كتاب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
المؤلف : محمد بن أحمد الخطيب الشربيني

يُسَلِّمُهَا لِقَاضِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، أَوْ إلَى أَمِينٍ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتَصْحَبَهَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْهَبُ وَلَا يَرْكَبُهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ جَمُوحًا كَالْوَدِيعَةِ .

وَتَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْعَيْنِ بِتَلَفِ الدَّابَّةِ ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِعَيْبِهَا ، وَلَا خِيَارَ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِبْدَالُ ، وَالطَّعَامُ الْمَحْمُولُ لِيُؤْكَلَ يُبْدَلُ إذَا أُكِلَ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَتَنْفَسِخُ ) الْإِجَارَةُ فِي ( إجَارَةِ الْعَيْنِ ) فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( بِتَلَفِ الدَّابَّةِ ) الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَلَا تُبَدَّلُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا تُبَدَّلُ ، ( وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ ) عَلَى التَّرَاخِي ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا لِابْنِ السُّكَّرِيِّ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ( بِعَيْبِهَا ) الْمُقَارِنِ إذَا جُهِلَ ، وَالْحَادِثِ لِتَضَرُّرِهِ بِالْبَقَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِالْعَيْبِ هُنَا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَثَرًا يَظْهَرُ لَهُ تَفَاوُتٌ فِي الْأُجْرَةِ لَا فِي الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْمَنْفَعَةُ ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَحَيْثُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ وَأَجَازَ لَزِمَ الْمُسَمَّى ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَاتَ الْخِيَارُ وَلَهُ الْأَرْشُ ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ فِي الْأَثْنَاءِ وَفُسِخَ فَلَهُ الْأَرْشُ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ فَلَا أَرْشَ لِلْمُسْتَقْبَلِ ، وَيُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الْغَزِّيُّ وُجُوبُهُ فِيمَا مَضَى كَمَا فِي كُلِّ الْمُدَّةِ .
تَنْبِيهٌ : خُشُونَةُ مَشْيِ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ كَمَا جَزَمَا بِهِ وَخَالَفَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَجَعَلَهُ عَيْبًا ، وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ قَالَ : وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي عَيْبِ الْمَبِيعِ .
ا هـ .
وَجَمَعَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا هُنَاكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا خُشُونَةٌ لَا يَخَافُ مِنْهَا السُّقُوطَ بِخِلَافِهِ هُنَا ، ( وَلَا خِيَارَ ) لِلْمُكْتَرِي ( فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ ) بِعَيْبِ دَابَّةٍ أَحْضَرَهَا الْمُكْرِي ( بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِبْدَالُ ) ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ عَيْبًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَلِيمٍ ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ رَجَعَ إلَى مَا فِي الذِّمَّةِ .
تَنْبِيهٌ : سَكَتَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَنْ عَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِالْمُتْلَفِ مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ نَفْيِهِ الْخِيَارُ بِالْعَيْبِ مِنْ طَرِيقِ أَوْلَى ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ، وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخْ

بِإِتْلَافِهَا أُبْدِلَتْ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إبْدَالِهَا فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : ثُبُوتُ الْخِيَارِ ، وَلَيْسَ لِلْمُكْرِي أَنْ يُبَدِّلَ الدَّابَّةَ الْمُسَلَّمَةَ عَنْ الْإِجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُكْتَرِي ، إذْ لِلْمُكْتَرِي إجَارَتُهَا بَعْدَ قَبْضِهَا ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهَا لَا قَبْلَ قَبْضِهَا عَمَّا الْتَزَمَ لَهُ الْمُكْرِي ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ ، وَتُبَدَّلُ هَذِهِ عِنْدَ الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ قُدِّمَ بِمَنْفَعَتِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ قَبْلَ قَبْضِهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، وَفِي إجَارَتِهَا لِلْمُؤَجِّرِ وَجْهَانِ : قَالَ الْمُصَنِّفُ : الْأَصَحُّ صِحَّتُهَا مِنْهُ .
ا هـ .
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ بِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي الْمَنَافِعِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْأَعْيَانِ ، ( وَالطَّعَامُ الْمَحْمُولُ ) لَا لِيَصِلَ بَلْ ( لِيُؤْكَلَ ) فِي الطَّرِيقِ ( يُبْدَلُ إذَا أُكِلَ فِي الْأَظْهَرِ ) ، كَسَائِرِ الْمَحْمُولَاتِ إذَا بَاعَهَا أَوْ تَلِفَتْ .
وَالثَّانِي : لَا يُبْدَلُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الزَّادِ أَنْ لَا يُبْدَلَ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ يَجِدُ الطَّعَامَ فِي الْمَنَازِلِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِسِعْرِ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَإِلَّا أُبْدِلَ قَطْعًا ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ إذَا أُكِلَ عَمَّا إذَا تَلِفَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُبَدَّلُ جَزْمًا .
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِنْ شُرِطَ شَيْءٌ اُتُّبِعَ .
وَأَمَّا الْمَاءُ الْمَحْمُولُ إذَا شُرِبَ فَإِنَّهُ يُبَدَّلُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ شُرَّاحِ التَّنْبِيهِ لِتَطَابُقِ اللَّفْظِ وَالْعُرْفِ عَلَى الْإِبْدَالِ ، وَلَوْ حَمَلَ التَّاجِرُ مَتَاعًا يَبِيعُهُ فِي طَرِيقِهِ فَبَاعَ بَعْضَهُ ، فَفِي فُرُوعِ ابْنِ الْقَطَّانِ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ ، وَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مِثْلُ الزَّادِ .
ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ .

فَصْلٌ : يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُدَّةً تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا ، وَفِي قَوْلٍ لَا يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ وَفِي قَوْلٍ ثَلَاثِينَ

فَصْلٌ فِي بَابِ الزَّمَنِ الَّذِي تُقَدَّرُ الْمَنْفَعَةُ بِهِ ، وَبَيَانُ مَنْ يَسْتَوْفِيهَا ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
( يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُدَّةً ) مَعْلُومَةً ( تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ ) الْمُؤَجَّرَةُ ( غَالِبًا ) لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ إذْ لَا تَوْقِيفَ فِيهِ ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، فَيُؤَجِّرُ الدَّارَ وَالرَّقِيقَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَالدَّابَّةَ عَشْرَ سِنِينَ ، وَالثَّوْبَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْأَرْضَ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ ، ( وَفِي قَوْلٍ لَا يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ ) لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِهَا ، ( وَفِي قَوْلٍ ) عَلَى ( ثَلَاثِينَ ) سَنَةً ؛ لِأَنَّهَا نِصْفُ الْعُمْرِ الْغَالِبِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ صُوَرٌ : إحْدَاهَا : مَا إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ وَقْفُهُ إلَّا سَنَةً وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
ثَانِيهَا : إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ كَمَا نَقَلَهُ الْغَزِّيُّ عَنْ ابْنِ جَمَاعَةَ وَأَقَرَّهُ .
ثَالِثُهَا : الْمَنْذُورُ إعْتَاقُهُ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ بَعْدَ سَنَةٍ ، لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُدَّةِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِمْرَارِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّ مَنْ آجَرَ عَبْدَ نَفْسِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ .
رَابِعُهَا : الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ .
قَالَ الْبَغَوِيّ : إنْ تَحَقَّقَ عَدَمُ وُجُودِ الصِّفَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ ، وَإِلَّا فَيَجِبُ أَنْ لَا تَجُوزَ كَالصَّبِيِّ ، وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ : يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ وَإِنْ تَحَقَّقَ وُجُودُ الصِّفَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ فَيَرْتَفِعُ التَّعْلِيقُ ، وَبَيْعُ

الْمُسْتَأْجَرِ صَحِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ .
خَامِسُهَا : إجَارَةُ الْمَرْهُونِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الصِّحَّةِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ يَحِلُّ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ مَعَهَا .
سَادِسُهَا : إجَارَةُ الْوَلِيِّ الصَّبِيَّ أَوْ مَالَهُ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ مُدَّةَ بُلُوغِهِ بِالسِّنِّ ، فَلَوْ كَانَ عُمْرُهُ عَشَرَ سِنِينَ فَأَجَّرَهُ عَشْرَ سِنِينَ بَطَلَ فِي الزَّائِدِ عَلَى مُدَّةِ الْبُلُوغِ ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ مُدَّةً لَا يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ ، وَإِنْ احْتَمَلَ بُلُوغَهُ بِالِاحْتِلَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّبِيِّ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ .
أَمَّا أَقَلُّهَا فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَقَلُّ مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ الْأَرْضُ فِيهَا لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةُ زِرَاعَتِهَا ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى يَوْمٌ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ تَافِهٌ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ مَسَائِلُ : الْأُولَى : سَوَادُ الْعِرَاقِ ، فَإِنَّ الْأَصَحُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ آجَرَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ .
ثَانِيهَا : أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا شَهْرًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ .
ثَالِثُهَا : عَقْدُ الْجِزْيَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهَا عَقْدُ إجَارَةٍ عَلَى إقَامَتِهِمْ فِي دَارِنَا وَهُوَ الْأَصَحُّ .
رَابِعُهَا : اسْتِئْجَارُ الْعُلُوِّ لِحَقِّ الْبِنَاءِ وَلِإِجْرَاءِ الْمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْمُدَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الصُّلْحِ .
خَامِسُهَا : اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ الْمُدَّةِ يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ ، قَالَهُ فِي الشَّامِلِ فِي بَابِ الْغَنِيمَةِ .
سَادِسُهَا : اسْتِئْجَارُ الْإِمَامِ

لِلْأَذَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَذَانِ .

وَلَلْمُكْتَرِي اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَيُرْكِبُ وَيُسَكِّنُ مِثْلَهُ ، وَلَا يُسَكِّنُ حَدَّادًا وَقَصَّارًا ، وَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ كَدَارٍ وَدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يُبْدَلُ ، وَمَا يُسْتَوْفَى بِهِ كَثَوْبٍ وَصَبِيٍّ عُيِّنَ لِلْخَيَّاطَةِ وَالِارْتِضَاعِ يَجُوزُ إبْدَالُهُ فِي الْأَصَحِّ .

وَالْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مُسْتَوْفٍ وَمُسْتَوْفًى مِنْهُ وَبِهِ وَفِيهِ ، وَأَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : ( وَلِلْمُكْتَرِي اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ ) كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَمَانَةُ مَنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ ، فَلَوْ شَرَطَ اسْتِيفَاءَهَا عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَيْنًا وَشَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهَا ، وَلِابْنِ الرِّفْعَةِ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَدْ يُخْرِجُ الِاسْتِئْجَارَ لِإِفَادَةِ عَيْنٍ كَالرَّضَاعِ وَالْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ فِي الْجَمِيعِ ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ : بِغَيْرِهِ جَوَازَ إعَارَةِ الْمُكْتَرِي الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ فِي الْمَتْنِ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ ، وَإِذَا جَازَ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِهِ ( فَيُرْكِبُ ) فِي اسْتِئْجَارِ دَابَّةٍ لِلرُّكُوبِ مِثْلَهُ ضَخَامَةً وَنَحَافَةً وَطُولًا وَعَرْضًا وَقِصَرًا أَوْ دُونَهُ فِيمَا ذُكِرَ ، ( وَيُسَكِّنُ ) فِي اسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى ( مِثْلَهُ ، وَلَا يُسَكِّنُ ) إذَا كَانَ بَزَّازًا مَثَلًا ( حَدَّادًا ، وَ ) لَا ( قَصَّارًا ) لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ بِدَقِّهِمَا ، وَكَذَا يُلْبِسُ الثَّوْبَ مِثْلَهُ وَدُونَهُ ، وَيَنْبَغِي فِي اللَّابِسِ الْمُمَاثَلَةُ فِي النَّظَافَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَلَعَلَّ ضَابِطَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَاوِيَ الْمُسْتَأْجِرَ فِي الضَّرَرِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ يَجُوزُ إبْدَالُهُ ، وَاسْتَثْنَى جَمْعٌ مِنْهُمْ الْجُرْجَانِيِّ : مَا لَوْ قَالَ : لِتَسْكُنَهَا وَتُسْكِنَ مَنْ شِئْت لِلْإِذْنِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : ازْرَعْ مَا شِئْت ، وَلِلْأَذْرَعِيِّ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ .
وَأَشَارَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ : ( وَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ ) الْمَنْفَعَةُ ( كَدَارٍ وَدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ) هُوَ قَيْدٌ فِي الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تَكُونُ إلَّا مُعَيَّنَةً ، وَلَوْ كَانَ قَيْدًا فِيهَا لَوَجَبَ

التَّثْنِيَةُ ( - لَا يُبْدَلُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ ، وَلِهَذَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِهِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ مَفْهُومِ الْمَتْنِ جَوَازُ الْإِبْدَالِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مَا إذَا أَسْلَمَ دَابَّةً عَمَّا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُبَدَّلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فِي الْأَصَحِّ كَمَا مَرَّ .
وَأَشَارَ إلَى الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ : ( وَمَا يُسْتَوْفَى ) الْمَنْفَعَةُ ( بِهِ كَثَوْبٍ وَصَبِيٍّ عُيِّنَ ) الْأَوَّلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ( لِلْخِيَاطَةِ ، وَ ) الثَّانِي : لِأَجْلِ ( الِارْتِضَاعِ ) أَوْ التَّعْلِيمِ ( - يَجُوزُ إبْدَالُهُ ) أَيْ مَا ذُكِرَ بِمِثْلِهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْأَجِيرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ لِلِاسْتِيفَاءِ ، فَأَشْبَهَ الرَّاكِبَ وَالْمَتَاعَ الْمُعَيَّنَ لِلْحَمْلِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ : كَالْمُسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْخُلْعِ ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ فِي شَرْحِ إرْشَادِهِ ، وَرَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمُسْتَوْفَى فِيهِ ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُهُ ، كَأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِرُكُوبٍ فِي طَرِيقٍ لَهُ إبْدَالُ الطَّرِيقِ بِمِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ عُيِّنَ أَشَارَ بِهِ إلَى مَا نَقَلَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَأَقَرَّاهُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ خِيَاطَةَ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ ، أَوْ حَمْلَ مَتَاعٍ مُعَيَّنٍ ، أَمَّا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلِ مَتَاعٍ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إبْدَالِ الرَّاكِبِ وَالْمَتَاعِ ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَقْدَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - يَتَنَاوَلُ الْمُدَّةَ بِدَلِيلِ اسْتِقْرَارِ الْأُجْرَةِ بِتَسْلِيمِهَا وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ ، وَإِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ تَنَاوَلَ الْعَقْدُ الْعَمَلَ الْمُسْتَوْفَى بِهِ ؛ فَكَأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَلِلْإِمَامِ نَحْوُهُ ، وَلَوْ

اعْتَاضَ عَنْ مَنْفَعَةٍ بِمَنْفَعَةٍ جَازَ قَطْعًا ، وَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ : وَعَيْنَا بِالتَّثْنِيَةِ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِصَبِيٍّ وَثَوْبٍ ، وَإِيقَاعُ ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ شَاذٌّ .

وَيَدُ الْمُكْتَرِي عَلَى الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ يَدُ أَمَانَةٍ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَكَذَا بَعْدَهَا فِي الْأَصَحِّ .

فَرْعٌ : لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ لَمْ يَنَمْ فِيهِ لَيْلًا عَمَلًا بِالْعَادَةِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبَ التَّحْتَانِيَّ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فَطَرِيقُهُ إذَا أَرَادَ النَّوْمَ فِيهِ أَنْ يَشْرُطَهُ وَيَنَامَ فِي الثَّوْبِ التَّحْتَانِيِّ نَهَارًا سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْفَوْقَانِيُّ فَلَا يَنَامُ فِيهِ وَلَا يَلْبَسُهُ كُلَّ وَقْتٍ ، بَلْ عِنْدَ التَّجَمُّلِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهَا بِالتَّجَمُّلِ كَحَالَةِ الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ وَنَحْوِهِ ، وَدُخُولِ النَّاسِ عَلَيْهِ ، وَيَنْزِعُهُ فِي أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِقَمِيصٍ اسْتَأْجَرَهُ لِلُبْسِهِ ، وَلَا بِرِدَاءٍ اسْتَأْجَرَهُ لِلِارْتِدَاءِ بِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ وَيَتَعَمَّمَ بِمَا اسْتَأْجَرَهُ لِلُّبْسِ وَالِاتِّزَارِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا يَوْمًا كَامِلًا فَمِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ ، إذْ النَّهَارُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَقِيلَ : مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ ، أَوْ يَوْمًا وَأَطْلَقَ فَمِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى مِثْلِهِ ، أَوْ لِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ دَخَلَتْ اللَّيَالِي الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهَا .
( وَيَدُ الْمُكْتَرِي عَلَى ) الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ ( الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ ) وَغَيْرِهِمَا ( يَدُ أَمَانَةٍ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ ) جَزْمًا ، فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِيهَا بِلَا تَقْصِيرٍ ، إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ ، إلَّا بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ دَفْعُ مُتْلَفَاتِهَا كَالْمُودَعِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ : عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ كَمَا قَدَّرْتُهُ بَدَلَ عَلَى الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ ، لَكَانَ أَخَصْرَ وَأَشْمَلَ ، ( وَكَذَا بَعْدَهَا ) إذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ كَالْمُودَعِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا ، بَلْ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَالِكِ كَالْوَدِيعَةِ .
وَالثَّانِي : يَدُ ضَمَانٍ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ بِدَارِهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ عَقِبَ انْقِضَاءِ

الْمُدَّةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ إعْلَامِهِ فَلَا ضَمَانَ جَزْمًا .
أَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا قَطْعًا .

وَلَوْ رَبَطَ دَابَّةً اكْتَرَاهَا لِحَمْلٍ أَوْ رُكُوبٍ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا لَمْ يَضْمَنْ إلَّا إذَا انْهَدَمَ عَلَيْهَا إصْطَبْلٌ فِي وَقْتٍ لَوْ انْتَفَعَ بِهَا لَمْ يُصِبْهَا الْهَدْمُ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِسَبَبٍ وَلَمْ يُعْلِمْ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَالِكَ بِالِانْفِسَاخِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ ضَمِنَهَا وَمَنَافِعَهَا لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ إعْلَامِهِ ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ أَوْ كَانَ هُوَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُ ، ( وَلَوْ رَبَطَ دَابَّةً اكْتَرَاهَا لِحَمْلٍ أَوْ رُكُوبٍ ) أَوْ غَيْرِهِ كَحَرْثٍ وَاسْتِقَاءٍ ( وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ) وَتَلِفَتْ ( لَمْ يَضْمَنْ ) قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِيَدِهِ أَمَانَةٌ ، وَسَوَاءٌ أُتْلِفَتْ فِي الْمُدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا عَلَى الْأَصَحِّ ، ( إلَّا إذَا انْهَدَمَ عَلَيْهَا إصْطَبْلٌ ) وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ ( فِي وَقْتٍ ) لِلِانْتِفَاعِ ( لَوْ انْتَفَعَ بِهَا ) فِيهِ - خَارِجًا عَنْ إصْطَبْلِهَا وَقْتَ الِانْهِدَامِ - مَعَ جَرَيَانِ الْعَادَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ كَالنَّهَارِ ، ( لَمْ يُصِبْهَا الْهَدْمُ ) ، بَلْ تَسْلَمُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِرَبْطِهَا فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَتْ بِانْهِدَامِ سَقْفٍ فِي وَقْتٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ كَجُنْحِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الضَّمَانَ بِذَلِكَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ يَدٍ ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ السُّبْكِيُّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَسَكَتُوا عَمَّا لَوْ سَافَرَ بِهَا فَتَلِفَتْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا التَّفْصِيلُ ، فَيُقَالَ : إنْ سَافَرَ فِي وَقْتٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالسَّيْرِ فِيهِ فَتَلِفَتْ بِآفَةٍ أَوْ نَقَصَتْ ضَمِنَ ، وَلَوْ تَرَكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي وَقْتِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ عَرَضَ لَهُ فَتَلِفَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْخَوْفِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ بِالرَّبْطِ لِيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا ، وَإِلَّا لَوْ تَلِفَ فِي مُدَّةِ الِانْتِفَاعِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَلَوْ حَمَلَ قِدْرًا لِلرَّدِّ عَلَى دَابَّةٍ فَانْكَسَرَتْ الْقِدْرُ بِتَعَثُّرِ الدَّابَّةِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَقَلُّ بِحَمْلِهَا أَوْ كَانَ

لَا يَلِيقُ بِهِ حَمْلُهَا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِلَّا ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ ، إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الْقِدْرَ لَا تُرَدُّ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ اسْتِقْلَالِ الْمُسْتَأْجِرِ بِحَمْلِهَا .

وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ أَجِيرٍ بِلَا تَعَدٍّ كَثَوْبٍ اُسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَتِهِ أَوْ صَبْغِهِ لَمْ يَضْمَنْ إنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْيَدِ بِأَنْ قَعَدَ الْمُسْتَأْجِرُ مَعَهُ أَوْ أَحْضَرَهُ مَنْزِلَهُ ، وَكَذَا إنْ انْفَرَدَ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ ، وَالثَّالِثُ يَضْمَنُ الْمُشْتَرَكُ ، وَهُوَ مَنْ الْتَزَمَ عَمَلًا فِي ذِمَّتِهِ ، لَا الْمُنْفَرِدُ ، وَهُوَ مَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِعَمَلٍ

( وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ ) أَوْ بَعْضُهُ ( فِي يَدِ أَجِيرٍ ) قَبْلَ الْعَمَلِ فِيهِ أَوْ بَعْدَهُ ( بِلَا تَعَدٍّ ) مِنْهُ فِيهِ ( كَثَوْبٍ اُسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَتِهِ أَوْ صَبْغِهِ ) بِفَتْحِ الصَّادِ بِخَطِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَصْدَرِ مَا لَا يُصْبَغُ بِهِ ( - لَمْ يَضْمَنْ إنْ لَمْ يَنْفَرِدْ ) ذَلِكَ الْأَجِيرُ ( بِالْيَدِ ) ، وَفَسَّرَ عَدَمَ الِانْفِرَادِ بِهَا بِقَوْلِهِ : ( بِأَنْ قَعَدَ الْمُسْتَأْجِرُ مَعَهُ أَوْ أَحْضَرَهُ مَنْزِلَهُ ) وَلَمْ يَقْعُدْ ، وَكَذَا لَوْ حَمَّلَهُ الْمَتَاعَ وَمَشَى خَلْفَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَيْنِ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا اسْتَعَانَ بِالْأَجِيرِ فِي شُغْلِهِ كَالْمُسْتَعِينِ بِالْوَكِيلِ ، ( وَكَذَا إنْ انْفَرَدَ ) بِالْيَدِ ، سَوَاءٌ الْمُشْتَرَكُ وَالْمُنْفَرِدُ ، فَإِنْ انْتَفَى مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ لَا يَضْمَنُ ( فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ ) .
وَالثَّانِي : يَضْمَنُ كَالْمُسْتَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا فَلَا يَضْمَنُ كَعَامِلِ الْقِرَاضِ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ ، وَكَانَ لَا يَبُوحُ بِهِ خَشْيَةَ قُضَاةِ السُّوءِ وَأُجَرَاءِ السُّوءِ .
وَقَالَ الْفَارِقِيُّ بَعْدَ أَنْ صَحَّحَ الْأَوَّلَ : إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ : أَيْ بِالثَّانِي لِفَسَادِ النَّاسِ .
قَالَ : وَلِي نَحْوُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا أَفْتَيْتُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَا حَكَمْتُ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ .
( وَالثَّالِثُ : يَضْمَنُ ) الْأَجِيرُ ( الْمُشْتَرَكُ ) ، وَفَسَّرَ الْمُشْتَرَكُ بِقَوْلِهِ : ( وَهُوَ مَنْ الْتَزَمَ عَمَلًا فِي ذِمَّتِهِ ) كَعَادَةِ الْقَصَّارِينَ وَالْخَيَّاطِينَ ، وَسُمِّيَ مُشْتَرَكًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ الْعَمَلَ لِجَمَاعَةٍ فَذَاكَ ، أَوْ لِوَاحِدٍ أَمْكَنَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ لِآخَرَ مِثْلَهُ ، فَكَأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ ، ( لَا ) الْأَجِيرُ ( الْمُنْفَرِدُ ، وَهُوَ مَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِعَمَلٍ ) لِغَيْرِهِ لَا يُمْكِنُهُ

شَرْعًا الْتِزَامُ مِثْلِهِ لِآخَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْفِرَادِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَنْفَعَتِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ مَنَافِعُهُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ ، فَيَدُهُ كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لَيْسَ بِقَيْدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخَذَ كَوْنُهُ أَوْقَعَ الْإِجَارَةَ عَلَى عَيْنِهِ ، وَقَدْ يُقَدَّرُ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ كَعَكْسِهِ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ : " بِلَا تَعَدٍّ " عَمَّا إذَا تَعَدَّى فَيَضْمَنُ مُطْلَقًا قَطْعًا ، كَمَا لَوْ أَسْرَفَ الْخَبَّازُ فِي الْوَقُودِ أَوْ تَرَكَ الْخُبْزَ فِي النَّارِ حَتَّى احْتَرَقَ ، أَوْ ضَرَبَ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ الصَّبِيَّ فَمَاتَ ؛ لِأَنَّ تَأْدِيبَهُ بِغَيْرِ الضَّرْبِ مُمْكِنٌ ، وَمَتَى اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي عُمِلَ بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ ، وَحَيْثُ ضَمَّنَا الْأَجِيرَ ، فَإِنْ كَانَ بِتَعَدٍّ فَبِأَقْصَى قِيَمِهِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إلَى وَقْتِ التَّلَفِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ فَبِوَقْتِ التَّلَفِ .
فَرْعٌ : الْأَجِيرُ لِحِفْظِ الدُّكَّانِ مَثَلًا لَا ضَمَان عَلَيْهِ إذَا أُخِذَ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَالِ .
قَالَ الْقَفَّالُ : وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَارِسِ فِي السِّكَّةِ لَوْ سُرِقَ مِنْ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السِّكَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : أَنَّ الْخُفَرَاءَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ .
.

وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ أَوْ خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَقِيلَ لَهُ ، وَقِيلَ إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ يُسْتَحْسَنُ .

( وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا ) بِلَا اسْتِئْجَارٍ ( إلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ أَوْ ) إلَى ( خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَغَسَّالٍ يَغْسِلُهُ ( فَفَعَلَ ) ذَلِكَ ( وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ) عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ عِوَضًا فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَطْعِمْنِي فَأَطْعَمَهُ .
قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَسْكِنِّي دَارَك شَهْرًا فَأَسْكَنَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً بِالْإِجْمَاعِ ، ( وَقِيلَ : لَهُ ) أُجْرَةُ مِثْلٍ ، لِاسْتِهْلَاكِ الدَّافِعِ عَمَلَهُ ، ( وَقِيلَ : إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ ) بِأُجْرَةٍ ( فَلَهُ ) أُجْرَةُ الْمِثْلِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : تَجِبُ لَهُ الْأُجْرَةُ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، ( وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ ( فَلَا ) أُجْرَةَ لَهُ ، ( وَقَدْ يُسْتَحْسَنُ ) هَذَا الْوَجْهُ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ عَلَى ذَلِكَ وَقِيَامِهِ مَقَامَ اللَّفْظِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ النَّاسِ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنَّهُ الْأَظْهَرُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : إنَّهُ الْأَصَحُّ ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ إنَّهُ الِاخْتِيَارُ .
وَقَالَ فِي الْبَحْرِ : وَبِهِ أُفْتِي بِهِ وَأَفْتَى بِهِ خَلَائِقُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَإِذَا قُلْنَا لَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فَمَحَلُّهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إذَا كَانَ حُرًّا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ .
أَمَّا لَوْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَنَحْوِهِ فَلَا ، إذْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِمَنَافِعِهِمْ الْمُقَابَلَةِ بِالْأَعْوَاضِ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَذْكُرْ أُجْرَةً عَمَّا إذَا قَالَ : مَجَّانًا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا قَطْعًا ، وَمَا لَوْ ذَكَرَ أُجْرَةً فَيَسْتَحِقُّهَا جَزْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَالْمُسَمَّى ، وَإِلَّا فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَلَوْ عَرَّضَ بِذِكْرِ أُجْرَةٍ كَاعْمَلْ وَأَنَا أُرْضِيك أَوْ اعْمَلْ وَمَا تَرَى

مِنِّي إلَّا مَا يَسُرُّك أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ : حَتَّى أُحَاسِبَك اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ تُرَدُّ هَذِهِ عَلَى الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ أُجْرَةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أُجْرَةً لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَتْنِ مَسَائِلُ : إحْدَاهَا : عَامِلُ الْمُسَاقَاةِ إذَا عَمِلَ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهَا .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَا تُسْتَثْنَى ، لِأَنَّ عَمَلَهُ تَابِعٌ لِمَا فِيهِ أُجْرَةٌ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأُجْرَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
ثَانِيهَا : عَامِلُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا تُسْتَثْنَى ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ مُسَمَّاةٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا الْإِمَامُ .
ثَالِثُهَا : عَامِلُ الْقِسْمَةِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ فَلِلْقَاسِمِ الْأُجْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، كَذَا اسْتَثْنَاهَا بَعْضُهُمْ ، وَنَازَعَ فِي التَّوْشِيحِ فِي اسْتِثْنَائِهَا ، وَقَالَ : إنَّهُ كَغَيْرِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَأَمَّا دَاخِلُ الْحَمَّامِ بِلَا إذْنٍ مِنْ الْحَمَّامِيِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصَّارِ وَنَحْوِهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ ، صَرَفُوا مَنَافِعَهُمْ لِغَيْرِهِمْ ، وَالدَّاخِلُ لِلْحَمَّامِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْحَمَّامِ بِسُكُونِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ ، فَالْحَمَّامِيُّ فِيهِ كَالْأَجِيرِ كَمَا قَالُوا بِهِ فِيمَنْ دَخَلَ سَفِينَةً بِإِذْنِ صَاحِبِهَا حَتَّى أَتَى السَّاحِلَ فَإِنَّهُ كَالْأَجِيرِ فِيمَا ذَكَرَ : أَيْ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، فَإِنْ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إذْنٍ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : وَلَعَلَّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَالِكُهَا حَتَّى سَيَّرَهَا ، وَإِلَّا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَى دَابَّةِ غَيْرِهِ فَسَيَّرَهَا مَالِكُهَا فَإِنَّهُ لَا أُجْرَةَ

عَلَى مَالِكِهِ وَلَا ضَمَانَ .
فَرْعٌ : مَا يَأْخُذُهُ الْحَمَّامِيُّ أُجْرَةُ الْحَمَّامِ وَالْآلَةِ مِنْ سَطْلٍ وَإِزَارٍ وَنَحْوِهَا وَحِفْظِ الْمَتَاعِ ، لَا ثَمَنُ الْمَاءِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ ، فَالْحَمَّامِيُّ مُؤَجِّرٌ لِلْآلَةِ وَأَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَمْتِعَةِ فَلَا يَضْمَنُهَا كَسَائِرِ الْأُجَرَاءِ ، وَالْآلَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الدَّاخِلِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ لَهَا ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الدَّاخِلِ الْآلَةُ وَمَنْ يَحْفَظُ الْمَتَاعَ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ الْحَمَّامِيُّ أُجْرَةَ الْحَمَّامِ فَقَطْ .

وَلَوْ تَعَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ أَوْ كَبَحَهَا فَوْقَ الْعَادَةِ أَوْ أَرْكَبَهَا أَثْقَلَ مِنْهُ أَوْ أَسْكَنَ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا ضَمِنَ الْعَيْنَ ، وَكَذَا لَوْ اكْتَرَى لِحَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ مِائَةً شَعِيرًا أَوْ عَكَسَ أَوْ لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فَحَمَلَ حِنْطَةً دُونَ عَكْسِهِ .

( وَلَوْ تَعَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ أَوْ كَبَحَهَا ) بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ ، وَيُقَالُ : بِمِيمٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ ، وَيُقَالُ : بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا ، وَيُقَالُ : أَكْبَحَ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ جَذَبَهَا بِاللِّجَامِ لِتَقِفَ ، وَقَوْلُهُ : ( فَوْقَ الْعَادَةِ ) قَيْدٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، ( أَوْ أَرْكَبَهَا أَثْقَلَ مِنْهُ ، أَوْ أَسْكَنَ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا ) وَهُمَا أَشَدُّ ضَرَرًا مِمَّا اسْتَأْجَرَ لَهُ ( ضَمِنَ الْعَيْنَ ) أَيْ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ لِتَعَدِّيهِ ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ الثَّانِي إنْ عَلِمَ الْحَالَ ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ كَانَتْ يَدُ الثَّانِي يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ كَالْمُسْتَعِيرِ فَالْقَرَارُ عَلَيْهِ كَمَا أَوْضَحُوهُ فِي الْغَصْبِ ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرُوهُ فِي الْغَصْبِ فِيمَنْ تَرَتَّبَتْ يَدُهُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ وَهُنَا تَرَتَّبَتْ يَدُهُ عَلَى يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَضْمَنُ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ بِإِرْكَابِهِ مَنْ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ ، وَلِهَذَا ضَمِنَ الْعَيْنَ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَوْ أَرْكَبَ مِثْلَهُ فَجَاوَزَ الْعَادَةَ فِي الضَّرْبِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ .
أَمَّا الضَّرْبُ الْمُعْتَادُ إذَا أَفْضَى إلَى تَلَفٍ ، فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا .
فَإِنْ قِيلَ : ضَرْبُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الضَّرْبَ الْمُعْتَادَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْدِيبَهَا مُمْكِنٌ بِاللَّفْظِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الضَّرْبُ فَهُوَ اجْتِهَادٌ فَاكْتَفَى بِهِ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ سُقُوطِ الضَّمَانِ ، وَلَوْ ارْتَدَفَ مَعَ مُكْتَرِيَيْ دَابَّةٍ رَكِبَاهَا ثَالِثٌ عُدْوَانًا ضَمِنَ الثُّلُثَ إنْ تَلِفَتْ تَوْزِيعًا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَا عَلَى قَدْرِ أَوْزَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُوزَنُونَ غَالِبًا .
وَلَوْ سَخَّرَ رَجُلًا وَبَهِيمَتَهُ فَمَاتَتْ

فِي يَدِ صَاحِبِهَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسَخِّرِ ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا .
أَمَّا بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا فَهِيَ مُعَارَةٌ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ إلَى أَنَّ التَّعَدِّيَ فِي رَقَبَةِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ - لِيَخْرُجَ مَا لَوْ آجَرَ الْأَرْضَ لِزَرْعِ حِنْطَةٍ فَزَرَعَ الذُّرَةَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي الْمَنْفَعَةِ لَا الرَّقَبَةِ ، وَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلذُّرَةِ ، ( وَكَذَا ) يَصِيرُ ضَامِنًا ( لَوْ اكْتَرَى ) دَابَّة ( لِحَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ ) عَلَيْهَا ( مِائَةً شَعِيرًا أَوْ عَكَسَ ) ، بِأَنْ اكْتَرَاهَا لِحَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِائَةَ حِنْطَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ فَيَجْتَمِعُ ثِقَلُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَالشَّعِيرُ أَخَفُّ ؛ فَيَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ ، فَالضَّرَرُ مُخْتَلِفٌ ، وَقِيسَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ كُلُّ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الضَّرَرِ كَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ .
قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ .
وَسَوَاءٌ أُتْلِفَتْ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَمْ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ صَارَتْ يَدَ عُدْوَانٍ ، وَيُبَدَّلُ بِالْقُطْنِ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِثْلُهُ فِي الْحَجْمِ لَا الْحَدِيدُ ، وَيُبَدَّلُ بِالْحَدِيدِ الرَّصَاصُ وَالنُّحَاسُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِثْلُهُ فِي الْحَجْمِ لَا الْقُطْنُ ، ( أَوْ ) اكْتَرَاهَا ( لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فَحَمَلَ ) عَشَرَةً ( حِنْطَةً ) فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهَا أَثْقَلُ ، وَالْأَقْفِزَةُ جَمْعُ قَفِيزٍ ، وَهُوَ مِكْيَالٌ يَسَعُ اثْنَيْ عَشَرَ صَاعًا ، ( دُونَ عَكْسِهِ ) لِخِفَّةِ الشَّعِيرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَجْمِ .

وَلَوْ اكْتَرَى لِمِائَةٍ فَحَمَلَ مِائَةً وَعَشَرَةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا مَعَهَا ، فَإِنْ كَانَ ضَمِنَ قِسْطَ الزِّيَادَةِ وَفِي قَوْلٍ نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمِائَةَ وَالْعَشَرَةَ إلَى الْمُؤَجِّرِ فَحَمَّلَهَا جَاهِلًا ضَمِنَ الْمُكْتَرِي عَلَى الْمَذْهَبِ وَلَوْ وَزَنَ الْمُؤَجِّرُ وَحَمَّلَ فَلَا أُجْرَةَ لِلزِّيَادَةِ ، وَلَا يَضْمَنُ إنْ تَلِفَتْ .

( وَلَوْ اكْتَرَى ) دَابَّةً ( لِمِائَةٍ ) أَيْ لِحَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ حِنْطَةً مَثَلًا ( فَحَمَلَ ) عَلَيْهَا ( مِائَةً ) مِنْهَا ( وَعَشَرَةً لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلزِّيَادَةِ ) مَعَ الْمُسَمَّى عَلَى الْمَشْهُورِ لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : أَشَارَ بِتَمْثِيلِهِ بِالْعَشَرَةِ إلَى أَنَّ الزَّائِدَ قَدْ لَا يُتَسَامَحُ بِهِ .
أَمَّا مَا يُتَسَامَحُ بِهِ كَاَلَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَلَا ضَمَانَ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْ اكْتَرَى مَكَانًا لِوَضْعِ أَمْتِعَةٍ فِيهِ فَزَادَ عَلَيْهَا نَظَرْتَ : فَإِنْ كَانَ أَرْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَرْفَةً لَزِمَهُ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلزَّائِدِ عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ ، ( وَإِنْ تَلِفَتْ ) تِلْكَ الدَّابَّةُ ( بِذَلِكَ ) الزَّائِدِ ( ضَمِنَهَا ) ضَمَانَ يَدٍ ( إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا مَعَهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهَا بِحَمْلِ الزَّائِدِ ، ( فَإِنْ كَانَ ) صَاحِبُهَا مَعَهَا ( ضَمِنَ ) الْمُسْتَأْجِرُ ( قِسْطَ الزِّيَادَةِ ) فَقَطْ ضَمَانَ جِنَايَةٍ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ، ( وَفِي قَوْلٍ نِصْفَ الْقِيمَةِ ) ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِهِ فَقُسِّطَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ جِرَاحَةً وَآخَرُ جِرَاحَاتٍ ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِتَيَسُّرِ التَّوْزِيعِ هُنَا ، بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ ؛ لِأَنَّ نِكَايَاتِهَا لَا تَنْضَبِطُ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : " بِذَلِكَ " يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا إذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ بِالْيَدِ ، لَا عِنْدَ عَدَمِ انْفِرَادِهِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَفْهُومِ تَفْصِيلٌ فَلَا يُرَدُّ ، ( وَلَوْ سَلَّمَ ) الْمُسْتَأْجِرُ ( الْمِائَةَ وَالْعَشَرَةَ إلَى الْمُؤَجِّرِ فَحَمَّلَهَا ) بِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ ( جَاهِلًا ) بِالزِّيَادَةِ ، كَأَنْ قَالَ لَهُ : هِيَ مِائَةٌ كَاذِبًا فَصَدَّقَهُ فَتَلِفَتْ الدَّابَّةُ بِهَا ( ضَمِنَ الْمُكْتَرِي عَلَى الْمَذْهَبِ ) كَمَا لَوْ حَمَلَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ أَعْدَادَ

الْمَجْهُولِ وَتَسْلِيمَهُ إلَى الْمُؤَجِّرِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالْإِلْجَاءِ إلَى الْحَمْلِ شَرْعًا ، فَكَانَ كَشَهَادَةِ شُهُودِ الْقِصَاصِ ، وَفِيمَا يَضْمَنُهُ الْقَوْلَانِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَعَارُضِ الْغَرَرِ وَالْمُبَاشَرَةِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ قَالَ : فَكَمَا لَوْ حَمَلَهَا الْمُكْتَرِي لَكَانَ أَوْلَى لِيَعُمَّ الضَّمَانَ وَأُجْرَةَ الزِّيَادَةِ ، وَخَرَجَ بِالْجَاهِلِ الْعَالِمُ بِالزِّيَادَةِ : فَإِنْ قَالَ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ : احْمِلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، فَأَجَابَهُ فَقَدْ أَعَارَهُ إيَّاهَا لِحَمْلِ الزِّيَادَةِ فَلَا أُجْرَةَ لَهَا ، وَإِنْ تَلِفَتْ الدَّابَّةُ لَا بِسَبَبِ الْعَارِيَّةِ ضَمِنَ الْقِسْطَ .
أَمَّا بِسَبَبِهَا فَلَا ضَمَانَ كَمَا عُلِمَ مِنْ بَابِ الْعَارِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا فَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَوْ وَزَنَ الْمُؤَجِّرُ وَحَمَّلَ ) الدَّابَّةَ ( فَلَا أُجْرَةَ لِلزِّيَادَةِ ) تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، عَلِمَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالزِّيَادَةِ وَسَكَتَ أَمْ جَهِلَهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِي نَقْلِهَا ، ( وَلَا يَضْمَنُ ) الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ ( إنْ تَلِفَتْ ) إذْ لَا يَدَ وَلَا تَعَدِّيَ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِرَدِّهَا إلَى الْمَنْقُولِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ رَدُّهَا دُونَ رِضَاهُ ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْبَدَلِ لِلْحَيْلُولَةِ ، فَلَوْ غَرِمَ لَهُ بَدَلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا اسْتَرَدَّهُ وَرَدَّهَا إلَيْهِ ، وَلَوْ كَالَ الْمُؤَجِّرُ وَحَمَلَ الْمُسْتَأْجِرُ ، فَكَمَا لَوْ كَالَ بِنَفْسِهِ وَحَمَلَ ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَالِمًا بِالزِّيَادَةِ أَمْ لَا ؟ وَلَوْ وَضَعَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمِائَةَ وَالْعَشَرَةَ عَلَى الدَّابَّةِ فَسَيَّرَهَا الْمُؤَجِّرُ فَكَمَا لَوْ حَمَّلَهَا الْمُؤَجِّرُ ، وَلَوْ كَالَ أَجْنَبِيٌّ وَحَمَلَ بِلَا إذْنٍ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ غَاصِبٌ لِلزَّائِدِ وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ لَلْمُؤَجِّرِ وَرَدُّهُ إلَى الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ إنْ طَالَبَهُ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ الدَّابَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْبَةِ

صَاحِبِهَا وَحَضْرَتِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنْ حَمَلَ بَعْدَ كَيْلِ الْأَجْنَبِيِّ الْمِائَةَ وَالْعَشَرَةَ أَحَدُ الْمُتَكَارِيَيْنِ فَفِيهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ بَيْنَ الْغَرَرِ وَعَدَمِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ أَوْ قَدْرِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكْتَرِي بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ ، وَلَوْ وُجِدَ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ نَاقِصًا عَنْ الْمَشْرُوطِ نَقْصًا يُؤَثِّرُ ، وَقَدْ كَالَهُ الْمُؤَجِّرُ حُطَّ قِسْطُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفِ بِالْمَشْرُوطِ ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ إجَارَةَ عَيْنٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَأْجِرُ النَّقْصَ ، فَإِنْ عَلِمَهُ لَمْ يُحَطَّ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ قَدْ حَصَلَ ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي تَقْرِيرِ الْأُجْرَةِ .
أَمَّا النَّقْصُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ كَاَلَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ أَوْ الْوَزْنَيْنِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ .

وَلَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ فَخَاطَهُ قَبَاءً وَقَالَ أَمَرْتنِي بِقَطْعِهِ قَبَاءً فَقَالَ بَلْ قَمِيصًا فَالْأَظْهَرُ تَصْدِيقُ الْمَالِكِ بِيَمِينِهِ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْخَيَّاطِ أَرْشُ النَّقْصِ .

( وَلَوْ أَعْطَاهُ ) أَيْ خَيَّاطًا ( ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ ) ، وَأَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي قَطْعِهِ ، ( فَخَاطَهُ قَبَاءً وَقَالَ ) لِلْمَالِكِ : ( أَمَرْتنِي بِقَطْعِهِ قَبَاءً ، فَقَالَ ) الْمَالِكُ لِلْخَيَّاطِ : ( بَلْ ) أَمَرْتُك بِقَطْعِهِ ( قَمِيصًا ) ، فَعَلَيْك الْأَرْشُ ( فَالْأَظْهَرُ تَصْدِيقُ الْمَالِكِ بِيَمِينِهِ ) ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَذِنَ لَهُ فِي قَطْعِهِ قَبَاءً ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْقَمِيصِ .
وَالثَّانِي : يُصَدَّقُ الْخَيَّاطُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَرْشَ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَذْهَبِ لَكَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ طُرُقًا أَصَحُّهَا طَرِيقَةُ الْقَوْلَيْنِ ، ( وَ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ) أَيْ الْمَالِكِ لِلْخَيَّاطِ إذَا حَلَفَ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيَّاطِ صَارَ حِينَئِذٍ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ ( وَعَلَى الْخَيَّاطِ أَرْشُ النَّقْصِ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَفَى الْإِذْنُ فَالْأَصْلُ الضَّمَانُ ، وَفِي الْأَرْشِ الْوَاجِبِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَطْعِهِ قَبَاءً .
وَالثَّانِي : مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَقْطُوعًا قَمِيصًا وَمَقْطُوعًا قَبَاءً ، لِأَنَّ أَصْلَ الْقَطْعِ مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ إنَّهُ الْأَصَحُّ ، وَصَحَّحَ الثَّانِي جَمْعٌ ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَقَالَ : لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلِلْخَيَّاطِ نَزْعُ خَيْطِهِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ النَّزْعِ إنْ حَصَلَ بِهِ نَقْصٌ ، وَلَهُ مَنْعُ الْمَالِكِ مِنْ شَدِّ خَيْطٍ فِي خَيْطِ الْخِيَاطَةِ يَجُرُّهُ فِي الْمَدْرُوزِ مَكَانَهُ إذَا نُزِعَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَحَيْثُ قُلْنَا : لَا أُجْرَةَ لِلْخَيَّاطِ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ ، فَإِنْ نَكَلَ فَفِي تَجْدِيدِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ .
قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ :

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصَحُّهُمَا التَّجْدِيدَ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ .
وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ لِلْخَيَّاطِ : إنْ كَانَ هَذَا الثَّوْبُ يَكْفِينِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ ، فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَكْفِهِ - ضَمِنَ الْأَرْشَ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ بِمَا لَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ فِي جَوَابِهِ : هُوَ يَكْفِيك ، فَقَالَ : اقْطَعْهُ ، فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَكْفِهِ - لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقٌ ، وَلَوْ جَاءَ الْخَيَّاطُ مَثَلًا بِثَوْبٍ ، وَقَالَ لِلْمَالِكِ : هَذَا ثَوْبُك ، فَأَنْكَرَهُ صُدِّقَ الْخَيَّاطُ بِيَمِينِهِ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ ، فَإِذَا حَلَفَ فَقَدْ اعْتَرَفَ لِلْمَالِكِ بِشَيْءٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ .

فَصْلٌ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِعُذْرٍ كَتَعَذُّرِ وَقُودِ حَمَّامٍ وَسَفَرٍ وَمَرَضِ مُسْتَأْجِرِ دَابَّةٍ لِسَفَرٍ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ فَزَرَعَ فَهَلَكَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَلَا حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ ، وَتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الدَّابَّةِ وَالْأَجِيرِ الْمُعَيَّنَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي فِي الْأَظْهَرِ ، فَيَسْتَقِرُّ قِسْطُهُ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ ، وَلَوْ آجَرَ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ مُدَّةً وَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِهَا ، أَوْ الْوَلِيُّ صَبِيًّا مُدَّةً لَا يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ فَبَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ فَالْأَصَحُّ انْفِسَاخُهَا فِي الْوَقْفِ لَا الصَّبِيِّ .

فَصْلٌ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِمَا .
وَقَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ) عَيْنًا كَانَتْ أَوْ ذِمَّةً ، وَلَا تُفْسَخُ ( بِعُذْرٍ ) فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمُؤَجِّرٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ ، فَالْأَوَّلُ كَمَرِيضٍ مُؤَجِّرٍ دَابَّةً عَجَزَ عَنْ خُرُوجِهِ مَعَهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِجَارَةِ حَيْثُ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ .
وَالثَّانِي : ( كَتَعَذُّرِ وَقُودِ حَمَّامٍ ) عَلَى مُسْتَأْجِرٍ ، وَالْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ بِخَطِّهِ مَا يُوقَدُ بِهِ مِنْ حَطَبٍ وَغَيْرِهِ ، وَبِضَمِّهَا مَصْدَرُ وَقَدَتْ النَّارُ ، ( وَسَفَرٍ ) بِفَتْحِ الْفَاءِ عَرَضَ لِمُسْتَأْجِرِ دَارٍ مَثَلًا لَا بِسُكُونِهَا كَمَا وَقَعَ لِلسُّبْكِيِّ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسَافِرِ مِنْ رُفْقَةٍ ، وَهُمْ السَّفْرُ : أَيْ الْمُسَافِرُونَ يَتَعَذَّرُ خُرُوجُهُمْ ، ( وَ ) كَعُرُوضِ ( مَرَضِ مُسْتَأْجِرِ دَابَّةٍ لِسَفَرٍ ) عَلَيْهَا ، وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِنَابَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مُمَكَّنَةٌ ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الِانْفِسَاخِ فِي غَيْرِ الْعُذْرِ الشَّرْعِيِّ .
أَمَّا هُوَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِقَلْعِ سِنٍّ مُؤْلِمَةٍ فَزَالَ الْأَلَمُ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ كَمَا مَرَّ أَوَائِلَ الْبَابِ ؛ لِتَعَذُّرِ قَلْعِهَا حِينَئِذٍ شَرْعًا .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إجَارَةُ الْإِمَامِ ذِمِّيًّا لِلْجِهَادِ ، وَتَعَذَّرَ لِصُلْحٍ حَصَلَ قَبْلَ مَسِيرِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ لِلْإِمَامِ يَسْتَرْجِعُ بِهِ كُلَّ الْأُجْرَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَإِفْلَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ وَمُضِيِّ الْمُدَّةَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ لَلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخَ كَمَا أَطْلَقَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي بَابِ التَّفْلِيسِ .
وَعَدَمُ دُخُولِ النَّاسِ الْحَمَّامَ الْمُسْتَأْجَرَ بِسَبَبِ فِتْنَةٍ حَادِثَةٍ أَوْ خَرَابِ النَّاحِيَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، خِلَافًا لِلرُّويَانِيِّ إذْ لَا خَلَلَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ،

( وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ فَزَرَعَ فَهَلَكَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ ) أَصَابَتْهُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ أَكْلِ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ( فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ وَلَا حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْجَائِحَةَ لَحِقَتْ زَرْعَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ ، فَلَوْ تَلِفَتْ الْأَرْضُ بِجَائِحَةٍ أَبْطَلَتْ قُوَّةَ الْإِنْبَاتِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ ، فَلَوْ تَلِفَ الزَّرْعُ قَبْلَ تَلَفِ الْأَرْضِ وَتَعَذَّرَ إبْدَالُهُ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ بِتَلَفِهَا - لَمْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمُسَمَّى لِمَا قَبْلَ التَّلَفِ شَيْئًا كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي ؛ لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ الْأَرْضِ لَوْ بَقِيَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا نَفْعٌ بَعْدَ فَوَاتِ الزَّرْعِ ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّلَفِ فَيُسْتَرَدُّ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْمُسَمَّى لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فِيهِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ الْأَرْضُ أَوَّلًا اسْتَرَدَّ أُجْرَةَ الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَا الْمَاضِي كَمَا فِي جَوَاهِرِ الْقَمُولِيِّ ، وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ الْمُقْرِي خِلَافَهُ .
( وَتَنْفَسِخُ ) الْإِجَارَةُ ( بِمَوْتِ الدَّابَّةِ وَالْأَجِيرِ الْمُعَيَّنَيْنِ ) ، وَكَذَا مُعَيَّنُ غَيْرِهِمَا ، لَكِنَّ الِانْفِسَاخَ ( فِي ) الزَّمَنِ ( الْمُسْتَقْبَلِ ) لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا ، كَمَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
تَنْبِيهٌ : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا كَإِتْلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَتْلَفَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، فَهَلَّا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ فَإِذَا أَتْلَفَهَا صَارَ قَابِضًا لَهَا ، وَالْإِجَارَةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَمَنَافِعُ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعْدُومَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِتْلَافِ عَلَيْهَا ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَشْمَلَ وَاسْتَغْنَى عَمَّا قَدَرْته ، ( لَا

) فِي الزَّمَنِ ( الْمَاضِي ) إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ ( فِي الْأَظْهَرِ ) لِاسْتِقْرَارِهَا بِالْقَبْضِ ، ( فَيَسْتَقِرُّ قِسْطُهُ مِنْ الْمُسَمَّى ) مُوَزَّعًا عَلَى قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الزَّمَانِ ، فَلَوْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ سَنَةً مَثَلًا وَمَضَى نِصْفُهَا ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ ضِعْفُ أُجْرَةِ مِثْلِ النِّصْفِ الْبَاقِي وَجَبَ مِنْ الْمُسَمَّى ثُلُثَاهُ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَثُلُثُهُ ، وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا بِمَا بَعْدَهُ ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ .
وَالثَّانِي : يَنْفَسِخُ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ ، وَقَدْ انْفَسَخَ فِي الْبَعْضِ فَلْيَنْفَسِخْ فِي الْبَاقِي ، أَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُعَيَّنِ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِمَا ، فَإِذَا أُحْضِرَا وَمَاتَا فِي خِلَالِ الْمُدَّةِ أُبْدِلَا كَمَا مَرَّ ، ( وَلَا تَنْفَسِخُ ) الْإِجَارَةُ وَلَوْ ذِمَّةً كَمَا فِي الْبَسِيطِ ( بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ ) أَوْ أَحَدِهِمَا ، بَلْ تَبْقَى إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ ، وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجِرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا انْفَسَخَتْ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ مَوْرِدُ الْعَقْدِ لَا لِأَنَّهُ عَاقِدٌ ، فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الِانْفِسَاخِ .
لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ مَسَائِلُ : مِنْهَا مَا لَوْ آجَرَ عَبْدَهُ الْمُعَلَّقَ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ فَوُجِدَتْ مَعَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ آجَرَ أَمَّ وَلَدِهِ وَمَاتَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ خِلَافًا لِمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْوَقْفِ .
وَمِنْهَا الْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُ كَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ .
وَمِنْهَا مَوْتُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَمِنْهَا الْمُوصَى

لَهُ بِمَنْفَعَةِ دَارٍ مَثَلًا مُدَّةَ عُمْرِهِ ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ إبَاحَةٌ لَا تَمْلِيكٌ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهَا مَرْدُودٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهُ ؛ كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْوَصِيَّةِ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِالدَّارِ لَا بِمَنْفَعَتِهَا كَمَا هُنَا ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ اسْتِثْنَاءَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّ الِانْفِسَاخَ لَيْسَ لِمَوْتِ الْعَاقِدِ بَلْ لِانْتِهَاءِ حَقِّهِ بِالْمَوْتِ ، وَلَيْسَ الرَّدُّ بِظَاهِرٍ .
( وَ ) لَا تَنْفَسِخُ أَيْضًا بِمَوْتِ ( مُتَوَلِّي ) أَيْ نَاظِرِ ( الْوَقْفِ ) مِنْ حَاكِمٍ أَوْ مَنْصُوبِهِ أَوْ مَنْ شُرِطَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى جَمِيعِ الْبُطُونِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَقْفِ وَأُجِرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ، فَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، ( وَلَوْ آجَرَ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ ) مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ الْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ ( مُدَّةً وَمَاتَ ) الْبَطْنُ الْمُؤَجِّرُ ( قَبْلَ تَمَامِهَا ) وَشَرَطَ الْوَاقِفُ لِكُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ النَّظَرَ فِي حِصَّتِهِ مُدَّةَ اسْتِحْقَاقِهِ فَقَطْ ، ( أَوْ الْوَلِيُّ صَبِيًّا ) أَوْ مَالَهُ ( مُدَّةً لَا يَبْلُغُ فِيهَا ) الصَّبِيُّ ( بِالسِّنِّ فَبَلَغَ ) فِيهَا ( بِالِاحْتِلَامِ ) وَهُوَ رَشِيدٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ ( فَالْأَصَحُّ انْفِسَاخُهَا ) فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ( فِي الْوَقْفِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ انْتَقَلَ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِغَيْرِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نِيَابَةَ ( لَا ) فِي ( الصَّبِيِّ ) فَلَا تَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ بُنِيَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ .
وَالثَّانِي : لَا تَنْفَسِخُ فِي الْوَقْفِ كَالْمِلْكِ وَتَنْفَسِخُ فِي الصَّبِيِّ لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ .
أَمَّا الْمَاضِي مِنْ الْمُدَّةِ فَلَا تَنْفَسِخُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَعْدَ

الْبُلُوغِ ، وَفِيمَا قَبْلَهُ قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، وَلَوْ آجَرَ الْوَلِيُّ مَالَ الْمَجْنُونِ فَأَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ فَكَبُلُوغِ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ .
أَمَّا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا فَهُوَ كَالصَّبِيِّ فِي اسْتِمْرَارِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ .

وَأَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِانْهِدَامِ الدَّارِ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ آجَرَ أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ بِالْأَرْشَدِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْغَزِّيُّ فِي الْفَتْوَى ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : الْبَطْنُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِقَيْدٍ ، بَلْ كُلُّ الْبُطُونِ كَذَلِكَ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ عَمَّا لَوْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ الْحَاكِمَ أَوْ الْوَاقِفَ أَوْ مَنْصُوبَهُ وَمَاتَ عَنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، فَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْفِسَاخِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ نَاظِرٌ لِلْكُلِّ ، قَالَ : وَلَوْ آجَرَ النَّاظِرُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي فَمَاتَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ انْتَقَلَتْ مَنَافِعُ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقَّ الْمَنَافِعِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهَا تَنْفَسِخُ ) فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( بِانْهِدَامِ ) كُلِّ ( الدَّارِ ) لِزَوَالِ الِاسْمِ وَفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ فِي الْبَيْعِ حَصَلَ عَلَى جُمْلَةِ الْمَبِيعِ ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لَا يَحْصُلُ إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا .
تَنْبِيهٌ : لَوْ هَدَمَهَا الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِي النِّكَاحِ : إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَوْ خَرَّبَ الدَّارَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَخْرِيبٍ يَحْصُلُ بِهِ تَعْيِيبٌ لَا هَدْمٌ كَامِلٌ ، وَلِهَذَا زِدْت فِي الْمَتْنِ كُلَّ لِيَخْرُجَ مَا لَوْ انْهَدَمَ بَعْضُهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ بَلْ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ .
نَعَمْ ، إنْ أَمْكَنَ إصْلَاحُهُ فِي الْحَالِ وَأَصْلَحَهُ الْمُؤَجِّرُ سَقَطَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ .

لَا انْقِطَاعِ مَاءِ أَرْضٍ اُسْتُؤْجِرَتْ لِزِرَاعَةٍ ، بَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ ، وَغَصْبُ الدَّابَّةِ وَإِبَاقُ الْعَبْدِ يُثْبِتُ الْخِيَارَ .

تَعْطِيلُ الرَّحَى لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ وَالْحَمَّامِ لِخَلَلِ الْأَبْنِيَةِ أَوْ لِنَقْصِ الْمَاءِ فِي بِئْرِهِ .
( وَلَا ) تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِسَبَبِ ( انْقِطَاعِ مَاءِ أَرْضٍ اُسْتُؤْجِرَتْ لِزِرَاعَةٍ ) لِبَقَاءِ الِاسْمِ مَعَ إمْكَانِ زَرْعِهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُنْقَطِعِ ، ( بَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ ) لِلْعَيْبِ وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِهِ تَعَذَّرَ قَبْضُ الْمَنْفَعَةِ ، وَذَلِكَ يَتَكَرَّرُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ .
هَذَا إنْ لَمْ يَسُقْ الْمُؤَجِّرُ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ ، مَعَ بَقَاءِ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ ، وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ ، وَإِلَّا فَلَا خِيَارَ .
تَنْبِيهٌ : الِانْفِسَاخُ فِي الْأَوَّلِ وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِيهِمَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ وَخَرَّجَ وَجَعَلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ زِرَاعَةُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُنْقَطِعِ ، فَقَضِيَّةُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ظَاهِرٌ فَرْعٌ : تَعْطِيلُ الرَّحَى لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ ، وَالْحَمَّامِ لِخَلَلِ الْأَبْنِيَةِ أَوْ لِنَقْصِ الْمَاءِ فِي بِئْرِهِ وَنَحْوُهُ كَانْهِدَامِ الدَّارِ كَمَا ذَكَرَاهُ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ آخِرَ الْبَابِ ، وَقَضَيْتُهُ الِانْفِسَاخُ ، وَالْقِيَاسُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ كَانْقِطَاعِ مَاءِ الْأَرْضِ لِبَقَاءِ اسْمِ الْحَمَّامِ وَالرَّحَى كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمُهِمَّاتِ ، ( وَغَصْبُ الدَّابَّةِ ) وَنَدُّهَا ( وَإِبَاقُ الْعَبْدِ ) بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِمَا ( يُثْبِتُ الْخِيَارَ ) لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِذَا فُسِخَ انْفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ، وَفِيمَا مَضَى الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَوْتِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ .
نَعَمْ إنْ بَادَرَ الْمُؤَجِّرُ وَانْتَزَعَ مِنْ الْغَاصِبِ وَرَدَّ النَّادَّةَ وَالْآبِقَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ سَقَطَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ لِبَقَاءِ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ

أَجَازُوا التَّقْدِيرَ بِالْعَمَلِ كَبَعِيرٍ يَرْكَبُهُ إلَى مَكَّةَ اسْتَوْفَاهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُقَدَّرَةَ بِعَمَلٍ وَإِنْ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا عَقِبَ الْعَقْدِ لَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ أَوْ بِالزَّمَانِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا انْقَضَى مِنْهُ ، وَاسْتَعْمَلَ الْعَيْنَ فِي الْبَاقِي ، فَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ وَانْقَضَتْ الْمُدَّةُ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ، فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَزِمَهُ الْمُسَمَّى ، كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي الرَّقَبَةِ ضَمِنَهَا ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مُخَاصَمَةُ الْغَاصِبِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودِعِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ .
أَمَّا إذَا غَصَبَهَا الْمَالِكُ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِقْبَاضِ فَطَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : كَغَصْبِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَأَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِالِانْفِسَاخِ ، وَإِنْ غَصَبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَيَتَصَوَّرُ بِأَخْذِهَا مِنْ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ اسْتَقَرَّتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ ، وَفِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ لَا خِيَارَ وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْإِبْدَالُ .

وَلَوْ أَكْرَى جِمَالًا وَهَرَبَ وَتَرَكَهَا عِنْدَ الْمُكْتَرِي رَاجَعَ الْقَاضِيَ لِيَمُونَهَا مِنْ مَالِ الْجَمَّالِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَثِقَ بِالْمُكْتَرِي دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَإِلَّا جَعَلَهُ عِنْدَ ثِقَةٍ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا قَدْرَ النَّفَقَةِ ، وَلَوْ أَذِنَ لِلْمُكْتَرِي فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ لِيَرْجِعَ جَازَ فِي الْأَظْهَرِ .

( وَلَوْ أَكْرَى جِمَالًا ) بِعَيْنِهَا أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّمَ عَيْنَهَا ( وَهَرَبَ وَتَرَكَهَا عِنْدَ الْمُكْتَرِي ) فَلَا فَسْخَ لَهُ وَلَا خِيَارَ أَيْضًا ، بَلْ إنْ شَاءَ تَبَرَّعَ بِمُؤْنَتِهَا ، وَإِلَّا ( رَاجَعَ الْقَاضِيَ لِيَمُونَهَا ) وَمَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهَا ( مِنْ مَالِ الْجَمَّالِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا ) وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجِمَالِ فَضْلٌ ( اقْتَرَضَ ) الْقَاضِي ( عَلَيْهِ ) مِنْ الْمُكْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ ، ( فَإِنْ وَثِقَ ) الْقَاضِي ( بِالْمُكْتَرِي دَفَعَهُ ) أَيْ مَا اقْتَرَضَهُ ( إلَيْهِ ) وَإِنْ اقْتَرَضَهُ مِنْهُ لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهَا ، ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يَثِقْ بِهِ ( جَعَلَهُ ) أَيْ مَا اقْتَرَضَهُ الْقَاضِي ( عِنْدَ ثِقَةٍ ) يُنْفِقُ عَلَيْهَا ، ( وَلَهُ ) أَيْ الْقَاضِي إنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَقْتَرِضُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ قَدْرَ النَّفَقَةِ ) عَلَيْهَا وَعَلَى مُتَعَهِّدِهَا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْجِمَالِ الْمَتْرُوكَةِ زِيَادَةٌ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُقْتَرَضُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ ، بَلْ يَبِيعُ الْفَاضِلَ عَنْ الْحَاجَةِ ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : مِنْهَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ جَمِيعِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَأْكُلَ أَثْمَانَهَا ، وَبِهِ صَرَّحَ جَمْعٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهَا وَيَكْتَرِي لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَالِ الْغَائِبِ لِلْمَصْلَحَةِ ، ( وَلَوْ أَذِنَ ) الْقَاضِي ( لِلْمُكْتَرِي فِي الْإِنْفَاقِ ) عَلَى الْجِمَالِ وَمُتَعَهِّدِهَا ( مِنْ مَالِهِ ) أَوْ مَالِ غَيْرِهِ ( لِيَرْجِعَ ) بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى مُتَعَهِّدِهَا ( جَازَ فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَوْ اقْتَرَضَ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَقَدْ لَا يَجِدُ الْقَاضِي مَنْ يُقْرِضُهُ أَوْ لَا يَرَاهُ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ وَيُجْعَلُ مُتَبَرِّعًا .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ

مَتَى أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ لَمْ يَرْجِعْ ، وَمَحَلُّهُ إذَا أَمْكَنَ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ أَوْ عَسِرَ إثْبَاتُ الْوَاقِعَةِ عِنْدَهُ ، فَأَنْفَقَ وَأَشْهَدَ عَلَى مَا أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ رَجَعَ وَيَحْفَظُهَا الْقَاضِي بَعْدَ الْمُدَّةِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا اقْتَرَضَ ، وَإِنْ خَشِيَ أَنْ تَأْكُلَ نَفْسَهَا لَوْ بَاعَ بَعْضَهَا بَاعَ الْكُلَّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَ إذَا ادَّعَى نَفَقَةَ مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ : أَوَّلًا وَتَرَكَهَا عَمَّا لَوْ أَخَذَهَا الْجَمَّالُ مَعَهُ .
وَحُكْمُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ إنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ اكْتَرَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَاكْتَرَى ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاكْتِرَاءُ عَلَيْهِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةَ عَيْنٍ فَلَهُ الْفَسْخُ كَمَا إذَا نَدَّتْ الدَّابَّةُ .

وَمَتَى قَبَضَ الْمُكْتَرِي الدَّابَّةَ أَوْ الدَّارَ وَأَمْسَكَهَا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ اسْتَقَرَّتْ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ ، وَكَذَا لَوْ اكْتَرَى دَابَّةً لِرُكُوبٍ إلَى مَوْضِعٍ وَقَبَضَهَا وَمَضَتْ مُدَّةُ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إجَارَةُ الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ إذَا سَلَّمَ الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ وَتَسْتَقِرُّ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُسَمَّى فِي الصَّحِيحَةِ .

( وَمَتَى قَبَضَ الْمُكْتَرِي ) الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ ( الدَّابَّةَ أَوْ الدَّارَ ) أَوْ غَيْرَهُمَا فِي إجَارَةِ عَيْنٍ أَوْ ذِمَّةٍ ( وَأَمْسَكَهَا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ اسْتَقَرَّتْ الْأُجْرَةُ ) عَلَيْهِ ، ( وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ ) لِتَلَفِ الْمَنَافِعِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْبَدَلُ كَالْمَبِيعِ إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَسَوَاءٌ أَتَرَكَ الِانْتِفَاعَ اخْتِيَارًا أَمْ لِعُذْرٍ كَخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ لِعَدَمِ الرُّفْقَةِ ؟ مَعَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ ضَمِنَهَا ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخٌ وَلَا إلْزَامُ الْمُكْرِي بِاسْتِرْدَادِ الدَّابَّةِ إلَى تَيَسُّرِ الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَمْكَنَهُ السَّيْرُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَاسْتِعْمَالُهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ ، وَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَعَ الْمُسَمَّى .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ قَوْلُهُ : قَبَضَهَا أَنَّ الْمُؤَجِّرَ لَوْ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ أَوْ وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ وَمَضَتْ مُدَّةِ الْإِجَارَةُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَسْتَقِرُّ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ، بَلْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ ، ( وَكَذَا لَوْ اكْتَرَى دَابَّةً لِرُكُوبٍ إلَى مَوْضِعٍ ) مُعَيَّنٍ ( وَقَبَضَهَا ) ، أَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ أَوْ وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا مَرَّ ( وَ ) لَمْ يَسِرْ حَتَّى ( مَضَتْ مُدَّةُ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَيْهِ ) فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّمْكِينِ مِنْ الْمُؤَجِّرِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ فِي الْإِجَارَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْعَمَلِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ ، ( وَسَوَاءٌ فِيهِ ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ( إجَارَةُ الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ ) ، وَقَوْلُهُ : ( إذَا سَلَّمَ ) الْمُؤَجِّرُ ( الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ ) لِلْمُسْتَأْجِرِ قَيْدٌ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ لِتَعَيُّنِ حَقِّهِ بِالتَّسَلُّمِ وَحُصُولِ التَّمْكِينِ ، فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ لَمْ

يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بَدَلُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءٍ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ .
تَنْبِيهٌ : تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ بِالدَّابَّةِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحُرِّ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَا تَسْتَقِرُّ الْأُجْرَةُ ، وَلَيْسَ مُرَادًا وَإِنْ قَالَ بِهِ الْقَفَّالُ ، بَلْ تَسْتَقِرُّ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا ، وَمَتَى قَبَضَ الْمُكْتَرِي الْمُؤَجَّرُ لَشَمِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
ثُمَّ أَشَارَ لِفَرْعٍ مِنْ قَاعِدَةِ : أَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ بِقَوْلِهِ ( وَتَسْتَقِرُّ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ) سَوَاءٌ أَقُدِّرَتْ بِعَمَلٍ أَمْ بِمُدَّةٍ ( أُجْرَةُ الْمِثْلِ ) ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى أَمْ لَا ( بِمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُسَمَّى فِي الصَّحِيحَةِ ) ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَمْ لَا ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْوَطْءِ ، إذْ الْيَدُ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ ، وَالْمَنْفَعَةَ كَالْعَيْنِ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ فَكَذَا الْإِجَارَةُ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ التَّسْوِيَةِ التَّخْلِيَةُ فَإِنَّهَا تَكْفِي فِي قَبْضِ الْعَقَارِ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا تَكْفِي فِي الْفَاسِدَةِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ ، وَكَذَا الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكْفِي فِي الصَّحِيحَةِ دُونَ الْفَاسِدَةِ ، وَكَذَا لَوْ عَرَضَ الْمُؤَجِّرُ الْعَيْنَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، فَامْتَنَعَ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا تَسْتَقِرُّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَيُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، أَوْ بِأَنْ تَتْلَفَ الْمَنْفَعَةُ تَحْتَ يَدِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا .
وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْفَاسِدَةِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا لِاسْتِرْدَادِ الْأُجْرَةِ كَمَا

فِي التَّتِمَّةِ قَاعِدَةٌ : كُلُّ عَقْدٍ فَسَدَ سَقَطَ فِيهِ الْمُسَمَّى إلَّا إذَا عَقَدَ الْإِمَامُ الذِّمَّةَ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى سُكْنَى الْحِجَازِ فَسَكَنُوا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَيَجِبُ الْمُسَمَّى لِتَعَذُّرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا الْمَنْفَعَةَ وَلَيْسَ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ ، إذْ لَا مِثْلَ لَهَا تُعْتَبَرُ أُجْرَتُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمُسَمَّى ، وَخَرَجَ بِالْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةُ ، كَاسْتِئْجَارِ صَبِيٍّ بَالِغًا عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .

وَلَوْ أَكْرَى عَيْنًا مُدَّةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى مَضَتْ انْفَسَخَتْ ، وَلَوْ لَمْ يُقَدِّرْ مُدَّةً وَأَجَّرَ لِرُكُوبٍ إلَى مَوْضِعٍ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ السَّيْرِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ .
( وَلَوْ أَكْرَى عَيْنًا مُدَّةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا ) الْمُكْرِي ( حَتَّى مَضَتْ ) تِلْكَ الْمُدَّةُ ( انْفَسَخَتْ ) تِلْكَ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمُكْرِي تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَمْسَكَهَا لِقَبْضِ الْأُجْرَةِ أَمْ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ مَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ ثُمَّ سَلَّمَهَا انْفَسَخَتْ فِي الْمَاضِي وَثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي .
( وَلَوْ لَمْ يُقَدِّرْ ) فِي الْإِجَارَةِ ( مُدَّةً وَأَجَّرَ ) لَهُ دَابَّةً ( لِرُكُوبٍ إلَى مَوْضِعٍ ) مُعَيَّنٍ ( وَلَمْ يُسَلِّمْهَا ) إلَيْهِ ( حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ ) إمْكَانِ ( السَّيْرِ ) إلَيْهِ ( فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا ) أَيْ الْإِجَارَةَ ( لَا تَنْفَسِخُ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالزَّمَانِ فَلَمْ يَتَعَذَّرْ الِاسْتِيفَاءُ .
وَالثَّانِي : تَنْفَسِخُ كَمَا لَوْ حَبَسَهَا الْمُكْتَرِي تِلْكَ الْمُدَّةَ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ : بِأَنَّا لَوْ لَمْ نُقَدِّرْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ لَضَاعَتْ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْمُكْرِي ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا خِيَارَ لِلْمُكْتَرِي كَمَا لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ثُمَّ سَلَّمَهُ .
تَنْبِيهٌ : احْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْعَيْنِ عَنْ إجَارَةِ الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ مَا تُسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا اسْتِيفَاؤُهَا فَلَا فَسْخَ وَلَا انْفِسَاخَ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ تَأَخَّرَ وَفَاؤُهُ .

وَلَوْ أَجَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ وَأَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْعَبْدِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةِ مَا بَعْدَ الْعِتْقِ .

( وَلَوْ أَجَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ) أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَقَفَهُ ( فَالْأَصَحُّ ) - الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ - ( أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ) ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ تَبَرَّعَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ وَلَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ لَهُ وَقْتَ الْعِتْقِ ، فَلَمْ يُصَادِفْ الْعِتْقُ إلَّا الرَّقَبَةَ مَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ .
وَالثَّانِي : تَنْفَسِخُ كَمَوْتِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ( تَنْبِيهٌ ) احْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَمَّا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ ثُمَّ آجَرَهُ فَوُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ، وَعَمَّا لَوْ أَجَّرَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هُنَا ، وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُهُمَا فِي بَابِ الْوَقْفِ خِلَافَهُ ، وَلَوْ أَجَّرَ أَمَتَهُ مُدَّةً ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ - لَمْ تَنْفَسِخْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى سَبَبِ الْعِتْقِ ، ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْعَبْدِ ) فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَا يُنْقَضُ ، وَيَسْتَوْفِي الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَتَهُ .
وَالثَّانِي : لَهُ الْخِيَارُ كَالْأَمَةِ تُعْتَقُ تَحْتَ عَبْدٍ .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ خِيَارَهَا ثَبَتَ لِنَقْصِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ هُنَا ، ( وَالْأَظْهَرُ ) عَلَى الْأَوَّلِ ( أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةٍ مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ) إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ .
وَالثَّانِي : يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لِتَفْوِيتِ السَّيِّدِ لَهُ وَدَفْعِ هَذَا ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي الْأُولَتَيْنِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ خَالِيَةً عَنْ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَّةَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَى السَّيِّدِ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ

عَنْ تَعَهُّدِ نَفْسِهِ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَارِثُهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ قَطْعًا وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ عَقْدًا ثُمَّ نَقَضَهُ .
ثَانِيهِمَا : أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقٍ سَابِقٍ عَلَى الْإِجَارَةِ عَتَقَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ ، وَأَنَّهُ يَغْرَمُ لِلْعَبْدِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ قُبَيْلَ كِتَابِ الصَّدَاقِ وَأَقَرَّهُ .
وَكَمَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِطُرُوِّ الْحُرِّيَّةِ لَا تَنْفَسِخُ بِطُرُوِّ الرِّقِّ ، فَلَوْ اسْتَأْجَرَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا فَاسْتُرِقَّ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ - لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ أَجَّرَ دَارًا بِعَبْدٍ ثُمَّ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ انْهَدَمَتْ - فَالرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ ، وَلَوْ ظَهَرَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ بَعْدَ الْعِتْقِ وَفَسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ مَلَكَ الْعَتِيقُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَقِلًّا .
فَإِنْ قِيلَ لَوْ بِيعَ الْمُؤَجَّرُ وَانْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ إنَّ الْمَنْفَعَةَ تَرْجِعُ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمُشْتَرِي كَمَا يَأْتِي آخِرَ الْبَابِ ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهَا تَرْجِعُ لِلسَّيِّدِ كَمَا رَجَّحَهُ الْإِسْنَوِيُّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ مُتَقَرَّبًا بِهِ وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفًا إلَيْهِ - كَانَتْ مَنَافِعُ الْعَتِيقِ لَهُ نَظَرًا لِمَقْصُودِ الْعِتْقِ مِنْ كَمَالِ تَقَرُّبِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ آجَرَ الْمُكَاتَبُ نَفْسَهُ ثُمَّ عَجَّزَهُ سَيِّدُهُ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُؤَجَّرِ ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ لِنَفْسِهِ .

وَيَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَلْمُكْتَرِي ، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ جَازَ فِي الْأَظْهَرِ وَلَا تَنْفَسِخُ .

( وَيَصِحُّ بَيْعُ ) الْعَيْنِ ( الْمُسْتَأْجَرَةِ ) قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ( لَلْمُكْتَرِي ) ؛ لِأَنَّهَا بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ ، ( وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُنَافِيهَا ، وَلِهَذَا يَسْتَأْجِرُ مِلْكَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ .
وَالثَّانِي : تَنْفَسِخُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي مَا كَانَ لِلْبَائِعِ ، وَالْبَائِعُ حِينَ الْبَيْعِ مَا كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ بُضْعِ أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ لَا لِلزَّوْجِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : فِي الْأَصَحِّ رَاجِعٌ إلَى الِانْفِسَاخِ .
أَمَّا الْبَيْعُ فَصَحِيحٌ قَطْعًا كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، ( وَلَوْ بَاعَهَا ) الْمُؤَجِّرُ أَوْ وَهَبَهَا ( لِغَيْرِهِ ) أَذِنَ الْمُسْتَأْجِرُ أَمْ لَا ( جَازَ فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الرَّقَبَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَيْنَ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَتُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي ، ثُمَّ تُعَادُ إلَيْهِ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهَا إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ ، وَيُعْفَى عَنْ الْقَدْرِ الَّذِي يَقَعُ التَّسْلِيمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ ، كَمَا لَوْ انْسَدَّتْ بَالُوعَةُ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ ؛ لِأَنَّ زَمَنَ فَتْحِهَا يَسِيرٌ .
تَنْبِيهٌ : مَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الصِّحَّةِ تَبِعَ فِيهِ الْجُمْهُورَ ، وَمَحَلُّهُ إذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِالْمُدَّةِ ، فَإِنْ قُدِّرَتْ بِعَمَلٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ بِمُدَّةٍ كَأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ إلَى بَلَدِ كَذَا ، فَعَنْ أَبِي الْفَرَجِ الزَّازَانِ : الْبَيْعُ مُمْتَنِعٌ قَوْلًا وَاحِدًا لِجَهَالَةِ مُدَّةِ السَّيْرِ ، ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَيُقَاسُ

بِالْبَيْعِ مَا فِي مَعْنَاهُ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ مَسْأَلَةُ هَرَبِ الْجِمَالِ السَّابِقَةُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ الْجِمَالِ قَدْرُ النَّفَقَةِ ، قَالَا : وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ ، وَالْبَيْعُ الضِّمْنِيُّ كَأَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى كَذَا فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ وَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا لِقُوَّةِ الْعِتْقِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْقَفَّالِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَأَقَرَّاهُ .
( وَلَا تَنْفَسِخُ ) الْإِجَارَةُ بِمَا ذُكِرَ قَطْعًا كَمَا لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِبَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ ، فَتَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إنْ جَهِلَ الْإِجَارَةَ ، وَكَذَا إنْ عَلِمَهَا وَجَهِلَ الْمُدَّةَ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ ، وَلَوْ قَالَ : عَلِمْت بِالْإِجَارَةِ وَلَكِنْ ظَنَنْت أَنَّ لِي أُجْرَةَ مَا يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِي مِنْ الْمَنْفَعَةِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ : ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ بِالْمَنْعِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ، فَإِنْ عَلِمَهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ وَلَا أُجْرَةَ ، وَإِنْ جَهِلَ ثُمَّ عَلِمَ وَأَجَازَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِبَقِيَّةِ الْمُدَّةِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ عَيْبًا وَفَسَخَ الْإِجَارَةَ أَوْ عَرَضَ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ - فَمَنْفَعَتُهُ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ لِلْبَائِعِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي لَا لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ مَنَافِعَ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينَئِذٍ لَا مِنْ أَصْلِهِ .

خَاتِمَةٌ : لَوْ أَلْزَمَ ذِمَّتَهُ نَسْجَ ثَوْبٍ عَلَى أَنْ يَنْسِجَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ الْتِزَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ قَبْلَ النَّسْجِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلْخِدْمَةِ وَلَوْ مُطْلَقًا عَنْ ذِكْرِ وَقْتِهَا وَتَفْصِيلِ أَنْوَاعِهَا صَحَّ ، وَحُمِلَ الْإِطْلَاقُ عَلَى الْعُرْفِ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأَجِيرِ رُتْبَةً وَذُكُورَةً وَأُنُوثَةً وَمَكَانًا وَوَقْتًا وَغَيْرَهَا ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ لِلْخَبْزِ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَخْبِزُهُ أَرْغِفَةٌ أَوْ أَقْرَاصٌ غِلَاظٌ أَوْ رُقَاقٌ ، وَأَنَّهُ يَخْبِزُ فِي فُرْنٍ أَوْ تَنُّورٍ ، وَحَطَبُ الْخَبَّازِ كَحِبْرِ النُّسَّاخِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ ، وَعَلَى الْأَجِيرِ لِغَسْلِ الثِّيَابِ أُجْرَةُ مَنْ يَحْمِلُهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا إلَيْهِ مِنْ تَمَامِ الْغُسْلِ ، إلَّا إنْ شُرِطَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَتَلْزَمُهُ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى بَلَدٍ فَرَكِبَهَا إلَيْهِ رَدَّهَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي سَارَ مِنْهُ وَلَوْ رَاكِبًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَازِمٌ لَهُ ، فَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُهُ بِالْعُرْفِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا مَرَّ ، إذْ لَا رَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِكِتَابَةِ صَكٍّ فِي بَيَاضٍ وَكَتَبَهُ غَلَطًا أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَهُ ، أَوْ غَيَّرَ النَّاسِخُ تَرْتِيبَ الْكِتَابِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ - سَقَطَتْ أُجْرَتُهُ وَضَمِنَ نُقْصَانَ الْوَرَقِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، فَخَاطَ نِصْفَهُ مَثَلًا ثُمَّ تَلِفَ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ مِنْ الْمُسَمَّى ، إنْ كَانَ الْعَمَلُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، وَلَوْ تَلِفَتْ جَرَّةٌ حَمَلَهَا الْأَجِيرُ نِصْفَ الطَّرِيقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخِيَاطَةَ تَظْهَرُ عَلَى الثَّوْبِ فَوَقَعَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا بِظُهُورِ أَثَرِهِ ، وَالْحَمْلُ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْجَرَّةِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْقِسْطِ وُقُوعُ الْعَمَلِ مُسَلَّمًا وَظُهُورُ أَثَرِهِ عَلَى الْمَحَلِّ .
وَغَرَقُ الْأَرْضِ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ كَانْهِدَامِ الدَّارِ ، فَإِنْ تُوُقِّعَ انْحِسَارُهُ فِي الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا مَضَى وَثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ ، وَإِنْ غَرِقَ بَعْضُهَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ ، وَهَلْ الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي ؟ اخْتَلَفَ مُفْتُو عَصْرِنَا فِيهِ ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخِي ؛ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ .
وَضَمَانُ الْعُهْدَةِ مِنْ شَخْصٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ جَائِزٌ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَ الْحَبْسُ عَلَى أَجِيرِ الْعَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ فِي الْحَبْسِ - أَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَيَسْتَوْثِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ إنْ رَآهُ كَأَنْ خَافَ هَرَبَهُ .
أَمَّا أَجِيرُ الذِّمَّةِ فَلْيُطَالَبْ بِتَحْصِيلِ الْعَمَلِ بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ حُبِسَ بِالْحَقَّيْنِ .

وَلَوْ أَكْرَهَ بَعْضُ الرَّعِيَّةِ شَخْصًا عَلَى غُسْلِ مَيِّتٍ لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، أَوْ الْإِمَامُ وَلِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ وَجَبَتْ فِيهَا ، وَإِلَّا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ إنْ وَسِعَ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ .

وَلِلْأَبِ إيجَارُ ابْنِهِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ لِإِسْقَاطِ نَفَقَتِهِ عَنْهُ ، وَلَهُ اسْتِئْجَارُهُ كَمَا يَشْتَرِي مَالَهُ ، وَلَوْ أَجَّرَ الْأَبُ لِابْنِهِ عَيْنًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَوَرِثَهُ الْآخَرُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْمِلْكِ ، وَفَائِدَةُ عَدَمِ الِانْفِسَاخِ عَدَمُ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَلَوْ خَلَّفَ الْمُؤَجِّرُ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْجَرٌ مِنْهُ دُونُ الْآخَرِ فَالرَّقَبَةُ بَيْنَهُمَا بِالْإِرْثِ ، وَالْإِجَارَةُ مُسْتَمِرَّةٌ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً فَدَخَلَ فِيهَا سَمَكٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ جَمَاعَةَ فِي فُرُوعِهِ ، أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَ السَّفِينَةِ ، وَيَدُهُ عَلَيْهَا فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ .

كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ إنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ .

كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ، وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ : الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : حَدُّ الْمَوَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ - قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ - وَكَلَامُ الْمَتْنِ يُوَافِقُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ هُنَا : ( الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ ) وَقَالَ فِيمَا بَعْدُ : وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمُ مَعْمُورٍ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ أَخْبَارٌ ، كَخَبَرِ { مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتَّمْلِيكُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهَذَّبِ ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لِحَدِيثِ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ ، وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي - أَيْ : طُلَّابُ الرِّزْقِ - مِنْهَا فَهُوَ صَدَقَةٌ } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَهُوَ قِسْمَانِ : أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ ، وَطَارِئٌ وَهُوَ مَا خَرِبَ بَعْدَ عِمَارَةِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَفْيِ الْعِمَارَةِ التَّحَقُّقُ ، بَلْ يَكْفِي عَدَمُ تَحَقُّقِهَا بِأَنْ لَا يُرَى أَثَرُهَا ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ أَصْلِ شَجَرٍ وَنَهْرٍ وَجُدُرٍ وَأَوْتَادٍ ، وَنَحْوِهَا .
( إنْ كَانَتْ ) تِلْكَ الْأَرْضُ ( بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلِلْمُسْلِمِ ) أَيْ : يَجُوزُ لَهُ ( تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ ) وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ الْإِمَامُ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ ، وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ .
نَعَمْ لَوْ حَمَى الْإِمَامُ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ مَوْضِعًا مِنْ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهُ شَخْصٌ ؛ لَمْ يَمْلِكْهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ .
تَنْبِيهٌ : تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّمَلُّكِ قَدْ

يُفْهِمُ التَّكْلِيفَ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَتَمَلَّكَانِ بَلْ يُمَلَّكَانِ ، وَكَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ يُفْهِمُهُ ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ .
فَلِلْمُسْلِمِ ، مَا لَوْ تَحَجَّرَ مُسْلِمٌ مَوَاتًا وَلَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يَسْقُطُ فِيهَا حَقُّهُ ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ مَلَكَهُ ، وَإِنْ حُمِلَ الْجَوَازُ فِي كَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ؛ فَلَا إيرَادَ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ تَمَلُّكُ الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ - مَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا كَالطَّرِيقِ وَالْمَقْبَرَةِ وَكَذَا عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى - وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ ، وَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ : لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ مَا كَانَ مَعْمُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، ثُمَّ خَرِبَ وَبَقِيَ آثَارُ عِمَارَتِهِمْ ؛ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهُ كَمَا سَيَذْكُرُهُ .

وَلَيْسَ هُوَ لِذِمِّيٍّ .
وَمَا عَمَّرَهُ الْكَافِرُ فِي مَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُمَلَّكُهُ ، كَمَا قَالَ ( وَلَيْسَ هُوَ ) أَيْ : إحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ ( لِذِمِّيٍّ ) وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى - وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْإِمَامُ - لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِمْ بِدَارِنَا ، فَلَوْ أَحْيَا ذِمِّيٌّ أَرْضًا نُزِعَتْ مِنْهُ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ، فَلَوْ نَزَعَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ وَأَحْيَاهَا مَلَكَهَا - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ - كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ؛ إذْ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الذِّمِّيِّ ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ فِيهَا عَيْنٌ ؛ نَقَلَهَا ، وَلَوْ زَرَعَهَا الذِّمِّيُّ وَزَهَدَ فِيهَا ، صَرَفَ الْإِمَامُ الْغَلَّةَ فِي الْمَصَالِحِ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُ الْغَلَّةِ ، وَلِلذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ الِاحْتِطَابُ وَالِاحْتِشَاشُ وَالِاصْطِيَادُ بِدَارِنَا وَنَقْلُ تُرَابٍ مِنْ مَوَاتِ دَارنَا لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيهِ ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، لَكِنْ لَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُلِّكَهُ ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي .

وَإِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْكُفَّارِ فَلَهُمْ إحْيَاؤُهَا ، وَكَذَا لِلْمُسْلِمِ إنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَذُبُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا .
( وَإِنْ كَانَتْ ) تِلْكَ الْأَرْضُ ( بِبِلَادِ الْكُفَّارِ ) دَارَ حَرْبٍ وَغَيْرِهَا ( فَلَهُمْ إحْيَاؤُهَا ) مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ دَارِهِمْ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيهِ ؛ فَيُمَلَّكُونَهُ بِالْإِحْيَاءِ كَالصَّيْدِ .
( وَكَذَا لِلْمُسْلِمِ ) أَيْضًا إحْيَاؤُهَا ( إنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَذُبُّونَ ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا : أَيْ يَدْفَعُونَ ( الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا ) كَمَوَاتِ دَارِنَا ، وَلَا يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَاءِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُمْ حَتَّى يَمْلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ ذَبُّوهُمْ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ إحْيَاؤُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْمَعْمُورِ مِنْ بِلَادِهِمْ ، وَإِذَا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا وَهُمْ يَذُبُّونَ عَنْهَا ، فَالْغَانِمُونَ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا ، وَأَهْلُ الْخُمْسِ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ الْخُمْسِ ، فَإِنْ أَعْرَضَ كُلُّ الْغَانِمِينَ عَنْ إحْيَاءِ مَا يَخُصُّهُمْ ؛ فَأَهْلُ الْخُمْسِ أَحَقُّ بِهِ كَالْمُتَحَجَّرِ ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ اخْتِصَاصًا ، فَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَنَا وَهُمْ يَسْكُنُونَ بِجِزْيَةٍ ، فَالْمَعْمُورُ مِنْهَا فَيْءٌ وَمَوَاتُهَا الَّذِي كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ يَتَحَجَّرُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ فَيَحْفَظُهُ الْإِمَامُ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ فَيْئًا فِي الْحَالِ ، أَوْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ فَالْمُتَحَجِّرُ فِي ذَلِكَ الْمَوَاتِ لَهُمْ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ ، كَمَا أَنَّ تَحَجُّرَ مَوَاتِ دَارِنَا لَنَا تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ ، فَإِنْ فَنِيَ الذِّمِّيُّونَ ؛ فَكَنَائِسُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي فَنَوْا عَنْهَا ، وَلَا وَارِثَ لَهُمْ .

وَمَا كَانَ مَعْمُورًا فَلِمَالِكِهِ .
وَبِيَعُ النَّصَارَى الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا تُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ .
وَالْمُرَادُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ : كُلُّ بَلْدَةٍ بَنَاهَا الْمُسْلِمُونَ - كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةَ - أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا - كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ - أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً - كَخَيْبَرِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ - أَوْ صُلْحًا ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الرُّقْبَةُ لَنَا وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ ، وَإِنْ فُتِحَتْ عَلَى أَنَّ الرُّقْبَةَ لَهُمْ ؛ فَمَوَاتُهَا كَمَوَاتِ دَارِ الْحَرْبِ .
وَلَوْ غَلَبَ الْكُفَّارُ عَلَى بَلْدَةٍ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ - كَطَرَسُوسَ - لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ .
( وَمَا كَانَ مَعْمُورًا ) مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ خَصَّصَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ : ( فَلِمَالِكِهِ ) إنْ عُرِفَ - مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ - أَوْ لِوَارِثِهِ ، وَلَا يُمَلَّكُ مَا خَرِبَ مِنْهُ بِالْإِحْيَاءِ .
نَعَمْ ، اسْتَثْنَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَافِرٌ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ .
تَنْبِيهٌ : شَمِلَ كَلَامُهُ مَا كَانَ مَعْمُورًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْمُورًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ثُمَّ انْدَرَسَ ، بَلْ هُوَ فِي هَذَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ .

فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ وَالْعِمَارَةُ إسْلَامِيَّةٌ فَمَالٌ ضَائِعٌ .
وَالْمَعْمُورُ لَا يَدْخُلُ الْإِحْيَاءُ فِيهِ بَلْ هُوَ لِمَالِكِهِ ( فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ) مَالِكُهُ ( وَالْعِمَارَةُ إسْلَامِيَّةٌ فَمَالٌ ) أَيْ : فَهَذَا الْمَعْمُورُ مَالٌ ( ضَائِعٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ ، وَأَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ فِي حِفْظِهِ إلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ ، أَوْ بَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ أَوْ اسْتِقْرَاضِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .

تَنْبِيهٌ : لَوْ خَرِبَتْ قَرْيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَعَطَّلَتْ وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهَا ، فَهَلْ لِلْإِمَامِ إعْطَاؤُهَا لِمَنْ يَعْمُرُهَا ؟ .
وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا : أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ السُّبْكِيّ : وَكُلُّ مَا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ وَلَا يُرْجَى ظُهُورُهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ كَسَائِرِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ أَخْذِ الْعُشُورِ وَالْمُكُوسِ وَجُلُودِ الْبَهَائِمِ ، وَنَحْوِهَا الَّتِي تُذْبَحُ وَتُؤْخَذُ مِنْ مُلَّاكِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَتَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ مُلَّاكُهَا أَنَّهَا تَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ .

وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
( وَإِنْ كَانَتْ ) - أَيْ الْعِمَارَةُ - ( جَاهِلِيَّةً ) بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا آثَارُ عِمَارَاتِهِمْ ( فَالْأَظْهَرُ ) .
وَحَكَى جَمْعٌ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَنَّهُ ) - أَيْ مَا كَانَ مَعْمُورًا جَاهِلِيًّا ثُمَّ خَرِبَ - ( يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ) ؛ إذْ لَا حُرْمَةَ لِمِلْكِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوَاتٍ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ بِبِلَادِهِمْ وَهُمْ لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي مَعْمُورٍ أَنَّهُ عُمِّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ .
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّكَازِ الَّذِي جُهِلَ حَالُهُ : أَيْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لُقَطَةٌ .

وَالْأَرْضُ الْعَامِرَةُ إذَا لَبِسَهَا رَمْلٌ أَوْ غَرَّقَهَا مَاءٌ فَصَارَتْ بَحْرًا ثُمَّ زَالَ الرَّمْلُ أَوْ الْمَاءُ ؛ فَهِيَ لِمَالِكِهَا إنْ عُرِفَ ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ بَاطِنِهَا يَكُونُ لَهُ ، وَلَوْ لَبِسَهَا الْوَادِي بِتُرَابٍ آخَرَ ، فَهِيَ بِذَلِكَ التُّرَابِ لَهُ ، كَمَا فِي الْكَافِي ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ إسْلَامِيَّةً فَمَالٌ ضَائِعٌ ، أَوْ جَاهِلِيَّةً فَتُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَأَمَّا الْجَزَائِرُ الَّتِي تُرَبِّيهَا الْأَنْهَارُ : فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ أَرَاضِي بِلَادٍ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي نَهْرِ النِّيلِ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ، وَإِلَّا بِأَنْ رُبِّيَتْ مِنْ أَرْضِ النَّهْرِ وَلَيْسَتْ حَرِيمًا لِمَعْمُورٍ فَهِيَ مَوَاتٌ ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ فَأَمْرُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ .
هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ حَقَّقَ هَذَا الْمَحَلَّ .

وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمٌ مَعْمُورٌ ، وَهُوَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ ، فَحَرِيمُ الْقَرْيَةِ النَّادِي ، وَمُرْتَكَضُ الْخَيْلِ ، وَمُنَاخُ الْإِبِلِ ، وَمَطْرَحُ الرَّمَادِ وَنَحْوُهَا ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ ، وَالْحَوْضُ ، وَالدُّولَابُ ، وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ ، وَمُتَرَدِّدُ الدَّابَّةِ ، وَحَرِيمُ الدَّارِ فِي الْمَوَاتِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَكُنَاسَةٌ وَثَلْجٌ ، وَمَمَرٌّ فِي صَوْبِ الْبَابِ ، وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ مَا لَوْ حُفِرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا أَوْ خِيفَ الِانْهِيَارُ

( وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمُ مَعْمُورٍ ) ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَعْمُورِ مُسْتَحِقٌّ لِمَرَافِقِهِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ حَرِيمًا لِتَحْرِيمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ الْحَرِيمَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، وَهُوَ وَجْهٌ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ ، لَكِنَّهُ لَا يُبَاعُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ ، كَمَا لَا يُبَاعُ شِرْبُ الْأَرْضِ وَحْدَهُ .
( وَهُوَ ) أَيْ الْحَرِيمُ ( مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ ) بِالْمَعْمُورِ وَإِنْ حَصَلَ أَصْلُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِهِ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ بَيَانِ الْحَرِيمِ عَلَى حُكْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ ( فَحَرِيمُ الْقَرْيَةِ ) الْمُحْيَاةِ ( النَّادِي ) وَهُوَ الْمَجْلِسُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ يَنْدُونَ : أَيْ يَتَحَدَّثُونَ ، وَلَا يُسَمَّى الْمَجْلِسُ نَادِيًا إلَّا وَالْقَوْمُ فِيهِ ، وَيُطْلَقُ النَّادِي عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ مُجْتَمَعُ النَّادِي ، وَهِيَ أَوْلَى .
نَعَمْ إنْ قُدِّرَ فِي كَلَامِ الْمَتْنِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ ؛ سَاوَى تَعْبِيرَ الْمُحَرَّرِ ( وَمُرْتَكَضُ الْخَيْلِ ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ مَكَانُ سُوقِهَا .
أَيْ إذَا كَانُوا خَيَّالَةً كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ( وَمُنَاخُ الْإِبِلِ ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِخَطِّهِ ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُنَاخُ فِيهِ إذَا كَانُوا أَهْلَ إبِلٍ عَلَى قِيَاسِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( وَمَطْرَحُ ) السِّرْجِينِ وَالْقُمَامَاتِ ، وَ ( الرَّمَادِ وَنَحْوُهَا ) كَمَرَاحِ غَنَمٍ وَسَيْلِ مَاءٍ وَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ .
وَكَذَا الْمَرْعَى وَالْمُحْتَطَبُ الْمُسْتَقِلَّانِ الْقَرِيبَانِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، وَكَذَا الْبَعِيدَانِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ - إذَا لَمْ يَفْحُشْ - بُعْدُهُمَا عَنْ الْقَرْيَةِ ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَعُدَّانِ مِنْ مَرَافِقِ الْقَرْيَةِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَقِلَّا وَلَكِنْ كَانَ يَرْعَى وَيَحْتَطِبُ مِنْهُمَا عِنْدَ

خَوْفِ الْبُعْدِ فَلَيْسَا بِحَرِيمٍ ( وَحَرِيمُ الْبِئْرِ ) الْمَحْفُورَةِ ( فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ ) مِنْهُمَا وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ .
أَمَّا الْمَحْفُورَةُ فِي مِلْكِهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُرْفُ تَنْبِيهٌ : عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ وَهِيَ حَسَنَةٌ ، فَإِنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ مُشْكِلَةٌ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ فِي الْمَوَاتِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛ إذْ شَرْطُ الْحَالِ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ عَامِلًا فِيهَا أَوْ يَكُونَ الْمُضَافُ جُزْءًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ كَجُزْئِهِ ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ كَجُزْئِهَا ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيم حَنِيفًا } ( وَالْحَوْضُ ) بِالرَّفْعِ - وَكَذَا الْمَعْطُوفَاتُ بَعْدَهُ - عَطْفٌ عَلَى ( مَوْقِفُ ) ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَصُبُّ النَّازِحُ فِيهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْبِئْرِ ، وَكَذَا عَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ بِمَصَبِّ الْمَاءِ ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْحَرِيمَ مَوْضِعُ الْحَوْضِ ، وَكَذَا يُقَدَّرُ الْمَوْضِعُ فِي الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى الْحَوْضِ .
( وَالدُّولَابُ ) بِضَمِّ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ إنْ كَانَ الِاسْتِقَاءُ بِهِ كَمَا قَيَّدَاهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ( وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ ) الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يُخْرَجُ مِنْ الْحَوْضِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ : إنَّ ذِكْرَ الْمُجْتَمَعِ مَعَ الْحَوْضِ تَكْرَارٌ ( وَمُتَرَدَّدُ ) النَّازِحِ مِنْ ( الدَّابَّةِ ) إنْ اسْتَقَى بِهَا أَوْ الْآدَمِيِّ ، أَمَّا الْبِئْرُ الْمُتَّخَذَةُ لِلشُّرْبِ فَيُعْتَبَرُ حَرِيمُهَا بِمَوْضِعِ وُقُوفِ الْمُسْتَقِي مِنْهَا ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ بِحَيْثُ نَقَصَ بِهِ مَاءُ الْأُولَى ؛ مُنِعَ فِي الْأَصَحِّ وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَرِيمِ الْمَوَاتِ ( وَحَرِيمُ الدَّارِ ) الْمَبْنِيَّةِ ( فِي الْمَوَاتِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَكُنَاسَةٍ وَثَلْجٍ ) فِي بَلَدٍ يُثْلِجُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ

إلَى ذَلِكَ ( وَمَمَرٌّ فِي صَوْبِ الْبَابِ ) لِيَتَوَقَّفَ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ بِصَوْبِ الْبَابِ جِهَتُهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقَهُ قُبَالَةَ الْبَابِ عَلَى امْتِدَادِ الْمَوَاتِ ، بَلْ لِغَيْرِهِ إحْيَاءُ مَا فِي قُبَالَةِ الْبَابِ إذَا أَلْقَى لَهُ مَمَرًّا ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى انْعِطَافٍ وَازْوِرَارٍ ، وَفِنَاءُ جُدَرَانِ الدَّارِ وَهُوَ مَا حَوَالَيْهَا مِنْ الْخَلَاءِ الْمُتَّصِلِ بِهَا لَيْسَ حَرِيمًا لَهَا فِي أَوْجَهِ وَجْهَيْنِ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ النَّصِّ وَالزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ بِقُرْبِهَا وَمِنْ سَائِرِ مَا يَضُرُّ بِهَا ، كَإِلْصَاقِ جِدَارِهِ أَوْ رَمْلِهِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِمَا يَضُرُّ مِلْكَ غَيْرِهِ ( وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ ) الْمُحَيَّاةِ ( مَا لَوْ حُفِرَ فِيهِ ) أَيْ : الْحَرِيمِ ( نَقَصَ مَاؤُهَا أَوْ خِيفَ ) عَلَيْهَا ( الِانْهِيَارُ ) أَيْ : السُّقُوطُ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِي صَلَابَةً وَلِينًا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى مَوْقِفِ نَازِحٍ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا مَرَّ فِي بِئْرِ الِاسْتِقَاءِ : بَلْ إلَى حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَائِهَا .
أَمَّا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ثُمَّ حَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ؛ فَلَا يُمْنَعُ وَإِنْ نَقَصَ مَاءَ غَيْرِهِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَفْرَ فِي الِابْتِدَاءِ تَمَلُّكٌ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ إذَا تَضَرَّرَ بِهِ الْغَيْرُ ، وَهُنَا كُلٌّ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
تَنْبِيهٌ : مَا جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ حَرِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَفْرِ الْآبَارِ ، لَا مُطْلَقًا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَبْنِيَ فِي الْحَرِيمِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذْ انْتَهَى الْمَوَاتُ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مِلْكٌ قَبْلَ تَمَامِ حَدِّ الْحَرِيمِ ، فَالْحَرِيمُ إلَى انْتِهَاءِ الْمَوَاتِ ، وَضَبَطَ الْمُصَنِّفُ بِخَطِّهِ أَبْآرَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ وَقَلْبُهَا أَلِفًا .
قَالَ الْجَارْبُرْدِيُّ : وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا

.

وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ لَا حَرِيمَ لَهَا ، وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ ، فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا ، وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ إذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمِ الْجُدْرَانَ .

تَنْبِيهٌ : فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ كَدَقٍّ عَنِيفٍ يُزْعِجُ الْجِيرَانَ وَحَبْسِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَسْرِي النَّدَاوَةُ إلَى جِدَارِ الْجَارِ ( وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ ) بِأَنْ أُحْيِيَتْ كُلُّهَا مَعًا ( لَا حَرِيمَ لَهَا ) ؛ إذْ لَيْسَ جَعْلُ مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لِأُخْرَى .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ الْمَحْفُوفَةُ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهَا كُلُّ مَا لَا مَوَاتَ حَوْلَهُ ، وَمِنْهُ غَيْرُ الْمَحْفُوفَةِ إذَا كَانَتْ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ ؛ لِأَنَّهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ نَافِذٍ ، ( وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ ) مِنْ الْمُلَّاكِ ( فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ ) فِي التَّصَرُّفِ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَارُهُ أَوْ أَدَّى إلَى إتْلَافِ مَالِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ حُشٍّ فَاخْتَلَّ بِهِ جِدَارُ جَارِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا فِي الْحُشِّ مَاءُ بِئْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ مِمَّا يَضُرُّ جَارَهُ ضَرَرًا لَا جَابِرَ لَهُ ( فَإِنْ تَعَدَّى ) بِأَنْ جَاوَزَ الْعَادَةَ فِي التَّصَرُّفِ ( ضَمِنَ ) مَا تَعَدَّى فِيهِ لِافْتِيَاتِهِ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ ) لِلشَّخْصِ ( أَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا ) وَلَفْظُهُ مُذَكَّرٌ ، وَطَاحُونَةً وَمَدْبَغَةً ( وَإِصْطَبْلًا ) وَفُرْنًا ( وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ ) وَقَصَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، كَأَنْ يَجْعَلَهُ مَدْبَغَةً .
لَكِنْ ( إذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمِ الْجُدْرَانَ ) إحْكَامًا يَلِيقُ بِمَا يَقْصِدُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَفِي مَنْعِهِ إضْرَارٌ بِهِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ لِلْإِضْرَارِ بِهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ كَدَقٍّ عَنِيفٍ يُزْعِجُ الْجِيرَانَ ، وَحَبْسِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَسْرِي النَّدَاوَةُ إلَى جِدَارِ الْجَارِ ؛ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ

.
وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مَنْعُ مَا يَضُرُّ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ يَلْزَمُ مِنْ حَفْرِهِ سُقُوطُ جِدَارِ جَارِهِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لَهُ جَعْلُهَا مَسْجِدًا وَلَا حَمَّامًا وَلَا حَانُوتًا وَلَا سَبِيلًا إلَّا بِإِذْنِ الشُّرَكَاءِ ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الصُّلْحِ ، وَلَوْ دَقَّ فَاهْتَزَّ الْجِدَارُ فَانْكَسَرَ مَا كَانَ مُعَلَّقًا فِيهِ : قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : فَإِنْ سَقَطَ فِي حَالَةِ الدَّقِّ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا ضَمَانَ فِي الْحَالَيْنِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
تَنْبِيهٌ : لَوْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ : فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ ، عَنْ قَوْلِهِ : وَالْأَصَحُّ إلَخْ ؛ كَانَ أَوْلَى .

وَيَجُوزُ إحْيَاءُ مَوَاتِ الْحَرَمِ ، دُونَ عَرَفَاتٍ فِي الْأَصَحِّ قُلْت : وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى كَعَرَفَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَيَجُوزُ إحْيَاءُ مَوَاتِ الْحَرَمِ ) كَمَا يُمَلَّكُ عَامِرُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ( دُونَ عَرَفَاتٍ ) فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهَا ( فِي الْأَصَحِّ ) وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْحَرَمِ ؛ لِتَعَلُّقِ الْوُقُوفِ بِهَا كَالْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مِنْ الطُّرُقِ ، وَمُصَلَّى الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَمَوَارِدِ الْمَاءِ ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْعِمَارَةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ وَالْخُلْجَانِ ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مَنْعُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : إنْ ضَيَّقَ امْتَنَعَ ، وَإِلَّا فَلَا ( قُلْت : وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى كَعَرَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُمَا فِي الْأَصَحِّ لِحَقِّ الْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَضِقْ بِهِ الْمَبِيتُ وَالْمَرْمَى ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْبِنَاءِ بِمِنًى وَصَارَ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ هَدْمُ مَا فِيهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْبِنَاءِ فِيهَا .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْقُولٌ ، وَأَنَّ خِلَافَ عَرَفَةَ يَجْرِي فِيهِ وَبِهِ صُرِّحَ فِي التَّصْحِيحِ ، وَاَلَّذِي فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي أَرْضِ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ كَعَرَفَاتٍ لِوُجُودِ الْمَعْنَى ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : يَنْبَغِي الْقَطْعُ لِضِيقِهِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالْمُتَّجَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْبِنَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَلَوْ قُلْنَا بِمَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْمَبِيتِ بِهَا لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا حِينَئِذٍ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحَصَّبُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَجِيجِ إذَا نَفَرُوا أَنْ يَبِيتُوا بِهِ .
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ : لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْهُ مَلَكَهُ ا هـ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ .

وَيَخْتَلِفُ الْإِحْيَاءُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ فَإِنْ أَرَادَ مَسْكَنًا اشْتَرَطَ تَحْوِيطَ الْبُقْعَةِ وَسَقْفَ بَعْضِهَا وَتَعْلِيقَ بَابٍ ، وَفِي الْبَابِ وَجْهٌ
( وَيَخْتَلِفُ الْإِحْيَاءُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ ) وَالرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَطْلَقَهُ وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ ، وَالضَّابِطُ التَّهْيِئَةُ لِلْمَقْصُودِ ( فَإِنْ أَرَادَ ) إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ( مَسْكَنًا اشْتَرَطَ ) فِيهِ لِحُصُولِهِ ( تَحْوِيطَ الْبُقْعَةِ ) بِآجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ بِحَسَبِ عَادَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِالتَّحْوِيطِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ ، وَنُصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ ( وَ ) اشْتَرَطَ أَيْضًا ( سَقْفَ بَعْضِهَا ) لِيَتَهَيَّأَ لِلسُّكْنَى ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ( وَتَعْلِيقَ ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ : أَيْ نَصْبَ ( بَابٍ ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْمَنَازِلِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَبْوَابٌ ، وَمَا لَا بَابَ لَهُ لَا يُتَّخَذُ مَسْكَنًا .
( وَفِي ) تَعْلِيقِ ( الْبَابِ وَجْهٌ ) أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ فَقْدَهُ لَا يَمْنَعُ السُّكْنَى وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِحِفْظِ الْمَتَاعِ ، وَلَوْ قَالَ : وَفِيهِمَا وَجْهٌ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّ فِي السَّقْفِ أَيْضًا وَجْهَهُ كَمَا مَرَّ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ السُّكْنَى لَا تُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ مَا ذُكِرَ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ .

أَوْ زَرِيبَةَ دَوَابَّ فَتَحْوِيطٌ لَا سَقْفٌ ، وَفِي الْبَابِ الْخِلَافُ .
( أَوْ ) أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ( زَرِيبَةَ دَوَابَّ ) أَوْ نَحْوَهَا كَحَظِيرَةٍ لِجَمْعِ ثِمَارٍ وَغَلَّاتٍ وَغَيْرِهَا ( فَتَحْوِيطٌ ) بِالْبِنَاءِ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ وَأَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَازَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَالْمُتَمَلِّكُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ عَادَةً ( لَا سَقْفٌ ) ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ الزَّرِيبَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهَا عَدَمُهُ ، وَلَوْ حَوَّطَ بِبِنَاءٍ فِي طَرَفٍ ، وَاقْتَصَرَ فِي الثَّانِي عَلَى نَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ سَعَفٍ .
قَالَ الْقَاضِي : كَفَى ، وَخَالَفَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ ، ( وَفِي ) نَصْبِ ( الْبَابِ الْخِلَافُ ) السَّابِقُ فِي الْمَسْكَنِ .

وَلَوْ حَفَرَ قَبْرًا فِي مَوَاتٍ كَانَ إحْيَاءً لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَمَلَكَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ ، كَمَا لَوْ بَنَى فِيهَا وَلَمْ يَسْكُنْ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَفَرَ قَبْرًا فِي أَرْضِ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ ؛ إذْ السَّبْقُ فِيهَا بِالدَّفْنِ لَا بِالْحَفْرِ .

أَوْ مَزْرَعَةً فَجَمْعُ التُّرَابِ حَوْلَهَا ، وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَتَرْتِيبُ مَاءٍ لَهَا إنْ لَمْ يَكْفِهَا الْمَطَرُ ، الْمُعْتَادُ ، لَا الزِّرَاعَةُ فِي الْأَصَحِّ .

( أَوْ ) أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ( مَزْرَعَةً ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ( فَجَمْعُ التُّرَابِ ) وَنَحْوِهِ كَحَجَرٍ وَشَوْكٍ ( حَوْلَهَا ) يُشْتَرَطُ فِي إحْيَائِهَا لِيَنْفَصِلَ الْمُحْيِي عَنْ غَيْرِهِ لِجِدَارِ الدَّارِ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْوِيطِ ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ ( وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ ) بِطَمِّ الْمُنْخَفِضِ وَكَسْحِ الْمُسْتَعْلِي وَحَرْثِهَا إنْ لَمْ تُزْرَعْ إلَّا بِهِ وَتَلْيِينِ تُرَابِهَا وَلَرُبَّمَا يُسَاقُ إلَيْهَا لِتَتَهَيَّأَ لِلزِّرَاعَةِ ( وَتَرْتِيبُ مَاءٍ لَهَا ) بِشَقِّ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ تَعْبِيرُهُ بِتَرْتِيبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ السَّقْيُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِذَا حَفَرَ طَرِيقَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا إجْرَاؤُهُ ؛ كَفَى وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ، فَإِنْ هَيَّأَهُ وَلَمْ يَحْفِرْ طَرِيقَهُ كَفَى أَيْضًا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، وَرَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، هَذَا ( إنْ لَمْ يَكْفِهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ ) فَإِنْ كَفَاهَا لَمْ يَحْتَجْ لِتَرْتِيبِ الْمَاءِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَرْتِيبِ الْمَاءِ صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَرَاضِي الْجِبَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ سَوْقُ الْمَاءِ إلَيْهَا ، وَلَا يَكْفِيهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْحِرَاثَةِ ، وَجَمْعُ التُّرَابِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ تَرْجِيحَهُ ، وَنَقَلَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْأَصْحَابِ .
الثَّانِيَةُ : أَرَاضِي الْبَطَائِحِ ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْعِرَاقِ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ، فَالشَّرْطُ فِي إحْيَائِهَا حَبْسُ الْمَاءِ عَنْهَا عَكْسُ غَيْرِهَا .
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَ ( لَا ) يُشْتَرَطُ فِي إحْيَائِهَا ( الزِّرَاعَةُ فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الدَّارِ سُكْنَاهَا ، وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ ؛ إذْ الدَّارُ لَا تَصِيرُ مُحْيَاةً إلَّا إذَا جُعِلَ فِيهَا عَيْنُ مَالِ الْمُحْيِي ، فَكَذَا الْمَزْرَعَةُ وَمَا يُبْذَرُ فِيهَا ، يُقَالُ لَهُ :

زَرِيعَةٌ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَجَمْعُهَا زَرَائِعُ ، وَأَمَّا الْحَصَادُ فَلَا يُشْتَرَطُ جَزْمًا .

أَوْ بُسْتَانًا فَجَمْعُ التُّرَابِ ، وَالتَّحْوِيطُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَتَهْيِئَةُ مَاءٍ ، وَيُشْتَرَطُ الْغَرْسُ عَلَى الْمَذْهَبِ .

تَنْبِيهٌ : غَرْسُ مَا يُسَمَّى بِهِ بُسْتَانًا وَيُبْعِدُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ أَوْ شَجَرَاتٍ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ ( أَوْ ) أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ( بُسْتَانًا فَجَمْعُ التُّرَابِ ) يُشْتَرَطُ حَوْلَ الْأَرْضِ كَالْمَزْرَعَةِ ، وَحُكْمُ الْكَرْمِ حُكْمُ الْبُسْتَانِ ( وَالتَّحْوِيطُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ) عَمَلًا بِهَا ، وَإِنْ جَرَتْ بِتَحْوِيطٍ بِبِنَاءٍ اشْتَرَطَ ، أَوْ بِقَصَبٍ أَوْ شَوْكٍ ؛ كَفَى أَوْ اكْتَفَتْ بِجَمْعِ تُرَابٍ كَفَى ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّحْوِيطِ وَجَمْعِ التُّرَابِ .
وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ جَمْعِ التُّرَابِ مَعَ التَّحْوِيطِ ، وَلَيْسَ مُرَادًا ؛ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ ، فَلَوْ قُيِّدَ التُّرَابُ بِحَالَةِ عَدَمِ التَّحْوِيطِ كَانَ أَوْلَى ، وَعِبَارَتُهُ تُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ إنْ لَمْ يُعْتَدَّ ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ : وَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْوِيطِ وَالرُّجُوعِ فِيمَا يُحَوِّطُ بِهِ إلَى الْعَادَةِ .
( وَتَهْيِئَةُ مَاءٍ ) عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمَزْرَعَةِ .
( وَيُشْتَرَطُ ) فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ بُسْتَانًا ( الْغَرْسُ عَلَى الْمَذْهَبِ ) وَقِيلَ : لَا يُشْتَرَطُ كَالزَّرْعِ فِي الْمَزْرَعَةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اسْمَ الْمَزْرَعَةِ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ الزَّرْعِ بِخِلَافِ الْبُسْتَانِ قَبْلَ الْغَرْسِ ؛ وَلِأَنَّ الْغَرْسَ لِلدَّوَامِ فَالْتَحَقَ بِبِنَاءِ الدَّارِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ ، وَمَنْ شَرَطَ الزَّرْعَ فِي الْمَزْرَعَةِ شَرَطَ الْغَرْسَ فِي الْبُسْتَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ قَاطِعَةٌ بِالِاشْتِرَاطِ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ الْبَعْضِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْبَسِيطِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ غَرْسُ مَا يُسَمَّى بِهِ بُسْتَانًا ، وَيُبْعِدُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ أَوْ شَجَرَاتٍ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُثْمِرَ الْغِرَاسُ ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَصْبِ الْبَابِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ، وَهُوَ

كَذَلِكَ ، وَإِنْ صَرَّحَ الْحَاوِي الصَّغِيرُ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ بِاشْتِرَاطِهِ .

وَيُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ الْبِئْرِ خُرُوجُ الْمَاءِ وَطَيُّ الْبِئْرِ الرِّخْوَةِ بِخِلَافِ الصُّلْبَةِ ، وَفِي إحْيَاءِ بِئْرِ الْقَنَاةِ خُرُوجُ الْمَاءِ وَجَرَيَانُهُ ، وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا مُمْتَدًّا إلَى النَّهْرِ الْقَدِيمِ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ لِيَجْرِيَ فِيهِ الْمَاءُ مَلَكَهُ وَلَوْ لَمْ يُجْرِهِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ السُّكْنَى فِي إحْيَاءِ الْمَسْكَنِ .

وَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ
( وَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ ) لِنَوْعٍ فَغَيَّرَهُ لِنَوْعٍ آخَرَ مَلَكَهُ بِمَا يُحْيِي بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ كَأَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ بُسْتَانٍ ثُمَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً ؛ مَلَكَهُ بِمَا تُمْلَكُ بِهِ الْمَزْرَعَةُ ، وَكَلَامُ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ ، لَا عَلَى مَا حَمَلَهُ شَيْخُنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَوَّطَ الْبُقْعَةَ مَلَكَهَا وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْكَنَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تُمْلَكُ بِهِ الزَّرِيبَةُ لَوْ قَصَدَهَا ، وَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ .

وَلَمْ يُتِمَّهُ أَوْ أَعْلَمَ عَلَى بُقْعَةٍ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرَزَ خَشَبًا فَمُتَحَجِّرٌ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَأَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهُ آخَرُ مَلَكَهُ .

وَلَوْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ ( وَلَمْ يُتِمَّهُ ) كَأَنْ حَفَرَ أَسَاسًا أَوْ جَمَعَ تُرَابًا ( أَوْ أَعْلَمَ ) عَطْفٌ عَلَى شَرَعَ : أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَةَ الْعِمَارَةِ ( عَلَى بُقْعَةٍ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرَزَ خَشَبًا ) فِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَأَنْ خَطَّ خَطًّا أَوْ جَمَعَ تُرَابًا حَوْلَهَا ( فَمُتَحَجِّرٌ ) لِذَلِكَ الْمَحَلِّ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ( وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ) مِنْ غَيْرِهِ : يَعْنِي مُسْتَحِقًّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ } وَلِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يُفِيدُ الْمِلْكَ ، فَلْيُفِدْ الشُّرُوعُ فِيهِ الِامْتِنَاعَ كَالِاسْتِيَامِ مَعَ الشِّرَاءِ ، وَهَذِهِ الْأَحَقِّيَّةُ أَحَقِّيَّةُ اخْتِصَاصٍ لَا مِلْكٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْإِحْيَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَهَا شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ ، فَإِنْ خَالَفَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْيِيَ مَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِحَجْرِهِ أَصْلًا .
الثَّانِي : الْقُدْرَةُ عَلَى تَهْيِئَةِ الْإِكْمَالِ .
فَلَوْ تَحَجَّرَ مَا يَعْجِزُ عَنْ إحْيَائِهِ ؛ كَانَ لِغَيْرِهِ إحْيَاءُ الزَّائِدِ كَمَا مَرَّ .
وَلَمَّا كَانَتْ أَحَقِّيَّةُ الْمُتَحَجِّرِ مَا يَحْجُرُهُ قَدْ تُوهِمُ أَحَقِّيَّةَ الْمِلْكِ اسْتَدْرَكَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لَكِنْ الْأَصَحُّ ) الْمَنْصُوصُ ( أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ) أَيْ أَحَقِّيَّةُ اخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ، وَلَا هِبَتُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا لِلدَّارِمِيِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِيثَارُهُ بِهِ كَإِيثَارِهِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ وَيُورَثُ عَنْهُ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ ، وَكَأَنَّهُ يَتْبَعُ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ كَبَيْعِ عُلُوِّ الْبَيْتِ لِلْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى دُونَ أَسْفَلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا

اسْتَدْرَكَهُ الْمُصَنِّفُ مُسْتَدْرَكٌ كَمَا قِيلَ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْبَيْعِ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْأَحَقِّيَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَقُّ أَعَمُّ فَيُصَدَّقُ بِالْأَحَقِّيَّةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَيْعِ ، فَلِذَلِكَ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ : لَكِنَّ إلَخْ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ لِمَنْعِ الْبَيْعِ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ مَعَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يُخَالِفُ فِيهِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ ، وَهَلْ يَجْرِي خِلَافُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَنَحْوِهَا ؟ الظَّاهِرُ الْمَنْعُ فَيَمْتَنِعُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا قَطْعًا ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ وَلَا مَنْفَعَةَ كَمَا قَطَعُوا بِهِ فِي امْتِنَاعِ الْعِوَضِ عَلَى حَقِّ الْقَسَمِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ عَنْ الْوَظَائِفِ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا لَا الْمَنْفَعَةَ ا هـ .
( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهُ ) شَخْصٌ ( آخَرُ مَلَكَهُ ) وَإِنْ عَصَى بِذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي سَوْمِ أَخِيهِ وَاشْتَرَى .
وَالثَّانِي : لَا يَمْلِكُهُ لِئَلَّا يُبْطِلَ حَقَّ غَيْرِهِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الْعِمَارَةِ ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا مَلَكَهُ الْمُحْيِي قَطْعًا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَبِيهٌ بِمَا إذَا عَشَّشَ الطَّائِرُ فِي مِلْكِهِ وَأَخَذَ الْفَرْخَ غَيْرُهُ هَلْ يَمْلِكُهُ ، وَكَذَا لَوْ تَوَحَّلَ طَيْرٌ فِي أَرْضِهِ أَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ ا هـ وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابٌ ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْوَلِيمَةِ .

وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّحَجُّرِ قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ أَحْيِ أَوْ اُتْرُكْ ، فَإِنْ اسْتَمْهَلَ أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً .
( وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّحَجُّرِ ) وَلَمْ يُحْيِ ، وَيُرْجَعُ فِي طُولِهَا لِلْعُرْفِ ( قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ ) أَوْ نَائِبُهُ : ( أَحْيِ أَوْ اُتْرُكْ ) مَا تَحَجَّرْتَهُ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ ؛ فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي شَارِعٍ ( فَإِنْ اسْتَمْهَلَ ) الْمُتَحَجِّرُ ( أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً ) يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِلْعِمَارَةِ ، وَتَقْدِيرُهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ، وَقِيلَ تُقَدَّرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُعَمِّرْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إلَى سُلْطَانٍ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِلَا مُهْلَةٍ ، وَهُوَ مَا بَحَثَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ، لَكِنَّهُ خِلَافُ مَنْقُولِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّحَجُّرَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْعِمَارَةِ ، وَهِيَ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُ إلَّا بِقَدْرِ أَسْبَابِهَا ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَحَجُّرُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ تَحَجَّرَ لِيَعْمُرَ فِي قَابِلٍ ، وَكَفَقِيرٍ تَحَجَّرَ إذَا قَدَرَ ، فَوَجَبَ إذَا أَخَّرَ وَطَالَ الزَّمَانُ أَنْ يَعُودَ مَوَاتًا كَمَا كَانَ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : يَنْبَغِي إذَا عَرَفَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَطْوِيلِ الْمُدَّةِ انْتَزَعَهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ ، وَكَذَا إنْ لَمْ تَطُلْ الْمُدَّةُ ، وَعُلِمَ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْعِمَارَةِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي طَلَبِ الْإِمْهَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ ، وَهُوَ خِلَافُ قَضِيَّةِ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا وَاسْتَمْهَلَ ؛ أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً ا هـ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ السَّابِقِ .

وَلَوْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ مَوَاتًا صَارَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ .
( وَلَوْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ مَوَاتًا ) لَا لِتَمْلِيكِ رَقَبَتِهِ ( صَارَ ) بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ ( أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ ) مِنْ غَيْرِهِ ، يَعْنِي مُسْتَحِقًّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ( كَالْمُتَحَجِّرِ ) لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْإِقْطَاعِ ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : صَارَ كَالْمُتَحَجِّرِ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَشْمَلَ ، لِيَأْتِيَ فِيهِ سَائِرُ أَحْكَامِ التَّحَجُّرِ ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى هُنَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : مَا أَقْطَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْغَيْرُ بِإِحْيَائِهِ ، قِيَاسًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ مَا حَمَاهُ .
أَمَّا إذَا أَقْطَعَهُ لِتَمْلِيكِ رَقَبَتِهِ ؛ فَيَمْلِكُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ فِي بَابِ الرِّكَازِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْإِقْطَاعِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ } وَخَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ } .

تَنْبِيهٌ : هَلْ يَلْحَقُ الْمُنْدَرِسُ الضَّائِعَ بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ الْإِقْطَاعِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا فِي الْبَحْرِ : نَعَمْ ، بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُنَافِي مَا مَرَّ مِنْ جَعْلِهِ كَالْمَالِ الضَّائِعِ ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشَبَّهَ لَا يُعْطَى حُكْمَ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مُقَيِّدٌ لِذَاكَ .

وَأَمَّا إقْطَاعُ الْعَامِرِ فَعَلَى قِسْمَيْنِ : إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ ، وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ ، وَالْأَوَّلُ أَنْ يُقْطِعَ الْإِمَامُ مِلْكًا أَحْيَاهُ بِالْأُجَرَاءِ وَالْوُكَلَاءِ ، أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ وَكِيلُهُ فِي الذِّمَّةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُقْطَعُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، إنْ أُبِّدَ أَوْ أُقِّتَ بِعُمْرِ الْمُقْطَعِ ، وَهُوَ الْعُمْرَى ، وَيُسَمَّى مَعَاشًا ، وَالْأَمْلَاكُ الْمُتَخَلِّفَةُ عَنْ السَّلَاطِينِ الْمَاضِيَةِ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ ، بَلْ لِوَرَثَتِهِمْ إنْ تَبَيَّنُوا ، وَإِلَّا فَكَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُ أَرَاضِي الْفَيْءِ تَمْلِيكًا ، وَلَا إقْطَاعُ الْأَرَاضِي الَّتِي اصْطَفَاهَا الْأَئِمَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ : إمَّا بِحَقِّ الْخُمْسِ ، وَإِمَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ ، وَلَا إقْطَاعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ صُلْحًا .
وَفِي إقْطَاعِ أَرَاضِي مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَجْهَانِ : الظَّاهِرُ مِنْهُمَا الْمَنْعُ ، وَيَجُوزُ إقْطَاعُ الْكُلِّ مَعَاشًا .
الثَّانِي : أَنْ يُقْطِعَ غَلَّةَ أَرَاضِي الْخَرَاجِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا أَحْسِبُ فِي جَوَازِ الْإِقْطَاعِ لِلِاسْتِغْلَالِ خِلَافًا إذَا وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ قَدْرًا يَلِيقُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُجَازَفَةٍ ا هـ .
أَيْ فَيَمْلِكُهَا الْمُقْطَعُ لَهُ بِالْقَبْضِ ، وَيَخْتَصُّ بِهَا مَنْ قِبَلُهُ ، فَإِنْ أَقْطَعَهَا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَطَلَ ، وَكَذَا مِنْ أَهْلِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ شَيْئًا ، لَكِنْ بِشَرْطَيْنِ : أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ وَجَبَ بِسَبَبِ اسْتِبَاحَتِهِ كَالتَّأْذِينِ وَالْإِمَامَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ الْمَالُ وَوَجَبَ لِتَصِحَّ الْحَوَالَةُ بِهِ ، وَيَخْرُجُ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ .
وَإِنْ أَقْطَعَهَا مِنْ الْقُضَاةِ أَوْ كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ جَازَ سَنَةً وَاحِدَةً ، وَهَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ إنْ كَانَ جِزْيَةً ، وَالْجَوَازُ إنْ كَانَ

أُجْرَةً ، وَيَجُوزُ إقْطَاعُ الْجُنْدِيِّ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةٍ لِلِاسْتِغْلَالِ بِحَيْثُ تَكُونُ مَنَافِعُهَا لَهُ مَا لَمْ يَنْزِعْهَا الْإِمَامُ ، وَقَضِيَّةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي فَتَاوِيهِ : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهَا أَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : مَا يَحْصُلُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ الْفَلَّاحِ مِنْ مَغَلٍ وَغَيْرِهِ فَحَلَالٌ بِطَرِيقِهِ ، وَمَا يُعْتَادُ أَخْذُهُ مِنْ رُسُومٍ وَمَظَالِمَ فَحَرَامٌ ، وَالْمُقَاسَمَةُ مَعَ الْفَلَّاحِ ، حَيْثُ الْبَذْرُ مِنْهُ ، مَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَغَيْرُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْفَلَّاحِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ ، وَإِذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى أَخْذِ الْمُقَاسَمَةِ عِوَضًا مِنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، فَحَقَّ عَلَى الْجُنْدِيِّ الْمُتَوَرِّعِ أَنْ يُرْضِيَ الْفَلَّاحَ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إلَّا مَا يُقَابِلُ أُجْرَةَ الْأَرْضِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْجُنْدِيِّ فَجَمِيعُ الْمُغَلِّ لَهُ ، وَلِلْفَلَّاحِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا عَمِلَ ، فَإِنْ رَضِيَ الْفَلَّاحُ عَنْ أُجْرَتِهِ بِالْمُقَاسَمَةِ ؛ جَازَ .

وَلَا يُقْطِعُ إلَّا قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ ، وَقَدْرًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا التَّحَجُّرُ .
( وَلَا يُقْطِعُ ) الْإِمَامُ ( إلَّا ) شَخْصًا ( قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ ، وَ ) يَكُونُ مَا يُقْطِعُهُ لَهُ ( قَدْرًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ) لَوْ أَرَادَ إحْيَاءَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ .
تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ مَا يَعُمُّ الْحِسِّيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ ، فَلَا يُقْطِعُ الذِّمِّيَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَكَذَا التَّحَجُّرُ ) ، فَلَا يَتَحَجَّرُ الشَّخْصُ إلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ ، وَقَدْرًا يَقْدِرُ عَلَى إحْيَائِهِ ، فَإِنْ زَادَ ، فَالْأَقْوَى فِي الرَّوْضَةِ : أَنَّ لِغَيْرِهِ إحْيَاءَ الزَّائِدِ ، كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ وَضَالَّةٍ وَضَعِيفٍ عَنْ النُّجْعَةِ ، وَأَنَّ لَهُ نَقْضَ مَا حَمَاهُ لِلْحَاجَةِ .

تَنْبِيهٌ : وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى أَوْ الْمَوَاتِ ( وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلْإِمَامِ ) أَوْ نَائِبِهِ ( أَنْ يَحْمِيَ ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ : أَيْ يَمْنَعَ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ ( بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ ) وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا عَنْ النَّقْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الْجِزْيَةِ ، وَفِيمَا إذَا قَالَ قَوْمٌ : نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ( وَ ) لِرَعْيِ نَعَمِ ( صَدَقَةِ ) تَطَوُّعٍ ( وَ ) لِرَعْيِ نَعَمٍ ( ضَالَّةٍ ) وَتُسْتَعْمَلُ الضَّالَّةُ فِي غَيْرِ النَّعَمِ أَيْضًا ( وَ ) لِرَعْيِ نَعَمِ شَخْصٍ ( ضَعِيفٍ عَنْ النُّجْعَةِ ) بِضَمِّ النُّونِ ، وَهِيَ الْإِبْعَادُ فِي طَلَبِ الْمَرْعَى ، بِأَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِهَا ، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ بِحَيْثُ تَكْفِي بَقِيَّتُهُ النَّاسَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَمَى النَّقِيعَ بِالنُّونِ ، وَقِيلَ بِالْبَاءِ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِخَبَرِ { لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
تَنْبِيهٌ : أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ ، وَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا ؛ إذْ الْحِمَى الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ كَانَ لَهَا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا الظَّهْرَ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ ، وَكَانَ الْأَحْسَنُ لِلْمُصَنِّفِ تَقْدِيمَ ضَالَّةٍ أَوْ تَأْخِيرَهَا حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى أَوْ الْمَوَاتِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ الْمَاءَ الْعِدَّ : أَيْ الْعَذْبَ لِشُرْبِ خَيْلِ الْجِهَادِ ، وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ ، وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِمَا .

( وَ ) الْأَظْهَرُ ( أَنَّ لَهُ ) أَيْ الْإِمَامِ ( نَقْضَ ) أَيْ رَفْعَ ( مَا حَمَاهُ ) وَكَذَا مَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنْ ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي نَقْضِهِ ، وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ اخْتِصَاصَ النَّقْضِ بِالْحَامِي فَإِنَّهُ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ ، وَقَوْلُهُ ( لِلْحَاجَةِ ) إلَيْهِ : أَيْ عِنْدَهَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ بِأَنْ ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ بَعْدَ ظُهُورِهَا فِي الْحِمَى ، وَلِلْحَاجَةِ مُتَعَلَّقٌ بِنَقْضٍ لَا بِمَا حَمَاهُ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ .
الثَّانِي : الْمَنْعُ لِتَعَيُّنِهِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ كَمَا لَوْ عَيَّنَ بُقْعَةً لِمَسْجِدٍ أَوْ مَقْبَرَةٍ .
وَعَلَى الْأَوَّلِ : لَوْ أَحْيَاهُ مُحْيٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ مَلَكَهُ وَكَانَ الْإِذْنُ مِنْهُ نَقْضًا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَصَرُّفِ الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ .
أَمَّا مَا حَمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَقْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فَلَا يُنْقَضُ وَلَا يُغَيَّرُ بِحَالٍ وَلَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ ، فَمَنْ زَرَعَ فِيهِ أَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى ؛ قُلِعَ ، وَحَكَى صَاحِبُ الرَّوْنَقِ قَوْلًا وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا حَمَاهُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهَذَا غَرِيبٌ لَكِنَّهُ مَلِيحٌ فَإِنَّ فِعْلَهُمْ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ كُلِّ إمَامٍ بَعْدَهُمْ .

وَلَا يَحْمِي لِنَفْسِهِ
( وَلَا يَحْمِي ) الْإِمَامُ ( لِنَفْسِهِ ) قَطْعًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ السَّابِقُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ ، وَخَرَجَ بِالْإِمَامِ وَنَائِبِهِ غَيْرُهُمَا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُدْخِلَ مَوَاشِيَهُ مَا حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَقْوِيَاءِ ، وَيُنْدَبُ لَهُ وَلِنَائِبِهِ أَنْ يَنْصِبَ أَمِينًا يُدْخِلُ فِيهِ دَوَابَّ الضُّعَفَاءِ ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ إدْخَالَ دَوَابِّ الْأَقْوِيَاءِ ، فَإِنْ رَعَاهُ قَوِيٌّ مَنَعَ مِنْهُ وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا .
قَالَ فِي الرَّوْضَةِ : وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ : أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ النَّقِيعِ ضَمِنَهُ ، عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ مَا هُنَا فِي الرَّعْيِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُحْمِيَ لَهُ ، وَمَا هُنَاكَ فِي الْإِتْلَافِ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يُعَزَّرُ أَيْضًا .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَلَعَلَّهُ فِيمَنْ جَهِلَ التَّحْرِيمَ وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ فِي التَّعْزِيرِ .
ا هـ .
وَلَعَلَّهُمْ سَامَحُوا فِي ذَلِكَ كَمَا سَامَحُوا فِي الْغُرْمِ .

فَصْلٌ مَنْفَعَةُ الشَّارِعِ الْمُرُورُ ، وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ بِهِ لِاسْتِرَاحَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ ( مَنْفَعَةُ الشَّارِعِ ) الْأَصْلِيَّةُ ( الْمُرُورُ ) فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الصُّلْحِ ، وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ عَنْ الشَّارِعِ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ ، وَذُكِرَتْ هُنَا تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهَا ، وَخَرَجَ بِالْأَصْلِيَّةِ الْمَنْفَعَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ ( وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ بِهِ ) وَلَوْ فِي وَسَطِهِ ( لِاسْتِرَاحَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهِمَا ) كَانْتِظَارِ رَفِيقٍ وَسُؤَالٍ ، وَلَهُ الْوُقُوفُ فِيهِ أَيْضًا .
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ : وَلِلْإِمَامِ مُطَالَبَةُ الْوَاقِفِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ الِانْصِرَافِ ، هَذَا كُلُّهُ ( إذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ ) فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } ( وَلَا يُشْتَرَطُ ) لِلْجُلُوسِ فِي الشَّارِعِ ( إذْنُ الْإِمَامِ ) لِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
تَنْبِيهٌ : شَمَلَ إطْلَاقُهُ الذِّمِّيَّ وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الِارْتِفَاقِ لَهُ وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَتَبِعَهُ السُّبْكِيُّ : الثُّبُوتُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْإِمَامُ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِي الشَّارِعِ وَلَوْ لِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ عِوَضًا قَطْعًا قَالَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَقَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ وُكَلَاءِ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَبِيعُ مِنْ الشَّارِعِ مَا يَقُولُ : إنَّهُ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ ، وَلَا قَائِلَ بِهِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَفَاعِلُ ذَلِكَ لَا أَدْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى ؟ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الرِّحَابُ الْوَاسِعَةُ بَيْن الدُّورِ فِي الْمُدُنِ ، فَإِنَّهَا مِنْ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَحْرِ ، وَقَدْ نَقَلَ فِي الشَّامِلِ

الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ بُقْعَةً ارْتِفَاقًا لَا بِعِوَضٍ وَلَا تَمْلِيكًا فَيَصِيرُ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ ، وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ أَيْضًا بِغَيْرِ الشَّارِعِ ، كَالصَّحَارِيِ لِنُزُولِ الْمُسَافِرِينَ إنْ لَمْ يَضُرَّ النُّزُولُ بِالْمَارَّةِ .
وَأَمَّا الِارْتِفَاقُ بِأَفْنِيَةِ الْمَنَازِلِ فِي الْأَمْلَاكِ ، فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَصْحَابِهَا مُنِعُوا مِنْ الْجُلُوسِ فِيهَا إلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ ؛ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ وَيُجْلِسَ غَيْرَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَلَى الْجُلُوسِ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ ، وَحُكْمُ فِنَاءِ الْمَسْجِدِ كَفِنَاءِ الدَّارِ .

وَلَهُ تَظْلِيلُ مَقْعَدِهِ بِبَارِيَّةٍ وَغَيْرِهَا
( وَلَهُ ) أَيْ الْجَالِسُ فِي الشَّارِعِ ( تَظْلِيلُ مَقْعَدِهِ ) أَيْ مَوْضِعِ قُعُودِهِ فِي الشَّارِعِ ( بِبَارِيَّةٍ ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ كَمَا فِي الدَّقَائِقِ ، وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا : نَوْعٌ يُنْسَجُ مِنْ قَصَبٍ كَالْحَصِيرِ ( وَغَيْرِهَا ) مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ، كَثَوْبٍ وَعَبَاءَةٍ ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُثَبَّتًا بِبِنَاءٍ ؛ لَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدَّكَّةِ ، وَلَهُ وَضْعُ سَرِيرٍ فِي أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ لِصَاحِبِ الْكَافِي ، يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ ، وَيَخْتَصُّ الْجَالِسُ بِمَكَانِهِ وَمَكَانِ مَتَاعِهِ وَمُعَامِلِيهِ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِهِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَاقِفًا بِقُرْبِهِ إنْ مَنَعَ رُؤْيَةَ مَتَاعِهِ ، أَوْ وُصُولَ الْمُعَامِلِينَ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ قَعَدَ لِبَيْعِ مِثْلِ مَتَاعِهِ إذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ .

وَلَوْ سَبَقَ إلَيْهِ اثْنَانِ أُقْرِعَ ، وَقِيلَ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ .
( وَلَوْ سَبَقَ إلَيْهِ ) أَيْ مَكَانٍ مِنْ الشَّارِعِ ( اثْنَانِ ) وَتَنَازَعَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ( أُقْرِعَ ) بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ ( وَقِيلَ : يُقَدِّمُ الْإِمَامُ ) أَحَدَهُمَا ( بِرَأْيِهِ ) كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الدَّارِمِيُّ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ .
أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا ، فَالْمُسْلِمُ مُقَدَّمٌ مُطْلَقًا .

وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ ثُمَّ فَارَقَهُ تَارِكًا لِلْحِرْفَةِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى غَيْرِهِ بَطَلَ حَقُّهُ ، وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ لَمْ يَبْطُلْ إلَّا أَنْ تَطُولَ مُفَارَقَتُهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ .

( وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ ) أَوْ لِلْحِرْفَةِ كَالْخِيَاطَةِ ( ثُمَّ فَارَقَهُ ) أَيْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ ( تَارِكًا ) لِلْمُعَامَلَةِ أَوْ ( لِلْحِرْفَةِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى غَيْرِهِ ؛ بَطَلَ حَقُّهُ ) بِمُفَارَقَتِهِ ؛ لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُقْطَعُ وَغَيْرُهُ فِيمَا أَرَاهُ ( وَإِنْ فَارَقَهُ ) وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ ( لِيَعُودَ ) إلَيْهِ ( لَمْ يَبْطُلْ ) حَقُّهُ مِنْهُ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَإِذَا فَارَقَهُ بِاللَّيْلِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مُزَاحَمَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَكَذَا الْأَسْوَاقُ الَّتِي تُقَامُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً إذَا اتَّخَذَ فِيهَا مَقْعَدًا كَانَ أَحَقَّ بِهِ فِي النَّوْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ الْجُلُوسَ فِيهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ إلَى أَنْ يَعُودَ ؛ جَازَ إنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَامَلَةٍ وَكَذَا لِمُعَامَلَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، ( إلَّا أَنْ تَطُولَ مُفَارَقَتُهُ ) لَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ( بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ ) فِي مُعَامَلَتِهِمْ ( غَيْرَهُ ) فَيَبْطُلُ حَقُّهُ وَإِنْ تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يُعْرَفَ فَيُعَامَلَ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ أَوْ لَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ ، وَقِيلَ : لَا يَبْطُلُ فِيمَا إذَا جَلَسَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ وَأَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي نُكَتِهِ ، وَخَرَجَ بِجَلَسَ لِمُعَامَلَةٍ ، مَا لَوْ جَلَسَ لِاسْتِرَاحَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُفَارَقَتِهِ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ جَوَّالًا ، وَهُوَ مَنْ يَقْعُدُ كُلَّ يَوْمٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ السُّوقِ فَإِنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ بِمُفَارَقَتِهِ .
وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الشَّارِعِ لِلْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الطَّرِيقَ حَقَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَكَفِّ الْأَذَى وَرَدِّ السَّلَامِ

وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ فِي الْخَبَرِ .

وَمَنْ أَلِفَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ وَيُقْرِئُ كَالْجَالِسِ فِي شَارِعٍ لِمُعَامَلَةٍ ، وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِصَلَاةٍ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهِ فِي غَيْرِهَا ، فَلَوْ فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ لِيَعُودَ لَمْ يَبْطُلْ اخْتِصَاصُهُ ، فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ إزَارَهُ .

( وَمَنْ أَلِفَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ ) النَّاسَ ( وَيُقْرِئُ ) الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ الْفِقْهَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَنَحْوٍ وَصَرْفٍ وَلُغَةٍ فَحُكْمُهُ ( كَالْجَالِسِ فِي ) مَقْعَدٍ فِي ( شَارِعٍ لِمُعَامَلَةٍ ) فِي التَّفْصِيلِ السَّابِقِ .
تَنْبِيهٌ : فُهِمَ مِنْ إلْحَاقِ الْمُصَنِّفِ الْمَسْجِدَ بِالشَّارِعِ ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ؛ إذْ الْمَسَاجِدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ قَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِصِغَارِ الْمَسَاجِدِ .
قَالَ : وَأَمَّا كِبَارُهَا وَالْجَوَامِعُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ إنْ كَانَتْ عَادَةُ الْبَلَدِ الِاسْتِئْذَانَ فِيهِ ، وَقَدْ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ يُفْتِي وَيُقْرِئُ جُلُوسُ الطَّالِبِ ، لَكِنْ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ أَنَّ مَجْلِسَ الْفَقِيهِ حَالَ تَدْرِيسِ الْمُدَرِّسِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ ، الظَّاهِرُ فِيهِ دَوَامُ الِاخْتِصَاصِ ا هـ .
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْجُلُوسِ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَمَّا إذَا كَانَ لَا يُفِيدُ وَلَا يَسْتَفِيدُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ( وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ ) أَيْ الْمَسْجِدِ ( لِصَلَاةٍ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهِ فِي ) صَلَاةٍ ( غَيْرِهَا ) ؛ لِأَنَّ لُزُومَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ ، وَبِقَاعُ الْمَسْجِدِ لَا تَخْتَلِفُ بِخِلَافِ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ الصَّلَاةِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْحَصِرُ فِي بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى تَحْصِيلِهِ بِالسَّبْقِ الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْأَحَقِّيَّةَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ اسْتَمَرَّ إلَى وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى فَحَقُّهُ بَاقٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَشَمِلَ مَا لَوْ كَانَ الْجَالِسُ صَبِيًّا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، وَيَلْحَقُ بِالصَّلَاةِ

الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِسَمَاعِ وَعْظٍ أَوْ حَدِيثٍ : أَيْ أَوْ قِرَاءَةٍ فِي لَوْحٍ مَثَلًا ، وَكَذَا مَنْ يُطَالِعُ مُنْفَرِدًا بِخِلَافِ مَنْ يُطَالِعُ لِغَيْرِهِ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ( فَلَوْ فَارَقَهُ ) قَبْلَ الصَّلَاةِ ( لِحَاجَةٍ ) كَإِجَابَةِ دَاعٍ وَرُعَافٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ ( لِيَعُودَ ) بَعْد فَرَاغِ حَاجَتِهِ ( لَمْ يَبْطُلْ اخْتِصَاصُهُ ) بِهِ ( فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصَحِّ ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ( وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ ) فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ( إزَارَهُ ) أَوْ نَحْوَهُ كَسَجَّادَةٍ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمَارِّ .
وَالثَّانِي : يَبْطُلُ كَغَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ تَقُمْ الصَّلَاةُ فِي غَيْبَتِهِ .
أَمَّا لَوْ أُقِيمَتْ وَاتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ فَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ سَدُّ الصَّفِّ مَكَانَهُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَانَ دَخَلَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَخَرَجَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِيَعُودَ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ لَمْ أَرَ فِيهِ تَصْرِيحًا ا هـ .
وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ : يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ حَقِّ السَّبْقِ مَا لَوْ قَعَدَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِخْلَافِ ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ فَيُؤَخَّرُ وَيُقَدَّمُ الْأَحَقُّ مَوْضِعَهُ لِخَبَرِ { لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } مَمْنُوعٌ إذْ الصَّبِيُّ إذَا سَبَقَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا يُؤَخَّرُ .
مَسْأَلَةٌ : وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ : لَوْ بَسَطَ شَخْصٌ شَيْئًا فِي مَسْجِدٍ مَثَلًا وَمَضَى أَوْ بُسِطَ لَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ تَنْحِيَتُهُ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ ، خِلَافًا لِلْمَرْوَزِيِّ ، وَلَوْ نَوَى اعْتِكَافَ أَيَّامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ لِمَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ فِي الِاعْتِكَافِ ، وَعَادَ كَانَ أَحَقَّ بِمَوْضِعِهِ ، وَخُرُوجُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ نَاسِيًا ، كَذَلِكَ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا ، وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافًا مُطْلَقًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَوْضِعِهِ مَا

لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ ، وَيُنْدَبُ مَنْعُ مَنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِمُبَايَعَةٍ وَحِرْفَةٍ ؛ إذْ حُرْمَتُهُ تَأْبَى اتِّخَاذَهُ حَانُوتًا ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ فِيهِ مَكْرُوهٌ ، وَلَا يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِحَرِيمِ الْمَسْجِدِ إذَا أَضَرَّ بِأَهْلِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ حِينَئِذٍ وَإِلَّا جَازَ ، وَيُنْدَبُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ اسْتِطْرَاقِ حِلَقِ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا تَوْقِيرًا لَهُمْ .

وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ أَوْ فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ ، أَوْ صُوفِيٌّ إلَى خَانْقَاهْ لَمْ يُزْعَجْ ، وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ .

( وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ ) فِي طَرِيقٍ أَوْ طَرَفِ بَلَدٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ مِثْلُهُ ( أَوْ ) سَبَقَ ( فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ أَوْ صُوفِيٌّ ) وَهُوَ وَاحِدُ الصُّوفِيَّةِ ( إلَى خَانْقَاهْ ) وَهِيَ مَكَانُ الصُّوفِيَّةِ ( لَمْ يُزْعَجْ ) مِنْهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا ( وَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُ ) مِنْهُ ( بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ ) كَشِرَاءِ طَعَامٍ ( وَنَحْوِهِ ) كَصَلَاةٍ وَحَمَّامٍ سَوَاءٌ أَخْلَفَ فِيهِ غَيْرَهُ أَمْ مَتَاعَهُ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا ، إلَّا إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يَسْكُنَ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ : لَوْ سَبَقَ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الدُّخُولِ إلَى إذْنِ النَّاظِرِ وَلَيْسَ مُرَادًا لِلْعُرْفِ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ وَإِنْ حَمَلَهُ ابْنُ الْعِمَادِ عَلَى مَا إذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُسْكِنَ مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعَ مَنْ شَاءَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِافْتِيَاتِ عَلَى النَّاظِرِ ، وَإِنْ سَكَنَ بَيْتًا وَغَابَ وَلَمْ تَطُلْ غَيْبَتُهُ عُرْفًا ثُمَّ عَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ ، وَإِنْ سَكَنَهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ أَلِفَهُ مَعَ سَبْقِهِ إلَيْهِ ، وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ سُكْنَاهُ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ ، عَلَى أَنْ يُفَارِقَهُ إذَا حَضَرَ ، فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ بَطَلَ حَقُّهُ ، وَلَوْ طَالَ مَقَامُ الْمُرْتَفِقِ فِي شَارِعٍ وَنَحْوِهِ - كَمَسْجِدٍ - لَمْ يُزْعَجْ إلَّا فِي الرُّبُطِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ فَلَا يُزَادُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا إلَّا لِخَوْفٍ أَوْ مَطَرٍ ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ مُدَّةً لَمْ يُزَدْ عَلَيْهَا ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْمَلُ بِالْعُرْفِ فَيُقِيمُ الطَّالِبُ فِي الْمَدْرَسَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَقْضِيَ غَرَضَهُ أَوْ يَتْرُكَ التَّعَلُّمَ وَالتَّحْصِيلَ فَيُزْعَجَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ فِي مَدْرَسَةٍ أَشْخَاصٌ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَحُضُورِ الدَّرْسِ

وَقُدِّرَ لَهُمْ مِنْ الْجَامِكِيَّةِ مَا يَسْتَوْعِبُ قَدْرَ ارْتِفَاعِ وَقْفِهَا ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَ زِيَادَةً عَلَيْهِمْ بِمَا يُنْقِصُ مَا قُرِّرَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْلُومِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ ، وَفِي فَوَائِدِ الْمُهَذَّبِ لِلْفَارِقِيِّ فِي آخَرِ زَكَاةِ الْفِطْرِ : يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ الْإِقَامَةُ فِي الرُّبُطِ وَتَنَاوُلِ مَعْلُومِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَوِّفِ الْقُعُودُ فِي الْمَدَارِسِ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ بِهِ اسْمُ الْمُتَصَوِّفِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْفَقِيهِ ، وَمَا يُطْلَقُ بِهِ اسْمُ الْفَقِيهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الصُّوفِيِّ ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُخُولُ الْمَدَارِسِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ ، لَا السُّكْنَى إلَّا الْفَقِيهَ أَوْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ .

فَرْعٌ : النَّازِلُونَ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَادِيَةِ فِي غَيْرِ مَرْعَى الْبَلَدِ لَا يُمْنَعُونَ وَلَمْ يَزْحَمُوا بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْمَرْعَى وَالْمَرَافِقِ إنْ ضَاقَتْ ، فَإِنْ اسْتَأْذَنُوا الْإِمَامَ فِي اسْتِيطَانِ الْبَادِيَةِ وَلَمْ يَضُرَّ نُزُولُهُمْ بِابْنِ السَّبِيلِ رَاعَى الْأَصْلَحَ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا نَزَلُوهَا بِغَيْرِ إذْنٍ وَهُمْ غَيْرُ مُضِرِّينَ بِالسَّابِلَةِ ؛ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا إنْ ظَهَرَ فِي مَنْعِهِمْ مَصْلَحَةٌ فَلَهُ ذَلِكَ .

فَصْلٌ : الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ مَا خَرَجَ بِلَا عِلَاجٍ كَنِفْطٍ وَكِبْرِيتٍ وَقَارٍ وَمُومْيَاءَ وَبِرَامٍ وَأَحْجَارِ رَحًى لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلَا إقْطَاعٍ

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْأَرْضِ ( الْمَعْدِنُ ) وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ زَكَاتِهِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ ، فَالْمَعْدِنُ ( الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا خَرَجَ ) أَيْ بَرَزَ جَوْهَرُهُ ( بِلَا عِلَاجٍ ) أَيْ عَمَلٍ وَإِنَّمَا الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ ، وَقَدْ يَسْهُلُ وَقَدْ لَا يَسْهُلُ ( كَنِفْطٍ ) وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا وَإِسْكَانِ الْفَاءِ فِيهِمَا : مَا يُرْمَى بِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهُوَ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ ، وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ اسْمٌ لِدُهْنٍ ( وَكِبْرِيتٍ ) وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ : عَيْنٌ تَجْرِي مَاءً فَإِذَا جَمَدَ مَاؤُهَا صَارَ كِبْرِيتًا أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَكْدَرَ ، وَيُقَالُ : إنَّ الْأَحْمَرَ الْجَوْهَرُ ، وَلِهَذَا ضَرَبُوا بِهِ الْمَثَلَ فِي الْعِزَّةِ فَقَالُوا : أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ، يُقَالُ : إنَّ مَعْدِنَهُ خَلْفَ بِلَادِ وَادِي النَّمْلِ الَّذِي مَرَّ بِهِ سُلَيْمَانُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ، يُضِيءُ فِي مَعْدِنِهِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ زَالَ ضَوْءُهُ ( وَقَارٍ ) وَهُوَ الزِّفْتُ ، وَيُقَالُ : فِيهِ قِيرٌ ( وَمُومْيَاءَ ) وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَبِالْمَدِّ ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ : شَيْءٌ يُلْقِيهِ الْمَاءُ فِي بَعْضِ السَّوَاحِلِ فَيَجْمُدُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَالْقَارِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ أَحْجَارٌ سُودٌ بِالْيَمَنِ خَفِيفَةٌ فِيهَا تَجْوِيفٌ .
وَأَمَّا الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ عِظَامِ الْمَوْتَى ، فَهِيَ نَجِسَةٌ ( وَبِرَامٍ ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ : جَمْعُ بُرْمَةٍ بِضَمِّهَا : حَجَرٌ يُعْمَلُ مِنْهُ الْقِدْرُ ( وَأَحْجَارِ رَحًى ) وَأَحْجَارِ نُورَةٍ وَمَدَرٍ وَجِصٍّ وَمِلْحٍ مَائِيٍّ ، وَكَذَا جَبَلِيٍّ إنْ لَمْ يُحْوِجْ إلَى حَفْرٍ وَتَعَبٍ ( لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ) هَذَا خَبَرُ قَوْلِهِ الْمَعْدِنُ ، وَقَوْلُهُ ( وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلَا إقْطَاعٍ ) مِنْ سُلْطَانٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ كَالْمَاءِ

وَالْكَلَإِ " ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ رَجُلًا مِلْحَ مَأْرِبَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ : أَيْ الْعَذْبِ قَالَ : فَلَا إذْنَ } رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِقْطَاعِ بَيْنَ إقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَإِقْطَاعِ الْإِرْفَاقِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ الْمَنْعَ بِالْأَوَّلِ .

وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ أَرْضًا لِيَأْخُذَ حَطَبَهَا أَوْ حَشِيشَهَا أَوْ صَيْدَهَا ، وَلَا بِرْكَةً لِيَأْخُذَ سَمَكَهَا ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحَجُّرٌ كَمَا لَا يَدْخُلُ إقْطَاعٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُخْرَجِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَعَلَى الْبُقْعَةِ ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَسَاهُلَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ كَمَا قِيلَ .

وَأَمَّا الْبِقَاعُ الَّتِي تُحْفَرُ بِقُرْبِ السَّاحِلِ وَيُسَاقُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَيَنْعَقِدُ فِيهَا مِلْحًا فَيَجُوزُ إحْيَاؤُهَا وَإِقْطَاعُهَا .

فَإِنْ ضَاقَ نَيْلُهُ قُدِّمَ السَّابِقُ إلَيْهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ فَإِنْ طَلَبَ زِيَادَةً فَالْأَصَحُّ إزْعَاجُهُ ، فَلَوْ جَاءَا مَعًا أُقْرِعَ فِي الْأَصَحِّ .
( فَإِنْ ضَاقَ نَيْلُهُ ) أَيْ الْحَاصِلُ مِنْهُ عَنْ اثْنَيْنِ مَثَلًا جَاءَ إلَيْهِ ( قُدِّمَ السَّابِقُ ) إلَيْهِ ( بِقَدْرِ حَاجَتِهِ ) مِنْهُ لِسَبْقِهِ وَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ ، وَقِيلَ : إنْ أَخَذَ لِغَرَضِ دَفْعِ فَقْرٍ أَوْ مَسْكَنَةٍ مُكِّنَ مِنْ أَخْذِ كِفَايَةِ سَنَةٍ أَوْ الْعُمْرِ الْغَالِبِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ ( فَإِنْ طَلَبَ زِيَادَةً ) عَلَى حَاجَتِهِ ( فَالْأَصَحُّ إزْعَاجُهُ ) إنْ زُوحِمَ عَنْ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ عُكُوفَهُ عَلَيْهِ كَالتَّحَجُّرِ .
وَالثَّانِي : يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ لِسَبْقِهِ ( فَلَوْ جَاءَا ) إلَيْهِ ( مَعًا ) وَلَمْ يَكْفِ الْحَاصِلُ مِنْهُ لِحَاجَتِهِمَا وَتَنَازَعَا فِي الِابْتِدَاءِ ( أُقْرِعَ ) بَيْنَهُمَا ( فِي الْأَصَحِّ ) لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ وَالثَّانِي : يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ .
وَالثَّالِثُ : يُنَصِّبُ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَاصِلَ بَيْنَهُمَا .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا لِلتِّجَارَةِ وَالْآخَرُ لِلْحَاجَةِ أَمْ لَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا قُدِّمَ الْمُسْلِمُ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ .

، وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ وَهُوَ مَا لَا يَخْرُجُ إلَّا بِعِلَاجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ لَا يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ فِي الْأَظْهَرِ
( وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ ، وَهُوَ مَا لَا يَخْرُجُ ) أَيْ يَظْهَرُ جَوْهَرُهُ ( إلَّا بِعِلَاجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ ) وَرَصَاصٍ ( وَنُحَاسٍ ) وَفَيْرُوزَجَ وَيَاقُوتٍ وَعَقِيقٍ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ الْمَبْثُوثَةِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ ( لَا يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ ) فِي مَوَاتٍ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ .
وَالثَّانِي : يُمْلَكُ بِذَلِكَ إذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ كَالْمَوَاتِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْعِمَارَةِ ، وَحَفْرُ الْمَعْدِنِ تَخْرِيبٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا مُلِكَ يَسْتَغْنِي الْمُحْيِي عَنْ الْعَمَلِ ، وَالنَّيْلُ مَبْثُوثٌ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ يُحْوِجُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى حَفْرٍ وَعَمَلٍ .
نَعَمْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا طَالَ مَقَامُهُ ، فَفِي إزْعَاجِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَوْ ازْدَحَمَ عَلَيْهِ اثْنَانِ وَضَاقَ عَنْهُمَا فَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْأَوْجُهِ فِي الْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ ، وَلِقِطْعَةِ ذَهَبٍ أَبْرَزَهَا السَّيْلُ أَوْ أَتَى بِهَا حُكْمُ الْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ .
تَنْبِيهٌ : سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ عَنْ الْإِقْطَاعِ هُنَا يُفْهِمُ جَوَازَهُ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَرْيَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ : يُقَالُ لَهَا : الْفُرْعُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهَذَا الْإِقْطَاعُ إقْطَاعُ إرْفَاقٍ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ ، وَقِيلَ تَمْلِيكٌ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ .

وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ مَلَكَهُ

( وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ ) كَذَهَبٍ ( مَلَكَهُ ) جَزْمًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَمِنْ أَجْزَائِهَا الْمَعْدِنُ بِخِلَافِ الرِّكَازِ فَإِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا وَمَعَ مِلْكِهِ لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَعْدِنِ النَّيْلُ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، فَلَوْ قَالَ مَالِكُهُ لِشَخْصٍ : مَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ فَهُوَ لِي فَفَعَلَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ أَوْ قَالَ : فَهُوَ بَيْنَنَا فَلَهُ أُجْرَةُ النِّصْفِ أَوْ قَالَ لَهُ : كُلُّهُ لَك فَلَهُ أُجْرَتُهُ ، وَالْحَاصِلُ مِمَّا اسْتَخْرَجَهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِلْمَالِكِ لِأَنَّهُ هِبَةُ مَجْهُولٍ ، وَخَرَجَ بِظَهْرِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ بِالْبُقْعَةِ الْمُحْيَاةِ مَعْدِنًا فَاِتَّخَذَ عَلَيْهِ دَارًا ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُحَرَّرِ ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ عَدَمُ مِلْكِهِ لِفَسَادِ الْقَصْدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الرَّوْضِ الْمُعْتَمَدَةِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَرَجَّحَهُ فِي الْكِفَايَةِ وَخَرَجَ بِالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ إنْ عَلِمَهُ لِظُهُورِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَاجٍ .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَاوِي نَقَلَهُ عَنْهُ الشَّارِحُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَعْدِنَيْنِ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ ، وَإِنْ أَفْهَمَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَمْلِكُ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا بُقْعَةُ الْمَعْدِنَيْنِ فَلَا يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمَا لِفَسَادِ قَصْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يُتَّخَذُ دَارًا وَلَا مَزْرَعَةً وَلَا بُسْتَانًا وَنَحْوَهَا .
تَنْبِيهٌ : إنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ الْمَعْدِنَ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ ، وَإِلَّا فَمَنْ مَلَكَ أَرْضًا بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ طَبَقَاتِهَا حَتَّى الْأَرْضَ السَّابِعَةَ .

وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا .
( وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ ) كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ ( وَالْعُيُونِ ) الْكَائِنَةِ ( فِي الْجِبَالِ ) وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَوَاتِ وَسُيُولِ الْأَمْطَارِ ( يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا ) لِخَبَرِ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَحَجُّرُهَا وَلَا لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا .

وَلَوْ حَضَرَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا أَخَذَ كُلٌّ مَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَاقَ وَقَدْ جَاءَا مَعًا قُدِّمَ الْعَطْشَانُ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْعَطَشِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ لِلْقَارِعِ أَنْ يُقَدِّمَ دَوَابَّهُ عَلَى الْآدَمِيِّينَ ، بَلْ إذَا اسْتَوَوْا اُسْتُؤْنِفَتْ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الدَّوَابِّ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَإِنْ جَاءَا مُتَرَتِّبَيْنِ قُدِّمَ السَّابِقُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيًا لِدَوَابِّهِ ، وَالْمَسْبُوقُ عَطْشَانُ فَيُقَدَّمُ الْمَسْبُوقُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُبَاحِ مَا لَا مَالِكَ لَهُ ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ وَسَيَذْكُرُهُ .

فَرْعٌ : أَرْضٌ وُجِدَ فِي يَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى تِلْكَ الْأَرْضُ إلَّا مِنْهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْحَفَرَ فَرْعٌ : كُلُّ أَرْضٍ وُجِدَ فِي يَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى تِلْكَ الْأَرْضُ إلَّا مِنْهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْحَفَرَ حُكِمَ لَهُمْ بِمِلْكِهِ : لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ يَدٍ وَانْتِفَاعٍ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مَنْبَعُهُ مِنْ أَرَاضِيهِمْ الْمَمْلُوكَةِ لَهُمْ .
أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْبَعُهُ بِمَوَاتٍ أَوْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَهْر عَامٍّ - كَدِجْلَةَ - فَلَا ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَوْ كَانَ فِي الْمَاءِ الْمُبَاحِ قَاطِنُونَ فَأَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ حَافَاتُ الْمِيَاهِ الَّتِي يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ الِارْتِفَاقُ بِهَا فَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْهَا بِإِحْيَاءٍ وَلَا ابْتِيَاعٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْأَبْنِيَةِ عَلَى حَافَاتِ النِّيلِ كَمَا عَمَّتْ بِالْقَرَافَةِ مَعَ أَنَّهَا مُسَبَّلَةٌ ا هـ .
وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ .

، فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَضِيهِمْ مِنْهَا فَضَاقَ سُقِيَ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى وَحَبَسَ كُلُّ وَاحِدٍ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ أُفْرِدَ كُلُّ طَرَفٍ بِسَقْيٍ

( فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَضِيهِمْ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ بِلَا أَلِفٍ عَدَّهَا ( مِنْهَا ) أَيْ الْمِيَاهِ الْمُبَاحَةِ ( فَضَاقَ ) الْمَاءُ عَنْهُمْ وَبَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ ( سُقِيَ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ) وَلَوْ كَانَ زَرَعَ الْأَسْفَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إلَيْهِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إرْسَالُهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ ( وَحَبَسَ كُلُّ وَاحِدٍ ) مِنْهُمْ ( الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ) " لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ ، وَبِهِ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّهُ قَوِيٌّ جِدًّا ، وَالْحَدِيثُ وَاقِعَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا لِمَا اقْتَضَاهُ حَالُهَا ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْحَدِيثِ وَخَوْفِي سُرْعَةَ تَأْوِيلِهِ وَحَمْلِهِ لَكُنْتُ أَخْتَارُهُ ، لَكِنْ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرِي ، وَيَقْذِفَ اللَّهُ فِيهِ نُورَ الْمُرَادِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَالْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْمُحْيِي قَبْلَ الثَّانِي وَهَكَذَا لَا الْأَقْرَبُ إلَى النَّهْرِ ، وَعَبَّرُوا بِذَلِكَ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ مَنْ أَحْيَا بُقْعَةً يَحْرِصُ عَلَى قُرْبِهَا مِنْ الْمَاءِ مَا أَمْكَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ سُهُولَةِ السَّقْيِ وَخِفَّةِ الْمُؤْنَةِ وَقُرْبِ عُرُوقِ الْغِرَاسِ مِنْ الْمَاءِ ، وَمِنْ هُنَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إلَى النَّهْرِ إنْ أَحْيَوْا دُفْعَةً أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمْ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا يَبْعُدُ الْإِقْرَاعُ ، وَخَرَجَ بِضَاقَ مَا إذَا اتَّسَعَ : بِأَنْ كَانَ يَكْفِي جَمِيعَهُمْ فَيُرْسِلُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْمَاءَ فِي سَاقِيَتِهِ إلَى أَرْضِهِ ( فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ ) الْوَاحِدَةِ ( ارْتِفَاعٌ ) لِطَرَفٍ مِنْهَا ( وَانْخِفَاضٌ ) لِآخَرَ مِنْهَا ( أُفْرِدَ كُلُّ طَرَفٍ بِسَقْيٍ ) لِأَنَّهُمَا

لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَطَرِيقُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفَضَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفَعَ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ : أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْبُدَاءَةُ بِالْأَسْفَلِ ، بَلْ لَوْ عُكِسَ جَازَ ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْمُسْتَغَلَّةِ عَلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَصَرَّحَ فِي الِاسْتِقْصَاءِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَوْ احْتَاجَ الْأَعْلَى إلَى السَّقْيِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ وُصُولِهِ لِلْأَسْفَلِ قُدِّمَ .

وَلَوْ تَنَازَعَا مُتَحَاذِيَانِ بِأَنْ تَحَاذَتْ أَرْضُهُمَا أَوْ أَرَادَا شَقَّ النَّهْرِ مِنْ مَوْضِعَيْنِ مُتَحَاذِيَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْقُرْعَةُ ؛ إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إذَا أَحْيَيَا دُفْعَةً أَوْ جُهِلَ أَسْبَقُهُمَا ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَعْلَى فِيمَا إذَا أَحْيَوْا مَعًا أَوْ جُهِلَ الْأَسْبَقُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قُدِّمَ هُنَاكَ لِقُرْبِهِ مِنْ النَّهْرِ ، وَلَا مَزِيَّةَ هُنَا مَعَ أَنَّهُ قِيلَ بِالْإِقْرَاعِ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ إحْيَاءَ أَرْضٍ مَوَاتٍ وَسَقْيَهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، فَإِنْ ضَيَّقَ عَلَى السَّابِقِ مُنِعَ مِنْ الْإِحْيَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا أَرْضَهُمْ بِمَرَافِقِهَا وَالْمَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَرَافِقِهَا وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ الْمَنْعُ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُقْرِي تَنْبِيهٌ : عِمَارَةُ هَذِهِ الْأَنْهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلِكُلٍّ مِنْ النَّاسِ بِنَاءُ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهَا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَبِنَاءُ رَحًى عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ الْأَنْهَارُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعُمْرَانِ جَازَ مُطْلَقًا إنْ كَانَ الْعُمْرَانُ وَاسِعًا ، وَبِإِذْنِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ ضَيِّقًا ، وَيَجُوزُ بِنَاءُ الرَّحَى أَيْضًا إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُلَّاكِ وَإِلَّا فَلَا ، كَإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ فِي الشَّارِعِ فِيهِمَا .

وَمَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي إنَاءٍ مُلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ .
( وَمَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ ) الْمُبَاحِ ( فِي إنَاءٍ ) أَوْ حَوْضٍ مَسْدُودِ الْمَنَافِذِ أَوْ بِرْكَةٍ أَوْ حُفْرَةٍ فِي أَرْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ( مُلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ ) كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ : الدُّولَابُ الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي كِيزَانِهِ مَلَكَهُ صَاحِبُ الدُّولَابِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَاهُ بِنَفْسِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يَمْلِكُ الْمَاءَ بِحَالٍ ، بَلْ يَكُونُ بِحِرْزِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ رَدَّهُ إلَى مَحَلِّهِ لَمْ يَصِرْ شَرِيكًا بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَيَاعَ مَالٍ كَمَا لَوْ رَمَى فِي الْبَحْرِ فَلْسًا فَإِنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ ، ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ الْحُرْمَةِ .
وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا أَجَبْتُ فِيهَا بِشَيْءٍ ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي الْآنَ عَدَمُ الْحُرْمَةِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمَلَّكُ بِحَالٍ .
وَخَرَجَ بِالْإِنَاءِ وَنَحْوِهِ الدَّاخِلُ فِي مِلْكِهِ بِسَيْلٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامًا ، وَمَنْ حَفَرَ نَهْرًا لِيُدْخِلَ فِيهِ الْمَاءَ مِنْ الْوَادِي ، فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ ، لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ وَلِغَيْرِهِ الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِعْمَالُ مِنْهُ وَلَوْ بِدَلْوٍ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ .

وَحَافِرُ بِئْرٍ بِمَوَاتٍ لِلِارْتِفَاقِ أَوْلَى بِمَائِهَا حَتَّى يَرْتَحِلَ .
( وَحَافِرُ بِئْرٍ بِمَوَاتٍ ) لَا لِلتَّمَلُّكِ بَلْ ( لِلِارْتِفَاقِ ) بِهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ هُنَاكَ كَمَنْ يَنْزِلُ فِي الْمَوَاتِ وَيَحْفِرُ لِلشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ ( أَوْلَى بِمَائِهَا ) مِنْ غَيْرِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَسَقْيِ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ ( حَتَّى يَرْتَحِلَ ) لِحَدِيثِ { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } أَمَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ قَبْلَ ارْتِحَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا فَضَلَ عَنْهُ لِشُرْبٍ أَوْ مَاشِيَةٍ ، وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ بِهِ ، فَإِذَا ارْتَحَلَ صَارَ الْبِئْرُ كَالْمَحْفُورَةِ لِلْمَارَّةِ ، أَوَّلًا بِقَصْدِ شَيْءٍ ، فَإِنْ عَادَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : هَذَا إذَا ارْتَحَلَ مُعْرِضًا .
أَمَّا لَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ فَلَا إلَّا أَنْ تَطُولَ غَيْبَتُهُ ا هـ .
وَهُوَ حَسَنٌ ، وَإِعْرَاضُهُ عَنْهَا كَارْتِحَالِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرُّويَانِيِّ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ لِارْتِفَاقِ نَفْسِهِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ لِيُخْرِجَ مَا لَوْ حَفَرَهَا لِارْتِفَاقِ الْمَارَّةِ ، فَإِنَّ الْحَافِرَ كَأَحَدِهِمْ أَوْ حَفَرَهَا لَا بِقَصْدِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ ، بَلْ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ وَتَصِيرُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِوَقْفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَا وَلَوْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَرَادَ سَدَّهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمَاشِيَةِ بِظُهُورِ مَائِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إبْطَالُهُ .

وَالْمَحْفُورَةُ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ فِي مِلْكٍ يَمْلِكُ مَاءَهَا فِي الْأَصَحِّ ، وَسَوَاءٌ مَلَكَهُ أَمْ لَا لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ ، وَيَجِبُ لِمَاشِيَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ .

( وَ ) الْبِئْرُ ( الْمَحْفُورَةُ ) فِي الْمَوَاتِ لَا لِلْمَارَّةِ بَلْ ( لِلتَّمَلُّكِ أَوْ فِي مِلْكٍ يَمْلِكُ ) الْحَافِرُ ( مَاءَهَا فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يَمْلِكُهُ لِخَبَرِ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } السَّابِقِ ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي كُلِّ مَا يَنْبُعُ فِي مِلْكِهِ مِنْ نِفْطٍ وَقِيرٍ وَمِلْحٍ وَنَحْوِهَا ( وَسَوَاءٌ مَلَكَهُ ) عَلَى الصَّحِيحِ ( أَمْ لَا ) عَلَى مُقَابِلِهِ ( لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ ) وَشَجَرٍ ( وَيَجِبُ ) بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِغَيْرِهِ ( لِمَاشِيَةٍ ) وَلَوْ أَقَامَ غَيْرُهُ ثَمَّ .
وَقَوْلُهُ : ( عَلَى الصَّحِيحِ ) يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِلزَّرْعِ وَإِلَى الْوُجُوبِ لِلْمَاشِيَةِ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلَأَ } أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاشِيَةَ إنَّمَا تَرْعَى بِقُرْبِ الْمَاءِ فَإِذَا مَنَعَ مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْكَلَأِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاشِيَةِ هُنَا الْحَيَوَانَاتُ الْمُحْتَرَمَةُ ، وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْحَاجَةَ ، وَقَيَّدَهَا الْمَاوَرْدِيُّ بِالنَّاجِزَةِ .
قَالَ : فَلَوْ فَضَلَ عَنْهُ الْآنَ وَاحْتَاجَ إلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ وَجَبَ بَذْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ ، هَذَا إنْ كَانَ هُنَاكَ كَلَأٌ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولًا لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إنَاءٍ وَنَحْوِهِ ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ بَذْلُهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ ، وَقِيلَ : يَجِبُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ ، وَقِيلَ : لَا يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ ، وَلَا يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِ الْكَلَأِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ وَيُتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ ، وَزَمَنُ رَعْيِهِ يَطُولُ بِخِلَافِ الْمَاءِ ، وَحَيْثُ لَزِمَهُ بَذْلُ الْمَاءِ لِلْمَاشِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ

وُرُودِ الْبِئْرِ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ ، فَإِنْ ضَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَمْكِينُهَا وَجَازَ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ الْمَاءِ لَهَا ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْحَافِ ، وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَذْلُ إعَارَةُ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ .
وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لَا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ بِعِوَضٍ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي شُرْبِ الْآدَمِيِّ أَهْوَنُ مِنْهُ فِي شُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ .

تَنْبِيهٌ : الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ إقَامَةً لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .
ثُمَّ قَالَ : نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ .

وَالْقَنَاةُ الْمُشْتَرَكَةُ يُقْسَمُ مَاؤُهَا بِنَصْبِ خَشَبَةٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ ، وَلَهُمْ الْقِسْمَةُ مُهَايَأَةً

( وَالْقَنَاةُ ) أَوْ الْعَيْنُ ( الْمُشْتَرَكَةُ ) بَيْنَ جَمَاعَةٍ ( يُقْسَمُ مَاؤُهَا ) عِنْدَ ضِيقِهِ عَنْهُمْ ( بِنَصْبِ خَشَبَةٍ ) مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ ، وَقَوْلُهُ ( فِي عُرْضِ النَّهْرِ ) مُتَعَلِّقٌ بِنَصْبِ ( فِيهَا ثُقَبٌ ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ أَوَّلَهُ بِخَطِّهِ ، وَلَوْ قُرِئَتْ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ جَازَ ( مُتَسَاوِيَةٌ ) تِلْكَ الثُّقَبِ ( أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ ) مِنْ الْقَنَاةِ أَوْ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلِآخَرَ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ السُّدُسُ جَعَلَ فِيهَا سِتَّ ثُقَبٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ ، وَلِلثَّانِي اثْنَانِ ، وَلِلثَّالِثِ وَاحِدٌ ، وَيَجُوزُ تَسَاوِي الثُّقَبِ مَعَ تَفَاوُتِ الْحُقُوقِ ، كَأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُقْبَةً وَالْآخَرُ ثُقْبَتَيْنِ ، هَذَا إنْ عَلِمَ قَدْرَ الْحِصَصِ ، فَإِنْ جَهِلَ قَسَّمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ وَيَصْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ .
لَكِنْ لَا يَسُوقُهُ لِأَرْضٍ لَا شُرْبَ لَهَا مِنْ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا شُرْبًا لَمْ يَكُنْ .
أَمَّا إذَا اتَّسَعَ مَاءُ الْقَنَاةِ أَوْ الْعَيْنِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلٍّ قَدْرَ حَاجَتِهِ لَمْ يَحْتَجْ لِمَا ذُكِرَ ( وَلَهُمْ ) أَيْ : الشُّرَكَاءِ ( الْقِسْمَةُ مُهَايَأَةً ) وَهِيَ أَمْرٌ يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ كَأَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا أَوْ بَعْضُهُمْ يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ ، وَيَسْتَأْنِسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَكَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْل أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نَوْبَتَهُ ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنْ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا ، وَيُمْنَعُ أَحَدُهُمْ مِنْ تَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ وَمِنْ تَضْيِيقِهِ ، وَمِنْ تَقْدِيمِ رَأْسِ السَّاقِيَةِ الَّتِي

يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ وَمِنْ تَأْخِيرِهِ ، وَمِنْ إجْرَاءِ مَاءٍ يَمْلِكُهُ فِيهِ ، وَمِنْ بِنَاءِ قَنْطَرَةٍ وَرَحًى عَلَيْهِ ، وَمَنْ غَرَسَ شَجَرًا عَلَى حَافَتِهِ إلَّا بِرِضَا الْبَاقِينَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ وَعِمَارَتُهُ بِحَسَبِ الْمِلْكِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : مُهَايَأَةً مَنْصُوبٌ إمَّا عَلَى الْحَالِ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ الْقِسْمَةُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بِتَقْدِيرِ : وَيُقْسَمُ مُهَايَأَةً ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْقِسْمَةِ فَاعِلَةً بِالظَّرْفِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ عَمَلَ الْجَارِّ بِلَا اعْتِمَادٍ وَهُمْ الْكُوفِيُّونَ ، وَعَلَيْهِ فَنَصْبُ مُهَايَأَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ الْفَاعِلِ .

خَاتِمَةٌ : لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْقَنَاةِ مُنْفَرِدًا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ يَزِيدُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ فَيَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَخْذِهِ الْآنَ صَحَّ ، وَلَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ مَاءٍ رَاكِدٍ صَحَّ لِعَدَمِ زِيَادَتِهِ أَوْ مِنْ جَارٍ فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْعَقْدِ بِمِقْدَارٍ مَضْبُوطٍ لِعَدَمِ وُقُوفِهِ ، وَلَوْ بَاعَ مَاءَ الْقَنَاةِ مَعَ قَرَارِهِ وَالْمَاءُ جَارٍ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ لِلْجَهَالَةِ ، وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُ الرَّوْضَةِ الْبُطْلَانَ فِي الْمَاءِ فَقَطْ عَمَلًا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، فَإِنْ اشْتَرَى الْبِئْرَ وَمَاءَهَا الظَّاهِرَ أَوْ جُزْأَيْهِمَا شَائِعًا وَقَدْ عُرِفَ عُمْقُهَا فِيهَا صَحَّ وَمَا يَنْبُعُ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَالظَّاهِرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا أَوْ جُزْأَهَا الشَّائِعَ دُونَ الْمَاءِ أَوْ أُطْلِقَ ؛ لَا يَصِحُّ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءَانِ .

وَلَوْ سَقَى زَرْعَهُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ ضَمِنَ الْمَاءَ بِبَدَلِهِ وَالْغَلَّةُ لَهُ ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ لِلْبَذْرِ ، فَإِنْ غَرِمَ الْبَدَلَ وَتَحَلَّلَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ كَانَتْ الْغَلَّةُ أَطْيَبَ لَهُ مِمَّا لَوْ غَرِمَ الْبَدَلَ فَقَطْ ، وَلَوْ أَشْعَلَ نَارًا فِي حَطَبٍ مُبَاحٍ لَمْ يَمْنَعْ أَحَدًا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَلَا الِاسْتِصْبَاحَ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ الْحَطَبُ لَهُ ، فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهَا ، لَا الِاصْطِلَاءِ بِهَا وَلَا الِاسْتِصْبَاحِ مِنْهَا .
.

كِتَابُ الْوَقْفِ هُوَ وَالتَّحْبِيسُ وَالتَّسْبِيلُ بِمَعْنًى ، وَهُوَ لُغَةً الْحَبْسُ ، يُقَالُ : وَقَفْت كَذَا : أَيْ حَبَسْته ، وَلَا يُقَالُ : أَوْقَفْته إلَّا فِي لُغَةٍ تَمِيمِيَّةٍ وَهِيَ رَدِيئَةٌ وَعَلَيْهَا الْعَامَّةُ ، وَهُوَ عَكْسُ حَبَسَ فَإِنَّ الْفَصِيحَ أَحْبِسُ .
وَأَمَّا حَبَسَ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ ، وَشَرْعًا : حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرَفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ ، وَيُجْمَعُ عَلَى وُقُوفٍ وَأَوْقَافٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا رَغِبَ فِي وَقْفِ بَيْرُحَاءَ وَهِيَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِ الْقَبُولِ .
وَأَمَّا أَصْلُهُ فَيَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً ، بَلْ يَمْلِكُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَعْيَانَهَا وَمَنَافِعَهَا نَاجِزًا .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَإِنْ شَمِلَهَا الْحَدِيثُ فَهِيَ نَادِرَةٌ ، فَحَمْلُ الصَّدَقَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْلَى ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ عَلَى أَنْ لَا يُبَاعَ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبَ وَلَا يُوَرَّثَ } وَهُوَ أَوَّلُ وَقْفٍ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مَقْدِرَةٌ إلَّا وَقَفَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ : بَلَغَنِي أَنَّ ثَمَانِينَ صَحَابِيًّا مِنْ الْأَنْصَارِ تَصَدَّقُوا بِصَدَقَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ ، وَالشَّافِعِيُّ يُسَمِّي الْأَوْقَافَ الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ : وَاقِفٌ وَمَوْقُوفٌ وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَصِيغَةٌ .

كِتَابُ الْوَقْفِ شَرْطُ الْوَاقِفِ صِحَّةُ عِبَارَتِهِ وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ .
وَقَدْ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : ( شَرْطُ الْوَاقِفِ صِحَّةُ عِبَارَتِهِ ) دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْكَافِرُ ، فَيَصِحُّ مِنْهُ وَلَوْ لِمَسْجِدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ قُرْبَةً اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِنَا ، وَإِنْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ : لَا يَصِحُّ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِهِ ، وَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُمَا ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ ( وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ ) الْمُبَعَّضُ وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَيُعْتَبَرُ وَقْفُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَخَرَجَ الْمُكَاتَبُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ وَلَوْ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُغْنِي عَنْ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ الْعِبَارَةِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْوَقْفِ مَعْلُومًا لِلْوَاقِفِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ مَا لَمْ يَرَهُ ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ وَقَالَ : لَا خِيَارَ لَهُ إذَا رَآهُ ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ وَقْفُ الْأَعْمَى ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ فِيمَا عَلِمْت .
تَنْبِيهٌ : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ : وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّ السَّفِيهَ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّعِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ .
نَعَمْ لَوْ قَالَ : وَقَفْت دَارِي عَلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ .

وَالْمَوْقُوفِ دَوَامُ الِانْتِفَاعِ بِهِ .

ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي ، فَقَالَ : ( وَ ) شَرْطُ ( الْمَوْقُوفِ ) مَعَ كَوْنِهِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً مَمْلُوكَةً مِلْكًا يَقْبَلُ النَّقْلَ وَيَحْصُلُ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يَسْتَأْجِرُ لَهَا ( دَوَامُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ) انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا ، فَخَرَجَ بِالْعَيْنِ الْمَنْفَعَةُ وَالْوَقْفُ الْمُلْتَزَمُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَبِالْمُعَيَّنَةِ وَقْفُ أَحَدِ دَارَيْهِ ، وَبِالْمَمْلُوكَةِ مَا لَا يَمْلِكُ ، وَاسْتَثْنَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَقْفَ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ، وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ السُّبْكِيُّ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ جِهَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَفْتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ لِلسُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ مُتَمَسِّكًا بِوَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَوَادَ الْعِرَاقِ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ عَنْ عَشَرَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمَطْلَبِ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ صِحَّتَهُ عَنْ النَّصِّ ، وَفِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ : لَوْ رَأَى الْإِمَامُ وَقْفَ أَرْضِ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ؛ جَازَ إذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَبِقَبُولِ النَّقْلِ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْحَمْلُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ مُنْفَرِدًا وَإِنْ صَحَّ عِتْقُهُ .
نَعَمْ إنْ وَقَفَ حَامِلًا صَحَّ فِيهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَائِدَةِ اللَّبَنُ وَالثَّمَرَةُ وَنَحْوُهُمَا ، وَبِالْمَنْفَعَةِ السُّكْنَى وَاللُّبْسُ وَنَحْوُهُمَا وَبِيَسْتَأْجِرُ لَهَا وَبِدَوَامِ الِانْتِفَاعِ الطَّعَامُ وَنَحْوُهُ كَمَا سَيَأْتِي ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَقْفُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ، وَمِنْ دَوَامِ الِانْتِفَاعِ الْمُدَبَّرُ

وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُهُمَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُومُ النَّفْعُ بِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَوُجُودِ الصِّفَةِ وَيَبْطُلُ الْوَقْفُ .
وَبِمُبَاحًا وَقْفُ آلَاتِ الْمَلَاهِي فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ قَائِمَةٌ ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُبَاحَةٍ ، وَبِمَقْصُودًا وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ .
تَنْبِيهٌ : يَصِحُّ الْوَقْفُ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ انْتَفَى النَّفْعُ حَالًا كَوَقْفِ عَبْدٍ وَجَحْشٍ صَغِيرَيْنِ وَزَمِنٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ ، وَكَمَنْ آجَرَ أَرْضًا ثُمَّ وَقَفَهَا ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ إبْقَاءَ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ لِنَفْسِهِ مُدَّةً بَعْدَ وَقْفِهِ .

لَا مَطْعُومٌ وَرَيْحَانٌ .
( لَا مَطْعُومٌ وَرَيْحَانٌ ) بِرَفْعِهِمَا ، فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُمَا وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ ، وَعَلَّلَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَدَمُ صِحَّةِ وَقْفِ الرَّيْحَانِ بِسُرْعَةِ فَسَادِهِ ، وَقَضِيَّتُهُ تَخْصِيصُهُ بِالرَّيَاحِينِ الْمَحْصُودَةِ .
أَمَّا الْمَزْرُوعَةُ فَيَصِحُّ وَقْفُهَا لِلشَّمِّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُدَّةً ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّنَزُّهُ ، وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ : يَصِحُّ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الدَّائِمِ نَفْعُهُ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ ، وَيُطْلَقُ الرَّيْحَانُ عَلَى كُلِّ نَبْتٍ رَطْبٍ غَضٍّ طَيِّبِ الرِّيحِ ، فَيَدْخُلُ الْوَرْدُ لِرِيحِهِ .

وَيَصِحُّ وَقْفُ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ
( وَيَصِحُّ وَقْفُ عَقَارٍ ) مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَار بِالْإِجْمَاعِ ( وَ ) وَقْفُ ( مَنْقُولٍ ) كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَأَعْبُدَهُ رَوَاهُ الْمُتَوَلِّي بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ عَبْدٍ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : الصَّوَابُ أَعْتُدَهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ جَمْعُ عَتَادٍ ، وَهُوَ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَةٌ .
وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِي الْأَعْصَارِ عَلَى وَقْفِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ وَالزَّلَالِيِّ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .

وَمُشَاعٌ لَا عَبْدٌ وَثَوْبٌ فِي الذِّمَّةِ .

( وَ ) وَقْفُ ( مُشَاعٍ ) مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ مُشَاعًا ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَلَا يَسْرِي إلَى الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْعِتْقِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشَاعِ مَسْجِدًا وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ ، وَقَالَ : يَحْرُمُ الْمُكْثُ فِيهِ عَلَى الْجُنُبِ تَغْلِيبًا لِلْمَنْعِ وَتَجِبُ الْقِسْمَةُ لِتَعَيُّنِهَا طَرِيقًا .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ يَعْنِي مَنْ مَنَعَ قِسْمَةَ الْوَقْفِ مِنْ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْلٌ صَرِيحٌ بِخُصُوصِهِ ، وَأَفْتَى الْبَارِزِيُّ بِجَوَازِ الْمُكْثِ فِيهِ مَا لَمْ يُقْسِمْ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْتِعَةِ ، وَاعْتَرَضَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ حَمْلِ الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْتِعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا ا هـ .
وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ ، وَتُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ مَنْعِ قِسْمَةِ الْوَقْفِ مِنْ الْمُطْلَقِ لِلضَّرُورَةِ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَسْجِدًا هُوَ الْأَقَلُّ أَمْ لَا .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي عَدَمُ حُرْمَةِ الْمُكْثِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ مَسْجِدًا أَقَلَّ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ حَمْلُ التَّفْسِيرِ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَقَلَّ عَلَى الْمُحْدِثِ .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ هُنَا شَائِعَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلَمْ يُمْكِنْ تَبَعِيَّةُ الْأَقَلِّ لِلْأَكْثَرِ ؛ إذْ لَا تَبَعِيَّةَ إلَّا مَعَ التَّمْيِيزِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ التَّفْسِيرِ فَاعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ لِيَكُونَ الْبَاقِي تَابِعًا ، وَمَرَّ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ ( لَا عَبْدٍ وَثَوْبٍ ) مَثَلًا ( فِي الذِّمَّةِ ) سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ غَيْرِهِ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ بِسَلَمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ

وَقْفُهُمَا ؛ إذْ لَا مِلْكَ وَالْوَقْفُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ عَيْنٍ .
نَعَمْ يَصِحُّ وَقْفُهُمَا بِالْتِزَامِ نَذْرٍ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ وَقْفُ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ مَثَلًا ثُمَّ يُعَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَلَا وَقْفُ حُرِّ نَفْسِهِ .
( وَلَا ) يَصِحُّ ( وَقْفُ حُرِّ نَفْسِهِ ) ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ، كَمَا لَا يَهَبُ نَفْسَهُ ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ مُؤَقَّتَةً كَانَتْ - كَالْإِجَارَةِ - أَوْ مُؤَبَّدَةً - كَالْوَصِيَّةِ - لِأَنَّ الرَّقَبَةَ أَصْلٌ ، وَالْمَنْفَعَةَ فَرْعٌ ، وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ .

وَكَذَا مُسْتَوْلَدَةٌ وَكَلْبٌ مُعَلَّمٌ وَأَحَدُ عَبْدَيْهِ فِي الْأَصَحِّ .
( وَكَذَا مُسْتَوْلَدَةٌ وَكَلْبٌ مُعَلَّمٌ ) أَوْ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيمِ كَمَا بَحَثَهُ السُّبْكِيُّ ( وَأَحَدُ عَبْدَيْهِ ) لَا يَصِحُّ وَقْفُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ( فِي الْأَصَحِّ ) لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ آيِلَةٌ إلَى الْعِتْقِ وَلَيْسَتْ قَابِلَةً لِلنَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ ، وَبِهَذَا فَارَقَتْ صِحَّةُ وَقْفِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، وَالْكَلْبُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُبْهَمٌ .
وَالثَّانِي يَصِحُّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ إجَارَتِهَا ، وَفِي الْكَلْبِ كَذَلِكَ عَلَى رَأْيٍ ، وَفِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِهِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْعِتْقَ أُنْفِذَ بِدَلِيلِ سَرَايَتِهِ وَتَعْلِيقِهِ .
أَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْقَابِلُ لِلتَّعْلِيمِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا .

وَلَوْ وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا فَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ

تَنْبِيهٌ : وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا أَوْ مُسْتَعَارَةٍ كَذَلِكَ أَوْ مُوصًى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا ( وَلَوْ وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا ) أَوْ مُسْتَعَارَةٍ كَذَلِكَ ، أَوْ مُوصًى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا ( فَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ ) سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْفُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَمْ بَعْدَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ ، أَوْ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَمْلُوكٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَيَكْفِي دَوَامُهُ إلَى الْقَلْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْقَلْعِ فَكَأَنَّهُ وَقَفَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ بِحَقٍّ وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَنْهَجِهِ : وَبِنَاءٌ وَغِرَاسٌ وُضِعَا بِأَرْضٍ بِحَقٍّ ا هـ .
وَلَوْ قَلَعَ الْبِنَاءَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ بَقِيَ وَقْفًا كَمَا كَانَ إنْ نَفَعَ ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَهَلْ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ وَجْهَانِ : قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَالصَّحِيحُ غَيْرُهُمَا وَهُوَ شِرَاءُ عَقَارٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ عَقَارٍ ، وَيُقَاسُ بِالْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ الْغِرَاسِ .
وَقَالَ السُّبْكِيُّ : الْوَجْهَانِ بَعِيدَانِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : الْوَقْفُ بَاقٍ بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَاقِفِ لَجَازَ بَيْعُهُ وَبَيْعُ الْوَقْفِ مُمْتَنِعٌ ا هـ .
وَكَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ إنْ كَانَ الْغِرَاسُ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ إلَّا لِلْإِحْرَاقِ وَصَارَتْ آلَةُ الْبِنَاءِ لَا تَصْلُحُ لَهُ وَإِلَّا فَكَلَامُ السُّبْكِيّ وَأَرْشُ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِقَطْعِ الْمَوْقُوفِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَهُ فَيَشْتَرِي بِهِ شَيْئًا وَيُوقَفُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ .

فَرْعٌ : لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ صَرْفَ أُجْرَةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ هَلْ يَصِحُّ الْوَقْفُ أَوْ لَا ؟ قِيلَ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ .
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الظَّاهِرُ الصِّحَّةُ ، وَوَقْفُ الْبِنَاءِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ أُجْرَةِ الْقَرَارِ ، فَإِذَا شَرَطَ صَرْفَ الْأُجْرَةِ مِنْ رِيعِهِ فَقَدْ شَرَطَ مَا يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُنَافِيهِ شَرْعًا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ ا هـ .
وَمَا بَحَثَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَالَهُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ غَيْرُ الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ فِي إجَارَةٍ اسْتَأْجَرَهَا الْوَاقِفُ قَبْلَ الْوَقْفِ ، وَلَزِمَتْ الْأُجْرَةُ ذِمَّتَهُ : وَمَا قَالَاهُ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ إذَا بَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِهَا ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إنَّهُ إنْ شَرَطَ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْهُ مَا مَضَى مِنْ الْأُجْرَةِ فَالْبُطْلَانُ أَوْ الْمُسْتَقْبَلُ فَالصِّحَّةُ ، وَكَذَا إنْ أَطْلَقَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأُجْرَةُ لَازِمَةٌ لِذِمَّتِهِ عَلَى حَالٍ قَبْلَ الْوَقْفِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَقِرُّ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَمْضِي مِنْ الزَّمَانِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : لَهُمَا أَيْ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ .

فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ أَوْ جَمْعٍ اُشْتُرِطَ إمْكَانُ تَمْلِيكِهِ فَلَا يَصِحُّ عَلَى جَنِينٍ
ثُمَّ شَرَعَ فِي رُكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُعَيَّنٍ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : ( فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ ) مِنْ ( وَاحِدٍ ) أَوْ اثْنَيْنِ ( أَوْ جَمْعٍ اُشْتُرِطَ إمْكَانُ تَمْلِيكِهِ ) فِي حَالِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ ، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَهُوَ لَا وَلَدَ لَهُ ، وَلَا عَلَى فَقِيرِ أَوْلَادِهِ وَلَا فَقِيرَ فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ فَقِيرٌ وَغَنِيٌّ صَحَّ ، وَيُعْطِي مِنْهُ أَيْضًا مَنْ افْتَقَرَ بَعْدُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ ، وَبِكَوْنِهِ أَهْلًا لِتَمَلُّكِ الْمَوْقُوفِ ، ( فَلَا يَصِحُّ ) الْوَقْفُ ( عَلَى جَنِينٍ ) لِعَدَمِ صِحَّةِ تَمَلُّكِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصُودًا أَمْ تَابِعًا حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَلَهُ جَنِينٌ عِنْدَ الْوَقْفِ لَمْ يَدْخُلْ ، نَعَمْ إنْ انْفَصَلَ دَخَلَ مَعَهُمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ قَدْ سَمَّى الْمَوْجُودِينَ أَوَذَكَرَ عَدَدَهُمْ فَلَا يَدْخُلُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَبِهِ صَرَّحَ الْجُرْجَانِيِّ ، وَلَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ

وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ .

( وَلَا ) يَصِحُّ ( عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ) أَيْ نَفْسِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ أَمْ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ ( فَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ ) فَإِنْ كَانَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْوَاقِفِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ( فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ ) كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ ، حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ كَانَ مُكَاتَبَ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ نَظِيرُ مَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لَهُ ، أَوْ مُكَاتَبَ غَيْرِهِ صَحَّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ، فَإِنْ عَجَزَ بَانَ أَنَّ الْوَقْفَ مُنْقَطِعُ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ ، وَإِنْ عَتَقَ وَقَدْ قَيَّدَ الْوَقْفَ بِمُدَّةِ الْكِتَابَةِ بَانَ أَنَّهُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ فَيَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَنْتَقِلُ الْوَقْفُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ دَامَ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَفِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ مَا لَوْ عَبَّرَ بِمُكَاتَبِ فُلَانٍ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمُبَعَّضِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مُهَايَأَةً وَصَدَرَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَكَالْحُرِّ ، أَوْ يَوْمَ نَوْبَةِ سَيِّدِهِ فَكَالْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً وُزِّعَ عَلَى الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ ابْنِ خَيْرٍ أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَرَادَ مَالِكُ الْمُبَعَّضِ أَنْ يَقِفَ نِصْفَهُ الرَّقِيقَ عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ الصِّحَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِنِصْفِهِ الْحُرِّ ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ الْمَوْقُوفِينَ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا كَقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْوَقْفِ عَلَى عَلَفِ الدَّوَابِّ الْمُرْصَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الدَّارِ وَإِنْ قَالَ عَلَى عِمَارَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ

إلَّا إنْ قَالَ : وَقَفْت هَذَا عَلَى هَذِهِ الدَّارِ لِطَارِقِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً طَارِقُوهَا وَهُمْ يَمْلِكُونَ وَإِلَّا إنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً ؛ لِأَنَّ حِفْظَ عِمَارَتِهَا قُرْبَةٌ ، فَهُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ .

وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ لَغَا ، وَقِيلَ هُوَ وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا
( وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ ) مَمْلُوكَةٍ أَوْ قَيَّدَهُ بِعَلَفِهَا ( لَغَا ) الْوَقْفُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ بِحَالٍ ، كَمَا لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ لَهَا وَلَا الْوَصِيَّةُ ( وَقِيلَ : هُوَ ) فِي الْمَعْنَى ( وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا ) فَيَصِحُّ كَالْوَقْفِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِمَا مَرَّ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَهُ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ فِي قَوْلٍ ، فَإِنْ قَصَدَ مَالِكُهَا فَهُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِ ، وَخَرَجَ بِالْمَمْلُوكَةِ الْمَوْقُوفَةُ كَالْخَيْلِ الْمَوْقُوفَةِ فِي الثُّغُورِ وَنَحْوِهَا ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى عَلَفِهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمُبَاحَةُ كَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ ، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا جَزْمًا .
نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ حَمَامُ مَكَّةَ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ .

وَيَصِحُّ عَلَى ذِمِّيٍّ
( وَيَصِحُّ ) الْوَقْفُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ( عَلَى ذِمِّيٍّ ) مُعَيَّنٍ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ مَعْصِيَةٍ ، فَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى خَادِمِ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حُصْرِهَا كَمَا قَالَهُ فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ فَيَمْتَنِعُ وَقْفُ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَالْجَمَاعَةُ الْمُعَيَّنُونَ كَالْوَاحِدِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ الْيَهُودِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاهَدُ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ كَالذِّمِّيِّ إنْ حَلَّ بِدَارِنَا مَا دَامَ فِيهَا ، فَإِذَا رَجَعَ صُرِفَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ .
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ كَالْحَرْبِيِّ ، وَجَزَمَ بِهِ الدَّمِيرِيُّ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا لَوْ لَحِقَ الذِّمِّيُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مَاذَا يَفْعَلُ بِغَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ .

لَا مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَنَفْسِهِ فِي الْأَصَحِّ .
وَ ( لَا ) يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى ( مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَ ) لَا وَقْفُ الشَّخْصِ عَلَى ( نَفْسِهِ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ فِي الثَّلَاثَةِ .
أَمَّا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ : فَلِأَنَّهُمَا لَا دَوَامَ لَهُمَا مَعَ كُفْرِهِمَا ، وَالْوَقْفُ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، فَكَمَا لَا يُوقَفُ مَا لَا دَوَامَ لَهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَنْ لَا دَوَامَ لَهُ : أَيْ مَعَ كُفْرِهِ فَلَا يَرِدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ عَلَيْهِمَا كَالذِّمِّيِّ ، وَنَصَّ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ : وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ الْحَرْبِيِّ أَوْ الْمُرْتَدِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ الْكِتَابِ .
أَمَّا إذَا وَقَفَ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ أَوْ الْمُرْتَدِّينَ فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ : فَلِتَعَذُّرِ تَمْلِيكِ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ وَقْفًا غَيْرُ اسْتِحْقَاقِهِ مِلْكًا ، وَمِثْلُ وَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَشَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لِفَسَادِ الشَّرْطِ ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ : دَلْوِي فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ ، بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ الْعَامِّ كَالصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ وَقَفَهُ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْقَضْ ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ .

وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ مَسَائِلُ مِنْهَا مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ ، أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنْ وَقَفَ كِتَابًا لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ قِدْرًا لِلطَّبْخِ فِيهِ أَوْ كِيزَانًا لِلشُّرْبِ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَلَهُ الِانْتِفَاعُ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ الْمَوْصُوفِينَ بِكَذَا وَذَكَرَ صِفَاتِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْفَارِقِيُّ وَابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَمِنْهَا مَا لَوْ شَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَقْفِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ ، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى نَفْسِهِ .
وَمِنْهَا أَنْ يُؤَجِّرَ مِلْكَهُ مُدَّةً يَظُنُّ أَنْ لَا يَعِيشَ فَوْقَهَا مُنَجَّمَةً ثُمَّ يَقِفُهُ بَعْدُ عَلَى مَا يُرِيدُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَتَصَرَّفُ هُوَ فِي الْأُجْرَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بَعْدَ الْوَقْفِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَنْفَرِدَ بِالْيَدِ وَيَأْمَنَ خَطَرَ الدَّيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّتَهُ كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ كَمَا مَرَّ ، وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا لِيَحُجَّ عَنْهُ مِنْهُ جَازَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَلَيْسَ هَذَا وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ غَلَّتِهِ ، فَإِنْ ارْتَدَّ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ فِي الْحَجِّ وَصُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ الْوَقْفُ إلَى الْحَجِّ عَنْهُ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْجِهَادِ عَنْهُ جَازَ أَيْضًا ، فَإِنْ ارْتَدَّ فَالْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ بِخِلَافِ

الْحَجِّ .

وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ فَبَاطِلٌ
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَقَالَ : ( وَإِنْ وَقَفَ ) مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ ( عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ ، كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ ) وَنَحْوِهَا مِنْ مُتَعَبَّدَاتِ الْكُفَّارِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا أَوْ حُصْرِهَا أَوْ قَنَادِيلِهَا أَوْ خُدَّامِهَا أَوْ كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَوْ السِّلَاحِ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ( فَبَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْوَقْفُ شُرِعَ لِلتَّقَرُّبِ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إنْشَاءُ الْكَنَائِسِ وَتَرْمِيمُهَا مَنَعْنَا التَّرْمِيمَ أَوْ لَمْ نَمْنَعْهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى التَّرْمِيمِ بِمَنْعِهِ ، فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيُّ : إنَّهُ وَهْمٌ فَاحِشٌ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنَائِسِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً قَبْلَ الْبِعْثَةِ ، فَإِذَا لَمْ نُصَحِّحْ الْوَقْفَ عَلَيْهَا ، وَلَا عَلَى قَنَادِيلِهَا وَحُصْرِهَا فَكَيْفَ نُصَحِّحُهُ عَلَى تَرْمِيمِهَا ، وَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنَائِسِ ، وَلَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ حَيْثُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْإِظْهَارِ ، فَإِنْ تَرَافَعُوا إلَيْنَا أَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ أَنْفَذَهُ حَاكِمُهُمْ لَا مَا وَقَفُوهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ عَلَى كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ فَلَا نُبْطِلُهُ بَلْ نُقِرُّهُ حَيْثُ نُقِرُّهَا .
أَمَّا عِمَارَةُ كَنَائِسِ غَيْرِ التَّعَبُّدِ كَكَنَائِسِ نُزُولِ الْمَارَّةِ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُمَا كَالْوَصِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي .

أَوْ جِهَةِ قُرْبَةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَسَاجِدِ ، وَالْمَدَارِسِ صَحَّ

( أَوْ ) وَقَفَ عَلَى ( جِهَةِ قُرْبَةٍ ) أَيْ يَظْهَرُ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فِيهَا لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ أَوْ جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ ، وَإِلَّا فَالْوَقْفُ كُلُّهُ قُرْبَةٌ ( كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ ) وَالْقُرَّاءِ وَالْمُجَاهِدِينَ ( وَالْمَسَاجِدِ ) وَالْكَعْبَةِ وَالرُّبُطِ ( وَالْمَدَارِسِ ) وَالثُّغُورِ وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى ( صَحَّ ) لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْوَقْفِ .
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ : أَنَّ فَقِيرَ الزَّكَاةِ وَالْوَقْفِ وَاحِدٌ فَمَا مُنِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا مُنِعَ مِنْ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الصَّرْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَيْضًا .
وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ آخِرَ الْبَابِ : الْأَصَحُّ أَنْ لَا يُعْطَى مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ فَقِيرَةٌ لَهَا زَوْجٌ يُمَوِّنُهَا وَلَا الْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ أَبِيهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ : أَصْحَابُ عُلُومِ الشَّرْعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَيَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ مَنْ حَصَّلَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ إلَى الْبَاقِي وَإِنْ قَلَّ لَا الْمُبْتَدِئُ مِنْ شَهْرٍ وَنَحْوِهِ ، وَلِلْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ يَجْتَهِدُ الْمُفْتِي فِيهَا ، وَالْوَرَعُ لِلْمُتَوَسِّطِ : التَّرْكُ وَإِنْ أَفْتَى بِالدُّخُولِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْغَزَالِيِّ ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ مُبْتَدِئُهُ وَمُنْتَهِيهِ ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ النُّسَّاكُ الزَّاهِدُونَ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الدُّنْيَا ، وَإِنْ مَلَكَ أَحَدُهُمْ دُونَ النِّصَابِ أَوْ لَا يَفِي دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ ، وَلَوْ خَاطَ وَنَسَجَ أَحْيَانًا فِي غَيْرِ حَانُوتٍ أَوْ دَرَّسَ أَوْ وَعَظَ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ أَوْ لَمْ يُلْبِسْهُ الْخِرْقَةَ شَيْخٌ فَلَا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ صُوفِيًّا بِخِلَافِ الثَّرْوَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَيَكْفِي فِيهِ مَعَ مَا مَرَّ التَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ أَوْ الْمُخَالَطَةُ ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ أَوْ الْخَيْرِ أَوْ الثَّوَابِ

أَقْرِبَاءُ الْوَاقِفِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَأَهْلُ الزَّكَاةِ غَيْرُ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ : الْغُزَاةُ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْبِرِّ وَسَبِيلِ الثَّوَابِ كَانَ ثُلُثٌ لِلْغُزَاةِ وَثُلُثٌ لِأَقَارِبِ الْوَاقِفِ وَثُلُثٌ لِأَصْنَافِ الزَّكَاةِ غَيْرِ الْعَامِلِ وَالْمُؤَلَّفَةِ .

أَوْ جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ .

( أَوْ ) وَقَفَ عَلَى ( جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ ) وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفَسَقَةِ ( صَحَّ فِي الْأَصَحِّ ) نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ .
وَالثَّانِي : لَا ، نَظَرًا إلَى ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ .
وَالثَّالِثُ : يَصِحُّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَبْطُلُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفَسَقَةِ ، وَتَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ بِالْأَغْنِيَاءِ قَدْ يُرْشِدُ إلَيْهِ ، وَاسْتَحْسَنَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ تَرْجِيحُ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى هَؤُلَاءِ : يَعْنِي عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلْته فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي وَالصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الشَّامِلِ وَالْبَحْرِ وَالتَّتِمَّةِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ .
تَنْبِيهٌ : لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْغِنَى الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إنَّهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ : إمَّا لِمِلْكِهِ أَوْ لِقُوَّتِهِ وَكَسْبِهِ أَوْ كِفَايَتِهِ بِنَفَقَةِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا أَوْلَى ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ غَنِيٌّ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَيُقْبَلُ بِلَا بَيِّنَةٍ نَظَرًا لِلْأَصْلِ فِيهِمَا ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الشَّرْطَ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ لَا وُجُودُ ظُهُورِ الْقُرْبَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَرَّ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى عَلَفِ الطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ لَا يَصِحُّ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ بَلْ فِيهِ قُرْبَةٌ ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ { أَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّاءَ أَجْرًا } .
.
أُجِيبَ بِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ، بَلْ مِنْ حَيْثِيَّةِ

كَوْنِهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ كَمَا سَبَقَ ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى تَزْوِيقِ الْمَسْجِدِ أَوْ نَقْشِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ هُنَا فِي آخِرِ الْبَابِ ، وَلَا عَلَى عِمَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَى صَائِرُونَ إلَى الْبِلَى فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ الْعِمَارَةُ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَنَظِيرِهِ فِي الْوَصِيَّةِ .
قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ : وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى عِمَارَتِهَا بِبِنَاءِ الْقِبَابِ وَالْقَنَاطِرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ، لَا بِنَائِهَا نَفْسِهَا لِلنَّهْيِ عَنْهُ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُؤَنِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ وَوَقْفُ بَقَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى رِبَاطٍ إذَا قَالَ : لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا مَنْ يَنْزِلُ أَوْ لِيُبَاعَ نَسْلُهَا وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَصَالِحِهِ ، فَإِنْ أَطْلَقَ قَالَ الْقَفَّالُ : لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ بَنَاهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ شَيْئًا عَلَى مَسْجِدِ كَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُبَيِّنَ جِهَةَ مَصْرِفِهِ ، وَطَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ تُخَالِفُهُ ا هـ .
فَالْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا هُنَا الصِّحَّةُ أَيْضًا .

وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظٍ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ ، فَقَالَ : ( وَلَا يَصِحُّ ) الْوَقْفُ ( إلَّا بِلَفْظٍ ) مِنْ نَاطِقٍ يُشْعِرُ بِالْمُرَادِ كَالْعِتْقِ بَلْ أَوْلَى ، وَكَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ ، وَفِي مَعْنَاهُ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ وَكِتَابَتُهُ ، بَلْ وَكِتَابَةُ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ كَالْبَيْعِ بَلْ أَوْلَى .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوَاتٍ وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى لَفْظٍ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعَ النِّيَّةِ مُغْنِيَانِ هُنَا عَنْ الْقَوْلِ ، وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ أَحْيَاهُ مَسْجِدًا ، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ لِلَفْظٍ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَصَارَ لِلْبِنَاءِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ تَبَعًا .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ : وَقِيَاسُ ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنْ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِهَا ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَدُلُّ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَذِنْت فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ مَسْجِدًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .

وَصَرِيحُهُ وَقَفْت كَذَا أَوْ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ ، وَالتَّسْبِيلُ وَالتَّحْبِيسُ صَرِيحَانِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً أَوْ مَوْقُوفَةً أَوْ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ ، وَقَوْلُهُ تَصَدَّقْت فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَإِنْ نَوَى إلَّا أَنْ يُضِيفَ إلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ وَيَنْوِيَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُهُ أَوْ أَبَّدْتُهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا تَصِيرُ بِهِ مَسْجِدًا .

ثُمَّ لَفْظُ الْوَاقِفِ يَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ ( وَصَرِيحُهُ ) كَأَنْ يَقُولَ : ( وَقَفْت كَذَا ) عَلَى كَذَا ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى كَذَا لَمْ يَصِحَّ ( أَوْ ) يَقُولَ ( أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ ) لِاشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا ، وَإِنَّمَا قَالَ : مَوْقُوفَةٌ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ ( وَالتَّسْبِيلُ وَالتَّحْبِيسُ صَرِيحَانِ ) أَيْضًا ، أَيْ الْمُشْتَقُّ مِنْهُمَا ( عَلَى الصَّحِيحِ ) لِتَكَرُّرِهِمَا شَرْعًا وَاشْتِهَارِهِمَا عُرْفًا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقْفٌ إلَّا بِهِمَا .
وَالثَّانِي : هُمَا كِنَايَتَانِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ الْوَقْفِ ( وَلَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً أَوْ ) صَدَقَةً ( مَوْقُوفَةً أَوْ ) صَدَقَةً ( لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ ) الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَقْفِ ، وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ ، وَمَا قَبْلَهُ صَرِيحٌ بِنَفْسِهِ .
وَالثَّانِي هُوَ كِنَايَةٌ لِاحْتِمَالِ التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ : كَغَيْرِهِ وَلَا تُوهَبُ بِالْوَاوِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَإِلَّا فَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ كَافٍ كَمَا رَجَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ .
وَاسْتَشْكَلَ السُّبْكِيُّ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ : صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مَعَ جَزْمِهِ أَوَّلًا بِصَرَاحَةٍ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ غَيْرِهِ يَجِيءُ الْخِلَافُ فَضْلًا عَنْ قُوَّتِهِ .
قَالَ : وَلَوْلَا وُثُوقِي بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ وَالْمِنْهَاجُ عِنْدِي بِخَطِّهِ لَكُنْت أَتَوَهَّمُ أَنَّ مَكَانَ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ : لَكِنَّ الْخِلَافَ مَحْكِيٌّ مِنْ خَارِجٍ ؛ لِأَنَّ فِي صَرَاحَةِ لَفْظِ الْوَقْفِ وَجْهًا فَطُرِدَ مَعَ انْضِمَامِهِ لِغَيْرِهِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ : أَيْ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْأَصَحِّ ، وَقَالَ غَيْرُهُ :

إنَّ مَوْقُوفَةٌ مِنْ طُغْيَانِ الْقَلَمِ ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ كِتَابَةَ لَفْظَةِ مُؤَبَّدَةٌ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ ، فَسَبَقَ الْقَلَمُ إلَى كِتَابَةِ مَوْقُوفَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ التَّحْرِيمِ كِنَايَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْكِنَايَةَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ ، كَقَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ بَيْنُونَةً مُحَرَّمَةً لَا تَحِلِّينَ لِي أَبَدًا ؛ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا كِنَايَةً ، فَهَلَّا كَانَ هَذَا كَالطَّلَاقِ ، .
أُجِيبَ بِأَنَّ صَرَائِحَ الطَّلَاقِ مَحْصُورَةٌ بِخِلَافِ الْوَقْفِ ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ بَيْنُونَةً مُحَرَّمَةً لَا تَحِلِّينَ لِي أَبَدًا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالطَّلَاقِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْفُسُوخُ ، وَالزَّائِدُ فِي أَلْفَاظِ الْوَقْفِ يَخْتَصُّ بِالْوَقْفِ ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ : تَصَدَّقْت يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ ، وَلَهُ مَحْمَلَانِ : مَحْمَلُ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ ، وَمَحْمَلُ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ الْوَقْفُ ، فَالزَّائِدُ يُعَيِّنُ الْمَحْمَلَ الثَّانِيَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ( وَقَوْلُهُ : تَصَدَّقْت فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ ) فِي الْوَقْفِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَقْفُ ( وَإِنْ نَوَى ) الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ ، وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ ( إلَّا أَنْ يُضِيفَ إلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ ) كَالْفُقَرَاءِ ( وَيَنْوِيَ ) الْوَقْفَ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَالْمُصَنِّفِ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ الصَّرَاحَةِ ، وَإِنَّمَا إضَافَتُهُ إلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تَعْمَلَ فِيهِ النِّيَّةُ ، وَهُوَ - كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ - الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ .
أَمَّا إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ يَنْفُذُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ ، وَهُوَ مَحْضُ التَّمْلِيكِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا .
تَنْبِيهٌ : هَذَا كُلُّهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ .
أَمَّا

فِي الْبَاطِنِ فَيَصِيرُ وَقْفًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَلِيمٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ ( وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُهُ ) لِلْفُقَرَاءِ مَثَلًا ( أَوْ أَبَّدْتُهُ ) عَلَيْهِمْ ( لَيْسَ بِصَرِيحٍ ) بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ مُسْتَقِلَّيْنِ ، وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ بِهِمَا الْأَلْفَاظُ السَّابِقَةُ .
وَالثَّانِي : هُوَ صَرِيحٌ لِإِفَادَةِ الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيلِ ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَالَ : حَرَّمْتُهُ وَأَبَّدْتُهُ .
تَنْبِيهٌ : أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَقُولَ : أَخْرَجْتُهُ عَنْ مِلْكِي وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ حَكَى الْإِمَامُ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْت ) هَذِهِ ( الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا ) وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلَّهِ ( تَصِيرُ بِهِ ) أَيْ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ ( مَسْجِدًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَكُونُ إلَّا وَقْفًا فَأَغْنَى لَفْظُهُ عَنْ لَفْظِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ ، وَالثَّانِي : وَعَلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ لَا يُصَيِّرُهُ مَسْجِدًا لِعَدَمِ ذِكْرِ شَيْءِ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ قَالَ جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى صَارَتْ مَسْجِدًا جَزْمًا وَكَذَا إنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ : جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا الْوَقْفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتهَا لِلصَّلَاةِ كَانَ صَرِيحًا فِي الْوَقْفِ كِنَايَةً فِي وَقْفِهِ مَسْجِدًا فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ ، وَلَوْ بَنَى بَيْتًا وَأَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَسْجِدًا وَإِنْ صَلَّى فِيهِ وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي فِيمَا إذَا بَنَاهُ فِي مَوَاتٍ .

وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُهُ .

( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُهُ ) مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَإِلَّا فَقَبُولُ وَلِيِّهِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْجُورِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ ، وَعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحَيْنِ ، لِلْإِمَامِ وَآخَرِينَ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَنَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ .
وَالثَّانِي : لَا يُشْتَرَطُ وَاسْتِحْقَاقُهُ الْمَنْفَعَةَ كَاسْتِحْقَاقِ الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهَذَا ظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَلِيمٌ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ فِي السَّرِقَةِ ، وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَجَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي مَنْهَجِهِ .
قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ لَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ .
قَالَ فِي الْوَسِيطِ : وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي نُسَخِ الرَّافِعِيِّ : فَلَوْ وَقَفَ بِحَذْفِ لَفْظَةِ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ : أَيْ فَيَكُونُ الْوَقْفُ قَدْ تَمَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْوَاقِفِ وَقَفْت عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَيَكُونُ مُفَرَّعًا عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِلْحَاقُ الْوَقْفِ بِالْعِتْقِ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُرَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يُبْطَلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا يُسْتَثْنَى مَا إذَا وَقَفَ عَلَى ابْنِهِ الْحَائِزِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لُزُومُ الْوَقْفِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقَبُولِ الْقَبْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَشَذَّ الْجُورِيُّ فَحَكَى

قَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهِ فِي الْمُعَيَّنِ .
تَنْبِيهٌ : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ ، قَالَ السُّبْكِيُّ : وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُمْ وَإِنْ شَرَطْنَا قَبُولَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ رَدُّوا فَمُنْقَطِعُ الْوَسَطِ أَوْ رُدَّ الْأَوَّلُ بَطَلَ الْوَقْفُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ .
أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ جَزْمًا لِتَعَذُّرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يُجْعَل الْحَاكِمُ نَائِبًا فِي الْقَبُولِ كَمَا جُعِلَ نَائِبًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُبَاشِرٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ نَائِبًا فِيهِ بِخِلَافِ هَذَا ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَبُولَ نَاظِرِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُهِبَ لِلْمَسْجِدِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ نَاظِرِهِ وَقَبْضِهِ كَمَا لَوْ وُهِبَ شَيْءٌ لِصَبِيٍّ ، وَقَوْلُهُ جَعَلْته لِلْمَسْجِدِ كِنَايَةُ تَمْلِيكٍ لَا وَقْفٍ ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ النَّاظِرِ وَقَبْضُهُ كَمَا مَرَّ .

وَلَوْ رَدَّ بَطَلَ حَقُّهُ شَرَطْنَا الْقَبُولَ أَمْ لَا .
( وَلَوْ رَدَّ ) الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ ( بَطَلَ حَقُّهُ ) سَوَاءٌ ( شَرَطْنَا الْقَبُولَ ) مِنْ الْمُعَيَّنِ ( أَمْ لَا ) كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَعُدْ لَهُ ، وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ : يَعُودُ لَهُ إنْ رَجَعَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ لِغَيْرِهِ ، مَرْدُودٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ .
نَعَمْ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ الْحَائِزِ لِتَرِكَتِهِ شَيْئًا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَزِمَ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِرَدِّهِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الْوَصَايَا عَنْ الْإِمَامِ .

وَلَوْ قَالَ وَقَفْت هَذَا سَنَةً فَبَاطِلٌ ، وَلَوْ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ نَسْلِهِ وَلَمْ يَزِدْ فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوَقْفِ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا ، وَأَنَّ مَصْرِفَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ .

تَنْبِيهٌ : يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ التَّأْبِيدُ كَالْوَقْفِ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْقَرِضْ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَالْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى مَنْ يَنْقَرِضُ .
ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَنْقَرِضُ كَزَيْدٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءُ فَلَا يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْوَقْفِ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ : ( وَلَوْ قَالَ : وَقَفْت هَذَا ) عَلَى كَذَا ( سَنَةً ) مَثَلًا ( فَبَاطِلٌ ) هَذَا الْوَقْفُ لِفَسَادِ الصِّيغَةِ .
فَإِنْ أَعْقَبَهُ بِمَصْرِفٍ كَوَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدٍ سَنَةً ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ ، وَرُوعِيَ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ كَمَا نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ الْخُوَارِزْمِيِّ .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرَ مَحَلُّهُ فِيمَا لَا يُضَاهِي التَّحْرِيرَ .
أَمَّا مَا يُضَاهِيهِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ وَالرِّبَاطِ كَقَوْلِهِ : جَعَلْته مَسْجِدًا سَنَةً فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُؤَبَّدًا كَمَا لَوْ ذَكَرَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا ، قَالَهُ الْإِمَامُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ : أَيْ وَهُوَ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ( وَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ نَسْلِهِ ) وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَدُومُ ( وَلَمْ يَزِدْ ) عَلَى ذَلِكَ مَنْ صُرِفَ إلَيْهِ بَعْدَهُمْ ( فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوَقْفِ ) ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَةُ وَالدَّوَامُ وَإِذَا بَيَّنَ مَصْرِفَهُ ابْتِدَاءً سَهَّلَ إدَامَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ ، وَيُسَمَّى مُنْقَطِعَ الْآخِرِ .
وَالثَّانِي : بُطْلَانُهُ لِانْقِطَاعِهِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ( فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا ) ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّوَامِ كَالْعِتْقِ وَالثَّانِي يَرْتَفِعُ الْوَقْفُ وَيَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وُرَّاثِهِ إنْ مَاتَ ( وَ ) الْأَظْهَرُ عَلَى الْأَوَّلِ ( أَنَّ مَصْرِفَهُ ) عِنْدَ انْقِرَاضِ مَنْ ذَكَرَ ( أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ ) ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ رَحِمِكَ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } وَيَخْتَصُّ الْمَصْرِفُ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ

الْخُوَارِزْمِيُّ وَغَيْرُهُ بِفُقَرَاءِ قَرَابَةِ الرَّحِمِ لَا الْإِرْثِ فِي الْأَصَحِّ فَيُقَدِّمُ ابْنَ بِنْتٍ عَلَى ابْنِ عَمٍّ .
فَإِنْ قِيلَ : الزَّكَاةُ وَسَائِرُ الْمَصَارِفِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهَا وَلَا الصَّرْفُ مِنْهَا إلَى الْأَقَارِبِ فَهَلَّا كَانَ الْوَقْفُ كَذَلِكَ ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَقَارِبَ مِمَّا حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْبِيسِ الْوَقْفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ : { أَرَى أَنْ تَجْعَلهَا فِي الْأَقْرَبِينَ } فَجَعَلَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ، وَأَيْضًا الزَّكَاةُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْمَصَارِفِ الْوَاجِبَةِ لَهَا مَصْرِفٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ الْأَقَارِبُ ، وَهُنَا لَيْسَ مَعَنَا مَصْرِفٌ مُتَعَيَّنٌ ، وَالصَّرْفُ إلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ فَعَيَّنَّاهُ .
وَالثَّانِي : يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَئُولُ إلَيْهِمْ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ صَرَفَ الْإِمَامُ الرِّيعَ إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ النَّصِّ ، وَقِيلَ : يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
تَنْبِيهٌ : هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِفُ مَالِكًا مُسْتَقِلًّا ، فَإِنْ وَقَفَ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى بَنِي فُلَانٍ ، ثُمَّ انْقَرَضُوا .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَقَارِبِ الْإِمَامِ بَلْ فِي الْمَصَالِحِ قَالَ : وَهَذَا أَصَحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فَمَصْرِفُهُ كَمَا فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ .

وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْأَوَّلِ كَوَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِي فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ .
( وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْأَوَّلِ كَوَقَفْتُهُ عَلَى ) وَلَدِي وَلَا وَلَدَ لَهُ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ سَيُبْنَى أَوْ عَلَى ( مَنْ سَيُولَدُ لِي ) ثُمَّ الْفُقَرَاءِ ( فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَيْهِ فِي الْحَالِ ؛ فَكَذَا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الصِّحَّةُ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يُجِزْ الْبَاقُونَ أَوْ عَلَى مُبْهَمٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ .
تَنْبِيهٌ : تَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ لِمُنْقَطِعِ الْأَوَّلِ نَاقِصٌ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ مَا قَدَّرْتُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ ، وَلَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ .

أَوْ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ كَوَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ رَجُلٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ .
( أَوْ ) كَانَ الْوَقْفُ ( مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ ) بِفَتْحِ السِّينِ ( كَوَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ ) عَلَى ( رَجُلٍ ) مُبْهَمٍ ( ثُمَّ ) ( الْفُقَرَاءِ ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ ) لِوُجُودِ الْمَصْرِفِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، وَالْخِلَافُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِمَا ذُكِرَ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ أَوْلَادِهِ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ لَا لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَمَدِ الِانْقِطَاعِ ، فَإِنْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ أَيْضًا ، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُصْرَفُ بَعْدَ أَوْلَادِهِ لِأَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ مِثْلَ مَا مَرَّ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ ، وَالشَّارِحُ جَعَلَ صُورَةَ الْمَتْنِ كَهَذِهِ الصُّورَةِ وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ غَيْرَ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ مَنْهَجِهِ .

وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى وَقَفْت فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ ، فَقَالَ : ( وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ) قَوْلِهِ ( وَقَفْت ) كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفَهُ ( فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ ) لِعَدَمِ ذِكْرِ مَصْرِفِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ : أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي وَلَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفًا أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ لِلْمَسَاكِينِ ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ بِهِ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ : وَقَفْت هَذَا لِلَّهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ غَالِبَ الْوَصَايَا لِلْمَسَاكِينِ فَحَمَلَ الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ ، وَبِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَتَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَالنَّجَسِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمَصْرِفَ وَاعْتَرَفَ بِهِ صَحَّ ظَاهِرًا وَنَازَعَهُ الْغَزِّيُّ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : طَلَّقْت وَنَوَى امْرَأَتَهُ لَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ ، وَلَيْسَ هُنَا لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْرِفِ أَصْلًا ا هـ .
وَهَذَا أَظْهَرُ ، وَلَوْ بَيَّنَ الْمَصْرِفَ إجْمَالًا كَقَوْلِهِ : وَقَفْت هَذَا عَلَى مَسْجِدِ كَذَا ؛ كَفَى وَصُرِفَ إلَى مَصَالِحِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَإِنْ قَالَ الْقَفَّالُ : لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ فَيَقُولُ عَلَى عِمَارَتِهِ وَنَحْوِهِ .

وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْت .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ ، وَهُوَ التَّنْجِيزُ فَقَالَ ( وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْت ) كَذَا عَلَى كَذَا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْلَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَا يُضَاهِي التَّحْرِيرَ .
أَمَّا مَا يُضَاهِيهِ كَجَعَلْتُهُ مَسْجِدًا إذَا جَاءَ رَمَضَانُ ، فَالظَّاهِرُ صِحَّتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَوْتِ ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِهِ كَقَوْلِهِ : وَقَفْت دَارِي بَعْدَ مَوْتِي عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ .
قَالَ الشَّيْخَانِ : وَكَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِقَوْلِ الْقَفَّالِ إنَّهُ لَوْ عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ كَانَ رُجُوعًا ، وَلَوْ نَجَّزَ الْوَقْفَ وَعَلَّقَ الْإِعْطَاءَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ جَازَ كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ ، وَلَوْ قَالَ : وَقَفْته عَلَى مَنْ شِئْتُ أَوْ فِيمَا شِئْتُ وَكَانَ قَدْ عَيَّنَ لَهُ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ يَشَاءُ عِنْدَ وَقْفِهِ صَحَّ وَأُخِذَ بِبَيَانِهِ ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ ، وَلَوْ قَالَ : وَقَفْتُهُ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى

وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ .
ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ ، وَهُوَ الْإِلْزَامُ فَقَالَ : ( وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ) لِنَفْسِهِ فِي إبْقَاءِ وَقْفِهِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ مَتَى شَاءَ أَوْ شَرَطَهُ لِغَيْرِهِ أَوْ شَرَطَ عَوْدَهُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا كَأَنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْخُلَ مَنْ شَاءَ وَيَخْرُجَ مَنْ شَاءَ ( بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ ) قَالَ الرَّافِعِيُّ : كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ .
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ بُطْلَانِ الْعِتْقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ، وَأَفْتَى الْقَفَّالُ بِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ كَمَا لَوْ طَلَّقَ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لَهُ .
تَنْبِيهٌ : كَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِالْأَظْهَرِ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِي الْبُوَيْطِيِّ .

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ ، وَأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ اُخْتُصَّ كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ .

( وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ ) أَصْلًا أَوْ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ صَحَّ الْوَقْفُ ، وَ ( اُتُّبِعَ شَرْطُهُ ) كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْمَصْلَحَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يُتَّبَعُ شَرْطُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ .
تَنْبِيهٌ : يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ حَالُ الضَّرُورَةِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا تُؤَجَّرَ الدَّارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ انْهَدَمَتْ ، وَلَيْسَ لَهَا جِهَةُ عِمَارَةٍ إلَّا بِإِجَارَةِ سِنِينَ ، فَإِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ أَفْتَى بِالْجَوَازِ فِي عُقُودٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُسْتَأْنَفَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِهِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ وَوَافَقَهُ السُّبْكِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ إلَّا فِي اعْتِبَارِ التَّقْيِيدِ بِعُقُودٍ مُسْتَأْنَفَةٍ ، فَرَدَّاهُ عَلَيْهِ وَقَالَا : يَنْبَغِي الْجَوَازُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَجَّرَهُ النَّاظِرُ سِتَّ سِنِينَ ، فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي فَصْلِهَا ، وَإِذَا أَجَّرَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ الثَّلَاثَ الْأُخَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأُولَى : لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ صَحِيحَةٌ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِنَّ الْمُدَّتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ كَالْمُدَّةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِانْفِرَادِهِ ، وَلَوْ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ مِنْ مَتْجَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُكْتَبُ فِي كُتُبِ الْأَوْقَافِ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، قَالَ : وَلَمْ أَرَهُ نَصًّا ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ،

وَالظَّاهِرُ كَمَا فِي الْمَطْلَبِ أَنَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْإِعَارَةَ ( وَ ) الْأَصَحُّ ( أَنَّهُ إذَا شَرَطَ ) ابْتِدَاءً ( فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ ) بِأَنْ وَقَفَ شَخْصٌ مَكَانًا مَسْجِدًا وَشَرَطَ فِيهِ ( اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ اُخْتُصَّ ) بِهِمْ أَيْ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَعْتَكِفُ فِيهِ غَيْرُهُمْ ( كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ ) إذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِمَا اخْتِصَاصَهُمَا بِطَائِفَةٍ اُخْتُصَّا بِهِمْ جَزْمًا .
وَالثَّانِي : لَا يَخْتَصُّ الْمَسْجِدُ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا كَالتَّحْرِيرِ فَلَا مَعْنَى لِاخْتِصَاصِهِ بِجَمَاعَةٍ ، وَلَوْ خَصَّ الْمَقْبَرَةَ بِطَائِفَةٍ اُخْتُصَّتْ بِهِمْ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ .

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إلَى الْآخَرِ

( وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ ) مُعَيَّنَيْنِ ( ثُمَّ الْفُقَرَاءِ ) مَثَلًا ( فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ ) فِي حَرْمَلَةَ ( أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إلَى الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِانْتِقَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ انْقِرَاضُهُمَا جَمِيعًا ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ فَالصَّرْفُ إلَى مَنْ ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ إذَا مَاتَا .
تَنْبِيهٌ : مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَفْصِلْ ، فَإِنْ فَصَلَ فَقَالَ : وَقَفْت عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفَ هَذَا فَهُوَ وَقْفَانِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ ، فَلَا يَكُونُ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ ، بَلْ يَحْتَمِلُ انْتِقَالُهُ لِلْأَقْرَبِ إلَى الْوَاقِفِ أَوْ الْفُقَرَاءِ ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ إنْ قَالَ : ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، فَإِنْ قَالَ : ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، فَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمَا وَسَكَتَ عَمَّنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ بَعْدَهُمَا فَهَلْ نَصِيبُهُ لِلْآخَرِ أَوْ لِأَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لِلْآخَرِ وَصَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا أَوْ بَانَ مَيِّتًا فَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَصَحِّ صَرْفُهُ لِلْآخَرِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَمْرٍو ثُمَّ بَكْرٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : لَا شَيْءَ لِبَكْرٍ ، وَيَنْتَقِلُ الْوَقْفُ مِنْ زَيْدٍ إلَى الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ بَعْدَ عَمْرٍو ، وَعَمْرٌو بِمَوْتِهِ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ بَكْرٌ عَنْهُ شَيْئًا .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي فَتَاوِيهِ : الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُقَرَاءِ مَشْرُوطٌ بِانْقِرَاضِهِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ وَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْوَلَدُ يَرْجِعُ إلَى الْفُقَرَاءِ ، وَيُوَافِقُهُ فَتْوَى الْبَغَوِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ طَوِيلَةٍ ، حَاصِلُهَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ

ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ فِي وَقْفِ التَّرْتِيبِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْوَقْفِ لَحَجَبَهُ بِمَنْ فَوْقَهُ يُشَارِكُ وَلَدُهُ مَنْ بَعْدَهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ ، وَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ، فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادُهُمْ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ هَلْ تَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ أَوْ لَا ؟ اخْتَارَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ الْأَوَّلَ ، وَيَجْعَلُ ذِكْرَهُمْ قَرِينَةً فِي دُخُولِهِمْ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ الْمُخْتَارُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُمْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا شَرَطَ انْقِرَاضَهُمْ لِاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِمْ ا هـ .
هَذَا أَوْجَهُ .

فَصْلٌ قَوْلُهُ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ وَكَذَا لَوْ زَادَ مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ .

فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْوَقْفِ اللَّفْظِيَّةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ ، فَإِذَا تَلَفَّظَ الْوَاقِفُ فِي صِيغَةِ وَقْفِهِ بِحَرْفِ عَطْفٍ يَقْتَضِي تَشْرِيكًا أَوْ تَرْتِيبًا عُمِلَ بِهِ كَمَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ .
( قَوْلُهُ ) أَيْ الشَّخْصُ ( وَقَفْت ) كَذَا ( عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ) فِي أَصْلِ الْإِعْطَاءِ وَالْمِقْدَارِ ( بَيْنَ الْكُلِّ ) وَهُوَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادُهُمْ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ .
وَنُقِلَ عَنْ إجْمَاعِ النُّحَاةِ وَمَنْ جَعَلَهَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْوُضُوءِ عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ : يَنْبَغِي كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَقْدِيمُ الْأَوْلَادِ وَلَوْ جَمَعَهُمْ بِالْوَاوِ .
ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ اُخْتُصَّ وَلَدُهُ بِنَصِيبِهِ وَشَارَكَ الْبَاقِينَ فِيمَا عَدَاهُ .
تَنْبِيهٌ : إدْخَالُ أَلْ عَلَى كُلٍّ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْفَارِسِيِّ ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ نَظَرًا إلَى أَنَّ إضَافَةَ كُلٍّ مَعْنَوِيَّةٌ فَلَا تُجَامِعُهَا ( وَكَذَا ) يُسَوِّي بَيْنَ الْكُلِّ ( لَوْ زَادَ ) عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي قَوْلُهُ : ( مَا تَنَاسَلُوا ) أَيْ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَعْقَابِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : مَا تَنَاسَلُوا لَا يَقْتَضِي تَسْوِيَةً وَلَا تَرْتِيبًا ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ بِالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ التَّسْوِيَةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَإِنْ سَفُلُوا ( أَوْ ) زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَ قَوْلَهُ ( بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ ) أَوْ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَيُشَارِكُ الْبَطْنُ الْأَسْفَلُ الْبَطْنَ الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ : مَا تَنَاسَلُوا ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ

وَالْفُورَانِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ بَعْدُ تَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أَيْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ : بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ لِلتَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ، وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ تَبَعًا لِابْنِ يُونُسَ قَالَ : وَعَلَيْهِ هُوَ لِلتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْبَطْنَيْنِ فَقَطْ فَيَنْتَقِلُ بِانْقِرَاضِ الثَّانِي لِمَصْرِفٍ آخَرَ إنْ ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ وَإِلَّا فَمُنْقَطِعُ الْآخِرِ .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ : لَمْ يُمْعِنْ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّهُ نَقَلَ التَّرْتِيبَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ نَفْسِهِ وَعَدَّ جَمَاعَةً مِنْ الْأَصْحَابِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ .
ثُمَّ قَالَ : وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ اقْتِضَاءِ التَّسْوِيَةِ بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ أَيْضًا ، فَإِنَّ لَفْظَةَ بَعْدَ فِي اقْتِضَاءِ التَّرْتِيبِ أَصْرَحُ مِنْ ثُمَّ وَالْفَاءِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَزَمَا فِيهِمَا بِاقْتِضَاءِ التَّرْتِيبِ فَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّ بَعْدَ أَصْرَحُ مِنْ ثُمَّ وَالْفَاءِ فِي التَّرْتِيبِ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ .
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ .
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ .
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَيْ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَوْصَافِهِ زَنِيمٍ ، وَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إظْهَارُ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَبِهِمْ نَقْتَدِي ، فَلَا يُظَنُّ فِيهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَرَّحَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ أَنَّهَا تَبِينُ بِالْأُولَى

وَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ ، وَلَوْ كَانَتْ بَعْدَ بِمَعْنَى مَعَ وَقَعَ طَلْقَتَانِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلْقَةً مَعَهَا طَلْقَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ : بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّعْمِيمِ وَهُوَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي إلَخْ وَتَعْقِيبُهُ بِالْبَعْدِيَّةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّرْتِيبِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ إدْخَالُ سَائِرِ الْبُطُونِ حَتَّى لَا يَصِيرَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْآخِرِ .
تَنْبِيهٌ : قَوْلُهُ بَطْنًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى مُرَتَّبِينَ ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ مُبْتَدَأً وَمُسَوِّغُهُ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْهُمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَائِفَةٌ } أَيْ مِنْهُمْ ، وَانْتِصَابُ بَعْدَ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنًا بَعْدَ بَطْنٍ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51