كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

( وَأَمَّا ) خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ ، وَالنِّفَاسُ ، وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ فِي الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ ، وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْرُزْ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَالِاسْتِحَاضَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي : الْحَيْضَ ، وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا تُعْلَمُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ ، وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ } وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ ، وَالْبُرُوزِ .

( وَأَمَّا ) مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ مُقَدَّرٌ وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ ، وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { ، وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ ، وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ مِنْ الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَدِّرْ : دَمَ النِّفَاسِ ، وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَقَلُّ مَا يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ الثَّيِّبِ ، وَالْبِكْرِ جَمِيعًا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ } ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ .
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ ثَمَانٌ تِسْعٌ عَشْرٌ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمَقْدُور بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ ، وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا .

( وَأَمَّا ) الثَّانِي فَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَلَيَالِيهَا ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ يَوْمَانِ ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَوْمٌ ، وَلَيْلَةٌ فِي قَوْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ ، وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ حَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ لَوَثٍ عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ ، أَوْ بِالْيَوْمِ ، وَاللَّيْلَةِ ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ ، وَحُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا مَعَ مَالِكٍ ، وَحُجَّةُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَا مَقْصُودًا ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً .

( وَأَمَّا ) أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : خَمْسَةَ عَشْرَةَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ ، وَلَا تُصَلِّي } ، ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ ، وَهُوَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ حَيْضٍ ، وَطُهْرٍ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ ، وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ الشَّهْرِ عَلَى الْحَيْضِ ، وَالطُّهْرِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا ، وَنِصْفُهُ حَيْضًا ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَاجِمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا لَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا ، وَإِيَاسِهَا ، وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يُقَرِّبُ مِنْ النِّصْفِ ، وَهُوَ عَشْرَةٌ ، وَكَذَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ عَلَى الطُّهْرِ ، وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ مُنَاصَفَةً إذْ قَدْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ لِلْحَيْضِ ، وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ ، وَإِذَا عَرَفَتْ مِقْدَارَ الْحَيْضِ .

لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَيْضَ ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا وَقَالَ مَالِكٌ : عَشْرَةُ أَيَّامِ وَجْهُ قَوْلٍ أَبِي حَازِمٍ ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ ، وَالطُّهْرِ عَادَةً وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشْرَةً فَيَبْقَى مِنْ الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَنْقُصُ بِيَوْمٍ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ ، لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهَا بِالْحَيْضِ كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ ، ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ .
وَمَا قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِيضُ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ ، وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قَدْ تَحِيضُ ثَلَاثَةً ، وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ وَقَدْ تَحِيضُ عَشَرَةً ، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ .
وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ ، فَلَا غَايَةَ لَهُ ، حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ مَا تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ ، وَالْحَيْضُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِنْ طَالَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ .
وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هُوَ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ : وَأَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي إنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ ، حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ

خَمْسَةً ، وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَتَقْعُدُ خَمْسَةً ، وَتُصَلِّي سِتَّةً ، وَكَذَا لَوْ رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى : إنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحُ لَهُ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ مَا كَانَتْ رَأَتْ فِيهِ مِنْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ ، وَأَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ ، وَخَمْسُونَ يَوْمًا ، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَكْثَرُهُ شَهْرٌ ، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : سَبْعَةٌ ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ .

( وَأَمَّا ) وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حِينَ تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ، فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا وَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا كَانَ حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي حَدِّهِ ، وَلَوْ بَلَغَتْ ذَلِكَ وَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ ، ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ حَيْضًا ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ .

( وَأَمَّا ) النِّفَاسُ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ ، وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ ، وَهُوَ الْوَلَدُ أَوْ الدَّمُ ، وَالْكَلَامُ فِي لَوْنِهِ ، وَخُرُوجِهِ كَالْكَلَامِ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ ، وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ ، لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْقَلِيلُ مِنْهُ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي بَابِ الْحَيْضِ فَلَمْ يُعْرَفْ الْقَلِيلُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّقْدِيرَ ، ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ ، وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا ، فَلَا يَتَقَدَّرُ فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ ، وَصَلَّتْ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ ، فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ فَذَاكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ ، ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ : نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت ، ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ فِي النِّفَاسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ إذَا ادَّعَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى مَا حُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : سِتُّونَ يَوْمًا ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا } .

وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ مَا انْتَقَصَ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ ، وَمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ ، وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ ، وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ .

( أَمَّا ) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ ، وَهِيَ الَّتِي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً ، لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى الْعَشَرَةِ ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَهْرٍ .

( وَأَمَّا ) صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ فِي الْحَيْض إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرَةً فَزَادَ الدَّمُ عَلَيْهَا فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ ، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَعَادَتُهَا حَيْضٌ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا } أَيْ : أَيَّامُ حَيْضِهَا ، وَلِأَنَّ مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا ، فَلَا تُصَلِّي ، وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي ، فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كَانَتْ تَرَى شَهْرًا سِتًّا ، وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ ، وَفِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِي الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ السَّادِسِ ، وَتُصَلِّيَ فِيهِ ، وَتَصُومَ إنْ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونُ فَدَارَ الصَّلَاةُ ، وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْجَوَازِ مِنْهَا ، وَالْوُجُوبِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ فَيَجِبُ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَوْلَى أَنْ تَتْرُكَ ، وَعَلَيْهَا ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ، لِأَنَّ تَرْكَ الرَّجْعَةِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ .
وَأَمَّا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَالْغَشَيَانِ فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مَعَ جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ ، وَكَذَا

تَرْكُ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحِلِّ أَوْلَى مِنْ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحُرْمَةِ فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا ، وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي صَامَتْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ وَاجِبًا ، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السُّقُوطِ إنْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا فِيهِ صَحَّ صَوْمُهَا ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ فَلَا صَلَاةَ عَلَيْهَا لِلْحَالِّ ، وَلَا الْقَضَاءِ فِي الثَّانِي .
وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً ، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً ، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذَلِكَ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ حَيْضَتَانِ ، وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُؤَالًا وَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ ، ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ فِي شَهْرَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ : إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ ، وَحُكِيَ أَنَّ

امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَتْ : إنِّي حِضْت فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَيْحٍ مَاذَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : إنْ أَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ بِطَانَتِهَا مِمَّنْ يُرْضَى بِدِينِهِ ، وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ مِنْهَا فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالون ، وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ النَّفْيِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ ذَلِكَ ، وَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } أَيْ : لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا .

وَدَمُ الْحَامِلِ لَيْسَ بِحَيْضٍ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ لَا فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ ، وَحَالٍ ، وَلِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ، وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ ، وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ ، وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
( وَلَنَا ) قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ ، وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا ( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ قُرْءٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْءٍ مَا ذَكَرْنَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ .

( وَأَمَّا ) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ ، وَهِيَ الَّتِي حَبِلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ .

( وَأَمَّا ) صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زِيَادَتَهَا عَلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً ، ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ ، أَوْ بِالطُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالطُّهْرِ ، فَلَا ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذَلِكَ ، وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ تَمَامَ عَادَتِهَا فَصَلَّتْ ، وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا حَتَّى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِينَ ، وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي صَامَتْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ : هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لَهَا عِنْدَهُ .
وَإِنْ كَانَ خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ ، وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَمَا تَرَاهُ النُّفَسَاءُ مِنْ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ فَاسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَالنِّفَاسُ مِنْ

الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ مِنْ الْوَلَدِ الثَّانِي ، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى ، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنْ الْحُبْلَى ، لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ كَمَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَالنِّفَاسُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ ، أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ وَقَدْ وُجِدَ أَوْ يَقُولُ : بَقَاءُ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ فَمِ الرَّحِمِ فَأَمَّا الْحَيْضُ مِنْ الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ ، وَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ رَحِمٍ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ ، لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إنْ كَانَ أَقَلُّهُ لَمْ تَصِرْ نُفَسَاءَ حَتَّى قَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ ، وَتَحْفِرَ لَهَا حَفِيرَةً ، لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ وَلَمْ

يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ ، أَوْ هِيَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الَّذِي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَصَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عَنْ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هُوَ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَائِهِمَا ، أَوْ دَمٍ جَامِدٍ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ .

( وَأَمَّا ) أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ : الدَّمُ قَدْ يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وَقَدْ يُدَرُّ مَرَّةً ، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا مُتَّصِلًا ، وَالثَّانِي مُنْفَصِلًا ( أَمَّا ) الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضٌ ، وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ حَيْضُهَا ، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ طُهْرُهَا ، وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً فِي أَيَّامِ طُهْرِهَا .

( وَأَمَّا ) الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفَصِلُ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا ، وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا ، وَكَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ، ثُمَّ يُقَدَّرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا ، وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا ، وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّمُ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ كَانَ الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا ، وَهُوَ أَوَّلُهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ ، وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ حَيْضًا لَا يَصِيرُ

الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ .
وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا وَلَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ، وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي ، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا ، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فَقَالَ : الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْمُتَوَالِي ، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الطُّهْرُ مِثْلَ الدَّمَيْنِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدَّمَيْنِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ، وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزَ لَهُ أَدَاءُ الصَّوْمِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ ، وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ ، أَوْ بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي } ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ مَعَ أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْجَنَابَةِ ، وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ ، وَالصَّوْمَ ، وَهُنَّ لَا يَقْضِينَ الصَّلَاةَ ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ فِي قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ ، وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ فِي حَالَتَيْ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ وَلَا يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أَيْ : الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ ، وَطَلَبَ الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَالْمُسْتَحَاضَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غَيْرَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً ، وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ مِنْ الْحَدَثِ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَقِيلَ : إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبِهَا فَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ النَّاسُ الْمَاءَ ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَالَ لَهَا : حَبَسْت الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجًا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ ، وَصَلَّيْتُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ } ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ،

وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَائِزٌ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا .
وَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } ، أَوْ لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذَلِكَ بِالْجِمَاعِ وَقَالَا : كَنَّى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ ، وَالْغَشَيَانِ ، وَالْمُبَاشَرَةِ ، وَالْإِفْضَاءِ ، وَالرَّفَثِ ، وَعُمَرُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ فَلَمْ يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } ، وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : لِلْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ } ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا ، أَوْ شَهْرَيْنِ ، وَفِينَا الْجُنُبُ ، وَالنُّفَسَاءُ ، وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ } ، وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ ، وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ الْجِمَاعُ

اكْتِسَابًا لِسَبَبِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت : لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي ، وَأَنَا لَا أَجِدُ الْمَاءَ فَقَالَ جَامِعْ امْرَأَتَك ، وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيك } .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ : تَيَمَّمَ ، وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْت أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي قَوْلُهُ : يَمَّمْت أَيْ : قَصَدْت ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ فِي عُضْوَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ عَلَى قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ ، وَالذِّرَاعَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ ابْنَ سِيرِينَ : ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جَمِيعًا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : هُوَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا فِي وَجْهِهِ ، وَيَدَيْهِ ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ، وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ ، وَفَسَّرَهُ بِمَسْحِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الضَّرْبَةِ ، وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هَذَا الْمَحْدُودِ ، وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ .
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ ، وَالْكَفَّانِ } .
( وَلَنَا ) الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ ، وَهُوَ

أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغُسْلِ ، وَهُوَ الْوُضُوءُ ، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ ، وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ ذِكْرًا هَهُنَا دَلَالَةً ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَهُ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ ، لِأَنَّ الْخَلْفَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ ، وَكَذَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنِ سِيرِينَ ، لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، وَفِيمَا قَالَاهُ تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلزِّيَادَةِ ( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ } ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ } ، وَالْمُتَعَارِضُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَقَالَ : التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ هُوَ ؟ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا ، وَأَدْبَرَ ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَعَادَ كَفَّيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا ، وَأَدْبَرَ ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ ، وَبَاطِنَهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ ، ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى مَعَ الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الَّذِي عَلَى الْيَدِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ ، حَتَّى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ صِيَانَةً عَنْ التَّلَوُّثِ الَّذِي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ ، إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بِمَسْحِ كَفٍّ مَسَّهُ التُّرَابُ عَلَى الْعُضْوَيْنِ لَا

تَلْوِيثُهُمَا بِهِ ، فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا ، وَهَذَا الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّفْضِ مَرَّةً وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ عَلَى قَدْرٍ مَا يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ ؛ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ .

( وَأَمَّا ) اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ نَصًّا ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا ، أَوْ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هَذَا مَسْحٌ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَمَسْحِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدِ ، وَأَنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ ، وَالِاسْتِيعَابُ فِي الْأَصْلِ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ ، فَكَذَا فِي الْبَدَلِ ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ ، وَلَوْ تُرِكَ لَمْ يَجُزْ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ ، وَيَجُوزُ ، وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ مِنْ الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوُضُوءِ وَقَدْ مَرَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ قَدْرَ مَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَوْ الْغُسْلَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَفُوتُ إلَى خَلْفٍ ، وَمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ ، أَوْ يُحْدِثْ } جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ ، أَوْ الْحَدَثِ ؛ ، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ } ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ ، وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ ، ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ : عَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ ، وَالْمَعْنَى ، وَعَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ .

( أَمَّا ) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا ، عَنْهُ وَلَمْ يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِيلًا فَصَاعِدًا ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ ، وَالْمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخٍ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الْمَاءُ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَةً ، أَوْ يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا وَبَعْضُهُمْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُقِيمِ ، وَالْمُسَافِر ، فَقَالُوا : إنْ كَانَ مُقِيمًا يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كَانَ ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا ، وَالْمَاءُ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ جَلَبَةُ الْعِيرِ ، وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ ، أَوْ أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَإِنْ كَانَ يَغِيبُ عَنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْرَ فَرْسَخٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ لَوْ نُودِيَ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ فَهُوَ بَعِيدٌ ، وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ .
وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَلَى أَثَرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا ، فَلَا يَخْلُو عَنْ حَرَجٍ ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ ، أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : " لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا " وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَا لَهُ ثَبَتَ

الْجَوَازُ ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَرَجِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ ، وَغَيْرِهِ ، هَذَا إذَا كَانَ عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ ، أَوْ بِغَلَبَةِ الرَّأْي أَوْ أَكْبَرِ الظَّنِّ ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ .
وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ إمَّا قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا ، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَمْ يُوجَدْ ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ .
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ ، وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ .
هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا ، فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ ، ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ مَا لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ ، وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْ الْعُمْرَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ ظَاهِرًا ، وَغَالِبًا ، وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ قُرْبِ الْمَاءِ فَلَمْ يَسْأَلْهُ ، حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ ، وَأَعَادَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ وَلَوْ سَأَلَهُ لَأَخْبَرَهُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ ، وَإِنْ سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ ، حَتَّى تَيَمَّمَ ، وَصَلَّى ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ

وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ ، وَيَسَارِهِ قَدْرَ غَلْوَةٍ ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ ، وَصَلَّى قَبْلَ الطَّلَبِ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وَهَذَا يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ ، فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْعُمْرَانِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ ، إذْ الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ .
وَقَوْلُهُ : " الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ مِنْ الْوَاجِدِ " مَمْنُوعٌ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُعَرِّفْهَا } وَلَا طَلَبَ مِنْ الْمُلْتَقِطِ ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ ، ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي الْأَمَالِي : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَيَطْلُبُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ ، وَيَسَارِهِ ؟ قَالَ : إنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أَوْ بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْبُعْدِ ، وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ ، وَالْقُرْبِ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً ، وَخُرُوجًا ، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَعِيدًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا ، وَالْمَسْأَلَةُ

نَذْكُرُهَا بَعْدُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مَعَ قُرْبِ الْمَاءِ مِنْهُ ، نَحْوَ مَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لُصُوصٌ ، أَوْ سَبْعٌ ، أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى .
وَسُئِلَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مَاءٍ مَوْضُوعٍ فِي الْفَلَاةِ فِي الْجُبِّ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوْ يَتَوَضَّأَ بِهِ ؟ قَالَ : يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلشُّرْبِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لِلشُّرْبِ ، وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ ، أَوْ جُدَرِيٌّ أَوْ مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ ، حَتَّى يَخَافَ التَّلَفَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ، أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَرَضٍ ، وَمَرَضٍ ، إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الَّذِي

يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ .
وَرُوِيَ أَنَّ { وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْنَبَ ، وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ ، فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ، كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ } ، وَهَذَا نَصٌّ ؛ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ خَوْفُ الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَثَّرَ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ ، فَهَهُنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ ، فَخَوْفُ زِيَادَةِ الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَجِيرًا فَيُعِينُهُ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ ؛ أَوْ فِي الْمِصْرِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا مِنْ قَرِيبٍ ، أَوْ بَعِيدٍ يُعِينُهُ ، وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ ، وَلَوْ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ فِي الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ ، وَالدِّفْءِ

فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَلَمَّا رَجَعُوا شَكَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا : صَلَّى بِنَا ، وَهُوَ جُنُبٌ ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْنَبْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فَتَيَمَّمْتُ ، وَصَلَّيْتُ بِهِمْ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَلَكُمْ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ إنَّهُ كَانَ فِي مَفَازَةٍ ، أَوْ مِصْرٍ ، وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ فِعْلَهُ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ ، وَهِيَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَصْوَبَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَقَوْلُهُمَا : " إنَّ الْعَجْزَ فِي الْمِصْرِ نَادِرٌ " فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَوْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ مَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ ، وَلَكِنْ لَا ثَمَنَ لَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ السُّؤَالُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ فِي الْعَادَةِ لِقِلَّةِ خَطَرِهِ فَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ

الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبَذْلِ ، فَإِنْ سَأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَصْلًا أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ ، وَكَذَا إنْ كَانَ يُعْطِيهِ بِالثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ لَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَمَنٌ وَلَكِنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَلَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إلَّا بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ ، وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لَهُ الْقِتَالُ دُونَ مَالِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُ دُونَ نَفْسِهِ ، ثُمَّ خَوْفُ فَوَاتِ بَعْضِ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلتَّيَمُّمِ فَكَذَا فَوَاتُ بَعْضِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا يُذْكَرُ ، ثُمَّ قَدْرُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي هَذَا الْبَابِ مُقَدَّرٌ بِتَضْعِيفِ الثَّمَنِ ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ فَقَالَ : إنْ كَانَ الْمَاءُ يُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِدِرْهَمٍ ، وَهُوَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ ، وَنِصْفٍ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ ، وَإِنْ كَانَ يَبِيعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ، كَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ اعْتِبَارًا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَيَقَّنٌ بِهَا ،

لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً ، وَمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِهِمْ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ ، فَلَمْ تَكُنْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً ، فَلَا تُعْتَبَرُ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا رَأَى مَعَ رَفِيقِهِ مَاءً كَثِيرًا وَلَا يَدْرِي أَيُعْطِيهِ أَمْ لَا ؟ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ قَدْ صَحَّ ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَأَلَهُ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ تَوَضَّأَ ، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ ، لِأَنَّ الْبَذْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ دَلِيلُ الْبَذْلِ قَبْلَهُ ، وَإِنْ أَبَى فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَضْ مَا مَضَى ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ اسْتَحْكَمَ بِالْإِبَاءِ ، وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِبَاءِ ارْتَفَضَ بِالْبَذْلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا إنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ وَوَعَدَ صَاحِبَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِنَاءَ قَالَ : يَنْتَظِرُ ، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْوَعْدِ ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ظَاهِرًا ، فَيُمْنَعُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ ، وَكَذَا إذَا وَعَدَ الْكَاسِي الْعَارِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ ، وَفِي رَحْلِهِ مَاءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، حَتَّى صَلَّى ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ نَاسِيًا ، أَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ نَاسِيًا ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ لَا يُجْزِئُهُ ، وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا

أَنَّهُ نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً ، لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ فَكَانَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَالْتَحَقَ النِّسْيَانُ فِيهِ بِالْعَدَمِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الرَّحْلَ مَوْضِعُ الْمَاءِ عَادَةً غَالِبًا لِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إلَيْهِ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا فَإِذَا تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَا يُجْزِئُهُ كَمَا فِي الْعُمْرَانِ وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ ، وَالنِّسْيَانِ ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ الدَّلْوِ ، وَالرَّشَا وَقَوْلُهُ : " نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً " لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ جِبِلَّةٌ فِي الْبَشَرِ خُصُوصًا إذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ ، وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ ، وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ ، فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ غَيْرُ نَادِرٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " الرَّحْلُ مَعْدِنُ الْمَاءِ ، وَمَكَانُهُ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَاءِ الْمَوْضُوعِ فِي الرَّحْلِ هُوَ النَّفَاذُ لِقِلَّتِهِ ، فَلَا يَكُونُ بَقَاؤُهُ غَالِبًا فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ غَالِبًا وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا ، أَوْ مَعَ ثَوْبٍ نَجِسٍ ، وَفِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَهُ رَقَبَةٌ قَدْ نَسِيَهَا ، وَصَامَ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّةَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ رَقَبَةً كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ ، وَيُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ ، وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ الْمِلْكُ ، وَهَهُنَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ، وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ الْقُدْرَةُ ، أَلَا تَرَى

لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَلَوْ وَضَعَ غَيْرُهُ فِي رَحْلِهِ مَاءً ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ، ثُمَّ عَلِمَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ فَيَنْسَى ، وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ جُعِلَ عُذْرًا عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ مَوْضِعٌ لَا عِلْمَ فِيهِ أَصْلًا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا عِنْدَ الْكُلِّ .
وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ فِي رَحْلِهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ النِّسْيَانِ ، وَغَيْرَهَا .
وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ فَتَيَمَّمَ ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا ، بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ مَاءٌ ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِكَافِ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ سَائِقًا فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ ، وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
الْمَحْبُوسُ فِي الْمِصْرِ فِي مَكَان

طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ ، وَيُصَلِّي ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً بِسَبَبِ الْحَبْسِ ، فَأَشْبَهُ الْعَجْزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ، وَنَحْوِهِ ، فَصَارَ الْمَاءُ عَدَمًا مَعْنًى فِي حَقِّهِ ، فَصَارَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، فَالْقُدْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَكَمَا فِي الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَادِمٍ لِلْمَاءِ حَقِيقَةً ، وَحُكْمًا أَمَّا ، الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ إنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَالظُّلْمُ لَا يَدُومُ ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُرْفَعُ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ، فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ لِلْحَالِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَفْعِهِ إذَا كَانَ بِحَقٍّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُدْفَعُ وَلَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْجَوَازِ ثَابِتٌ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْعَجْزِ يَكْفِي لِتَوْجِيهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَأُمِرَ بِالْقَضَاءِ فِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ ثَابِتٌ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةً الْقُدْرَةُ دُونَ الْعَجْزِ الْحَالِي ، فَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، وَأَخْذًا بِالثِّقَةِ ، وَالِاحْتِيَاطِ ، وَصَارَ كَالْمُقَيَّدِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا أُطْلِقَ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ

وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى الْمَنْعِ الْحَقِيقِيِّ السَّفَرُ ، وَالْغَالِبُ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاء .

( وَأَمَّا ) الْمَحْبُوسُ فِي مَكَان نَجِسٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ، وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّشَبُّهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَذْهَبِهِ إذَا كَانَ الْمَكَانُ رَطْبًا ، أَمَّا إذَا كَانَ يَابِسًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِرُكُوعٍ ، وَسُجُودٍ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُومِئُ كَيْفَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ مُنَاجَاتِهِ الطَّاهِرَ لَا الْمُحْدِثَ ، وَالتَّشَبُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الْأَهْلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَلْزَمُهَا التَّشَبُّهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ أَهْلًا مِنْ وَجْهٍ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا احْتِيَاطًا مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ ، وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ عَلَى قَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ الِاجْتِيَازِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَاءِ فَكَانَ هَذَا الْمَاءُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ ، ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لَلْوُضُوءِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا ، ، وَلِلِاغْتِسَالِ إنْ كَانَ جُنُبًا ،

فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَوُجُودُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُمْنَعُ قَلِيلُهُ ، وَكَثِيرُهُ ؛ حَتَّى إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَغْسِلُ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَنَا مَعَ قِيَامِ ذَلِكَ الْمَاءِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ مَعَ قِيَامِهِ ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لَا غَيْرُ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ حَتَّى يَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ذَكَرَ الْمَاءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ ؛ ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ ، وَهِيَ الْحَدَثُ تُعْتَبَرُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُ بِهِ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ كَذَا هُنَا .
( وَلَنَا ) إنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغُسْلُ الْمُبِيحُ لِلصَّلَاةِ ، وَالْغُسْلُ الَّذِي لَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ وُجُودُهُ ، وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا ؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ إذَا لَمْ يُفِدْ الْجَوَازَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ سَفَهًا مَعَ أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الْمَاءِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَصَارَ كَمَنْ وَجَدَ مَا يُطْعِمُ بِهِ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فَنُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَكَذَا هَذَا ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِمَا قُلْنَا فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُقَيَّدُ ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُفِيدُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْغُسْلِ بِهِ ، كَمَا يُقَيَّدُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ .
وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ الْمَاءِ فِي بَابِ

الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ ، وَاعْتِبَارُهُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْحَدَثِ كَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، فَيَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ ، فَهَذَا مُحْدِثٌ وَلَيْسَ بِجُنُبٍ ، وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ ، فَيَتَوَضَّأُ بِهِ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْمَاءِ فَلَمْ يَغْتَسِلْ ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ عَلَى الْمَاءِ عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ فَعَادَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ، وَلَا يَنْزِعُ الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلتَّيَمُّمِ ، فَإِنْ تَيَمَّمَ ، ثُمَّ أَحْدَثَ .
وَقَدْ حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِمَا مَرَّ ، وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ بِالْمَاءِ عَادَ جُنُبًا فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ جِرَاحَةٌ ، أَوْ جُدَرِيٌّ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الصَّحِيحُ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَرَبَطَ عَلَى السَّقِيمِ الْجَبَائِرَ ، وَمَسَحَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ السَّقِيمَ تَيَمَّمَ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ ، وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ ؛ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُمْتَنِعٌ إلَّا فِي حَالِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ ، وَلَمْ يُوجَدْ

، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِبَعْضِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جِرَاحَةٌ ، أَوْ جُدَرِيٌّ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ اسْتَوَى الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ ، وَيَرْبِطُ الْجَبَائِرَ عَلَى السَّقِيمِ ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا ، وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فِيمَا وَرَاءَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، فَأَمَّا فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ الشَّرْطُ فِيهِمَا خَوْفُ الْفَوْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَتْهُ الْجِنَازَةُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَتَيَمَّمُ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا فَجَأَتْكَ جِنَازَةٌ تَخْشَى فَوْتَهَا وَأَنْت عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؛ فَتَيَمَّمَ لَهَا ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُهُ ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّيَمُّمِ فِي الْأَصْلِ لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَفُوتُ فَضِيلَةُ الْأَدَاءِ فَقَطْ ، فَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فَمُمْكِنٌ ، وَهَهُنَا تَفُوتُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَصْلًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِعَادَةِ ، فَلَا يَخَافُ الْفَوْتَ ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تُقْضَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ قَائِمٌ ، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ

إلَى خَلَفٍ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى ، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَا يُخَافُ فَوْتُهَا رَأْسًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ ، وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ .
هَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْكُلِّ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْبَعْضَ لَا يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي وَحْدَهُ ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مُتَيَمِّمًا ، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ جَازَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ مِنْ الْأَصْلِ لَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ .
وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِيهَا مُتَوَضِّئًا ، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ زَالَتْ الشَّمْسُ تَيَمَّمَ وَبَنَى ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ زَوَالَ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ تَوَضَّأَ وَلَا يَتَيَمَّمُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُتِمُّ الْبَاقِي وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُوَ إدْرَاكَ الْإِمَامِ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُبَاحُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ ؛ لِازْدِحَامِ النَّاسِ ، فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ عَارِضٍ يُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ ، فَكَانَ فِي الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛

فَيَتَيَمَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ - فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ ، لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ ، ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا ، فَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ ، أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ .
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ ، أَوْ الْجَنَابَةَ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ؛ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ يَتَأَدَّيَانِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَنَابَةِ ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هُوَ لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ ، وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أَوْ لِلْجَنَابَةِ .
وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا دُونَهَا أَوْ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا أَوْلَى .
وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كَانَ جُنُبًا جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ

لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ ، وَلَا هُوَ ؛ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ ؛ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ لَهُ لَا غَيْرُ .

( وَمِنْهَا ) الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ ، وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ ، وَالْإِسْلَامُ يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ طَهُورًا وَلِهَذَا لَوْ تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ .
وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّيَمُّمِ لَمْ يَرْتَكِبْ نَهْيًا ، وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخِّرًا لِلْإِسْلَامِ ، وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِصْيَانِ ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا أَوْلَى مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا ، فَزُفَرُ يَجْمَعُ

بَيْنَ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْكَافِرِ فَلَا يَبْقَى طَهَارَةً فِي حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ طَهَارَةٌ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا تَبْقَى طَهَارَةٌ مَعَهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّيَمُّمَ وَقَعَ طَهَارَةً صَحِيحَةً فَلَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّدَّةِ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ ، وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ طَهُورٌ ، وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الطَّهُورِيَّةِ كَمَا لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الْوُضُوءِ ، وَاحْتِمَالُ الْحَاجَةِ بَاقٍ ، لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ طَهَارَةً مَعَ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ طَهَارَةً لِلْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ زَائِلَةٌ لِلْحَالِ بِيَقِينٍ ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ مَعَ مَا أَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ عَلَى مُوجِبِ دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ مُنْقَطِعٌ ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْعَدِمٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَلَا طِيبَ مَعَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ بِأَرْضِ قَدْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ الْكَاسِّ النَّخَعِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ أَرْضًا بِذَهَابِ أَثَرِهَا ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ؛ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا أَيْضًا ( وَلَنَا ) أَنَّ إحْرَاقَ الشَّمْسِ وَنَسْفَ الْأَرْضِ أَثَرُهَا فِي تَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ دُونَ اسْتِئْصَالِهَا .
وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ تُنَافِي وَصْفَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ ، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَلِيلُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ لَوْ وَقَعَتْ فِي الْإِنَاءِ تَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ ، وَلَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ مِنْ مَكَان ، ثُمَّ تَيَمَّمَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الْمُسْتَعْمَلَ مَا الْتَزَقَ بِيَدِ الْمُتَيَمِّمِ الْأَوَّلِ لَا مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَاءٍ فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ أَوْ اغْتِسَالِهِ بِهِ ، وَذَلِكَ طَهُورٌ فِي حَقِّ الثَّانِي كَذَا هَذَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ فَسَّرَ الصَّعِيدَ بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ ، وَهُوَ مُقَلِّدٌ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ التُّرَابُ دُونَ السَّبِخَةِ وَنَحْوِهَا ، ( وَلَهُمَا ) أَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنْ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، وَهُوَ الصَّاعِدُ .
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : إنَّهُ اسْمٌ لِمَا تَصَاعَدَ ، حَتَّى قِيلَ لِلْقَبْرِ صَعِيدٌ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَالَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا ، ثُمَّ قَالَ { : أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ } .
وَرُبَّمَا تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ فِي الرَّمْلِ ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِنْبَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، ( وَأَمَّا )

قَوْلُهُ سَمَّاهُ طَيِّبًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّيِّبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجِسِ فَخَرَجَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، الْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْأَرْضِ ، فَكُلُّ مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا ، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ ، وَعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ الصَّعِيدِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ ، ( وَعِنْدَ ) أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ : مَسُّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ وَإِمْرَارُهُمَا عَلَى الْعُضْوَيْنِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ ، وَالْكُحْلِ وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ وَالْمُجَصَّصِ وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ وَالْمَرْدَاسِنْجِ الْمَعْدِنِيِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ ، وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَالطِّينِ الرَّطْبِ ، .
( وَعِنْدَ ) مُحَمَّدٍ إنْ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا غُبَارٌ أَوْ كَانَ مَدْقُوقًا يَجُوزُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ

اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، فَأَمَّا ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى مَا لَهُ صَلَابَةٌ وَمَلَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْهُ ، فَضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَقَوْلُهُ : " الِاسْتِعْمَالُ شَرْطٌ " مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ الْمُثْلَةِ ، وَعَلَامَةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِنَفْضِ الْيَدَيْنِ بَلْ الشَّرْطُ إمْسَاسُ الْيَدِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَشَبِ ، وَكَذَا بِاللَّآلِئِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْقُوقَةً أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْحَيَوَانِ .
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ لِبَدٍ أَوْ صُفَّةِ سَرْجٍ فَارْتَفَعَ غُبَارًا ، وَكَانَ عَلَى الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِيهِ ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّعِيدِ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ الصَّعِيدِ ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ وَهُوَ اسْمُ لِلتُّرَابِ الْخَالِصِ ، وَالْغُبَارُ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَلْ هُوَ تُرَابٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَلَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ ، ( وَلَهُمَا ) أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لِيَنْفُضْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ أَوْ صُفَّةَ سَرْجِهِ ، وَلْيَتَيَمَّمْ وَلْيُصَلِّ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا ، وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ .
وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ .
وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكٌ ، وَهُوَ يَلْتَزِقُ بِالْيَدِ فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ بِالْإِيمَاءِ ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ كَمَا لِمَحْبُوسٍ فِي الْمَخْرَجِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ فَهُوَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فِي صَدْرِ فَصْلِ التَّيَمُّمِ ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَتَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِمُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ إيَّاهُ ، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مُلْحَقَانِ بِالْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مِنْهُمَا لِعُمُومِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ ، ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ - فَالْأَوْقَاتُ كُلُّهَا وَقْتٌ لِلتَّيَمُّمِ حَتَّى يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ أَمْ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ ؟ فَعِنْدَنَا بَدَلٌ مُطْلَقٌ ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ ، وَسَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَالضَّرُورِيِّ وَدَلِيلَهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) الثَّانِي - وَهُوَ بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلتَّيَمُّمِ ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يُؤَخَّرُ .
وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ، أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ لَا يُؤَخِّرُ وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ أَوْ لَا يَرْجُو .
وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ بَلْ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْمُعَلَّى تَفْسِيرًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : لَا يُؤَخِّرُ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مُسَافِرٍ أَجْنَبَ يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ؛ فَإِذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ كَانَ فِي التَّأْخِيرِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَكَانَ

التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرْجَ لَا يُسْتَحَبُّ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ ، لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مِيلًا فَصَاعِدًا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِمَا يُذْكَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقُرْبِ الْمَاءِ أَوْ بُعْدِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ أَوْ لَا ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ قَبْلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا ، وَاحْتِمَالُ الْوُجُودِ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ ، وَلَوْ أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَكِنَّهُ يَخَافُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْقُرْبُ وَالْبَعْدُ لَا الْوَقْتُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْوَقْتُ لَا قُرْبُ الْمَاءِ وَبُعْدُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ فَيَتَيَمَّمُ كَيْ لَا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عَنْ الْوَقْتِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُهُ أَصْلًا بَلْ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ أَصْلًا لِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ فِيهَا لِخَوْفِ الْفَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ التَّيَمُّمِ فَهِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ ، لِأَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِحَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - الْخِلَافُ فِيهِ مَعَ غَيْرِ أَصْحَابِنَا ، وَالثَّانِي مَعَ أَصْحَابِنَا ، ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ وَعَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّيَمُّمُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ ، وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ : لِتَصْحِيحِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُزِيلُ هَذَا الْحَدَثَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَأَى الْمَاءَ تَعُودُ الْجَنَابَةُ وَالْحَدَثُ ، مَعَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ لَكِنْ أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ } فَقَدْ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ قَبْلَ

دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَتَتَقَدَّرُ بَدَلِيَّتُهُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ فِي الْوَقْتِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ مَا تَيَمَّمَ لِأَجْلِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْفَرَائِضِ ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ لَا يَقِفُ عَلَى وُجُودِ عِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ شَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ فِيهِ ، بَلْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ يَكْفِي لِثُبُوتِهِ فِي التَّبَعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَبْنِي أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّفْلِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ لَا يَسْتَتْبِعُ الْأَصْلَ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ رَأْسًا ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالضَّرُورَةُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي النَّوَافِلِ ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الطَّهَارَةُ لِأَجْلِهِ ؛ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا هَهُنَا ، ( وَأَمَّا ) الْخِلَافُ الَّذِي مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَوْ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : إنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ

عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِتَصْحِيحِ أَصْلِهِ بِالْحَدِيثِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ } الْحَدِيثُ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا دُونَ التُّرَابِ ، وَهُمَا احْتَجَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ : تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَقَامَ الصَّعِيدَ مَقَامَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ } وَقَالَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ جَازَتْ إمَامَتُهُ إيَّاهُمْ ، وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ فِي قَوْلِ ، أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ ، كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَالْمُقْتَدِي إذَا كَانَ عَلَى وُضُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَيَمُّمُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِ ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ ، فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، كَالصَّحِيحِ إذَا اقْتَدَى بِصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ، فَلَمْ تُعْتَبَرْ طَهَارَتُهُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا ، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ عِنْدَهُمَا فَإِذَا

لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُقْتَدِينَ مَاءٌ كَانَ التُّرَابُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ ، فَيَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُقَارِنُهَا أَوْ يَطْرَأُ عَلَيْهَا فَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ فَلَا يَبْقَى التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِمْ ، فَلَمْ تَبْقَ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَيَمِّمُ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ ، ثُمَّ رَأَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ وَالْآخَرُونَ ، حَتَّى فَرَغُوا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَفْسُدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ فِي نَفْسِهِ ، فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدَةً فِي حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ، .
( وَلَنَا ) أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ جُعِلَتْ عَدَمًا فِي حَقِّهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ ، إذْ لَا يَبْقَى الْخَلْفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَصَارَ مُعْتَقِدًا فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً : فَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ ، وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَرِيَّةٍ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فَهُوَ

مَذْهَبُهُ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ ، عَلَى أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَمَّ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ } ثُمَّ لَوْ أَمَّ جَازَ كَذَا هَذَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ نَوْعَانِ : عَامٌّ ، وَخَاصٌّ أَمَّا الْعَامُّ فَكُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا الْخَاصُّ : وَهُوَ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْخُصُوصِ فَوُجُودُ الْمَاءِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَصْلًا ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لَا تُنْقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ ، وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ } جَعَلَ التَّيَمُّمَ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ ، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلْفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا .
وَقَوْلُهُ : " وُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ ، " مُسَلَّمٌ وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِوُجُودِ الْمَاءِ ، بَلْ الْحَدَثُ السَّابِقُ يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ .

ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ نَوْعَانِ : وُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ ، وَأَنَّهُ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ وَوُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ دُونَ الْمَعْنَى : وَهُوَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَهَذَا لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ ، حَتَّى لَوْ مَرَّ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ، أَوْ كَانَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .

وَكَذَا لَوْ مَرَّ عَلَى مَاءٍ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ إلَيْهِ ؛ لِخَوْفِ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَقَالَ : هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ .

وَكَذَا إذَا أَتَى بِئْرًا وَلَيْسَ مَعَهُ دَلْوٌ أَوْ رِشَاءٌ أَوْ وَجَدَ مَاءً وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ ؛ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً مَوْضُوعًا فِي الْفَلَاةِ فِي جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ ، عَلَى قِيَاسِ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلسُّقْيَا دُونَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِالْكَثْرَةِ عَلَى أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا ؛ فَيُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ نَقَضَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ وَمَا لَا فَلَا .

ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ أَوْ الِاغْتِسَالِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لَا يُنْقَضُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ وَالْخِلَافُ فِي الْبَقَاءِ كَالْخِلَافِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْمُتَيَمِّمِينَ وَجَدُوا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدُهُمْ اُنْتُقِضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِيَقِينٍ وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ احْتِيَاطًا وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مَاءٌ فَقَالَ : أَبَحْتُ لَكُمْ هَذَا الْمَاءَ يَتَوَضَّأُ بِهِ أَيُّكُمْ شَاءَ ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمْ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَالَ : هَذَا الْمَاءُ لَكُمْ لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ رَأْسًا .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْهِبَةُ وَإِنْ صَحَّتْ وَأَفَادَتْ الْمِلْكَ لَكِنْ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَكْفِي لِوُضُوئِهِ ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ أَذِنُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَعِنْدَهُ الْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ .

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ : مُسَافِرٌ مُحْدِثٌ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِي لِأَحَدِهِمَا غَسَلَ بِهِ الثَّوْبَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ أَغْلَظُ النَّجَاسَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا جَوَازَ لَهَا مَعَ الْحَدَثِ بِحَالٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الصَّرْفَ إلَى النَّجَاسَةِ يَجْعَلُهُ مُصَلِّيًا بِطَهَارَتَيْنِ حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ ، ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّيَمُّمِ لَا يَجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ تَجُوزُ بِهِ صَلَاتُهُ .

وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ ، وَتَوَضَّأَ بِهِ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا ، وَفِي قَوْلٍ يَقْرُبُ الْمَاءُ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ وَفِي قَوْلٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، كَمَا إذَا رَأَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الرُّؤْيَةُ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مَعْنًى ، كَمَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ انْعَقَدَتْ مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَتَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَلَوْ أَتَمَّهَا لَأَتَمَّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ .
وَقَوْلُهُ : إنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فَلَا تُبْطِلُ الطَّهَارَةَ قُلْنَا : بَلَى ، وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ بَلْ تَنْتَهِي لِكَوْنِهَا مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ الرُّؤْيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ عِنْدَنَا ، بَلْ بِالْحَدَثِ السَّابِقُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَة فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ فَظَهَرَ أَثَرُ الْحَدَثِ السَّابِقِ وَصَارَ كَخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ .

وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ، أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاثْنَا عَشْرِيَّةَ وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُصَلِّي مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لَوْ وُجِدَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يُفْسِدُهَا إنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، مِثْلُ الْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ فَرْضٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ .

وَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُصَلِّي بَلْ هُوَ مَعْنًى سَمَاوِيٌّ لَكِنَّهُ لَوْ اعْتَرَضَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هَلْ يُفْسِدُهَا ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُفْسِدُهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُفْسِدُهَا ، وَذَلِكَ كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ مَاءً ، وَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا انْقَضَى وَقْتُ مَسْحِهِ ، وَالْعَارِي يَجِدُ ثَوْبًا ، وَالْأُمِّيِّ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ السَّيَلَانُ ، وَصَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً ، وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَسُقُوطِ الْخُفِّ عَنْ الْمَاسِحِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ وَاسِعًا بِدُونِ فِعْلِهِ ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُصَلِّي الْفَجْرِ وَالْمُومِئِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، وَالْقَارِئِ إذَا اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا ، وَالْمُصَلِّي بِثَوْبٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَقَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَالْمُصَلِّي إذَا سَقَطَ الْجَبَائِرُ عَنْهُ عَنْ بُرْءٍ .
وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا جَمَعْنَاهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَتَيْسِيرًا لِلْحِفْظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لِانْتِهَاءِ أَرْكَانِهَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ : إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ } وَالصَّلَاةُ بَعْدَ تَمَامِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسَادَ ، وَلِهَذَا لَا تَفْسُدُ بِالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ

وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِفِعْلِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الصَّلَاةَ بِالتَّمَامِ ، وَلَا تَمَامَ يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ ، وَكَذَا إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ وَانْتِهَاءَهُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ مُحَالٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَهَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ التَّحْرِيمَةِ ، وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ ، فَأَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَيَسْتَدْعِي بَقَاءَ التَّحْرِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الرُّكْنِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا ؛ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ ضِدُّ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا ، وَضِدُّ الشَّيْءِ كَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لَهُ ؟ وَلِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْصُلُ الْخُرُوجُ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْكَلَامِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا ؟ .
وَالْوَجْهُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِدَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ ، بَلْ بِوُجُودِهَا يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ فَاسِدَةً ، ( وَبَيَانُ ) ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الْحَدَثُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُزِيلُهُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلْحَرَجِ كَيْ لَا تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ فَيُخْرَجَ فِي قَضَائِهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَدَثِ السَّابِقِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَلَا حَرَجَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فَإِنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الرُّكْنُ

الْأَخِيرُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرُّكْنِ كَالْقِرَاءَةِ إذَا طَالَتْ فَظَهَرَ فِيهَا حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اعْتَرَضَ هَذَا الْمَعْنَى فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَضَى وَقْتُ الْمَسْحِ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ وُجِدَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ عَنْ الْقِدَمِ حَقِيقَةً ، لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ فِيمَا أَدَّى مِنْ الصَّلَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالْتَحَقَ الْمَانِعُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ .
وَلَا حَرَجَ فِيمَا لَمْ يُؤَدَّ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَ خُفُّهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَكَذَا صَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ ، وَمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ ، وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ إنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا لِمَا قُلْنَا مِنْ الْجُرْحِ ، وَلَا حَرَجَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا الْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا ، وَالْمُومِئُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، وَالْأُمِّيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ وَالْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ فَرْضٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا ، وَالسُّقُوطُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ الصَّوْمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ سَقَطَ ؛ لِأَجْلِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ نَظِيرَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ ثَمَّةَ أَصْلًا وَهَهُنَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ قَبْلَ وَقْتِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ

النِّسْيَانَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ ، وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ .
وَعَلَى هَذَا الْمُصَلِّي إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ عَنْ يَدِهِ عَنْ بُرْءٍ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَادِرِ ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ لِلْعَجْزِ ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى بَعْدَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ ، وَفِيهِ هَذِهِ الصَّلَاة لَا حَرَجَ .
وَأَمَّا قَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ وَالْمُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ نَاقِصٌ ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ فَلَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَكِنَّهُ يَقَعُ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِيهِ جَائِزٌ فَيَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا وَعَلَى هَذَا مُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَامِلًا ، لِأَنَّ الْوَقْتَ النَّاقِصَ قَلِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَجِبُ نَاقِصًا بَلْ كَامِلًا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فِيهِ صَارَ نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعَصْرِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْوَقْتَ النَّاقِصَ مِمَّا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَجِبُ نَاقِصًا وَقَدْ أَدَّاهُ نَاقِصًا فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ : أَنَّ الظُّهْرَ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ عَرَفْنَاهَا بِالنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى ، وَالْوَقْتُ مِنْ شَرَائِطِهِ ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرَ الْمَخْصُوصِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ .
فَظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الظُّهْرُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْفَسَادَ لِوُجُودِ

هَذِهِ الْعَوَارِضِ ؛ لِأَنَّهَا نَوَاقِضُ الصَّلَاةِ وَقَدْ صَادَفَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَأَوْجَبَ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ تَسْتَغْنِي الصَّلَاةُ عَنْهَا ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ ، فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَرَضَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْأَصْلِيِّ ، وَلَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهِ ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ وَبِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ ، تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ صَلَاةً إذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَمَعَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا .
وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النُّقْصَانِ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مَا مَرَّ ، هَذَا إذَا وَجَدَ فِي الصَّلَاةِ مَاءً مُطْلَقًا .

، فَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَشُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَقْطَعُ بِالشَّكِّ ، بَلْ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا تَوَضَّأَ بِهِ وَأَعَادَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُطَهَّرًا فِي نَفْسِهِ مَا جَازَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُطَهَّرٍ فِي نَفْسِهِ جَازَتْ بِهِ صَلَاتُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ احْتِيَاطًا .

وَإِنْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْتَقِضُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ طَهُورًا أَصْلًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ هَذَا كُلُّهُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ ، .

فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ عِنْد عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُعِيدُ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْوَقْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ شَرْعًا كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَكَانَ الْوُجُودُ فِي الْوَقْتِ كَالْوُجُودِ فِي أَثْنَاءِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً ؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَطَلَ الْبَدَلُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى أَوْ أَحَجَّ ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، .
( وَلَنَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ ، فَإِذَا صَلَّى حَالَةَ الْعَدَمِ فَقَدْ أَدَّى الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَةٍ وَصَلَّيَا وَأَدْرَكَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَعَادَ : أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أُوتِيتَ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ عَنْكَ } .
أَيْ كَفَتْكَ جَزَى وَأَجْزَأَ مَهْمُوزًا بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ ، وَهَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْوُجُودِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَنَعَمْ ، لَكِنْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ ، كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ ، بِخِلَافِ

الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ وَفَدَى عَنْ صَوْمِهِ ، ثُمَّ قَدَرَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِحْجَاجِ وَالْفِدْيَةِ مُعَلَّقٌ بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَالصَّوْمِ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا قَدَرَ بِنَفْسِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَأْسَ ، فَأَمَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ فَمُعَلَّقٌ بِالْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْعَجْزُ كَانَ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الصَّلَاةِ ، وَبِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا عَجْزَ فَهُوَ الْفَرْقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ - وَهِيَ الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجِسِ - فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِهِ نَجِسًا شَرْعًا وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ النَّجِسِ .

( وَأَمَّا ) أَنْوَاعُ الْأَنْجَاسِ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَنْ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ أَوْ الْغُسْلُ فَهُوَ نَجِسٌ ، مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ ، وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالدَّمِ السَّائِلِ مِنْ الْجُرْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِ ذَلِكَ مُسَمًّى بِالتَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ، حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ .
وَقَالَ تَعَالَى { : وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، وَالتَّحْرِيمُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذْ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْمَنِيِّ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ زَعَمَ أَنَّهُ طَاهِرٌ ( وَاحْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا الْإِعَادَةُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمَنِيُّ كَالْمُخَاطِ فَأَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِالْإِذْخِرِ شَبَّهَهُ بِالْمُخَاطِ ، وَالْمُخَاطُ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَذَا الْمَنِيُّ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِمَاطَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِقَذَارَتِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ

يَكُونَ نَجِسًا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ النُّخَامَةِ ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : مَا تَصْنَعُ يَا عَمَّارُ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رِكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ ، إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ : بَوْلٍ ، وَغَائِطٍ ، وَقَيْءٍ ، وَمَنِيٍّ ، وَدَمٍ } أَخْبَرَ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ يَكُونُ نَجِسًا فَدَلَّ أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : { إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِك فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَحُتِّيهِ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ نَجِسًا ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِهِ أَغْلَظُ الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ الِاغْتِسَالُ ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ ، وَغِلَظُ الطَّهَارَةِ يَدُلَّ عَلَى غِلَظِ النَّجَاسَةِ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلِأَنَّهُ يَمُرُّ بِمِيزَابِ النَّجَسِ فَيَنْجَسُ بِمُجَاوَرَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا بِنَفْسِهِ وَكَوْنُهُ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا وَلَا عُمُومَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَتَشْبِيهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إيَّاهُ بِالْمُخَاطِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحُكْمِ لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْمُخَاطِ ، وَالْأَمْرُ بِالْإِمَاطَةِ بِالْإِذْخِرِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْإِمَاطَةِ كَيْ لَا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ فَيَتَعَسَّرُ غَسْلُهُ .

( وَأَمَّا ) الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقَيْءُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ ، هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : إنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ بِنَفْسِهِ ، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وَالرِّجْسُ : هُوَ النَّجِسُ ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَاهَا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا نَجِسَ سِوَاهَا إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُحَرَّمًا ، إذْ النَّجَسُ مُحَرَّمٌ ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَوَجْهٌ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ نَفَى حُرْمَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ ، وَأَثْبَتَ حُرْمَةَ الْمَذْكُورِ ، وَعَلَّلَ لِتَحْرِيمِهِ بِأَنَّهُ رِجْسٌ - أَيْ نَجِسٌ - وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ نَجِسًا لَكَانَ مُحَرَّمًا ؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهِ ، وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل لَا يُنَجِّسُهُ ، وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ لِلضَّرُورَةِ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ ، وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا ، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي

عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ فَلَوْ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا بِالنَّصِّ ، وَبِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَدَمُ الْأَوْزَاغِ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ سَائِلٌ ، وَكَذَا الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا قُلْنَا ، بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى .

( وَأَمَّا ) دَمُ السَّمَكِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدِّمَاءِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إبَاحَةِ تَنَاوُلِهِ مَعَ دَمِهِ ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَاءٌ تَلَوَّنَ بِلَوْنِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَوِيَّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ ، وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ فِي الثِّيَابِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ وَإِمْكَانِهِ فِي الثَّوْبِ .

( وَمِنْهَا ) مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِنْ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، ( أَمَّا ) الْأَبْوَالُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَوْلَ كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ نَجِسٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا } مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ فِي الرِّجْسِ شِفَاءٌ } فَثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ ( وَلَهُمَا ) حَدِيثُ عَمَّارٍ { إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ ، } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبَوْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وقَوْله تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهُ ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ - لَا لِاحْتِرَامِهِ وَكَرَامَتِهِ - تَنْجِيسٌ لَهُ شَرْعًا ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ الطَّبِيعِيُّ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى فَسَادٍ وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ ، فَصَارَ كَرَوْثَةِ وَكَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِشُرْبِ أَلْبَانِهَا دُونَ أَبْوَالِهَا ، } فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ شِفَاءَهُمْ فِيهِ ، وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ عِنْدَ التَّيَقُّنِ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ

الْمَخْمَصَةِ ، وَالْخَمْرِ عِنْد الْعَطَشِ ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ وَإِنَّمَا لَا يُبَاحُ بِمَا لَا يُسْتَيْقَنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ حَرَامٌ ، وَكَذَا بِمَا لَا يُعْقَلُ فِيهِ الشِّفَاءُ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ شِفَاءَ أُولَئِكَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الْأَرْوَاثُ فَكُلُّهَا نَجِسَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ زُفَرُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ الشُّبَّانَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي السَّفَرِ كَانُوا يَتَرَامَوْنَ بِالْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ ، وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا مَسُّوهَا ، وَعَلَّلَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ وَقُودُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ ، فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ : إنَّهَا رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ ؛ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى نَتِنٍ وَخُبْثِ رَائِحَةٍ مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، فَكَانَتْ نَجِسَةً .

( وَمِنْهَا ) خُرْءُ بَعْضِ الطُّيُورِ مِنْ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطُّيُورَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَنَوْعٌ يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ .
( أَمَّا ) مَا لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فَخُرْؤُهُمَا نَجِسٌ ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَقْذَرًا لِتَغَيُّرِهِ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادِ رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ الْعَذِرَةَ ، وَفِي الْإِوَزِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، ( وَمَا ) يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ نَوْعَانِ أَيْضًا : مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، كَالْحَمَامِ ، وَالْعُصْفُورِ ، وَالْعَقْعَقِ ، وَنَحْوِهَا ، وَخُرْؤُهَا طَاهِرٌ ، عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّبْعَ قَدْ أَحَالَهُ إلَى فَسَاد فَوُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ وَالْعَذِرَةَ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَادُوا اقْتِنَاءَ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا تَذْرِقُ فِيهَا ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ حَمَامَةً ذَرَقَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَهُ وَصَلَّى ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعُصْفُورِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ إحَالَةِ الطَّبْعِ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَحِيلِ نَتْنٌ وَخُبْثُ رَائِحَةٍ تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هَهُنَا عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكَانَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ كَدَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَحَكَى مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَئِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ

مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا .

وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، خَرْؤُهَا طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ ؛ لِإِحَالَةِ الطَّبْعِ إيَّاهُ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَسْكُنُ الْمُرُوجَ وَالْمَفَاوِزَ بِخِلَافِ الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ، ( وَلَهُمَا ) أَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا ، وَكَذَا الْمُخَالَطَةُ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَذْرِقَانِ فِي الْهَوَاءِ فَكَانَتْ الصِّيَانَةُ مُمْكِنَةً ، وَخُرْءُ الْفَأْرَةِ نَجِسٌ ؛ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ بَوْلُهَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ بَلْخٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ اُبْتُلِيتُ بِهِ لَغَسَلْتُهُ فَقِيلَ لَهُ : مَنْ لَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فِيهِ ؟ فَقَالَ : لَا آمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ .

وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ فِي الْهَوَاءِ وَهِيَ فَأْرَةٌ طَيَّارَةُ فَلِهَذَا تَبُولُ .

( وَمِنْهَا ) الْمَيْتَةُ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَيْتَاتِ أَنَّهَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا - مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ وَالثَّانِي مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ .
( أَمَّا ) الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ : فَالذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَالسَّرَطَانُ وَنَحْوُهَا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ ، إلَّا الذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ فَلَهُ فِيهِمَا قَوْلَانِ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَوْتُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ، ثُمَّ اُنْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ دَوَاءٌ } وَهُوَ يُقَدِّمُ الدَّاءَ عَلَى الدَّوَاءِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الذُّبَابَ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ إذَا مَقَلَ فِي الطَّعَامِ الْحَارِّ يَمُوتُ ، فَلَوْ أَوْجَبَ التَّنْجِيسُ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمَقْلِ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الْمَالِ وَإِضَاعَتِهِ ، مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ ، وَحَاشَا أَنْ يَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ ، وَلِأَنَّا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا فَأَشْبَهَ مَوْتَ الدُّودَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ الْخَلِّ فِيهِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ ، مَعَ مَا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مَخْصُوصَانِ عَنْ النَّصِّ إذْ هُمَا مَيْتَتَانِ بِنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُخَصِّصُ انْعِدَامُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَلَا خِلَافَ فِي الْأَجْزَاءِ الَّتِي فِيهَا دَمٌ مِنْ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ ؛ لِاحْتِبَاسِ الدَّمِ النَّجِسِ فِيهَا ، وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ .
( وَأَمَّا ) الْأَجْزَاءُ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ ، وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ ، وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ ، فَلَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ ، وَلِأَصْحَابِنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَا حَيَاةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ مَيْتَةً ، وَالثَّانِي - أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَعَلَى هَذَا مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَانُ جُزْءًا فِيهِ دَمٌ كَالْيَدِ وَالْأُذُنِ وَالْأَنْفِ وَنَحْوِهَا ، فَهُوَ نَجِسٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَمٌ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهَا ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَأَمَّا الْإِنْفَحَةُ الْمَائِعَةُ وَاللَّبَنُ فَطَاهِرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجِسَانِ ، ( لَهُمَا ) أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَارَ نَجِسًا لِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } .
وَصَفَ اللَّبَنَ مُطْلَقًا بِالْخُلُوصِ وَالسُّيُوغِ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، وَذَا آيَةُ

الطَّهَارَةِ وَكَذَا الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْمِنَّةِ فِي مَوْضِعِ النِّعْمَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ النَّجِسُ ، إذْ لَا خُلُوصَ مَعَ النَّجَاسَةِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرنَا مِنْ الْحُكْمِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ ، فَأَمَّا حُكْمُهَا فِيهِمَا : فَأَمَّا الْآدَمِيُّ : فَعَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ نَجِسَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَالصَّلَاةُ مَعَهَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَزْنًا أَوْ عَرَضًا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ يُفْسِدُهُ وَفِي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا ، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مِنْ الْكَلْبِ نَجِسَةً مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا احْتِرَامًا لِلْآدَمِيِّ ، كَمَا إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مَعَ الْحِنْطَةِ أَوْ عَظْمُهُ لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخُبْزِ الْمُتَّخَذِ مِنْ دَقِيقِهَا لَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا بَلْ تَعْظِيمًا لَهُ كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَنَاوَلًا مِنْ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ كَذَا هَذَا .

( وَأَمَّا ) الْخِنْزِيرُ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ رِجْسًا فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ شَعْرِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ ، إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا نَصًّا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ، وَلَوْ وَقَعَ شَعْرُهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ كَشَعْرِ غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْهُ طَاهِرَةٌ ؛ لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِنْزِيرِ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ لَعَيْنِهِ .

( وَأَمَّا ) الْكَلْبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ أَمْ لَا وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَقَدْ أَلْحَقَهُ بِالْخَنَازِيرِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَقَدْ جَعَلَهُ مِثْلَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْخِنْزِيرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ .

( وَمِنْهَا ) سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْأَسْآرِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ طَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ، وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ ، وَنَوْعٌ مَكْرُوهٌ ، وَنَوْعٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ .

( أَمَّا ) السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمُتَّفَقُ عَلَى طَهَارَتِهِ فَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ بِكُلِّ حَالٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا حَائِضًا أَوْ جُنُبًا ، إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَلَ الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ فَشَرِبَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { شَرِبَتْ مِنْ إنَاءٍ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهَا حُبًّا لَهَا فَشَرِبَ } ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ - وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ - فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ ، وَقِيلَ : هَذَا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ ، فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ابْتَلَعَ بُزَاقَهُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، يَكُونُ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - خِلَافًا لَهُمَا - بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالثَّانِيَةُ - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، لَكِنْ اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ الصَّبَّ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَالثَّانِي - أَنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَرِهُوا سُؤْرَ الْمُشْرِكِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَعِنْدَنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَجَاسَةِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي

الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ } ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُهُمْ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ مَعَ أَمْرِهِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ انْزِوَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ النُّخَامَةِ مَعَ طَهَارَتِهَا وَكَذَا سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ إلَّا الْإِبِلَ الْجَلَّالَةَ وَالْبَقَرَةَ الْجَلَّالَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ } ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْبَقَرَةِ الْجَلَّالَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ ؛ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا يُكْرَهُ ، ( وَصِفَةُ ) الدَّجَاجَةِ الْمَحْبُوسَةِ أَنْ لَا يَصِلَ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا فَإِنْ كَانَ يَصِلُ فَهِيَ مُخَلَّاةٌ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ بَحْثِ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ .
وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ ؛ لِطَهَارَةِ لَحْمِهِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ : - كَمَا فِي لَحْمِهِ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ طَاهِرٌ كَلَحْمِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِتَقْلِيلِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ ، وَآلَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي السُّؤْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) السُّؤْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : طَاهِرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا طَاهِرٌ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ .
( أَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ يَحُجُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ، وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ ، إلَّا أَنَّهُ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ كَالْآدَمِيِّ ، وَكَذَا الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ طَهَارَتِهِ تَعَبُّدًا ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ ثَلَاثًا ، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسًا ، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعًا } وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ لَمْ يَكُنْ تَعَبُّدًا ، إذْ لَا قُرْبَةَ تَحْصُلُ بِغَسْلِ الْأَوَانِي ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ صَبَّ الْمَاءِ فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ الْغَسْلُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لِنَجَاسَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لُحُومِهَا ، وَلُحُومُهَا نَجِسَةٌ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ سُؤْرِهَا وَصِيَانَةِ الْأَوَانِي عَنْهَا ؛ فَيَكُونُ نَجِسًا ضَرُورَةً .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ : أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا } وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا يَرِدُهَا مِنْ السِّبَاعِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ وَطَهُورٌ } وَهَذَا نَصٌّ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا وَرَدَا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ : أَتَرِدُ السِّبَاعُ حَوْضَكُمْ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرُنَا وَلَوْ لَمْ يَتَنَجَّسْ الْمَاءُ الْقَلِيلُ بِشُرْبِهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِلنَّهْيِ مَعْنًى ؛ وَلِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَيُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا ، وَيَخْتَلِطُ بِشُرْبِهَا لُعَابُهَا بِالْمَاءِ ، وَلُعَابُهَا نَجِسٌ ؛ لِتَحَلُّبِهِ مِنْ لَحْمِهَا وَهُوَ نَجِسٌ ، فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْهِرَّةِ ، لِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ لَحْمِ السِّبَاعِ ، أَوْ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ مِثْلَهَا لَا يَنْجَسُ .

( وَأَمَّا ) السُّؤْرُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا - وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا بِخِلَافِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ ؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ فَتَشْرَبُ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَكَانَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ ، ( وَكَذَا ) سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا ، ( وَكَذَا ) سُؤْرُ الْهِرَّةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ ، ( وَاحْتَجَّا ) بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبَ مِنْهُ ، ثُمَّ يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ بِهِ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْهِرَّةُ سَبُعٌ } وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِهَا .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا ، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً } وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا ، لَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا ؛ لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالثَّانِي : مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ : {

الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ } وَلَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ ، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَذْهَبِ الطَّحَاوِيِّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ تِلْكَ الْهِرَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى فَمِهَا نَجَاسَةٌ - عَلَى مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ - أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ ، وَعَلَى هَذَا تَنَاوُلُ بَقِيَّةِ طَعَامٍ أَكَلَتْهُ وَتَرَكَهَا لِتَلْحَسَ الْقِدْرَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَلَوْ أَكَلَتْ الْفَأْرَةَ ، ثُمَّ شَرِبَتْ الْمَاءَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَإِنْ مَكَثَتْ ، ثُمَّ شَرِبَتْ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَتَنَجَّسُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) السُّؤْرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ سُؤْرَهُمَا نَجِسٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ظَاهِرُ وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ الثَّوْبُ مِنْ عَرَقِهِ ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ } فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي سُؤْرِهِ النَّجَاسَةُ ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ لَا يَخْلُو عَنْ لُعَابِهِ ، وَلُعَابُهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ ، وَلَحْمُهُ نَجِسٌ ، فَلَوْ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ إنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْمُخَالَطَةِ ، وَالضَّرُورَةُ مُتَعَارِضَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالِطَةِ كَالْهِرَّةِ وَلَا فِي الْمُجَانِبَةِ كَالْكَلْبِ ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّهُ رِجْسٌ وَكَذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا النَّهْيُ ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ ، وَكَذَا اعْتِبَارُ عَرَقِهِ يُوجِبُ طَهَارَةَ سُؤْرِهِ ، وَاعْتِبَارُ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ ، وَكَذَا تَحَقَّقَ أَصْلُ الضَّرُورَةِ لِدَوَرَانِهِ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَشُرْبُهُ فِي الْإِنَاءِ يُوجِبُ طَهَارَتَهُ ، وَتَقَاعُدُهَا عَنْ ضَرُورَةِ الْهِرَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ - الْمَضَايِقَ - يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ ، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ التَّوَضُّؤِ بِهِ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ لَوْ جَازَ

لَا يَضُرُّهُ التَّيَمُّمُ ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوَضُّؤُ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَازُ بِيَقِينٍ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ ، حَتَّى يُقَدَّمَ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَثِيَابُهُ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِالشَّكِّ ، وَالْعُضْوُ وَالثَّوْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَوَابَ فِي سُؤْرِ الْأَتَانِ ، وَقَالَ فِي سُؤْرِ الْفَحْلِ : إنَّهُ نَجِسٌ ، لِأَنَّهُ يَشُمُّ الْبَوْلَ فَتَتَنَجَّسُ شَفَتَاهُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الثَّابِتِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ الْأَسْآرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَجُعِلَ الْخَامِسُ مِنْهَا السُّؤْرَ النَّجِسَ الْمُتَّفَقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ ، وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي الْخِنْزِيرِ خِلَافَ مَالِكٍ كَمَا فِي الْكَلْبِ فَانْحَصَرَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ .

( وَمِنْهَا ) الْخَمْرُ وَالسَّكْرُ أَمَّا الْخَمْرُ ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا فِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَقَالَ : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَالرِّجْسُ : هُوَ النَّجِسُ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ .

( وَمِنْهَا ) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ نَوْعَانِ : غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ أَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا غُسِلَتْ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَالْمِيَاهُ الثَّلَاثُ نَجِسَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ مَاءٍ عَنْ نَجَاسَةٍ فَأَوْجَبَ تَنْجِيسَهَا وَحُكْمُ الْمِيَاهِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهَا ، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا ، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا : إنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْعَصْرِ ، وَالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَالْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَاءٍ حِينَ كَانَ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ كَانَ هَكَذَا ، فَكَذَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِالدَّلْوِ الْمَنْزُوحِ مِنْ الْبِئْرِ النَّجِسَةِ إذَا صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى كَذَا هَذَا ، وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْغُسَالَةِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ وَالتَّطْهِيرِ مِنْ بَلِّ الطِّينِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ طَعْمُهَا أَوْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ غَالِبٌ فَالْتَحَقَ بِالْبَوْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ

الْبَاقِي ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَا يُؤْكَلُ وَلَكِنْ يُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَيَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يُبَيِّنَ عَيْبَهُ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَبَاعَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ .
( وَاحْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ، وَكُلُوا الْبَاقِيَ ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ } وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَا بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ ، .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ السَّمْنُ ذَائِبًا ؟ فَقَالَ : لَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ انْتَفِعُوا بِهِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْجَامِدِ لَا تُجَاوِرُ إلَّا مَا حَوْلَهَا وَفِي الذَّائِبِ تُجَاوِرُ الْكُلَّ ، فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا ، وَأَكْلُ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَمُبَاحٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِلْقَاءِ مَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ ، وَإِرَاقَةُ الذَّائِبِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هُوَ الْأَكْلُ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لِوُقُورِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ ، فَهُوَ جَامِدٌ ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ يُغْسَلُ وَيُعْصَرُ

ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَالْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا - فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ وَالثَّانِي - فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ حَالٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ وَالثَّالِثُ - فِي أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِر الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالدِّرْهَمِ وَبِهِ أَخَذَ وَأَبُو يُوسُفَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَبِهِ أَخَذَ وَقَالَ زُفَرُ : إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي قَوْلٍ لَهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، ثُمَّ مَشَايِخُ بَلْخٍ حَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا : الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ ، وَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَمْ يُحَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا : إنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّا نَرْجُو أَنْ لَا تَثْبُتَ رِوَايَةُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَهُورٌ ؛ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } وَلَمْ يُوجَدْ

التَّغَيُّرُ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى عُضْوًا طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ إذَا غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ ؛ فَلِانْعِدَامِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً .
وَأَمَّا الْحُكْمُ ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَمُرُّ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَقْبَلَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، فَارَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ وَقَالَ : إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ ، فَقَالَتْ : إنِّي حَائِضٌ ، فَقَالَ : لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ ؛ } وَلِهَذَا جَازَ صَلَاةُ حَامِلِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ ، وَحَامِلُ النَّجَاسَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَإِذَا كَانَتْ أَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةً كَانَ الْمَاءُ الَّذِي لَاقَاهَا طَاهِرًا ضَرُورَةً لِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِقَالِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ ، وَلَا نَجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ عَلَى مَا مَرَّ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ فَبَقِيَ طَاهِرًا ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ لِإِثْبَاتِ الطَّهَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ ؛ لِأَنَّا تَعَبَّدْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ التَّطْهِيرِ ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الطَّاهِرِ مُحَالٌ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ خَبَثٌ ، وَلَا مَعْنَى يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَامَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ؛ فَلِأَنَّهُ أُقِيمَ بِهِ قُرْبَةٌ إذَا تَوَضَّأَ لِأَدَاءِ

الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ الْآثَامِ عَنْ الْمُتَوَضِّئِ لِلصَّلَاةِ ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمَاءِ ، فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ كَالْمَالِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الصَّدَقَةُ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ ؛ فَلِأَنَّهُ قَامَ بِهِ مَعْنًى مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْحَدَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عِنْدَهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ .
وَقَدْ انْتَقَلَ الْحَدَثُ مِنْ الْبَدَنِ إلَى الْمَاءِ ، ثُمَّ الْخُبْثُ وَالْحَدَثُ وَإِنْ كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْمَحَلِّ ، وَالصِّفَاتُ لَا تَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ لَكِنْ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ النَّجِسَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ حُكْمًا وَالْأَعْيَانُ الْحَقِيقِيَّةُ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ فَكَذَا مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا ، وَإِذَا قَامَ بِهَذَا الْمَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْأَحْكَامِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ أَوْجُهٌ رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ } حَرُمَ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ الْكَثِير لَيْسَ بِحَرَامٍ ، فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ يَنْجَسُ بِالِاغْتِسَالِ بِنَجَاسَةِ الْغُسَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ مَعْنًى ، لِأَنَّ إلْقَاءَ الطَّاهِرِ فِي الطَّاهِرِ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، أَمَّا تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ فَحَرَامٌ فَكَانَ هَذَا نَهْيًا عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالِاغْتِسَالِ ، وَذَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ بِهِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ

الْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْمَاءُ الْقَلِيلُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بِاخْتِلَاطِ غَيْرِ الْمُطَهَّرِ بِهِ إذَا كَانَ الْغَيْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَلَا .
وَهَهُنَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا يُلَاقِي الْبَدَنَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا ؟ فَأَمَّا مُلَاقَاةُ النَّجَسِ الطَّاهِرِ فَتُوجِبُ تَنْجِيسَ الطَّاهِرِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ لِاخْتِلَاطِهِ بِالطَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا قُلْنَا وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهْيٌ ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْجُنُبِ لَا تَخْلُوَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَذَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ يَنْصَرِفُ إلَى الِاغْتِسَالِ الْمَسْنُونِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَسْنُونُ مِنْهُ هُوَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الْبَدَنِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ ، عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ اُسْتُفِيدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - صِيَانَةً لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ الْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَة ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وَهُوَ بِحَالٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ .
وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ

لَمَا أُبِيحَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَأْخُذَ الْغُسَالَةَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيُمْسِكُهَا لِلشُّرْبِ ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْمُحْدِثِ خَاصَّةً وَالثَّانِي : يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ نَجِسٍ مِنْ الْبَدَنِ وَبِهِ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْبَدَنِ حَقِيقَةً فَيَتَنَجَّسُ الْبَاقِي تَقْدِيرًا ؛ وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ ؛ وَسُمِّيَ تَطْهِيرًا ، وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ ، فَدَلَّ تَسْمِيَتُهَا تَطْهِيرًا عَلَى النَّجَاسَةِ تَقْدِيرًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ ، وَلَوْلَا النَّجَاسَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَجَازَتْ ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ نَجَاسَةً تَقْدِيرِيَّةً ، فَإِذَا تَوَضَّأَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ إلَى الْمَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا ، وَالنَّجَسُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا كَالْخَمْرِ وَالثَّانِي - مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُزِيلُ نَجَاسَةَ الْآثَامِ وَخُبْثِهَا فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ خُبْثِ الْخَمْرِ إذَا أَصَابَ الْمَاءَ يُنَجِّسُهُ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةً ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِيهِ ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ عَنْهُ وَلِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي حُكْمِهِ وَالْحَسَنُ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ غَلِيظَةً ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ ؛ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَقِيقَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لَمْعَةٌ يَسِيرَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّ التَّوَضُّؤَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا بَأْسَ بِهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَذَرٌ ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ لَا يُشْكِلُ .

وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الطَّهَارَةِ ؛ فَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمُخَاطِ وَالْبَلْغَمِ ، وَلَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَإِنْ قَلَّ وَهَذَا فَاسِدٌ ، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ كَاللَّبَنِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ : لَا بَأْسَ بِهِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْقَلِيلِ فَقَالَ : وَمَنْ يَمْلِكُ نَشْرَ الْمَاءِ ؟ وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَانْتَشَرَ أَشَارَ إلَى تَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْقَلِيلِ ، فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا ، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا ، ثُمَّ الْكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوَاقِعَ الْقَطْرَةِ فِي الْإِنَاءِ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَفْسِيرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ : مَا زَايَلَ الْبَدَنَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَان وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى : أَنَّ الْمَاءَ إذَا زَالَ عَنْ الْبَدَنِ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَا دَامَ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا ، وَإِذَا زَايَلَهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ أَخَذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ ، وَذَكَرَ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يُجْزِيهِ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ قَدْ مَسَحَ بِهِ مَرَّةً أَشَارَ إلَى صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ عَلَى رِجْلِهِ لَمْعَةٌ فَغَسَلَهَا بِبَلَلٍ أَخَذَهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ : لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمَكَانِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا .
( أَمَّا ) سُفْيَانُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَسَائِلَ زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ( مِنْهَا ) : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ لَمْعَةٌ فَأَخَذَ الْبَلَلَ مِنْهَا فِي الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي الْغُسْلِ وَغَسَلَ اللَّمْعَةَ يَجُوزُ .
( وَمِنْهَا ) : إذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ يَجُوزُ ، وَإِنْ زَايَلَ الْعُضْوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ فِي مَكَان .
( وَمِنْهَا ) : إذَا مَسَحَ أَعْضَاءَهُ بِالْمِنْدِيلِ وَابْتَلَّ ، حَتَّى صَارَ كَثِيرًا فَاحِشًا أَوْ تَقَاطَرَ الْمَاءُ عَلَى ثَوْبٍ مِقْدَارَ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَلَوْ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ

الْمُزَايَلَةِ لَمَا جَازَتْ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ .
وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ ، إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا ، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً أَوْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حُكْمًا ، كَمَا فِي الْجَنَابَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ ، فَإِذَا زَايَلَ الْعُضْوَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ بِقَضِيَّةِ الْقِيَاسِ .
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ( وَأَمَّا ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ : إنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَجُوزُ ، أَمَّا إذَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُ لَا يَجُوزُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَغْسُولَاتِ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغُسْلِ إنَّمَا تَأَدَّى بِمَاءٍ جَرَى عَلَى عُضْوِهِ لَا بِالْبِلَّةِ الْبَاقِيَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِلَّةُ مُسْتَعْمَلَةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِالْبِلَّةِ وَتَفْصِيلُ الْحَاكِم مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا ، وَمَا مُسِحَ بِالْمِنْدِيلِ أَوْ تَقَاطَرَ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَكِنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ سَبَبِ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْمَاءُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ نَصًّا لَكِنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَاءِ وَاسْتِخْبَاثِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا ، فَنَقُولُ : إذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوُ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَاقَامَةُ الْقُرْبَةِ جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورًا عَلَى نُورٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ .
وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ ، وَكَذَا إذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنْ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ

وَنَحْوِهَا ، أَوْ غَسَلَ يَدَهُ مِنْ الطِّينِ وَالْوَسَخِ ، وَغَسَلَتْ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنْ الْعَجِينِ أَوْ الْحِنَّاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ غَسَلَ يَدَهُ لِلطَّعَامِ أَوْ مِنْ الطَّعَامِ لِقَصْدِ إقَامَةِ السُّنَّةِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ السُّنَّةِ قُرْبَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ بَرَكَةٌ ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ } وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، ثُمَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ بِالزِّيَادَةِ ابْتِدَاءً الْوُضُوءَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ بَابِ التَّعَدِّي بِالنَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَعْنَى الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ فَكَانَتْ قُرْبَةٌ .
وَلَوْ أَدْخَلَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ مُحْدِثٌ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَذَرٌ ، أَوْ شَرِبَ الْمَاءَ مِنْهُ ، فَقِيَاسُ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَفْسُدَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ الْحَدَثَ زَالَ عَنْ يَدِهِ بِإِدْخَالِهَا فِي الْمَاءِ وَكَذَا عَنْ شَفَتِهِ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَغْتَسِلُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } وَرُبَّمَا كَانَتْ تَتَنَازَعُ فِيهِ الْأَيْدِي وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْ إنَاءٍ وَهِيَ حَائِضٌ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ مَوَاضِعَ فَمِهَا حُبًّا لَهَا } ؛ وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إصَابَةِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ

وَالشُّرْبِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ الْإِنَاءَ لِيَغْتَرِفَ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الْعَظِيمِ ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَّخِذَ آنِيَةً عَلَى حِدَةٍ لِلشُّرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِرَافِ بِالْيَدِ وَالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ آنِيَةٍ ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْيَدِ وَالشَّفَةِ ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِيهِ يَفْسُدُ الْمَاءُ ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي الْإِنَاءِ ؛ وَلَوْ أَدْخَلَهَا فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْسِدْهُ ؛ كَذَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِلَ عَفْوًا ، وَلَوْ أَدْخَلَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ أَفْسَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِيهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ لَا بِنِيَّةِ الِاغْتِسَالِ ، وَلَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُنْغَمِسَ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ حُكْمِيَّةٌ كَالْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَنْغَمِسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ ، أَوْ لِلتَّبَرُّدِ ، أَوْ لِلِاغْتِسَالِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ : حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ ، وَحُكْمُ الدَّاخِلِ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا - وَانْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ لِلتَّبَرُّدِ - لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِعَدَمِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَإِنْ انْغَمَسَ فِيهَا لِلِاغْتِسَالِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ ، وَالرَّجُلُ طَاهِرٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ لَا فَانْغَمَسَ فِي ثَلَاثَةِ آبَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَا

يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَاهِرًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَالْمِيَاهُ الثَّلَاثَةُ نَجِسَةٌ لَكِنَّ نَجَاسَتَهَا عَلَى التَّفَاوُتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمِيَاهُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ الِاغْتِسَالِ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ فَالْمِيَاهُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا ، وَإِنْ كَانَ الِانْغِمَاسُ لِلِاغْتِسَالِ فَالْمَاءُ الرَّابِعُ فَصَاعِدًا مُسْتَعْمَلٌ ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَقَطْ فَإِنْ أَدْخَلَهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى طَاهِرًا ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِزَوَالِ الْجَنَابَةِ بِالِانْغِمَاسِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ نَجِسٌ وَلَا يَخْرُجُ طَاهِرًا أَبَدًا .
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيَاهِ : فَالْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ ، وَالْبَوَاقِي عَلَى حَالِهَا ؛ لِانْعِدَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِعْمَالَ أَصْلًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمِيَاهُ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا ، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ تَرَكَ أَصْلَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُ ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْهُ أَنَّ الْمِيَاهَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَطْهُرُ النَّجَسُ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، كَمَا يَطْهُرُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِالصَّبِّ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا عَلَى الْبَدَنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ ، غَيْرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمُلَاقَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمِيَّةُ تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ النَّجَسُ عَنْ الْبَدَنِ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ الرَّاكِدِ قَوْلًا

وَاحِدًا ، وَلَهُ فِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ ، أَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : الْأَصْلُ أَنَّ مُلَاقَاةَ أَوَّلِ عُضْوِ الْمُحْدِثِ الْمَاءَ يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَعْمَلًا ، فَكَذَا مُلَاقَاةُ أَوَّلِ عُضْوِ الطَّاهِرِ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ ، وَإِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَا تَتَحَقَّقُ طَهَارَةُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْأَصْلِ ، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لِاغْتِرَافِ الْمَاءِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ، وَلَا يَزُولُ الْحَدَثُ إلَى الْمَاءِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَهَهُنَا ضَرُورَةٌ ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى إخْرَاجِ الدِّلَاءِ مِنْ الْآبَارِ فَتُرِكَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَوْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ ، وَلَوْ أَزَالَ الْحَدَثَ لَتَنَجَّسَ ، وَلَوْ تَنَجَّسَ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ ، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ الْحَدَثُ بَقِيَ طَاهِرًا ، وَإِذَا بَقِيَ طَاهِرًا يُزِيلُ الْحَدَثَ فَيَقَعُ الدَّوْرُ فَقَطَعْنَا الدَّوْرَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَقُلْنَا : إنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ عَنْهُ ، فَبَقِيَ هُوَ بِحَالِهِ ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : إنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، فَكَذَا بِوُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ النَّجَاسَةِ بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَالِ وَالْمُلَاقَاةِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِهَذَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، إلَّا أَنَّ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ التَّطْهِيرِ ، وَالضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الصَّبِّ ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ لَا

يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَامْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَظْهَرُ حُكْمُهُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ خُفَّهُ أَوْ جَبِيرَتَهُ فِي الْإِنَاءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ ، قَالَ أَبُو يُوسُفُ : يُجْزِئُهُ فِي الْمَسْحِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ؛ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِإِصَابَةِ الْبَلَّةِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْإِصَابَةِ دُونَ الْإِسَالَةِ ، فَلَمْ يَزُلْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ إلَى الْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ ، وَإِنَّمَا زَالَ إلَى الْبَلَّةِ ، وَكَذَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ تَحْصُلُ بِهَا فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ لَمْ يَنْوِ الْمَسْحَ يُجْزِئُهُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَاجْزَأْهُ ، وَإِنْ نَوَى الْمَسْحَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُجْزِئُهُ وَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَاقَى رَأْسُهُ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ صَيَّرَهُ مُسْتَعْمَلًا ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمُلَاقَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ فَيُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِهِ جُنُبٌ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ فَأَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ ، رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الْفَمِ ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا شَرْعًا : فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا ، وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا ، فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَبَّ خَابِيَةً مِنْ الْخَمْرِ فِي الْفُرَاتِ ، وَرَجُلٌ آخَرَ - أَسْفَلَ مِنْهُ - يَتَوَضَّأُ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي ، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ ، وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ

لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ ، ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَانِبٍ مِنْ السَّطْحِ أَوْ جَانِبَيْنِ مِنْهُ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ ، وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ ، ثُمَّ اسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَخَاضَ فِيهِ إنْسَانٌ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَرَّ أَكْثَرُهُ عَلَى الطَّاهِرِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا ، وَقِيلَ : مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ ، وَمَا لَا فَلَا ؛ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ : إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ .
وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجَسُ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مَالِكٌ : إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ : إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ ، وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ ، كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ .
فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } ( وَاحْتَجَّ ) مَالِكٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } وَهُوَ تَمَامُ الْحَدِيثِ ، أَوْ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ( وَاحْتَجَّ ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا } أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ ، كُلُّ قُلَّةٍ يَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ بِالْغَمْسِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ وَالِاحْتِيَاطِ ؛ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى ، وَكَذَا الْأَخْبَارُ مُسْتَفِيضَةٌ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ دَائِمٍ وَدَائِمٍ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالِاغْتِسَالَ فِيمَا لَا يَتَنَجَّسُ لِكَثْرَتِهِ لَيْسَ

بِمَنْهِيٍّ ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا مُحْتَمِلًا لِلنَّجَاسَةِ ، إذْ النَّهْيُ عَنْ تَنْجِيسِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ ضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ ، وَكَذَا الْمَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، وَالْبَوْلُ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَمَرَا فِي زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ بِنَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ كُلِّهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْمَاءِ ، وَكَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَعُرِفَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْجَارِي ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ يُرَدُّ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ : لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وَقَالَ : لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابُنَا فِي التَّقْدِيرِ إلَى الدَّلَائِلِ الْحِسِّيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخُلُوصُ بِالتَّحْرِيكِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرْفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ

عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ - مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ اعْتَبَرَ الْخُلُوصَ بِالصَّبْغِ ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ اعْتَبَرَهُ بِالتَّكْدِيرِ ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ اعْتَبَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ اعْتَبَرَهُ بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ فَقَالَ : إنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَرْجُو أَنْ يَجُوزَ ، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ فِي عِشْرِينَ لَا أَجِدُ فِي قَلْبِي شَيْئًا .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَسْجِدِهِ فَكَانَ مَسْجِدُهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَقِيلَ : كَانَ مَسْجِدُهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ ، وَقِيلَ : مَسَحَ مَسْجِدَهُ فَوَجَدَ دَاخِلَهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ ، وَخَارِجَهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ : لَا عِبْرَةَ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْبَابِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ التَّحَرِّي ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ ، وَأَكْبَرُ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ ، أَلَا يُرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ بِرَدِّ الْيَقِينِ .

وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ : إنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ يَجُوزُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمِيزَابِ إذَا سَالَ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْحُكْمِ ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَ وَأَمَّا حَوْضُ الْحَمَّامِ الَّذِي يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ أَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ الْمِيزَابِ وَالنَّاسُ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي ، وَلَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، ثُمَّ بُسِطَ مَاؤُهُ حَتَّى صَارَ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ هُوَ الْمَاءُ النَّجَسُ وَقِيلَ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ ، ثُمَّ قَلَّ مَاؤُهُ ، حَتَّى صَارَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ : إنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هُوَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْوُقُوعِ .
وَلَوْ وَقَعَ فِي هَذَا الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ ، ثُمَّ عَاوَدَهُ الْمَاءُ ، حَتَّى امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ : لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَاءُ فِيهِ صَارَ نَجِسًا .
وَلَوْ أَنَّ حَوْضَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ إنْسَانٌ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ حَوْضٌ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ ، ثُمَّ نَضَبَ مَاؤُهُ وَجَفَّ أَسْفَلُهُ ، حَتَّى حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَانِيًا هَلْ

يَعُودُ نَجِسًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا ، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ ، وَكَذَا الْمَنِيُّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَجَفَّ وَفُرِكَ ، ثُمَّ أَصَابَهُ بَلَلٌ ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ دِبَاغَةً حُكْمِيَّةً بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّرْتِيبِ ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَأَمَّا الْبِئْرُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَغَارَ مَاؤُهَا وَجَفَّ أَسْفَلُهَا ، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ فَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى : هُوَ طَاهِرٌ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ نَجِسٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَجْهُ قَوْلِ نُصَيْرٍ أَنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ مَاءٌ جَارٍ فَيَخْتَلِطُ الْغَائِرُ بِهِ ، فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْعَائِدِ نَجِسًا بِالشَّكِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ مَا نَبَعَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمَاءُ النَّجَسُ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بِالشَّكِّ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْوَطُ ، وَالْأَوَّلُ أَوْسَع ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي فِيهَا مِيَاهٌ رَاكِدَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ طُولُ الْمَاءِ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ فِي نَهْرِ بَلْخٍ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِي إيَّاهُ ، وَبَيْنَ جَرَيَانِهِ بِنَفْسِهِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ .
وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ تَوَضَّأَ ، إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَنْجَسُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ يَنْجَسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ أَقْرَبُ إلَى الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَاعْتِبَارُ الطُّولِ لَا يُوجِبُ ، فَلَا يَنْجَسُ بِالشَّكِّ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ إنْ كَانَ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ فَاعْتِبَارُ الْعَرْضِ يُوجِبُ ، فَيُحْكَمُ بِالنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْعُمْقُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ؟ عَنْ أَبِي

سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَبَرُوا الْبَسْطَ دُونَ الْعُمْقِ ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رَفَعَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ انْحَسَرَ أَسْفَلُهُ ، ثُمَّ اتَّصَلَ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ أَسْفَلُهُ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ وَقِيلَ : مِقْدَارُ الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ ، وَقِيلَ : أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ ، وَقِيلَ : قَدْرُ ذِرَاعٍ ، ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ كَيْف يُتَوَضَّأُ مِنْهُ ؟ فَنَقُولُ : النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً ، أَوْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ ، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالنَّجَاسَةِ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَشَكَكْنَا فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اسْتَنْجَى فِي مَوْضِعٍ مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ : لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي .
وَلَوْ وَقَعَتْ الْجِيفَةُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ - عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إنْ كَانَ بَيْنَ الْجِيفَةِ وَبَيْنَ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْحَوْضِ مِقْدَارَ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ بِأَنْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ : إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْئِيَّةِ ، حَتَّى لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ

الْجَانِبِ ، وَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْئِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ النَّجَاسَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ ، فَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الْوُضُوءِ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا ، فَفِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ ، كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْمَاءِ الْجَارِي ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَرْئِيَّةِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ لِكَوْنِهِ مَائِعًا سَيَّالًا بِطَبْعِهِ ، فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ، فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ - بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ - وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ غَيْرَ جَامِدٍ ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا وَثُقِبَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْجَمْدِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ وَاسِعًا ، بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ لَا : خَيْرَ فِيهِ وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ : أَلَيْسَ الْمَاءُ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ ؛ وَهَذَا أَوْسَعُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَقَالُوا : إذَا حُرِّكَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ تَحْرِيكًا بَلِيغًا يُعْلَمُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ رَاكِدًا ذَهَبَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ، وَهَذَا مَاءٌ جَدِيدٌ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ .

وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، فَالْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَانِي أَوْ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَانِي فَهُوَ نَجِسٌ كَيْفَمَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْأَوَانِي لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا عَنْ النَّجَاسَاتِ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ فِي الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ ، ثُمَّ رُمِيَتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَمْ يَنْجَسْ اللَّبَنُ ، كَذَا رَوَى عَنْهُ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ ، لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبِئْرِ فَالْوَاقِعُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ حَيًّا ، وَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ مَيِّتًا ، فَإِنْ أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ يُنَجِّسُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَفِي الْكَلْبِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي كَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ ، فَمَنْ جَعَلَهُ نَجِسَ الْعَيْنِ اسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفِ أَنَّ الْكَلْبَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَانْتَفَضَ ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ .
وَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَيْضًا أَنَّ كَلْبًا لَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَانْتَفَضَ ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ إنْ كَانَ الْمَطَرُ الَّذِي أَصَابَهُ وَصَلَ إلَى جِلْدِهِ ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ قَالَ : وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُضْمَنُ مُتْلَفُهُ ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ، وَلَا مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْخِنْزِيرِ ، دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ

كَالْخِنْزِيرِ ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَقَعَا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ ، ثُمَّ خَرَجَا أَنَّهُ يُعْجَنُ بِذَلِكَ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ صَلَّى وَفِي كُمِّهِ جَرْوُ كَلْبٍ : إنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ مَسْدُودَ الْفَمِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ - وَقَدْ اسْتَنْجَى - لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِزَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْجِيًا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِالْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلِ أَكْثَرُ ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ صَبَّ اللَّبَنَ فِي الْبِئْرِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسًا ، يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا يُنْزَحُ كُلُّهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَارَ هَذَا الْمَاءُ

مُسْتَعْمَلًا أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ طَهُورًا كَمَا كَانَ ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَسَنِ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ .

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ : يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهِ بِأَنْ اغْتَسَلَ ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْزَحُ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ عُلِمَ بِيَقِينٍ أَنَّ عَلَى بَدَنِهَا نَجَاسَةً أَوْ عَلَى مَخْرَجِهَا نَجَاسَةً تَنَجَّسَ الْمَاءُ ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِبْرَةُ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لَا يَنْجَسُ وَلَا يُنْزَحُ شَيْءٌ ، سَوَاءٌ وَصَلَ لُعَابُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ يَنْجَسُ ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ لَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُعْتَبَرَ هُوَ السُّؤْرُ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ ، وَإِنْ وَصَلَ فَإِنْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَالْمَاءُ نَجِسٌ وَيُنْزَحُ كُلُّهُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ عَشْرُ دِلَاءٍ ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالْمَاءُ كَذَلِكَ وَيُنْزَحُ كُلّه كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْفَأْرَةِ نَزْحُ عِشْرِينَ ، وَفِي الْهِرَّةِ نَزْحُ أَرْبَعِينَ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَعْظَمَ جُثَّةً كَانَ أَوْسَعَ فَمًا وَأَكْثَرَ لُعَابًا وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ : إذَا وَقَعَتْ وَزَغَةٌ فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ حَيَّةً يُسْتَحَبُّ نَزْحُ أَرْبَعِ دِلَاءٍ إلَى خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُوَ عَنْ الْبَوْلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا ؛ لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ

نَجَاسَةً خَفِيفَةً .
وَقَدْ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ مِنْ الْبِئْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ ؛ لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفِخًا أَوْ مُتَفَسِّخًا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِخًا وَلَا مُتَفَسِّخًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ : فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ ، وَفِي الْآدَمِيِّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَعَلَهُ خَمْسَ مَرَاتِبَ : فِي الْحَمَامَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عَشْرُ دِلَاءٍ ، وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا عِشْرُونَ ، وَفِي الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ثَلَاثُونَ ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ ، وَفِي الْآدَمِيّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ .
وَقَوْلُهُ : فِي الْكِتَابِ يُنْزَحُ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ ، وَفِي الْهِرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ بَلْ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وُجُوبًا وَثَلَاثِينَ اسْتِحْبَابًا ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، فَفِي الصَّغِيرِ مِنْهَا يُنْزَحُ الْأَقَلُّ وَفِي الْكَبِيرِ يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ ، وَالْأَصْلُ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا : مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ يُطَمُّ وَيُحْفَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْقَى الطِّينُ وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا ، وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ ، وَالثَّانِي : مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ ، فَلَا يَنْجَسُ

بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ يُصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُغْتَرَفُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ النَّجِسَةِ فِيهِ ، ثُمَّ قُلْنَا : وَمَا عَلَيْنَا لَوْ أَمَرْنَا بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ ؟ وَلَا نُخَالِفُ السَّلَفَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَضَرْبٍ مِنْ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ : يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ دَلْوًا } وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُنْزَحُ عِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ : يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ جَمِيعِ مَاءِ زَمْزَمَ حِين مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا مَسْفُوحًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا .
وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ ، وَالْمَاءُ يَتَنَجَّسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا جَاوَرَ النَّجَسَ نَجِسٌ بِالشَّرْعِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ يُقَوَّرُ مَا حَوْلَهَا وَيُلْقَى ، وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي } فَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَجَاسَةِ جَارِ النَّجَسِ وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا قَدَّرَهُ أَصْحَابُنَا ، وَهُوَ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ ؛ لِصِغَرِ جُثَّتِهَا ، فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ هَذَا

الْقَدْرِ مِنْ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُجَاوِرْ الْفَأْرَةَ ، بَلْ جَاوَرَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِتَنْجِيسِ جَارِ النَّجَسِ ، لَا بِتَنْجِيسِ جَارِ جَارِ النَّجِسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِطَهَارَةِ مَا جَاوَرَ السَّمْنَ الَّذِي جَاوَرَ الْفَأْرَةَ ، وَحَكَمَ بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ جَارَ جَارِ النَّجَسِ لَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ ؛ لَحُكِمَ أَيْضًا بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ جَارَ جَارِ النَّجَسِ ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ قَطْرَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ فَأْرَةٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ عَظِيمٍ أَنْ يَتَنَجَّسَ جَمِيعُ مَائِهِ ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَ أَجْزَائِهِ ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ ، وَفِي الدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ الْمُجَاوَرَةُ أَكْثَرُ ؛ لِزِيَادَةِ ضَخَامَةٍ فِي جُثَّتِهَا فَقُدِّرَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَالْآدَمِيُّ وَمَا كَانَتْ جُثَّتُهُ مِثْلَ جُثَّتِهِ كَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُجَاوِرُ جَمِيعَ الْمَاءِ فِي الْعَادَةِ ؛ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ فَيُوجِبُ تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْمَاءِ ، وَكَذَا إذَا تَفَسَّخَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوَاقِعَاتِ أَوْ انْتَفَخَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرُجُ الْبِلَّةُ مِنْهَا ؛ لِرَخَاوَةٍ فِيهَا فَتُجَاوِرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَاءِ ، وَقِيلَ : ذَلِكَ لَا يُجَاوِرُ إلَّا قَدْرَ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِصَلَابَةٍ فِيهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا : يُنْزَحُ عِشْرُونَ إلَى الْأَرْبَعِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ إلَى التِّسْعِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَتَيْنِ : يُنْزَحُ عِشْرُونَ ، وَفِي الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْفَأْرَتَانِ كَهَيْئَةِ

الدَّجَاجِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ .

هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ حَيَوَانًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْسِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى جَمِيعِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْسِدًا ، فَإِنْ كَانَ رَخْوًا مُتَخَلْخِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْعَذِرَةِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِمَا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا ؛ لِأَنَّهُ لِرَخَاوَتِهِ يَتَفَتَّتُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهُ ، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا نَحْوَ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ قَلَّ الْوَاقِعُ فِيهِ أَوْ كَثُرَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَنْجَسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْجَسُ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ رَطْبًا يَنْجَسُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَإِنْ كَانَ مُنْكَسِرًا يَنْجَسُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَسِرًا لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا ، وَتَكَلَّمُوا فِي الْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يُغَطِّيَ جَمِيعَ وَجْهِ الْمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رُبْعُ وَجْهِ الْمَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الثَّلَاثُ كَثِيرٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي الْمَاءِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرٌ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ سَلَمَةَ : إنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عَنْ بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْكَثِيرُ مَا اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ يَابِسًا لَا يَنْجَسُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مُنْكَسِرًا ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَمْنَعُ

لِلضَّرُورَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الرَّوْثِ الْيَابِسِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَنْجَسُ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمَشَايِخِ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْبَعْرِ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنَّ لِلْيَابِسِ صَلَابَةً ، فَلَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّطْبَ يَنْجَسُ بِاخْتِلَاطِ رُطُوبَتِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ وَالْحَاكِمِ فِي الْإِشَارَاتِ ، وَكَذَا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الرَّوْثُ ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ رَخْوٌ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ ، لِتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ لَا يَنْجَسُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَثُرَتْ تَقَعُ الْمُمَاسَّةُ بَيْنَهُمَا ؛ فَيَصْطَكُّ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهَا فَتَنْجَسُ .
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَا حَاجِزَ لَهَا عَلَى رُءُوسِهَا ، وَيَأْتِيهَا الْأَنْعَامُ فَتُسْقَى فَتَبْعَرُ ، فَإِذَا يَبِسَتْ الْأَبْعَارُ عَمِلَتْ فِيهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْبِئْرِ ، فَلَوْ حُكِمَ بِفَسَادِ الْمِيَاهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي ، وَمَا ضَاقَ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ ، فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ : الْكَثِيرُ مِنْهُ يُفْسِدُ الْمِيَاهَ ؟ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ فِي الْكَثِيرِ ، وَكَذَا الرَّطْبُ ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ لِثِقَلِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ سَوَاءٌ ؛ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَأَمَّا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ فَلَا يَفْسُدُ إذَا كَانَ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الْمُنْكَسِرِ أَشَدُّ ، وَالرَّوْثُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَعْرِ ، هَذَا فِي آبَارِ

الْفَلَوَاتِ ، ( وَأَمَّا ) الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا الْمَشَايِخُ ، فَمَنْ اعْتَمَدَ مَعْنَى الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةَ لَا يُفَرِّقُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَمَنْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهَا ، وَلَوْ انْفَصَلَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ ، فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى : يُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهَا قَذَرًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَتْ رَطْبَةً أَفْسَدَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي الْمَرَقَةِ لَا تُفْسِدُهُمَا ، وَهِيَ حَلَالٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ ، سَقَطَتْ السَّخْلَةُ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ مُبْتَلَّةٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ ، حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا الرَّاعِي فَأَصَابَ بَلَلُهَا الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْسَدَتْ الْمَاءَ ، وَإِذَا يَبِسَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُوَافِقُ قَوْلِهِمَا ، فَأَمَّا فِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْبَيْضَةُ طَاهِرَةٌ ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً ، وَكَذَا السَّخْلَةُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانِهَا وَمَعْدِنِهَا كَمَا قَالَ فِي الْإِنْفَحَةِ إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ ، جَامِدَةً كَانَتْ أَوْ مَائِعَةً ، وَعِنْدَهُمَا ، إنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَنَجِسَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ، وَلَوْ وَقَعَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ عَظْمُ الْخِنْزِيرِ أَفْسَدَهُ كَيْفَمَا كَانَ .
وَأَمَّا عَظْمُ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ أَوْ دَسَمٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَشِيعُ فِي الْمَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُفْسِدْ ؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ طَاهِرٌ بِئْرٌ وَجَبَ مِنْهَا نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا ، فَنُزِحَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57