كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

تَهْيِئَتَهُ لِلْأَكْلِ بِخِلَافِ مَا هُنَا ، وَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ لِزَوَالِ الِاسْمِ ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ خَاطَ الثَّوْبَ وَهُوَ مَقْطُوعٌ حِينَ الْوَصِيَّةِ أَوْ غَسَلَهُ أَوْ نَقَلَ الْمُوصَى بِهِ إلَى مَكَان آخَرَ وَلَوْ بَعِيدًا عَنْ مَحِلِّ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا ، إذْ لَا إشْعَارَ لِكُلٍّ مِنْهَا بِالرُّجُوعِ ، وَخَرَجَ بِبِنَاءٍ وَغِرَاسٍ الزَّرْعُ فِي الْعَرْصَةِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا كَلِبْسِ الثَّوْبِ ، نَعَمْ إنْ كَانَ الْمَزْرُوعُ مِمَّا تَبْقَى أُصُولُهُ ، فَالْأَقْرَبُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إلَى كَلَامِهِمْ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ أَنَّهُ كَالْغِرَاسِ ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلدَّوَامِ .

، وَلَوْ عَمَّرَ بُسْتَانًا أَوْ أَوْصَى بِهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا إلَّا إنْ غَيَّرَ اسْمَهُ كَأَنْ جَعَلَهُ خَانًا أَوْ لَمْ يُغَيِّرْهُ لَكِنْ أَحْدَثَ فِيهِ بَابًا مِنْ عِنْدَهُ فَيَكُونُ رُجُوعًا ، وَهَدْمُ الدَّارِ الْمُبْطِلُ لِاسْمِهَا رُجُوعٌ فِي النَّقْضِ مِنْ طُوبٍ وَخَشَبٍ ، وَفِي الْعَرْصَةِ أَيْضًا لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ عَنْ جِهَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَانْهِدَامُهَا وَلَوْ بِهَدْمِ غَيْرِهِ يُبْطِلُهَا فِي النَّقْضِ لِبُطْلَانِ الِاسْمِ لَا فِي الْعَرْصَةِ وَالْآسِ إنْ بَقِيَ لِبَقَائِهَا بِحَالِهِمَا ، هَذَا إنْ بَطَلَ الِاسْمُ وَإِلَّا بَطَلَ فِي نَقْضِ الْمُنْهَدِمِ مِنْهَا فَقَطْ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ النَّصِّ وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ ، وَلَا أَثَرَ لِانْهِدَامِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ وَإِنْ زَالَ اسْمُهَا بِذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ وَبَقَاءِ اسْمِ الدَّارِ يَوْمَئِذٍ .

فُرُوعٌ : لَوْ أَوْصَى بِمَنْفَعَةِ رَقِيقٍ مَثَلًا سَنَةً ثُمَّ أَجَّرَهُ سَنَةً وَمَاتَ عَقِبَ الْإِجَارَةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ السَّنَةُ الْأُولَى ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَطَلَتْ فِي النَّصِّ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ حَبَسَ الرَّقِيقَ الْوَارِثُ السَّنَةَ بَلَا عُذْرٍ غَرِمَ لِلْمُوصَى لَهُ الْأُجْرَةَ ، وَلَا أَثَرَ لِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ .

وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ لِشَخْصٍ سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ صَحَّ ذَلِكَ وَيُعَيِّنُ الْوَارِثُ ذَلِكَ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ : يُحْمَلُ الْإِطْلَاقُ عَلَى سَنَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِمَوْتِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَنْ يَخْدُمُهُ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ وَعَلِمَ الْمُوصِي وَقَصَدَ إعَانَتَهُ .
وَأَمَّا إحَالَةُ الْأَمْرِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَارِثِ فَلَيْسَ بِالْوَاضِحِ قَالَ : لَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْقَاضِي : لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ هَذَا الْبُسْتَانِ سَنَةً وَلَمْ يُعَيِّنْهَا فَتَعْيِينُهَا إلَى الْوَارِثِ ا هـ .
وَقَدْ يَدُلُّ لِلْبَحْثِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ حُمِلَتْ فِيهَا عَلَى السَّنَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ تَقْتَضِي تَمْلِيكَهُ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ الْحَمْلَ عَلَى السَّنَةِ الْأُولَى ، وَهُنَاكَ خَصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْهَا وَهُوَ الْخِدْمَةُ ، فَجُعِلَتْ الْخِيَرَةُ فِي زَمَنِهِ لِلْوَارِثِ .

وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ بِمِائَةٍ أُخْرَى مُعَيَّنَةٍ اسْتَحَقَّهُمَا وَإِنْ أَطْلَقَهُمَا أَوْ إحْدَاهُمَا فَمِائَةٌ ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنَةُ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِائَةٍ ثُمَّ خَمْسِينَ فَخَمْسُونَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَصَدَ تَقْلِيلَ حَقِّهِ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ بِخَمْسِينَ ثُمَّ بِمِائَةٍ فَمِائَةٌ ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنَةُ ، فَلَوْ وَجَدْنَا الْوَصِيَّتَيْنِ وَلَمْ نَعْلَمْ الْمُتَأَخِّرَةَ مِنْهُمَا أُعْطِيَ الْمُتَيَقَّنَ وَهُوَ خَمْسُونَ ؛ لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ الْوَصِيَّةِ بِهَا .

وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ وَلِعَمْرٍو بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ : أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا أُعْطِيَ نِصْفَ مَا بِيَدِهِمَا ، وَلَوْ أَوْصَى بِعَيْنٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِعَمْرٍو لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ التَّشْرِيكِ فَيُشْرَكُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ دُفْعَةً وَاحِدَةً : أَوْصَيْتُ بِهَا لَكُمَا ، لَكِنْ لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ فِي الْأُولَى كَانَ الْكُلُّ لِلْآخِذِ بِخِلَافِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ النِّصْفُ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَهُ الْمُوصِي صَرِيحًا بِخِلَافِهِ فِي الْأُولَى .

وَلَوْ أَوْصَى بِعَيْنٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ بِنِصْفِهَا لِعَمْرٍو وَقَبِلَا اقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِلْأَوَّلِ وَثُلُثُهَا لِلثَّانِي ، فَإِنْ رَدَّ الْأَوَّلُ فَنِصْفُهَا لِلثَّانِي ، أَوْ الثَّانِي فَكُلُّهَا لِلْأَوَّلِ كَذَا قَالَاهُ ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ، وَلِلثَّانِي الرُّبْعُ إذْ النِّصْفُ لِلْأَوَّلِ ، وَقَدْ شَرَكَهُ مَعَ الثَّانِي فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَاعْتَرَضَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ وَالصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ الْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَاهُ عَمَلًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَاخْتَارَهَا ابْنُ الْحَدَّادِ ، وَتَقْرِيرُهَا أَنْ يُقَالَ : مَعَنَا مَالٌ وَنِصْفُ مَالٍ فَنُضِيفُ النِّصْفَ عَلَى الْكُلِّ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَةً تُقَسَّمُ عَلَى النِّسْبَةِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثُلُثَاهُ ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الثُّلُثُ .

وَإِنْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِعِتْقِهِ أَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ تَرْجِيحُهُ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا لَوْ أَوْصَى بِعَيْنٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِعَمْرٍو .

وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت لِزَيْدٍ بِثُلُثِ مَالِي مَثَلًا إلَّا ثُلُثَ مَالِي كَانَ اسْتِثْنَاءً مُسْتَغْرِقًا ، وَهَلْ يَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِمَا أَوْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الرِّفْعَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ فِي الْإِقْرَارِ ، أَنَّ قَوْلَهُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ مَا لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ ا هـ .
فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ : أَوْصَيْتُ لَهُ بِكَذَا مَا أَوْصَيْت لَهُ بِشَيْءٍ وَهَذَا رُجُوعٌ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ كَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ الْأَوَّلِ ، وَصَرَّحَ الْمَارْدِينِيُّ بِتَصْحِيحِ الثَّانِي وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ وَشَرْحِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ .

فَصْلٌ يُسَنُّ الْإِيصَاءُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ .
فَصْلٌ فِي الْوِصَايَةِ كَمَا عَبَّرَ بِهَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ ، وَعَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْهَا إلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِيصَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْوِصَايَةِ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ تَخْصِيصِهِمْ الْوَصِيَّةَ بِكَذَا وَالْوِصَايَةَ بِكَذَا كَمَا قَدَّمْتُهُ أَوَّلَ الْبَابِ ، فَقَالَ ( يُسَنُّ الْإِيصَاءُ بِقَضَاءِ ) الْحُقُوقِ مِنْ ( الدَّيْنِ ) وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ وَغَيْرِهَا ( وَ ) فِي ( تَنْفِيذِ الْوَصَايَا ) إنْ كَانَتْ ( وَ ) فِي ( النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ ) وَنَحْوِهِمْ كَالْمَجَانِينِ وَمَنْ بَلَغَ سَفِيهًا بِالْإِجْمَاعِ وَاتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَنْعَهُ لِانْقِطَاعِ سَلْطَنَةِ الْمُوصِي وَوِلَايَتِهِ بِالْمَوْتِ ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ ، فَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : أَوْصَى إلَى الزُّبَيْرِ سَبْعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَالْمِقْدَادُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَكَانَ يَحْفَظُ أَمْوَالَهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ أَوْصَى فَكَتَبَ : وَصِيَّتِي إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِلَى الزُّبَيْرِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ .
بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : يَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ الْوَصِيَّةُ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَدٌّ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ إلَى ثِقَةٍ كَافٍ وَجِيهٍ إذَا وَجَدَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْوَصِيَّةَ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِهِ خَائِنٌ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ ، إذْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِ وَلَدِهِ .

عَنْ الضَّيَاعِ .
قَالَ : وَيَصِحُّ الْإِيصَاءُ عَلَى الْحَمْلِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْحَمْلُ الْمَوْجُودُ حَالَةَ الْإِيصَاءِ .

وَيَجِبُ الْإِيصَاءُ فِي رَدِّ مَظَالِمَ وَقَضَاءِ حُقُوقٍ عَجَزَ عَنْهَا فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا شُهُودٌ كَمَا مَرَّ مَعَ زِيَادَةٍ أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ أَحَدًا بِهَا فَأَمْرُهَا إلَى الْقَاضِي يَنْصِبُ مَنْ يَقُومُ بِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْجَنَائِزِ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى لِشَخْصٍ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ كَذَا هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا ؟ .

وَشَرْطُ الْوَصِيِّ تَكْلِيفٌ وَحُرِّيَّةٌ وَعَدَالَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُوصَى بِهِ
وَأَرْكَانُ الْوِصَايَةِ أَرْبَعَةٌ : وَصِيٌّ ، وَمُوصٍ ، وَمُوصًى فِيهِ ، وَصِيغَةٌ .
وَقَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ شَرْطِ الْأَوَّلِ فَقَالَ ( وَشَرْطُ الْوَصِيِّ ) أَيْ الْمُوصَى إلَيْهِ ( تَكْلِيفٌ ) أَيْ بُلُوغٌ وَعَقْلٌ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ ، وَالْوَصِيُّ كَمَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى الَّذِي يُوصِي ، وَعَلَى مَنْ يُوصَى إلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا مَرَّ ( وَحُرِّيَّةٌ ) لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ أَبِيهِ فَلَا يَصْلُحُ وَصِيًّا لِغَيْرِهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي فَرَاغًا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ ، وَشَمِلَ ذَلِكَ الْقِنَّ وَالْمُبَعَّضَ وَالْمُكَاتَبَ وَالْمُدَبَّرَ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَمِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفْهَمُ مَنْعُ الْإِيصَاءِ لِمَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ مُدَّةً لَا يُمْكِنُهُ فِيهَا التَّصَرُّفُ بِالْوِصَايَةِ ، وَفِي مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْوَصِيِّ مَتَى تُعْتَبَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا سَيَأْتِي فَتَصِحُّ إلَيْهِمَا ( وَعَدَالَةٌ ) فَلَا تَجُوزُ إلَى فَاسِقٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ وَائْتِمَانٌ وَتَكْفِي الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ ( وَهِدَايَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُوصَى بِهِ ) فَلَا يَصِحُّ إلَى مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ هَرَمٍ أَوْ تَغَفُّلٍ ، إذْ لَا مَصْلَحَةَ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ .

وَإِسْلَامٌ
( وَإِسْلَامٌ ) فَلَا يَصِحُّ الْإِيصَاءُ مِنْ مُسْلِمٍ إلَى ذِمِّيٍّ إذْ لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَلِتُهْمَتِهِ قَالَ - تَعَالَى - : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [ النِّسَاءَ ] وَقَالَ - تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةُ .

لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ وَصِيَّةِ ذِمِّيٍّ إلَى ذِمِّيٍّ .
( لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ وَصِيَّةِ ذِمِّيٍّ إلَى ذِمِّيٍّ ) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَوْلَادِهِ الْكُفَّارِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عَدْلًا فِي دِينِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُمْ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ كَشَهَادَتِهِ .

تَنْبِيهٌ : تَصِحُّ وِصَايَةُ الذِّمِّيِّ إلَى الْمُسْلِمِ اتِّفَاقًا كَمَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَلِي تَزْوِيجَ الذِّمِّيَّاتِ .

وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيِّ الِاخْتِيَارُ وَعَدَمُ الْجَهَالَةِ وَالْعَدَاوَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَاسْتَنْبَطَ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْوَصِيِّ الذِّمِّيِّ مِنْ مِلَّةِ الْمُوصَى عَلَيْهِ حَتَّى لَا تَصِحَّ وَصِيَّةُ النَّصْرَانِيِّ إلَى الْيَهُودِيِّ أَوْ الْمَجُوسِيِّ وَبِالْعَكْسِ لِلْعَدَاوَةِ ، وَرَدَّهُ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا جَازَتْ وَصِيَّةُ ذِمِّيٍّ إلَى مُسْلِمٍ ، وَقَدْ يُرَدُّ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَا الدِّينِيَّةُ .

.
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ إلَى مُسْلِمٍ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ فَالْمُتَّجَهُ جَوَازُ إيصَائِهِ إلَى ذِمِّيٍّ وَاسْتَبْعَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنَّ الْوَصِيَّ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ بِالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالتَّفْوِيضُ إلَى الْمُسْلِمِ أَرْجَحُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنْ الذِّمِّيِّ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ وَلَدٌ بَالِغٌ سَفِيهٌ ذِمِّيٌّ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا ، وَهَذَا بَحْثٌ مَرْدُودٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ ، وَكَالذِّمِّيِّ فِيمَا ذُكِرَ الْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ .

مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ الصَّلَاحِ ، وَهِيَ أَمْوَالُ أَيْتَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ الْكَشْفُ عَلَيْهِمْ ؟ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ مَا لَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ مُسْلِمٍ .
وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الشُّرُوطُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا عِنْدَ الْإِيصَاءِ وَلَا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّسَلُّطِ عَلَى الْقَبُولِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى إلَى مَنْ خَلَا عَنْ الشُّرُوطِ أَوْ بَعْضِهَا كَصَبِيٍّ وَرَقِيقٍ ثُمَّ اسْتَكْمَلَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ صَحَّ .

وَلَا يَضُرُّ الْعَمَى فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَضُرُّ ) فِي الْوَصِيِّ ( الْعَمَى فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّوْكِيلِ فِيمَا لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ .
وَالثَّانِي : يَضُرُّ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ .

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِأَخْرَسَ وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَهَذَا النَّظَرُ هُوَ الظَّاهِرُ .

وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ ، وَأُمُّ الْأَطْفَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا .
( وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ أَوْصَى سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ( وَأُمُّ الْأَطْفَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا ) مِنْ النِّسَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْإِصْطَخْرِيِّ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهَا تَلِي بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَكَذَا أَوْلَى مِنْ الرِّجَالِ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ إذَا كَانَ فِيهَا مَا فِيهِمْ مِنْ الْكِفَايَةِ وَالِاسْتِرْبَاحِ وَنَحْوِهِمَا وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَمْ مِنْ مُحِبٍّ مُشْفِقٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَرْبَاحِ وَالْمَصَالِحِ التَّامَّةِ لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ الْأَطْفَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصَّى إلَى امْرَأَةٍ فَتَكُونُ قَيِّمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الْأَطْفَالِ فَذَاكَ أَوْلَى ، قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ .

وَيَنْعَزِلُ الْوَصِيُّ بِالْفِسْقِ
( وَيَنْعَزِلُ الْوَصِيُّ ) وَقَيِّمُ الْقَاضِي وَالْأَبُ وَالْجَدُّ بَعْدَ الْوِلَايَةِ ( بِالْفِسْقِ ) بِتَعَدٍّ فِي الْمَالِ ، أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ لِزَوَالِ الشَّرْطِ فَلَا يَحْتَاجُ لِعَزْلِ حَاكِمٍ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَنْعَزِلُ بِاخْتِلَالِ كِفَايَتِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، لَكِنْ بِضَمِّ الْقَاضِي إلَيْهِ مُعَيَّنًا ، بَلْ أَفْتَى السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَى الْوَصِيِّ غَيْرَهُ بِمُجَرَّدِ الرِّيبَةِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ خَلَلٍ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ ، وَفَسَادُ الزَّمَانِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ مَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّهُ إنْ قَوِيَتْ الرِّيبَةُ بِقَرَائِنَ ظَاهِرَةٍ ضَمَّ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ ضَعُفَ مَنْصُوبُ الْقَاضِي عَزَلَهُ .

وَكَذَا الْقَاضِي فِي الْأَصَحِّ لَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ .
( وَكَذَا ) يَنْعَزِلُ ( الْقَاضِي ) بِالْفِسْقِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ .
وَالثَّانِي : لَا كَالْإِمَامِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْقَضَاءِ وَفَرْضُهَا فِي عَدَمِ نُفُوذِ حُكْمِهِ لَا فِي انْعِزَالِهِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ( لَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ ) فَلَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِتَعَلُّقِ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ بِوِلَايَتِهِ .
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ الْإِجْمَاعَ ، وَلِحَدِيثِ : { صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } ، وَقِيلَ : يَنْعَزِلُ وَصَوَّبَهُ فِي الْمَطْلَبِ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ تَفَرُّدَ الرَّافِعِيِّ بِتَرْجِيحِ عَدَمِ الِانْعِزَالِ .

تَنْبِيهٌ : بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْفِسْقِ تَعُودُ وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا وِلَايَةُ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا شَرْعِيَّةٌ وَوِلَايَةُ غَيْرِهِمَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ التَّفْوِيضِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ لَمْ تُعَدَّ إلَّا بِوِلَايَةٍ جَدِيدَةٍ ، وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ كَالْفِسْقِ فِي الِانْعِزَالِ بِهِ ، فَلَوْ أَفَاقَ غَيْرُ الْأَصِيلِ وَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ لَمْ تُعَدَّ وِلَايَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِالتَّفْوِيضِ كَالْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ الْأَصِيلِ تَعُودُ وِلَايَتُهُ وَإِنْ انْعَزَلَ ؛ لِأَنَّهُ يَلِي بِلَا تَفْوِيضٍ ، وَبِخِلَافِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ كَذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ ، فَإِنْ أَفَاقَ الْإِمَامُ وَقَدْ وُلِّيَ آخَرُ بَدَلَهُ نَفَذَتْ تَوْلِيَتُهُ إنْ لَمْ يُخَفْ فِتْنَةٌ وَإِلَّا فَلَا فَيُوَلَّى الْأَوَّلُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالرِّدَّةِ وَلَا تَعُودُ إمَامَتُهُ .

وَيَصِحُّ الْإِيصَاءُ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ كُلِّ حُرٍّ مُكَلَّفٍ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُوصِي فَقَالَ ( وَيَصِحُّ الْإِيصَاءُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ كُلِّ حُرٍّ مُكَلَّفٍ ) مُخْتَارٍ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ تَنْفِيذٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ بَيْنَ الْفَاءِ وَالذَّالِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَفِي خَطِّ الْمُصَنِّفِ تَنْفُذُ بِلَا تَحْتَانِيَّةٍ مَضْمُومُ الْفَاءِ وَالذَّالِ بَعْدَ دَائِرَةٍ أَيْ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَصِحُّ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا قَوْلُهُ مِنْ إلَخْ فَصَارَ كَلَامُهُ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْأُخْرَى نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ مَحْذُورَاتٌ : إحْدَاهَا : التَّكْرَارُ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْفَصْلِ أَنَّهَا سُنَّةٌ فَلَا فَائِدَةَ لِلْحُكْمِ ثَانِيًا بِصِحَّتِهَا .
ثَانِيهَا : صَيْرُورَةُ الْكَلَامِ فِي الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُرْتَبِطٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي أَيِّ شَيْءٍ تَنْفُذُ .
ثَالِثُهَا : مُخَالَفَةُ أَصْلِهِ أَيْ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ اسْتِثْنَاءُ السَّكْرَانِ مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى رَأْيِهِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَهُ ، وَيَصِحُّ إيصَاؤُهُ وَكَلَامُهُ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا صَحَّحْنَا وَصِيَّتَهُ بِالْمَالِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ تَعْيِينَ شَخْصٍ لِتَنْفِيذِهَا .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَلَمْ أَرَ فِيهِ إلَّا مَا اقْتَضَاهُ هَذَا الْكَلَامُ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَمَنْعُهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ فَيَلِيهِ الْحَاكِمُ أَوْ وَلِيُّهُ ا هـ .
وَيُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِي قَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ : يَنْبَغِي إضَافَةُ الرُّشْدِ إلَى الشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيُّ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيصَاءُ الْفَاسِقِ فِيمَا تَرَكَهُ لِوَلَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ مَسْلُوبُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ .

وَيُشْتَرَطُ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ لِوَصِيٍّ إيصَاءٌ فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ جَازَ لَهُ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَيُشْتَرَطُ ) فِي الْمُوصِي ( فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ ) وَالْمَجَانِينِ ، وَكَذَا السُّفَهَاءُ الَّذِينَ بَلَغُوا كَذَلِكَ ( مَعَ هَذَا ) السَّابِقِ مِنْ حُرِّيَّةٍ وَتَكْلِيفٍ ( أَنْ يَكُونَ لَهُ ) أَيْ الْمُوصَى ( وِلَايَةٌ ) مُبْتَدَأَةٌ مِنْ الشَّرْعِ ( عَلَيْهِمْ ) أَيْ مِنْ ذِكْرٍ لَا بِتَفْوِيضٍ فَتَثْبُتُ الْوِصَايَةُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا ، وَيَخْرُجُ الْأَخُ ، وَالْعَمُّ ، وَالْوَصِيُّ ، وَالْقَيِّمُ ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ إذَا نَصَّبَهُمَا الْحَاكِمُ فِي مَالِ مَنْ طَرَأَ سَفَهُهُ ؛ لِأَنَّ وَلِيَّهُ الْحَاكِمُ دُونَهُمَا فِي الْأَصَحِّ ، وَتَخْرُجُ الْأُمُّ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ ( وَلَيْسَ لِوَصِيٍّ ) فِي وَصِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ بِأَنْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهَا لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ ( إيصَاءٌ ) إلَى غَيْرِهِ ، إذْ الْوَلِيُّ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ الثَّانِي ، وَقِيَاسًا عَلَى الْوَكِيلِ ( فَإِنْ أُذِنَ لَهُ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِخَطِّهِ ( فِيهِ ) أَيْ الْإِيصَاءِ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ عَنْ الْمُوصِي ، أَوْ مُطْلَقًا ( جَازَ فِي الْأَظْهَرِ ) لَكِنَّهُ فِي الثَّالِثَةِ إنَّمَا يُوصِي عَنْ الْمُوصِي كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِذَا قَالَ لَهُ : أَوْصِ بِتَرِكَتِي فُلَانًا أَوْ مَنْ شِئْتَ فَأَوْصَى بِهَا صَحَّ ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي الْوِصَايَةِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ، وَلَوْ لَمْ يُضِفْ التَّرِكَةَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ : أَوْصِ مَنْ شِئْتَ فَأَوْصَى شَخْصًا لَمْ يَصِحَّ الْإِيصَاءُ ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِبُطْلَانِ إذْنِهِ بِالْمَوْتِ .

وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت إلَيْك إلَى بُلُوغِ ابْنِي أَوْ قُدُومِ زَيْدٍ فَإِذَا بَلَغَ أَوْ قَدِمَ فَهُوَ الْوَصِيُّ جَازَ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ لِوَصِيِّهِ : أَوْصَيْت إلَى مَنْ أَوْصَيْت إلَيْهِ إنْ مِتَّ أَنْتَ أَوْ إذَا مِتَّ أَنْتَ فَوَصِيُّك وَصِيٌّ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى إلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَإِذَا عَيَّنَ لَهُ الْوَصِيَّ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَصِّبَ غَيْرَهُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ( وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت إلَيْك إلَى بُلُوغِ ابْنِي ) فُلَانٍ ( أَوْ ) إلَى ( قُدُوم زَيْدٍ ) مَثَلًا ( فَإِذَا بَلَغَ ) ابْنِي ( أَوْ قَدِمَ ) زَيْدٌ ( فَهُوَ الْوَصِيُّ جَازَ ) هَذَا الْإِيصَاءُ ، وَاغْتُفِرَ فِيهِ التَّأْقِيتُ فِي قَوْلِهِ : إلَى بُلُوغِ ابْنِي أَوْ قُدُومِ زَيْدٍ ، وَالتَّعْلِيقُ فِي قَوْلِهِ : فَإِذَا بَلَغَ أَوْ قَدِمَ فَهُوَ الْوَصِيُّ ، وَلَوْ أَخَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَذَكَرَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ : وَيَجُوزُ فِيهِ التَّوْقِيتُ وَالتَّعْلِيقُ كَانَ أَنْسَبَ فَإِنَّهَا مِثَالٌ لَهُمَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فَلَوْ قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ غَيْرُ أَهْلٍ فَهَلْ تَبْقَى وِلَايَةُ الْوَصِيِّ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ إنْ قَدِمَ أَهْلًا لِذَلِكَ أَوْ لَا ، وَتَكُونُ وِلَايَتُهُ مُغَيَّاةً بِذَلِكَ فَتَنْتَقِلُ إلَى الْحَاكِمِ لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْجَاهِلِ بِالْوَصِيَّةِ إلَى غَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ لَهَا وَغَيْرِهِ ا هـ .
وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهَا مُغَيَّاةٌ بِذَلِكَ .

وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ وَصِيٍّ وَالْجَدُّ حَيٌّ بِصِفَةِ الْوِلَايَةِ .
وَلِلْأَبِ الْوَصِيَّةُ إلَى غَيْرِ الْجَدِّ فِي حَيَاتِهِ ، وَهُوَ بِصِفَةِ الْوِلَايَةِ ، وَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ إلَّا فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ وَنَحْوَهُمْ كَمَا قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ ) لِلْأَبِ عَلَى الصَّحِيحِ ( نَصْبُ وَصِيٍّ ) عَلَى الْأَطْفَالِ وَنَحْوِهِمْ ( وَالْجَدُّ حَيٌّ ) حَاضِرٌ ( بِصِفَةِ الْوِلَايَةِ ) عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ شَرْعًا فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُ الْوِلَايَةِ عَنْهُ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْجَدُّ غَائِبًا فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَوْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِيصَاءَ بِالتَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ إلَى حُضُورِهِ فَقِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي تَعْلِيقِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْبُلُوغِ الْجَوَازُ ، وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَمْنَعُ حَقَّ الْوِلَايَةِ ا هـ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ شَيْخِي هُوَ الظَّاهِرُ .
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ : وَلَوْ أَوْصَى إلَى أَجْنَبِيٍّ مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ بِصِفَةِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ مَاتَ الْجَدُّ أَوْ فَسَقَ أَوْ جُنَّ عِنْدَ الْمَوْتِ صَحَّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَوْ أَوْصَى إلَى غَيْرِ الْجَدِّ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصِفَةِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ تَأَهَّلَ عِنْدَ مَوْتِ وَلَدِهِ فَالظَّاهِرُ انْعِزَالُ الْوَصِيِّ ا هـ .
وَمَا قَالَاهُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوُجُودِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ : لَوْ اسْتَلْحَقَ الْخُنْثَى غَيْرَهُ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِبُنُوَّةِ الظَّهْرِ وَلَا الْبَطْنِ لَحِقَهُ ، فَإِذَا حَدَثَ لِلْوَلَدِ أَوْلَادٌ فَأَوْصَى عَلَيْهِمْ أَجْنَبِيًّا مَعَ وُجُودِ وَالِدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَجْهًا وَاحِدًا ا هـ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ أَبُو أَبٍ .
تَنْبِيهٌ : إذَا لَمْ يُوصِ الْأَبُ أَحَدًا فَالْجَدُّ أَوْلَى مِنْ الْحَاكِمِ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَأَمْرِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا فِي تَنْفِيذِ الْوَصَايَا فَالْحَاكِمُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي .

وَلَا الْإِيصَاءُ بِتَزْوِيجِ طِفْلٍ وَبِنْتٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمُوصَى فِيهِ ، فَقَالَ : ( وَلَا ) يَجُوزُ ( الْإِيصَاءُ بِتَزْوِيجِ طِفْلٍ وَبِنْتٍ ) مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ وَعَدَمِهِ وَعَدَمِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ لَهُ بِحَدِيثِ : { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِدُخُولِ الدَّنِيِّ فِي نَسَبِهِمْ ، وَلِأَنَّ الْبَالِغِينَ لَا وِصَايَةَ فِي حَقِّهِمْ ، وَالصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ لَا يُزَوِّجُهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ .
نَعَمْ إنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَاسْتَمَرَّ نَظَرُ الْوَصِيِّ لِسَفَهٍ اُعْتُبِرَ إذْنُهُ فِي نِكَاحِهِ كَمَا سَيَأْتِي .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ صِحَّةُ الْإِيصَاءِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي مَعْصِيَةٍ كَبِنَاءِ كَنِيسَةِ التَّعَبُّدِ لِعَدَمِ الْإِبَاحَةِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفًا مَالِيًّا مُبَاحًا .

وَلَفْظُهُ أَوْصَيْتُ إلَيْك أَوْ فَوَّضْتُ وَنَحْوهُمَا ، وَيَجُوزُ فِيهِ التَّوْقِيتُ وَالتَّعْلِيقُ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الصِّيغَةُ ، فَقَالَ ( وَلَفْظُهُ ) أَيْ الْإِيجَابُ فِي الْإِيصَاءِ مِنْ نَاطِقٍ ( أَوْصَيْتُ إلَيْك أَوْ فَوَّضْتُ ) إلَيْك ( وَنَحْوُهُمَا ) كَأَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي أَمْرِ أَوْلَادِي بَعْدَ مَوْتِي أَوْ جَعَلْتُكَ وَصِيًّا ، وَهَلْ تَنْعَقِدُ الْوِصَايَةُ بِلَفْظِ الْوِلَايَةِ ، كَوَلَّيْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي كَمَا تَنْعَقِدُ بِأَوْصَيْتُ إلَيْك ؟ وَجْهَانِ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ بَلَا تَرْجِيحٍ ، رَجَّحَ الْأَذْرَعِيُّ مِنْهُمَا الِانْعِقَادَ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ كِنَايَةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي بَابِهِ وَلَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ .
أَمَّا الْأَخْرَسُ فَتَكْفِي إشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ وَكِتَابَتُهُ ، وَالنَّاطِقُ إذَا اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَأَشَارَ بِالْوَصِيَّةِ بِرَأْسِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ : نَعَمْ لِقِرَاءَةِ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ كَالْأَخْرَسِ ( وَيَجُوزُ فِيهِ ) أَيْ الْإِيصَاءِ ( التَّوْقِيتُ ) كَأَوْصَيْتُ إلَيْك سَنَةً أَوْ إلَى بُلُوغِ ابْنِي كَمَا مَرَّ ( وَالتَّعْلِيقُ ) كَإِذَا مِتُّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إلَيْك ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ تَحْتَمِلُ الْجَهَالَاتِ وَالْأَخْطَارَ فَكَذَا التَّوْقِيتُ وَالتَّعْلِيقُ ، وَلِأَنَّ الْإِيصَاءَ كَالْإِمَارَةِ .
وَقَدْ { أَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا عَلَى سَرِيَّةٍ ، وَقَالَ : إنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ وَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَا يُوصِي فِيهِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَوْصَيْت إلَيْك لَغَا .
( وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَا يُوصِي فِيهِ ) كَقَوْلِهِ : فُلَانٌ وَصِيٌّ فِي قَضَاءِ دَيْنِي وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِي وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ أَطْفَالِي ، وَمَتَى خَصَّصَ وِصَايَتَهُ بِحِفْظٍ وَنَحْوِهِ أَوْ عَمَّمَ اُتُّبِعَ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : أَوْصَيْت إلَيْك أَوْ أَقَمْتُك مَقَامِي فِي أَمْرِ أَطْفَالِي وَلَمْ يَذْكُرْ التَّصَرُّفَ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ وَحِفْظُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعُرْفِ ( فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَوْصَيْت إلَيْك لَغَا ) هَذَا الْإِيصَاءُ كَمَا قَالَ : وَكَّلْتُكَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا وَكَّلَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا عُرْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ .

وَالْقَبُولُ
( وَ ) يُشْتَرَطُ فِي الْإِيصَاءِ ( الْقَبُولُ ) لِأَنَّهُ عَقْدُ تَصَرُّفٍ فَأَشْبَهَ الْوَكَالَةَ وَالْقَبُولُ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى الْأَصَحِّ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَنْفِيذُ الْوَصَايَا وَكَذَا إذَا عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ لَفْظًا لَكِنَّ مُقْتَضَى مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ التَّصَرُّفُ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْوَكَالَةِ ، وَتَبْطُلُ بِالرَّدِّ كَأَنْ يَقُولَ : لَا أَقْبَلُ .
وَيُسَنُّ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ الْقَبُولُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ .
وَنَقَلَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا أَحْمَقُ أَوْ لِصٌّ ، فَإِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الْقَبُولُ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا ، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، لَا تَتَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَلَا تَلِيَنَّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ } .

وَلَا يَصِحُّ فِي حَيَاتِهِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَا يَصِحُّ ) قَبُولُ الْإِيصَاءِ وَلَا رَدُّهُ ( فِي حَيَاتِهِ ) أَيْ الْمُوصِي ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ التَّصَرُّفِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ بِالْمَالِ ، فَلَوْ قَبِلَ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَغَا أَوْ رَدَّ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَحَّ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ الْقَبُولُ ، وَالرَّدُّ كَالْوَكَالَةِ .

وَلَوْ وَصَّى اثْنَيْنِ لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا إلَّا إنْ صَرَّحَ بِهِ .

( وَلَوْ وَصَّى اثْنَيْنِ ) وَلَمْ يَجْعَلْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ بَلْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا فِيهِ أَوْ أَطْلَقَ كَأَنْ قَالَ : أَوْصَيْتُ إلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو أَوْ إلَيْكُمَا ( لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا ) بِالتَّصَرُّفِ عَمَلًا بِالشَّرْطِ فِي الْأَوَّلِ ، وَاحْتِيَاطًا فِي الثَّانِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ ( إلَّا إنْ صَرَّحَ بِهِ ) أَيْ الِانْفِرَادِ كَأَنْ يَقُولَ : أَوْصَيْتُ إلَى كُلٍّ مِنْكُمَا ، أَوْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا ، وَصِيٌّ أَوْ أَنْتُمَا وَصِيَّايَ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي الْأَخِيرَةِ نَظَرٌ ، وَرُدَّ بِأَنَّ التَّثْنِيَةَ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْمُفْرَدِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : كُلٌّ مِنْكُمَا وَصِيٌّ ، فَإِذَا ضَعُفَ أَحَدُهُمَا عَنْ التَّصَرُّفِ انْفَرَدَ الْآخَرُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ ، وَلِلْإِمَامِ نَصْبُ مَنْ يُعِينُ الْآخَرَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ تَلَفُّظُهُمَا بِالْعَقْدِ مَعًا ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ رَأْيِهِمَا وَإِنْ بَاشَرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا بِأَمْرِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ وُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالِانْفِرَادِ فِي أَمْرِ الْأَطْفَالِ وَأَمْوَالِهِمْ وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ وَقَضَاءِ دَيْنٍ لَيْسَ فِي التَّرِكَةِ جِنْسُهُ .
أَمَّا رَدُّ الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالْأَعْيَانِ الْمُوصَى بِهَا وَقَضَاءِ دَيْنٍ فِي التَّرِكَةِ جِنْسُهُ فَلِأَحَدِهِمَا الِاسْتِقْلَالُ بِهِ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِأَخْذِ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ اسْتِقْلَالُ أَحَدِهِمَا بِهِ .
وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْمَدْفُوعَ يَقَعُ مَوْقِعَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ تَوَقَّفَ الشَّيْخَانِ فِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ ، وَيَرِدُ عَلَى إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي حِفْظِ الْمَالِ الْمُنْقَسِمِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ النِّصْفِ الْمَحْفُوظِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ ،

وَإِذَا تَعَيَّنَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ وَاسْتَقَلَّ أَحَدُهُمَا بِهِ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ وَضَمِنَ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْأَوْلَادِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَعَلَى الْحَاكِمِ نَصْبُ آخَرَ إنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ أَوْ غَابَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْوِصَايَةَ لِيَتَصَرَّفَ مَعَ الْمَوْجُودِ ، وَلَيْسَ لَهُ جَعْلُ الْآخَرِ مُسْتَقِلًّا فِي التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِي لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ ، وَلَوْ مَاتَا مَثَلًا جَمِيعًا لَزِمَ الْحَاكِمَ نَصْبُ اثْنَيْنِ مَكَانَهُمَا ، وَلَوْ جَعَلَ الْمُوصِي عَلَى الْوَصِيَّيْنِ مُشْرِفًا لَمْ يَتَصَرَّفَا إلَّا بِمُرَاجَعَتِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَحِلُّهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ ، لَا كَشِرَاءِ الْخُبْزِ وَالْبَقْلِ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَلَيْسَ لِلْمُشْرِفِ التَّصَرُّفُ ، ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ .

وَلِلْمُوصِي وَالْوَصِيِّ الْعَزْلُ مَتَى شَاءَ .
( وَ ) عَقْدُ الْإِيصَاءِ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، وَحِينَئِذٍ ( لِلْمُوصِي وَالْوَصِيِّ الْعَزْلُ مَتَى شَاءَ ) كَالْوَكَالَةِ ، هَذَا إنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَالِ بِاسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ مِنْ قَاضٍ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْفُذُ عَزْلُهُ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَقْبَلْ هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ ؟ فِيهِ نَظَرٌ يَحْتَمِلُ اللُّزُومُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِ الظَّالِمِ بِذَلِكَ ، وَيَحْتَمِلُ خِلَافُهُ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - الْأَوَّلُ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا فِي الدَّفْعِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُوصِي أَنَّ عَزْلَهُ لِوَصِيِّهِ مُضَيِّعٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ أَوْ لِأَمْوَالِ أَوْلَادِهِ بِاسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ أَوْ لِخُلُوِّ النَّاحِيَةِ عَنْ قَاضٍ أَمِينٍ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ .
تَنْبِيهٌ : تَسَمَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي إطْلَاقِ الْعَزْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي فَإِنَّ الْعَزْلَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ ، وَلَا وِلَايَةَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَالْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِالرُّجُوعِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .

وَإِذَا بَلَغَ الطِّفْلُ وَنَازَعَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ صَدَقَ الْوَصِيُّ ، أَوْ فِي دَفْعٍ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ صُدِّقَ الْوَلَدُ .

( وَإِذَا بَلَغَ الطِّفْلُ ) رَشِيدًا وَكَمَلَ غَيْرُهُ ( وَنَازَعَهُ ) أَيْ الْوَصِيُّ أَوْ نَحْوُهُ كَالْأَبِ ( فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ) أَوْ عَلَى مَمُونِهِ ( صَدَقَ الْوَصِيُّ ) وَنَحْوُهُ بِيَمِينِهِ فِي اللَّائِقِ بِالْحَالِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَقَدْ تَشُقُّ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى النَّفَقَةِ اللَّائِقَةِ صُدِّقَ الْوَلَدُ قَطْعًا ( أَوْ ) نَازَعَهُ ( فِي دَفْعِ ) الْمَالِ ( إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ) وَالرُّشْدِ لِلطِّفْلِ وَالْكَمَالِ لِغَيْرِهِ ، أَوْ فِي تَارِيخِ مَوْتِ الْأَبِ ( صُدِّقَ الْوَلَدُ ) بِيَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى : { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وَلِأَنَّهُ لَا يَعْسُرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي الْوَكَالَةِ فَهِيَ مُكَرَّرَةٌ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تِلْكَ فِي الْقَيِّمِ الْمَنْصُوبِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ عِبَارَتَهُ هُنَاكَ : وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ إلَخْ ، وَهَذِهِ فِي الْوَصِيِّ لَا فِي قَيِّمِ الْيَتِيمِ ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ الْوَصِيَّ بِالذِّكْرِ يُوهِمُ أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَيْسَا كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هُمَا كَالْوَصِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ .
خَاتِمَةٌ : لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ كَالْوَكِيلِ ، قِيلَ : يَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْأَذْرَعِيِّ ، وَلَا يُخَالِطُ الطِّفْلَ بِالْمَالِ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ كَالدَّقِيقِ وَاللَّحْمِ لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْإِرْفَاقِ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } الْآيَةَ ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِقِسْمَةِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ إنْ كَانَتْ بَيْعًا فَلَيْسَ لَهُ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ أَوْ إقْرَارًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ بَاعَ لَهُ شَيْئًا حَالًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُؤَجَّلِ ، وَلَوْ فَسَقَ الْوَلِيُّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ

الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت إلَى اللَّهِ وَإِلَى زَيْدٍ حُمِلَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى التَّبَرُّكِ ، وَإِنْ خَافَ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَالِ مِنْ اسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ فَلَهُ تَخْلِيصُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمِنْ هَذَا مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا لِقَاضِي سُوءٍ لَانْتَزَعَ مِنْهُ الْمَالَ وَسَلَّمَهُ لِبَعْضِ خَوَنَتِهِ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى بِهِ الظَّالِمُ ، وَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُهُ إذَا نَازَعَهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُشْدِهِ فِي بَذْلِ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ الْقَرَائِنُ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : يَجُوزُ تَعْيِيبُ مَالِ الْيَتِيمِ أَوْ السَّفِيهِ أَوْ الْمَجْنُونِ لِحِفْظِهِ إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي أَمْرِ الطِّفْلِ أَجْنَبِيًّا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الطِّفْلِ قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَكْفِيهِ أَخَذَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا أَوْ أُمًّا بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ لَهَا وَكَانَ فَقِيرًا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الطِّفْلِ ، وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ حَاكِمٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ .

كِتَابُ الْوَدِيعَةِ

كِتَابُ الْوَدِيعَةِ هِيَ فَعِيلَةٌ ، مِنْ وَدَعَ إذَا تَرَكَ ، وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي النَّسَائِيّ : { دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ } وَجَمْعُهَا وَدَائِعُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا أَنْتَ لَا تَبْرَحُ تُؤَدِّي أَمَانَةً وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَثْقَلَتْكَ الْوَدَائِعُ وَهِيَ لُغَةً : الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبٍ لِلْحِفْظِ .
وَشَرْعًا : تُقَالُ عَلَى الْإِيدَاعِ ، وَعَلَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةُ ، مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُ إذَا سَكَنَ ؛ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ ، وَقِيلَ : مِنْ قَوْلِهِمْ : فُلَانٌ فِي دَعَةٍ : أَيْ رَاحَةٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي رَاحَةِ الْمُودَعِ وَمُرَاعَاتِهِ وَحِفْظِهِ .
قَالَ الشَّاعِرُ : اسْتَوْدَعَ الْعِلْمَ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا عَقْدٌ ، فَحَقِيقَتُهَا شَرْعًا : تَوْكِيلٌ فِي حِفْظِ مَمْلُوكٍ أَوْ مُحْتَرَمٍ مُخْتَصٍّ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ إيدَاعِ الْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ ، وَجِلْدِ مَيْتَةٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ، وَزِبْلٍ ، وَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ وَخَرَجَ بِمُخْتَصٍّ : مَا لَا اخْتِصَاصَ فِيهِ كَالْكَلْبِ الَّذِي لَا يُقْتَنَى ، وَبِتَوْكِيلِ الْعَيْنِ فِي يَدِ مُلْتَقِطٍ ، وَثَوْبٍ طَيَّرَتْهُ رِيحٌ وَنَحْوِهِ ، لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ مُغَايِرٌ لِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } ، فَهِيَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي رَدِّ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ آيَةٌ سِوَاهَا ، وقَوْله تَعَالَى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } ، وَخَبَرُ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ ،

وَقَالَ : عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ لِلنَّاسِ : " لَا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَنْطَنَتُهُ ، وَلَكِنْ مَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاس ، فَهُوَ الرَّجُلُ " وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً بَلْ ضَرُورَةً إلَيْهَا .

مَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِهَا حَرُمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا ، وَمَنْ قَدَرَ وَلَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ كُرِهَ ، فَإِنْ وَثِقَ اُسْتُحِبَّ .

وَلَكِنْ ( مَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِهَا حَرُمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا ) لِأَنَّهُ يُعَرِّضُهَا لِلتَّلَفِ ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَمَحِلُّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَالِكُ بِحَالِهِ وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيمَ .
وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : فِي ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا ، أَمَّا عَلَى الْمَالِكِ فَلِإِضَاعَتِهِ مَالَهُ ، وَأَمَّا عَلَى الْمُودِعِ فَلِإِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَأْخُذُ مَالَهُ لِيُنْفِقَهُ أَوْ يُعْطِيَهُ لِغَيْرِهِ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْآخِذِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ .
وَالْإِيدَاعُ صَحِيحٌ مَعَ الْحُرْمَةِ ، وَأَثَرُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورٌ عَلَى الْآثِمِ ، لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُودِعُ وَكِيلًا أَوْ وَلِيَّ يَتِيمٍ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْإِيدَاعُ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ قَطْعًا ( وَمَنْ قَدَرَ ) عَلَى حِفْظِهَا وَهُوَ فِي الْحَالِ أَمِينٌ ( وَ ) لَكِنْ ( لَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ ) بَلْ خَافَ الْخِيَانَةَ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( كُرِهَ ) لَهُ قَبُولُهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خَشْيَةَ الْخِيَانَةِ فِيهَا .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَالِكُ الْحَالَ ، وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهَةَ وَفِيهِ مَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : جَزْمُهُ بِالْكَرَاهَةِ لَا يُطَابِقُ كَلَامَ الْمُحَرَّرِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مِنْ حِكَايَةِ وَجْهَيْنِ بِالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ بَلَا تَرْجِيحٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَبِالتَّحْرِيمِ أَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ .
قَالَ : وَلَكِنَّ مَحِلَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا أَوْدَعَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ مَالَ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ قَبُولُهَا مِنْهُ جَزْمًا ( فَإِنْ ) قَدَرَ عَلَى حِفْظِهَا ، وَ ( وَثِقَ ) بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فِيهَا ( اُسْتُحِبَّ ) لَهُ قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ كَأَدَاءِ

الشَّهَادَةِ لَكِنْ بِالْأُجْرَةِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِ الْقَبُولِ كَمَا بَيَّنَهُ السَّرَخْسِيُّ دُونَ إتْلَافِ مَنْفَعَتِهِ وَمَنْفَعَةِ حِرْزِهِ فِي الْحِفْظِ بَلَا عِوَضٍ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْحِفْظِ كَمَا يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْحِرْزِ ، وَمَنَعَهُ الْفَارِقِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ ، وَقَدْ تُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا فِي سَقْيِ اللِّبَأِ .

وَشَرْطُهُمَا شَرْطُ مُوَكِّلٍ وَوَكِيلٍ .
وَأَرْكَانُ الْوَدِيعَةِ بِمَعْنَى الْإِيدَاعِ أَرْبَعَةٌ : وَدِيعَةٌ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ ، وَمُودِعٌ ، وَوَدِيعٌ ، وَصِيغَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْطِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ ، ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهُمَا الْعَاقِدَانِ .
فَقَالَ : ( وَشَرْطُهُمَا شَرْطُ مُوَكَّلٍ وَوَكِيلٍ ) لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فِي الْحِفْظِ فَمَنْ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ صَحَّ إيدَاعُهُ ، وَمَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ صَحَّ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إلَيْهِ فَخَرَجَ اسْتِيدَاعُ مُحْرِمٍ صَيْدًا أَوْ كَافِرٍ مُصْحَفًا وَنَحْوُهُ .

وَيُشْتَرَطُ صِيغَةُ الْمُودِعِ كَاسْتَوْدَعْتُكَ هَذَا أَوْ اسْتَحْفَظْتُكَ أَوْ أَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الصِّيغَةُ فَقَالَ ( وَيُشْتَرَطُ صِيغَةُ الْمُودِعِ ) النَّاطِقِ بِاللَّفْظِ ، وَهِيَ إمَّا صَرِيحٌ ( كَاسْتَوْدَعْتُكَ هَذَا ) أَوْ أَوْدَعْتُكَ أَوْ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَك ( أَوْ اسْتَحْفَظْتُكَ أَوْ أَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ ) أَوْ احْفَظْهُ .
وَإِمَّا كِنَايَةٌ وَتَنْعَقِدُ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ كَخُذْهُ أَوْ مَعَ الْقَرِينَةِ كَخُذْهُ أَمَانَةً ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَتَكْفِي إشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ ، وَلَوْ عَلَّقَهَا كَأَنْ قَالَ : إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَوْدَعْتُك هَذَا لَمْ يَصِحَّ كَالْوَكَالَةِ كَمَا بَحَثَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَقَطَعَ الرُّويَانِيُّ بِالصِّحَّةِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ الْحِفْظُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِي الْوَكَالَةِ حِينَئِذٍ ، فَفَائِدَةُ الْبُطْلَانِ سُقُوطُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ ، وَالرُّجُوعُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ .

تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ شَخْصٌ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَسْتَحْفِظْ الْحَمَّامِيَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحِفْظُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَلَوْ ضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنْ نَامَ أَوْ قَامَ مِنْ مَكَانَهُ ، وَلَا نَائِبَ لَهُ ، فَإِنْ اسْتَحْفَظَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ لَزِمَهُ حِفْظُهَا .
وَعَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا مُطْلَقًا لِلْعَادَةِ .

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لَفْظًا وَيَكْفِي الْقَبْضُ

( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ) فِي الْوَدِيعِ ( الْقَبُولُ ) لِلْوَدِيعَةِ ( لَفْظًا وَيَكْفِي الْقَبْضُ ) لَهَا كَمَا فِي الْوَكَالَةِ بَلْ أَوْلَى عَقَارًا كَانَتْ أَوْ مَنْقُولًا ، فَإِذَا قَبَضَهَا تَمَّتْ الْوَدِيعَةُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ النَّقْلِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذَا وَدِيعَتِي عِنْدَك أَوْ احْفَظْهُ ، فَقَالَ : قَبِلْتُ أَوْ ضَعْهُ مَوْضِعَهُ كَانَ إيدَاعًا كَمَا لَوْ قَبَضَهُ بِيَدِهِ .
وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ مَا يُوَافِقُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي لَا حَتَّى يَقْبِضَهُ ، وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لَفْظًا ، وَالثَّالِثُ : يُفَرَّقُ بَيْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : وَلَا تَفْتَقِرُ الْوَدِيعَةُ إلَى عِلْمِ الْوَدِيعِ بِمَا فِيهَا بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْمَالِكُ لَهُ بَلْ وَضَعَ مَالَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَوَاءٌ أَقَالَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ : أُرِيدَ أَنْ أُودِعَك أَمْ لَا ، أَوْ أَوْجَبَ لَهُ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَدَّ لَمْ يَصِحَّ ، فَإِنْ ذَهَبَ وَتَرَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ أَثِمَ بِهِ بِأَنْ كَانَ ذَهَابُهُ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ قَبَضَهَا صَارَ ضَامِنًا إلَّا إنْ كَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ فَقَبَضَهَا حَسِبَهُ صَوْنًا لَهَا عَنْ الضَّيَاعِ فَلَا يَضْمَنُ ، وَذَهَابُ الْوَدِيعِ مَعَ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَالِكُ حَاضِرٌ كَرَدِّهَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ ائْتِمَانٍ مِنْ الْمُودِعِ النَّاطِقِ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ : الشَّرْطُ وُجُودُ اللَّفْظِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْفِعْلِ مِنْ الْآخَرِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ ، فَلَوْ قَالَ الْوَدِيعُ : أَوْدِعْنِيهِ مَثَلًا فَدَفَعَهُ لَهُ سَاكِتًا كَفَى

كَالْعَارِيَّةِ ، وَعَلَيْهِ فَالشَّرْطُ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ حَسَنٌ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ : خُذْ هَذَا يَوْمًا وَدِيعَةً وَيَوْمًا غَيْرَ وَدِيعَةٍ فَوَدِيعَةٌ أَبَدًا أَوْ خُذْهُ يَوْمًا وَدِيعَةً وَيَوْمًا عَارِيَّةً فَوَدِيعَةٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَعَارِيَّةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَلَمْ يُعِدَّ بَعْدَ يَوْمِ الْعَارِيَّةِ وَدِيعَةً وَلَا عَارِيَّةً بَلْ تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ، فَلَوْ عَكَسَ الْأُولَى فَقَالَ : خُذْهُ يَوْمًا غَيْرَ وَدِيعَةٍ وَيَوْمًا وَدِيعَةً ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا أَمَانَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَيْسَتْ عَقْدَ وَدِيعَةٍ ، وَإِنْ عَكَسَ الثَّانِيَةَ فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَارِيَّةٌ وَفِي الثَّانِي أَمَانَةٌ .

وَلَوْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ مَالًا لَمْ يَقْبَلْهُ فَإِنْ قَبِلَ ضَمِنَ .
( وَلَوْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ مَالًا لَمْ يَقْبَلْهُ ) لِأَنَّ إيدَاعَهُ كَالْعَدَمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ( فَإِنْ قَبِلَ ) الْمَالَ وَقَبَضَهُ ( ضَمِنَ ) لِعَدَمِ الْإِذْنِ الْمُعْتَبَرِ كَالْغَاصِبِ ، وَلِهَذَا التَّعْلِيلِ لَا يُقَالُ : صَحِيحُ الْوَدِيعَةِ لَا ضَمَانَ فِيهِ فَكَذَا فَاسِدُهَا .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَلَا يُحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَاطِلٌ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى وَلِيِّهِ .
تَنْبِيهٌ : اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَضْمِينِهِ مَا لَوْ خِيفَ هَلَاكُهُ فَأَخَذَهُ حِسْبَةً صَوْنًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَمَا لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَدِيعَةَ نَفْسِهِ بِلَا تَسْلِيطٍ مِنْ الْوَدِيعِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْجِرَاحِ قُبَيْلَ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْمُمَاثَلَةِ .

وَلَوْ أَوْدَعَهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى سَيِّدِهِ .

وَلَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا ) أَوْ مَجْنُونًا ( مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ ) وَلَوْ بِتَفْرِيطٍ ( لَمْ يَضْمَنْ ) كُلٌّ مِنْهُمَا مَا تَلِفَ عِنْدَهُ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عِنْدَ بَالِغٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ ( وَإِنْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ ) مَا أَتْلَفَهُ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِعَدَمِ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي : لَا كَمَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْبَائِعَ أَذِنَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَجَّحُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا أَنَّ الْخِلَافَ قَوْلَانِ .

وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَصَبِيٍّ
( وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ ) فِي إيدَاعِهِ وَالْإِيدَاعِ عِنْدَهُ وَالْأَخْذِ مِنْهُ وَعَدَمِ تَضْمِينِهِ بِالتَّلَفِ عِنْدَهُ وَتَضْمِينِهِ بِإِتْلَافِهِ ( كَصَبِيٍّ ) فِيمَا ذُكِرَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ تَقْيِيدِهِ بِالْحَجْرِ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَقِيقٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَتَلِفَ عِنْدَهُ مَا أَوْدَعَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَا أَطْلَقَاهُ ، وَقَيَّدَهُ الْجُرْجَانِيِّ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ .
قَالَ : وَلَا يُفَارِقُ الرَّقِيقُ الصَّبِيَّ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ فَرَّطَ ، وَأَوْرَدَ عَلَى حَصْرِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُودَعُ عِنْدَهُ أَصْلًا وَيُودَعُ عِنْدَ الرَّقِيقِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَكَلَامُهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ ، وَوَلَدُ الْوَدِيعَةِ وَدِيعَةٌ كَأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عَقْدٌ .
وَقِيلَ : إنَّهَا أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ لَهُ فَائِدَةً ، وَهِيَ أَنَّ الْعَيْنَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهَا بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى الثَّانِي حَالًا .

وَتَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الْمُودِعِ أَوْ الْمُودَعِ وَجُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ ، وَلَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ وَالرَّدُّ كُلَّ وَقْتٍ .
تَنْبِيهٌ : أَحْكَامُ الْوَدِيعَةِ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ الْجَوَازُ ، وَالثَّانِي : الْأَمَانَةُ ، وَالثَّالِثُ : الرَّدُّ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ : ( وَتَرْتَفِعُ ) الْوَدِيعَةُ أَيْ يَنْتَهِي حُكْمُهَا ( بِمَوْتِ الْمُودِعِ ) بِكَسْرِ الدَّالِ ( أَوْ الْمُودَعِ ) بِفَتْحِهَا وَحَجْرِ سَفَهٍ عَلَيْهِ ( وَجُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ ) وَبِعَزْلِ الْوَدِيعِ نَفْسَهُ ، وَبِالْجُحُودِ الْمُضَمَّنِ ، وَبِالْإِقْرَارِ بِهَا لِآخَرَ ، وَبِنَقْلِ الْمَالِكِ الْمِلْكَ فِيهَا بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الرَّدُّ إلَى الْوَلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْجُنُونِ ، وَإِلَى الْوَارِثِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ وَلَوْ وَكَّلَ الْمَالِكُ الْوَدِيعَ فِي إجَارَتِهَا فَأَجَّرَهَا وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ عَادَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ ( وَلَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ وَالرَّدُّ ) أَيْ لِلْمُودِعِ بِكَسْرِ الدَّالِ الِاسْتِرْدَادُ ، وَلِلْمُودَعِ بِفَتْحِهَا الرَّدُّ ( كُلَّ وَقْتٍ ) لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْأَمْرَيْنِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَتَى شَاءَ ، وَلِلْمُودَعِ الرَّدُّ كَذَلِكَ ، فَهِيَ أَوْضَحُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ .
أَمَّا الْمُودِعُ فَلِأَنَّهُ الْمَالِكُ ، وَأَمَّا الْمُودَعُ فَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْحِفْظِ .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ جَوَازُ الرَّدِّ لِلْمُودَعِ بِحَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا الْقَبُولُ ، وَإِلَّا حَرُمَ الرَّدُّ ، فَإِنْ كَانَ بِحَالَةٍ يُنْدَبُ فِيهِ الْقَبُولُ فَالرَّدُّ خِلَافُ الْأَوْلَى إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمَالِكُ .
تَنْبِيهٌ : أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ ثُمَّ ثَنَّاهُ ثَانِيًا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ .

وَأَصْلُهَا الْأَمَانَةُ
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَمَانَةُ فَقَالَ : ( وَأَصْلُهَا الْأَمَانَةُ ) أَيْ مَوْضُوعُهَا عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّ الْأَمَانَةَ لَيْسَتْ فِيهَا تَبَعًا كَالرَّهْنِ بَلْ هِيَ مَقْصُودَةٌ فِيهَا ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِجُعْلٍ أَمْ لَا كَالْوَكَالَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ يَحْفَظُهَا لِلْمَالِكِ فَيَدُهُ كَيَدِهِ ، وَلَوْ ضَمِنَ لَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ ، .

فَلَوْ أَوْدَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى فِيهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ فِيهِمَا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ قَالَ فِي الْكَافِي .

وَلَوْ أَوْدَعَهُ بَهِيمَةً وَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهَا أَوْ ثَوْبًا وَأَذِنَ لَهُ فِي لُبْسِهِ فَهُوَ إيدَاعٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ ، فَلَوْ رَكِبَ أَوْ لَبِسَ صَارَتْ عَارِيَّةً فَاسِدَةً ، فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا فِي صَحِيحِ الْإِيدَاعِ ، أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْعَارِيَّةِ .

وَقَدْ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِعَوَارِضَ : مِنْهَا أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ بِلَا إذْنٍ وَلَا عُذْرٍ ، فَيَضْمَنُ .
( وَقَدْ تَصِيرُ ) الْوَدِيعَةُ ( مَضْمُونَةً ) عَلَى الْوَدِيعِ بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا ، وَلَهُ أَسْبَابٌ عَبَّرَ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ ( بِعَوَارِضَ : مِنْهَا أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ ) وَلَوْ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ قَاضِيًا ( بِلَا إذْنٍ ) مِنْ الْمُودِعِ ( وَلَا عُذْرٍ ) لَهُ ( فَيَضْمَنُ ) لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَدِهِ .
نَعَمْ اسْتَثْنَى السُّبْكِيُّ مَا لَوْ طَالَتْ غَيْبَةُ الْمَالِكِ أَيْ وَتَضْجَرُ مِنْ الْحِفْظِ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ فَأَوْدَعَهَا الْوَدِيعُ الْقَاضِيَ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنَّفِ فَيَضْمَنُ أَيْ صَارَ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي ، فَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْحَالِ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَا مُودَعٌ .
أَمَّا إذَا أَوْدَعَهَا لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَفَرِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ .
نَعَمْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا .

وَقِيلَ إنْ أَوْدَعَ الْقَاضِيَ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِذَا لَمْ يُزِلْ يَدَهُ عَنْهَا جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يَحْمِلُهَا إلَى الْحِرْزِ أَوْ يَضَعُهَا فِي خِزَانَةٍ مُشْتَرَكَةٍ .
( وَقِيلَ إنْ أَوْدَعَ الْقَاضِيَ ) الْأَمِينَ ( لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّ أَمَانَةَ الْقَاضِي أَظْهَرُ مِنْ أَمَانَتِهِ ( وَإِذَا لَمْ يُزِلْ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ ( يَدَهُ ) وَلَا نَظَرَهُ ( عَنْهَا جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يَحْمِلُهَا ) مَعَهُ وَلَوْ أَجْنَبِيًّا ( إلَى الْحِرْزِ أَوْ يَضَعُهَا فِي خِزَانَةٍ ) بِكَسْرِ الْخَاءِ بِخَطِّهِ مَوْضِعٌ يُخْزَنُ فِيهِ ( مُشْتَرَكَةٍ ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْرِ كَالْعَارِيَّةِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَعَانَ فِي سَقْيِ الْبَهِيمَةِ وَعَلْفِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَخْزَنِهِ فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ وَاسْتَحْفَظَ عَلَيْهَا ثِقَةً يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ يُلَاحِظُهَا فِي عَوْدَاتِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِذَا قَطَعَ نَظَرَهُ عَنْهَا وَلَمْ يُلَاحِظْهَا فَكَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ فَحْوَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ ، فَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ أَمْوَالُهُمْ فِي خَزَائِنِهِمْ بِأَيْدِي خُزَّانٍ لَهُمْ ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَسْكَنِهِ وَلَمْ يُلَاحِظْهَا ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ .
أَمَّا إذَا اسْتَحْفَظَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ مَنْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ .

وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا فَلْيَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ فَإِنْ فَقَدَهُمَا فَالْقَاضِي فَإِنْ فَقَدَهُ فَأَمِينٌ .

( وَإِذَا أَرَادَ ) الْوَدِيعُ ( سَفَرًا ) وَلَوْ قَصِيرًا وَقَدْ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ حَضَرًا ( فَلْيَرُدَّ ) هَا ( إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ ) مُطْلَقًا أَوْ وَكِيلِهِ فِي اسْتِرْدَادِ هَذِهِ خَاصَّةً لِيَخْرُجَ مِنْ الْعُهْدَةِ ، فَإِنْ دَفَعَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَطْعًا ، وَفِي الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ تَنْبِيهٌ : لَا يَخْفَى أَنَّ لَهُ دَفْعَهَا إلَى وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ طَرَأَ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ( فَإِنْ فَقَدَهُمَا ) أَيْ الْمَالِكُ وَوَكِيلُهُ لِغَيْبَةٍ أَيْ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي عَدْلِ الرَّاهِنِ ( فَالْقَاضِي ) أَيْ يَرُدُّهَا إلَيْهِ أَيْ إذَا كَانَ أَمِينًا كَمَا نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ تَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ ، وَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ لَا لِحَاجَةٍ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْغَائِبِينَ ، وَكَذَا الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِهَا كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَإِنَّمَا يَحْمِلُهَا إلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ الْحَالَ وَيَأْذَنَ لَهُ ، فَلَوْ حَمَلَهَا ابْتِدَاءً قَبْلَ أَنْ يُعَرِّفَهُ ضَمِنَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِدَفْعِهَا إلَى أَمِينٍ كَفَى كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْبُوسًا بِالْبَلَدِ وَتَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَكَالْغَائِبِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَيُقَاسُ بِالْحَبْسِ التَّوَارِي وَنَحْوُهُ ، وَبِالْمَالِكِ عِنْدَ فَقْدِهِ وَكِيلَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ قَبُولُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ لِلْغَائِبِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْفَظُ لِمَالِكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا لَهُ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّلَفِ ، وَإِذَا تَعَيَّنَ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَلِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا ( فَإِنْ فَقَدَهُ ) أَيْ الْقَاضِيَ ، أَوْ كَانَ

غَيْرَ أَمِينٍ ( فَأَمِينٌ ) يَرُدُّهَا إلَيْهِ يَأْتَمِنُهُ الْمُودِعُ وَغَيْرُهُ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِتَأْخِيرِ السَّفَرِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُلَقَّنِ ، فَإِنَّ الْأَمِينَ قَدْ يُنْكِرُ ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا التَّرْتِيبَ ضَمِنَ لِعُدُولِهِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا رُتْبَةَ فِي الْأَشْخَاصِ بَعْدَ الْأَمِينِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَأَغْرَبَ فِي الْكَافِي فَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَسَلَّمَهَا إلَى فَاسِقٍ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا فِي الْأَصَحِّ .

فَإِنْ دَفَنَهَا بِمَوْضِعٍ وَسَافَرَ ضَمِنَ فَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا أَمِينًا يَسْكُنُ الْمَوْضِعِ لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ .
( فَإِنْ دَفَنَهَا بِمَوْضِعٍ ) وَلَوْ حِرْزًا ( وَسَافَرَ ضَمِنَ ) هَا لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْأَخْذِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ : ( فَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا أَمِينًا ) يَجُوزُ الْإِيدَاعُ عِنْدَهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ( يَسْكُنُ الْمَوْضِعِ ) الَّذِي دُفِنَتْ فِيهِ ، وَهُوَ حِرْزُ مِثْلِهَا ( لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ مَا فِي الْمَوْضِعِ فِي يَدِ سَاكِنِهِ فَكَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فَشَرْطُهُ فَقْدُ الْقَاضِي الْأَمِينِ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الدَّفْعُ إلَى الْقَاضِي ، أَوْ إعْلَامُهُ بِهِ ، أَوْ الدَّفْعُ إلَى الْأَمِينِ ، أَوْ إعْلَامُهُ بِهِ .
وَالثَّانِي : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إعْلَامٌ لَا إيدَاعٌ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ ، فَإِنْ أَعْلَمَ أَمِينًا لَا يَجُوزُ الْإِيدَاعُ عِنْدَهُ ضَمِنَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ، وَهَذَا الْإِعْلَامُ لَيْسَ بِإِشْهَادٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، بَلْ ائْتِمَانٌ حَتَّى تَكْفِيَ فِيهِ امْرَأَةٌ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : أَعْلَمَ بِهَا يُشْعِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْأَمِينِ لَهَا وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَقَوْلُهُ : يَسْكُنُ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ الْحَارِسِ لَهَا كَالسُّكْنَى .
وَخَرَجَ بِقَوْلِي : وَهُوَ حِرْزٌ مِثْلُهَا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا جَزْمًا ، وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا غَيْرَهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَمِنْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ السَّفَرُ كَمَا قَالَ : .

وَلَوْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ إلَّا إذَا وَقَعَ حَرِيقٌ أَوْ غَارَةٌ وَعَجَزَ عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ، وَالْحَرِيقُ وَالْغَارَةُ فِي الْبُقْعَةِ وَإِشْرَافُ الْحِرْزِ عَلَى الْخَرَابِ أَعْذَارٌ كَالسَّفَرِ .

( وَلَوْ سَافَرَ بِهَا ) مِنْ حَضَرٍ ( ضَمِنَ ) وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَتَلِفَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَقْصِيرِهِ بِالسَّفَرِ الَّذِي حِرْزُهُ دُونَ حِرْزِ الْحَضَرِ ، أَمَّا لَوْ أَوْدَعَهَا الْمَالِكُ مُسَافِرًا فَسَافَرَ بِهَا أَوْ مُنْتَجِعًا فَانْتَجَعَ بِهَا فَلَا ضَمَانَ لِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ ، وَلَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا ثَانِيًا لِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ ابْتِدَاءً إلَّا إذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إحْرَازُهَا بِالْبَلَدِ فَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ الضَّمَانِ بِالسَّفَرِ قَوْلَهُ : ( إلَّا إذَا ) أَرَادَ سَفَرًا ، وَ ( وَقَعَ حَرِيقٌ ) أَوْ نَهْبٌ ( أَوْ غَارَةٌ وَعَجَزَ ) عِنْدَ ذَلِكَ ( عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ كَمَا ) أَيْ بِالتَّرْتِيبِ الَّذِي ( سَبَقَ ) فَلَا يَضْمَنُ لِقِيَامِ الْعُذْرِ ، بَلْ يَلْزَمُهُ السَّفَرُ بِهَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرْ بِهَا كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا .
قَالَ الشَّيْخَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ احْتِمَالُ الْهَلَاكِ فِي الْحَضَرِ أَقْرَبَ مِنْهُ فِي السَّفَرِ فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا ، وَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الدَّارِمِيِّ مَا يُؤَيِّدُهُ وَهُوَ حَسَنٌ .
تَنْبِيهٌ : مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ : الْعُذْرُ الْمَذْكُورُ ، وَالْعَجْزُ عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْعَجْزُ كَافٍ ، فَلَوْ سَافَرَ بِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ حَرِيقٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ مَصَالِحِهِ وَتَنْفِرَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ خَوْفٌ أَقَامَ بِهَا ، فَإِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَطَرَحَهَا بِمَضْيَعَةٍ لِيَحْفَظَهَا فَضَاعَتْ ضَمِنَ ، وَكَذَا لَوْ دَفَنَهَا خَوْفًا مِنْهُمْ عِنْدَ إقْبَالِهِمْ ، ثُمَّ أَضَلَّ مَوْضِعَهَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ فَتَصِيرَ مَضْمُونَةً عَلَى آخِذِهَا ( وَالْحَرِيقُ وَالْغَارَةُ فِي

الْبُقْعَةِ وَإِشْرَافُ الْحِرْزِ عَلَى الْخَرَابِ ) وَلَمْ يَجِدْ حِرْزًا هُنَاكَ يَنْقِلُهَا إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْذَارِ ( أَعْذَارٌ كَالسَّفَرِ ) فِي جَوَازِ الْإِيدَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ : الْغَارَةُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَالْأَفْصَحُ الْإِغَارَةُ .

وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمِ أَوْ إلَى أَمِينٍ أَوْ يُوصِي بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ ، إلَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ مَاتَ فَجْأَةً .

وَمِنْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ تَرْكُ الْإِيصَاءِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ : ( وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ ) الْمُطْلَقِ أَوْ فِي قَبْضِهَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ حَالَةٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا سَبَقَ كَالْمَرَضِ الْمَخُوفِ فِيمَا هَاهُنَا ا هـ .
وَفِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا : وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هُنَا الْحَبْسُ لِيُقْتَلَ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْحَبْسَ لِلْقَتْلِ لَيْسَ بِمَخُوفٍ ، وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ هُنَاكَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَلْيُرَاجَعْ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهَا إلَى أَحَدِهِمَا ( فَالْحَاكِمِ ) الْأَمِينِ يَرُدُّهَا إلَيْهِ إنْ وَجَدَهُ أَوْ يُوصِي بِهَا إلَيْهِ ( أَوْ ) يَرُدُّهَا إنْ لَمْ يَجِدْ الْحَاكِمَ إلَى ( أَمِينٍ أَوْ يُوصِي بِهَا ) إلَيْهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ سَفَرًا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ بَيْنَ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ بَيْنَ الدَّفْعِ لِأَمِينٍ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَطْلَقَ اسْتِغْنَاءً بِمَا قَدَّمَهُ فِي أَنَّهُ لَا يُودِعُهَا عِنْدَ أَمِينٍ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْقَاضِي ، وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ الْإِعْلَامُ بِهَا وَوَصْفُهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا أَوْ يُشِيرُ لِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيَأْمُرَ بِالرَّدِّ إنْ مَاتَ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْإِشْهَادِ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَسْقَطَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى عِنْدِي وَدِيعَةٌ فَكَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ ، فَإِنْ ذَكَرَ الْجِنْسَ ، فَقَالَ : عِنْدِي ثَوْبٌ لِفُلَانٍ ضَمِنَ إنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ أَثْوَابٌ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَيَانِ وَإِنْ وُجِدَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ضَمِنَ أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ الثَّوْبَ الْمَوْجُودَ ، وَقِيلَ : يَتَعَيَّنُ الثَّوْبُ الْمَوْجُودُ ( فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ )

شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي مَحِلِّهِ ( ضَمِنَ ) لِتَقْصِيرِهِ ، فَإِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ يَدَهُ وَيَدْعُهَا لِنَفْسِهِ ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى إلَى فَاسِقٍ أَوْ أَوْدَعَهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الضَّمَانِ بِغَيْرِ إيصَاءٍ وَإِيدَاعٍ إذَا تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَمَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَالسَّفَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إلَّا بِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : إنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْمَرَضِ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ صِحَّتِهِ ضَمِنَهَا كَسَائِرِ أَسْبَابِ التَّقْصِيرَاتِ ، وَمَحِلُّهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْقَاضِي .
أَمَّا الْقَاضِي إذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْيَتِيمِ فِي تَرِكَتِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَنَاءِ وَلِعُمُومِ وِلَايَتِهِ قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ .
قَالَ : وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا فَرَّطَ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ إيصَائِهِ لَيْسَ تَفْرِيطًا وَإِنْ مَاتَ عَنْ مَرَضٍ ، وَهُوَ الْوَجْهُ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقَاضِي الْأَمِينِ ، وَنُقِلَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ .
أَمَّا غَيْرُهُ فَيَضْمَنُ قَطْعًا ، وَالضَّمَانُ فِيمَا ذُكِرَ ضَمَانُ التَّعَدِّي بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ لَا ضَمَانُ الْعَقْدِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ ( إلَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ ) أَيْ كَأَنْ ( مَاتَ فَجْأَةً ) أَوْ قُتِلَ غِيلَةً فَلَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا .

وَلَوْ لَمْ يُوصِ فَادَّعَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ قَصَّرَ ، وَقَالَ الْوَارِثُ : لَعَلَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى تَقْصِيرٍ ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ الْإِمَامُ عِنْدَ جَزْمِ الْوَارِثِ بِالتَّلَفِ ، فَأَمَّا عِنْدَ ذِكْرِهِ لَهُ احْتِمَالًا فَإِنَّهُ صَحَّحَ الضَّمَانَ ا هـ .
لَكِنَّ شَيْخَنَا جَعَلَ هَذَا مِنْ الْجَزْمِ وَصَوَّرَ عَدَمَ الْجَزْمِ بِقَوْلِهِ : بِأَنْ قَالَ : عَرَفْتُ الْإِيدَاعَ لَكِنْ لَمْ أَدْرِ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ ، وَأَنَا أُجَوِّزُ أَنَّهَا تَلِفَتْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ فَلَمْ يُوصِ بِهَا لِذَلِكَ فَيَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ مُسْقِطًا ، وَصَحَّحَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى التَّلَفِ وَالرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَسَائِرِ الْأُمَنَاءُ كَالْمُودَعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الْعَامِلَ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْقِرَاضِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ ضَمِنَ ، وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّضْمِينِ مِنْ الْمُودَعِ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِخِلَافِ الْقِرَاضِ .

وَمِنْهَا إذَا نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ إلَى أُخْرَى دُونَهَا فِي الْحِرْزِ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا .
( وَمِنْهَا ) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ ( إذَا نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ ) إلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى ( أَوْ ) مِنْ ( دَارٍ ) إلَى دَارٍ أُخْرَى ( دُونَهَا فِي الْحِرْزِ ) وَلَوْ كَانَ حِرْزٌ مِثْلُهَا ( ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلتَّلَفِ ، سَوَاءٌ أَنْهَاهُ عَنْ النَّقْلِ أَمْ عَيَّنَ لَهُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَمْ أَطْلَقَ ، بَعِيدَتَيْنِ كَانَتَا أَمْ قَرِيبَتَيْنِ لَا سَفَرَ بَيْنَهُمَا وَلَا خَوْفَ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ نَقَلَهَا بِظَنِّ الْمِلْكِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ انْتَفَعَ بِهَا ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَتَلِفَتْ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا نَقَلَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَصْبِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ تَسَاوَيَا فِي الْحِرْزِ أَوْ كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَحْرَزَ ( فَلَا ) يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ ، وَخَرَجَ بِدَارٍ مَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ بَيْتٍ إلَى آخَرَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ خَانٍ وَاحِدٍ فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْرَزَ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَنَقْلُهَا مِنْ كِيسٍ أَوْ صُنْدُوقٍ إلَى آخَرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُودَعِ فَحُكْمُهُ كَالْبَيْتِ فِي النَّقْلِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَالِكِ فَتَصَرُّفُهُ فِيهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِمُضَمَّنٍ إلَّا إنْ فُضَّ الْخَتْمُ ، أَوْ فُتِحَ الْقُفْلُ فَيَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ .

تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ مَسَائِلُ : مِنْهَا لَوْ نَقَلَهَا وَالطَّرِيقُ مَخُوفٌ ، وَمِنْهَا مَا لَوْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ النَّقْلِ وَنَقَلَ بَلَا ضَرُورَةٍ ، وَمِنْهَا لَوْ تَلِفَتْ بِسَبَبِ النَّقْلِ كَانْهِدَامِ الدَّارِ الْمَنْقُولِ إلَيْهَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالسَّرِقَةُ مِنْ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ كَالِانْهِدَامِ قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي ، وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْحِرْزُ الْمَنْقُولُ مِنْهُ لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ مِلْكًا أَوْ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَحْرَزَ إذَا لَمْ يَخَفْ الْهَلَاكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَدْفَعَ مُتْلَفَاتِهَا .
( وَمِنْهَا ) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ ( أَنْ لَا يَدْفَعَ مُتْلَفَاتِهَا ) لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ مِنْ حِفْظِهَا .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَقَعَ فِي خِزَانَةِ الْوَدِيعِ حَرِيقٌ فَبَادَرَ لِنَقْلِ أَمْتِعَتِهِ فَاحْتَرَقَتْ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا وَدَائِعُ فَبَادَرَ لِنَقْلِ بَعْضِهَا فَاحْتَرَقَ مَا تَأَخَّرَ نَقْلُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا آخِرَ الْبَابِ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ .

فَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً فَتَرَكَ عَلْفَهَا ضَمِنَ ، فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَالِكُ عَلَفًا عَلَفَهَا مِنْهُ ، وَإِلَّا فَيُرَاجِعُهُ أَوْ وَكِيلُهُ ، فَإِنْ فُقِدَا فَالْحَاكِمُ ، وَلَوْ بَعَثَهَا مَعَ مَنْ يَسْقِيهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ .

( فَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً فَتَرَكَ عَلْفَهَا ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ سَقْيَهَا مُدَّةً يَمُوتُ فِيهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ ( ضَمِنَ ) هَا وَإِنْ لَمْ تَمُتْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا ، وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِهِ عَنْ الْبَغَوِيِّ ، سَوَاءٌ أَمَرَهُ الْمَالِكُ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا أَمْ سَكَتَ لِتَعَدِّيهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبِهِ يَحْصُلُ الْحِفْظُ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِقَبُولِهَا ، وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ بِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا ، فَإِنْ مَاتَتْ دُونَ الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنْهَا إلَّا إذَا كَانَ بِهَا جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ سَابِقٌ وَعَلِمَهُ فَيَضْمَنُهَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، وَقِيلَ : يَضْمَنُ الْقِسْطَ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِالْأَمْرَيْنِ ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا لَوْ جَوَّعَ إنْسَانًا وَبِهِ جُوعٌ سَابِقٌ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ ( فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ فَمَاتَ بِسَبَبِ تَرْكِ ذَلِكَ ( فَلَا ) يَضْمَنُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِلْإِذْنِ فِي إتْلَافِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ : اُقْتُلْ دَابَّتِي فَقَتَلَهَا .
وَالثَّانِي : يَضْمَنُ إذْ لَا حُكْمَ لِنَهْيِهِ عَمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَنْبِيهٌ : لَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ كَأَنْ أَوْدَعَ الْوَلِيُّ حَيَوَانَ مَحْجُورِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَيُشْبِهُ أَنَّ نَهْيَهُ كَالْعَدَمِ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ وَقَيَّدَهُ بِعِلْمِ الْوَدِيعِ بِالْحَالِ أَيْ لِقَرَارِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ مُطْلَقًا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَتْنِ فِي التَّضْمِينِ وَعَدَمِهِ كَمَا ذُكِرَ .
أَمَّا التَّأْثِيمُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ لِيُجْبِرَ الْمَالِكَ عَلَى عَلْفِهَا وَسَقْيِهَا إنْ كَانَ حَاضِرًا ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ غَائِبًا ، هَذَا إذَا نَهَاهُ لَا لِعِلَّةٍ ،

فَإِنْ كَانَ كَقُولَنْجِ أَوْ تُخْمَةٍ لَزِمَهُ امْتِثَالُ نَهْيِهِ ، فَلَوْ خَالَفَ وَفَعَلَ قَبْلَ زَوَالِ الْعِلَّةِ ضَمِنَ كَذَا أَطْلَقَاهُ .
قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الضَّمَانُ بِمَا إذَا عَلِمَ بِعِلَّتِهَا ( وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَالِكُ عَلَفًا ) بِفَتْحِ اللَّامِ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ وَلَمْ يَنْهَهُ ( عَلَفَهَا ) فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجُوزُ عَلْفُهَا ( مِنْهُ ، وَإِلَّا فَيُرَاجِعُهُ أَوْ وَكِيلُهُ ) لِيَسْتَرِدَّهَا أَوْ يُعْطِيَ عَلَفَهَا أَوْ يَعْلِفَهَا ( فَإِنْ فُقِدَا ) بِالتَّثْنِيَةِ بِخَطِّهِ أَيْ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ ( فَالْحَاكِمُ ) يُرَاجِعُهُ لِيَقْتَرِضَ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ يُؤَجِّرَهَا ، وَيَصْرِفَ الْأُجْرَةَ فِي مُؤْنَتِهَا أَوْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْهَا أَوْ جَمِيعَهَا إنْ رَآهُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالْقَدْرُ الَّذِي يَعْلِفُهَا عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الَّذِي يَصُونُهَا عَنْ التَّلَفِ وَالتَّعْيِيبِ لَا مَا يَحْصُلُ بِهِ السِّمَنُ ، فَإِنْ فَقَدَ الْحَاكِمَ تَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ لِيَرْجِعَ ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا هُوَ هَرَبُ الْجَمَّالِ .
نَعَمْ لَوْ كَانَتْ رَاعِيَةً .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَسْرِيحِهَا مَعَ ثِقَةٍ ، فَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ أَيْ إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ مَنْ يُسَرِّحُهَا مَعَهُ وَإِلَّا فَيَرْجِعُ ( وَلَوْ بَعَثَهَا ) أَيْ الدَّابَّةَ ( مَعَ مَنْ ) أَيْ أَمِينٍ ( يَسْقِيهَا ) أَوْ يَعْلِفُهَا حَيْثُ يَجُوزُ إخْرَاجُهَا لِذَلِكَ ( لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ ) لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ ، وَالثَّانِي : يَضْمَنُ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ حِرْزِهَا عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ الْمَالِكُ تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْمَبْعُوثُ مَعَهُ أَمِينًا كَمَا مَرَّ وَلَا خَوْفَ ، وَالْوَدِيعُ لَا يُخْرِجُ دَوَابَّهُ لِلسَّقْيِ أَوْ كَوْنُهُ لَا يَسْقِي وَعَادَتُهُ سَقْيُ دَوَابِّهِ فَمَعَ غَيْرِ الْأَمِينِ وَالْخَوْفِ يَضْمَنُ قَطْعًا ، وَمَعَ إخْرَاجِ دَوَابِّهِ لِلسَّقْيِ أَوْ كَوْنِهِ لَا يَسْقِي دَوَابَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ قَطْعًا ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ

دَابَّةٌ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ أَوْدَعَهُ نَخْلًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسَقْيِهِ فَتَرَكَهُ لَا يَضْمَنُ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بَلَا تَرْجِيحٍ صَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَفَرَّقَ بِحُرْمَةِ الرُّوحِ .
قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحِلَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ وَفِيمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ سَقْيِهِ .

وَإِنْ أَوْدَعَهُ حِنْطَةً أَوْ أُرْزًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَوَقَعَ فِيهِ السُّوسُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَاعَهُ الْحَاكِمُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ كَمَا قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ .

وَلَوْ تَرَكَ شَخْصٌ عِنْدَ صَاحِبِ الْخَانِ مَثَلًا حِمَارًا وَقَالَ لَهُ : احْفَظْهُ كَيْ لَا يَخْرُجَ فَلَاحَظَهُ فَخَرَجَ فِي بَعْضِ غَفَلَاتِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْحِفْظِ الْمُعْتَادِ .

وَعَلَى الْمُودَعِ تَعْرِيضُ ثِيَابِ الصُّوفِ لِلرِّيحِ كَيْ لَا يُفْسِدَهَا الدُّودُ ، وَكَذَا لِبْسُهَا عِنْدَ حَاجَتِهَا .
( وَعَلَى الْمُودَعِ ) بِفَتْحِ الدَّالِ ( تَعْرِيضُ ثِيَابِ الصُّوفِ ) وَنَحْوِهِ ، كَشَعْرٍ وَوَبَرٍ وَخَزٍّ مُرَكَّبٍ مِنْ حَرِيرٍ وَصُوفٍ وَلِبْدٍ ، وَكَذَا بُسُطٌ وَأَكْسِيَةٌ وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ ثِيَابًا عُرْفًا ( لِلرِّيحِ كَيْ لَا يُفْسِدَهَا الدُّودُ ، وَكَذَا ) عَلَيْهِ أَيْضًا ( لُبْسُهَا ) بِنَفْسِهِ إنْ لَاقَ بِهِ ( عِنْدَ حَاجَتِهَا ) لِتَعْبَقَ بِهَا رَائِحَةُ الْآدَمِيِّ فَتَدْفَعَ الدُّودَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفَسَدَتْ ضَمِنَ ، سَوَاءٌ أَمَرَهُ الْمَالِكُ أَمْ سَكَتَ ، فَإِنْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْوَدِيعُ كَأَنْ كَانَتْ فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ فَلَا ضَمَانَ ، أَمَّا مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لِبْسُهُ لِضِيقِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَلْبَسُهُ مَنْ يَلِيقُ بِهِ لُبْسُهُ بِهَذَا الْقَصْدِ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَيُلَاحِظُهُ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ كَأَنْ كَانَ خَزًّا مُرَكَّبًا مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ وَالْأَكْثَرُ حَرِيرٌ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَلْبَسُهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ أَوْ وَجَدَ وَلَمْ يَرْضَ إلَّا بِأُجْرَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ ، وَلَوْ كَانَتْ ثِيَابُ الصُّوفِ كَثِيرَةً يَحْتَاجُ لِبْسُهَا إلَى طُوَلِ زَمَنٍ يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَجْعَلَ لَهُ أُجْرَةً فِي مُقَابَلَةِ لُبْسِهَا ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ أَيْضًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ مَنْفَعَتَهُ مَجَّانًا كَالْحِرْزِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَنَشْرِ الصُّوفِ تَمْشِيَةُ الدَّابَّةِ وَتَسْيِيرُهَا الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهَا مِنْ الزَّمَانَةِ لِطُوَلِ وُقُوفِهَا ، وَجَعَلَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا مَثَلًا ، وَجَعَلَ الضَّابِطَ خَوْفَ الْفَسَادِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ وَتَلِفَتْ بِسَبَبِ الْعُدُولِ فَيَضْمَنُ ، فَلَوْ قَالَ لَا تَرْقُدْ عَلَى الصُّنْدُوقِ فَرَقَدَ وَانْكَسَرَ بِثِقَلِهِ وَتَلِفَ مَا فِيهِ ضَمِنَ ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَا تُقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلَيْنِ فَأَقْفَلَهُمَا .

( وَمِنْهَا ) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ ( أَنْ يَعْدِلَ ) فِي الْوَدِيعَةِ ( عَنْ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ ) بِهِ فِيهَا ( وَتَلِفَتْ بِسَبَبِ الْعُدُولِ ) عَنْهُ إلَى الْوَجْهِ الْمَعْدُولِ إلَيْهِ ( فَيَضْمَنُ ) لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ ( فَلَوْ ) عَدَلَ كَأَنْ ( قَالَ ) لَهُ ( لَا تَرْقُدْ ) أَيْ لَا تَنَمْ ( عَلَى الصُّنْدُوقِ ) الَّذِي فِيهِ الْوَدِيعَةُ ( فَرَقَدَ وَانْكَسَرَ بِثِقَلِهِ وَتَلِفَ مَا فِيهِ ) بِانْكِسَارِهِ ( ضَمِنَ ) لِمُخَالَفَتِهِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى التَّلَفِ ( وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ ) أَيْ بِسَبَبٍ غَيْرِ الِانْكِسَارِ كَسَرِقَةٍ ( فَلَا ) يَضْمَنُ ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا ، وَلَمْ يَأْتِ التَّلَفُ مِمَّا جَاءَ بِهِ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ رُقُودَهُ عَلَيْهِ يُوهِمُ السَّارِقَ نَفَاسَةَ مَا فِيهِ فَيَقْصِدُهُ تَنْبِيهٌ : صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ فِي بَيْتٍ مُحْرَزٍ وَأَخَذَهُ السَّارِقُ .
أَمَّا لَوْ سُرِقَ مَا فِيهِ مِنْ الصَّحْرَاءِ مِنْ جَانِبٍ كَأَنْ يَرْقُدَ فِيهِ إنْ لَمْ يَرْقُدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَقَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَى جَانِبَ الصُّنْدُوقَ ، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ السَّارِقُ مِنْ الْأَخْذِ إذَا كَانَ بِجَانِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْجَانِبِ الْمَذْكُورِ ( وَكَذَا ) لَا يَضْمَنُ ( لَوْ قَالَ ) لَهُ ( لَا تُقْفِلْ ) بِمُثَنَّاةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَاءٍ مَكْسُورَةٍ ( عَلَيْهِ ) أَيْ الصُّنْدُوقِ أَصْلًا فَاقْفِلْ عَلَيْهِ ، أَوْ أَقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلًا فَقَطْ فَأَقْفَلَ عَلَيْهِ ( قُفْلَيْنِ ) أَوْ لَا تُقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلَيْنِ أَوْ لَا تُغْلِقْ بَابَ الْبَيْتِ ( فَأَقْفَلَهُمَا ) أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ لَمْ يَضْمَنْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ احْتِيَاطًا ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَغْرَى السَّارِقَ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي بَلَدٍ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ جَزْمًا .

وَلَوْ قَالَ ارْبِطْ الدَّرَاهِمَ فِي كُمِّك فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ فَتَلِفَتْ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إنْ ضَاعَتْ بِنَوْمٍ وَنِسْيَانٍ ضَمِنَ ؛ أَوْ بِأَخْذِ غَاصِبٍ فَلَا ؛ وَلَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ بَدَلًا عَنْ الرَّبْطِ فِي الْكُمِّ لَمْ يَضْمَنْ ، وَبِالْعَكْسِ يَضْمَنُ .

( وَلَوْ قَالَ لَهُ : ارْبِطْ الدَّرَاهِمَ ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَشْهُورِ ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا ( فِي كُمِّك ) أَيْ شُدَّهَا فِيهِ ، وَجَمْعُهُ أَكْمَامٌ ( فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ فَتَلِفَتْ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إنْ ضَاعَتْ بِنَوْمٍ وَنِسْيَانٍ ) أَيْ أَوْ نِسْيَانٍ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ ( ضَمِنَ ) لِحُصُولِ التَّلَفِ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً لَمْ تَضِعْ بِهَذَا السَّبَبِ ( أَوْ ) تَلِفَتْ ( بِأَخْذِ غَاصِبٍ ) لَهَا مِنْ يَدِهِ ( فَلَا ) يَضْمَنُ لِأَنَّ الْيَدَ أَمْنَعُ لِلْغَصْبِ حِينَئِذٍ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي إطْلَاقُ قَوْلَيْنِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ : إنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِمْسَاكِ ضَمِنَ ، وَإِنْ أَمْسَكَ بَعْدَ الرَّبْطِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا امْتَثَلَ أَمْرَهُ وَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ لَمْ يُكَلَّفْ مَعَهُ إمْسَاكُهَا بِالْيَدِ ، بَلْ إنْ كَانَ الرَّبْطُ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ فَأَخَذَهَا الْقَاطِعُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَهَا وَتَنْبِيهُ الْقَاطِعِ وَإِغْرَاءَهُ عَلَيْهَا لِسُهُولَةِ قَطْعِهِ أَوْ حَلِّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ، لَا إنْ اسْتَرْسَلَتْ بِانْحِلَالِ الْعَقْدِ وَضَاعَتْ وَقَدْ احْتَاطَ فِي الرَّبْطِ فَلَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْحَلَّتْ بَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ فِي الْكُمِّ ، أَوْ كَانَ الرَّبْطُ مِنْ دَاخِلٍ فَبِالْعَكْسِ فَيَضْمَنُهَا إنْ اسْتَرْسَلَتْ لِتَنَاثُرِهَا بِالِانْحِلَالِ لَا إنْ أَخَذَهَا الْقَاطِعُ لِعَدَمِ تَنَبُّهِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقُ الرَّبْطِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يُنْظَرُ إلَى جِهَةِ التَّلَفِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَدَلَ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَحَصَلَ بِهِ التَّلَفُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّبْطَ لَيْسَ كَافِيًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِهِ الْحِفْظَ ، وَلِهَذَا لَوْ رَبَطَ رَبْطًا غَيْرَ مُحْكَمٍ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرَّبْطِ يَشْمَلُ الْمُحْكَمَ وَغَيْرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ : احْفَظْ الْوَدِيعَةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَوَضَعَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ فَانْهَدَمَتْ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ ، وَلَا يُقَالُ : لَوْ كَانَتْ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَسَلِمَتْ

.
أُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلٍّ مِنْ زَوَايَاهُ ، وَالْعُرْفُ لَا يُخَصِّصُ مَوْضِعًا مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ فَرَبَطَ فِي التَّحْتَانِيِّ مِنْهُمَا لَمْ يَضْمَنْ ، سَوَاءٌ أَرَبَطَهَا دَاخِلَ الْكُمِّ أَمْ خَارِجَهُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ( وَلَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ ) الَّذِي فِي جَنْبِ قَمِيصِهِ أَوْ لِبَتِّهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( بَدَلًا عَنْ الرَّبْطِ فِي الْكُمِّ لَمْ يَضْمَنْ ) عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ إلَّا إذَا كَانَ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ فَيَضْمَنُ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ مِنْهُ ، وَقِيلَ : يَضْمَنُ لِمُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ ( وَبِالْعَكْسِ ) أَيْ أَمَرَهُ بِوَضْعِهَا فِي الْجَيْبِ فَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ ( يَضْمَنُ ) قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْرَزُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرْسِلُ الْكُمَّ فَتَسْقُطُ .

وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الْحِفْظِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ أَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ إنْ أَخَذَهَا غَاصِبٌ وَيَضْمَنُ إنْ تَلِفَتْ بِغَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ

( وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الْحِفْظِ ) فِيهَا ( فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ ) أَوْ نَحْوِهِ كَعَلَى تِكَّتِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ، أَوْ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ ( وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ ، أَوْ ) لَمْ يَرْبِطْهَا بِهَا ( جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ ) الضَّيِّقِ أَوْ الْوَاسِعِ الْمَزْرُورِ ( لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّهُ احْتَاطَ فِي الْحِفْظِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْجَيْبُ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا مَرَّ لِسُهُولَةِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْيَدِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : كَذَا لَوْ كَانَ الْجَيْبُ مَثْقُوبًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَسَقَطَتْ أَوْ حَصَلَتْ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا فَسَقَطَتْ ضَمِنَهَا ، وَفِي الْكَافِي فِي بَابِ الْغَصْبِ : إذَا كَانَ الثُّقْبُ مَوْجُودًا عِنْدَ جَعْلِهَا فِيهِ ضَمِنَ ، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ فَلَا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّبْطِ مِنْ غَيْرِ إمْسَاكٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا : وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ النَّظَرُ لِكَيْفِيَّةِ الرَّبْطِ وَجِهَةِ التَّلَفِ ، وَلَوْ وَضَعَهَا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فَسَقَطَتْ ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا ضَمِنَ لِتَفْرِيطِهِ فِي الْإِحْرَازِ وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بِهَا لَمْ يَضْمَنْ ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ ، فَلَوْ نَفَضَ كُمَّهُ فَسَقَطَتْ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ سَهْوًا قَالَهُ الْقَاضِي ، وَلَوْ وَضَعَهَا فِي كَوْرِ عِمَامَتِهِ وَلَمْ يَشُدَّهَا ضَمِنَ ، وَخَرَجَ بِالسُّوقِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فِي الْبَيْتِ وَقَالَ : احْفَظْهَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ فِيهِ فَوْرًا ، فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا مَانِعٍ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فِيهِ وَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ شَدَّهَا فِي عَضُدِهِ لَا مِمَّا يَلِي أَضْلَاعَهُ وَخَرَجَ بِهَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَأَمْكَنَ إحْرَازُهَا فِي الْبَيْتِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أَحْرَزَ مِنْ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا فِي عَضُدِهِ مِمَّا يَلِي أَضْلَاعَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ مِنْ الْبَيْتِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَجِبُ

تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ فِي زَمَنِ الْخُرُوجِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَفِي تَقْيِيدِهِمْ الصُّورَةَ بِمَا إذَا قَالَ : احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا مَرْبُوطَةً ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ( وَإِنْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ إنْ أَخَذَهَا غَاصِبٌ وَيَضْمَنُ إنْ تَلِفَتْ بِغَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ ) لِتَقْصِيرِهِ .

وَإِنْ قَالَ احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ فَلْيَمْضِ إلَيْهِ وَيُحْرِزُهَا فِيهِ ، فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ .
( وَإِنْ ) دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ ، وَ ( قَالَ : احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ فَلْيَمْضِ إلَيْهِ ) فَوْرًا ( وَيُحْرِزُهَا فِيهِ ) عَقِبَ وُصُولِهِ ( فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ ) لِتَفْرِيطِهِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَفَاسَةِ الْوَدِيعَةِ وَطُوَلِ التَّأْخِيرِ وَضِدِّهِمَا .
وَقَالَ الْفَارِقِيُّ : إنْ كَانَ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْقُعُودُ بِالسُّوقِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ لِاشْتِغَالِهِ بِتِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا فَأَخَّرَهَا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَضْمَنْ ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالْقُعُودِ ، وَلَا لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فِي الْمُضِيِّ إلَى الْبَيْتِ فَأَخَّرَهَا ضَمِنَ ، هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
فَأَمَّا إذَا قَالَ أَحْرِزْهَا الْآنَ فِي الْبَيْتِ فَقَبِلَ وَأَخَّرَهَا ضَمِنَ مُطْلَقًا ا هـ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا مُتَّجَهٌ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ فِي الشَّامِلِ وَحِلْيَةِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ يَرُدُّهُ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ قَالَ لَهُ وَهُوَ فِي حَانُوتِهِ : احْمِلْهَا إلَى بَيْتِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الْحَالِ وَيَحْمِلَهَا إلَيْهِ ، فَلَوْ تَرَكَهَا فِي حَانُوتِهِ وَلَمْ يَحْمِلْهَا إلَى الْبَيْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلَا نَظَرَ إلَى عَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ شَنِيعَةٌ : ضَادُ الضَّمَانِ ، وَطَاءُ الطَّلَاقِ ، وَوَاوُ الْوَدِيعَةِ ، وَلَوْ قَالَ : احْفَظْ هَذَا فِي يَمِينِكَ فَجَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ ضَمِنَ ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَحْرَزُ ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ أَكْثَرَ غَالِبًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَكِنْ لَوْ هَلَكَ لِلْمُخَالَفَةِ ضَمِنَ ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَعْسَرَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْمَلُ بِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ كَانَا سَوَاءٌ .

وَمِنْهَا أَنْ يُضَيِّعَهَا بِأَنْ يَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ مِثْلِهَا ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ .

( وَمِنْهَا ) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ ( أَنْ يُضَيِّعَهَا بِأَنْ يَضَعَهَا ) بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا ( فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا ) وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ إخْفَاءَهَا ؛ لِأَنَّ الْوَدَائِعَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا ( أَوْ يَدُلُّ ) بِضَمِّ الدَّالِ ( عَلَيْهَا سَارِقًا ) بِأَنْ يُعَيِّنَ لَهُ مَكَانَهَا وَتَضِيعُ بِالسَّرِقَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( أَوْ ) يَدُلُّ عَلَيْهَا ( مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ ) فِيهَا بِأَنْ عَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَهَا فَضَاعَتْ بِذَلِكَ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلْحِفْظِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْلَمَهُ بِهَا غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ حِفْظَهَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ضَاعَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ بِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا وَلَوْ أَعْلَمَهُ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ لَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ هُوَ الضَّمَانُ لِمَا مَرَّ تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَلَوْ أَعْلَمَ الْمُصَادِرَ بِهَا مُكْرَهًا وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْهُ بِأَنَّ الْوَدِيعَ الْتَزَمَ الْحِفْظَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ ، وَحَمَلَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَلَى قَرَارِ الضَّمَانِ لَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا حَصْرُ التَّضْيِيعِ فِيمَا ذَكَرَهُ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ مِنْهُ الضَّيَاعُ بِالنِّسْيَانِ ، وَمِنْهُ دَفْنُهَا فِي حِرْزٍ ثُمَّ يَنْسَاهُ .
وَمِنْهُ مَا لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ قَامَ وَنَسِيَ الْوَدِيعَةَ ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمَالِكُ لِلْوَدِيعَةِ ظَرْفًا مِنْ ظُرُوفِهِ فَنَقَلَهَا الْوَدِيعُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْهَا وَهُوَ مُسَاوٍ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ وَدِيعَتَانِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا حِفْظُ أَحَدِهِمَا فِي حِرْزٍ وَالْآخَرِ فِي آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي دُونَ الْمُعَيَّنِ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَتْ الظُّرُوفُ لِلْوَدِيعِ فَكَالْبُيُوتِ فِيمَا مَرَّ فِيهَا ، وَلَوْ نَهَاهُ عَنْ دُخُولِ أَحَدٍ

عَلَيْهَا ، أَوْ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى حِفْظِهَا بِحَارِثٍ ، أَوْ عَنْ الْإِخْبَارِ بِهَا فَخَالَفَهُ فِيهِ ضَمِنَ إنْ كَانَ أَخَذَهَا الدَّاخِلُ عَلَيْهَا أَوْ الْحَارِسُ لَهَا أَوْ تَلِفَتْ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا ، وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ أَوْ تَلِفَتْ لَا بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ فَلَا ضَمَانَ ، فَقَوْلُ الْعَبَّادِيِّ : وَلَوْ سَأَلَهُ رَجُلٌ هَلْ عِنْدَك لِفُلَانٍ وَدِيعَةٌ وَأَخْبَرَهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ كِتْمَانَهَا مِنْ حِفْظِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الضَّمَانِ بِالْأَخْذِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ .

فَلَوْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ حَتَّى سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُهُ فِي الْأَصَحِّ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الظَّالِمِ .

( فَلَوْ أَكْرَهَهُ ) أَيْ الْوَدِيعَ ( ظَالِمٌ ) عَلَى تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ ( حَتَّى سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُهُ ) أَيْ الْوَدِيعِ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِتَسْلِيمِهِ وَالضَّمَانُ يَسْتَوِي فِيهِ الِاخْتِيَارُ وَالِاضْطِرَارُ ( ثُمَّ يَرْجِعُ ) الْوَدِيعُ ( عَلَى الظَّالِمِ ) لِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ لِلْإِكْرَاهِ وَيُطَالَبُ الظَّالِمُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ مُطَالَبَةُ الظَّالِمِ أَيْضًا ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : سَلَّمَهَا إلَيْهِ مَا لَوْ أَخَذَهَا الظَّالِمُ بِنَفْسِهِ قَهْرًا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ فَقَطْ جَزْمًا .
فَإِنْ قِيلَ : رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا لَوْ أُكْرِهَ الصَّائِمُ حَتَّى أَكَلَ عَدَمَ الْفِطْرِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى تَرْجِيحِ التَّضْمِينِ هُنَا فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا اسْتِيلَاءً عَلَى مَالِكِ الْغَيْرِ فَضَمَّنَّاهُ ، وَفِي الصَّوْمِ فَعَلَهُ كَلَا فِعْلٍ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَيَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ إنْكَارُ الْوَدِيعَةِ عَنْ الظَّالِمِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إعْلَامِهِ بِهَا جَهْدَهُ ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَمِنَ .
وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِهَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَتَّجِهُ وُجُوبُ الْحَلِفِ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ رَقِيقًا وَالظَّالِمُ يُرِيدُ قَتْلَهُ ، أَوْ الْفُجُورَ بِهِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ إذَا حَلَفَ وَأَمْكَنَتْهُ التَّوْرِيَةُ وَكَأَنْ يُعَرِّفَهَا لِئَلَّا يَحْلِفَ كَاذِبًا ، فَإِنْ لَمْ يُوَرِّ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهَا ، فَإِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ فَحَلَفَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ فَدَى الْوَدِيعَةَ بِزَوْجَتِهِ أَوْ رَقِيقِهِ ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَسَلَّمَهَا ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهُ فَدَى زَوْجَتَهُ أَوْ رَقِيقَهُ بِهَا ، وَلَوْ أَعْلَمَ اللُّصُوصَ بِمَكَانِهَا فَضَاعَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلْحِفْظِ لَا إنْ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَكَانِهَا فَلَا يَضْمَنُ بِذَلِكَ .

وَمِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِأَنْ يَلْبَسَ أَوْ يَرْكَبَ خِيَانَةً ، أَوْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ لِيَلْبَسَهُ أَوْ الدَّرَاهِمَ لِيُنْفِقَهَا فَيَضْمَنُ .

( وَمِنْهَا ) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ ( أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِأَنْ يَلْبَسَ ) الثَّوْبَ مَثَلًا ( أَوْ يَرْكَبَ ) الدَّابَّةَ ( خِيَانَةً ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ لَا لِعُذْرٍ فَيَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ .
قَالَ الْمُتَوَلِّي : وَمِنْهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْكِتَابِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : خِيَانَةً رُكُوبُ الْجُمُوحِ لِلسَّقْيِ ، أَوْ خَوْفُ الزَّمَانَةِ عَلَيْهَا ، وَلِبْسُ الصُّوفِ وَنَحْوُهُ لِدَفْعِ الدُّودِ وَنَحْوِهِ ، وَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ خَاتَمَهُ وَأَمَرَهُ بِلُبْسِهِ فِي خِنْصَرِهِ فَجَعَلَهُ فِي بِنْصِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ لِكَوْنِهِ أَغْلَظَ إلَّا إنْ جَعَلَهُ فِي أَعْلَاهُ ، أَوْ فِي وَسَطِهِ ، أَوْ انْكَسَرَ لِغِلَظِ الْبِنْصِرِ فَيَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ أَسْفَلَ الْخِنْصَرِ أَحْفَظُ مِنْ أَعْلَى الْبِنْصِرِ وَوَسَطِهِ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ وَلِلْمُخَالَفَةِ فِي الْأَخِيرَةِ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ : اجْعَلْهُ فِي الْبِنْصِرِ فَجَعَلَهُ فِي الْخِنْصَرِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَهِي إلَى أَصْلِ الْبِنْصِرِ فَاَلَّذِي فَعَلَهُ أَحْرَزُ فَلَا ضَمَانَ وَإِلَّا ضَمِنَ ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ فَوَضَعَهُ فِي الْخِنْصَرِ لَا غَيْرِهَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ بَلَا ضَرُورَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا .
نَعَمْ إنْ قَصَدَ بِلُبْسِهِ فِيهَا الْحِفْظَ لَمْ يَضْمَنْ ، وَغَيْرُ الْخِنْصَرِ لِلْمَرْأَةِ فِي حِفْظِهَا لِلْخَاتَمِ كَالْخِنْصَرِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَخَتَّمُ فِي غَيْرِهِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْخُنْثَى يَحْتَمِلُ إلْحَاقُهُ بِالرَّجُلِ إذَا لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي غَيْرِ خِنْصَرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ ، وَيَحْتَمِلُ مُرَاعَاةُ الْأَغْلَظِ هُنَا وَهُوَ الْتِحَاقُهُ بِالْمَرْأَةِ كَمَا غَلَّظْنَا فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالرَّجُلِ ا هـ .
وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُتَّجَهُ تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ خِيَانَةً مَا لَوْ اسْتَعْمَلَ الْوَدِيعَةَ ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَيَضْمَنُ مَعَ أَنَّهُ لَا خِيَانَةَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْغَصْبِ عَنْ جَزْمِ الْإِمَامِ (

أَوْ يَأْخُذُ الثَّوْبَ ) مِنْ مَحِلِّهِ ( لِيَلْبَسَهُ أَوْ الدَّرَاهِمَ ) مِنْ مَحِلِّهَا ( لِيُنْفِقَهَا ) غَيْرَ ظَانٍّ أَنَّهَا مِلْكُهُ ( فَيَضْمَنُ ) بِمَا ذُكِرَ وَإِنْ لَمْ يَلْبَسْ وَلَمْ يُنْفِقْ لِاقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِنِيَّةِ التَّعَدِّي ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَأْخُوذُ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ ، فَإِنْ مَضَتْ فِي يَدِهِ مُدَّةً بَعْدَ التَّعَدِّي وَجَبَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَيَضْمَنُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ حَتَّى يَتَنَاوَل ضَمَانَ الْعَيْنِ فِي صُورَةِ التَّلَفِ وَالْأُجْرَةُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي نُكْتَةٍ كَلَامَ التَّنْبِيهِ ، أَمَّا إذَا أَخَذَهَا ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا إلَّا إنْ انْتَفَعَ بِهَا كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : الدَّرَاهِمَ عَمَّا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا كَأَنْ أَخَذَ مِنْهَا دِرْهَمًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ ، فَإِنْ رَدَّ بَدَلَهُ إلَيْهَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَالِكُ إلَّا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَمْ يَبْرَأْ عَنْ ضَمَانِهِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهَا ضَمِنَ الْجَمِيعَ لِخَلْطِ الْوَدِيعَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهَا فَالْبَاقِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْ بَعْضِهَا لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِصِفَةٍ كَسَوَادٍ وَبَيَاضٍ وَسِكَّةٍ ضَمِنَ مَا لَا يَتَمَيَّزُ خَاصَّةً ، وَإِنْ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ إلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ كُلُّهَا ، أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ هُوَ عَنْهَا لِاخْتِلَاطِهِ بِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْطَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الْأَخْذِ ، وَإِنْ تَلِفَ نِصْفُهَا ضَمِنَ نِصْفَ الدَّرَاهِمِ فَقَطْ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَفْتَحْ قُفْلًا عَنْ صُنْدُوقٍ ، أَوْ خَتْمًا عَنْ كِيسٍ فِيهِ الدَّرَاهِمُ ، فَإِنْ فَتَحَهُ ، أَوْ أَوْدَعَهُ دَرَاهِمَ مَثَلًا مَدْفُونَةً فَنَبَشَهَا ضَمِنَ الْجَمِيعَ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ ، وَفِي ضَمَانِ الصُّنْدُوقِ وَالْكِيسِ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ

الْوَدِيعَةِ ، وَلَوْ فَتَحَ الرُّبُطَ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ رَأْسُ الْكِيسِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ مَنْعُ الِانْتِشَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْتُومًا عَنْهُ فَيَضْمَنُ ، وَلَوْ خَرَقَ الْكِيسَ مِنْ فَوْقَ الْخَتْمِ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا نُقْصَانَ الْخَرْقِ .
نَعَمْ إنْ خَرَقَهُ مُتَعَمِّدًا ضَمِنَ جَمِيعَ الْكِيسِ ، وَلَوْ عَدَّ الدَّرَاهِمَ الْمَوْدُوعَةَ ، أَوْ وَزَنَهَا ، أَوْ ذَرَعَ الثَّوْبَ كَذَلِكَ لِيَعْرِفَ قَدْرَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ ، وَهِيَ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، فَهَذِهِ أَوْلَى .

وَلَوْ نَوَى الْأَخْذَ وَلَمْ يَأْخُذ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ .
( وَلَوْ نَوَى الْأَخْذَ ) لِلْوَدِيعَةِ خِيَانَةً ، أَوْ نَوَى تَعْيِيبَهَا ( وَلَمْ يَأْخُذْ ) وَلَمْ يُعَيِّبْ ( لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ ) الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِعْلًا .
وَالثَّانِي : يَضْمَنْ كَمَا لَوْ نَوَاهُ ابْتِدَاءً .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ اقْتَرَنَتْ بِالْفِعْلِ فَأَثَّرَتْ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهٌ : مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي التَّضْمِينِ أَمَّا التَّأْثِيمُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِنِيَّةِ الْأَخْذِ ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا يَضْمَنُ مِنْ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَخْذِ حَتَّى لَوْ نَوَى يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَخَذَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَضْمَنُ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ ، وَالْمُرَادُ بِالنِّيَّةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ تَجْرِيدُ الْقَصْدِ لِأَخْذِهَا .
فَأَمَّا مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَدَاعِيَةُ الدِّينِ تَمْنَعُهُ فَلَا حُكْمَ لَهُ ، وَإِنْ تَرَدَّدَ الرَّأْيُ وَلَمْ يَجْزِمْ قَصْدًا ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ حَتَّى يُجَرِّدَ قَصْدَ الْعُدْوَانِ .

وَلَوْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَمِنَ ، وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ كِيسَيْنِ لِلْمُودِعِ ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ خَلَطَهَا ) أَيْ الْوَدِيعَةَ ( بِمَالِهِ ) وَإِنْ قَلَّ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ( وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَمِنَ ) لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ بِسِكَّةٍ أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ حَدَاثَةٍ ، أَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ .
نَعَمْ إنْ حَدَثَ بِالْخَلْطِ نَقْصٌ ضَمِنَهُ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَيْسَ الضَّابِطُ التَّمْيِيزَ بَلْ سُهُولَتَهُ حَتَّى لَوْ خَلَطَ حِنْطَةً بِشَعِيرٍ مَثَلًا كَانَ مُضَمَّنًا فِيمَا يَظْهَرُ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا عَسُرَ التَّمْيِيزُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ ضَمِنَ أَيْ الْوَدِيعَةَ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ، وَبِأَقْصَى الْقِيَمِ إنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً كَالْمَغْصُوبِ ، وَيَمْلِكُ الْوَدِيعَةَ كَمَا صَرَّحَا بِهِ فِي بَابِ الْغَصْبِ فِيمَا إذَا خَلَطَ الْحِنْطَةَ وَالزَّيْتَ وَنَحْوَهُمَا بِمِثْلِهِمَا لَهُ ، إذْ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُهَا لَكَ حَتَّى يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَيَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ الْغُرْمُ ( وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ كِيسَيْنِ ) مَثَلًا غَيْرِ مَخْتُومَيْنِ ( لِلْمُودِعِ ) وَلَمْ تَتَمَيَّزْ بِسُهُولَةٍ ( ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ ) لِتَعَدِّيهِ ، وَالثَّانِي : لِأَنَّ كُلًّا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ .
أَمَّا إذَا كَانَا مَخْتُومَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ بِالْفَضِّ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطْ كَمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَتْ لِمُودِعَيْنِ فَأَوْلَى بِالضَّمَانِ .

وَلَوْ قَطَعَ الْوَدِيعُ يَدَ الدَّابَّةِ الْمُودَعَةِ ، أَوْ أَحْرَقَ بَعْضَ الثَّوْبِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ خَطَأً ضَمِنَ الْمُتْلَفَ فَقَطْ دُونَ الْبَاقِي لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ فِيهِ أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَمْدًا ضَمِنَهُمَا جَمِيعًا لِتَعَدِّيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُخَالِفُ تَسْوِيَتَهُمْ الْخَطَأَ بِالْعَمْدِ فِي الضَّمَانِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّ التَّسْوِيَةِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ كَمَا فِي بَعْضِ الْمُتْلَفِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا فِي ضَمَانِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْبَاقِي فِيهَا إذْ لَا تَعَدِّيَ فِيهِ .

وَمَتَى صَارَتْ مَضْمُونَةً بِانْتِفَاعٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ لَمْ يَبْرَأْ ، فَإِنْ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا بَرِئَ فِي الْأَصَحِّ .
( وَمَتَى صَارَتْ ) أَيْ الْوَدِيعَةُ ( مَضْمُونَةً بِانْتِفَاعٍ وَغَيْرِهِ ) مِمَّا مَرَّ ( ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ لَمْ يَبْرَأْ ) مِنْ الضَّمَانِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعَدِّي حِفْظُهَا كَمَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ، بَلْ عَلَيْهِ رَدُّهَا ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَالِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ تَعَدِّيهمَا ( فَإِنْ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا ) كَقَوْلِهِ : اسْتَأْمَنْتُكَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ ضَمَانِهَا ، أَوْ أَمَرَهُ بِرَدِّهَا إلَى الْحِرْزِ ( بَرِئَ فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ .
وَالثَّانِي : لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرُدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ لِخَبَرِ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ : أَحْدَثَ عَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْدَعْتُكَ ، فَإِنْ خُنْتَ ثُمَّ تَرَكْتَ الْخِيَانَةَ عُدْتَ أَمِينًا فَخَانَ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ فَلَا يَعُودُ أَمِينًا قَطْعًا كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ وَتَعْلِيقٌ لِلْوَدِيعَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا خَفَاءَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِئْمَانَ إنَّمَا هُوَ لِلْمَالِكِ خَاصَّةً لَا لِلْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ وَنَحْوِهِمَا بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَلَوْ فَعَلُوهُ لَمْ يُعَدَّ أَمِينًا قَطْعًا .
وَلَوْ أَتْلَفَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا فِي الْبَدَلِ لَمْ يَبْرَأْ بَلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْبَدَلَ إلَى الْمَالِكِ .

وَمَتَى طَلَبَهَا الْمَالِكُ لَزِمَهُ الرَّدُّ بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ ، وَهُوَ رَدُّهَا عِنْدَ بَقَائِهَا عَلَى مَالِكِهَا إذَا طَلَبَهَا فَقَالَ : ( وَمَتَى طَلَبَهَا ) أَيْ الْوَدِيعَةَ ( الْمَالِكُ ) أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْقَبْضِ ( لَزِمَهُ ) أَيْ الْوَدِيعَ ( الرَّدُّ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } [ النِّسَاءَ ] .
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْقَبْضِ كَمَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ ، بَلْ يَحْرُمُ ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ ضَمِنَ ، وَلَوْ رَدَّ عَلَى الْمَالِكِ فِي حَالِ سُكْرِهِ .
قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : لَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ حَمْلَهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ يَحْصُلُ ( بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ) فَقَطْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمَالِكَ الْإِشْهَادَ ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الدَّفْعِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَبَهَا وَكِيلُ الْمُودِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهَا إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَوْدَعَهُ حَاكِمًا ثُمَّ طَلَبَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُزِلَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَيَجِيءُ مِثْلُهُ إذَا كَانَ الْمُودِعُ يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ بِوِلَايَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، وَلَوْ أَوْدَعَ شَخْصٌ يُعْرَفُ بِاللُّصُوصِيَّةِ وَدِيعَةً عِنْدَ آخَرَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْوَدِيعِ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ هَلْ يَلْزَمُهُ أَوْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ وَيَطْلُبُ صَاحِبَهَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعَ امْتِدَادِ الزَّمَانِ رَدَّهُ ؟ احْتِمَالَانِ فِي الْبَحْرِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ امْتِنَاعٌ لِظَاهِرِ الْيَدِ ، وَلَوْ بَعَثَ شَخْصٌ رَسُولًا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ وَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ أَمَارَةً لِمَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ وَقَالَ : رُدَّهُ عَلَيَّ بَعْدَ قَضَائِهَا فَوَضَعَهُ بَعْدَ قَضَائِهَا فِي حِرْزٍ مِثْلِهِ

لَمْ يَضْمَنْ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا التَّخْلِيَةُ لَا النَّقْلُ ، وَلَوْ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِمَالِكِهَا : خُذْ وَدِيعَتَكَ لَزِمَهُ أَخْذُهَا كَمَا فِي الْبَيَانِ ، وَعَلَى الْمَالِكِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ .

تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ لَا شَرِيكَ لِلْمُودِعِ ، فَلَوْ أَوْدَعَهُ اثْنَانِ وَجَاءَ أَحَدُهُمَا يَسْتَرِدُّ نَصِيبَهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْإِيدَاعِ فَكَذَا فِي الِاسْتِرْدَادِ بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيُقَسِّمَهُ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ نَصِيبَهُ ، وَاحْتَرَزَ بِتَفْسِيرِ الرَّدِّ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْ رَدِّ الْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَثَوْبٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ ، فَإِنْ رَدَّهَا بِالْإِعْلَامِ بِحُصُولِهَا فِي يَدِهِ .

فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ .
( فَإِنْ أَخَّرَ ) رَدَّ الْوَدِيعَةَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ( بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ ) لِتَعَدِّيهِ ، فَإِنْ تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ كَصَلَاةٍ وَطَهَارَةٍ وَلَيْلٍ وَمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ وَأَكْلٍ لَمْ يُضْمَنْ ، هَذَا إنْ كَانَ الْعُذْرُ لَا يَطُولُ زَمَنُهُ ، فَإِنْ كَانَ يَطُولُ كَنَذْرِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ مَثَلًا أَوْ إحْرَامٍ يَطُولُ زَمَنُهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنْ تَمَكَّنَ مِنْ تَوْكِيلِ أَمِينٍ مُتَبَرِّعٍ يُخَلِّي بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَخَّرَ ضَمِنَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْ الْمَالِكُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِيدَاعِ عِنْدَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ مَنْ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَإِنْ أَبَى بَعَثَ الْحَاكِمُ مَعَهُ أَمِينًا يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَدِيعُ غَائِبًا ا هـ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَالِكُ : أَعْطِ وَكِيلِي فُلَانًا وَتَمَكَّنَ ضَمِنَ بِالتَّأْخِيرِ وَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْوَكِيلُ ، وَكَذَا مَنْ يَعْرِفُ مَالِكَ الضَّالَّةِ وَمَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ وَكِيلٍ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَيْهِ أَوْ لِيُعْطِيَ آخَرَ وَقَدْ قَالَ لَهُ : أَعْطِهَا أَحَدَ وُكَلَائِي ضَمِنَ ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : وَلَا تُؤَخِّرْ فَأَخَّرَ عَصَى أَيْضًا ، فَإِنْ قَالَ : أَعْطِ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لَمْ يَعْصِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَمْ يَضْمَنْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، رَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ .

وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا أَوْ ذَكَرَ خَفِيًّا كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ ظَاهِرًا كَحَرِيقٍ فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ وَعُمُومُهُ صُدِّقَ بَلَا يَمِينٍ ، وَإِنْ عُرِفَ دُونَ عُمُومِهِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، وَإِنْ جُهِلَ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ بِهِ .

( وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ ) لَهُ ( سَبَبًا أَوْ ذَكَرَ ) لَهُ سَبَبًا ( خَفِيًّا كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ ) فِي ذَلِكَ ( بِيَمِينِهِ ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ فَلْيُصَدِّقْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْأَوْلَى .
نَعَمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، وَإِذَا نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْخَفِيِّ حَلَفَ أَيْ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، وَقِيلَ : عَلَى الْبَتِّ وَالْغَصْبِ كَالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ الْأَقْرَبُ ، وَقِيلَ : كَالْمَوْتِ ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنْ ادَّعَى وُقُوعَهُ فِي مَجْمَعٍ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا فَلَا ا هـ .
وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ إطْلَاقُ دَعْوَى السَّرِقَةِ مَا لَوْ طَلَبَهَا الْمَالِكُ ، فَقَالَ : أَرُدُّهَا وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ طَالَبَهُ فَأَخْبَرَهُ .
وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ إنْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَهَا فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ أَيِسَ مِنْهَا ضَمِنَ ، نَقَلَهُ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ وَأَقَرَّهُ ، وَالْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ ( وَإِنْ ذَكَرَ ) سَبَبًا ( ظَاهِرًا كَحَرِيقٍ ، فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ وَعُمُومُهُ ) وَلَمْ يَحْتَمِلْ سَلَامَةُ الْوَدِيعَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ( صُدِّقَ بَلَا يَمِينٍ ) لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يُغْنِيهِ عَنْ الْيَمِينِ .
أَمَّا إذَا اُحْتُمِلَ سَلَامَتُهَا بِأَنْ عَمَّ ظَاهِرًا لَا يَقِينًا فَيَحْلِفُ لِاحْتِمَالِ سَلَامَتِهَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ( وَإِنْ عُرِفَ ) الْحَرِيقُ ( دُونَ عُمُومِهِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ ( وَإِنْ جُهِلَ ) مَا ادَّعَاهُ مِنْ السَّبَبِ الظَّاهِرِ ( طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ ) عَلَيْهِ ( ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ بِهِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَتْلَفُ بِهِ ، وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلَفِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ أَوْ نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّلَفِ وَاسْتَحَقَّ .

وَإِنْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ كَوَارِثِهِ أَوْ ادَّعَى وَارِثُ الْمُودِعِ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا فَادَّعَى الْأَمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ ، وَجُحُودُهَا بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ مُضَمِّنٍ .

( وَإِنْ ادَّعَى ) وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى أَمَانَتِهِ ( رَدَّهَا عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ ) مِنْ مَالِكٍ وَحَاكِمٍ وَوَلِيٍّ وَوَصِيٍّ وَقَيِّمٍ ( صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ) وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا عِنْدَ دَفْعِهَا لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ .
أَمَّا لَوْ ضَمِنَهَا بِتَفْرِيطٍ أَوْ عُدْوَانٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ رَدَّهَا .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَجْرِي فِي كُلِّ أَمِينٍ كَوَكِيلٍ وَشَرِيكٍ وَعَامِلِ قِرَاضٍ وَجَابٍ فِي رَدِّ مَا جَبَاهُ عَلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلْجِبَايَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ، وَأَمِينٍ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَدِيعِ إذَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ سَفَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْوَدِيعِ الِاسْتِرْدَادَ إذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الرَّدَّ إلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمَا .
وَضَابِطُ الَّذِي يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي الرَّدِّ هُوَ كُلُّ أَمِينٍ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ إلَّا الْمُرْتَهِنَ وَالْمُسْتَأْجِرَ فَإِنَّهُمَا يُصَدَّقَانِ فِي التَّلَفِ لَا فِي الرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَذَا الْعَيْنَ لِغَرَضِ أَنْفُسِهِمَا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ : كُلُّ مَالٍ تَلِفَ فِي يَدِ أَمِينٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَسْلَفَ السُّلْطَانَ لِحَاجَةِ الْمَسَاكِينِ زَكَّاهُ قَبْلَ حَوْلِهَا فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهَا لَهُمْ أَيْ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي مَحِلِّهَا .
وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : وَيَلْحَقُ بِهَا مَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنًا وَحَبَسَهَا الْبَائِعُ عَلَى الثَّمَنِ ثُمَّ أَوْدَعَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَتَلِفَتْ فَإِنَّهَا مِنْ ضَمَانِهِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ ( أَوْ ) ادَّعَى الرَّدَّ ( عَلَى غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَنْ ائْتَمَنَهُ ( كَوَارِثِهِ ) أَيْ الْمَالِكِ ( أَوْ ) ادَّعَى وَارِثُ الْمُودَعِ بِفَتْحِ الدَّالِ ( الرَّدَّ ) لِلْوَدِيعَةِ مِنْهُ لَا مِنْ مُوَرِّثِهِ (

عَلَى الْمَالِكِ أَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا فَادَّعَى الْأَمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ طُولِبَ ) كُلٌّ مِمَّنْ ذُكِرَ ( بِبَيِّنَةٍ ) بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ ذُكِرَ ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الرَّدِّ وَلَمْ يَأْتَمِنْهُ .
أَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَارِثُ الرَّدَّ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لِدُخُولِ ذَلِكَ فِي الضَّابِطِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُوَ الْوَجْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ : إنَّهُ الْأَصَحُّ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمُتَوَلِّي وَقَالَ : يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ ( وَجُحُودُهَا ) بِلَا عُذْرٍ ( بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ ) لَهَا ( مُضَمَّنٌ ) كَخِيَانَتِهِ .
أَمَّا لَوْ جَحَدَهَا بِعُذْرٍ كَأَنْ طَالَبَ الْمَالِكَ بِهَا ظَالِمٌ فَطَلَبَ الْمَالِكُ الْوَدِيعَ بِهَا فَجَحَدَهَا دَفْعًا لِلظَّالِمِ أَوْ جَحَدَهَا بِلَا طَلَبٍ مِنْ مَالِكِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْجَحْدُ بِحَضْرَتِهِ كَقَوْلِهِ ابْتِدَاءً : لَا وَدِيعَةَ عِنْدِي لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ إخْفَاءَهَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهَا وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْمَالِكُ ، وَلَكِنْ قَالَ لِي : عِنْدَك وَدِيعَةٌ فَأَنْكَرَ لَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِخْفَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَلَوْ جَحَدَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ ثُمَّ قَالَ : كُنْتُ غَلِطْتُ أَوْ نَسِيتُ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ .

.
فَائِدَةٌ : سُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ وَدِيعَةٌ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ ، فَقَالَ : يَصْرِفُهَا فِي أَهَمِّ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقَدِّمُ أَهْلَ الضَّرُورَةِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَبْنِي بِهَا مَسْجِدًا ، وَلَا يَصْرِفُهَا إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ صَرْفُهَا فِيهِ ، وَإِنْ جَهِلَهُ فَلْيَسْأَلْ أَوْرَعَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْوَاجِبَةِ التَّقْدِيمِ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ تَنَازَعَا الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ بِأَنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَصَدَّقَ الْوَدِيعُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَلِلْآخِرِ تَحْلِيفُهُ ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى الْآخَرِ ، وَإِنْ نَكِلَ حَلَفَ الْآخَرُ وَغَرِمَ لَهُ الْوَدِيعُ الْقِيمَةَ ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا فَالْيَدُ لَهُمَا وَالْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ قَالَ : هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَنَسِيتُهُ وَكَذَّبَاهُ فِي النِّسْيَانِ ضَمِنَ كَالْغَاصِبِ ، وَالْغَاصِبُ إذَا قَالَ الْمَغْصُوبُ لِأَحَدِكُمَا وَأُنْسِيتُهُ فَحَلَفَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ تَعَيَّنَ الْمَغْصُوبُ لِلْآخَرِ بَلَا يَمِينٍ ، وَلَوْ ادَّعَى الْوَارِثُ عِلْمَ الْوَدِيعِ بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، فَإِنْ نَكِلَ حَلَفَ الْوَارِثُ وَأَخَذَهَا ، وَإِنْ قَالَ الْوَدِيعُ : حَبَسْتُهَا عِنْدِي لِأَنْظُرَ هَلْ أَوْصَى بِهَا مَالِكُهَا أَمْ لَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ ضَامِنٌ ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَرَقَةً مَكْتُوبَةً فِيهَا الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ وَتَلِفَتْ بِتَقْصِيرٍ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مَكْتُوبَةً وَأُجْرَةَ الْكِتَابَةِ كَذَا قَالَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ الْوَرَقَةَ الْمَكْتُوبَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فَإِذَا تَلِفَتْ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا وَلَا نَظَرَ لِأُجْرَةِ الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَلَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ثَوْبًا مُطَرَّزًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَأُجْرَةَ التَّطْرِيزِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ ، وَالْغَاصِبُ إنَّمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ فَقَطْ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَالصَّوَابُ لُزُومُهَا فَقَطْ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّطْرِيزَ يُزِيدُ قِيمَةَ الثَّوْبِ غَالِبًا ، وَلَا كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْقِصُهَا ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِ الْكَامِلِ وَغَيْرِهِ .

كِتَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْفَيْءُ : مَالٌ حَصَلَ مِنْ كُفَّارٍ بَلَا قِتَالٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ كَجِزْيَةٍ وَعُشْرِ تِجَارَةٍ وَمَا جَلَوْا عَنْهُ خَوْفًا وَمَالِ مُرْتَدٍّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ وَذِمِّيٍّ مَاتَ بَلَا وَارِثٍ فَيُخَمَّسُ .

كِتَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ هَذَا شَطْرُ بَيْتٍ مَوْزُونٍ ، وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمْتُ الشَّيْءَ ، وَالْفَيْءُ مَصْدَرُ فَاءَ يَفِيءُ إذَا رَجَعَ ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَالِ الرَّاجِعِ مِنْ الْكُفَّارِ إلَيْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ ، وَالْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ .
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي الْمَحَاسِنِ : سُمِّيَ الْفَيْءُ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَتِهِ ، فَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ عَصَاهُ وَسَبِيلُهُ الرَّدُّ إلَى مَنْ يُطِيعُهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الْغَنِيمَةَ أَيْضًا فَلِذَلِكَ قِيلَ اسْمُ الْفَيْءِ يَشْمَلُهَا دُونَ الْعَكْسِ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : يُسَنُّ وَسْمُ نَعَمِ الْفَيْءِ ، وَقِيلَ : اسْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا افْتَرَقَا كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ ، وَالْمَشْهُورُ تَغَايُرُهُمَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْغَنِيمَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ مِنْ الْغُنْمِ وَهُوَ الرِّبْحُ اُسْتُعْمِلَتْ شَرْعًا فِي رِبْحٍ مِنْ الْكُفَّارِ خَاصٍّ ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا فَضْلٌ وَفَائِدَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [ الْحَشْر ] وقَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الْأَنْفَال ] الْآيَتَيْنِ ، وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ { وَقَدْ فَسَّرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بَلْ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ إذَا غَنِمُوا مَالًا جَمَعُوهُ فَتَأْتِي نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ تَأْخُذُهُ ، ثُمَّ أُحِلَّتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَاتِلِينَ كُلِّهِمْ نُصْرَةً وَشَجَاعَةً بَلْ أَعْظَمُ يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا

ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَأْتِي ، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ هَذَا الْكِتَابَ بَعْدَ كِتَابِ الْجِهَادِ ، وَهُوَ أَنْسَبُ .
وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا اقْتِدَاءً بِالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ ، فَقَالَ : ( الْفَيْءُ : مَالٌ ) أَوْ نَحْوُهُ كَكَلْبٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ( حَصَلَ ) لَنَا ( مِنْ كُفَّارٍ ) مِمَّا هُوَ لَهُمْ ( بَلَا قِتَالٍ وَ ) لَا ( إيجَافِ ) أَيْ إسْرَاعِ ( خَيْلٍ وَ ) لَا سَيْرِ ( رِكَابٍ ) أَيْ إبِلٍ وَنَحْوِهَا كَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ وَسُفُنٍ وَرَجَّالَةٍ ، وَخَرَجَ بِزِيَادَةِ لَنَا مَا حَصَّلَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُنْزَعُ مِنْهُمْ وَبِزِيَادَةِ مِمَّا هُوَ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّا لَمْ نَمْلِكْهُ بَلْ يُرَدُّ عَلَى مَالِكِهِ إنْ عُرِفَ وَإِلَّا فَيُحْفَظُ .
تَنْبِيهٌ : اعْتَبَرَ الْمُصَنِّفُ فِي حُصُولِ الْفَيْءِ انْتِفَاءَ الْقِتَالِ وَإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَبِانْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ ، وَالْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ كَافٍ فِي حُصُولِ اسْمِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يَكُونُ فَيْئًا حَتَّى تَنْتَفِيَ الثَّلَاثَةُ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : وَلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ .
وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَاوَ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى أَوْ أَيْ الْفَيْءُ مَا حَصَلَ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَالْأَعَمُّ إذَا انْتَفَى يَنْتَفِي الْأَخَصُّ لِانْتِفَاءِ الْإِنْسَانِ بِانْتِفَاءِ الْحَيَوَانِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فِي حَدِّ الْغَنِيمَةِ .
وَأَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ فِي حَدِّ الْفَيْءِ فَالْوَاوُ عَلَى بَابِهَا ، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا مَرَّ ، وَهَذَا أَظْهَرُ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْوَاعًا سِتَّةً مِنْ الْفَيْءِ أَشَارَ لَهَا بِقَوْلِهِ : ( كَجِزْيَةٍ وَعُشْرِ تِجَارَةٍ ) مِنْ

كُفَّارٍ شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ إذَا دَخَلُوا دَارَنَا ، وَخَرَاجٍ ضُرِبَ عَلَيْهِمْ عَلَى اسْمِ جِزْيَةٍ ( وَمَا جَلَوْا ) أَيْ تَفَرَّقُوا ( عَنْهُ خَوْفًا ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ ( وَمَالِ مُرْتَدٍّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ ) عَلَى الرِّدَّةِ ( وَذِمِّيٍّ ) أَوْ نَحْوِهِ ( مَاتَ بَلَا وَارِثٍ ) أَوْ تَرَكَ وَارِثًا غَيْرَ حَائِزٍ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا التَّعْرِيفُ لَيْسَ بِجَامِعٍ فَإِنَّ الْمَالَ يُخْرِجُ الِاخْتِصَاصَاتِ مَعَ أَنَّهَا فَيْءٌ كَمَا مَرَّ ، فَلَوْ قَالَ : مَا حَصَلَ كَانَ أَوْلَى ، وَلَيْسَ بِمَانِعٍ لِدُخُولِ مَا حَصَلَ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلُقَطَةٍ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ لَا فَيْءٌ وَمَا أَهْدَوْهُ لَنَا فِي غَيْرِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ بَلْ هُوَ لِمَنْ أَهْدَى لَهُ ، وَأَمَّا مَا أَهْدَوْهُ لَنَا وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَمَا سَيَأْتِي ، وَلَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْخَوْفِ لَكَانَ أَوْلَى لِيَدْخُلَ الْمَالُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ لِضُرٍّ أَصَابَهُمْ أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ بَلَا قِتَالٍ فَإِنَّهُ فَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ .
ثُمَّ أَشَارَ لِحُكْمِ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ : ( فَيُخَمَّسُ ) جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ مُتَسَاوِيَةٍ كَالْغَنِيمَةِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ قَالُوا : لَا يُخَمَّسُ بَلْ جَمِيعُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
لَنَا قَوْله تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } الْآيَةَ ، فَأَطْلَقَ هَهُنَا ، وَقَيَّدَ فِي الْغَنِيمَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ رُجُوعُ الْمَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ بِالْقِتَالِ وَعَدَمِهِ كَمَا حَمَلْنَا الرَّقَبَةَ فِي الظِّهَارِ عَلَى الْمُؤْمِنَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَخُمْسَ خُمْسِهِ ، وَلِكُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُ فِي الْآيَةِ خُمْسُ خُمْسٍ .
وَأَمَّا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصْرَفُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ خُمْسِ

الْخُمْسِ لِمَصَالِحِنَا ، وَمِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لِلْمُرْتَزِقَةِ كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ .

وَخُمْسُهُ لِخَمْسَةٍ : أَحَدُهَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ كَالثُّغُورِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ ، وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ يَشْتَرِكُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَالنِّسَاءُ وَيُفَضَّلُ الذَّكَرُ كَالْإِرْثِ ، وَالثَّالِثُ الْيَتَامَى ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ ، وَيُشْتَرَطُ فَقْرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ ، وَيَعُمُّ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ ، وَقِيلَ يُخَصُّ بِالْحَاصِلِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ فِيهَا مِنْهُمْ ، وَأَمَّا الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ ، وَهُمْ الْأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ

( وَخُمْسُهُ ) أَيْ الْفَيْءِ ( لِخَمْسَةٍ ) فَالْقِسْمَةُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ( أَحَدُهَا : مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ ) فَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ لِكَافِرٍ ، ثُمَّ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ لِلْمَصَالِحِ بِقَوْلِهِ : ( كَالثُّغُورِ ) جَمْعُ ثَغْرٍ : أَيْ سَدُّهَا وَشَحْنُهَا بِالْعَدَدِ .
وَالْمُقَاتِلَةُ ، وَهِيَ مَوَاضِعُ الْخَوْفِ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَلِيهَا بِلَادُ الْمُشْرِكِينَ فَيَخَافُ أَهْلُهَا مِنْهُمْ ، وَكَعَمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْحُصُونِ ( وَ ) أَرْزَاقِ ( الْقُضَاةِ ) الْأَئِمَّةِ ( وَالْعُلَمَاءِ ) بِعُلُومٍ تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَطَلَبَةِ هَذِهِ الْعُلُومِ تَنْبِيهٌ : نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْعُلَمَاءِ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ وَمُعَلِّمِي الْقُرْآنِ وَالْمُؤَذِّنِينَ ؛ لِأَنَّ الثُّغُورَ حِفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلِئَلَّا يَتَعَطَّلَ مَنْ ذُكِرَ بِالِاكْتِسَابِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَعَنْ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فَيُرْزَقُونَ مَا يَكْفِيهِمْ لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ : تُعْطَى الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ مَعَ الْغِنَى وَقَدْرُ الْمُعْطَى إلَى رَأْيِ السُّلْطَانِ بِالْمَصْلَحَةِ ، وَيَخْتَلِفُ بِضِيقِ الْمَالِ وَسَعَتِهِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَيُعْطَى أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الْكَسْبِ لَا مَعَ الْغِنَى ، وَالْمُرَادُ بِالْقُضَاةِ غَيْرُ قُضَاةِ الْعَسْكَرِ .
أَمَّا قُضَاتُهُمْ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي مَغْزَاهُمْ فَيُرْزَقُونَ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
قَالَ : وَكَذَا أَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنُوهُمْ وَعُمَّالُهُمْ ( يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ ) فَالْأَهَمُّ مِنْهَا وُجُوبًا ، وَأَهَمُّهَا كَمَا فِي التَّنْبِيهِ سَدُّ الثُّغُورِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهٌ : قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : لَوْ لَمْ يَدْفَعْ السُّلْطَانُ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ

، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ وَلَا يَدْرِي قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهُ .
قَالَ : وَهَذَا غُلُوٌّ ، وَالثَّانِي : يَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ قُوتَ يَوْمٍ ، وَالثَّالِثُ : يَأْخُذُ كِفَايَةَ سَنَةٍ ، وَالرَّابِعُ : يَأْخُذَ مَا يُعْطَى وَهُوَ حِصَّتُهُ .
قَالَ : وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالْمِيرَاثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُمْ ، حَتَّى لَوْ مَاتُوا قُسِّمَ بَيْنَ وَرَثَتِهِمْ ، وَهُنَا لَوْ مَاتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَارِثُهُ شَيْئًا ا هـ .
وَأَقَرَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَلَى هَذَا الرَّابِعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَفِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ : لَوْ غَصَبَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَخَلَطَ الْجَمِيعَ ثُمَّ فَرَّقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الْمُخْتَلِطِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَجَدَ قَدْرَ حِصَّتِهِ ، فَإِنْ فَرَّقَ عَلَى بَعْضِهِمْ فَلِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْبَاقِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ ا هـ .
وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْغَصْبِ ( وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ ) بَنُو ( الْمُطَّلِبِ ) وَمِنْهُمْ إمَامُنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَهُمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْمُرَادُ بِذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَادَ عَبْدِ مَنَافٍ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَسْمِ عَلَى بَنِي الْأَوَّلِينَ مَعَ سُؤَالِ بَنِي الْآخِرِينَ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ نَصَرُوهُ وَذَبُّوا عَنْهُ ، بِخِلَافِ بَنِي الْآخَرِينَ بَلْ كَانُوا يُؤَذُّونَهُ ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أَشِقَّاءُ ، وَنَوْفَلٌ أَخُوهُمْ

لِأَبِيهِمْ ، وَعَبْدُ شَمْسٍ هُوَ جَدُّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالْعِبْرَةُ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْآبَاءِ .
أَمَّا مَنْ انْتَسَبَ مِنْهُمْ إلَى الْأُمَّهَاتِ فَلَا ، كَذَا قَالَاهُ ، وَاسْتَثْنَى السُّبْكِيُّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ بِنْتِهِ زَيْنَبَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ مِنْ بِنْتِهِ رُقَيَّةَ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى بَلَا شَكٍّ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَهُمْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ ، فَيَنْبَغِي الضَّبْطُ بِقَرَابَةِ هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لَا بَيْنَهُمَا ا هـ .
وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَثْنَى أَوْلَادُ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْأُمَّهَات ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّحُوهُ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِسَابُ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ .
وَأَجَابَ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ تُوُفِّيَا صَغِيرَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا نَسْلٌ فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِمَا ا هـ .
فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِثْنَاءِ السُّبْكِيّ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي عِبَارَتِهِ غَيْرُ الْمُرَادِ ، فَإِنَّ قَرَابَةَ هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ أَعَمُّ مِنْ فُرُوعِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ( يَشْتَرِكُ ) فِي خُمُسِ الْخُمُسِ ( الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ) لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ ، وَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ مِنْهُ ، وَكَانَ مِنْ أَغْنِيَاءِ قُرَيْشٍ ( وَالنِّسَاءُ ) لِأَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْفَعُ لِلسَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُ ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ لَمْ يُدْفَعْ لِلنِّسَاءِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الصَّرْفِ لِلذُّكُورِ ، فَإِنَّ " ذُو " اسْمٌ مُذَكَّرٌ وَجَعْلَهُ لِلشَّخْصِ الَّذِي يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ قَالَهُ السُّبْكِيُّ ( وَ ) لَكِنْ (

يُفَضَّلُ الذَّكَرُ ) وَلَوْ صَغِيرًا عَنْ الْأُنْثَى ، فَلَهُ سَهْمَانِ وَلَهَا سَهْمٌ فَإِنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - يَسْتَحِقُّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى ، وَلَا يُوقَفُ لَهُ شَيْءٌ ا هـ .
بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ تَمَامُ نَصِيبِ الذَّكَرِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ( كَالْإِرْثِ ) وَحَكَى الْإِمَامُ فِي أَنَّ الذَّكَرَ يُفَضَّلُ عَلَى الْأُنْثَى إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ التَّسْوِيَةُ .
تَنْبِيهٌ : عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ كَالْإِرْثِ أَنَّهُمْ لَوْ أَعْرَضُوا عَنْ سَهْمِهِمْ لَمْ يَسْقُطْ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي السِّيَرِ ، وَمِنْ إطْلَاقِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجِبْ تَعْمِيمُهُمْ ، وَأَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ مُدْلٍ بِجِهَتَيْنِ وَمُدْلٍ بِجِهَةٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ، وَأَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ كَبِيرٌ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا قَرِيبٌ عَلَى بَعِيدٍ وَلَا حَاضِرٌ بِمَوْضِعِ الْفَيْءِ عَلَى غَائِبٍ عَنْهُ ( وَالثَّالِثُ الْيَتَامَى ) لِلْآيَةِ جَمْعُ يَتِيمٍ ( وَهُوَ صَغِيرٌ ) ذَكَرٌ أَوْ خُنْثَى أَوْ أُنْثَى لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ ( لَا أَبَ لَهُ ) أَمَّا كَوْنُهُ صَغِيرًا فَلِخَبَرِ : { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَحَسَّنَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ .
أَمَّا كَوْنُهُ لَا أَبَ لَهُ فَلِلْوَضْعِ وَالْعُرْفِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَزِقَةِ أَمْ لَا ، قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ أَمْ لَا ، لَهُ جَدٌّ أَمْ لَا .
وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ هِيَ الَّتِي لَا جَدَّ لَهَا ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْيَتِيمَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ هِيَ الَّتِي لَا تُزَوَّجُ إلَّا فِي صِغَرِهَا فَإِنَّ الْجَدَّ يُزَوِّجُهَا ، فَلَا يُنَافِي مَا هُنَا ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُهُ بَلَا شَكٍّ تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَيِّدَ الْيَتِيمَ بِالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ أَيْتَامَ الْكُفَّارِ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ

سَهْمِ الْيَتَامَى شَيْئًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِذَلِكَ ، وَيَنْدَرِجُ فِي تَفْسِيرِهِمْ الْيَتِيمَ وَلَدُ الزِّنَا وَاللَّقِيطُ وَالْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ ، وَلَا يُسَمَّوْنَ أَيْتَامًا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا أَبَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يُوصَفُ بِالْيُتْمِ ، وَاللَّقِيطُ قَدْ يَظْهَرُ أَبُوهُ ، وَالْمَنْفِيُّ بِلِعَانٍ قَدْ يَسْتَلْحِقُهُ نَافِيهِ .
وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى .
فَائِدَةٌ : يُقَالُ لِمَنْ فَقَدَ أُمَّهُ دُونَ أَبِيهِ مُنْقَطِعٌ ، وَالْيَتِيمُ فِي الْبَهَائِمِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ ، وَفِي الطَّيْرِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ وَأَبَاهُ ( وَيُشْتَرَطُ ) فِي إعْطَاءِ الْيَتِيمِ لَا فِي تَسْمِيَتِهِ يَتِيمًا ( فَقْرُهُ ) الْآتِي تَعْرِيفُهُ فِي الْكِتَابِ الْآتِي الشَّامِلُ لِمَسْكَنَتِهِ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِإِشْعَارِ لَفْظِ الْيُتْمِ بِهِ ، وَلِأَنَّ اغْتِنَاءَهُ بِمَالِ أَبِيهِ إذَا مُنِعَ اسْتِحْقَاقُهُ فَاغْتِنَاؤُهُ بِمَالِهِ أَوْلَى بِمَنْعِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ لِدُخُولِهِ فِي الْفُقَرَاءِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ عَدَمُ حِرْمَانِهِ ( وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْمَسَاكِينُ ) الشَّامِلُونَ لِلْفُقَرَاءِ ( وَابْنُ السَّبِيلِ ) لِلْآيَةِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا ، وَيُشْتَرَطُ فِي ابْنِ السَّبِيلِ الْفَقْرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ الِاشْتِرَاطِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَسَاكِينِ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنْ الْخُمْسِ وَحَقِّهِمْ مِنْ الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ يُتْمٌ وَمَسْكَنَةٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ ؛ لِأَنَّ الْيُتْمَ وَصْفٌ لَازِمٌ

وَالْمَسْكَنَةَ زَائِلَةٌ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْيُتْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَقْرٍ وَمَسْكَنَةٍ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَازِي مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لَا يَأْخُذَ بِالْغَزْوِ بَلْ بِالْقَرَابَةِ فَقَطْ .
لَكِنْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّهُ يَأْخُذَ بِهِمَا ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَزْوِ وَالْمَسْكَنَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْغَزْوِ لِحَاجَتِنَا وَبِالْمَسْكَنَةِ لِحَاجَةِ صَاحِبِهَا ( وَيَعُمُّ ) الْإِمَامُ وَلَوْ بِنَائِبِهِ ( الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ ) بِالْعَطَاءِ وُجُوبًا غَائِبُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ الْفَيْءِ وَحَاضِرُهُمْ .
نَعَمْ يُجْعَلُ مَا فِي كُلِّ إقْلِيمٍ لِسَاكِنِيهِ ، فَإِنْ عَدِمَهُ بَعْضُ الْأَقَالِيمِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِهَا شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبْهُمْ السَّهْمُ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِمَنْ فِيهِ إذَا وُزِّعَ عَلَيْهِمْ نُقِلَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ كَمَا فِي الزَّكَاةِ كَمَا جَزَمَا بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ الْيَتَامَى وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْحَاجَةِ فَتُرَاعَى حَاجَتُهُمْ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْقَرَابَةِ كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ يَسِيرًا لَا يَسُدُّ مَسَدًّا بِالتَّوْزِيعِ قُدِّمَ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ وَلَا يُسْتَوْعَبُ لِلضَّرُورَةِ وَتَصِيرُ الْحَاجَةُ مُرَجَّحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَمَنْ فُقِدَ مِنْ الْأَصْنَافِ أُعْطِيَ الْبَاقُونَ نَصِيبَهُ كَمَا فِي الزَّكَاةِ إلَّا سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ كَمَا مَرَّ ، وَيُصَدَّقُ مُدَّعِي الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ بِلَا بَيِّنَةٍ وَإِنْ اُتُّهِمَ ، وَلَا يُصَدَّقُ مُدَّعِي الْيُتْمِ وَلَا مُدَّعِي الْقَرَابَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ( وَقِيلَ : يُخَصُّ بِالْحَاصِلِ ) مِنْ مَالِ الْفَيْءِ (

فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ فِيهَا مِنْهُمْ ) كَالزَّكَاةِ وَلِمَشَقَّةِ النَّقْلِ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى حِرْمَانِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ ( وَأَمَّا الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ ) الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمُومَةً إلَى خُمْسِ الْخُمْسِ ( فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ ) لِعَمَلِ الْأَوَّلِينَ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصُولِ النُّصْرَةِ بِهِ كَمَا مَرَّ ، وَالْمُقَاتِلُونَ بَعْدَهُ هُمْ الْمُرْصَدُونَ لَهَا كَمَا قَالَ ( وَهُمْ الْأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ ) بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ لَهُمْ ، سُمُّوا مُرْتَزِقَةً ؛ لِأَنَّهُمْ أَرْصَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِلذَّبِّ عَنْ الدِّينِ وَطَلَبُوا الرِّزْقَ مِنْ مَالِ اللَّهِ ، وَخَرَجَ بِهِمْ الْمُتَطَوِّعَةُ وَهُمْ الَّذِينَ يَغْزُونَ إذَا نَشَطُوا ، فَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ لَا مِنْ الْفَيْءِ عَكْسُ الْمُرْتَزِقَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا لِلْمَصَالِحِ كَخُمْسِ الْخُمْسِ ، وَأَهَمُّهَا الْمُرْتَزِقَةُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ لَمْ يَفِ الْمَالُ بِحَاجَةِ الْمُرْتَزِقَةِ وَهُمْ فُقَرَاءُ صَرَفَ الْإِمَامُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ .

فَيَضَعُ الْإِمَامُ دِيوَانًا ، وَيُنَصِّبُ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ عَرِيفًا وَيَبْحَثُ عَنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَعِيَالِهِ وَمَا يَكْفِيهِمْ فَيُعْطِيهِ كِفَايَتَهُمْ وَيُقَدِّمُ فِي إثْبَاتِ الِاسْمِ وَالْإِعْطَاءِ قُرَيْشًا ، وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ، وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ ثُمَّ عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ نَوْفَلٍ ثُمَّ عَبْدِ الْعُزَّى ثُمَّ سَائِرَ الْبُطُونِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْأَنْصَارَ ، ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ ، ثُمَّ الْعَجَمَ وَلَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ أَعْمَى وَلَا زَمِنًا وَلَا مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ ، وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُهُ أُعْطِيَ ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْطَى ، وَكَذَا زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ إذَا مَاتَ فَتُعْطَى الزَّوْجَةُ حَتَّى تُنْكَحَ وَالْأَوْلَادُ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا .

وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ لِلْمُرْتَزِقَةِ ( فَيَضَعُ الْإِمَامُ ) لَهُمْ ( دِيوَانًا ) نَدْبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ ، وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُ الرَّوْضَةِ الْوُجُوبَ ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا الدَّفْتَرُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَقَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ ، وَيُطْلَقُ الدِّيوَانُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ لِلْكِتَابَةِ ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَقِيلَ : أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ كِسْرَى ؛ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى دِيوَانِهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ دِيوَانُهُ : أَيْ مَجَانِينَ .
ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاءُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ تَخْفِيفًا .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَاسْتُحْسِنَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } ( وَيُنْصَبُ ) نَدْبًا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ ( لِكُلِّ قَبِيلَةٍ ) مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ ( أَوْ جَمَاعَةٍ ) مِنْهُمْ ( عَرِيفًا ) لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ ، وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ وَيُعَرِّفَهُ بِأَحْوَالِهِمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ : ارْجِعُوا حَتَّى أَسْأَلَ عُرَفَاءَكُمْ } وَكَانَ قَدْ عَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا ، وَزَادَ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : وَيُنَصِّبُ الْإِمَامُ صَاحِبَ جَيْشٍ وَهُوَ يُنَصِّبُ النُّقَبَاءَ وَكُلُّ نَقِيبٍ يُنَصِّبُ الْعُرَفَاءَ ، وَكُلُّ عَرِيفٍ يُحِيطُ بِأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصِينَ بِهِ ، فَيَدْعُو الْإِمَامُ صَاحِبَ الْجَيْشِ ، وَهُوَ يَدْعُو النُّقَبَاءَ ، وَكُلُّ نَقِيبٍ يَدْعُو الْعُرَفَاءَ الَّذِينَ تَحْتَ رَايَتِهِ ، وَكُلُّ عَرِيفٍ

يَدْعُو مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ ، وَالْعَرِيفُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ مَنَاقِبَ الْقَوْمِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ الْجَنَّةِ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ رُءُوسُ أَهْلِهَا ( وَيَبْحَثُ ) الْإِمَامُ وُجُوبًا ( عَنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ ) مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ ( وَ ) عَنْ ( عِيَالِهِ ) وَهُمْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ أَوْلَادٍ وَزَوْجَاتٍ وَرَقِيقٍ لِحَاجَةِ غَزْوٍ أَوْ لِخِدْمَةٍ إنْ اعْتَادَهَا ، لَا رَقِيقُ زِينَةٍ وَتِجَارَةٍ ( وَمَا يَكْفِيهِمْ فَيُعْطِيهِ ) كِفَايَتَهُ وَ ( كِفَايَتَهُمْ ) مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ ، وَيُرَاعَى فِي الْحَاجَةِ حَالُهُ فِي مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ وَالرُّخْصُ وَالْغَلَاءُ وَعَادَةُ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ ، وَيُزَادُ إنْ زَادَتْ حَاجَتُهُ بِزِيَادَةِ وَلَدٍ وَحُدُوثِ زَوْجَةٍ فَأَكْثَرَ وَمَا لَا رَقِيقَ لَهُ يُعْطَى مِنْ الرَّقِيقِ مَا يَحْتَاجُهُ لِلْقِتَالِ مَعَهُ أَوْ لِخِدْمَتِهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُخْدَمُ وَيُعْطَى مُؤْنَتُهُ ، وَمَنْ يُقَاتِلُ فَارِسًا وَلَا فَرَسَ لَهُ يُعْطَى مِنْ الْخَيْلِ مَا يَحْتَاجُهُ لِلْقِتَالِ ، وَيُعْطَى مُؤْنَتُهُ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ يُعْطَى لَهُنَّ مُطْلَقًا لِانْحِصَارِهِنَّ فِي أَرْبَعٍ .
ثُمَّ مَا يُدْفَعُ إلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الْمِلْكُ فِيهِ لَهُمَا حَاصِلٌ مِنْ الْفَيْءِ ، وَقِيلَ : يَمْلِكُهُ هُوَ وَيَصِيرُ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَسَبٍ عَرِيقٍ وَسَبْقٍ فِي الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْخِصَالِ الْمَرَضِيَّةِ وَإِنْ اتَّسَعَ الْمَالُ ، بَلْ يَسْتَوُونَ كَالْإِرْثِ وَالْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِسَبَبِ تَرَصُّدِهِمْ لِلْجِهَادِ وَكُلُّهُمْ مُتَرَصِّدُونَ لَهُ ( وَيُقَدَّمُ ) نَدْبًا ( فِي إثْبَاتِ الِاسْمِ ) فِي الدِّيوَانِ ( وَ ) فِي ( الْإِعْطَاءِ ) أَيْضًا ( قُرَيْشًا ) عَلَى غَيْرِهِمْ ، لِخَبَرِ { : قَدِّمُوا قُرَيْشًا } ، وَلِشَرَفِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ

بْنِ كِنَانَةَ ) أَحَدُ أَجْدَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَقَرُّشِهِمْ وَهُوَ تَجَمُّعُهُمْ ، وَقِيلَ : لِشِدَّتِهِمْ ( وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ ) أَيْ قُرَيْشٍ ( بَنِي هَاشِمٍ ) وَهُوَ جَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي .
سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَهْشِمُ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ( وَ ) يُقَدِّمُ مِنْهُمْ أَيْضًا بَنِي ( الْمُطَّلِبِ ) شَقِيقَ هَاشِمٍ .
تَنْبِيهٌ : عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَنِي الْمُطَّلِبِ بِالْوَاوِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْمُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( ثُمَّ ) بَنِي ( عَبْدِ شَمْسٍ ) لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ ( ثُمَّ ) بَنِي ( نَوْفَلٍ ) لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ عَبْدِ مُنَافٍ ( ثُمَّ ) بَنِي ( عَبْدِ الْعُزَّى ) لِمَكَانِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أَصْهَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ( ثُمَّ سَائِرَ الْبُطُونِ ) أَيْ بَاقِيهَا مِنْ قُرَيْشٍ ( الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَعْدَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ .
ثُمَّ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ بَنِي تَيْمٍ لِمَكَانِ عَائِشَةَ وَأَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ يُقَدِّمُ بَنِي مَخْزُومٍ .
ثُمَّ بَنِي عَدِيٍّ لِمَكَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
ثُمَّ بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ فَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي .
ثُمَّ بَنِي عَامِرٍ .
ثُمَّ بَنِي الْحَارِثِ ( ثُمَّ ) بَعْدَ قُرَيْشٍ يُقَدِّمُ ( الْأَنْصَارَ )

لِآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا تَقْدِيمُ الْأَوْسِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَهُمْ أَبْنَاءُ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ( ثُمَّ ) بَعْدَ الْأَنْصَارِ يُقَدِّمُ ( سَائِرَ ) أَيْ بَاقِيَ ( الْعَرَبِ ) وَمِنْهُمْ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ لَا قَرَابَةَ لَهُمْ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِخِلَافِهِ ، فَقَالَ : بَعْدَ الْأَنْصَارِ مُضَرُ ، ثُمَّ رَبِيعَةُ ، ثُمَّ وَلَدُ عَدْنَانَ ، ثُمَّ وَلَدُ قَحْطَانَ ، فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَقُرَيْشٍ ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ بِالدِّينِ ، ثُمَّ بِالسِّنِّ ، ثُمَّ بِالْهِجْرَةِ ، ثُمَّ بِالشَّجَاعَةِ ثُمَّ بِرَأْيِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُقْرِعَ ، وَأَنْ يُقَدِّمَ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ( ثُمَّ ) يُقَدِّمُ بَعْدَ الْعَرَبِ ( الْعَجَمَ ) وَقُدِّمَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَأَشْرَفُ ، وَالتَّقْدِيمُ فِيهِمْ إنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى نَسَبٍ بِالْأَجْنَاسِ كَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَبِالْبُلْدَانِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُمْ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا وَإِلَّا فَبِالْقُرْبِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ، ثُمَّ بِالسَّبْقِ إلَى طَاعَتِهِ ، فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى نَسَبٍ اُعْتُبِرَ فِيهِمْ قُرْبُهُ وَبُعْدُهُ كَالْعَرَبِ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا اعْتِبَارُ السِّنِّ ، ثُمَّ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ الشَّجَاعَةِ ، ثُمَّ رَأْيِ وَلِيِّ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْعَرَبِ ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ مُسْتَحَبٌّ لَا مُسْتَحَقٌّ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ فِي الْمَطْلَبِ ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ فِي الدِّيوَانِ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ الْبَصِيرُ

الْقَادِرُ عَلَى الْقِتَالِ الْعَارِفُ بِهِ ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ ) شَخْصًا ( أَعْمَى وَلَا زَمِنًا ) وَلَا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا مَجْنُونًا وَلَا كَافِرًا ، وَقَوْلُهُ : ( وَلَا مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ ) كَأَقْطَعَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَفَى ، وَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْرَسِ وَالْأَصَمِّ ، وَكَذَا الْأَعْرَجِ إنْ كَانَ فَارِسًا وَإِلَّا فَلَا ، وَيُمَيَّزُ الْمَجْهُولُ بِصِفَةٍ فَيُذْكَرُ نَسَبُهُ وَسِنُّهُ وَلَوْنُهُ ، وَيُحْكَى وَجْهُهُ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ ( وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُهُ ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَإِنْ طَالَ زَمَنُهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ( أُعْطِيَ ) جَزْمًا كَصَحِيحٍ وَيَبْقَى اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ عَارِضٍ فَرُبَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ عَنْ الْجِهَادِ وَيُقْبِلُوا عَلَى الْكَسْبِ لِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ( فَإِنْ لَمْ يُرْجَ ) زَوَالُهُ ( فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْطَى ) أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَلَكِنْ يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ الدِّيوَانِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إبْقَائِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ لِأَجْلِ فَرَسِهِ وَقِتَالِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ اللَّائِقَةَ بِهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ ، وَالثَّانِي : لَا يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ أَيْ لَا يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا ، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ فِي إعْطَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
أَمَّا الْمَاضِي فَيُعْطَاهُ جَزْمًا ( وَكَذَا ) تُعْطَى ( زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ ) الَّذِينَ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ فِي حَيَاتِهِ ( إذَا مَاتَ ) بَعْدَ أَخْذِ نَصِيبِهِ فِي الْأَظْهَرِ لِئَلَّا يُشْغَلَ النَّاسُ بِالْكَسْبِ عَنْ الْجِهَادِ إذَا

عَلِمُوا ضَيَاعَ عِيَالِهِمْ بَعْدَهُمْ .
تَنْبِيهٌ : إفْرَادُهُ الزَّوْجَةَ وَجَمْعُهُ الْأَوْلَادَ يُوهِمُ اعْتِبَارَ الْوَحْدَةِ فِي الزَّوْجَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ تُعْطَى الزَّوْجَاتُ وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا ، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوْلَادِ يُوهِمُ عَدَمَ الدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ كَالْوَالِدَيْنِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَقَدْ نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ قَضِيَّةِ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ الْإِعْطَاءَ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَوْ كَانَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ : أَيْ وَالزَّوْجَةِ كُفَّارًا هَلْ يُعْطَوْنَ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ ا هـ .
لَكِنَّ قَضِيَّةَ إطْلَاقِهِمْ إعْطَاؤُهُمْ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ إذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِمْ الْإِسْلَامَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ قَدْرَ مَا يُعْطَوْنَ ، وَالْمُرَادُ مَا يَلِيقُ بِهِمْ لَا مَا كَانَ لِلْمُرْتَزِقِ أَخَذَهُ وَالثَّانِي : لَا يُعْطَوْنَ لِزَوَالِ تَبَعِيَّتِهِمْ لَهُ ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ ( فَتُعْطَى الزَّوْجَةُ حَتَّى تُنْكَحَ ) وَكَذَا الزَّوْجَاتُ كَمَا مَرَّ لِاسْتِغْنَائِهَا بِالزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الثَّانِي مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ قَرَّرَ لَهَا كِفَايَتَهَا تَبَعًا لَهُ ، وَلَوْ اسْتَغْنَتْ الزَّوْجَةُ بِكَسْبٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِهِ ، كَوَصِيَّةٍ لَمْ تُعْطَ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَسْبِ ، وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِالْبَاقِي ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ كَالزَّوْجَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : حَتَّى تُنْكَحَ يَقْتَضِي أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ أَيْ وَلَمْ تَسْتَغْنِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّهَا تُعْطَى إلَى الْمَوْتِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ التَّزْوِيجِ مَعَ رَغْبَةِ الْأَكْفَاءِ فِيهَا أَنَّهَا تُعْطَى وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا وَإِنْ نُظِرَ فِيهِ ( وَ ) تُعْطَى ( الْأَوْلَادُ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا ) بِكَسْبٍ أَوْ نَحْوِهِ ، كَوَصِيَّةٍ أَوْ يَقْدِرُ الذُّكُورُ عَلَى الْغَزْوِ ، فَمَنْ أَحَبَّ إثْبَاتَ اسْمِهِ

فِي الدِّيوَانِ أُثْبِتَ وَإِلَّا قُطِعَ ، فَإِذَا بَلَغَ عَاجِزًا لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَكَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ تَزَوَّجَ الْإِنَاثَ .
.

تَنْبِيهٌ : اسْتَنْبَطَ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفَقِيهَ أَوْ الْمُعِيدَ أَوْ الْمُدَرِّسَ إذَا مَاتَ تُعْطَى زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ مِمَّا كَانَ يَأْخُذُ مَا يَقُومُ بِهِمْ تَرْغِيبًا فِي الْعِلْمِ كَالتَّرْغِيبِ هُنَا فِي الْجِهَادِ ، فَإِنْ فَضُلَ الْمَالُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ صُرِفَ إلَى مَنْ يَقُومُ بِالْوَظِيفَةِ .
قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا تَعْطِيلٌ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ إذَا اشْتَرَطَ مُدَرِّسًا بِصِفَةٍ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ .
قُلْنَا : قَدْ حَصَلَتْ الصِّفَةُ مُدَّةً مِنْ أَبِيهِمْ وَالصَّرْفُ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، وَمُدَّتُهُمْ مُغْتَفَرَةٌ فِي جَنْبِ مَا مَضَى كَزَمَنِ الْبَطَالَةِ ، وَلَا يَقْدَحُ تَقْرِيرُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ وَنَحْوُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِوِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ تَقْرِيرُ مَنْ لَا يَصْلُحُ ابْتِدَاءً كَمَا يَمْتَنِعُ إثْبَاتُ اسْمِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْجِهَادِ فِي الدِّيوَانِ ابْتِدَاءً .
قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ لَا يَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ شَيْءٌ فَيُوَكِّلُ النَّاسَ فِيهِ إلَى مَيْلِهِمْ إلَيْهِ ، وَالْجِهَادَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ فَيَحْتَاجُ النَّاسُ فِي إرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ إلَيْهِ إلَى التَّآلُفِ وَإِلَّا فَمَحَبَّةُ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ قَدْ تَصُدُّ عَنْهُ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : وَفَرْقٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَهِيَ أَمْوَالُ الْمَصَالِحِ أَقْوَى مِنْ الْخَاصَّةِ كَالْأَوْقَافِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّوَسُّعِ فِي تِلْكَ التَّوَسُّعُ فِي هَذِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُعَيَّنٌ أَخْرَجَهُ شَخْصٌ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ نَشْرِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ الْمَخْصُوصِ ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ الصَّرْفُ لِأَوْلَادِ الْعَالِمِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ كِفَايَتَهُمْ كَمَا كَانَ يُصْرَفُ لِأَبِيهِمْ ، وَمُقْتَضَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ عَدَمُهُ ا هـ .
وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَظْهَرُ ، وَلْيَكُنْ وَقْتُ الْعَطَاءِ مَعْلُومًا لَا

يَخْتَلِفُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ غَيْرِهِ أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِعْطَاءَ يَكُونُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً لِئَلَّا يَشْغَلَهُمْ الْإِعْطَاءُ كُلَّ أُسْبُوعٍ أَوْ كُلَّ شَهْرٍ عَنْ الْجِهَادِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَهِيَ مُعْظَمُ الْفَيْءِ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ جَمْعِ الْمَالِ وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَنَصِيبُهُ لِوَارِثِهِ كَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَقَبْلَ جَمْعِ الْمَالِ فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ ، إذْ الْحَقُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِجَمْعِ الْمَالِ وَذِكْرُ الْحَوْلِ مِثَالٌ فَمِثْلُهُ الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ السَّابِقِ مِنْ اخْتِصَاصِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ بِالْمُرْتَزِقَةِ .

فَإِنْ فَضَلَتْ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ بَعْضُهُ فِي إصْلَاحِ الثُّغُورِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ ، هَذَا حُكْمُ مَنْقُولِ الْفَيْءِ .
فَأَمَّا عَقَارُهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْعَلُ وَقْفًا ، وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهُ كَذَلِكَ .

( فَإِنْ فَضَّلَتْ ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ .
أَيْ زَادَتْ ( الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ حَاجَةِ الْمُرْتَزِقَةِ وُزِّعَ ) الْفَاضِلُ ( عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِمْ ) لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ .
مِثَالُ ذَلِكَ كِفَايَةُ وَاحِدٍ أَلْفٌ ، وَكِفَايَةُ الثَّانِي أَلْفَانِ ، وَكِفَايَةُ الثَّالِثُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، وَكِفَايَةُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَجْمُوعِ كِفَايَتِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيُفْرَضُ الْحَاصِلُ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ ، فَيُعْطَى الْأَوَّلُ عُشْرَهَا ، وَالثَّانِي خُمْسَهَا ، وَالثَّالِثُ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهَا ، وَالرَّابِعُ خُمُسَيْهَا ، وَكَذَا يُفْعَلُ إنْ زَادَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّ صَرْفَ الزَّائِدِ لَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ قَالَ : الَّذِي فَهِمْتُهُ عَنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرِجَالِهِمْ حَتَّى لَا يُصْرَفَ مِنْهُ لِلذَّرَارِيِّ أَيْ الَّذِينَ لَا رَجُلَ لَهُمْ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ صَرْفِهِ إلَى الْمُرْتَزِقَةِ عَنْ كِفَايَةِ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ ( وَالْأَصَحُّ ) عَلَى الْأَظْهَرِ السَّابِقُ أَيْضًا ( أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ بَعْضُهُ ) أَيْ الْفَاضِلُ عَنْ حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ ( فِي إصْلَاحِ الثُّغُورِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ ) وَهُوَ الْخَيْلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعُونَةٌ لَهُمْ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ بَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ كَالْغَنِيمَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُبْقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ الْفَيْءِ مَا وَجَدَ لَهُ مَصْرِفًا فَيَصْرِفُ مَالَ كُلِّ سَنَةٍ إلَى مَصَارِفِهِ وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا خَوْفًا لِنَازِلَةٍ تَأَسِّيًا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُمَا مَا كَانَا يَدَّخِرَانِ شَيْئًا ، ثُمَّ إنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِأَمْرِهَا ، وَإِنْ غَشِيَهُمْ الْعَدُوُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَصْرِفًا ابْتِدَاء رِبَاطَات

الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ رَأْيِهِ ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا .
قَالَ الْإِمَامُ : وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَدَّخِرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَجْلِ الْحَوَادِثِ ا هـ .
فَإِنْ ضَاقَ الْفَيْءُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ ( هَذَا ) السَّابِقُ كُلُّهُ ( حُكْمُ مَنْقُولِ ) مَالِ ( الْفَيْءِ .
فَأَمَّا عَقَارُهُ ) مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ ( فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ ) أَيْ جَمِيعَهُ ( يُجْعَلُ وَقْفًا ) أَيْ يُنْشِئُ الْإِمَامُ وَقْفَهُ ( وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهُ ) كُلَّ سَنَةٍ ( كَذَلِكَ ) أَيْ مِثْلَ قِسْمَةِ الْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمْ فَتُصْرَفُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَلَّةِ لِلْمُرْتَزِقَةِ وَخُمْسُهَا لِلْمَصَالِحِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل .
تَنْبِيهٌ : يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَشْيَاءُ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ وَقْفٍ كَمَا مَرَّ ، وَقِيلَ : يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ كَرِقِّ النِّسَاءِ بِنَفْسِ الْأَسْرِ ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ .
ثَانِيهَا : تَحَتُّمُ الْوَقْفِ وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ الَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى قِسْمَتَهُ أَوْ بَيْعَهُ وَقِسْمَةَ ثَمَنِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ، لَكِنْ لَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْمَصَالِحِ ، بَلْ يُوقَفُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ فِي الْمَصَالِحِ ، أَوْ تُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَيْهَا ، وَلَكِنَّ الْوَقْفَ أَوْلَى .
ثَالِثُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْفِ الْوَقْفُ الشَّرْعِيُّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ الْوَقْفُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِالْقِسْمَةِ لَا الْوَقْفُ الشَّرْعِيُّ .

فَصْلٌ الْغَنِيمَةُ : مَالٌ حَصَلَ مِنْ كُفَّارٍ بِقِتَالٍ وَإِيجَافٍ .

فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا ( الْغَنِيمَةُ ) لُغَةً الرِّبْحُ كَمَا سَبَقَ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَشَرْعًا ( مَالٌ ) وَمَا الْتَحَقَ بِهِ كَخَمْرَةٍ مُحْتَرَمَةٍ ( حَصَلَ ) لَنَا ( مِنْ كُفَّارٍ ) أَصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ ( بِقِتَالٍ ) مِنَّا ( وَإِيجَافٍ ) بِخَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا مَرَّ وَلَوْ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ فِي الْقِتَالِ ، أَوْ قَبْلَ شَهْرِ السِّلَاحِ حِينَ الْتَقَى الصَّفَّانِ .
وَمِنْ الْغَنِيمَةِ مَا أُخِذَ مِنْ دَارِهِمْ سَرِقَةً ، أَوْ اخْتِلَاسًا ، أَوْ لُقَطَةً ، أَوْ مَا أَهْدَوْهُ لَنَا ، أَوْ صَالَحُونَا عَلَيْهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ .
وَأَمَّا الْمَرْهُونُ الَّذِي لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَالْمُؤَجَّرُ الَّذِي لَهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا إذَا انْفَكَّ الرَّهْنُ وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَهَلْ هُوَ فَيْءٌ أَوْ غَنِيمَةٌ ؟ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ .
الثَّانِي ؛ وَيُرَدُّ عَلَى طَرْدِ هَذَا الْحَدِّ الْمَتْرُوكِ بِسَبَبِ حُصُولِنَا فِي دَارِهِمْ وَضَرْبِ مُعَسْكَرِنَا فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ غَنِيمَةً فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْإِمَامِ مَعَ وُجُودِ الْإِيجَافِ ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ كَمَا مَرَّ ، وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ مَا حَصَّلَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِقِتَالٍ ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ فَلَا يُنْزَعُ مِنْهُمْ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ فَيْءٌ لَا غَنِيمَةٌ كَمَا مَرَّ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ كَجِزْيَةٍ فَإِنَّهُ فَيْءٌ كَمَا مَرَّ أَيْضًا ، وَلَوْ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ نَمْلِكْهُ ، وَلَوْ غَنِمَ ذِمِّيٌّ وَمُسْلِمٌ فَهَلْ يُخَمَّسُ الْجَمِيعُ أَوْ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ ؟ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بِأَنَّهُ لَا يُغْنَمُ مَالُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَمَسَّك بِدِينٍ حَقٍّ وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ أَصْلًا .
أَمَّا لَوْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينٍ بَاطِلٍ فَلَا ، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : وَإِيجَافٍ بِالْوَاوِ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ لِئَلَّا يُرَدَّ الْمَأْخُوذُ بِقِتَالِ الرَّجَّالَةِ وَبِالسُّفُنِ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ كَمَا تَقَرَّرَ وَلَا إيجَافَ فِيهِ .

فَيُقَدَّمُ مِنْهُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ( فَيُقَدَّمُ مِنْهُ ) أَيْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ ( السَّلَبُ ) بِالتَّحْرِيكِ ( لِلْقَاتِلِ ) الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ حُرًّا أَمْ لَا ، ذَكَرًا أَمْ لَا ، بَالِغًا أَمْ لَا ، شَرَطَهُ لَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا ، فَارِسًا أَمْ لَا ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد : { أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ عِشْرِينَ قَتِيلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ } .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ الذِّمِّيُّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِسَلَبٍ سَوَاءٌ أُحْضِرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا ، وَالْمُخَذِّلُ وَالْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ وَلَا رَضْخَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَأَطْلَقُوا اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ السَّلَبَ ، وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِكَوْنِهِ لِمُسْلِمٍ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَتِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْ قَتْلِهِ ، فَلَوْ قَتَلَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَمْ يُقَاتِلَا فَلَا سَلَبَ لَهُ ، فَإِنْ قَاتَلَا اسْتَحَقَّهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ أَعْرَضَ مُسْتَحِقُّ السَّلَبِ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لَهُ .

وَهُوَ ثِيَابُ الْقَتِيلِ وَالْخُفُّ وَالرَّانُ وَآلَاتُ الْحَرْبِ كَدِرْعٍ وَسِلَاحٍ وَمَرْكُوبٍ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ وَكَذَا سِوَارٌ وَمِنْطَقَةٌ وَخَاتَمٌ ، وَنَفَقَةٌ مَعَهُ وَجَنِيبَةٌ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْأَظْهَرِ ، لَا حَقِيبَةٌ مَشْدُودَةٌ عَلَى الْفَرَسِ عَلَى الْمَذْهَبِ .

( وَهُوَ ) أَيْ السَّلَبُ ( ثِيَابُ الْقَتِيلِ ) الَّتِي عَلَيْهِ ( وَالْخُفُّ وَالرَّانُ ) وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَأَلْفٍ وَنُونٍ خُفٌّ لَا قَدَمَ لَهُ أَطْوَلُ مِنْ الْخُفِّ يُلْبَسُ لِلسَّاقِ ، قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْحَجِّ ( وَآلَاتُ الْحَرْبِ كَدِرْعٍ ) وَهُوَ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ الزَّرَدِيَّةُ ( وَسِلَاحٍ ) لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ عَطْفِهِ السِّلَاحَ عَلَى الدِّرْعِ أَنَّ الدِّرْعَ لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَإِنْ كَانَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْمُصَنِّفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْهُ ، وَعَطْفُهُ أَيْضًا مَا بَعْدَ الثِّيَابِ عَلَيْهَا يُشْعِرُ بِمُغَايَرَتِهِ لَهَا ، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثِيَابِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلُّ مَا عَلَى بَدَنِهِ ، وَمِنْهُ الْخُفُّ وَالرَّانُ وَالطَّيْلَسَانُ ، وَلَوْ كَانَ غُلَامُهُ حَامِلًا لِسِلَاحِهِ يُعْطِيهِ مَتَى شَاءَ .
قَالَ الْإِمَامُ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ كَالْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ مَعَ الْغُلَامِ ، وَيَحْتَمِلُ خِلَافُهُ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَلَوْ زَادَ سِلَاحُهُ عَلَى الْعَادَةِ فَقِيَاسُ مَا يَأْتِي فِي الْجَنِيبَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا وَاحِدَةً أَنَّهُ هُنَا لَا يُعْطَى إلَّا سِلَاحًا وَاحِدًا .
وَقَالَ الْإِمَامُ : إذَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ لَا سِلَاحٌ ا هـ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ( وَمَرْكُوبٍ ) لِلْقَتِيلِ قَاتَلَ عَلَيْهِ أَوْ أَمْسَكَهُ بِعِنَانِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا ( وَ ) آلَتِهِ نَحْوِ ( سَرْجٍ وَلِجَامٍ ) وَمِهْمَازٍ مَعْقُودٍ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى ذَلِكَ حِسًّا ( وَكَذَا ) لِبَاسُ زِينَتِهِ ، وَهُوَ ( سِوَارٌ ) وَطَوْقٌ ( وَمِنْطَقَةٌ ) وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهَا الْوَسَطُ ( وَخَاتَمٌ ، وَ ) كَذَا ( نَفَقَةٌ مَعَهُ ) مَعَ هِمْيَانِهَا لَا الْمُخَلَّفَةِ فِي رَحْلِهِ ( وَجَنِيبَةٍ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْأَظْهَرِ ) سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَمَامَهُ أَمْ خَلْفَهُ أَمْ بِجَنْبِهِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَادُ مَعَهُ لِيَرْكَبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ يَقُودُهَا بِنَفْسِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ ، وَالْجَنِيبَةُ قَدْ يُحْتَاجُ

إلَيْهَا فَهِيَ كَمَرْكُوبِهِ الَّذِي أَمْسَكَ بِعَنَانِهِ ، وَهُوَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا ، بِخِلَافِ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا أَثْقَالَهُ ، وَبِخِلَافِ الْمُهْرِ التَّابِعِ لَهُ فَإِنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي فُرُوعِهِ ، وَالثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَاتِلًا بِهَا فَأَشْبَهَتْ مَا فِي خَيْمَتِهِ ، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْجَنَائِبُ اخْتَارَ الْقَاتِلُ مِنْهَا وَاحِدَة كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِ الْإِمَامِ وَاحِدَةً مِنْهَا أَوْ يُقْرِعُ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ قَائِدَهَا بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا لَقَالَ يَقُودُهَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ ، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ يَقُودُهَا بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ سَلَبًا كَسَائِرِ مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَ مَعَهُ جَنَائِبُ اسْتَحَقَّ وَاحِدَةً ، إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَنَائِبَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَدَدٍ يَقُودُونَهَا ( لَا حَقِيبَةٌ ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وِعَاءٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَتَاعُ وَيُجْعَلُ عَلَى حَقْوِ الْبَعِيرِ ( مَشْدُودَة عَلَى الْفَرَسِ ) فَلَا يَأْخُذُهَا وَلَا مَا فِيهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالْأَمْتِعَةِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لِبَاسِهِ وَلَا مِنْ حِلْيَتِهِ وَلَا حِلْيَةِ فَرَسِهِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْجَنِيبَةِ ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا لِأَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى فَرَسِهِ لِتَوَقُّعِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا .

وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِرُكُوبِ غَرَرٍ يَكْفِي بِهِ شَرَّ كَافِرٍ فِي حَالِ الْحَرْبِ ، فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ أَوْ مِنْ الصَّفِّ أَوْ قَتَلَ نَائِمًا أَوْ أَسِيرًا أَوْ قَتَلَهُ وَقَدْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ فَلَا سَلَبَ ، وَكِفَايَةُ شَرِّهِ أَنْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ بِأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ .

( وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ) الْقَاتِلُ السَّلَبَ ( بِرُكُوبِ غَرَرٍ يَكْفِي بِهِ ) أَيْ بِرُكُوبِ الْغَرَرِ ( شَرَّ كَافِرٍ ) أَصْلِيٍّ مُشْتَغِلٍ بِالْقِتَالِ ( فِي حَالِ الْحَرْبِ ) هَذِهِ قُيُودٌ ثَلَاثَةٌ فُرِّعَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ : ( فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ أَوْ ) رُمِيَ ( مِنْ الصَّفِّ ) الَّذِينَ لِلْمُسْلِمِينَ ( أَوْ قَتَلَ ) كَافِرًا ( نَائِمًا ) أَوْ مُشْتَغِلًا بِأَكْلٍ وَنَحْوِهِ ( أَوْ أَسِيرًا أَوْ قَتَلَهُ ) أَيْ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ ( وَقَدْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ ) الْمُحَارِبُونَ غَيْرَ مُتَحَيِّزِينَ لِقِتَالٍ أَوْ إلَى فِئَةٍ ( فَلَا سَلَبَ ) لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَطَرِ وَالتَّغْرِيرِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هَهُنَا ، { وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَثْخَنَهُ فَتَيَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَوْ أَغْرَى بِهِ كَلْبًا عَقُورًا فَقَتَلَهُ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِرُوحِهِ حَيْثُ صَبَرَ فِي مُقَاتَلَتِهِ حَتَّى عَقَرَهُ الْكَلْبُ ا هـ .
وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : وَقِيَاسُهُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ لَوْ أَغْرَى بِهِ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا أَعْجَمِيًّا مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ وَالْمَقِيسَ يَمْلِكُ السَّلَبَ فَهُوَ لِلْمَجْنُونِ وَلِمَالِكِ الرَّقِيقِ لَا لِآمِرِهِمَا ، فَإِنْ أَغْرَى الْكَلْبَ بَلَا مُقَاتَلَةٍ كَرَامِي السَّهْمِ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ .
أَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا لِقِتَالٍ أَوْ فِئَةٍ فَحُكْمُ الْقِتَالِ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ مِنْ الصَّفِّ ، عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ مِنْ وَرَاءِ الصَّفِّ ، وَكَذَا كَتَبَهَا الْمُصَنِّفُ بِخَطِّهِ فِي الْمِنْهَاجِ .
ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى لَفْظَةِ وَرَاءَ ، وَالصُّورَتَانِ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ ، فَأَتَى الْمِنْهَاجُ بِمَا لَيْسَ فِي أَصْلِهِ لِكَوْنِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا فِي أَصْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ حَسَنٌ لِمَنْ لَا يَلْتَزِمُ فِي الِاخْتِصَارِ الْإِتْيَانَ بِمَعْنَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ ، وَإِلَّا لَمْ

يَجُزْ ، وَقَوْلُهُ : انْهَزَمَ الْكُفَّارُ يُفْهَمُ أَنَّ انْهِزَامَ الْكَافِرِ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ حَتَّى لَوْ هَرَبَ فَقَتَلَهُ فِي إدْبَارِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ( وَكِفَايَةُ شَرِّهِ أَنْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ بِأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ) فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِمُثْخِنِهِ كَمَا مَرَّ دُونَ قَاتِلِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنَاطَ كِفَايَةُ شَرِّهِ .
تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ ، فَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الثَّانِي لِفَهْمِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ بِأَنْ يُعْمِيَهُ ، وَهِيَ صَادِقَةٌ بِأَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ فَيَذْهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ ، وَبِمَنْ لَهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ فَيَقْلَعَهَا ، فَهِيَ أَحْسَنُ لِشُمُولِهَا مَا ذُكِرَ .

وَكَذَا لَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَكَذَا لَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ ) وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ فَدَاهُ أَوْ أَرَقَّهُ .
أَمَّا فِي الْأَسْرِ فَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْقَطْعِ .
وَأَمَّا فِي الْقَطْعِ فَكَمَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ ، وَالثَّانِي : لَا ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إلَّا بِالْقَتْلِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ الِامْتِنَاعَ فَرُبَّمَا أَعْمَى شَرٌّ مِنْ الْبَصِيرِ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يَحْتَالُ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ نَفْسِهِ ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا وَرِجْلًا لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ طَرَفًا وَفَقَأَ عَيْنًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ .

وَلَوْ مَسَكَهُ شَخْصٌ بِحَيْثُ مَنَعَهُ الْهَرَبَ وَلَمْ يَضْبِطْهُ فَقَتَلَهُ آخَرُ أَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِهِ أَوْ إثْخَانِهِ اشْتَرَكَا فِي سَلَبِهِ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مَنُوطٌ بِالْقَتْلِ .
نَعَمْ ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ كَمُخَذِّلٍ رُدَّ نَصِيبُهُ إلَى الْغَنِيمَةِ ، قَالَهُ الدَّارِمِيُّ .
أَمَّا إذَا ضَبَطَهُ فَهُوَ أَسِيرٌ وَقَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ السَّلَبَ كَمَا مَرَّ ، وَالْجَارِحُ إنْ أَثْخَنَ جَرِيحَهُ فَالسَّلَبُ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ فَدَفَعَهُ آخَرُ فَالسَّلَبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي رَكِبَ الْغَرَرَ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا حَقَّ لِلْآسِرِ فِي رَقَبَةِ أَسِيرِهِ وَلَا فِدَائِهِ ، فَلَوْ أَرَقَّهُ الْإِمَامُ أَوْ فَدَاهُ فَالرَّقَبَةُ وَالْفِدَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ فِيهِمَا لِآسِرِهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّلَبِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمَا .

وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ عَلَى الْمَشْهُورِ .
( وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ عَلَى الْمَشْهُورِ ) لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْهُ } وَالثَّانِي : يُخَمَّسُ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ ، فَيَدْفَعَ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْبَاقِيَ لِلْقَاتِلِ .

وَبَعْدَ السَّلَبِ تُخْرَجُ مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ وَغَيْرِهِمَا
( وَبَعْدَ السَّلَبِ تُخْرَجُ ) بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ أَوَّلَهُ بِخَطِّهِ ( مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ وَغَيْرِهِمَا ) مِنْ الْمُؤَنِ اللَّازِمَةِ كَأُجْرَةِ حَمَّالٍ وَرَاعٍ إنْ لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ بِذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ كَالْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ .

ثُمَّ يُخَمَّسُ الْبَاقِي فَخُمُسُهُ لِأَهْلِ خُمُسِ الْفَيْءِ يُقَسَّمُ كَمَا سَبَقَ .
( ثُمَّ يُخَمَّسُ الْبَاقِي ) بَعْدَ السَّلَبِ وَالْمُؤَنُ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ مُتَسَاوِيَةٍ ، وَيُؤْخَذُ خَمْسُ رِقَاعٍ وَيُكْتَبُ عَلَى وَاحِدَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَصَالِحِ وَعَلَى أَرْبَعٍ لِلْغَانِمِينَ .
ثُمَّ تُدْرَجُ فِي بَنَادِقَ مُتَسَاوِيَةٍ وَيُخْرَجُ لِكُلِّ خُمْسٍ رُقْعَةٌ ، فَمَا خَرَجَ لِلَّهِ أَوَ لِلْمَصَالِحِ جُعِلَ بَيْنَ أَهْلِ الْخُمْسِ عَلَى خُمْسِهِ كَمَا قَالَ : ( فَخُمُسُهُ ) أَيْ الْمَالِ الْبَاقِي ( لِأَهْلِ خُمُسِ الْفَيْءِ يُقَسَّمُ ) بَيْنَهُمْ ( كَمَا سَبَقَ ) فِي قَسْمِ الْفَيْءِ .
تَنْبِيهٌ : يُقَسَّمُ مَا لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ قِسْمَةِ هَذَا الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ وَمَحْصُورُونَ .
لَكِنْ بَعْدَ إفْرَازِهِ بِقُرْعَةٍ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْخُمُسِ يَفُوزُونَ بِسِهَامِهِمْ قَبْلَ قِسْمَةِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ لِعُمُومِ الْآيَةِ .

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْخِيرُهَا بَلَا عُذْرٍ إلَى الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَكْرُوهٌ ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْجِيلُ ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ إذَا طَلَبَهَا الْغَانِمُونَ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ الْحَالِ .

وَالْأَصَحُّ أَنَّ النَّفَلَ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ إنْ نَفَلَ مِمَّا سَيُغْنَمُ فِي هَذَا الْقِتَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ ، وَالنَّفَلُ زِيَادَةٌ يَشْتَرِطُهَا الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا فِيهِ نِكَايَةَ الْكُفَّارِ وَيَجْتَهِدُ فِي قَدْرِهِ ، وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَقَارُهَا وَمَنْقُولُهَا لِلْغَانِمِينَ .

وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِلْجَيْشِ أَنْ لَا يُخَمَّسَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَوَجَبَ تَخْمِيسُ مَا غَنِمُوهُ سَوَاءٌ أَشَرَطَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا ، وَقِيلَ : إنْ شَرَطَهُ لِضَرُورَةِ لَمْ يُخَمَّسْ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ آخِرَ الْبَابِ وَهُوَ شَاذٌّ بَاطِلٌ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ النَّفَلَ ) بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فَفَاءٍ خَفِيفَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتُسَكَّنُ أَيْضًا ( يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ ) لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ الْخُمُسِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يُرِيدُ مِنْ خُمُسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي : مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالسَّلَبِ ، وَالثَّالِثُ : مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا كَالْمُصَحَّحِ فِي الرَّضْخِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَحَلُّهُ ( إنْ نَفَلَ مِمَّا سَيُغْنَمُ فِي هَذَا الْقِتَالِ ) وَفَاءٌ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَعْدِ وَيُغْتَفَرُ الْجَهْلُ بِهِ لِلْحَاجَةِ ، فَيُشْتَرَطُ الرُّبْعُ أَوْ الثُّلُثُ أَوْ غَيْرُهُمَا .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : نَفْلٌ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : يَجُوزُ فِيهِ التَّشْدِيدُ إذَا عَدَّيْتُهُ إلَى اثْنَيْنِ وَالتَّخْفِيفُ إذَا عَدَّيْتُهُ إلَى وَاحِدٍ ، وَقَدْ كَتَبَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ خَفَّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَعَلَ النَّفَلَ ( وَيَجُوزُ ) جَزْمًا ( أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ ) فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ وَلَا تُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ حِينَئِذٍ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى احْتِمَالِ الْجَهْلِ فِي الْجُعْلِ .
تَنْبِيهٌ : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْحَاصِلِ عِنْدَهُ كَمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُهُ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِمَّا يَتَجَدَّدُ فِيهِ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ خُمُسِ الْخُمُسِ وَالْمَصَالِحِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُرَاعِيَ الْمَصْلَحَةَ ( وَالنَّفَلُ ) لُغَةً الزِّيَادَةُ ، وَشَرْعًا ( زِيَادَةٌ )

عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ ( يَشْتَرِطُهَا الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا فِيهِ نِكَايَةُ الْكُفَّارِ ) زَائِدَةٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ الْجَيْشِ كَالتَّقَدُّمِ عَلَى طَلِيعَةٍ وَالتَّهَجُّمِ عَلَى قَلْعَةٍ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا وَحِفْظِ مَكْمَنٍ ، وَيَجُوزُ إفْرَادُ الْمَشْرُوطِ لَهُ وَتَعَدُّدُهُ وَتَعْيِينُهُ وَعَدَمُ تَعْيِينِهِ كَمَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا .
هَذَا أَحَدُ قِسْمَيْ النَّفَلِ ، وَشَرْطُهُ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاقْتَضَى الْحَالُ بَعْثَ السَّرَايَا وَحِفْظَ الْمَكَامِنِ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ أَثَرٌ مَحْمُودٌ كَمُبَارَزَةٍ وَحُسْنِ إقْدَامٍ ، وَهَذَا يُسَمَّى إنْعَامًا وَجَزَاءً عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ شُكْرًا ، وَالْأَوَّلُ جَعَالَةٌ .
وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ هَذَا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ إصَابَةِ الْمَغْنَمِ ، وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ : إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ .
أَمَّا بَعْدَ إصَابَتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ مَا أَصَابُوهُ ( وَيَجْتَهِدُ ) الشَّارِطُ ( فِي قَدْرِهِ ) بِحَسَبِ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ وَقَدْ صَحَّ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ } ، وَالْبَدْأَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ السَّرِيَّةُ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْإِمَامُ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مُقَدِّمَةً لَهُ ، وَالرَّجْعَةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ السَّرِيَّةُ الَّتِي يَأْمُرُهَا بِالرُّجُوعِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْجَيْشِ لِدَارِنَا ، وَإِنَّمَا نَقَصَ فِي الْبَدْأَةِ لِأَنَّهُمْ مُسْتَرِيحُونَ إذْ لَمْ يَطُلْ بِهِمْ السَّفَرُ ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي غَفْلَةٍ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ وَرَائِهِمْ

يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ ، وَالرَّجْعَةُ بِخِلَافِهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَقِيلَ : الْبَدْأَةُ السَّرِيَّةُ الْأُولَى وَالرَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ ، وَيُقَالُ لِلرَّجْعَةِ : الْقُفُولُ بِضَمِّ الْقَافِ ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالنَّقْصُ عَنْ الرُّبْعِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ ( وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَقَارُهَا وَمَنْقُولُهَا ) أَيْ الْبَاقِي مِنْهَا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْ الْمُؤَنِ كَمَا سَبَقَ ( لِلْغَانِمِينَ ) لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَمَلًا بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ .

وَهُمْ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ .

( وَهُمْ ) أَيْ الْغَانِمُونَ ( مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ ) وَلَوْ فِي أَثْنَائِهَا قَبْلَ الِانْقِضَاءِ وَلَوْ عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْفَتْحِ ، وَعَلَّقَ بِحَضَرَ قَوْلَهُ : ( بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ ) مَعَ الْجَيْشِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : إنَّمَا الْغَنِيمَةُ لِمَنْ يَشْهَدُ الْوَقْعَةَ ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهَيُّؤُهُ لِلْجِهَادِ وَحُصُولُهُ هُنَاكَ ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ بَاعِثَةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ تَكْثِيرِهِ سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَا مَنْ حَضَرَ لَا بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَقَاتَلَ فِي الْأَظْهَرِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا الضَّابِطُ يَشْمَلُ مَنْ يَرْضَخُ لَهُ كَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ ، فَلَوْ قَالَ : مِمَّنْ يُسْهَمُ لَهُ كَمَا فَعَلَ فِي الرَّوْضَةِ لَخَرَجَ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَحْتَمِلُ إبْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِهِ وَمَنْ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَانِمِينَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِهِمْ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّضْخَ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ، وَأُورِدَ عَلَى مَنْطُوقِ الْمَتْنِ صُورَتَانِ : الْأُولَى الْمُخَذِّلُ وَالْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ إذَا حَضَرُوا الْوَقْعَةَ لَا يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا وَلَا رَضْخًا وَإِنْ حَضَرُوا بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَقَاتَلُوا ، بَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ حُضُورِ الصَّفِّ وَلَا يُمْنَعُ الْفَاسِقُ مِنْ الصَّفِّ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ تَخْذِيلُهُ ، وَالْمُخَذِّلُ مَنْ يُثَبِّطُ الْقَوْمَ كَأَنْ يَقُولَ : الْعَدُوُّ كَثِيرٌ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ ، وَالْمُرْجِفُ مَنْ يُخَوِّفُ الْقَوْمَ كَأَنْ يَقُولَ : جَاءَ الْعَدُوَّ مَدَدٌ ، وَالْخَائِنُ مَنْ يُطْلِعُ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِيَةُ : الْمُنْهَزِمُ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ وَلَمْ يَعُدْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَعَ حُضُورِهِ ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْوَقْعَةِ

اسْتَحَقَّ مِنْ الْمَحُوزِ بَعْدَهُ فَقَطْ ، وَكَذَا مَنْ حَضَرَ فِي الْأَثْنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْمَحُوزِ قَبْلَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِبَقَائِهِ فِي الْحَرْبِ مَعْنًى بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى بَعِيدَةٍ ، وَإِنْ ادَّعَى التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ ، أَوْ التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ صَدَّقْنَاهُ بِيَمِينِهِ إنْ أَدْرَكَ الْحَرْبَ ، وَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ مِنْ الْجَمِيعِ ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا مِنْ الْمَحُوزِ بَعْدَ عَوْدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْحَرْبَ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ ، وَعَلَى مَفْهُومِهِ ثَلَاثُ صُورٍ ، الْأُولَى : مَا لَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ جَاسُوسًا فَغَنِمَ الْجَيْشُ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَإِنَّهُ يُشَارِكهُمْ فِي الْأَصَحِّ ، الثَّانِيَةُ : لَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْعَسْكَرِ لِيُحْرَسَ مِنْ هُجُومِ عَدُوٍّ ، أَوْ أَفْرَدَ مِنْ الْجَيْشِ كَمِينًا ، فَإِنَّهُ يُسْهِمُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الْوَقْعَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِهِمْ ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثَةُ : لَوْ دَخَلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ دَارَ الْحَرْبِ بِجَيْشٍ فَبَعَثَ سَرِيَّةً فِي نَاحِيَةٍ فَغَنِمَتْ شَارَكَهَا جَيْشُ الْإِمَامِ وَبِالْعَكْسِ لِاسْتِظْهَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ ، وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ إلَى جِهَةٍ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِيمَا تَغْنَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَكَذَا لَوْ بَعَثَهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ وَإِنْ تَبَاعَدَتَا عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَا يُشَارِكُ السَّرَايَا الْإِمَامُ وَلَا جَيْشُهُ إنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ قَصَدَ لُحُوقَهُمْ .

وَلَا شَيْءَ لِمَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ، وَفِيمَا قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ وَجْهٌ .
( وَلَا شَيْءَ لِمَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ) وَلَوْ قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ ، أَوْ خِيفَ رُجُوعُ الْكُفَّارِ لِعَدَمِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ( وَفِيمَا ) بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَ ( قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ وَجْهٌ ) أَنَّهُ يُعْطَى ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِيلَاءِ .
تَنْبِيهٌ : تَرَدَّدَ الرَّافِعِيُّ فِي حِكَايَةِ هَذَا وَجْهًا أَوْ قَوْلًا ، وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَوْلٌ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ : حَاضِرٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ فَيَسْتَحِقُّ جَزْمًا ، أَوْ بَعْدَهُمَا فَلَا جَزْمًا ، أَوْ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ ، أَوْ عَكْسُهُ فَيَسْتَحِقُّ كَمَا يَفْهَمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ .

وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَالْحِيَازَةِ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ وَكَذَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ ) أَيْ الْغَانِمِينَ ، أَوْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ ( بَعْدَ انْقِضَائِهِ ) أَيْ الْقِتَالِ ( وَ ) بَعْدَ ( الْحِيَازَةِ فَحَقُّهُ ) مِنْ الْمَالِ إنْ قُلْنَا : إنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ وَالْحِيَازَةِ ، أَوْ حَقَّ تَمَلُّكِهِ إنْ قُلْنَا : إنَّهَا إنَّمَا تُمْلَكُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ أَوْ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ( لِوَارِثِهِ ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَعِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَصْدُقُ بِمَا قُلْنَاهُ ( وَكَذَا ) لَوْ مَاتَ ( بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فِي الْأَصَحِّ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ .
وَالثَّانِي : لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ مَعَ الْحِيَازَةِ ، وَهَلْ الْمَمْلُوكُ عَلَيْهِمَا نَفْسُ الْأَعْيَانِ أَوْ حَقَّ تَمَلُّكِهَا ؟ وَجْهَانِ وَكِلَاهُمَا يُورِثُ كَمَا مَرَّ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا إنَّمَا تُمْلَكُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ أَوْ الْقِسْمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ .

وَلَوْ مَاتَ فِي الْقِتَالِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ .
( وَلَوْ مَاتَ فِي ) أَثْنَاءِ ( الْقِتَالِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ ) هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ فَلَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ ، وَنَصَّ فِي مَوْتِ الْفَرَسِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَهَا ، وَالْأَصَحُّ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفَارِسَ مَتْبُوعٌ ، فَإِذَا مَاتَ فَاتَ الْأَصْلُ وَالْفَرَسُ تَابِعٌ ، فَإِذَا مَاتَ جَازَ أَنْ يَبْقَى سَهْمُهُ لِلْمَتْبُوعِ ، وَقِيلَ : قَوْلَانِ فِيهِمَا وَجْهُ الِاسْتِحْقَاقِ شُهُودُ بَعْضِ الْوَقْعَةِ ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ اعْتِبَارُ آخِرِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الظَّفَرِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ مَاتَ فِي الْقِتَالِ ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْمَالِ أَوَّلًا وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ : إنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْمَالِ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَأْمَنْ شَرَّهُمْ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ بَاقِيَةً ، وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ .

وَلَوْ مَرِضَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مَرَضًا يَمْنَعُ الْقِتَالَ وَهُوَ يُرْجَى زَوَالُهُ اسْتَحَقَّ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُرْجَ كَالْفَالِجِ وَالزَّمَانَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ ، وَالْجُنُونُ كَالْمَوْتِ وَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْجِرَاحَةُ فِي الْحَرْبِ كَالْمَرَضِ ، وَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَجْهَانِ أَوْجُهُهُمَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَرَضِ .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجِيرَ لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ ، وَالتَّاجِرَ وَالْمُحْتَرِفَ يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا .
( وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجِيرَ ) الَّذِي وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لَا لِجِهَادٍ ، بَلْ ( لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ ) وَنَحْوِهَا ( وَالتَّاجِرَ وَالْمُحْتَرِفَ ) كَالْخَيَّاطِ وَالْبَقَّالِ ( يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا ) لِشُهُودِهِمْ الْوَقْعَةَ وَقِتَالِهِمْ .
وَالثَّانِي : لَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْجِهَادَ .
أَمَّا مَنْ وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى ذِمَّتِهِ أَوْ بِغَيْرِ مُدَّةً كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَيُعْطَى وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْجِهَادِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِبُطْلَانِ إجَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِحُضُورِ الصَّفِّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَاقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ تَرْجِيحَهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ بِالْإِجَارَةِ وَلَمْ يَحْضُرْ مُجَاهِدًا ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى إجَارَةِ الذِّمِّيِّ .

وَلَوْ أَفْلَتَ أَسِيرٌ مِنْ يَدِ الْكُفَّارِ ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أُسْهِمَ لَهُ إنْ حَضَرَ الصَّفَّ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ ؛ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ وَلِقَصْدِ مَنْ أَسْلَمَ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْإِسْلَامِ فَيُقَبَّحُ حِرْمَانُهُ ، وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِمَّا حِيزَ بَعْدَ حُضُورِهِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَسِيرُ مِنْ جَيْشٍ آخَرَ أُسْهِمَ لَهُ إنْ قَاتَلَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ بِقِتَالِهِ قَصْدُهُ لِلْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَكَذَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ .

وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ .
( وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ ) لَهُ سَهْمٌ وَلِلْفَرَسِ سَهْمَانِ لِلِاتِّبَاعِ فِيهِمَا .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسٍ يَرْكَبُهُ يُسْهَمُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ رُكُوبُهُ لَا إنْ حَضَرَ مَعَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ ، وَلَوْ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَصَبَهُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ الْوَقْعَةَ أَوْ حَضَرَ وَلَهُ فَرَسٌ غَيْرُهُ أُسْهِمَ لَهُ لَا لِلْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَحْضَرَهُ وَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَلَا فَرَسَ لَهُ وَعَلِمَ بِفَرَسِهِ ، أَوْ ضَاعَ فَرَسُهُ الَّذِي يُرِيدُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَرَسٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْمَغْصُوبِ وَلَا الضَّائِعِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ .

وَلَوْ رَكِبَ شَخْصَانِ فَرَسًا وَشَهِدَا الْوَقْعَةَ ، وَقَوِيَتْ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ بِهِمَا أُعْطِيَا أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمَانِ لَهُمَا وَسَهْمَانِ لِلْفَرَسِ ، وَإِنْ لَمْ تَقْوَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا سَهْمَانِ .

وَلَوْ قَاتَلُوا فِي مَاءٍ أَوْ حِصْنٍ وَقَدْ أَحْضَرَ الْفَارِسُ فَرَسَهُ أُعْطَى الْأَسْهُمَ الثَّلَاثَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الرُّكُوبِ ، نَصَّ عَلَيْهِ ، وَحَمَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَلَى مَنْ بِقُرْبِ السَّاحِلِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَرْكَبَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِإِعْطَائِهِ سَهْمَ الْفَرَسِ وَأَقَرَّاهُ .
تَنْبِيهٌ هَذَا كُلُّهُ فِي غَنِيمَةِ الْكَامِلِينَ ، فَلَوْ انْفَرَدَ أَهْلُ الرَّضْخِ بِغَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِمْ ، وَيَتْبَعُهُمْ صِغَارُ السَّبْيِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ كَامِلٌ فَالْغَنِيمَةُ لَهُ وَيَرْضَخُ لَهُمْ .

وَلَا يُعْطَى إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، لَا لِبَعِيرٍ وَغَيْرِهِ .
( وَلَا يُعْطَى ) الْفَارِسُ ( إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ) وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ إلَّا لِفَرَسٍ وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَفْرَاسٌ } ( عَرَبِيًّا كَانَ ) الْفَرَسُ ( أَوْ غَيْرَهُ ) كَالْبِرْذَوْنِ ، وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّانِ ، وَالْهَجِينُ وَهُوَ مَا أَبُوهُ عَرَبِيٌّ دُونَ أُمِّهِ ، وَالْمُقْرِفُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَكْسُهُ ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ يَحْصُلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهُمَا كَالرِّجَالِ ( لَا لِبَعِيرٍ وَغَيْرِهِ ) كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالْفِيلِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْحَرْبِ صَلَاحِيَّةَ الْخَيْلِ لَهُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ ، وَصَوَّبَ فِي الشَّامِلِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْإِبِلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } لَكِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُ إنَّمَا يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ .
وَأَمَّا غَيْرُهَا فَيُرْضَخُ لَهُ ، وَيُفَضَّلُ الْفِيلُ عَلَى الْبَغْلِ ، وَالْبَغْلُ عَلَى الْحِمَارِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الْبَعِيرِ عَلَى الْبَغْلِ وَعَكْسِهِ فَقِيلَ : يُفَضَّلُ الْبَعِيرُ لِمَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَقِيلَ : يُفَضَّلُ الْبَغْلُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْأَنْوَارِ ، وَالْأَوَّلُ اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ مَنْ فَضَّلَ الْبَعِيرَ عَلَى الْبَغْلِ عَلَى الْهَجِينِ وَكَلَامَ مَنْ عَكَسَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ ، وَالْحَيَوَانُ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَا يُرْضَخُ لَهُ ، وَمَا يُسْهَمُ لَهُ حُكْمُ مَا يُرْضَخُ لَهُ .

وَلَا يُعْطَى لِفَرَسٍ أَعْجَفَ وَمَا لَا غَنَاءَ فِيهِ ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَى إنْ لَمْ يُعْلَمْ نَهْيُ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ .
وَلَا يُدْخِلُ الْإِمَامُ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا فَرَسًا شَدِيدًا ( وَ ) حِينَئِذٍ ( لَا يُعْطَى ) السَّهْمُ ( لِفَرَسٍ أَعْجَفَ ) أَيْ مَهْزُولٍ بَيِّنِ الْهُزَالِ ( وَمَا لَا غَنَاءَ ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ أَيْ لَا نَفْعَ ( فِيهِ ) كَالْهَرِمِ وَالْكَبِيرِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ بَلْ هُوَ عَلَى صَاحِبِهِ ( وَفِي قَوْلٍ : يُعْطَى إنْ لَمْ يُعْلَمْ نَهْيُ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ ) بِأَنْ لَمْ يَنْهَهُ الْأَمِيرُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ كَمَا يُعْطَى الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إذَا حَضَرَ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الشَّيْخَ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ .
نَعَمْ يُرْضَخُ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا تَأَتَّى رُكُوبُهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْطِ قَطْعًا .
قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَأَفْهَمَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِنَهْيِ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ لَا يُسْهَمُ لَهُ قَطْعًا ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ أَحْضَرَهُ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَجَفُهُ فَكَطُرُوءِ مَوْتِهِ ، وَلَوْ أَحْضَرَهُ أَعْجَفَ فَصَحَّ نَظَرَ إنْ كَانَ حَالَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ صَحِيحًا أُسْهِمَ لَهُ ، وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَعْجَفِ الْحَرُونُ الْجَمُوحُ ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا قَوِيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُرُّ وَلَا يَفِرُّ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، بَلْ قَدْ يُهْلَكُ رَاكِبُهُ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ وَلَمْ يَتَعَرَّضُ الْمُصَنِّفُ لِسِنِّ الْفَرَسِ ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُسَابَقَةِ ، فَقَالَ : وَاَلَّذِي تَجُوزُ الْمُسَابِقَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْلِ مَا يُسْهَمُ لَهُ .
وَهُوَ الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ ، وَقِيلَ : وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا .

وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالذِّمِّيُّ إذَا حَضَرُوا فَلَهُمْ الرَّضْخُ وَهُوَ دُونَ سَهْمٍ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي قَدْرِهِ .

( وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ ) وَالْمَجْنُونُ ( وَالْمَرْأَةُ ) وَالْخُنْثَى ( وَالذِّمِّيُّ ) وَالذِّمِّيَّةُ ( إذَا حَضَرُوا ) الْوَقْعَةَ مَعَ غَيْرِهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ وَأَذِنَ الْإِمَامُ لِلذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَأْجِرَا كَمَا سَيَأْتِي وَفِيهِمْ نَفْعٌ ( فَلَهُمْ الرَّضْخُ ) لِلِاتِّبَاعِ ، رَوَاهُ فِي الْعَبْدِ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، وَفِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا ، وَفِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ { أُسْهِمَ وَحُمِلَ عَلَى الرَّضْخِ ، } وَالرَّضْخُ مُسْتَحَقٌّ ، وَقِيلَ : مُسْتَحَبٌّ ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ السَّيِّدُ وَالْوَلِيُّ وَالزَّوْجُ فِي الْحُضُورِ أَمْ لَا ، وَالرَّضْخُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إذَا كَانَ فِيهِمْ نَفْعٌ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ تَبَعًا لِنَصِّ الْبُوَيْطِيِّ وَتَعْبِيرُهُ بِالذِّمِّيِّ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يُرْضَخُ لَهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ إلْحَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْحَرْبِيِّ بِالذِّمِّيِّ إذَا حَضَرُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ ، وَيَدُلُّ تَعْبِيرُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ بِالْكَافِرِ .
قَالَ : وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْعَبْدِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ هُنَاكَ مُهَايَأَةٌ وَحَضَرَ فِي نَوْبَتِهِ أُسْهِمَ لَهُ وَإِلَّا رُضِخَ ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخِي الْأَوَّلُ ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : الْوَجْهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَالْمُبَعَّضِ كَذَلِكَ ، وَيُرْضَخُ أَيْضًا لِلْأَعْمَى إنْ حَضَرَ وَالزَّمِنِ وَفَاقِدِ أَطْرَافٍ ، وَكَذَا تَاجِرٌ وَمُحْتَرِفٌ حَضَرَا وَلَمْ يُقَاتِلَا ( وَهُوَ ) أَيْ الرَّضْخُ لُغَةً الْعَطَاءُ الْقَلِيلُ ، وَشَرْعًا شَيْءٌ ( دُونَ سَهْمٍ ) لِرَاجِلٍ ( يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي قَدْرِهِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْدِيدٌ فَرَجَعَ إلَى رَأْيِهِ .
وَيُفَاوِتُ عَلَى قَدْرِ نَفْعِ الْمُرْضَخِ لَهُ فَيُرَجَّحُ الْمُقَاتِلُ وَمَنْ قِتَالُهُ أَكْثَرُ عَلَى

غَيْرِهِ ، وَالْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَسْقِي الْعَطْشَى عَلَى الَّتِي تَحْفَظُ الرِّجَالَ بِخِلَافِ سَهْمِ الْغَنِيمَةِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَاتِلُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَالرَّضْخُ بِالِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمَ رَاجِلٍ ، وَلَوْ كَانَ الرَّضْخُ لِفَارِسٍ ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنَقَصَ بِهِ عَنْ قَدْرِهَا كَالْحُكُومَةِ مَعَ الْأُرُوشِ الْمُقَدَّرَةِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ وَإِنْ اسْتَحَقَّ السَّلَبَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ .

وَمَحِلُّهُ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأَظْهَرِ .
( وَمَحِلُّهُ ) أَيْ الرَّضْخُ ( الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأَظْهَرِ ) لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ يُسْتَحَقُّ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالْمُؤَنِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمُ الْمَصَالِحِ .

قُلْتُ : إنَّمَا يَرْضَخُ لِذِمِّيٍّ حَضَرَ بَلَا أُجْرَةٍ ، وَبِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْتُ : إنَّمَا يَرْضَخُ لِذِمِّيٍّ ) وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ ( حَضَرَ بَلَا أُجْرَةٍ ، وَ ) كَانَ حُضُورُهُ ( بِإِذْنِ الْإِمَامِ ) أَوْ الْأَمِيرِ وَبِلَا إكْرَاهٍ مِنْهُ ( عَلَى الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) وَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْآحَادِ .
وَالثَّانِي : فِيمَا إذَا أَذِنَ الْإِمَامُ لَا يُرْضَخُ لَهُ .
وَالثَّالِثُ : إنْ قَاتَلَ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا ، فَإِنْ حَضَرَ بِأُجْرَةٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهَا جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ عَنْ حُضُورِهِ بَدَلًا فَلَا يُقَابِلُ بِبَدَلٍ آخَرَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالْأُجْرَةِ سَهْمَ رَاجِلٍ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا قَالَ : بِأُجْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ : بِإِجَارَةٍ لِيَشْمَلَ الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ ، فَإِنْ حَضَرَ بَلَا إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ فَلَا رَضْخَ لَهُ بَلْ يُوزِرُهُ الْإِمَامُ إنْ رَآهُ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ سَهْمٍ وَرُضِخَ لِاسْتِهْلَاكِ عَمَلِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ زَالَ نَقْصُ أَهْلِ الرَّضْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْحَرْبُ بِإِسْلَامٍ أَوْ بُلُوغٍ أَوْ إفَاقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ وُضُوحِ ذُكُورَةِ مُشْكِلٍ أُسْهِمَ لَهُمْ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الرَّضْخُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَلَوْ غَزَتْ طَائِفَةٌ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَمِيرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ فَحَكَّمُوا وَاحِدًا فِي الْقِسْمَةِ صَحَّتْ إنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا فَلَا ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ .

كِتَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ الْفَقِيرُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْفَقْرَ مَسْكَنُهُ وَثِيَابُهُ وَمَالُهُ الْغَائِبُ فِي مَرْحَلَتَيْنِ ، وَالْمُؤَجَّلُ وَكَسْبٌ لَا يَلِيقُ بِهِ .

كِتَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَيْ الزَّكَوَاتِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا .
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ أَفْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ بِفَصْلٍ آخِرَ هَذَا الْكِتَابِ وَجَمَعَهَا لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ نَقْدٍ وَحَبٍّ وَغَيْرِهِمَا ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْعَارِهَا بِصِدْقِ بَاذِلِهَا ، وَذَكَرَ هَذَا الْكِتَابَ الْمُزَنِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَكْثَرُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَتَبِعَهُمْ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِهِ هَذَا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالزَّكَاةِ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ جَمْعَهُ .
وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْأُمِّ فِي آخِرِ الزَّكَاةِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ أَنْسَبُ وَافْتَتَحَهُ الْمُحَرَّرُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ } الْآيَةَ فَعُلِمَ مِنْ الْحَصْرِ ب " إنَّمَا " أَنَّهَا لَا تُصْرَفُ لِغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اسْتِيعَابِهِمْ ، وَأَضَافَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الصَّدَقَاتِ إلَى الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَالْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ بِفِي الظَّرْفِيَّةِ لِلْإِشْعَارِ بِإِطْلَاقِ الْمِلْكِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى وَتَقْيِيدِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ حَتَّى إذَا لَمْ يَحْصُلُ الصَّرْفُ فِي مَصَارِفِهَا اُسْتُرْجِعَ بِخِلَافِهِ فِي الْأُولَى عَلَى مَا يَأْتِي ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ عَلَى تَرْتِيبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، فَقَالَ مُبْتَدِئًا بِأَوَّلِهَا : ( الْفَقِيرُ ) مُشْتَقٌّ مِنْ كَسْرٍ الْفِقَارِ الَّتِي فِي الظَّهْرِ ، وَهُوَ هُنَا ( مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ يَقَعُ ) جَمِيعُهَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا ( مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ ) لِقَوْلِهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } وَلَوْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْآيَةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ اسْتِحْقَاقَهُمْ لَارْتَبَطَ كَلَامُهُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَمَا فَعَلَ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْمُرَادُ بِحَاجَتِهِ مَا

يَكْفِيهِ مَطْعَمًا وَمَلْبَسًا وَمَسْكَنًا وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَالِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ، وَاَلَّذِي لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى عَشَرَةٍ وَيَجِدُ مِنْهُمَا دِرْهَمَيْنِ .
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ : أَوْ ثَلَاثَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : أَوْ أَرْبَعَةً ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ مَوْقِعًا الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ نِصَابًا مِنْ الْمَالِ ، أَوْ لَا فَقَدْ لَا يَقَعُ النِّصَابُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَرَضٌ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْغَلُهُ أَوْ وَجَدَ مَنْ يَشْغَلُهُ فِي كَسْبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ كَسْبًا حَلَالًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ فَفَقِيرٍ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهَمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ بِقَدْرٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَقْرِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبَغَوِيِّ فِي فَتَاوِيهِ ، فَقَالَ : لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَصْرِفَ مَا عِنْدَهُ لِلدَّيْنِ ا هـ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَفْسِيرٌ لِفَقِيرِ الزَّكَاةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ التَّقْدِيرِ فِي كَلَامِهِ .
أَمَّا فَقِيرُ الْعَرَايَا ، فَسَبَقَ فِيهَا أَنَّهُ مَنْ لَا نَقْدَ بِيَدِهِ .
وَأَمَّا فَقِيرُ الْعَاقِلَةِ ، فَسَيَأْتِي فِي بَابِهَا أَنَّهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ مَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ ( وَلَا يَمْنَعُ الْفَقْرَ مَسْكَنُهُ ) الْمَمْلُوكُ لَهُ ( وَ ) لَا ( ثِيَابُهُ ) اللَّائِقَانِ بِهِ وَلَا يَضُرُّ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الثِّيَابِ تَعَدُّدُهَا وَلَا كَوْنُهَا لِلتَّجَمُّلِ .
تَنْبِيهٌ : اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَسْكَنِ وَالثِّيَابِ يُوهِمُ عَدَمَ اعْتِبَارِ غَيْرِهِمَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، فَإِنَّ رَقِيقَهُ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ وَكُتُبَهُ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ آلَةٍ لَهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ كُتُبٍ يَتَفَرَّجُ فِيهَا ، وَلَوْ اعْتَادَ السُّكْنَى بِالْأُجْرَةِ أَوْ فِي

الْمَدْرَسَةِ وَمَعَهُ ثَمَنُ مَسْكَنٍ أَوْ لَهُ مَسْكَنٌ خَرَجَ عَنْ اسْمِ الْفَقْرِ بِمَا مَعَهُ كَمَا بَحَثَهُ السُّبْكِيُّ ( وَ ) لَا يَمْنَعُ الْفَقْرَ أَيْضًا ( مَالُهُ الْغَائِبُ فِي ) مَسَافَةٍ ( مَرْحَلَتَيْنِ ) بَلْ لَهُ الْأَخْذُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُعْسِرٌ قِيَاسًا عَلَى فَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ بِغَيْبَةِ مَالِ الزَّوْجِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَيَحْتَاجُ الْقَوْلُ بِالْأَخْذِ مَعَ مَالِهِ الْغَائِبِ إلَى دَلِيلٍ ا هـ .
دَلِيلُهُ الْقِيَاسُ الْمُتَقَدِّمُ .
قَالَهُ الرَّافِعِيُّ : وَقَدْ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي اشْتِرَاطِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، بَلْ يَنْبَغِي الْجَوَازُ فِيمَا دُونَهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ ا هـ .
وَيُرَدُّ بِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي الْحَاضِرِ فَلَمْ يَنْظُرُوا إلَيْهِ ( وَ ) لَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ أَيْضًا مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنَهُ ( الْمُؤَجَّلُ ) الَّذِي لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَيَأْخُذُ مِنْهَا حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحِلَّ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَمْ لَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَقَدْ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِيهِ ا هـ .
وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْمَنْقُولِ .
وَأَمَّا عَلَى بَحْثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا ، وَيُجَابُ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ بِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا كَانَ مَعْدُومًا لَمْ يَعْتَبِرُوا لَهُ زَمَنًا ، بَلْ يُعْطَى حَتَّى يَحِلَّ وَيَقْدِرَ عَلَى خَلَاصِهِ بِخِلَافِ الْمَالِ الْغَائِبِ فَفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا ( وَ ) لَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ مِنْهَا أَيْضًا ( كَسْبٌ ) حَرَامٌ أَوْ ( لَا يَلِيقُ بِهِ ) أَيْ بِحَالِهِ وَمُرُوءَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِمُرُوءَتِهِ فَكَانَ كَالْعَدَمِ ، وَإِطْلَاقُ الْكَسْبِ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَسْبِ الْحَلَالِ اللَّائِقِ .
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ : وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ لَكِنْ بِمَالٍ حَرَامٍ فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى كَسْبٍ حَلَالٍ ، وَأَفْتَى الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ أَرْبَابَ الْبُيُوتِ

الَّذِينَ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِالْكَسْبِ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ ا هـ .
وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْأَنْوَارِ فَقَالَ : فَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِالتَّكَسُّبِ بِالْبَدَنِ وَهُوَ قَوِيٌّ قَادِرٌ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ .
قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْتَادُوا ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْغِنَى ، فَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَتَرْكُهُ ضَرْبٌ مِنْ الْحَمَاقَةِ وَرُعُونَاتِ النَّفْسِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْهُ وَأَخْذِ أَوْسَاخِ النَّاسِ ، بَلْ أَخْذُهَا أَذْهَبُ لِلْمُرُوءَةِ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالنَّسْخِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا فِي مَنْزِلِهِ ، وَقَدْ أَجَّرَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَفْسَهُ أَيْ لِيَهُودِيٍّ يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ كَمَا مَرَّ فِي الْإِجَارَةِ ا هـ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .

وَلَوْ اشْتَغَلَ بِعِلْمٍ وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ فَفَقِيرٌ .
( وَلَوْ اشْتَغَلَ بِعِلْمٍ ) شَرْعِيٍّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ يَتَأَتَّى مِنْهُ تَحْصِيلُهُ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ وَأَقَرَّاهُ ( وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ ) مِنْ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ ( فَفَقِيرٌ ) فَيَشْتَغِلُ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ .
أَمَّا مَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّحْصِيلُ فَلَا يُعْطَى إنْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ مَا لَوْ كَانَ لَا يَمْنَعُهُ ، فَلَا يُعْطَى إذَا كَانَ يَلِيقُ بِهِ مِثْلُهُ وَمِثْلُهُ فِي الْبَسِيطِ بِالتَّكَسُّبِ بِالْوِرَاقَةِ - يَعْنِي النَّسْخَ .
تَنْبِيهٌ : يُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَنْ اشْتَغَلَ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمَا كَانَ آلَةً لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ وَيَتَأَتَّى مِنْهُ تَحْصِيلُهُ أَنَّ لَهُ الْأَخْذَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ فَقَالَ : وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ بِالْوِرَاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ تَعْلِيمِهِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يَقْطَعُهُ عَنْ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ .

وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالنَّوَافِلِ فَلَا .
( وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالنَّوَافِلِ ) لِلْعِبَادَاتِ وَمُلَازَمَةِ الْخَلَوَاتِ فِي الْمَدَارِسِ وَنَحْوِهَا ( فَلَا ) يَكُونُ فَقِيرًا ، وَادَّعَى فِي الْمَجْمُوعِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ وَقَطْعَ الطَّمَعِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاس أَوْلَى مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى النَّوَافِلِ مَعَ الطَّمَعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَغِلِ بِهَذَا وَبَيْنَ الْمُشْتَغِلِ بِعِلْمٍ أَوْ قُرْآنٍ بِأَنَّ ذَلِكَ مُشْتَغِلٌ بِمَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِخِلَافِ هَذَا ، وَلِأَنَّ نَفْعَ هَذَا قَاصِرٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ ذَاكَ ، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الْبَرَزِيِّ : أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ وَكَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ مَعَ الصَّوْمِ كِفَايَتَهُ أَنَّ لَهُ أَخْذَ الزَّكَاةِ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَكْتَسِبُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النِّكَاحِ فَلَهُ أَخْذُهَا لِيَنْكِحَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كِفَايَتِهِ ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ : إنَّ مُسْتَغْرِقَ الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ كَالْمُشْتَغِلِ بِالْفِقْهِ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا .
أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا وَإِنْ كَانَ صُوفِيًّا ا هـ وَفِي قِيَاسِهِ عَلَى الْفِقْهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ .

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الزَّمَانَةُ وَلَا التَّعَفُّفُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْجَدِيدِ .
( وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ) أَيْ فَقِيرٍ الزَّكَاةِ الْآخِذِ مِنْهَا ( الزَّمَانَةُ ) وَهِيَ - بِفَتْحِ الزَّايِ - الْعَاهَةُ ( وَلَا التَّعَفُّفُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْجَدِيدِ ) فِيهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أَيْ غَيْرِ السَّائِلِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ وَمَنْ سَأَلَ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ زَمِنًا ، وَالْقَدِيمِ يَشْتَرِطَانِ ، وَرَجَّحَ فِي الرَّوْضَةِ الْقَطْعَ بِالْأَوَّلِ ، وَنَسَبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ لِلْجُمْهُورِ .

وَالْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ أَوْ زَوْجٍ لَيْسَ فَقِيرًا فِي الْأَصَحِّ .
( وَالْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ أَوْ ) نَفَقَةِ ( زَوْجٍ لَيْسَ فَقِيرًا ) وَلَا مِسْكِينًا أَيْضًا فَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِهِمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ كَالْمُكْتَسِبِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَالثَّانِي : نَعَمْ ؛ لِاحْتِيَاجِهِمَا إلَى غَيْرِهِمَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْ الْقَرِيبِ وَالزَّوْجِ وَلَوْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ الْبَائِنِ وَهِيَ حَامِلٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ الْأَخْذُ بَلَا خِلَافٍ ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ مُتَبَرِّعٍ فَيَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ .
قَالَ ابْنُ قَاضِي عَجْلُونَ فِي تَصْحِيحِهِ قَوْلُ الْمِنْهَاجِ فِي الْمَكْفِيِّ بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَقِيرًا يُخَالِفُ تَعْبِيرَ الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ ، وَرَجَّحَ السُّبْكِيُّ هَذَا الثَّانِي ا هـ .
وَجْهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ شَيْخِي : أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ إلَخْ ، وَهُوَ شَامِلٌ لِهَذَا ، فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ ، لَكِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مَنْزِلَةَ الْغَنِيِّ لِكَوْنِهِ مَكْفِيًّا فَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ ، فَالتَّعْبِيرُ بَلَا يُعْطَى أَوْلَى .

وَيُعْطِي الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ مِنْ سَهْمِ الْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ وَالْمُؤَلَّفَةِ ، وَمِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ ، لَا إنْ سَافَرَتْ مَعَهُ بِإِذْنٍ أَوْ دُونَهُ أَوْ وَحْدَهَا بَلَا إذْنٍ فَلَا يُعْطِيهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأُولَى وَإِنْ انْتَفَى الْإِذْنُ مَكْفِيَّةٌ بِالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَاصِيَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ لِرُجُوعِهَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا ، كَأَنْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهِ أُعْطِيت مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ بَاقِي كِفَايَتِهَا لِحَاجَةِ السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا كَأَنْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا أُعْطِيت كِفَايَتَهَا مِنْهُ ، وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بَلَا إذْنٍ أُعْطِيت هِيَ وَالْعَاصِي بِالسَّفَرِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ النَّاشِزَةِ الْمُقِيمَةِ فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الْغِنَى بِالطَّاعَةِ ، فَأَشْبَهَتْ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ ، وَالْمُسَافِرَةُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْعَوْدِ فِي الْحَالِ ، وَلِلزَّوْجَةِ إعْطَاءُ زَوْجِهَا الْحُرِّ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ ، بَلْ يُسَنُّ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَاقْتَضَى كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هُنَا أَنَّهُ مَكْفِيٌّ بِنَفَقَةِ قَرِيبِهِ ، لَكِنْ صَحَّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ أَنَّ نَفَقَتَهُ لَا تَجِبُ عَلَى قَرِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ .

وَالْمِسْكِينُ : مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي ، فَقَالَ : ( وَالْمِسْكِينُ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ ) لَائِقٍ بِهِ حَلَالٍ ( يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ) لِمَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَمَا مَرَّ فِي الْفَقِيرِ ( وَلَا يَكْفِيهِ ) ذَلِكَ الْمَالُ أَوْ الْكَسْبُ كَمَنْ يَحْتَاجُ إلَى عَشَرَةٍ وَلَا يَجِدُ إلَّا سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا يَمْلِكُهُ نِصَابًا أَمْ لَا كَمَا مَرَّ فِي الْفَقِيرِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ : الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَا يَفِي دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ فَقَدْ يَمْلِكُ أَلْفَ دِينَارٍ وَهُوَ مِسْكِينٌ ، وَقَدْ لَا يَمْلِكُ إلَّا فَأْسًا وَحَبْلًا وَهُوَ غَنِيٌّ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ بَلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ خِلَافًا لِمَنْ عَكَسَ ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الْكَهْفُ ] حَيْثُ سُمِّيَ مَالِكِيهَا مَسَاكِينَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ ، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا } مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْفَقْرِ ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كِفَايَةُ الْعُمْرِ الْغَالِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى كِفَايَةَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَقِيلَ : كِفَايَةَ سَنَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطَى كِفَايَةَ سَنَةٍ ، وَخَرَجَ بِلَائِقٍ بِهِ وَحَلَالٍ غَيْرُ اللَّائِقِ بِهِ وَالْحَرَامُ فَهُوَ كَمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْمَسْكَنَةِ أَثَاثٌ يَحْتَاجُهُ فِي سَنَتِهِ وَلَا مِلْكُهُ ثِيَابَ شِتَاءٍ يَحْتَاجُهَا فِي صَيْفٍ وَلَا عَكْسُهُ وَلَا مِلْكُ كُتُبٍ وَهُوَ فَقِيهٌ يَحْتَاجُهَا لِلتَّكَسُّبِ كَالْمُؤَدِّبِ وَالْمُدَرِّسِ بِأُجْرَةٍ أَوْ لِلْقِيَامِ بِفَرْضٍ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ وَإِنْ كَانَ احْتِيَاجُهُ لَهَا

فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَتَبْقَى لَهُ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ النُّسَخِ الْمُتَكَرِّرَةِ عِنْدَهُ فَلَا يَبْقَيَانِ مَعًا لِاغْتِنَائِهِ بِالصَّحِيحَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَصَحَّ وَالْأُخْرَى أَحْسَنَ يَبْقَى الْأَصَحُّ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ كِتَابَانِ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَبْسُوطًا وَالْآخِرُ وَجِيزًا بَقِيَ الْمَبْسُوطُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُدَرِّسٍ ، بِأَنْ كَانَ قَصْدُهُ الِاسْتِفَادَةَ ، وَإِنْ كَانَ مُدَرِّسًا بَقِيَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي التَّدْرِيسِ ، وَيَبْقَى لَهُ كُتُبُ طِبٍّ يَكْتَسِبُ بِهَا أَوْ يُعَالِجُ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ ، وَالْمُعَالِجُ مَعْدُومٌ مِنْ الْبَلَدِ ، وَكُتُبُ وَعْظٍ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ وَاعِظٌ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَنْتَفِعُ بِالْوَعْظِ كَانْتِفَاعِهِ فِي خَلْوَتِهِ ، وَعَلَى حَسَبِ إرَادَتِهِ ، وَلَا يَبْقَى لَهُ كِتَابٌ يَتَفَرَّجُ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ يُطْلَبُ لِلتَّعْلِيمِ وَلِلِاسْتِفَادَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْمَسْكَنَةَ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَيُطْلَبُ لِلتَّفَرُّجِ فِيهِ بِالْمُطَالَعَةِ كَكُتُبِ التَّوَارِيخِ وَالشَّعْرِ فَيُمْنَعُ ، وَمَنْ لَهُ عَقَارٌ مَثَلًا يَنْقُصُ دَخْلُهُ عَنْ كِفَايَتِهِ فَهُوَ إمَّا فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ .
.

وَالْعَامِلُ سَاعٍ وَكَاتِبٌ وَقَاسِمٌ وَحَاشِرٌ يَجْمَعُ ذَوِي الْأَمْوَالِ ، لَا الْقَاضِي وَالْوَالِي .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ ، فَقَالَ : ( وَالْعَامِلُ ) عَلَى الزَّكَاةِ ( سَاعٍ ) وَهُوَ الَّذِي يَجْبِي الزَّكَاةَ ( وَكَاتِبٌ ) يَكْتُبُ مَا أَعْطَاهُ أَرْبَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ الْمَالِ وَيَكْتُبُ لَهُمْ بَرَاءَةً بِالْأَدَاءِ وَمَا يُدْفَعُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ ( وَقَاسِمٌ ) وَحَاسِبٌ وَعَرِيفٌ ، وَهُوَ كَنَقِيبِ الْقَبِيلَةِ ، وَجُنْدِيٌّ وَهُوَ الْمُشَدُّ عَلَى الزَّكَاةِ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ ( وَحَاشِرٌ ) وَهُوَ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ ( يَجْمَعُ ذَوِي الْأَمْوَالِ ) وَالثَّانِي : مَنْ يَجْمَعُ ذَوِي السُّهْمَانِ لِصِدْقِ اسْمِ الْعَامِلِ عَلَى الْجَمِيعِ ، لَكِنَّ أَشْهَرَهُمْ هُوَ الَّذِي يُرْسَلُ إلَى الْبِلَادِ وَالْبَاقُونَ أَعْوَانٌ .
تَنْبِيهٌ : يُؤْخَذُ مِنْ اسْمِ الْعَامِلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ ، فَلَوْ فَرَّقَ الْمَالِكُ أَوْ حَمَلَهَا إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ ( لَا ) الْإِمَامُ وَ ( الْقَاضِي وَالْوَالِي ) لِلْإِقْلِيمِ إذَا قَامُوا بِذَلِكَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ ، بَلْ رِزْقُهُمْ إذَا لَمْ يَتَطَوَّعُوا بِالْعَمَلِ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عَامٌّ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ شَرِبَ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ وَاسْتَقَاءَهُ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ لِلْقَاضِي قَبْضَ الزَّكَوَاتِ وَصَرْفَهَا ، وَهَذَا فِي أَمْوَالِ أَيْتَامٍ تَحْتَ نَظَرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ الْإِمَامُ لَهَا نَاظِرًا فَفِي دُخُولِهَا فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الدُّخُولُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ ، وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ الدُّخُولَ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا ، وَيُزَادُ فِي الْعُمَّالِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْوَزَّانُ وَالْكَيَّالُ وَالْعَدَّادِ عُمَّالٌ إنْ مَيَّزُوا بَيْنَ أَنْصِبَاءِ الْأَصْنَافِ وَأُجْرَتُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ ، إذْ لَوْ أَلْزَمْنَاهَا لِلْمَالِكِ لَزِدْنَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا مُمَيِّزُو الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ وَجَامِعُوهُ فَإِنَّ

أُجْرَتَهُمْ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهَا لِتَوْفِيَةِ الْوَاجِبِ ، كَأُجْرَةِ كَيْلِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي وَالْحَافِظِ بَعْدَ قَبْضِهَا وَالْمُخَزِّنِ وَالنَّاقِلِ فِي جُمْلَةِ السَّهْمَيْنِ لَا فِي سَهْمِ الْعَامِلِ .

وَالْمُؤَلَّفَةُ مَنْ أَسْلَمَ وَنِيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ أَوْ لَهُ شَرَفٌ يُتَوَقَّعُ بِإِعْطَائِهِ إسْلَامُ غَيْرِهِ ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ ، فَقَالَ : ( وَالْمُؤَلَّفَةُ ) جَمْعُ مُؤَلَّفٍ مِنْ التَّأَلُّفِ ، وَهُوَ جَمْعُ الْقُلُوبِ ، وَهُوَ ( مَنْ أَسْلَمَ وَنِيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ ) فَيُتَأَلَّفُ لِيَقْوَى إيمَانُهُ وَيَأْلَفُ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ضَعْفِ النِّيَّةِ بِلَا يَمِينٍ ( أَوْ ) مَنْ أَسْلَمَ وَنِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ قَوِيَّةٌ ، وَلَكِنْ ( لَهُ شَرَفٌ ) فِي قَوْمِهِ ( يُتَوَقَّعُ بِإِعْطَائِهِ إسْلَامُ غَيْرِهِ ) مِنْ نَظَائِرِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي شَرَفِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ( وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } ؛ إذْ لَوْ لَمْ نُعْطِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمْ نَجِدْ لِلْآيَةِ مَحْمَلًا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُعْطَوْنَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْ التَّأْلِيفِ بِالْمَالِ .
وَالثَّالِثُ : يُعْطَوْنَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِلْمَصَالِحِ ، وَهَذَا مِنْهَا ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْأَظْهَرِ لِأَنَّ الْخِلَافَ أَقْوَالٌ ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ : مَنْ أَسْلَمَ مُؤَلَّفَةُ الْكُفَّارِ ، وَهُمْ مَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُمْ وَمَنْ يُخْشَى شَرُّهُمْ ، فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ قَطْعًا لِلْإِجْمَاعِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى الْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَأَغْنَى عَنْ التَّأْلِيفِ ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } .
تَنْبِيهٌ : حَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْمُؤَلَّفَةَ فِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ هُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ ؛ الْمَذْكُورَانِ .
وَالثَّالِثُ : مَنْ يُقَاتِلُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَالرَّابِعُ : مَنْ يُقَاتِلُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ فَيُعْطَوْنَ إذَا كَانَ إعْطَاؤُهُمَا أَهْوَنَ عَلَيْنَا مِنْ جَيْشٍ يُبْعَثُ لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ أَوْ كَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
قَالَ

الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : وَيُعْتَبَرُ فِي إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ احْتِيَاجُنَا إلَيْهِمْ وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْمُخْتَصَرِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ .
أَمَّا هُمَا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ ، وَهَلْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ نَعَمْ .

وَالرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ الْخَامِسِ ، فَقَالَ : ( وَالرِّقَابُ ) وَهُمْ ( الْمُكَاتَبُونَ ) كِتَابَةً صَحِيحَةً فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ لَا مِنْ زَكَاةِ سَيِّدِهِمْ ، وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَا يُؤَدُّونَ مِنْ النُّجُومِ فِي الْكِتَابَةِ بِأَنْ عَجَزُوا عَنْ الْوَفَاءِ وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ النَّجْمُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ مُتَيَسِّرٌ فِي الْحَالِ ، وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ عِنْدَ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَاجِزِينَ لِعَدَمِ حَاجَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْحُلُولَ كَمَا اشْتَرَطَ فِي الْغَارِمِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الرِّقِّ أَهَمُّ ، وَالْغَارِمُ يُنْتَظَرُ لَهُ الْيَسَارُ ، فَإِنْ لَمْ يُوسِرْ فَلَا حَبْسَ وَلَا مُلَازَمَةَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَ بِمَا يَخُصُّهُمْ رِقَابٌ لِلْعِتْقِ كَمَا قِيلَ بِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ } كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهُنَاكَ يُعْطَى الْمَالُ لِلْمُجَاهِدِينَ فَيُعْطَى لِلرِّقَابِ هُنَا .
أَمَّا الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَلَا يُعْطَى ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ ، وَكَذَا لَا يُعْطَى مَنْ كُوتِبَ بَعْضُهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ لِئَلَّا يَأْخُذَ بِبَعْضِهِ الرَّقِيقِ مِنْ سَهْمِ الْمُكَاتِبِينَ .
وَاسْتَحْسَنَ الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ صُرِفَ إلَيْهِ فِي نَوْبَتِهِ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ الْمُكَاتَبَ مِنْ زَكَاةِ سَيِّدِهِ لِعَوْدِ الْفَائِدَةِ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يُعْطِيَ غَرِيمَهُ مِنْ زَكَاتِهِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ أَعْطَى مَمْلُوكَهُ ، بِخِلَافِ الْغَارِمِ .
وَيُعْطَى الْمُكَاتَبُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى كَسْبِ مَا يُؤَدِّي بِهِ النُّجُومَ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ لَا يُعْطَيَانِ حِينَئِذٍ كَمَا مَرَّ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ حَاجَتَهُمَا تَتَحَقَّقُ يَوْمًا بِيَوْمٍ ، وَالْكَسُوبُ يُحَصِّلُ كُلَّ يَوْمٍ كِفَايَتَهُ ،

وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلِ كِفَايَةِ الدَّيْنِ إلَّا بِالتَّدْرِيجِ وَلَا يُزَادُونَ عَلَى مَا يُؤَدُّونَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَلَوْ اسْتَدَانَ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا فُكَّ بِهِ رَقَبَتِهِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لَا الْمُكَاتِبِينَ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ ، وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ اسْتَرَدَّ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَتَعَلَّقَ بَدَلُهُ بِذِمَّتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا لِحُصُولِ الْمَالِ عِنْدَهُ بِرِضَا مُسْتَحَقِّهِ ، فَلَوْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ رَدَّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَغَرِمَ بَدَلَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا ، وَلَوْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ شَخْصًا لَمْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ بَلْ يُغَرِّمُهُ السَّيِّدُ .

وَالْغَارِمُ إنْ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ أُعْطِيَ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ يُعْطَى إذَا تَابَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْأَظْهَرُ اشْتِرَاطُ حَاجَتِهِ دُونَ حُلُولِ الدَّيْنِ .
قُلْتُ : الْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ حُلُولِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، أَوْ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أُعْطِيَ مَعَ الْغِنَى ، وَقِيلَ : إنْ كَانَ غَنِيًّا بِنَقْدٍ فَلَا .

ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ السَّادِسِ ، وَهُوَ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : دَيْنٌ لَزِمَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ ، وَدَيْنٌ لَزِمَهُ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ ، وَهُوَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَدَيْنٌ لَزِمَهُ لَا لِتَسْكِينِهَا ، وَالْمُصَنِّفُ أَسْقَطَ هَذَا الضَّرْبَ ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ : اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( وَالْغَارِمُ إنْ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ ) شَيْئًا يَصْرِفُهُ فِي غَرَضِهَا ( فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ) مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ ، كَحَجٍّ وَجِهَادٍ وَتَزَوُّجٍ وَأَكْلٍ وَلُبْسٍ ( أُعْطِيَ ) وَمِثْلُهُ مَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَمَثَّلَ الرَّافِعِيُّ الِاسْتِدَانَةَ لِلْمَعْصِيَةِ بِثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ سَبَقَ فِي الْحَجْرِ عَدَمُ تَحْرِيمِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَطَاعِمِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْأَصَحِّ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا إسْرَافٌ فِي نَفَقَةٍ بِقَرْضٍ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً بِخِلَافِهِ هُنَاكَ ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ عُدْوَانًا فَلَا يُعْطَى ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ يُعْطَى ) مَعَ الْفَقْرِ ( إذَا تَابَ ) عَنْهَا ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَطَعَتْ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ النَّظَرُ إلَى حَالِ وُجُودِهَا كَالْمُسَافِرِ لِمَعْصِيَةٍ إذَا تَابَ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا هُنَا لِمُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لِيَظْهَرَ حَالُهُ إلَّا أَنَّ الرُّويَانِيَّ قَالَ : يُعْطَى إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ فَيُمْكِنُ حَمْلُ إطْلَاقِهِمْ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَإِنْ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ ، وَالثَّانِي : لَا يُعْطَى ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ثُمَّ يَعُودُ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَوْ اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ ثُمَّ صَرَفَهُ فِي مُبَاحٍ أُعْطِيَ وَفِي عَكْسِهِ يُعْطَى أَيْضًا

إنْ عُرِفَ قَصْدُ الْإِبَاحَةِ أَوْ لَا ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ ، وَالْأُولَى وَارِدَةٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَاسْتِدْرَاكُهُ لِمَا يُفْهِمُهُ عُمُومُ مَفْهُومِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ : إنْ اسْتَدَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ أَنَّ الْمُسْتَدِينَ لِمَعْصِيَةٍ لَا يُعْطَى مُطْلَقًا ، وَلِهَذَا نَقَلَ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمُحَرَّرِ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَى ، وَمُرَادُهُ مَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْمَفْهُومِ ( وَالْأَظْهَرُ اشْتِرَاطُ حَاجَتِهِ ) أَيْ الْمُسْتَدِينِ بِأَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى وَفَاءِ مَا اسْتَدَانَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ كَالْمُكَاتَبِ ، فَلَوْ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي بِهِ دَيْنَهُ لَمْ يُعْطِ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَمِنْ الْمُهِمِّ الْبَحْثُ عَنْ مَعْنَى الْحَاجَةِ ، وَعِبَارَةُ أَكْثَرِهِمْ تَقْتَضِي كَوْنَهُ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَقْرَبُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : لَا يُعْتَبَرُ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ ، بَلْ لَوْ مَلَكَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ ، وَلَوْ قَضَى دَيْنَهُ مِمَّا مَعَهُ تَمَسْكَنَ فَيُتْرَكُ لَهُ مِمَّا مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ وَيُعْطَى مَا يَقْضِي بِهِ بَاقِيَ دَيْنِهِ ، وَوَافَقَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ بِالِاكْتِسَابِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يُعْطَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ وَحَاجَتُهُ حَاصِلَةٌ فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ حِينَئِذٍ مُحْتَاجٌ .
ثَانِيهِمَا : عَوْدُ الْخِلَافِ إلَى التَّائِبِ تَفْرِيعًا عَلَى إعْطَائِهِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ اشْتِرَاطُ الْحَاجَةِ مَجْزُومٌ بِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَالْخِلَافُ عَائِدٌ لِلِاسْتِدَانَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ( دُونَ حُلُولِ الدَّيْنِ ) فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَظْهَرِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ ، لَكِنَّ قَوْلَهُ : ( قُلْتُ : الْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ حُلُولِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ وَجْهَانِ ،

وَهُوَ مَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَ قَبْلَ الْحُلُولِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ الْآنَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي ، فَقَالَ : ( أَوْ ) أَيْ أَوْ اسْتَدَانَ ( لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ) أَيْ الْحَالِ بَيْنَ الْقَوْمِ ، كَأَنْ يَخَافَ فِتْنَةً بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا فِي قَتِيلٍ لَمْ يَظْهَرْ قَاتِلُهُ فَيَسْتَدِينُ مَا يَسْكُنُ بِهِ الْفِتْنَةُ وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا وَإِتْلَافُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ كَالنَّفْسِ كَمَا شَمِلَ ذَلِكَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ( أُعْطِيَ ) إنْ كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا ( مَعَ الْغِنَى ) بِالْعَقَارِ قَطْعًا ، وَبِالْعَرْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَبِالنَّقْدِ عَلَى الْأَصَحِّ ( وَقِيلَ : إنْ كَانَ غَنِيًّا بِنَقْدٍ فَلَا ) يُعْطَى حِينَئِذٍ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ فِي الْغُرْمِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةُ غَيْرِهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الْفَقْرُ فِيهِ لَقَلَّتْ الرَّغْبَةُ فِي هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ بَاقِيًا كَأَنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى .
الضَّرْبُ الثَّالِث : الَّذِي أَسْقَطَهُ الْمُصَنِّفُ : مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ بِطَرِيقِ الضَّمَانِ عَنْ مُعَيَّنٍ لَا فِي تَسْكِينِ فِتْنَةٍ فَيُعْطَى إنْ أَعْسَرَ مَعَ الْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بِالضَّمَانِ أَوْ أَعْسَرَ وَحْدَهُ وَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَرِمَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَمِنَ بِالْإِذْنِ ، وَصَرْفُهُ إلَى الْأَصِيلِ الْمُعْسِرِ أَوْلَى لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرَّعَهُ ، وَإِنْ أَعْسَرَ الْأَصِيلُ وَحْدَهُ أُعْطِيَ دُونَ الضَّامِنِ بِخِلَافِ الْأَصِيلِ أَوْ الضَّامِنِ الْمُوسِرِ .
؛ إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ ، وَإِذَا أُعْطِيَ الضَّامِنُ وَقَضَى بِهِ الدَّيْنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إذَا غَرِمَ مِنْ عِنْدَهُ بِشَرْطِهِ وَإِنْ كَانَا مُوسِرِينَ لَمْ يُعْطِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَلَوْ اسْتَدَانَ لِمَصْلَحَةٍ

عَامَّةٍ كَقِرَى ضَيْفٍ ، وَعِمَارَةِ مَسْجِدٍ ، وَبِنَاءِ قَنْطَرَةٍ ، وَفَكِّ أَسِيرٍ ، فَهُوَ كَمَنْ اسْتَدَانَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ ، وَجَرَى عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحِجَازِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الرَّوْضَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأَكْثَرِينَ ، وَاعْتَمَدَهُ شَيْخِي ، وَقِيلَ : يُعْطَى عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ النَّقْدِ لَا عَنْ غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ .
وَحَكَى فِي الرَّوْضَةِ الْمَقَالَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ .
تَنْبِيهٌ : اشْتِرَاطُ الْمُصَنِّفِ حُلُولَ الدَّيْنِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي ، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ الْإِعْطَاءُ فِيهِ مَعَ الْغِنَى يَجُوزُ مَعَ التَّأْجِيلِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ؛ إذْ لَا طَلَبَ لِلْمَدِينِ الْآنَ وَالتَّسْلِيمُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْغَارِمُ إلَى السَّيِّدِ أَوْ الْغَرِيمِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْغَارِمِ أَحْوَطُ وَأَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ فَلَا يُسْتَحَبُّ تَسْلِيمُهُ إلَى مَنْ ذُكِرَ وَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْغَارِمِ لَا يَقَعُ زَكَاةً ؛ لِأَنَّهُمَا الْمُسْتَحِقَّانِ ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُمَا بِقَدْرِ الْمَصْرُوفِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ ، وَلَوْ أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ أُبْرِئَ الْغَارِمُ أَوْ اسْتَغْنَيَا وَبَقِيَ مَالُ الزَّكَاةِ فِي أَيْدِيهِمَا اسْتَرَدَّ مِنْهُمَا بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ ، وَلَوْ أَتْلَفَاهُ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَالْبَرَاءَةِ لَمْ يَغْرَمَا لِتَلَفِهِ عَلَى مِلْكِهِمَا مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ أَوْ بَعْدَهُ غَرِمَاهُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ أَنْ يَتَّجِرَا فِي الْمَأْخُوذِ لِيَرْبَحَا فِيهِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُنْفِقَ مَا أَخَذَهُ وَيُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهِ مُنِعَ

الْمُكَاتَبُ لَا الْغَارِمُ ، وَلَوْ أَدَّى الْغَارِمُ الدَّيْنَ مِنْ قَرْضٍ فَلَمْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى لَزِمَهُ دَيْنٌ صَارَ بِهِ غَارِمًا اُسْتُرِدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَسْلِفِ لَهُ قَبْلَ غُرْمِهِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَقِيلَ : لَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَيْهِ الْآنَ ، وَلَوْ بَانَ الْقَابِضُ لِلزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِكِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا كَغَنِيٍّ لَمْ يَحُزْهُ ، وَإِنْ أَعْطَاهَا لَهُ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ بِالْوَصْفِ الَّذِي أَعْطَاهُ بِهِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ .

وَسَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى غُزَاةٌ لَا فَيْءَ لَهُمْ فَيُعْطَوْنَ مَعَ الْغِنَى .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الصِّنْفِ السَّابِعِ ، فَقَالَ : ( وَسَبِيلُ اللَّهِ - تَعَالَى - غُزَاةٌ ) ذُكُورٌ ( لَا فَيْءَ لَهُمْ ) أَيْ لَا اسْمَ لَهُمْ فِي دِيوَانِ الْمُرْتَزِقَةِ بَلْ يَتَطَوَّعُونَ بِالْغَزْوِ حَيْثُ نَشَطُوا لَهُ وَهُمْ مُشْتَغِلُونَ بِالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ ( فَيُعْطَوْنَ ) مِنْ الزَّكَاةِ ( مَعَ الْغِنَى ) لِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْغَزْوِ ، بِخِلَافِ مَنْ لَهُمْ الْفَيْءُ ، وَهُمْ الْمُرْتَزِقَةُ الثَّابِتُ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الدِّيوَانِ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ وَلَوْ عُدِمَ الْفَيْءُ فِي الْأَظْهَرِ بَلْ يَجِبُ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ إعَانَتُهُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { : كَانَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ } ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَخَذُوا بَدَلَ جِهَادِهِمْ مِنْ الْفَيْءِ ، فَلَوْ أَخَذُوا مِنْ الزَّكَاةِ أَخَذُوا بَدَلَيْنِ عَنْ مُبْدَلٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ ، وَلِكُلِّ ضَرْبٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الضَّرْبِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ سَبِيلُ اللَّهِ بِالْغُزَاةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْجِهَادِ أَغْلَبُ عُرْفًا وَشَرْعًا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَحُمِلَ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ سَبِيلُ اللَّهِ بِالْوَضْعِ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَعَمُّ ، وَلَعَلَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْجِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى الشَّهَادَةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ سَبِيلِ اللَّهِ عَلَيْهِ .
.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51