَمَ ) أَيْ اخْتَلَطَ ( قِتَالٌ ) مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أَوْ لَمْ يَلْتَحِمْ وَلَكِنْ وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَالَهُ الْفَارِقِيُّ ( فَلَوْثٌ فِي حَقِّ ) أَهْلِ ( الصَّفِّ الْآخَرِ ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَهْلَ صَفِّهِ لَا يَقْتُلُونَهُ سَوَاءٌ أَوُجِدَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَمْ فِي صَفِّ نَفْسِهِ أَمْ فِي صَفِّ خَصْمِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَلْتَحِمْ قِتَالٌ ، وَلَا وَصَلَ سِلَاحُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ ( فَ ) لَوْثٌ ( فِي حَقِّ ) أَهْلِ ( صَفِّهِ ) أَيْ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ .

وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثٌ .
( وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ ) الْوَاحِدِ ( لَوْثٌ ) لَحُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : وَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ فَقَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِلَوْثٍ لَوْثًا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ اعْتِبَارُ صِيغَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ بَعْدَ دَعْوَى وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَفِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الدَّعْوَى أَمْ تَأَخَّرَتْ ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا وَقَالَ فِي لَفْظِ الْوَجِيزِ إشْعَارٌ بِهِ ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَتِهِ الْبَيَانُ فَقَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِلُوثٍ لَوْثًا .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ لَوْثًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ ، فَإِنْ كَانَ فِي خَطَإٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا بَلْ يَحْلِفُ مَعَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَا يُوجِبُ قِصَاصًا كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ قَتْلِ الْخَطَإِ فِي أَصْلِ الْمَالِ لَا فِي صِفَتِهِ .

وَكَذَا عَبِيدٌ أَوْ نِسَاءٌ ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ تَفَرُّقُهُمْ
( وَكَذَا عَبِيدٌ أَوْ نِسَاءٌ ) أَيْ شَهَادَتُهُمْ لَوْثٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْجَمْعِ يُخْرِجُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَإِنَّ الَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ التَّهْذِيبِ أَنَّ شَهَادَةَ عَبْدَيْنِ أَوْ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الْجَمْعِ ، بَلْ فِي الْوَجِيزِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْثٌ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْحَاوِي الصَّغِيرُ ، وَنَقَلَهُ فِي الذَّخَائِرِ عَنْ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَسَوَاءٌ فِي شَهَادَةِ مَنْ ذُكِرَ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ ( وَقِيلَ يُشْتَرَطُ تَفَرُّقُهُمْ ) لِاحْتِمَالِ التَّوَاطُؤِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ وَصَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّوَاطُؤِ كَاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي شَهَادَتِهِمْ إذَا جَاءُوا دَفْعَةً .
وَجْهَيْنِ ، أَشْهَرُهُمَا الْمَنْعُ ، وَأَقْوَاهُمَا أَنَّهُ لَوْثٌ ، وَاقْتَصَرَ فِي الرَّوْضَةِ عَلَى الْأَصَحِّ بَدَلَ الْأَقْوَى ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا شَرَطْنَا التَّعَدُّدَ فَإِنْ لَمْ نَشْرِطْهُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ وَمُجْتَمِعِينَ ، هَذَا فِيمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمْعٍ كَمَا قَالَ .

وَقَوْلُ فَسَقَةٍ وَصِبْيَانٍ وَكُفَّارٍ لَوْثٌ فِي الْأَصَحِّ .
( وَقَوْلُ ) أَيْ إخْبَارُ ( فَسَقَةٍ وَصِبْيَانٍ وَكُفَّارٍ لَوْثٌ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ الشَّيْءِ كَيْفَ كَانَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَقِيقَةٍ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ ، إذْ لَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِمْ ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ .
وَالثَّالِثُ خَصَّ الْمَنْعَ بِالْكُفَّارِ .
تَنْبِيهٌ : لَا فَرْقَ عَلَى الْأَوَّلِ بَيْنَ أَنْ يُخْبِرُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي إخْبَارِهِمْ الْبَيَانُ كَمَا مَرَّ .

وَمِنْ اللَّوْثِ لَهَجُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ ، أَوْ رُئِيَ فِي مَوْضِعِهِ رَجُلٌ يُحَرِّكُ مِنْ بَعْدِهِ يَدَهُ كَضَارِبٍ بِسَيْفٍ ، أَوْ وُجِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ سِلَاحُهُ مُلَطَّخٌ بِدَمٍ ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَثَرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ تُعَارِضُهُ كَأَنْ وُجِدَ بِقُرْبِهِ سَبُعٌ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ أَوْ غَيْرَ مُوَلٍّ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ ، فَلَا يَكُونُ لَوْثًا فِي حَقِّهِ ، وَمِنْهُ إخْبَارُ عَدْلٍ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدَهُمَا وَيَدَّعِيَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ فَلَا يَكُونُ لَوْثًا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ صُدِّقَ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَلِيُّهُمَا وَاحِدًا كَانَ لَوْثًا : وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ يُونُسَ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَيُقَوِّي مَا قَالَهُ مَا لَوْ كَانَتْ دِيَتُهَا مُتَسَاوِيَةً .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيُؤَيِّدُهُ مَا لَوْ عَجَزَ الشُّهُودُ عَنْ تَعْيِينِ الْمُوضِحَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهَا وَقَدْرِهَا ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ زَيْدٍ وَلَمْ يُعَيِّنَا ، وَكَانَ زَيْدٌ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَا الْقِصَاصُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعَ وَاحِدَةٍ نَزَلَ عَلَى الْمَقْطُوعَةِ كَمَا صَوَّبَ الْمُصَنِّفُ الْجَزْمَ بِهِ .

وَقَوْلُ الْمَجْرُوحِ : جَرَحَنِي فُلَانٌ ، أَوْ قَتَلَنِي ، أَوْ دَمِي عِنْدَهُ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَوْثٍ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ : وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ فَيَقْصِدُ إهْلَاكَهُ .
.

وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ فَقَالَ أَحَدُ ابْنَيْهِ : قَتَلَهُ فُلَانٌ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ بَطَلَ اللَّوْثُ ، وَفِي قَوْلٍ لَا وَقِيلَ لَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ فَاسِقٍ ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ زَيْدٌ وَمَجْهُولٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ عَمْرٌو وَمَجْهُولٌ حَلَفَ كُلٌّ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ وَلَهُ رُبُعُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ لَمْ أَكُنْ مَعَ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْهُ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَصْلِ قَتْلٍ دُونَ عَمْدٍ وَخَطَإٍ فَلَا قَسَامَةَ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يُقْسَمُ فِي طَرَفٍ وَإِتْلَافِ مَالٍ إلَّا فِي عَبْدٍ فِي الْأَظْهَرِ

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي مُسْقِطَاتِ اللَّوْثِ ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ .
الْأَوَّلُ تَكَاذُبُ الْوَرَثَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ ) فِي قَتِيلٍ ( فَقَالَ أَحَدُ ابْنَيْهِ ) مَثَلًا ( قَتَلَهُ فُلَانٌ ) وَظَهَرَ عَلَيْهِ لَوْثٌ ( وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ) فَقَالَ لَمْ يَقْتُلْهُ ( بَطَلَ اللَّوْثُ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَرَى الْعَادَةَ بِحِرْصِ الْقَرِيبِ عَلَى التَّشَفِّي مِنْ قَاتِلِ قَرِيبِهِ وَأَنَّهُ لَا يُبَرِّئُهُ فَعَارَضَ هَذَا اللَّوْثَ فَسَقَطَا ، فَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي لِانْخِرَامِ ظَنِّ الْقَتْلِ بِالتَّكْذِيبِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ وَارِثَيْنِ دَيْنًا لِلْمُوَرِّثِ وَأَقَامَ بِهِ شَاهِدًا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ، حَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَكْذِيبُهُ حَلِفَ الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِدِ بِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ مُحَقَّقَةٌ ، وَإِنْ كَذَّبَ الْآخَرُ وَاللَّوْثُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُثِيرٌ لِلظَّنِّ فَيَبْطُلُ بِالتَّكْذِيبِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ اللَّوْثُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فِي خَطَإٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ .
وَإِلَّا لَمْ يَبْطُلْ بِتَكْذِيبِ أَحَدِهِمَا قَطْعًا ، وَفِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ نَظَرٌ ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ إنَّمَا تَكُونُ لَوْثًا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ( وَفِي قَوْلٍ لَا ) يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنْ اللَّوْثِ ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُدَّعِي بِتَكْذِيبِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ ، وَعَلَيْهِ فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ الدِّيَةِ ( وَقِيلَ لَا يَبْطُلُ ) اللَّوْثُ ( بِتَكْذِيبِ فَاسِقٍ ) لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْفَاسِقِ فِيمَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مَقْبُولٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ عَدْلٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْعَدَالَةِ

كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ صَغِيرًا وَلَا مَجْنُونًا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُدَّعِي .
أَمَّا بُطْلَانُ اللَّوْثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَذِّبِ ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي الْمُعَيَّنِ لَا فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ وَنَحْوِهِمْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ لَوْثٌ فَعَيَّنَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ وَعَيَّنَ غَيْرَهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَخُوهُ فِيمَا قَالَ ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الَّذِي كُذِّبَ مِنْ الَّذِي عَيَّنَهُ قَطْعًا لِبَقَاءِ أَصْلِ اللَّوْثِ ، وَانْخِرَامُهُ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي تَكَاذَبَا فِيهِ ، وَأَفْهَمَ تَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّكْذِيبِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْآخَرُ : لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لَا يَبْطُلُ اللَّوْثُ وَهُوَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَإِنْ سَكَتَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ لَمْ يَبْطُلْ أَيْضًا كَمَا فِي الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ ( وَلَوْ ) لَمْ يَتَكَاذَبْ ابْنَا الْقَتِيلِ مَثَلًا ، بَلْ ( قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ زَيْدٌ وَمَجْهُولٌ ) عِنْدِي ( وَقَالَ الْآخَرُ ) قَتَلَهُ ( عَمْرٌو وَمَجْهُولٌ ) عِنْدِي ( حَلَفَ ) ( كُلٌّ ) مِنْهُمَا ( عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ ) مِنْهُمَا ، إذْ لَا تَكَاذُبَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنَّ الَّذِي أُبْهِمَ ذِكْرُهُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ ( وَلَهُ ) أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ( رُبُعُ الدِّيَةِ ) لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَحِصَّتُهُ مِنْهُ نِصْفُهُ ، وَلَوْ رَجَعَا وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا : بَانَ لِي أَنَّ الَّذِي أَبْهَمْتُهُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي فَلِكُلٍّ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْآخَرِ وَيَأْخُذَ رُبُعَ الدِّيَةِ ، وَهَلْ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ نِصْفَهَا ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي تَرْجِيحُ الثَّانِي ، وَلَوْ قَالَ : الْمَجْهُولُ غَيْرُ مَنْ عَيَّنَهُ أَخِي رَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا أَخَذَهُ لِتَكَاذُبِهِمَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَحْلِيفُ مَنْ

عَيَّنَهُ ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا رَدَّ صَاحِبُهُ وَحْدَهُ مَا أَخَذَهُ وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُحَلِّفَ مَنْ عَيَّنَهُ ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ زَيْدٌ وَحْدَهُ أَقْسَمَا عَلَى زَيْدٍ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَطَالَبَاهُ بِالنِّصْفِ ، وَلَا يُقْسِمُ الْأَوَّلُ عَلَى عَمْرٍو لِأَنَّ أَخَاهُ كَذَّبَهُ فِي الشَّرِكَةِ وَلِلْأَوَّلِ تَحْلِيفُ عَمْرٍو فِيمَا بَطَلَتْ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَلِلثَّانِي تَحْلِيفُ زَيْدٍ فِيهِ ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ مُسْقِطَاتِ اللَّوْثِ وَهُوَ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُشَارَكَةَ الْمَذْكُورَةَ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ ) قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ الْمُدَّعِي ( لَمْ أَكُنْ مَعَ ) الْقَوْمِ ( الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْهُ ) أَيْ الْقَتِيلِ ( صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْقَتْلِ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا ، وَهِيَ عَدْلَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا وَسَقَطَ اللَّوْثُ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ الدَّعْوَى .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ كُنْتُ غَائِبًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ، فَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْغَيْبَةِ لِزِيَادَةِ عِلْمِهَا كَمَا فِي التَّهْذِيبِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا هَذَا عِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى حُضُورِهِ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُبَيِّنَا الْحُكْمَ عِنْدَ عَدَمِ الِاتِّفَاقِ ، وَحُكْمُهُ التَّعَارُضُ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ مِنْ مُسْقِطَاتِ اللَّوْثِ وَهُوَ ظُهُورُ اللَّوْثِ بِأَصْلِ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ ) فِي قَتِيلٍ لَكِنْ ( بِأَصْلِ ) أَيْ مُطْلَقِ ( قَتْلٍ دُونَ ) تَقْيِيدِهِ بِصِفَةِ ( عَمْدٍ وَخَطَإٍ ) وَشِبْهِ عَمْدٍ ( فَلَا قَسَامَةَ ) حِينَئِذٍ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ مُطْلَقَ الْقَتْلِ لَا يُفِيدُ مُطَالَبَتَهُ الْقَاتِلَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْعَمْدِ ، وَلَا مُطَالَبَةَ الْعَاقِلَةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ

كَوْنُهُ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ وَالثَّانِي ، نَعَمْ صِيَانَةً عَنْ الْإِهْدَارِ ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمَطْلَبِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِالْأَخَفِّ حُكْمًا وَهُوَ الْخَطَأُ لِأَنَّهُ الْمُحَقِّقُ لَكِنْ تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ وَتَصْوِيرُهُ مُشْكِلٌ ، فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ إلَّا مُفَصَّلَةً كَمَا سَبَقَ وَجَعَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ وَفَصَّلَ وَظَهَرَتْ الْأَمَارَةُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ دُونَ صِفَتِهِ .
قَالَ : وَكَذَا إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى مُطْلَقَةً وَجَوَّزْنَاهُ وَظَهَرَ اللَّوْثُ فِي مُطْلَقِ الْقَتْلِ فَيَجِيءُ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ أَيْضًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَسَامَةَ مِنْ خَصِيصَةِ قَتْلِ النَّفْسِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَا يُقْسَمُ فِي ) مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ قَطْعِ ( طَرَفٍ ) عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَوْ بَلَغَ دِيَةَ نَفْسٍ وَجُرْحٍ ( وَإِتْلَافِ مَالٍ ) بَلْ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ ، وَلَوْ قَالَ هُنَاكَ لَوْثٌ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي النَّفْسِ لِحُرْمَتِهَا ، فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا دُونَهَا كَمَا اخْتَصَّتْ بِالْكَفَّارَةِ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ نَاقِصٌ عَنْ عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَا قَسَامَةَ فِي الْجِرَاحَاتِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ ، فَأَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ الْجِرَاحَاتِ ، وَلَوْ قَالَ : وَلَا يُقْسَمُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ لِشَمْلِهَا وَكَانَ أَخْصَرَ ، وَعَدَمُ الْقَسَامَةِ فِي الْمَالِ مَجْزُومٌ بِهِ ، وَفِي الْأَطْرَافِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْمَالِ الرَّقِيقَ فَقَالَ ( إلَّا فِي ) قَتْلِ ( عَبْدٍ ) أَوْ أَمَةٍ مَعَ لَوْثٍ فَيُقْسِمُ السَّيِّدُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْ حُرٍّ أَوْ رَقِيقٍ ( فِي الْأَظْهَرِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَدَلَ الرَّقِيقِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ كَالْقِصَاصِ ، وَالثَّانِي لَا قَسَامَةَ فِيهِ

بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَدَلَهُ لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ .
تَنْبِيهٌ : جَرَيَانُ الْخِلَافِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ .

وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَى قَتْلٍ ادَّعَاهُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَالَاتُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَلَوْ تَخَلَّلَهَا جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ بَنَى ، وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَبْنِ وَارِثُهُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ ، وَفِي قَوْلٍ يَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِينَ ، وَلَوْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا حَلَفَ الْآخَرُ خَمْسِينَ ، وَلَوْ غَابَ حَلَفَ الْآخَرُ خَمْسِينَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ ، وَإِلَّا صَبَرَ لِلْغَائِبِ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِلَا لَوْثٍ ، وَالْمَرْدُودَةَ عَلَى الْمُدَّعِي أَوْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ لَوْثٍ ، وَالْيَمِينَ مَعَ شَاهِدٍ خَمْسُونَ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ الْقَسَامَةِ بِقَوْلِهِ ( وَهِيَ ) أَيْ الْقَسَامَةُ ( أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي ) الْوَارِثُ ابْتِدَاءً ( عَلَى قَتْلٍ ) النَّفْسَ وَلَوْ نَاقِصَةً كَامْرَأَةٍ وَذِمِّيٍّ ( ادَّعَاهُ ) مَعَ وُجُودِ اللَّوْثِ ( خَمْسِينَ يَمِينًا ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ خَيْثَمَةَ .
قَالَ { انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَبِّرْ كَبِّرْ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا وَأَنْكَرَ الْيَهُودُ الْقَتْلَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ : تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ قَاتِلِكُمْ أَوْ صَاحِبِكُمْ ؟ قَالُوا : كَيْفَ نَأْخُذُ بِقَوْلِ كُفَّارٍ ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَهَذَا مُخَصِّصٌ لِخَبَرِ الْبَيْهَقِيّ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَقِيلَ : إنَّ الْخَمْسِينَ تُقَسَّطُ عَلَى الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، فَيَحْلِفُ فِي الْمَرْأَةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَفِي الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَصُورَةُ التَّعَدُّدِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَالِفُ بِالْقَسَمِ خَمْسِينَ مَرَّةً يَأْتِي بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا بِمَا تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهُ ، لَا أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ تَمَامِهَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْرِيرٌ لِلْقَسَمِ لَا لِلْيَمِينِ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَطْلَبِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَبِمِثْلِهِ صَرَّحُوا فِي اللِّعَانِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ فِي الْيَمِينِ وَقَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ زَيْدٍ أَوْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ ، أَوْجَهُهُمَا

الثَّانِي بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي دَعْوَاهُ ، وَالْحَلِفُ يَتَوَجَّهُ إلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا ، فَيَقُولُ : وَاَللَّهِ لَقَدْ قَتَلَ هَذَا ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهِ إنْ كَانَ غَائِبًا ، أَوْ يُعَرِّفُهُ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْ لَقَبٍ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ إمَّا ابْتِدَاءً حَيْثُ لَا لَوْثَ أَوْ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعِي مَعَ اللَّوْثِ لَا يُسَمَّى قَسَامَةً فَإِنَّهَا عِنْدَنَا الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُهَا الْمُدَّعِي ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ فِي جِهَةِ الْمُدَّعِي ابْتِدَاءً حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي وَحَلَفَ لَا يُسَمَّى قَسَامَةً أَيْضًا كَمَا قَيَّدْتُ بِهِ كَلَامَهُ ، وَقَيَّدْتُ الْمُدَّعِي أَيْضًا بِكَوْنِهِ وَارِثًا احْتِرَازًا عَنْ صُورَةٍ هِيَ مَا لَوْ أَوْصَى لِلْمُسْتَوْلَدَةِ سَيِّدُهَا بِقِيمَةِ عَبْدِهِ الْمَقْتُولِ ، وَهُنَاكَ لَوْثٌ وَمَاتَ السَّيِّدُ فَلَهَا الدَّعْوَى عَلَى النَّصِّ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُقْسِمَ فِي الْأَظْهَرِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقْسِمُ هُوَ الْوَارِثُ ، وَقَوْلُهُ عَلَى قَتْلٍ .
أَوْرَدَ عَلَيْهِ الْجَنِينَ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ عَلَيْهِ وَلَا يُسَمَّى قَتِيلًا ، إذْ لَمْ يُتَحَقَّقْ حَيَاتُهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْعَهُ التَّهَيُّؤَ لِلْحَيَاةِ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَدَّ الْمَلْفُوفِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ حَالَةَ الْقَتْلِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَحَقُّقُ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَيُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَذِّرَ الْمُدَّعِيَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } [ آلَ عِمْرَانَ ] الْآيَةَ ، وَيُعَرِّفَهُ إثْمَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ

، وَالْقَوْلَ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ زَمَانًا وَمَكَانَا وَلَفْظُهُ فِيهِ مَا سَبَقَهُ فِي اللِّعَانِ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُؤَخَّرٌ إلَى الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ ( وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَالَاتُهَا ) أَيْ الْأَيْمَانِ ، فَلَوْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي خَمْسِينَ يَمِينًا فِي خَمْسِينَ يَوْمًا صَحَّ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ .
وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ لِأَنَّ لِلْمُوَالَاةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ فِي اللِّعَانِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اللِّعَانَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْعُقُوبَةُ الْبَدَنِيَّةُ وَيَخْتَلُّ بِهِ النَّسَبُ وَتَشِيعُ الْفَاحِشَةُ ( وَلَوْ تَخَلَّلَهَا ) أَيْ الْأَيْمَانَ ( جُنُونٌ ) مِنْ الْحَالِفِ ( أَوْ إغْمَاءٌ ) مِنْهُ ( بَنَى ) إذَا أَفَاقَ عَلَى مَا مَضَى وَلَا يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ .
أَمَّا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى اشْتِرَاطِهَا فَلِقِيَامِ الْعُذْرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ فِي خِلَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي : بَلْ يَسْتَأْنِفُ إلَّا إنْ عَادَ الْمَعْزُولُ فَيَبْنِي الْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِفُ فِيمَا إذَا وَلِيَ غَيْرُهُ تَشْبِيهًا بِمَا لَوْ عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ وَبِمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ فَعُزِلَ الْقَاضِي وَوَلِيَ آخَرُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ( وَلَوْ مَاتَ ) الْوَلِيُّ الْمُقْسِمُ فِي أَثْنَاءِ الْأَيْمَانِ ( لَمْ يَبْنِ وَارِثُهُ ) بَلْ يَسْتَأْنِفُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ كَالْحُجَّةِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ شَيْئًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ كَمَا لَوْ أَقَامَ شَطْرَ الْبَيِّنَةِ .
ثُمَّ مَاتَ حَيْثُ يَضُمُّ وَارِثُهُ إلَيْهِ الشَّطْرَ الثَّانِيَ ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ شَاهِدٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِدَلِيلِ

أَنَّهُ إذَا انْضَمَّتْ الْيَمِينُ إلَيْهَا قَدْ يُحْكَمُ بِهِمَا بِخِلَافِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ لَا اسْتِقْلَالَ لِبَعْضِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ لَا يُحْكَمُ بِهِمَا ، وَالثَّانِي يَبْنِي لِأَنَّا إذَا كُنَّا نَبْنِي يَمِينَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ فِي تَوْزِيعِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ فَبِنَاءُ الْوَارِثِ عَلَى يَمِينِ الْمُوَرِّثِ أَوْلَى .
أَمَّا إذَا تَمَّتْ أَيْمَانُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا يَسْتَأْنِفُ وَارِثُهُ ، بَلْ يُحْكَمُ لَهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً ثُمَّ مَاتَ .
وَأَمَّا وَارِثُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَبْنِي عَلَى أَيْمَانِهِ إذَا تَخَلَّلَ مَوْتُهُ الْأَيْمَانَ ، وَكَذَا يَبْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ فِي خِلَالِهَا وَوَلِيَ غَيْرُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلنَّفْيِ فَتَنْفُذُ بِنَفْسِهَا ، وَيَمِينَ الْمُدَّعِي لِلْإِثْبَاتِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي الثَّانِي لَا يَحْكُمُ بِحُجَّةٍ أُقِيمَتْ عِنْدَ الْأَوَّلِ .
تَنْبِيهٌ : عَزْلُ الْقَاضِي وَمَوْتُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْأَيْمَانِ كَهُمَا فِي أَثْنَائِهَا فِي طَرَفِ الْمُدَّعِي وَطَرَفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ ( وَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ وَرَثَةٌ ) خَاصَّةٌ اثْنَانِ فَأَكْثَرَ ( وُزِّعَتْ ) أَيْ الْأَيْمَانُ الْخَمْسُونَ عَلَيْهِمْ ( بِحَسَبِ الْإِرْثِ ) لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِأَيْمَانِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ كَذَلِكَ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا خَاصَّةٌ مَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَشَرِيكُهُ بَيْتُ الْمَالِ ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ لَمْ تُوَزَّعْ ، بَلْ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا كَمَا لَوْ نَكَلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ غَابَ يَحْلِفُ الْحَاضِرُ خَمْسِينَ فَفِي زَوْجَةٍ وَبِنْتٍ تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ عَشْرًا وَالْبِنْتُ أَرْبَعِينَ يُجْعَلُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا ، لِأَنَّ سِهَامَهُمَا خَمْسَةٌ وَلِلزَّوْجَةِ مِنْهَا وَاحِدٌ ، وَلَا يَثْبُتُ الْبَاقِي بِذَلِكَ : بَلْ حُكْمُهُ كَمَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ

وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يُحْسَبُ أَسْمَاءُ فَرَائِضِهِمْ أَوْ سِهَامِهِمْ وَذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَوْلِ كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ ، فَهَلْ تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ أَوْ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَعَوْلِهَا ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا كَمَا فِي الْحَاوِي الثَّانِي ، فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى هَذَا خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَكُلُّ أُخْتٍ لِأَبٍ عَشَرَةً ، وَكُلُّ أُخْتٍ لِأُمٍّ خَمْسَةً ، وَالْأُمُّ خَمْسَةً ، وَفِي صُوَرِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ كَقَسْمِ الْمَالِ ، وَفِي الْمُعَادَةِ لَا يَحْلِفُ وَلَدُ الْأَبِ إنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا حَلَفَ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ التَّوْزِيعُ بِحَسَبِ الْإِرْثِ الْمَحْكُومِ بِهِ نَاجِزًا وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْإِرْثِ الْمُحْتَمَلِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ ابْنًا وَخُنْثَى فَلَا تُوَزَّعُ الْخَمْسُونَ بِحَسَبِ الْإِرْثِ النَّاجِزِ بَلْ يَحْلِفُ الِابْنُ ثُلُثَيْ الْخَمْسِينَ وَيَأْخُذُ النِّصْفَ وَيَحْلِفُ الْخُنْثَى نِصْفَ الْخَمْسِينَ وَيَأْخُذُ الثُّلُثَ وَيُوقَفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا ، وَالضَّابِطُ الِاحْتِيَاطُ فِي الطَّرَفَيْنِ الْحَلِفُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ ( وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ ) إنْ لَمْ تَنْقَسِمْ صَحِيحَةً لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَبَعَّضُ ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ لِئَلَّا يَنْقُصَ نِصَابُ الْقَسَامَةِ ، فَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِينَ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ حَلَفَ كُلٌّ يَمِينَيْنِ ( وَفِي قَوْلٍ ) مُخَرَّجٍ ( يَحْلِفُ كُلٌّ ) مِنْهُمْ ( خَمْسِينَ ) لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي الْقَسَامَةِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي غَيْرِهَا .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِخِلَافِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ ( وَلَوْ نَكَلَ ) عَنْ الْأَيْمَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَيْ الْوَارِثَيْنِ ( حَلَفَ ) الْوَارِثُ ( الْآخَرُ خَمْسِينَ ) يَمِينًا وَأَخَذَ حِصَّتَهُ

لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِأَقَلَّ مِنْهَا ، وَمَا سَبَقَ مِنْ تَوْزِيعِ الْأَيْمَانِ مُقَيَّدٌ بِحُضُورِ الْوَارِثِينَ وَكَمَالِهِمْ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ غَابَ ) أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا ( حَلَفَ الْآخَرُ خَمْسِينَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ ) فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ هِيَ الْحُجَّةُ ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ ثَلَاثَ عَصَبَاتٍ كَإِخْوَةٍ أَحَدُهُمْ حَاضِرٌ وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، فَإِذَا حَضَرَ الثَّانِي حَلَفَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَأَخَذَ الثُّلُثَ ، فَإِذَا حَضَرَ الثَّالِثُ حَلَفَ سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَيُقَاسُ بِهَذَا غَيْرُهُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذَا إنَّمَا يُتَّجَهُ إذَا قُلْنَا : إنَّ تَكْذِيبَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لَا يَمْنَعُ الْقَسَامَةَ ، وَهُوَ رَأْيُ الْبَغَوِيِّ ، فَإِنْ قُلْنَا يَمْنَعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ تَعَيَّنَ انْتِظَارُ الْغَائِبِ : أَيْ وَكَمَالُ النَّاقِصِ ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّا تَحَقَّقْنَا الِاسْتِحْقَاقَ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ ، فَإِنْ وُجِدَ عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَلَوْ حَلَفَ الْحَاضِرُ أَوْ الْكَامِلُ ثُمَّ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ النَّاقِصُ وَوَرِثَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ حِصَّتَهُ ، وَلَا يُحْسَبُ مَا مَضَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ حِينَئِذٍ ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْغَائِبَ كَانَ مَيِّتًا حَالَ الْحَلِفِ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ الِاكْتِفَاءُ بِحَلِفِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هُوَ الْوَارِثَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْحَاضِرُ أَوْ الْكَامِلُ ( صَبَرَ لِلْغَائِبِ ) حَتَّى يَحْضُرَ ، وَلِلصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَلِلْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ فَيَحْلِفَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مَا سَبَقَ مَحَلُّهُ فِي الْأَيْمَانِ الصَّادِرَةِ مِنْ الْمُدَّعِي .
أَمَّا الصَّادِرَةُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ ( وَالْمَذْهَبُ أَنَّ يَمِينَ ) الشَّخْصِ ( الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) قَتْلٌ ( بِلَا لَوْثٍ ) خَمْسُونَ ( وَ ) الْيَمِينَ (

الْمَرْدُودَةَ ) مِنْهُ ( عَلَى الْمُدَّعِي ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ أَوْ كَانَ وَنَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْ الْقَسَامَةِ فَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ فَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي مَرَّةً ثَانِيَةً خَمْسُونَ ( أَوْ ) الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ ( عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) بِسَبَبِ نُكُولِ الْمُدَّعِي ( مَعَ لَوْثٍ ) خَمْسُونَ ( وَالْيَمِينَ ) أَيْضًا ( مَعَ شَاهِدٍ ) وَقَوْلُهُ ( خَمْسُونَ ) رَاجِعٌ لِلْجَمِيعِ كَمَا تَقَرَّرَ لِأَنَّهَا فِيمَا ذُكِرَ يَمِينُ دَمٍ ، حَتَّى لَوْ تَعَدَّدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ كُلٌّ خَمْسِينَ وَلَا تُوَزَّعُ عَلَى الْأَظْهَرِ بِخِلَافِ تَعَدُّدِ الْمُدَّعِي ، وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ يَنْفِي عَنْ نَفْسِهِ الْقَتْلَ كَمَا يَنْفِيهِ مَنْ انْفَرَدَ ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُدَّعِينَ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْوَاحِدُ لَوْ انْفَرَدَ بَلْ يُثْبِتُ بَعْضَ الْإِرْثِ فَيَحْلِفُ بِقَدْرِ الْحِصَّةِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً فِي الْجَمِيعِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ النَّصِّ بِالْخَمْسِينَ .
تَنْبِيهٌ : كَلَامُهُ مُشْعِرٌ بِحِكَايَةِ الْمَذْهَبِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَمْ يَحْكِهِ فِي الرَّوْضَةِ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ ، وَحُكِيَ فِيمَا عَدَاهَا الْخِلَافُ قَوْلَيْنِ : أَظْهَرُهُمَا أَنَّ الْحَلِفَ خَمْسُونَ ، وَاعْتُذِرَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ حِكَايَةَ الْمَذْهَبِ فِي مَجْمُوعِ الْمَسَائِلِ بِالنَّظَرِ لِلثَّالِثَةِ ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْمَرْدُودَةِ وَالْيَمِينِ نَصْبُهُمَا عَطْفًا عَلَى اسْمِ " أَنَّ " قَبْلَ اسْتِكْمَالِ خَبَرِهَا ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْكِسَائِيّ الرَّفْعُ ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخَانِ تَعَدُّدَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْعَمْدِ .
أَمَّا قَتْلُ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ فَيَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ يَمِينًا وَاحِدَةً كَمَا مَرَّ عَنْ تَصْرِيحِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ لَوْثٌ .

وَيَجِبُ بِالْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَفِي الْعَمْدِ عَلَى الْمَقْسَمِ عَلَيْهِ وَفِي الْقَدِيمِ قِصَاصٌ

( وَيَجِبُ بِالْقَسَامَةِ ) مِنْ الْمُدَّعِي ( فِي قَتْلِ الْخَطَإِ ، أَوْ ) قَتْلِ ( شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ ) مُخَفَّفَةٌ فِي الْأَوَّلِ مُغَلَّظَةٌ فِي الثَّانِي لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِذَلِكَ ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ : فَإِنْ قِيلَ : كَانَ الْمُصَنِّفُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمَهُ فِي فَصْلِ الْعَاقِلَةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَيْسَتْ كَالْبَيِّنَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْبَيِّنَةِ فِي الْعَمْدِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ بَلْ دِيَةٌ كَمَا قَالَ ( وَفِي ) قَتْلِ ( الْعَمْدِ ) دِيَةٌ حَالَّةٌ ( عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ) وَلَا قِصَاصَ فِي الْجَدِيدِ ، لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ { إمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ أَوْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ } وَأَطْلَقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيجَابَ الدِّيَةِ وَلَمْ يَفْصِلْ ، وَلَوْ صَلَحَتْ الْأَيْمَانُ لِلْقِصَاصِ لِذِكْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ فَلَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الدِّمَاءِ كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ( وَفِي الْقَدِيمِ ) عَلَيْهِ ( قِصَاصٌ ) ، حَيْثُ يَجِبُ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } أَيْ دَمَ قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْعَمْدُ بِالِاتِّفَاقِ فَيَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ كَشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ .
وَأَجَابَ فِي الْجَدِيدِ عَنْ الْحَدِيثْ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ بَدَلُ دَمِ صَاحِبِكُمْ ، وَعَبَّرَ بِالدَّمِ عَنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الدَّمِ ، وَعَنْ التَّعْلِيلِ بِانْتِقَاضِهِ بِمَا إذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ ، وَاحْتَرَزَ بِالْقَسَامَةِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ أَوْ كَالْبَيِّنَةِ ، وَالْقَوَدُ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا .

وَلَوْ ادَّعَى عَمْدًا بِلَوْثٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ حَضَرَ أَحَدُهُمْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ حَضَرَ آخَرُ أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ ، وَفِي قَوْلٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ فِي الْأَيْمَانِ ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي الِاكْتِفَاءُ بِهَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
( وَلَوْ ادَّعَى ) قَتْلًا ( عَمْدًا بِلَوْثٍ ) أَيْ مَعَهُ ( عَلَى ثَلَاثَةٍ حَضَرَ أَحَدُهُمْ ) ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْقَتْلِ اقْتَصَّ مِنْهُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ( أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ وَأَخَذَ ) مِنْهُ ( ثُلُثَ الدِّيَةِ ) مِنْ مَالِهِ عَلَى الْجَدِيدِ ، وَلَهُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ عَلَى الْقَدِيمِ ( فَإِنْ حَضَرَ آخَرُ ) وَاعْتَرَفَ اُقْتُصَّ مِنْهُ ؛ وَإِنْ أَنْكَرَ ( أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ ) فِي الْأَظْهَرِ كَالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ السَّابِقَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ وَأَخَذَ مِنْهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ ( وَفِي قَوْلٍ ) يُقْسِمُ ( خَمْسًا وَعِشْرِينَ ) كَمَا لَوْ حَضَرَا مَعًا ، وَقَوْلُهُ ( إنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ ) أَيْ الْغَائِبَ ( فِي الْأَيْمَانِ ) الَّتِي حَلَفَهَا لِلْحَاضِرِ قَيْدٌ لَا قَسْمٌ لِلْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ كَانَ ذَكَرَهُ فِيهَا ( فَيَنْبَغِي ) كَمَا بَحَثَهُ الْمُحَرَّرُ ( الِاكْتِفَاءُ بِهَا ) ، وَلَا يَحْلِفُ ( بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَوَجْهُ مُقَابِلِهِ ضَعْفُ الْقَسَامَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مَنْقُولُ الْأَصْحَابِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بَحْثٌ لِلرَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّرْتُهُ ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الثَّالِثِ إذَا حَضَرَ ، وَهُوَ كَالثَّانِي فِيمَا مَرَّ فِيهِ .

وَمَنْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الدَّمِ أَقْسَمَ وَلَوْ مُكَاتَبًا لِقَتْلِ عَبْدِهِ ، وَمَنْ ارْتَدَّ فَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ أَقْسَامِهِ لِيُسْلِمَ ، فَإِنْ أَقْسَمَ فِي الرِّدَّةِ صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ .

ثُمَّ ذَكَرَ ضَابِطَ مَنْ يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ فِي قَوْلِهِ ( وَ ) كُلُّ ( مَنْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الدَّمِ ) مِنْ سَيِّدٍ أَوْ وَارِثٍ ( أَقْسَمَ ) سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا عَدْلًا أَمْ فَاسِقًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَمْ غَيْرَهُ ( وَلَوْ ) هُوَ ( مُكَاتَبٌ لِقَتْلِ عَبْدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِبَدَلِهِ ، وَلَا يُقْسِمُ سَيِّدُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ ، فَإِنَّ السَّيِّدَ يُقْسِمُ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ ، وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ أَخَذَ السَّيِّدُ الْقِيمَةَ كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلِيُّ بَعْدَ مَا أَقْسَمَ أَوْ قَبْلَهُ وَقَبْلَ نُكُولِهِ حَلَفَ السَّيِّدُ ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا لِبُطْلَانِ الْحَقِّ بِالنُّكُولِ كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ السَّيِّدَ يَحْلِفُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِمَنْ اسْتَحَقَّ إلَخْ عَمَّا لَوْ جَرَحَ شَخْصٌ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَمَاتَ ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَهَا ، بَلْ هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَبِقَوْلِنَا : مِنْ سَيِّدٍ أَوْ وَارِثٍ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ السَّابِقَةِ ، وَهِيَ مَا لَوْ أَوْصَى السَّيِّدُ لِمُسْتَوْلَدَتِهِ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ الْمَقْتُولِ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ ، فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْقَسَامَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ تَسْتَحِقُّ الْقِيمَةَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تُقْسِمُ بَلْ الْوَارِثُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقَتْلِ كَانَ لِلسَّيِّدِ ، وَالْقَسَامَةُ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْقَتْلِ فَيَرِثُهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْقِيمَةُ صَرَفَهَا إلَى الْمُسْتَوْلَدَةِ بِمُوجِبِ وَصِيَّتِهِ ، وَتَحْقِيقِ مُرَادِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي دَيْنَهُ ( وَمَنْ ارْتَدَّ ) بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ بَدَلَ الدَّمِ بِأَنْ يَمُوتَ الْمَجْرُوحُ ثُمَّ يَرْتَدَّ وَلِيُّهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ ( فَالْأَفْضَلُ ) وَعِبَارَةُ

الْمُحَرَّرِ : فَالْأَوْلَى ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى ( تَأْخِيرُ أَقْسَامِهِ لِيُسْلِمَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَرَّعُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ عَنْ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ أَقْسَمَ .
أَمَّا إذَا ارْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا يُقْسِمُ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ وَارْتَدَّ سَيِّدُهُ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْعَبْدِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ ( فَإِنْ أَقْسَمَ فِي الرِّدَّةِ صَحَّ ) أَقْسَامُهُ وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) " لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَدَّ بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ صَحِيحَةٌ ، وَالْقَسَامَةُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ لِلْمَالِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ الرِّدَّةُ كَالِاحْتِطَابِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَعَنْ الْمُزَنِيِّ ، وَحَكَى قَوْلًا مُخَرَّجًا وَمَنْصُوصًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي الرِّدَّةِ ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ اُعْتُدَّ بِهِ قَطْعًا ، وَلَوْ ارْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ وَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يُقْسِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ ( وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ) خَاصٌّ ( لَا قَسَامَةَ فِيهِ ) وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْلِيفَهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، لَكِنْ يُنَصِّبُ الْقَاضِي مَنْ يَدَّعِي عَلَى مَنْ نُسِبَ الْقَتْلُ إلَيْهِ وَيُحَلِّفُهُ ، فَإِنْ نَكَلَ فَهَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ أَوْ لَا ؟ وَجْهَانِ جَزَمَ فِي الْأَنْوَارِ بِالْأَوَّلِ ، وَمُقْتَضَى مَا صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ فِيمَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ فَادَّعَى الْقَاضِي أَوْ مَنْصُوبُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى آخَرَ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِالنُّكُولِ بَلْ يُحْبَسُ لِيَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ تَرْجِيحُ الثَّانِي وَهُوَ أَوْجَهُ .

[ فَصْلٌ ] إنَّمَا يَثْبُتُ مُوجِبُ الْقِصَاصِ بِإِقْرَارٍ أَوْ عَدْلَيْنِ ، وَالْمَالِ بِذَلِكَ أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ وَيَمِينٍ ، وَلَوْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ لِيَقْبَلَ لِلْمَالِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْأَصَحِّ وَلَوْ شَهِدَ هُوَ وَهُمَا بِهَاشِمَةٍ قَبْلَهَا إيضَاحٌ لَمْ يَجِبْ أَرْشُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَلْيُصَرِّحْ الشَّاهِدُ بِالْمُدَّعَى ، فَلَوْ قَالَ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ لَمْ يَثْبُتْ حَتَّى يَقُولَ فَمَاتَ مِنْهُ أَوْ فَقَتَلَهُ ، وَلَوْ قَالَ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَأَدْمَاهُ أَوْ فَأَسَالَ دَمَهُ ثَبَتَتْ دَامِيَةٌ ، وَيُشْتَرَطُ لِمُوضِحَةٍ ضَرَبَهُ فَأَوْضَحَ عَظْمَ رَأْسِهِ ، وَقِيلَ يَكْفِي فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ ، وَيَجِبُ بَيَانُ مَحَلِّهَا وَقَدْرِهَا لِيُمْكِنَ الْقِصَاصُ

فَصْلٌ ] فِيمَا يُثْبِتُ مُوجِبَ الْقِصَاصِ وَمُوجِبَ الْمَالِ مِنْ إقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ ( إنَّمَا يَثْبُتُ مُوجِبُ الْقِصَاصِ ) بِكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جُرْحٍ ( بِإِقْرَارٍ ، أَوْ ) شَهَادَةِ ( عَدْلَيْنِ ) بِهِ ، لِمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
تَنْبِيهٌ : أَوْرَدَ عَلَى حَصْرِهِ عِلْمُ الْقَاضِي وَنُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلِفُ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِمَا ، وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ السِّحْرُ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ ، بَلْ بِالْإِقْرَارِ فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي ( وَ ) إنَّمَا يَثْبُتُ مُوجِبُ ( الْمَالِ ) مِنْ قَتْلٍ أَوْ جُرْحٍ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ( بِذَلِكَ ) أَيْ إقْرَارِهِ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي ( أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ ) بِرَجُلٍ ( وَيَمِينٍ ) لَا بِامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ذُكِرَتْ هُنَا تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَيَأْتِي ثَمَّ الْكَلَامُ عَلَى صِفَاتِ الشُّهُودِ الْمَشْهُودِ بِهِ مُسْتَوْفًى ، وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ بَيَانُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَالْمَالِ هُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْقِصَاصِ ، وَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى حَصْرِهِ الْقَسَامَةُ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ ، فَإِنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ فَقَطْ ، وَالْمُرَادُ بِالْيَمِينِ فِي كَلَامِهِ الْجِنْسُ لَا الْأَفْرَادُ لِمَا مَرَّ مِنْ تَعَدُّدِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إذَا ادَّعَى بِهِ عَيْنًا فَلَوْ ادَّعَى الْقِصَاصَ فَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَمْ يَثْبُتْ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَقَامَ فِي السَّرِقَةِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ثَبَتَ الْغُرْمُ لَا الْقَطْعُ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالسَّرِقَةِ تُوجِبُهُمَا مَعًا ، وَإِذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ لَا

يَثْبُتُ بِهَا الْقَطْعُ بَقِيَ الْغُرْمُ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقَوَدَ عَيْنًا أَوْ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ أَوْجَبْنَا فِيهِ خِلَافَ مُقْتَضَى الْجِنَايَةِ ( وَلَوْ عَفَا ) مُسْتَحِقُّ قِصَاصٍ فِي جِنَايَةٍ تُوجِبُهُ ( عَنْ الْقِصَاصِ لِيُقْبَلَ لِلْمَالِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) أَوْ رَجُلٌ وَيَمِينٌ ( لَمْ يُقْبَلْ ) أَيْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِذَلِكَ ( فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَثْبُتْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصَ لِيُعْتَبَرَ الْعَفْوُ .
وَالثَّانِي : يُقْبَلُ ، وَصَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْمَالُ وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ عَفْوِهِ بِالْجِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ هَلْ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إنْ أَنْشَأَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ ، أَمَّا لَوْ ادَّعَى الْعَمْدَ وَأَقَامَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ عَفَا عَنْ الْقِصَاص عَلَى مَالٍ وَقَصَدَ الْحُكْمَ لَهُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهَا قَطْعًا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ حِينَ أُقِيمَتْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهَا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ بِشَيْءٍ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ ( وَلَوْ شَهِدَ هُوَ ) أَيْ الرَّجُلُ ( وَهُمَا ) أَيْ الْمَرْأَتَانِ ( بِهَاشِمَةٍ قَبْلَهَا إيضَاحٌ لَمْ يَجِبْ أَرْشُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْهَشْمَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْإِيضَاحِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا اشْتَمَلَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ اُحْتِيطَ لَهَا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ أَرْشُهَا ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ نَصٍّ آخَرَ فِيمَا إذَا رَمَى إلَى زَيْدٍ سَهْمًا فَمَرَقَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخَطَأُ الْوَارِدُ عَلَى الثَّانِي بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ انْتَهَى ، وَالْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ

النَّصَّيْنِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهَشْمَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْإِيضَاحِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي مَسْأَلَةِ مُرُورِ السَّهْمِ حَصَلَ جِنَايَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ صُورَةَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنَايَتَيْنِ ، أَوْ مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ فِي مَرَّتَيْنِ ثَبَتَ أَرْشُ الْهَاشِمَةِ بِذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي الثَّانِيَةِ عَنْ بَحْثِ الْإِمَامِ مَعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَمِثْلُهُ الرَّجُلُ مَعَ الْيَمِينِ ، وَتُؤْخَذُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَكَلَامُ الْوَسِيطِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( وَلْيُصَرِّحْ الشَّاهِدُ بِالْمُدَّعَى ) بِهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وُجُوبًا ( فَلَوْ قَالَ ) الشَّاهِدُ ( ضَرَبَهُ ) أَيْ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ ( بِسَيْفٍ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ لَمْ يَثْبُتْ ) هَذَا الْقَتْلُ الْمُدَّعَى بِهِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ ( حَتَّى يَقُولَ ) الشَّاهِدُ ( فَمَاتَ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ جَرْحِهِ ( أَوْ فَقَتَلَهُ ) أَوْ أَنْهَرَ دَمَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَضَرْبِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ لِيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ ( وَلَوْ قَالَ ) الشَّاهِدُ : ( ضَرَبَ ) الْجَانِي ( رَأْسَهُ ) أَيْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ( فَأَدْمَاهُ أَوْ ) ضَرَبَ رَأْسَهُ مَثَلًا ( فَأَسَالَ ) الضَّرْبُ ( دَمَهُ ثَبَتَتْ ) بِذَلِكَ ( دَامِيَةٌ ) عَمَلًا بِقَوْلِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فَسَالَ دَمُهُ لَمْ تَثْبُتْ لِاحْتِمَالِ حُصُولِ السَّيَلَانِ بِسَبَبٍ آخَرَ ( وَيُشْتَرَطُ لِمُوضِحَةٍ ) أَيْ فِي الشَّهَادَةِ بِهَا أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ ( ضَرَبَهُ فَأَوْضَحَ عَظْمَ رَأْسِهِ ) لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ يُحْتَمَلُ بَعْدَهُ ( وَقِيلَ يَكْفِي فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ ) مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِيضَاحِ الْعَظْمِ ، وَظَاهِرُ الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا الْجَزْمُ بِهِ ، وَنَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِمَفْهُومِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ عُرْفًا ( وَيَجِبُ ) عَلَى

الشَّاهِدِ ( بَيَانُ مَحَلِّهَا ) أَيْ الْمُوضِحَةِ ( وَقَدْرِهَا ) بِالْمِسَاحَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مَوَاضِحُ ( لِيُمْكِنَ ) فِيهَا ( الْقِصَاصُ ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِرَأْسِهِ إلَّا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِأَنَّهُ أَوْضَحَ رَأْسَهُ لَمْ يَثْبُتْ الْقِصَاصُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مُوضِحَةٌ صَغِيرَةٌ فَوَسَّعَهَا غَيْرُ الْجَانِي .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ : لِيُمْكِنَ الْقِصَاصُ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ .

وَيَثْبُتُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِإِقْرَارٍ بِهِ ، لَا بِبَيِّنَةٍ .

( وَيَثْبُتُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِإِقْرَارٍ بِهِ ) مِنْ السَّاحِرِ ، فَإِنْ قَالَ : قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي وَهُوَ يَقْتُلُ غَالِبًا فَعَمْدٌ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَإِنْ قَالَ يَقْتُلُ نَادِرًا فَشِبْهُ عَمْدٍ ، وَإِنْ قَالَ أَخْطَأْتُ مِنْ اسْمِ غَيْرِهِ إلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ ، وَيَجِبُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ دِيَةٌ فِي مَالِ السَّاحِرِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يُلْزِمُهُمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ، فَقَوْلُهُ فِي الْوَجِيزِ : وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الدَّمِيرِيِّ : إنَّهُ وَهْمٌ أَوْ سَبْقُ قَلَمٍ ، وَيَثْبُتُ السِّحْرُ أَيْضًا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالسِّحْرِ فَيُنْكِرَ وَيَنْكُلَ عَنْ الْيَمِينِ فَتُرَدَّ عَلَى الْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ ، وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذِهِ دَاخِلَةٌ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ بِإِقْرَارٍ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ، وَإِنْ قَالَ إنَّ سِحْرَهُ كُفْرٌ قُتِلَ بِهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُسْتَفْسَرَ ، إذْ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كُفْرًا ، وَلَوْ قَالَ آذَيْته بِسِحْرِي وَلَمْ أُمْرِضْهُ نُهِيَ عَنْهُ ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ : كَذَا قَالَاهُ ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا لَمْ يَبْعُدْ ، وَإِنْ قَالَ أَمْرَضْتُهُ بِهِ عُزِّرَ ، فَإِنْ مَرِضَ بِهِ وَتَأَلَّمَ حَتَّى مَاتَ كَانَ لَوْثًا إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ تَأَلَّمَ بِهِ حَتَّى مَاتَ ثُمَّ يَحْلِفُ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ بِسِحْرِهِ وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ ، فَإِنْ ادَّعَى السَّاحِرُ بَرَأَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَاحْتُمِلَ بُرْؤُهُ بِأَنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يُحْتَمَلُ بُرْؤُهُ فِيهَا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ قَالَ : قَتَلْتُ بِسِحْرِي وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا عُزِّرَ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا حَدَّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ .
تَنْبِيهٌ : السِّحْرُ لُغَةً : صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ

وَجْهِهِ ، يُقَالُ مَا سَحَرَكَ عَنْ كَذَا : أَيْ صَرَفَكَ عَنْهُ .
وَاصْطِلَاحًا : مُزَاوَلَةُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لِأَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ تَخْيِيلٌ أَوْ حَقِيقَةٌ ؟ قَالَ بِالْأَوَّلِ الْمُعْتَزِلَةُ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طَه ] وَقَالَ بِالثَّانِي أَهْلُ السُّنَّةِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ، وَالسَّاحِرُ قَدْ يَأْتِي بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَسْحُورِ فَيَمْرَضُ وَيَمُوتُ مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَى بَدَنِهِ مِنْ دُخَانٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ دُونَهُ ، وَيُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَيَكْفُرُ مُعْتَقِدُ إبَاحَتِهِ ، فَإِنْ تَعَمَّدَهُ تَعْلِيمًا ، أَوْ تَعَلُّمًا ، أَوْ فِعْلًا أَثِمَ ، فَكُلٌّ مِنْهَا حَرَامٌ لِخَوْفِ الِافْتِتَانِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ : يَجُوزُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهِ لَا لِلْعَمَلِ بِهِ ، بَلْ إنْ اُحْتِيجَ فِيهَا إلَى تَقْدِيمِ اعْتِقَادِ مُكَفِّرٍ كَفَرَ .
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلَا يَظْهَرُ السِّحْرُ إلَّا عَلَى فَاسِقٍ ، وَلَا تَظْهَرُ الْكَرَامَةُ عَلَى فَاسِقٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ بَلْ مُسْتَفَادٌ مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَ ( لَا ) يَثْبُتُ السِّحْرُ ( بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَعْلَمُ قَصْدَ السَّاحِرِ وَلَا يُشَاهِدُ تَأْثِيرَ سِحْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْبَيِّنَةِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا ، لَكِنْ فِي الْكِفَايَةِ إنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السِّحْرِ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا : كَمَا لَوْ قَالَ : سَحَرْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا ، فَشَهِدَ عَدْلَانِ كَانَا سَاحِرَيْنِ ثُمَّ تَابَا بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ نَادِرًا فَيَثْبُتُ بِمَا يَشْهَدَانِ بِهِ .
فَائِدَةٌ : لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنْ السِّحْرِ إلَى الْغَايَةِ الَّتِي وَصَلَ إلَيْهَا الْقِبْطُ أَيَّامَ دَلُوكَا مَلِكَةِ مِصْرَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ

، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا السِّحْرَ عَلَى الْبَرَابِي وَصَوَّرُوا فِيهَا صُوَرَ عَسَاكِرِ الدُّنْيَا ، فَأَيُّ عَسْكَرٍ قَصَدَهُمْ أَتَوْا إلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ الْمُصَوَّرِ فَمَا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ قَلْعِ الْأَعْيُنِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ اتَّفَقَ نَظِيرُهُ لِلْعَسْكَرِ الْعَامِدِ لَهُمْ فَيَخَافُ مِنْهُمْ الْعَسَاكِرُ ، وَأَقَامُوا سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ بِمِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ تَهَابُهُمْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ السَّاحِرَ يَقْلِبُ بِسِحْرِهِ الْأَعْيَانَ ، وَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا بِحَسَبِ قُوَّةِ السِّحْرِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهَذَا وَاضِحُ الْبُطْلَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا لَقَدَرَ أَنْ يَرُدَّ بِنَفْسِهِ إلَى الشَّبَابِ بَعْدَ الْهَرَمِ ، وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِهِ السِّيمِيَاءُ .
وَأَمَّا الْكِهَانَةُ وَالتَّنْجِيمُ وَالضَّرْبُ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالشَّعِيرِ وَالشَّعْبَذَةُ فَحَرَامٌ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَفِعْلًا ، وَكَذَا إعْطَاءُ الْعِوَضِ أَوْ أَخْذُهُ عَنْهَا بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ ، وَالْكَاهِنُ : مَنْ يُخْبِرُ بِوَاسِطَةِ النَّجْمِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، بِخِلَافِ الْعَرَّافِ : فَإِنَّهُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ الْوَاقِعَةِ كَعَيْنِ السَّارِقِ وَمَكَانِ الْمَسْرُوقِ وَالضَّالَّةِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَلَا يُغْتَرُّ بِجَهَالَةِ مَنْ يَتَعَاطَى الرَّمْلَ وَإِنْ نُسِبَ إلَى عِلْمٍ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ فَذَاكَ } فَمَعْنَاهُ مَنْ عَلِمْتُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُ فَلَا بَأْسَ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمُوَافَقَةَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا ذَلِكَ .
.

فَرْعٌ : لَوْ اعْتَرَفَ شَخْصٌ بِقَتْلِهِ إنْسَانًا بِالْعَيْنِ فَلَا ضَمَانَ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ حَقًّا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { الْعَيْنُ حَقٌّ ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ } لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا ، وَيُسَنُّ لِلْعَائِنِ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَعِينِ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِالْمَأْثُورِ وَهُوَ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرَّهُ ، وَأَنْ يَقُولَ : مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَأَنْ يَغْسِلَ دَاخِلَ إزَارِهِ مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ بِمَاءٍ ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الْمُقْرِي وَأَنْ يَغْسِلَ جِلْدَهُ مِمَّا يَلِي إزَارَهُ بِمَاءٍ ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى الْمَعِينِ ، قِيلَ : وَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ مَنْعُ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَيَأْمُرُهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ وَيَرْزُقُهُ مَا يَكْفِيهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَكْثَرَ قَوْمَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَمَاتَ اللَّهُ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : إنَّكَ اسْتَكْثَرْتَهُمْ فَأَعَنْتَهُمْ ، فَهَلَّا حَصَّنْتَهُمْ حِينَ اسْتَكْثَرْتَهُمْ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ أُحَصِّنُهُمْ ؟ فَقَالَ تَعَالَى تَقُولُ : حَصَّنْتُكُمْ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا وَدَفَعْتُ عَنْكُمْ السُّوءُ بِأَلْفِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ إذَا رَأَى عَيْنَهُ سَلِيمَةً وَأَحْوَالَهُ مُعْتَدِلَةً : يَقُولُ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ الْقَاضِي يُحَصِّنُ تَلَامِذَتَهُ بِذَلِكَ إذَا اسْتَكْثَرَهُمْ ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ الْعَيْنَ لَا تُؤَثِّرُ مِمَّنْ لَهُ نَفْسٌ شَرِيفَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِعْظَامٌ لِلشَّيْءِ ، وَمَا رَوَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ

يَرُدُّ ذَلِكَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَسَكَتُوا عَنْ الْقَتْلِ بِالْحَالِ وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا قَتَلَ بِهِ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارًا كَالسَّاحِرِ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَلَا بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ .
قَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ : حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ فَكَذَبَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَمِتْهُ فَخَرَّ مَيِّتًا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى زِيَادٍ ، فَقَالَ : قَتَلْتَ الرَّجُلَ ، فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهَا دَعْوَةٌ وَافَقَتْ أَجَلًا .

وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَمْ تُقْبَلْ ، وَبَعْدَهُ يُقْبَلُ وَكَذَا بِمَالٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فِي الْأَصَحِّ .

( وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَمْ تُقْبَلْ ) لِلتُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ كَانَ الْأَرْشُ لَهُ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ : إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَجْرُوحِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ تِلْمِيذُهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ ، وَرُبَّمَا يَبْرَأُ مِنْهُ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فِيهِ وَقْفَةٌ وَتَقْوَى فِيمَا إذَا كَانَتْ الدُّيُونُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا كَالزَّكَوَاتِ وَالْوُقُوفِ الْعَامَّةِ أَوْ كَانَتْ لِطِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ إطْلَاقُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَوْجُودَةٌ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ مَالٍ لِمُوَرِّثِهِ مَخْفِيًّا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَشَهَادَتُهُمْ بِتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ كَشَهَادَتِهِمْ بِالْجَرْحِ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الشَّيْخَانِ الْجُرْحَ وَقَيَّدَهُ الْإِمَامُ بِجُرْحٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُوهِمُ اعْتِبَارَ الْإِرْثِ حَالَةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْجُوبًا ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ يُقْبَلُ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا بَطَلَتْ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ( وَبَعْدَهُ ) أَيْ الِانْدِمَالِ ( يُقْبَلُ ) جَزْمًا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حِينَئِذٍ .
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْمُوَرِّثَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَاتِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا لِلْبَعْضِيَّةِ ( وَكَذَا ) لَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثِهِ ( بِمَالٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ) تُقْبَلُ ( فِي الْأَصَحِّ ) عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِمَا مَرَّ ، وَالثَّانِي لَا تُقْبَلُ كَالْجُرْحِ ، وَفَرَّقَ الْفَارِقِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا إذَا شَهِدَا بِالْمَالِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا نَفْعٌ حَالَ وُجُوبِهِ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فِي مَلَاذِّهِ

وَشَهَوَاتِهِ ، وَإِذَا شَهِدَا لَهُ بِالْجِرَاحَةِ كَانَ النَّفْعُ حَالَ الْوُجُوبِ لَهُمَا لِأَنَّ الدِّيَةَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ تَجِبْ ، وَبَعْدَهُ تَجِبُ لَهُمَا ، وَفَرَّقَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبُ الْمَوْتِ النَّاقِلِ لِلْحَقِّ ، فَإِذَا شَهِدَ بِالْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ بِالسَّبَبِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ .

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ يَحْمِلُونَهُ .
( وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ ) أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ( يَحْمِلُونَهُ ) وَقْتَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْغُرْمَ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَحْمِلُونَهَا وَقْتَ الشَّهَادَة نُظِرَتْ ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْعَاقِلَةِ فَالنَّصُّ رَدَّهَا أَيْضًا ، أَوْ مِنْ أَبَادِعِهِمْ وَفِي الْأَقْرَبِينَ وَفَاءً بِالْوَاجِبِ فَالنَّصُّ قَبُولُهَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ ، وَالْغِنَى غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فَتَحَصَّلَ التُّهْمَةُ ، وَمَوْتُ الْقَرِيبِ كَالْمُسْتَبْعَدِ فِي الِاعْتِقَادِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ بِمِثْلِهِ ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ قَتْلٍ يَحْمِلُونَهُ عَمَّا لَوْ شَهِدُوا بِفِسْقِ بَيِّنَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَبَيِّنَةِ الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، إذْ لَا تَحَمُّلَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ : وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ مَا تَحْمِلُهُ لِيَدْخُلَ مَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ لَكَانَ أَوْلَى .

وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى اثْنَيْنِ بِقَتْلِهِ فَشَهِدَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ بِقَتْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَيْنِ حُكِمَ بِهِمَا ، أَوْ الْآخَرَيْنِ أَوْ الْجَمِيعَ أَوْ كَذَّبَ الْجَمِيعَ بَطَلَتَا ، وَلَوْ أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِعَفْوِ بَعْضٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ السَّلَامَةُ مِنْ التَّكَاذُبِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى اثْنَيْنِ بِقَتْلِهِ ) أَيْ شَخْصٍ ( فَشَهِدَا ) أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا مُبَادَرَةً ( عَلَى الْأَوَّلَيْنِ ) أَوْ غَيْرِهِمَا ( بِقَتْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَيْنِ حُكِمَ بِهِمَا ) لِسَلَامَةِ شَهَادَتِهِمَا عَنْ التُّهْمَةِ وَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا الْقَتْلَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْأَوَّلَانِ ، وَالدَّافِعُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا إذَا صَدَّقَهُمَا الْوَلِيُّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ يُشْتَرَطُ عَدَمُ تَكْذِيبِهِمَا ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا بَعْدَ صُدُورِ الدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْوَلِيُّ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْقَتْلَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا ، وَطَلَبَ الشَّهَادَةِ كَافٍ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( أَوْ ) صَدَّقَ ( الْآخَرَيْنِ أَوْ ) صَدَّقَ ( الْجَمِيعَ أَوْ كَذَّبَ الْجَمِيعَ بَطَلَتَا ) أَيْ الشَّهَادَتَانِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ .
أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ فِي تَصْدِيقِ الْآخَرَيْنِ تَكْذِيبَ الْأَوَّلَيْنِ وَعَدَاوَةَ الْآخَرَيْنِ لَهُمَا ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ فَرِيقٍ تَكْذِيبًا لِلْآخَرِ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَالْأَمْرُ فِيهَا ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ اسْتَشْكَلَ تَصْوِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْقَتْلِ لَا تُسْمَعُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا بُدَّ فِي الدَّعْوَى مِنْ تَعْيِينِ الْقَاتِلِ فَكَيْفَ يَشْهَدَانِ ثُمَّ يُرَاجِعُ الْوَلِيُّ ؟ .
وَأُجِيبَ بِأَوْجُهٍ ذَكَرْتُهَا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ أَصَحُّهَا أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلِيُّ عَلَى اثْنَيْنِ وَيَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ فَيُبَادِرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا وَيَشْهَدَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا كَمَا مَرَّ بِأَنَّهُمَا الْقَاتِلَانِ وَذَلِكَ يُورِثُ رِيبَةً لِلْحَاكِمِ فَيُرَاجِعُ

الْوَلِيَّ وَيَسْأَلُهُ احْتِيَاطًا ، وَيَنْظُرُ هَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الدَّعْوَى أَوْ يَعُودُ إلَى تَصْدِيقِ الْآخَرِينَ أَوْ الْجَمِيعِ أَوْ يُكَذِّبُ الْجَمِيعَ ، وَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنْ الدَّعْوَى ؟ مُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ الْبُطْلَانِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي تَكْذِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ ، لَكِنَّ عِبَارَةَ الْجُمْهُورِ بَطَلَ حَقُّهُ ( وَلَوْ أَقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ ) وَلَوْ فَاسِقًا ( بِعَفْوِ بَعْضٍ ) مِنْهُمْ عَنْ الْقِصَاصِ ، سَوَاءٌ عَيَّنَهُ أَمْ لَا ( سَقَطَ الْقِصَاصُ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْهُمْ مِنْهُ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِي ، وَاحْتَرَزَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ : بَلْ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ الْعَافِيَ فَلِلْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ الدِّيَةُ وَإِنْ عَيَّنَهُ فَأَنْكَرَ فَكَذَلِكَ وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْفُ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَفْوِ مَجَّانًا أَوْ مُطْلَقًا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الدِّيَةِ وَلِلْبَاقِينَ حِصَّتُهُمْ مِنْهَا .
تَنْبِيهٌ : يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ لَا عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ شَاهِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ نَاقِصَةٍ لَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِهِ .
أَمَّا إثْبَاتُ الْعَفْوِ عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ فَيَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ النَّاقِصَةِ أَيْضًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَيَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِذَلِكَ فَكَذَا إسْقَاطُهُ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ أَقَرَّ مَا لَوْ شَهِدَ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ الْعَافِيَ فَكَالْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَعَيَّنَ الْعَافِيَ وَشَهِدَ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا بَعْدَ دَعْوَى الْجَانِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الدِّيَةِ وَيَحْلِفُ الْجَانِي مَعَ الشَّاهِدِ أَنَّ الْعَافِيَ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ لَا عَنْهَا وَعَنْ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ بِالْإِقْرَارِ فَيَسْقُطُ مِنْ الدِّيَةِ حِصَّةُ الْعَافِي ، وَإِنْ شَهِدَ بِالْعَفْوِ عَنْ الدِّيَةِ فَقَطْ لَمْ

يَسْقُطْ قِصَاصُ الشَّاهِدِ .

وَلَوْ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان أَوْ آلَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ لَغَتْ ، وَقِيلَ لَوْثٌ .
( وَلَوْ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ فِي زَمَانٍ ) لِلْقَتْلِ : كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ فِي اللَّيْلِ ، وَالْآخَرُ قَالَ فِي النَّهَارِ ( أَوْ مَكَانٍ ) لَهُ كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلَهُ فِي الدَّارِ ( أَوْ آلَةٍ ) لَهُ : كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ .
وَقَالَ الْآخَر قَتَلَهُ بِرُمْحٍ ( أَوْ هَيْئَةٍ ) لَهُ : كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا حَزَّ رَقَبَتَهُ .
وَقَالَ الْآخَر : شَقَّهُ نِصْفَيْنِ ( لَغَتْ ) شَهَادَتُهُمَا وَلَا لَوْثَ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نَاقَضَ صَاحِبَهُ وَذِكْرُ الْهَيْئَةِ مَزِيدٌ ( وَقِيلَ ) هَذِهِ الشَّهَادَةُ ( لَوْثٌ ) فَيُقْسِمُ الْوَلِيُّ وَتَثْبُتُ الدِّيَةُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْقَتْلِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ بِمَا يَكُونُ غَلَطًا أَوْ نِسْيَانًا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْأَوَّلِ مَعَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْهُمَا أَوْ يَأْخُذُ الْبَدَلَ كَنَظِيرِهِ مِنْ السَّرِقَةِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ بَابَ الْقَسَامَةِ أَمْرُهُ أَعْظَمُ ، وَلِهَذَا غُلِّظَ فِيهِ بِتَكْرِيرِ الْأَيْمَانِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى الْفِعْلِ ، فَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَمْ يَضُرَّ اخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَلَا فِي مَكَانِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي الْقَتْلِ وَصِفَتِهِ ، بَلْ فِي الْإِقْرَارِ ، نَعَمْ إنْ عَيَّنَا يَوْمًا أَوْ نَحْوَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ الْمُسَافِرُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَر فِي الزَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَاهُ كَأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ بِمَكَّةَ يَوْمَ كَذَا ، وَالْآخَرُ بِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ بِمِصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَتَلْغُو الشِّهَادَةُ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ ، وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَلَوْثٌ تَثْبُتُ بِهِ الْقَسَامَةُ دُونَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْوَارِثُ قَتْلًا عَمْدًا أَقْسَمَ ، وَإِنْ ادَّعَى خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ حَلَفَ مَعَ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْقَتْلِ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ مَعَ شَاهِدِ الْإِقْرَارِ فَعَلَى الْجَانِي ، وَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ عَمْدًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ ، وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِقَتْلٍ عَمْدٍ ، وَالْآخَرُ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ ثَبَتَ أَصْلُ الْقَتْلِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُقْبَلَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْكَارُهُ وَطُولِبَ بِالْبَيَانِ لِصِفَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ جُعِلَ نَاكِلًا وَحَلَفَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الرَّدِّ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْدًا وَاقْتَصَّ مِنْهُ ، وَإِنْ بَيَّنَ فَقَالَ : قَتَلْتُهُ عَمْدًا اقْتَصَّ مِنْهُ ، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ أَوْ قَتْلَ خَطَإٍ فَلِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعَمْدِيَّةِ إنْ كَذَّبَهُ ، فَإِذَا حَلَفَ لَزِمَهُ دِيَةُ خَطَإٍ بِإِقْرَارِهِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَاقْتَصَّ مِنْهُ ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا وَآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْرًا أَقْسَمَ وَلِيَّاهُمَا لِحُصُولِ اللَّوْثِ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا .

كِتَابُ الْبُغَاةِ هُمْ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ وَتَأْوِيلٍ ، وَمُطَاعٍ فِيهِمْ ، قِيلَ وَإِمَامٌ مَنْصُوبٌ ، وَلَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ كَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَتَكْفِيرِ ذِي كَبِيرَةٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا تُرِكُوا ، وَإِلَّا فَقُطَّاعُ طَرِيقٍ .

كِتَابُ الْبُغَاةِ جَمْعُ بَاغٍ ، وَالْبَغْيُ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ سُمُّوا بِذَلِكَ لِظُلْمِهِمْ وَعُدُولِهِمْ عَنْ الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ بَغَتْ الْمَرْأَةُ إذَا فَجَرَتْ ، وَافْتَتَحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا } الْآيَةَ ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ ، لَكِنَّهَا تَشْمَلُهُ لِعُمُومِهَا أَوْ تَقْتَضِيهِ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْقِتَالَ لِبَغْيِ طَائِفَةٍ عَلَى طَائِفَةٍ ، فَلِلْبَغْيِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْلَى ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى قِتَالِهِمْ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - : أُخِذَتْ السِّيرَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَفِي قِتَالِ الْبُغَاةِ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَقَدْ عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبُغَاةَ بِقَوْلِهِ ( هُمْ ) مُسْلِمُونَ ( مُخَالِفُو الْإِمَامِ ) وَلَوْ جَائِرًا وَهُمْ عَادِلُونَ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ ، وَكَذَا هُوَ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ مُرَادُهُمْ إمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : إنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالَهُمْ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ لَكِنْ نُوزِعَ فِي الْإِجْمَاعِ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ مُرَادَهُ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ إذَا جَارَ وَبَغَى ، وَبَيْنَ مَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ فَلَا يَجُوزُ ، وَتَحْصُلُ مُخَالَفَةُ الْإِمَامِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا ( بِخُرُوجٍ

عَلَيْهِ ) نَفْسِهِ ( وَ ) إمَّا بِسَبَبِ ( تَرْكِ الِانْقِيَادِ ) لَهُ ( أَوْ ) لَا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، بَلْ بِخُرُوجٍ عَنْ طَاعَتِهِ بِسَبَبِ ( مَنْعِ حَقٍّ ) مَالِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ ( تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِمَنْعِهِمْ الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعُوا الْحَقَّ الْمُتَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بُغَاةً ( بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ ) بِكَثْرَةٍ أَوْ قُوَّةٍ وَلَوْ بِحِصْنٍ يُمْكِنُ مَعَهَا مُقَاوَمَةُ الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ فِي رَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ لِكُلْفَةٍ مِنْ بَذْلِ مَالٍ وَتَحْصِيلِ رِجَالٍ ( وَ ) بِشَرْطِ ( تَأْوِيلٍ ) يَعْتَقِدُونَ بِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ أَوْ مَنْعِ الْحَقِّ الْمُتَوَجَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ .
تَنْبِيهٌ : يُشْتَرَطُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لَا يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ بِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ كَتَأْوِيلِ الْخَارِجِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُمْ لِمُوَاطَأَتِهِ إيَّاهُمْ ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَدْفَعُونَ الزَّكَاةَ إلَّا لِمَنْ صَلَاتُهُ سَكَنٌ لَهُمْ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَ ) بِشَرْطٍ ( مُطَاعٍ فِيهِمْ ) أَيْ مَتْبُوعٍ يَحْصُلُ بِهِ قُوَّةٌ لِشَوْكَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا مَنْصُوبًا فِيهِمْ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ ، إذْ لَا قُوَّةَ لِمَنْ لَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ مُطَاعٌ ، وَهَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُطَاعَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الشَّوْكَةِ ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ آخَرُ غَيْرُ الشَّوْكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْبِيرُ الْكِتَابِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحَرَّرِ غَيْرَ شَرْطَيْنِ وَجَعَلَ الْمُطَاعَ

قَيْدًا فِي الشَّوْكَةِ ( قِيلَ وَ ) يُشْتَرَطُ ( إمَامٌ مَنْصُوبٌ ) فِيهِمْ حَتَّى لَا تَتَعَطَّلَ الْأَحْكَامُ بَيْنَهُمْ ، وَهَذَا مَا نَسَبَهُ الرَّافِعِيُّ لِلْجَدِيدِ وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْمُعْظَمِ ، وَجَزَمَ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ .
تَنْبِيهَانِ : أَحَدُهُمَا : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ اعْتِبَارَ وُجُودِ شَخْصَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا : بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُطَاعٍ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا فِيهِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَلَا إمَامَ لَهُمْ وَأَهْلَ صِفِّينَ قَبْلَ نَصْبِ إمَامِهِمْ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ انْفِرَادُ الْبُغَاةِ بِبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مِنْ الصَّحْرَاءِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ جَمْعٍ ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ .
الثَّانِي لَيْسَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِفَسَقَةٍ كَمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ بِاعْتِقَادِهِمْ لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ ، وَلَيْسَ اسْمُ الْبَغْيِ ذَمًّا ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيمَا يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ كَحَدِيثِ { مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } وَحَدِيثُ { مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ } وَحَدِيثِ { مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ } مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ بِلَا تَأْوِيلٍ أَوْ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ قَطْعًا ، فَإِنْ فُقِدَتْ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ بِأَنْ خَرَجُوا بِلَا تَأْوِيلٍ كَمَانِعِي حَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ عِنَادًا أَوْ بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ ، وَمَانِعِي حَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ الْآنَ وَالْخَوَارِجِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ بِأَنْ كَانُوا أَفْرَادًا يَسْهُلُ الظَّفَرُ بِهِمْ ، أَوْ لَيْسَ فِيهِمْ مُطَاعٌ فَلَيْسُوا بُغَاةً لِانْتِفَاءِ حُرْمَتِهِمْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَاهَا ،

وَلِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ قَتَلَ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا بِأَنَّهُ وَكِيلُ امْرَأَةٍ قَتَلَ عَلِيٌّ أَبَاهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ، وَلَمْ يُعْطَ حُكْمَهُمْ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِانْتِفَاءِ شَوْكَتِهِ ( وَلَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ ) وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ يُكَفِّرُونَ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَيَطْعَنُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ لَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( كَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَتَكْفِيرِ ذِي ) أَيْ صَاحِبِ ( كَبِيرَةٍ ) وَلَمْ نُكَفِّرْهُمْ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ ( وَلَمْ يُقَاتِلُوا ) وَهُمْ فِي قَبْضَتِنَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ ( تُرِكُوا ) فَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ ، سَوَاءٌ أَكَانُوا بَيْنَنَا أَمْ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ عَنَّا لَكِنْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَمْ يَفْسُقُوا بِذَلِكَ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً كَفَرَ وَحَبَطَ عَمَلُهُ وَخَلَدَ فِي النَّارِ ، وَأَنَّ دَارَ الْإِمَامِ صَارَتْ بِظُهُورِ الْكَبَائِرِ فِيهَا دَارَ كُفْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، فَلِذَلِكَ طَعَنُوا فِي الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُصَلُّوا خَلْفَهُمْ وَتَجَنَّبُوا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِسَبِّ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عُزِّرُوا لَا إنْ عَرَّضُوا فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ الْخَوَارِجِ ، يَقُول : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَرَّضَ بِتَخْطِئَتِهِ فِي الْحُكْمِ ، فَقَالَ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ : لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ فَجَعَلَ حُكْمَهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْعَدْلِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ إذَا لَمْ نَتَضَرَّرْ بِهِمْ ، فَإِنْ تَضَرَّرْنَا بِهِمْ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَصْحَابِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ قَاتَلُونَا أَوْ

لَمْ يَكُونُوا فِي قَبْضَتِنَا ( فَقُطَّاعُ ) أَيْ فَحُكْمُهُمْ إنْ لَمْ نُكَفِّرْهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا سَبَقَ كَحُكْمِ قُطَّاعِ ( طَرِيقٍ ) فَإِنْ قَتَلُوا أَحَدًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُمْ اُقْتُصَّ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ ، لَا أَنَّهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ كَمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَلَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي شَهْرِ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا إخَافَةَ الطَّرِيقِ .

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ وَقَضَاءُ قَاضِيهِمْ فِيمَا يُقْبَلُ قَضَاءُ قَاضِينَا إلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَنَا ، وَيَنْفُذُ كِتَابُهُ بِالْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكِتَابِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَصَحِّ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْبُغَاةِ بِقَوْلِهِ ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ ) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَسَقَةٍ كَمَا مَرَّ لِتَأْوِيلِهِمْ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَشْهَدُونَ لَمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ ، وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّافِضَةِ يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ وَيَقْضُونَ بِهِ لِمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ قَاضِيهِمْ ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْبُغَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ ، وَسَيَأْتِي فِيهَا أَنَّهُمْ إنْ بَيَّنُوا السَّبَبَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حِينَئِذٍ ( وَ ) يُقْبَلُ ( قَضَاءُ قَاضِيهِمْ ) بَعْدَ اعْتِبَارِ صِفَاتِ الْقَاضِي فِيهِ ( فِيمَا يُقْبَلُ ) فِيهِ ( قَضَاءُ قَاضِينَا ) لِأَنَّ لَهُمْ تَأْوِيلًا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ( إلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّ ) شَاهِدُ الْبُغَاةِ أَوْ قَاضِيهِمْ ( دِمَاءَنَا ) وَأَمْوَالَنَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ ، وَشَرْطُ الشَّاهِدِ وَالْقَاضِي الْعَدَالَةُ .
تَنْبِيهٌ : مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَتِهِ وَنُفُوذِ قَضَائِهِ إذَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا ، وَمَا نَقَلَاهُ فِي الرَّوْضَة وَأَصْلِهَا هُنَا عَنْ الْمُعْتَبِرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِلَا تَأْوِيلٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَقَضَاءِ قَاضِيهِمْ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِلُّ الدَّمَ وَالْمَالَ أَمْ لَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِسْقِ فِي مَعْنَى اسْتِحْلَالِ الدَّمِ وَالْمَالِ ، وَلَوْ شَكَكْنَا فِي الِاسْتِحْلَالِ حَيْثُ قُلْنَا : لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ وَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ : فَقَوْلَانِ ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ .
وَقَالَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

عَدَمُ قَبُولِ الْحُكْمِ ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَخَرَجَ بِمَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ قَاضِينَا غَيْرُهُ كَأَنْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا ، فَلَا يُقْبَلُ ( وَيُنَفِّذُ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ قَاضِينَا ( كِتَابَهُ ) أَيْ قَاضِي الْبُغَاةِ ( بِالْحُكْمِ ) فَإِذَا كَتَبَ بِمَا حَكَمَ بِهِ إلَى قَاضِينَا جَازَ لَهُ قَبُولُهُ وَتَنْفِيذُهُ ، وَلَكِنْ يُسَنُّ لَهُ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ ( وَيَحْكُمُ بِكِتَابِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ( فِي الْأَصَحِّ ) كَتَقْيِيدِ كِتَابِهِ بِالْحُكْمِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِهِ لِمَا مَرَّ .
وَالثَّانِي لَا يَحْكُمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِقَامَةِ مَنَاصِبِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : تَبِعَ الْمُحَرَّرُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ وَجْهَيْنِ ، لَكِنَّهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا جَعَلَهُ قَوْلَيْنِ ، وَطَرَدَهُمَا الْإِمَامُ فِي الْكِتَابِ بِالْحُكْمِ .

وَلَوْ أَقَامُوا حَدًّا وَأَخَذُوا زَكَاةً وَخَرَاجًا وَجِزْيَةً وَفَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنْدِهِمْ صَحَّ ، وَفِي الْأَخِيرِ وَجْهٌ .
( وَلَوْ ) اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ وَ ( أَقَامُوا ) أَيْ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ ( حَدًّا ) عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ( وَأَخَذُوا زَكَاةً ) مِنْ أَهْلِهَا ( وَخَرَاجًا ) مِنْ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ ( وَجِزْيَةً ) مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ ( وَفَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ ) مِنْ الْفَيْءِ ( عَلَى جُنْدِهِمْ صَحَّ ) مَا فَعَلُوهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ تَأَسِّيًا بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلِأَنَّ فِي إعَادَةِ الْمُطَالَبَةِ إضْرَارًا بِأَهْلِ الْبَلَدِ ، أَمَّا إذَا أَقَامَ الْحَدَّ غَيْرُ وُلَاتِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَمَحَلُّ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي الزَّكَاةِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَجَّلَةٍ ، أَوْ كَانَتْ مُعَجَّلَةً لَكِنْ اسْتَمَرَّتْ شَوْكَتُهُمْ حَتَّى وَجَبَتْ ، فَلَوْ زَالَتْ شَوْكَتُهُمْ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يَقَعْ مَا عَجَّلُوهُ مَوْقِعَهُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْأَخْذِ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ بِصَدَقَةٍ عَامَّةٍ ( وَفِي الْأَخِيرِ ) وَهُوَ تَفْرِقَةُ سَهْمِ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنْدِهِمْ ( وَجْهٌ ) أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْمَوْقِعَ لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُمْ مِنْ جُنْدِ الْإِسْلَامِ ، وَرُعْبُ الْكُفَّارِ قَائِمٌ بِهِمْ ، وَفِي الْجِزْيَةِ أَيْضًا وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ ، وَفِي الزَّكَاةِ أَيْضًا وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَصَرَّحَ فِي الْإِشْرَافِ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْخَرَاجِ .

وَمَا أَتْلَفَهُ بَاغٍ عَلَى عَادِلٍ وَعَكْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِتَالٍ ضَمِنَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَفِي قَوْلٍ يَضْمَنُ الْبَاغِي .

( وَمَا أَتْلَفَهُ بَاغٍ ) مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ( عَلَى عَادِلٍ وَعَكْسُهُ ) أَيْ أَتْلَفَهُ عَادِلٌ عَلَى بَاغٍ ( إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِتَالٍ ) لِضَرُورَتِهِ بِأَنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ أَوْ فِيهِ لَا لِضَرُورَتِهِ ( ضَمِنَ ) قَطْعًا كُلٌّ مِنْهُمَا مُتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْإِتْلَافَاتِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا قَصَدَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ إضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ : بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدُوا التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ كَانَ الْإِتْلَافُ فِي قِتَالٍ لِضَرُورَتِهِ ( فَلَا ) ضَمَانَ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ؛ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَوَقْعَةِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ لَمْ يُطَالِبْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِضَمَانِ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، وَتَرْغِيبًا فِي الطَّاعَةِ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنْهَا وَيَتَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ التَّبِعَةُ عَنْ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ ، وَلِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالْقِتَالِ فَلَا يُضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ وَهُمْ إنَّمَا أَتْلَفُوا بِتَأْوِيلٍ ( وَفِي قَوْلٍ يَضْمَنُ الْبَاغِي ) مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْعَادِلِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِرْقَتَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُحِقَّةٌ وَمُبْطِلَةٌ فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِشُبْهَةِ تَأْوِيلِهَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا يُؤْخَذُ .
مِمَّا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ فِيمَا أَتْلَفَ فِي الْقِتَالِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ ، فَإِنْ أَتْلَفَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ضَمِنَ قَطْعًا ، قَالَهُ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ ثُمَّ مَا ذَكَرَ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَا يَتَّصِفُ إتْلَافُهُمْ بِإِبَاحَةٍ وَلَا بِتَحْرِيمٍ ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَا يُتْلِفُهُ الْكُفَّارُ حَالَ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ .

فَرْعٌ : لَوْ وَطِئَ بَاغٍ أَمَةَ عَادِلٍ بِلَا شُبْهَةٍ حُدَّ وَرُقَّ الْوَلَدُ وَلَا نَسَبَ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حِينَئِذٍ زِنًا ، وَمَتَى كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ لَزِمَهُ الْمَهْرُ كَغَيْرِهِ ، وَبَعْضُهُمْ اسْتَثْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّف نَفْيَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبُضْعِ بِالْوَطْءِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقِتَالِ ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ إذَا وَطِئَ أَمَةَ غَيْرٍ بِلَا شُبْهَةٍ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ رَقِيقًا ، وَلَا نَسَبَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا مَهْرَ إنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَحْكَامَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ الضَّمَانِ مَحَلُّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّوْكَةِ وَالتَّأْوِيلِ ، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ حَالَانِ أَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ .

وَالْمُتَأَوِّلُ بِلَا شَوْكَةٍ يَضْمَنُ ، وَعَكْسُهُ كَبَاغٍ .
( وَ ) الْبَاغِي ( الْمُتَأَوِّلُ بِلَا شَوْكَةٍ ) لَهُ ( يَضْمَنُ ) النَّفْسَ وَالْمَالَ وَلَوْ حَالَ الْقِتَالِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ، وَلِأَنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْهُ لَمْ تَعْجَزْ كُلُّ شِرْذِمَةٍ تُرِيدُ إتْلَافَ نَفْسٍ وَمَالٍ أَنْ تُبْدِيَ تَأْوِيلًا وَتَفْعَلَ مِنْ الْفَسَادِ مَا تَشَاءُ ، وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ السِّيَاسَاتِ ، وَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( وَعَكْسُهُ ) وَهُوَ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِلَا تَأْوِيلٍ حُكْمُهُ ( كَبَاغٍ ) فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ الضَّمَانِ فِي حَالِ الْقِتَالِ لِضَرُورَتِهِ فَكَذَا هُنَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الْبَاغِينَ لِقَطْعِ الْفِتْنَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ بِالضَّمَانِ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْبُغَاةِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ كَمَا قَيَّدْتُ بِهِ كَلَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ السَّابِقُ أَوَّلًا .
أَمَّا الْحُدُودُ إذَا أَقَامُوهَا ، أَوْ الْحُقُوقُ إذَا قَبَضُوهَا ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِمْ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : وَالتَّحْكِيمُ فِيهِمْ عَلَى الْخِلَافِ فِي غَيْرِهِمْ .

فَرْعٌ : لَوْ ارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا أَوْ نَفْسًا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا هَلْ يَضْمَنُونَ أَوْ لَا كَالْبُغَاةِ ؟ وَجْهَانِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ الْأَوَّلُ لِجِنَايَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ النَّصِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْوَجْهُ ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ قَاضِي الْمُرْتَدِّينَ قَطْعًا ، قَالَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ .

وَلَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا ، فَإِنْ أَصَرُّوا نَصَحَهُمْ ثُمَّ آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ ، فَإِنْ اسْتَمْهَلُوا اجْتَهَدَ وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا ، وَلَا يُقَاتِلُ مُدْبِرَهُمْ وَلَا مُثْخَنَهُمْ وَأَسِيرَهُمْ وَلَا يُطْلَقُ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَامْرَأَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَيَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ إلَّا أَنْ يُطِيعَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَيَرُدُّ سِلَاحَهُمْ وَخَيْلَهُمْ إلَيْهِمْ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُمْ ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي قِتَالٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَلَا يُقَاتَلُونَ بِعَظِيمٍ كَنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ قَاتَلُوا بِهِ أَوْ أَحَاطُوا بِنَا

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ فَقَالَ ( وَلَا يُقَاتِلُ ) الْإِمَامُ ( الْبُغَاةَ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا ) إنْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْمُنَاظَرَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( نَاصِحًا ) لَهُمْ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ ( يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ ) أَيْ يَكْرَهُونَ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إلَى أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضُهُمْ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ الْبَعْثَ وَاجِبٌ وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّرْحَيْنِ أَيْضًا ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ فِي الْمَطْلَبِ ؛ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ( فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً ) هِيَ سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ الطَّاعَةِ ، وَهِيَ إنْ كَانَتْ مَصْدَرًا مِيمِيًّا فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : الْفَتْحُ هُوَ الْقِيَاسُ ، أَوْ اسْمًا لِمَا يُظْلَمُ بِهِ فَالْكَسْرُ فَقَطْ ( أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِهِمْ رَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ كَدَفْعِ الصَّائِلِ دُونَ قَتْلِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الْحُجُرَاتُ ] أَيْ تَرْجِعَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ( فَإِنْ أَصَرُّوا ) بَعْدَ الْإِزَالَةِ أَوْ لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا ( نَصَحَهُمْ ) وَوَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ لِلطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ ( ثُمَّ ) إنْ أَصَرُّوا دَعَاهُمْ إلَى الْمُنَاظَرَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا أَوْ أَجَابُوا وَغُلِبُوا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَأَصَرُّوا ( آذَنَهُمْ ) بِالْمَدِّ : أَيْ أَعْلَمَهُمْ ( بِالْقِتَالِ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ ثُمَّ بِالْقِتَالِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا يُعْلِمُهُمْ

بِالْقِتَالِ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِي عَسْكَرِهِ قُوَّةً وَقُدْرَةً عَلَيْهِمْ ، وَإِلَّا أَخَّرَهُ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ ، وَقِتَالُهُمْ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أُمُورٍ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحَرِيمِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْكُفَّارِ بِهِمْ ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي قَدْ انْعَقَدَتْ بَيْعَتُهُ ، فَلَوْ انْفَرَدُوا عَنْ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَمْنَعُوا حَقًّا وَلَا تَعَدَّوْا إلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ جَازَ قِتَالُهُمْ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَا يَجِبُ لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّاعَةِ ( فَإِنْ اسْتَمْهَلُوا ) أَيْ طَلَبُوا الْإِمْهَالَ مِنْ الْإِمَامِ ( اجْتَهَدَ ) فِيهِ وَفِي عَدَمِهِ ( وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا ) مِنْهُمَا وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ اسْتِمْهَالَهُمْ لِلتَّأَمُّلِ فِي إزَالَةِ الشُّبْهَةِ أَمْهَلَهُمْ لِيَتَّضِحَ لَهُمْ الْحَقُّ ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ يَحْتَالُونَ لِاجْتِمَاعِ عَسَاكِرِهِمْ وَانْتِظَارِ مَدَدِهِمْ لَمْ يُمْهِلْهُمْ ، وَإِنْ سَأَلُوا تَرْكَ الْقِتَالِ أَبَدًا لَمْ يُجِبْهُمْ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِمْهَالِ لَا تَتَقَيَّدُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، بَلْ تَرْجِعُ إلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ، وَفِي التَّهْذِيبِ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ، وَفِي الْمُهَذَّبِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّدْرِيجِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ فَقَالَ : سَبِيلُهُ سَبِيلُ دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى ( وَلَا يُقَاتِلُ مُدَبَّرَهُمْ ) إذَا وَقَعَ قِتَالٌ ، وَلَا مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ الْقِتَالِ ( وَلَا مُثْخَنَهُمْ ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَثْخَنَهُ الْجُرْحُ إذَا أَضْعَفَهُ ( وَ ) لَا ( أَسِيرَهُمْ ) إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرَى رَأْيَنَا فِيهِمْ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَفِيءَ } [ الْحُجُرَاتُ ] وَالْفَيْئَةُ : الرُّجُوعُ عَنْ الْقِتَالِ بِالْهَزِيمَةِ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَنَادَى : لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ شُرِعَ لِلدَّفْعِ عَنْ مَنْعِ الطَّاعَةِ وَقَدْ زَالَ .
أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ الْمُدْبِرُ الْمُتَحَرِّفُ لِلْقِتَالِ ، أَوْ الْمُتَحَيِّزُ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فَيُقَاتَلَانِ ، بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ ، وَمَا إذَا انْهَزَمُوا مُجْتَمِعِينَ تَحْتَ رَايَةِ زَعِيمِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ : أَوْ يَتَبَدَّدُوا .
تَنْبِيهٌ : عَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ فِي الْمُدْبِرِ بِالْقِتَالِ ، وَفِي الْآخَرِينَ بِالْقَتْلِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الْمُثْخَنَ وَالْأَسِيرَ لَا يُقَاتِلَانِ ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ هَؤُلَاءِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِشُبْهَةِ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَلَا يُطْلَقُ ) أَسِيرُهُمْ بَلْ يُحْبَسُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، إذْ بِحَبْسِهِ تَضْعُفُ الْبُغَاةُ ( وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَامْرَأَةً ) وَعَبْدًا ( حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَ ) تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ بِأَنْ ( يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ ) لِيَنْكَشِفَ شَرُّهُمْ وَلَا يُتَوَقَّعُ عَوْدُهُمْ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ اسْتِمْرَارِ حَبْسِهِمْ إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ ، وَمَحَلُّهُ فِي الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُتَأَهِّلِ لِلْقِتَالِ وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي إنْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا الْآخَرَانِ ، وَإِلَّا أُطْلِقُوا بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَإِنْ خِفْنَا عَوْدَهُمْ ( إلَّا أَنْ يُطِيعَ )

الْأَسِيرُ ( بِاخْتِيَارِهِ ) بِمُبَايَعَةِ الْإِمَامِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْبَغْيِ إلَى الطَّاعَةِ فَيُطْلَقُ قَبْلَ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ خَاصٌّ بِالرَّجُلِ الْحُرِّ .
أَمَّا الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ فَلَا بَيْعَةَ لَهُمْ ( وَيَرُدُّ ) وُجُوبًا ( سِلَاحَهُمْ وَخَيْلَهُمْ ) وَغَيْرَهُمَا ( إلَيْهِمْ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُمْ ) أَيْ شَرُّهُمْ بِتَفَرُّقِهِمْ أَوْ رَدِّهِمْ لِلطَّاعَةِ لِزَوَالِ الْمَحْذُورِ حِينَئِذٍ .
تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ رَدِّ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ عَوْنًا لَهُمْ فِي الْقِتَالِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ( وَلَا يُسْتَعْمَلُ ) أَيْ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ( فِي قِتَالٍ ) وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } ( إلَّا لِضَرُورَةٍ ) كَمَا إذَا خِيفَ انْهِزَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ خُيُولِهِمْ فَيَجُوزُ لَهُمْ رُكُوبُهَا وَكَذَا إنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْهُمْ غَيْرَ سِلَاحِهِمْ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ ذَلِكَ وُجُوبُ أُجْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقِتَالِ لِلضَّرُورَةِ كَالْمُضْطَرِّ إذَا أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْأَنْوَارِ خِلَافُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِمَا يُتْلَفُ فِي الْقِتَالِ وَتُفَارِقُ مَسْأَلَةُ الْمُضْطَرِّ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهَا نَشَأَتْ مِنْ الْمُضْطَرِّ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّهَا إنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ( وَلَا يُقَاتَلُونَ بِعَظِيمٍ كَنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ ) وَإِرْسَالِ سَيْلٍ وَأُسُودٍ وَحَيَّاتٍ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُهْلِكَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَالِهِمْ رَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ كَمَا مَرَّ ، وَقَدْ يَرْجِعُونَ فَلَا يَجِدُونَ لِلنَّجَاةِ سَبِيلًا ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا } .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ بِمَا يَعُمُّ لَكَانَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ آلَةَ

الْحَرْبِ قَدْ تَعْظُمُ وَلَكِنْ لَا تَعُمُّ ، وَلَيْسَ الْمَنْعُ إلَّا مِمَّا يَعُمُّ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ( إلَّا لِضَرُورَةٍ ) فَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِالْعَظِيمِ ( كَأَنْ قَاتَلُوا بِهِ أَوْ أَحَاطُوا بِنَا ) وَاضْطُرِرْنَا إلَى الرَّمْيِ بِذَلِكَ لِدَفْعِهِمْ عَنَّا بِأَنْ خِيفَ اسْتِئْصَالُنَا ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِغَيْرِهِ كَانْتِقَالِنَا لِمَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ نُقَاتِلْهُمْ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ تَحَصَّنُوا بِبَلَدٍ أَوْ قَلْعَةٍ وَلَمْ يَتَأَتَّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ لِمَا مَرَّ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ بَلْدَةٍ أَوْ قَلْعَةٍ بِأَيْدِي طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُتَوَقَّعُ الِاحْتِيَالُ فِي فَتْحِهَا أَقْرَبُ إلَى الصَّلَاحِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ حِصَارُهُمْ بِمَنْعِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي أَهْلِ قَلْعَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ عَقْرُ خُيُولِهِمْ إلَّا إذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا ، وَلَا قَطْعُ أَشْجَارِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ ، وَيَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مُصَابَرَةُ اثْنَيْنِ مِنْ الْبُغَاةِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَصْبِرَ لِكَافِرَيْنِ فَلَا يُوَلِّيَ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَعْتَمِدَ قَتْلَ ذِي رَحِمِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحُكْمُ دَارِ الْبَغْيِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا جَرَى فِيهَا مَا يُوجِبُ إقَامَةَ حَدٍّ أَقَامَهُ الْإِمَامُ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا ، وَلَوْ سَبَى الْمُشْرِكُونَ طَائِفَةً مِنْ الْبُغَاةِ وَقَدَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ .

وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِكَافِرٍ ، وَلَا بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ ، وَلَوْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ حَرْبٍ وَآمَنُوهُمْ لَمْ يَنْفُذْ أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا ، وَنَفَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ قِتَالِنَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ، أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَا ، وَكَذَا إنْ قَالُوا ظَنَنَّا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ .

( وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ ) فِي قِتَالٍ ( بِكَافِرٍ ) ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ تَسْلِيطُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ مِنْ مُسْلِمٍ أَنْ يُوَكِّلَ كَافِرًا فِي اسْتِيفَائِهِ ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ جَلَّادًا كَافِرًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَوْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ لَكِنَّهُ فِي التَّتِمَّةِ صَرَّحَ بِجَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّهُ الْمُتَّجَهُ ( وَلَا ) يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ( بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ ) حَالَ كَوْنِهِمْ ( مُدْبِرِينَ ) لِعَدَاوَةٍ أَوْ اعْتِقَادٍ كَالْحَنَفِيِّ إبْقَاءً عَلَيْهِمْ ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَازِ اسْتِخْلَافِ الشَّافِعِيِّ الْحَنَفِيَّ وَنَحْوِهِ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَنْفَرِدُ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَالْمَذْكُورُونَ هُنَا تَحْتَ رَأْيِ الْإِمَامِ فَفِعْلُهُمْ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ حُسْنَ إقْدَامٍ وَجَرَاءَةً .
الثَّانِي أَنْ يُمْكِنَ دَفْعُهُمْ عَنْهُمْ لَوْ اتَّبَعُوهُمْ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ .
زَادَ الْمَاوَرْدِيُّ شَرْطًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا يَقْتُلُوا جَرِيحًا وَأَنْ يَثِقَ بِوَفَائِهِمْ بِذَلِكَ ( وَلَوْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ حَرْبٍ وَآمَنُوهُمْ ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ ، وَقَصْرُهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ لَحْنٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَكِّيٍّ : أَيْ عَقَدُوا لَهُمْ أَمَانًا لِيُعِينُوهُمْ عَلَيْنَا ( لَمْ يَنْفُذْ ) بِالْمُعْجَمَةِ ( أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا ) لِأَنَّ الْأَمَانَ لِتَرْكِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى شَرْطِ قِتَالِهِمْ ، وَحِينَئِذٍ فَلَنَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَقَتْلُهُمْ مُدْبِرِينَ وَتَذْفِيفُ جَرِيحِهِمْ ، نَعَمْ لَوْ قَالُوا : ظَنَنَّا أَنَّهُ

يَجُوزُ لَنَا إعَانَةُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، أَوْ أَنَّهُمْ الْمُحِقُّونَ وَلَنَا إعَانَةُ الْمُحِقِّ ، أَوْ أَنَّهُمْ اسْتَعَانُوا بِنَا عَلَى كُفَّارٍ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ الْآتِي فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَّغْنَاهُمْ الْمَأْمَنَ وَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْبُغَاةِ فَلَا نَسْتَبِيحُهُمْ لِلْأَمَانِ مَعَ عُذْرِهِمْ ( وَنَفَذَ عَلَيْهِمْ ) أَمَانُهُمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ وَأَمِنُوا مِنْهُمْ ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانٌ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ .
أَمَّا لَوْ آمَنُوهُمْ بِدُونِ شَرْطِ قِتَالِنَا فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ ، فَإِنْ اسْتَعَانُوا بِهِمْ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَاتَلُونَا انْتَقَضَ أَمَانُهُمْ حِينَئِذٍ فِي حَقِّنَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَالْقِيَاسُ انْتِقَاضُهُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا .
تَنْبِيهٌ : أَشْعَرَ عَطْفُهُ آمَنُوهُمْ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِأَنَّهَا غَيْرُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي ، وَاحْتَرَزَ بِأَهْلِ حَرْبٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( وَلَوْ أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ ) مُخْتَارِينَ ( عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ قِتَالِنَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ ) بِذَلِكَ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ فَصَارَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ انْتِقَاضُ عَهْدِهِمْ مُطْلَقًا حَتَّى فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ ، وَإِنْ قَالَ فِي الْبَيَانِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي انْتِقَاضِهِ الْخِلَافُ فِي أَمَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَوْ أَتْلَفُوا شَيْئًا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنُوهُ ( أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَا ) يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ لِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ : إنَّهُمْ مُكْرَهُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَنْدَنِيجِيّ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ مُكْرَهِينَ عِنْدَ الْإِمَامِ ، هَذَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ .

وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمْ الْإِكْرَاهَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَمَانَ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَافَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْخِيَانَةَ نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَاحْتَرَزَ بِعَالِمِينَ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ( وَكَذَا إنْ قَالُوا ظَنَنَّا جَوَازَهُ ) أَيْ إنَّهُ يَجُوزُ لَنَا إعَانَةُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ ، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قِتَالِ كُفَّارٍ ، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْبَسِيطِ ، فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِالظَّنِّ الْمَذْكُورِ ( أَوْ ) ظَنَنَّا ( أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ ) فِيمَا فَعَلُوهُ ، وَإِنَّ لَنَا إعَانَةَ الْمُحِقِّ فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ أَيْضًا ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عُذْرِهِمْ ، وَلَا بُدَّ فِي دَعْوَاهُمْ الْجَهْلَ مِنْ إمْكَانِ صِدْقِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلَّا فَلَا تُقْبَلُ ، وَزَادَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ مُحِقُّونَ ، وَإِنَّ لَهُمْ إعَانَةَ الْمُحِقِّ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُمْ قِتَالُ الْمُحِقِّينَ وَلَا الْمُبْطِلِينَ ، وَنَاقَشَ الْوَجِيزُ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَأَسْقَطَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ كَمَا هُنَا ، وَقَدْ قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ، وَفِي قَوْلِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ ، وَلَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَلُّوا بِالْقِتَالِ ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِكَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ فِيهِ الطَّرِيقَانِ ، فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِلَّا فَيَنْتَقِضُ قَطْعًا ، وَلَوْ قَاتَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلَ الْبَغْيِ لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا مَنْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُحَارَبَتُهُ ( وَيُقَاتَلُونَ ) حَيْثُ قُلْنَا بِعَدَمِ انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51