كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

شَاءَ صَرَفَ الْفَاضِلَ إلَى الطَّعَامِ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ كَمَا فِي صَيْدِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ هَدْيًا ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " لَا يَجُوزُ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ " وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : " تَجُوزُ الْجَفَرَةُ وَالْعَنَاقُ عَلَى قَدْرِ الصَّيْدِ " وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةً ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إطْلَاقَ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْقُرْآنِ ، فَلَا يَجُوزُ دُونَ السِّنِّ الَّذِي يُجْزِي فِي سَائِرِ الْهَدَايَا ، وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهُ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْقِيمَةِ ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخَالِفُهُمْ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ ، ثُمَّ اسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَلَوْ جَازَ ذَبْحُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ بُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ مَعْنًى .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ بُلُوغَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بَلْ بُلُوغَ قُرْبِهَا ، وَهُوَ الْحَرَمُ ، وَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَمُرُّ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَمَرَّ بِقُرْبِ بَابِهِ حَنِثَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ ؛ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ

الْهَدَايَا أَيْ : يُنْقَلُ إلَيْهَا .
وَمَكَانُ الْهَدَايَا الْحَرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحِلِّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قِيمَةُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَيُجْزِئَهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ الطَّعَامِ ، وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي الْحَرَمِ سَقَطَ الْجَزَاءُ عَنْهُ بِنَفْسِ الذَّبْحِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَاعَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ إرَاقَةُ الدَّمِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الطَّعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى ، وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا فِي الْحَرَمِ تَوْسِعَةً عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ ، وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ وَقِيَاسُ الطَّعَامِ عَلَى الذَّبْحِ بِمَعْنَى التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ وَلِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْقَلْ قُرْبَةً بِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهَا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ الشَّرْعِ فَيَتَقَيَّدُ كَوْنُهَا قُرْبَةً بِالْمَكَانِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِيهِ وَهُوَ الْحَرَمُ فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَيُعْقَلُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ فَلَا يَتَقَيَّدُ كَوْنُهُ قُرْبَةً بِمَكَانٍ ، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ ، وَتَجُوزُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ .

وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ .
وَلَوْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ وَدَفْعُ الطَّعَامِ إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَلَا إلَى وَالِدِهِ وَوَالِدِ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَوْا ، كَمَا لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ ، وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا وَصَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ يَوْمًا عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ : إبْرَاهِيمَ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : " يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ ، فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمٍ لَا يَجُوزُ ، وَيَجُوزُ الصَّوْمُ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلَا خِلَافٍ ، وَيَجُوزُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ وَصِفَةِ التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْرِمًا ، وَالِاصْطِيَادُ عَلَى الْمُحْرِمِ كَالضَّبُعِ ، وَالثَّعْلَبِ ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ ، وَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا فِي

ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ دَمًا بَلْ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ .
وَقَالَ زُفَرُ : " تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ " وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ هَذَا الْمَصِيدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَالْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ كَمَالُ قِيمَتِهِ كَالْمَأْكُولِ ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْمَضْمُونَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ لَا تَزِيدُ قِيمَةُ لَحْمِهِ عَلَى لَحْمِ الشَّاةِ بِحَالٍ ، بَلْ لَحْمُ الشَّاةِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيرٍ ، فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا ، بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ؛ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَجَبَ بِإِتْلَافِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ زُفَرُ .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا ثُمَّ يَعُودَ وَيَقْتُلَ آخَرَ وَثُمَّ إنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ ، وَهُوَ قَوْلُ : الْحَسَنِ ، وَشُرَيْحٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } جَعَلَ جَزَاءَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ فِي الْآخِرَةِ فَتَنْتَفِي الْكَفَّارَةُ فِي الدُّنْيَا ، وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } فَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْتَقِمُ مِنْ الْعَائِدِ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ بِمَاذَا ؟ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَدَّ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَزَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } الْآيَةَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِهَا { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إلَى اسْتِحْلَالِ الصَّيْدِ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اسْتِحْلَالِهِمْ الصَّيْدَ إذَا تَابَ وَرَجَعَ ، عَمَّا

اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَمَنْ عَادَ إلَى الِاسْتِحْلَالِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ .
وَبِهِ نَقُولُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَتْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ إلَّا نِيَّةَ الرَّفْضِ وَنِيَّةُ الرَّفْضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِذَلِكَ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ الْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ .

وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْخَاطِئِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ( لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي ) وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً .
أَمَّا الْبِنَاءُ فَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَالْحَظْرِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ عُذْرًا ، وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي جِنَايَةٌ وَحَرَامٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ وَصْفِ الْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ .
وَكَذَا التَّحَرُّزُ عَنْهُمَا مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عُذْرًا مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْذَرْ النَّاسِي فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَكَانَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَرَجٌ ، وَلَا يَغْلِبُ فِي بَابِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِحْرَامِ مُذَّكِّرَةٌ فَكَانَ النِّسْيَانُ مَعَهَا نَادِرًا عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ لِمَرَضٍ أَوْ أَذًى بِالرَّأْسِ .
وَكَذَا فَوَاتُ الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِ الْعُذْرِ ، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ ، فَلَوْ شَارَكَهُ الْخَاطِئُ وَالنَّاسِي فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى ، وَلَنَا وُجُوهٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَمْدِ ،

أَحَدُهَا : أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ رَافِعَةً لِلْجِنَايَةِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } وَقَدْ وُجِدَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ فِي الْخَطَأِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَوْبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ { تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ } وَلَا تَوْبَةَ إلَّا مِنْ الْجِنَايَةِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى رَفْعِ الْجِنَايَةِ مَوْجُودَةٌ ، وَالْكَفَّارَةُ صَالِحَةٌ لِرَفْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَعْلَى الْجِنَايَتَيْنِ وَهِيَ الْعَمْدُ وَمَا صَلَحَ رَافِعًا لِأَعْلَى الذَّنْبَيْنِ يَصْلُحُ رَافِعًا لِأَدْنَاهُمَا بِخِلَافِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا وَالْخَطَأُ يُوجِبُ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ هُنَاكَ وَجَبَ ، وَرُدَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ وَذَنْبِ الْخَطَأِ دُونَ ذَنْبِ الْعَمْدِ ، وَمَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَعْلَى فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِانْعِدَامِ طَرِيقِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْإِحْرَامِ أَمَّنَ الصَّيْدَ عَنْ التَّعَرُّضِ ، وَالْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ فَصَارَ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ ، وَكُلُّ ذِي أَمَانَةٍ إذَا أَتْلَفَ الْأَمَانَةَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَحْفُوظَةٌ بِصَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ بِأَمَانَةٍ عِنْدَ الْقَاتِلِ حَتَّى يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي التَّعَرُّضِ لَهَا ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فِي حَالِ الْعَمْدِ وَمَوْضُوعَ التَّخْيِيرِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّوَسُّعِ وَذَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَالتَّخْيِيرِ فِي الْحَلْقِ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ بِقَوْلِهِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّخْيِيرِ فِيهِ ؛ لِتَقْدِيرِ الْحُكْمِ بِهِ

فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لَوْلَاهُ لَمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فَكَانَ إيجَابُ الْجَزَاءِ فِي حَالِ الْعَمْدِ إيجَابًا فِي حَالِ الْخَطَأِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّوَسُّعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ حَالَةَ الْعَمْدِ ذِكْرًا فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ دَلَالَةً .
وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعَامِدِ فَقَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ حُكْمِهِ وَبَيَانِهِ فِي حَالِ دَلِيلِ نَفْيِهِ فِي حَالٍ أُخْرَى فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْعَامِدِ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى مَنْ قَصَرَ ذَنْبُهُ عَنْهُ مِنْ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا رَفَعَ أَعْلَى الذَّنْبَيْنِ فَلَأَنْ يَرْفَعَ الْأَدْنَى أَوْلَى ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحْرِمِينَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ فَلَا يُضْمَنُ إلَّا بِجَزَاءٍ وَاحِدٍ ، كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَلِّلِينَ إذَا قَتَلُوا صَيْدًا وَاحِدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَا هَذَا ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَكَلِمَةُ مَنْ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ عَلَى حِيَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } وقَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ، وَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } حَتَّى يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ خَطَأً كَفَّارَةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَعُمُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِدَلِيلٍ ، وَالشَّافِعِيُّ نَظَرَ إلَى الْمَحِلِّ فَقَالَ الْمَحِلُّ وَهُوَ الْمَقْتُولُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَأَصْحَابُنَا نَظَرُوا إلَى الْفِعْلِ فَقَالُوا الْفِعْلُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَنَظَرُنَا أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً بِقَوْلِهِ { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَالْجَزَاءُ

يُقَابِلُ الْفِعْلَ لَا الْمَحِلَّ .
وَكَذَا سَمَّى الْوَاجِبَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا بَدَلُ الْمَحِلِّ فَتَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ صَيْدِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يُشْبِهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحَرَمِ ، وَالْحَرَمُ وَاحِدٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا مُعَلَّمًا ، كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالصَّقْرِ وَالْحَمَامِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ مَوَاضِعَ بَعِيدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ : قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا لِصَاحِبِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَقِيمَتُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ حَقًّا لِلَّهِ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى حَقَّيْنِ : حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ ، وَالتَّعْلِيمُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ صَيْدًا ، وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْحَمَامَةِ الْمُصَوِّتَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرَ مُصَوِّتَةٍ .
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً مِنْ بَابِ الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ ، وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا حَسَنًا مَلِيحًا لَهُ زِيَادَةُ قِيمَةٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ حَمَامَةً مُطَوَّقَةً أَوْ فَاخِتَةَ مُطَوَّقَةً .
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً لَا يَرْجِعُ إلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ ضَمَانُ ذَلِكَ ، وَهَذَا يَشْكُلُ بِالْمُطَوَّقَةِ وَالصَّيْدِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ فَشَوَاهُ أَوْ كَسَرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ

الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِقِيمَتِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ إذْ الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا ، فَإِنْ شَوَى بَيْضًا أَوْ جَرَادًا فَضَمِنَهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَهُ أَوْ غَيَّرَهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ .
وَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الصَّائِدُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَدَّى جَزَاءَهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ الذَّكَاةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ ، وَالْحُرْمَةُ هَهُنَا لَيْسَتْ لِمَكَانِ كَوْنِهِ مَيْتَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الذَّكَاةِ فَصَارَ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا شَوَى بَيْضًا أَوْ جَرَادًا أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ كَذَا هَذَا ، فَإِنْ كَسَرَ الْبَيْضَ فَخَرَجَ مِنْهُ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْجَنِينِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ ، وَفِي الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ كَذَا فِيهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْفَرْخَ صَيْدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُفْرَضُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِكَسْرِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَضَمَانُ الصَّيْدِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا ثُمَّ مَاتَتْ الظَّبْيَةُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا يُؤْخَذُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالثِّقَةِ ، أَمَّا قِيمَةُ الْأُمِّ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهَا .
وَأَمَّا قِيمَةُ الْجَنِينِ ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا فَيُحْكَمُ بِالضَّمَانِ احْتِيَاطًا فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيَةً حَامِلًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حَامِلًا ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَجْرِي مَجْرَى صِفَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَمَلَاحَتِهَا

وَسِمَنِهَا ، وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِأَوْصَافِهِ وَلَوْ حَلَبَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ الْحَلْبُ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَإِذَا نَقَصَهُ الْحَلْبُ ، يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ .

وَأَمَّا إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ تَسَبُّبًا فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا .
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا فَعَطِبَ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسَبُّبِ .
وَلَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ فَمَاتَ أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أَوْ لِلْخَبْزِ فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ ، وَهَذَا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَمَاتَ يَضْمَنُ .
وَلَوْ كَانَ الْحَفْرُ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسَبُّبِ وَفِي الثَّانِي لَا ، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَعَانَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الصَّيْدِ تُسَبِّبُ إلَى قَتْلِهِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَاوَنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْلُولُ يَرَى الصَّيْدَ أَوْ يَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَوْ إشَارَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَرَاهُ أَوْ يَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَتِهِ .
فَلَا أَثَرَ لِدَلَالَتِهِ فِي تَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ فَلَمْ تَقَعْ الدَّلَالَةُ تَسَبُّبًا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ ، فَقَتَلَهُ بِدَلَالَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيضٍ عَلَى اصْطِيَادِهِ وَإِنْ رَآهُ الْمَدْلُولُ بِدَلَالَتِهِ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ( لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الدَّالُّ عَلَى الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ } وَرُوِيَ { الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ

وَالدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ } فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلدَّلَالَةِ حُكْمُ الْفِعْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ .
وَرُوِيَ { أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدَّ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَشَرْتُمْ ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا فَقَالَ : كُلُوا إذًا } فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مَعْنًى ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُرْمَةِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيَةٍ فَقَتَلَهَا صَاحِبِي فَسَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : مَا تَرَى ؟ فَقَالَ : أَرَى عَلَيْهِ شَاةً فَقَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَشَارَ إلَى بَيْضَةِ نَعَامَةٍ فَكَسَرَهَا صَاحِبُهُ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ .
وَكَذَا حُكْمُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ أَمَّنَ الصَّيْدَ بِإِحْرَامِهِ ، وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الْأَمْنَ لِأَنَّ أَمْنَ الصَّيْدِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِ وَيِقْظَتِهِ يَكُونُ بِتَوَحُّشِهِ عَنْ النَّاسِ وَفِي حَالِ عَجْزِهِ وَنَوْمِهِ يَكُونُ بِاخْتِفَائِهِ عَنْ النَّاسِ ، وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الِاخْتِفَاءَ فَيَزُولُ الْأَمْنُ ، فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ فِي إزَالَةِ الْأَمْنِ كَالِاصْطِيَادِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِعَانَةَ وَالدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ تَسَبُّبٌ إلَى الْقَتْلِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ ؛ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْأَمْنِ وَأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَّنَ الصَّيْدَ عَنْ التَّعَرُّضِ

بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ صَارَ بِهِ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ مُحْرِمٌ مِنْ مُحْرِمٍ سِكِّينًا ؛ لِيَذْبَحَ بِهِ صَيْدًا فَأَعَارَهُ إيَّاهُ فَذَبَحَ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ : إنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ يَتَوَصَّلُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِغَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ السِّكِّينِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّالِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا : لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا رَأَى صَيْدًا وَلَهُ قَوْسٌ أَوْ سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى سِكِّينَتِهِ أَوْ عَلَى قَوْسِهِ فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَقْتُلُهُ بِهِ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَضْمَنُ ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلذَّكَاةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّكَاةُ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا ذَبَحَ .
وَكَذَا الصَّيْدُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَالتَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى الْأَعْيَانِ يُوجِبُ خُرُوجَهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا ، كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ وَفِي غَيْرِ مَحِلِّهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَهُوَ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ غَيْرُهُ لَا

يَلْزَمُهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ أَكَلَ مَيْتَةً فَلَا يَلْزَمَنَّهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ كَمَا لَوْ أَكَلَهُ غَيْرُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُ مَيْتَةً لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ فَإِذَا أَكَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ ؛ لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ لَيْسَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بَلْ مَحْظُورُ إحْرَامِ غَيْرِهِ ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَكْلُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْحُرْمَةَ لِمَكَانِ أَنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَهُوَ صَيْدُهُ لَا صَيْدَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَنَا أَنَّ حُرْمَتَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ وَمَحَلِّيَّتِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ هَذَا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ أَكَلَ .
فَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءً وَاحِدًا وَيَدْخُلُ ضَمَانُ مَا أَكَلَ فِي الْجَزَاءِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَتَدَاخَلَانِ ، وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ بِأَمْرِهِ أَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ صَيْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ صَيْدُهُ مَعْنًى .
وَكَذَا صَيْدُ الْبَازِي وَالْكَلْبِ

وَالسَّهْمِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ آلَةُ الِاصْطِيَادِ وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ .

وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يَحِلُّ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَعُثْمَانَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَحِلُّ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } أَخْبَرَ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَيْدَ الْمُحْرِمِ أَوْ الْحَلَالِ .
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ الْآيَةَ مُبْهَمَةٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَصِيدَهُ وَلَا أَنْ تَأْكُلَهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ كَرَاهَةً فَقَالَ : لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْك وَلَكِنَّا حُرُمٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك } وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَشَدَّ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَبَى الْبَعْضُ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ ؟ } وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي

الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لَا تَحْرِيمَ لَحْمِ الصَّيْدِ ، وَهَذَا لَحْمُ الصَّيْدِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ حَقِيقَةً ؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ ، عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ فِي الْحَقِيقَةِ مَصْدَرٌ ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ مَجَازًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُوِيَ فِي بَعْضِهَا " أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ حِمَارًا وَحْشِيًّا " كَذَا رَوَى مَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَحْمُولٌ عَلَى صَيْدٍ صَادَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِإِعَانَتِهِ أَوْ بِدَلَالَتِهِ أَوْ بِإِشَارَتِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا ، وَسَوَاءٌ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ بِأَمْرِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ( إذَا صَادَهُ لَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ ) وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ ، } وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَصِيدًا لَهُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا حُكْمُ الصَّيْدِ إذَا جَرَحَهُ الْمُحْرِمُ ، فَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ بِأَنْ قَطَعَ رِجْلَ ظَبْيٍ أَوْ جَنَاحَ طَائِرٍ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ ؛ وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ ؛ لِوُجُودِ إتْلَافِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الصَّيْدِ فَإِنْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ وَبَرِئَ الصَّيْدُ لَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْ الصَّيْدِ وَبِالِانْدِمَالِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِتْلَافَ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ آدَمِيًّا فَانْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الشَّيْنِ وَقَدْ ارْتَفَعَ .
فَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ فَكَفَّرَ عَنْهُ ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ الْجِرَاحَةَ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَقَتْلُهُ الْآنَ ابْتِدَاءً فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لَكِنْ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قَدْ أَخْرَجَ ضَمَانَهَا مَرَّةً فَلَا تَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ جَرَحَهُ وَلَمْ يُكَفِّرْ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الْجِرَاحَةِ صَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ إلَّا مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى أَيْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَكَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا خَطَأً فَكَفَّرَ

عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ صَيْدٍ أَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ فَنَبَتَ وَعَادَ إلَى مَا كَانَ أَوْ ضَرَبَ عَلَى عَيْنِ ظَبْيٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ بَيَاضُهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي سِنِّ الظَّبْيِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا نَبَتَ ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَبِالنَّبَاتِ وَالْعَوْدِ إلَى مَا كَانَ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَكُنْ فَلَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِمَكَانِ النُّقْصَانِ ، وَقَدْ زَالَ فَيَزُولُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ لَمْ يُثْغِرْ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ أَخْذِ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِإِحْرَامِهِ ، وَقَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِالْأَخْذِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ ، وَذَلِكَ بِالْإِرْسَالِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ مِنْ يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُرْسِلِ ؛ لِأَنَّ الصَّائِدَ مَا مَلَكَ الصَّيْدَ فَلَمْ يَصِرْ بِالْإِرْسَالِ مُتْلِفًا مِلْكَهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ لِيَعُودَ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ ، فَإِذَا أَرْسَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ .
أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ قَتَلَ صَيْدًا .
وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ الْأَمْنَ عَلَى الصَّيْدِ بِالْأَخْذِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ لَمْ يَسْقُطْ ، وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْقَاتِلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَرْجِعُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْمُحْرِمَ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ ؟ ( وَلَنَا ) أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْأَخْذُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ غَيْرِ الصَّيْدِ فَيُجْعَلُ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِهِ فَيَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مِلْكَهُ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَقَتَلَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ غَصَبَهُ مِنْ يَدِهِ فَضَمَّنِ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ ، فَإِنَّ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْقَاتِلِ .
وَكَذَا هَذَا فِي غَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .

وَلَوْ أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنْ كَانَ مُمْسِكًا إيَّاهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ ؛ لِيَعُودَ بِهِ إلَى الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْرَامِ ، فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ ضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ الْإِرْسَالَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْرِمِ حَقًّا لِلَّهِ فَإِذَا أَرْسَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ مِلْكُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَخْذُ الصَّيْدِ مِنْ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْإِحْرَامُ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا : إنَّ الْمُرْسِلَ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَنَقُولُ : الْوَاجِبُ هُوَ الْإِرْسَالُ عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ عَنْ الصَّيْدِ أَصْلًا وَرَأْسًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْهُ إنْ قَالَا عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ أَصْلًا وَرَأْسًا مَمْنُوعٌ وَإِنْ قَالَا عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْهُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ فِي بَيْتِهِ ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اصْطَادَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الصَّائِدِ هُنَاكَ إرْسَالُ الصَّيْدِ عَلَى وَجْهٍ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِ الْأَمْنُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِإِحْرَامِهِ .
وَفِي الْإِمْسَاكِ فِي الْقَفَصِ أَوْ فِي الْبَيْتِ لَا يَعُودُ الْأَمْنُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ هُنَاكَ مَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ ، وَقَدْ أَخَذَهُ

وَصَارَ مِلْكًا لَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ إزَالَةُ التَّعَرُّضِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزَوَالِ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الْقَفَصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَوْ أَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فِي يَدِ آخَرَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لَا يَجِبُ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ فَمَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَزُولُ ، الصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ وَالْعَارِضُ وَهُوَ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَيَسْتَوِي فِيمَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ ، غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا ؛ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ فَيَصِيرُ جَانِيًا عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ؛ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَالْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ الْجِمَاعُ ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ مَا يَخُصُّ الْمُحْرِمَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهِيَ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ) وَيَتَّصِلُ بِهَذَا بَيَانُ مَا يَعُمُّ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ جَمِيعًا وَهُوَ .
مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ ، فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا إلَّا الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةَ بِالْأَذَى غَالِبًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وقَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ : أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ نَجْدَ ، وَاتَّهَمَ إذَا دَخَلَ تِهَامَةَ ، وَأَعْرَقَ إذَا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عُثْمَانَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قُتِلَ ابْنُ عَفَّانَ الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا ، أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ .
وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَكِنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ يَعُمُّ ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي إلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا ثُمَّ قَدْ نُسِخَتْ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ، فَبَقِيَ الدُّخُولُ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ مُرَادًا بِالْآيَتَيْنِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ ( مَكَّةَ حَرَامٌ ) وَالثَّانِي : قَوْلُهُ ( حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ) وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُ ( وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ) وَالرَّابِعُ : قَوْلُهُ ( ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) وَالْخَامِسُ : قَوْلُهُ ( لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ) فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مُحْرِمًا كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ حَلَالًا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } وَجَزَاؤُهُ مَا هُوَ جَزَاءُ قَاتِلِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَإِنْ بَلَغَتْ هَدْيًا لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا أَوْ طَعَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ صَيْدِ الْإِحْرَام إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْإِطْعَامَ يُجْزِئُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَلَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِصَيْدِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّمَانَيْنِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي أَحَدِهِمَا كَذَا فِي الْآخَرِ .
( وَلَنَا ) الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّيْدَيْنِ وَالضَّمَانَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ ، وَهُوَ تَفْوِيتُ أَمْنِ الْحَرَمِ وَرِعَايَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَضَمَانُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا

الْهَدْيُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يُشْبِهُ ضَمَانَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَدْيُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ ، فَيُجْزِئُ عَنْ الطَّعَامِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ لَهُ شَبَهٌ بِأَصْلَيْنِ : ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ ، أَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا ، وَأَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ ، فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَمْوَالِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهَدْيُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْعَكْسِ ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِطْعَامِ ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الْمَالِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَرَمِ شَيْءٌ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ ؛ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ وَهُمَا : الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ فَأَشْبَهَ الْقَارِنَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَأَوْجَبُوا كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ ، وَبَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا ، حَتَّى حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا ، وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إلَّا فِي الْحَرَمِ حَتَّى يُبَاحَ لِلْحَلَالِ الِاصْطِيَادُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا خَرَجَ إلَى الْحِلِّ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ

الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَالْحَرَمُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا الصَّيْدَ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّيْدُ مِنْ الْخَلَى وَالشَّجَرِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وُجُودًا ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَدْخُلُ الْحَرَمَ لَا مَحَالَةَ ، وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ وُجُودًا ، فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْقَارِنِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحُرْمَتَيْنِ أَعَنَى حُرْمَةَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَحُرْمَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَصْلٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ مَا يُحَرِّمُهُ إحْرَامُ الْحَجِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا صَاحِبَتَهَا .
وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُقْسَمُ الضَّمَانُ بَيْنَ عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ ضَمَانِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ ، فَإِنْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَعَلَى الْحَلَالِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ .
وَسَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُ الْحَلَالِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ أَوْ لَا يَجِبُ كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَلَالِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِفِعْلِهِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الشَّرِيكُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ ، فَإِنْ قَتَلَ حَلَالٌ وَقَارَنَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَعَلَى الْحَلَالِ نِصْفُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ ،

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ ، وَالْقَارِنُ جَنَى عَلَى إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ .
وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَمُفْرِدٌ وَقَارِنٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى الْحَلَالِ ثُلُثُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُفْرِدِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ فَعَلَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءٌ كَامِلٌ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا الصَّائِدُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاصْطِيَادِهِ وَهُوَ أَخْذُهُ لِتَفْوِيتِهِ الْأَمْنَ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ بِالْقَتْلِ ، فَتَقَرَّرَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ يُطَالِبُ الْمَالِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَالِكِ ، وَالْمَحِلُّ الْوَاحِدُ لَا يُقَابِلُهُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ ، وَضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ الْمَحِلِّ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ .
وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالضَّمَانِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ عِنْدَهُ فَكَذَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْقَاتِلَ فَوَّتَ عَلَى الْآخِذِ ضَمَانًا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ بِالْإِرْسَالِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ إنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ضَمَانٌ ، يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ ،

وَضَمَانُ الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَالْوَاجِبُ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا بَدَلُ الْمَحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالضَّمَانِ وَإِذَا كَانَ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ .

وَلَوْ دَلَّ حَلَالٌ حَلَالًا عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ دَلَّ مُحْرِمًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَقَالَ زُفَرُ : عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْآمِرُ وَالْمُشِيرُ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ اعْتِبَارُ الْحَرَمِ بِالْإِحْرَامِ ، وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ ، ثُمَّ الدَّلَالَةُ فِي الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا فِي الْحَرَمِ ، وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ ، وَالْأَمْوَالُ لَا تُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، وَإِنَّمَا صَارَ مُسِيئًا آثِمًا لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ حَرَامًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .

وَلَوْ أَدْخَلَ صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ وَجَبَ إرْسَالُهُ ، وَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّيْدَ كَانَ مِلْكَهُ فِي الْحِلِّ ، وَإِدْخَالُهُ فِي الْحَرَمِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ ، فَكَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ : لَا خَيْرَ فِيمَا يَتَرَخَّصُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ حَيًّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ إظْهَارُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْإِرْسَالِ ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبِيعُونَ الْحَجَلَ وَالْيَعَاقِيبَ ، وَهِيَ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْقَبَجِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ حَرَامًا لَظَهَرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِمْ ، فَالْجَوَابُ : إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لِكَوْنِهِ حَلَالًا بَلْ لِكَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَالْإِنْكَارُ لَا يَلْزَمُ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِذَبْحِهِ ؛ فَلِأَنَّهُ ذَبَحَ صَيْدًا مُسْتَحِقَّ الْإِرْسَالِ ، وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ إرْسَالَهُ وَاجِبٌ ، وَالْبَيْعُ تَرْكُ الْإِرْسَالِ .
وَلَوْ بَاعَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ ، فَإِذَا بَاعَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ صَقْرًا أَوْ بَازِيًا

فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الصُّيُودِ ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ وَقَدْ أَرْسَلَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ فَجَعَلَ يَقْتُلُ صَيْدَ الْحَرَمِ .

وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَاتَّبَعَهُ الْكَلْبُ ، فَأَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُرْسِلِ ، وَلَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ ، أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِحَالَةِ الْإِرْسَالِ ، إذْ الْإِرْسَالُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ وَالْإِرْسَالِ وَقَعَ مُبَاحًا لِوُجُودِهِ فِي الْحِلِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ .
وَأَمَّا حُرْمَةُ أَكْلِ الصَّيْدِ ؛ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ ذَبْحٌ لِلصَّيْدِ ، وَأَنَّهُ حَصَلَ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ آدَمِيٌّ إذْ فِعْلُ الْكَلْبِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ فِعْل الْآدَمِيِّ .

وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَنَفَرَ الصَّيْدُ فَوَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ لِحُصُولِهِ فِي الْحِلِّ ، وَالْأَخْذُ وَالْإِصَابَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ وَالرَّامِي وَخَاصَّةً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالَ الرَّمْيِ فِي الْمَسَائِلِ حَتَّى قَالَ فِيمَنْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ مَثَلًا : أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي الرَّمْيِ ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِي الْإِرْسَالِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْإِصَابَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ الْأَثَرِ إلَيْهِ شَرْعًا فَبَقِيَتْ الْإِصَابَةُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا فِي الْأَحْكَامِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا حَصَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ ، وَهَهُنَا قَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ الْكَلْبُ فَمَنَعَ إضَافَةَ الْأَخْذِ إلَى الْمُرْسِلِ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَازِيًا فِي الْحَرَمِ فَأَخَذَ حَمَامَ الْحَرَمِ وَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .

وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى ذِئْبٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ نَصَبَ لَهُ شَرَكًا فَأَصَابَ الْكَلْبُ صَيْدًا أَوْ وَقَعَ فِي الشَّرَكِ صَيْدٌ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ عَلَى الذِّئْبِ ، وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ لَهُ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الذِّئْبِ مُبَاحٌ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى عَادَةً ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ .

وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً فِي الْحَرَمِ لِلصَّيْدِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي نَصْبِ الشَّبَكَةِ وَالْحَفْرِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ .

وَلَوْ نَصَبَ خَيْمَةً فَتَعَقَّلَ بِهِ صَيْدٌ ، أَوْ حَفَرَ لِلْمَاءِ فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدُ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسَبُّبِ ، .

وَقَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَمَاتَ أَوْلَادُهَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَدَّى جَزَاءَهَا مَلَكَهَا فَحَدَثَتْ الْأَوْلَادُ عَلَى مِلْكِهِ .

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ : إنَّ ذَبْحَهُ .
وَالِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ سَوَاءٌ كَانَ أَدَّى جَزَاءَهُ أَوْ لَمْ يُؤَدِّ ، غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعَ ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِهِ ، أَمَّا حِلُّ الذَّبْحِ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَّ فِي الْحَالِّ فَلَا يَكُونُ ذَبْحُهُ حَرَامًا .
وَأَمَّا كَرَاهَةُ هَذَا الصَّنِيعِ فَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ صَيْدِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ وَانْتَفَعَ بِلَحْمِهِ وَأَدَّى قِيمَتَهُ ، فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ عَلَى أَصْلِنَا ، فَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَلَا يَضْمَنُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَإِنْ بَاعَهُ وَاسْتَعَانَ بِثَمَنِهِ فِي جَزَائِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْأَكْلِ خَاصَّةً .
وَكَذَا إذَا قَطَعَ شَجَرَ الْحَرَمِ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الصَّيْدِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ إنْسَانٌ مِنْ الْقَاطِعِ لَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ النَّمَاءِ عَنْهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ ، فَكُلُّ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً وَهُوَ رَطْبٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ .
نَبَاتَ الْحَرَمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ رَطْبٌ فَهُوَ مَحْظُورُ الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا نَحْوُ الْحَشِيشِ الرَّطْبِ وَالشَّجَرِ الرَّطْبِ إلَّا مَا فِيهِ ضَرُورَةٌ وَهُوَ الْإِذْخِرُ فَإِنْ قَلَعَهُ إنْسَانٌ أَوْ قَطَعَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا مُطْلَقًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا } نَهَى عَنْ اخْتِلَاءِ كُلِّ خَلًى وَعَضُدِ كُلِّ شَجَرٍ فَيُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَهُوَ الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ لِحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حَاجَةُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى ذَلِكَ فِي حَيَاتهمْ وَمَمَاتِهِمْ فَإِنْ قِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ اخْتِلَاءِ خَلَى مَكَّةَ عَامًا فَكَيْفَ اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ بِاسْتِثْنَاءِ الْعَبَّاسِ ؟ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي قَلْبِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبَقَهُ بِهِ فَأَظْهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ ، وَالثَّانِي : يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ خَلَى مَكَّةَ إلَّا مَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ ، وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا ثَالِثًا : وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّ الْقَضِيَّةَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ خَلًى فَسَأَلَهُ الْعَبَّاسُ الرُّخْصَةَ فِي الْإِذْخِرِ لِحَاجَةِ أَهْلِ مَكَّةَ تَرْفِيهًا بِهِمْ ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرُّخْصَةِ فِي الْإِذْخِرِ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إلَّا الْإِذْخِرَ " فَإِنْ قِيلَ : مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْتِحَاقِهِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ ذِكْرًا ، وَهَذَا مُنْفَصِلٌ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَبَعْدَ سُؤَالِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ : إلَّا الْإِذْخِرَ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْحَقُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هُوَ إمَّا تَخْصِيصٌ ، وَالتَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي عَنْ الْعَامِّ جَائِزٌ عِنْدَ مَشَايِخِنَا وَهُوَ النَّسْخُ وَالنَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَإِنَّمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَمْنِ ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِأَجْلِ الْحَرَمِ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَسَبِيلُهَا سَبِيلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّهُ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا يَتَصَدَّقُ

بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيًا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالطَّحَاوِيِّ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ .

وَإِذَا أَدَّى قِيمَتَهُ يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقُلُوعِ وَالْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ نَبَاتِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَقْلَعُ وَيَقْطَعُ وَيُؤَدِّي قِيمَتَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّيْدِ ، فَإِنْ بَاعَهُ يَجُوزُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ ، وَلَا بَأْسَ بِقَلْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَكَذَا الْحَشِيشُ الْيَابِسُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ النُّمُوِّ ، وَلَا يَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْهَدَايَا تُحْمَلُ إلَى الْحَرَمِ وَلَا يُمْكِنُ حِفْظُهَا مِنْ الرَّعْيِ ، فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِحَشِيشِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فِيهِ التَّعَرُّضُ بِنَفْسِهِ وَبِإِرْسَالِ الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِهِ اسْتَوَى فِيهِ اصْطِيَادُهُ بِنَفْسِهِ .
وَبِإِرْسَالِ الْكَلْبِ كَذَا هَذَا .

وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً مِنْ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي يُنْبِتُونَهَا فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ وَقَلْعِهِ ؛ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَزْرَعُونَ فِي الْحَرَمِ وَيَحْصُدُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ وَكَذَا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ أَحَدٌ ، مِثْلُ شَجَرَةِ أُمِّ غَيْلَانَ وَشَجَرِ الْأَرَاكِ وَنَحْوُهُمَا ، فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ ، وَإِذَا قَطَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَجْلِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِنْبَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَصَارَ كَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً ، شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحِلِّ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحِلِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْأَغْصَانِ لِأَنَّ الْأَغْصَانَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعُ الْأَصْلِ لَا التَّابِعَ .
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَصْلِهَا فِي الْحَرَمِ وَالْبَعْضُ فِي الْحِلِّ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَيُرَجَّحُ الْحَاظِرُ احْتِيَاطًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّيْدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ مَوْضِعُ قَوَائِمِ الطَّيْرِ إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ عَلَى غُصْنٍ هُوَ فِي الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرِ فِي الْحِلِّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غُصْنٍ هُوَ فِي الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ يُنْظَرُ إلَى مَكَانِ قَوَائِمِ الصَّيْدِ لَا إلَى أَصْلِ الشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ حَتَّى لَوْ رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ فِي الْحَرَمِ وَرَأْسُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ .
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ ، وَلَا بَأْسَ لِلْحَلَالِ أَنْ

يَقْتُلَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحَرَمِ وَبَعْضُهَا فِي الْحِلِّ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا هَذَا إذَا كَانَ قَائِمًا .
فَأَمَّا إذَا نَامَ فَجَعَلَ قَوَائِمَهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسَهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الْقَوَائِمَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِقَوَائِمِهِ بَلْ هُوَ كَالْمُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِذَا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْقَوَائِمِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا ، وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ كَمْأَةَ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الْكَمْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ النَّبَاتِ بَلْ هِيَ مِنْ وَدَائِعِ الْأَرْضِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ وَتُرَابِهِ إلَى الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُونَ الْقُدُورَ مِنْ مَكَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِهْلَاكُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَرَمِ ، فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الْحِلِّ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَرَاهَةُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَ الْحَرَمِ آمِنًا ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَمَ لَمَّا أَفَادَ الْأَمْنَ لِغَيْرِهِ فَلَأَنْ يُفِيدَ لِنَفْسِهِ أَوْلَى .

ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إذَا فَعَلَ إذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَجِبُ وَلَا يَثْبُتُ حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ ، وَالْحَرَمُ يُثْبِتُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَهُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ تَأَدُّبًا وَتَعَوُّدًا كَمَا يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ .

وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ يَصُومُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا الْفِدْيَةُ أَوْ الْإِطْعَامُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ فَعَلَ فِي حَالِ الرِّقِّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ .
وَكَذَا لَوْ فَعَلَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ ، وَإِنْ مَلَكَ .

وَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ فُصُولِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَلْنَرْجِعْ إلَى مَا كُنَّا فِيهِ ، وَهُوَ بَيَانُ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةً مِنْهَا فَمِنْهَا : الْإِسْلَامُ وَمِنْهَا : الْعَقْلُ وَمِنْهَا : النِّيَّةُ وَمِنْهَا : الْإِحْرَامُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِجَمِيعِ فُصُولِهِ وَعَلَائِقِهِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمِنْهَا : .
الْوَقْتُ فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَلَا طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَالْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .
وَكَذَا إذَا فَاتَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ فِي يَوْمٍ آخَرَ ، وَيَفُوتُ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَّا لِضَرُورَةِ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا بِأَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا ثُمَّ تُبُيِّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلُ الشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى مَعْرِفَةِ أَشْهُرِ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْهَا إذَا أَمِنَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ حَالَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ مَعَ .
قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : .
مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ : كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ .
وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ : كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ .
وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ : كَالْحَجِّ ، فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إخْرَاجُ الْمَالِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ ، وَالْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } أَيْ : فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ أَوْ الْأَحْيَاءِ جَازَ وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْآخَرُ : عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمِّي كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْ } وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا

وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعْلِ ثَوَابِهَا لِلْأَمْوَاتِ ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إفْضَالٌ مِنْهُ لَا اسْتِحْقَاقٌ عَلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ بِجَعْلِ الثَّوَابِ لَهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا .
وَأَمَّا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ - وَهِيَ الْحَجُّ - فَلَا يَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي جَوَازِ .
النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ النِّيَابَةِ فِيهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ النِّيَابَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ النَّائِبُ بِهِ مُخَالِفًا وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مِنْ بَنِي خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي ، وَإِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهَا : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ } ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِتَنَافٍ بَيْنَ أَحْكَامِهِمَا فَنَعْتَبِرُهُمَا فِي حَالَيْنِ ، فَنَقُولُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَدَنِ ، وَتَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ اعْتِبَارًا لِلْمَالِ عَمَلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَابَةِ فِيهِ ، فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَدَنُ لِلْحَاجِّ ، وَالْمَالُ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَمَا كَانَ مِنْ الْبَدَنِ لِصَاحِبِ الْبَدَنِ ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمَالِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَكَفَّارَتُهُ فِي مَالِهِ لَا فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ .
وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لَهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُجِّي عَنْ أَبِيك } أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا .
وَلَوْلَا أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عَنْ أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ { : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ ؟ } وَذَلِكَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ وَيَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَذَا هَذَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا الْإِحْرَامُ ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْهُ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَلَهُ مَالٌ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ مَالٌ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ ، فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لَا بِمَالِهِ ، بَلْ الْمَالُ يَكُونُ شَرْطًا وَإِذَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ .
وَمِنْهَا : الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْجَاجِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، فَإِنْ زَالَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ أَوْ الْمَحْبُوسُ إذَا أَحَجَّ عَنْهُ أَنَّ جَوَازَهُ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ - وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ - جَازَ وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوْ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ وَالْإِحْجَاجُ مِنْ الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَةَ وَالْعَمَى لَا يُرْجَى زَوَالُهُمَا عَادَةً فَوُجِدَ الشَّرْطُ - وَهُوَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ - إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَمِنْهَا : الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَمْرِ إلَّا الْوَارِثَ يَحُجُّ عَنْ مُوَرِّثِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّصِّ ، وَلِوُجُودِ الْأَمْرِ هُنَاكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ، وَمِنْهَا : نِيَّةُ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ

الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَحُجُّ عَنْهُ لَا عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ كَمَا إذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ عَنْهُ حَتَّى يَحُجَّ بِمَالِهِ .
وَكَذَا إذَا كَانَ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمَالِهِ وَمَاتَ ، فَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَارِثُهُ بِمَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَحُجَّ بِمَالِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ ؛ وَلِأَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لِلْحَاجِّ ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ رَأْسًا ، وَمِنْهَا : الْحَجُّ رَاكِبًا حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ مَاشِيًا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَاكِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ إلَيْهِ فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاجُّ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ كَانَ صَرُورَةً أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَيَقَعُ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَنْ شُبْرُمَةُ ؟ فَقَالَ : أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَجَجْت عَنْ نَفْسِك ؟ فَقَالَ : لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ } فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ عَنْ

شُبْرُمَةَ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ حَجَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ ، وَحَجُّهُ عَنْ غَيْرِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَلَنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا حُجِّي عَنْ أَبِيك ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا كَانَتْ حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ كَانَتْ صَرُورَةً .
وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْت كَمَا يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا عَيَّنَهُ لِحَجِّهِ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الصَّرُورَةَ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْفَرْضِ بَلْ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ ، فَإِذَا عَيَّنَهُ لِلنَّفْلِ تَعَيَّنَ لَهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ ؛ لِوُجُودِ نِيَّةِ الْفَرْضِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ النَّفَلَ ، وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ فَانْصَرَفَ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُقَيَّدِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ لَكِنْ الدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ بِخِلَافِهَا فَإِذَا نَوَى التَّطَوُّعَ ، فَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ تَارِكًا إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَيَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الْإِحْجَاجِ ضَرْبُ كَرَاهَةٍ ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَجَّ مَرَّةً كَانَ أَعْرَفَ بِالْمَنَاسِكِ .
وَكَذَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ فَكَانَ أَفْضَلَ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ إحْجَاجُ الْمَرْأَةِ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ .
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَجِّهَا ضَرْبُ

نُقْصَانٍ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ فَإِنَّهَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا تَحْلِقُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُكْرَهُ إحْجَاجُ الْعَبْدِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِالنِّيَابَةِ ، وَمَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا .
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مُخَالِفًا ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ فَنَقُولُ : إذَا أَمَرَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَرَنَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُجْزِي ذَلِكَ عَنْ الْآمِرِ نَسْتَحْسِنُ وَنَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ ، وَلَا يَضْمَنُ فِيهِ دَمَ الْقِرَانِ عَلَى الْحَاجِّ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَزَادَ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الزِّيَادَةِ دَلَالَةً ، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : اشْتَرِ لِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ قَالَ : بِعْ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يَجُوزُ ، وَيُنَفِّذُ عَلَى الْآمِرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ إذَا قَرَنَ بِإِذْنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَانَ الدَّمُ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا نَذْكُرُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إلَى الْحَجِّ لَا غَيْرُ ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَضَمِنَ .
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ وَلَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ فِي قَوْلِهِمْ ؛ جَمِيعًا لِأَمْرِهِ بِهِ بِالْحَجِّ ، بِسَفَرٍ وَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ إلَى الْعُمْرَةِ ، فَكَانَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ .
وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَجَمَعَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَحَجَّ عَنْهُ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ صَارَ مُخَالِفًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ النَّفَقَةَ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَيَطْرَحُ عَنْ الْحَجِّ مَا أَصَابَ الْعُمْرَةَ ، وَيَجُوزُ مَا أَصَابَ الْحَجَّ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْمُورَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ - وَهُوَ الْحَجُّ - عَنْ الْآمِرِ وَزَادَهُ

إحْسَانًا حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْهُ بَعْضَ النَّفَقَةِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كُلِّ السَّفَرِ إلَى الْحَجِّ ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عَنْ الْآمِرِ وَعُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَقَوْلُهُ : ( أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِ حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْهُ بَعْضَ النَّفَقَةِ ) غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْآمِرِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَكُونُ إحْسَانًا ، بَلْ يَكُونُ إسَاءَةً وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَاعْتَمَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ بِالسَّفَرِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجَّ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ مِقْدَارُ مَقَامِهِ لِلْحَجِّ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَيَّاتِ إذَا حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ وَطَافَ لِحَجِّهِ وَسَعَى ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِ عُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةُ الرَّفْضِ ؛ لِوُقُوعِهَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْقِرَانِ ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَفَضَ الْعُمْرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَوَقَعَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ .
`

وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً وَأَمَرَهُ رَجُلٌ آخَرُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : .
إمَّا إنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِمَّا إنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ مُخَالِفٌ ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْهُ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا إنْ كَانَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ تَامٍّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، فَصَارَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِمَا فَلَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُمَا فَيَضْمَنُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فَيَضْمَنُ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْحَاجِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقَعَ كُلُّ فِعْلٍ عَنْ فَاعِلِهِ .
وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَصِرْ لِغَيْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ لَهُ .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الِابْنِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْحَجِّ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَلَا تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْآمِرِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ثَوَابَ الْحَجِّ الْوَاقِعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَبَوَيْهِ ، وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُمَا ثُمَّ نَقَضَ عَزْمَهُ وَجَعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْآمِرِ ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَحْرَمَ لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الَّذِي عَيَّنَهُ ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِلْآخَرِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْأَدَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا .
وَجْهُ

الْقِيَاسِ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْحَجِّ لِمُعَيَّنٍ ، وَقَدْ حَجَّ لِمُبْهَمٍ ، وَالْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَصَارَ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ الِابْنُ بِالْحَجِّ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْنَ فِي حَجِّهِ لِأَبَوَيْهِ لَيْسَ مُتَصَرِّفًا بِحُكْمِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخَالِفًا لِلْآمِرِ بَلْ هُوَ يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ ، ثُمَّ يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لِأَحَدِهِمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ .
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ مِنْ الْأَدَاءِ بَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ مُتَصَوَّرٌ بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ ، فَإِذَا جَعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ تَعَيَّنَ لَهُ فَيَقَعُ عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى طَافَ شَوْطًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ مَضَى وَانْقَضَى ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْيِينُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَصَارَ إحْرَامُهُ وَاقِعًا لَهُ لِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ .

وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَجَّةٍ ، وَأَمَرَهُ الْآخَرُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ أَذِنَا لَهُ بِالْجَمْعِ - وَهُوَ الْقِرَانُ - فَجَمَعَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ بَعْضُهُ إلَى الْحَجِّ وَبَعْضُهُ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إلَى الْحَجِّ ، وَقَدْ صَرَفَهُ إلَى : الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَصَارَ مُخَالِفًا ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ .

وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ - وَهُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا - لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْآمِرِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ ، وَالنَّفَقَةُ فِي الرُّكُوبِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ حَجَّ عَلَى حِمَارٍ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ ، وَالْجَمَلُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي رُكُوبِ الْجَمَلِ أَكْثَرُ فَكَانَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ فِيهِ أَكْمَلَ فَكَانَ أَوْلَى .

وَإِذَا فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ أَوْ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَرَنَ عَنْ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فَدَمُ الْقِرَانِ عَلَيْهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ فِي مَالِ الْحَاجِّ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ خَاصَّةً ، فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ دَمُ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَمَّا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ ؛ فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنْ الْجِنَايَةِ ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ خَالَفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ فَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ شُكْرًا ، وَسَائِرُ أَفْعَالِ النُّسُكِ ، عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَلِأَنَّ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤْنَةِ ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا .

، فَإِنْ جَامَعَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَيَمْضِي فِيهِ وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ ، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا .
وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ - صَحِيحَةٍ وَهِيَ الْخَالِيَةُ عَنْ الْجِمَاعِ - وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَصَارَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ وَمَا بَقِيَ يُنْفِقُ فِيهِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقَعَ لَهُ وَيَقْضِي ؛ لِأَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ فَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ فَاتَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْخِلَافُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَإِذَا فَاتَتْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ .

وَقَالُوا فِيمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ : لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحَجِّ لَا بِالْإِحْجَاجِ كَأَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ النَّفَقَةَ .
فَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ الْآمِرِ يَنْظُرُ ، فَإِنْ بَلَغَ مَالُ الْآمِرِ الْكِرَاءَ وَعَامَّةَ النَّفَقَةِ فَالْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَيَكُونُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرُدُّ الْمَالَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَعْتَبِرَ الْأَكْثَرَ وَيَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ وَقَلِيلَ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ شَرْبَةِ مَاءٍ ، أَوْ قَلِيلِ زَادٍ فَلَوْ اعْتَبَرَ الْقَلِيلَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْإِحْجَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَيُعْتَبَرُ الْكَثِيرُ .

وَلَوْ أَحَجَّ رَجُلًا يُؤَدِّي الْحَجَّ وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ جَازَ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ صَارَ مُؤَدِّيًا بِالْفَرَاغِ عَنْ أَفْعَالِهِ .
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعُودَ إلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ ، فَمَهْمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ أَكْثَرَ كَانَ الثَّوَابُ أَكْثَرَ وَأَوْفَرَ ، وَإِذَا فَرَغَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مِنْ الْحَجِّ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ قَدْ صَحَّتْ فَصَارَ تَارِكًا لِلسَّفَرِ فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ .
وَلَوْ أَنْفَقَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ إنْ أَقَامَ إقَامَةً مُعْتَادَةً فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ فَالنَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ حَتَّى قَالُوا : إذَا أَقَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ، وَإِنْ زَادَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَالُوا فِي الْخُرَاسَانِيِّ : إذَا جَاءَ حَاجًّا عَنْ غَيْرِهِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا إقَامَةً مُعْتَادَةً مِقْدَارَ مَا يُقِيمُ النَّاسُ بِهَا عَادَةً فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ زَمَانَ أَمْنٍ يَتَمَكَّنُ الْحَاجُّ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ نَفَرٍ يَسِيرٍ ، فَقَدَّرُوا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ .
فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ لِلْأَفْرَادِ وَالْآحَادِ وَلَا لِجَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ مَكَّةَ إلَّا مَعَ الْقَافِلَةِ فَمَا دَامَ مُنْتَظِرًا خُرُوجَ الْقَافِلَةِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَكَذَا هَذَا فِي إقَامَتِهِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ مَا دَامَ مُنْتَظِرًا لِخُرُوجِ الْقَافِلَةِ ، فَالنَّفَقَةُ فِي

مَالِ الْآمِرِ لِتَعَذُّرِ سَبْقِهِ بِالْخُرُوجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلْهَلَاكِ فَالتَّعْوِيلُ فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ عَلَى ذَهَابِ الْقَافِلَةِ وَإِيَابِهَا .
فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا حَتَّى سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ تَعُودُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْآمِرِ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ تَعُودُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْآمِرِ بِلَا خِلَافٍ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقَامَةَ تَرْكُ السَّفَرِ لَا قَطْعُهَا ، وَالْمَتْرُوكُ يَعُودُ ، فَأَمَّا اتِّخَاذُ مَكَّةَ دَارًا وَالتَّوَطُّنُ بِهَا فَهُوَ قَطْعُ السَّفَرِ ، وَالْمُنْقَطِعُ لَا يَعُودُ .

وَلَوْ تَعَجَّلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ لِيَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ ، فَدَخَلَ مُحْرِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ إلَى عَشْرِ الْأَضْحَى فَإِذَا جَاءَ عَشْرُ الْأَضْحَى أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ كَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ غَالِبًا ، فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْإِقَامَةُ مَأْذُونًا فِيهَا كَالْإِقَامَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعْتَادِ ، وَلَا يَكُونُ بِمَا عَجَّلَ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مَا عَيَّنَّ لَهُ وَقْتًا .

، وَالتِّجَارَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا يَمْنَعَانِ جَوَازَ الْحَجِّ ، وَيَجُوزُ حَجُّ التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ وَالْمُكَارِي ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } قِيلَ : الْفَضْلُ التِّجَارَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ امْتَنَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَنْ التِّجَارَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ حَجَّهُمْ ، فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ طَلَبَ الْفَضْلِ فِي الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّا قَوْمٌ نُكْرَى ، وَنَزْعُمُ أَنَّ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ فَقَالَ : أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ ؟ قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَأَنْتُمْ حُجَّاجٌ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } } ؛ وَلِأَنَّ التِّجَارَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَمْنَعَانِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَشَرَائِطِهَا ، فَلَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ .
الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْجِمَاعَ يُفْسِدُ الْحَجَّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ - وَهُمَا مُحْرِمَانِ - مَضَيَا فِي إحْرَامِهِمَا وَعَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَيَقْضِيَانِ مِنْ قَابِلٍ وَيَفْتَرِقَانِ ؛ وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ فِي نِهَايَةِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ ، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ .

( وَأَمَّا ) شَرْطُ كَوْنِهِ مُفْسِدًا فَشَيْئَانِ : .
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ عَانَقَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ ؛ لِانْعِدَامِ الِارْتِفَاقِ الْبَالِغِ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِوُجُودِ اسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ عَنْ شَهْوَةٍ .
وَلَوْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا إذَا ؛ أَنْزَلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ .
وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا يَفْسُدُ الْحَجُّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ عِنْدَهُمَا حَتَّى قَالُوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُفْسِدُ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ ، وَيُوجِبُ الِاغْتِسَالَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُفْسِدُ ؛ لِعَدَمِ كَمَالِ الِارْتِفَاقِ ؛ لِقُصُورِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِيهِ لِسُوءِ الْمَحَلِّ ، فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِهَا لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ، الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَفْسُدُ الْحَجُّ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ ، ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ الْجِمَاعَ إنَّمَا عُرِفَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ لِكَوْنِهِ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ ، وَالْإِحْرَامُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بَاقٍ لِبَقَاءِ رُكْنِ الْحَجِّ - وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ - وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الرُّكْنِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ فَصَارَ الْحَالُّ بَعْدَ الْوُقُوفِ كَالْحَالِّ قَبْلُ ، .
( وَلَنَا ) أَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ لِلْحَجِّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } أَيْ : الْوُقُوفُ

بِعَرَفَةَ ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَخْبَرَ عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ ذَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وُجُودًا وَصِحَّةً لَا يَقِفُ وُجُودُهُ وَصِحَّتُهُ عَلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ وَمَا وُجِدَ وَمَضَى عَلَى الصِّحَّةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالرِّدَّةِ ، وَلَمْ تُوجَدْ وَإِذَا لَمْ يُفْسِدْ الْمَاضِيَ لَا يُفْسِدُ الْبَاقِيَ ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ بِفَسَادِهِ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِمَا نَذْكُرُهُ .
وَيَسْتَوِي فِي فَسَادِ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَسَادِ ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَفْتَوْا بِفَسَادِ حَجِّهِمَا حَيْثُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ عَلَيْهِمَا وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ وَالذَّاكِرُ وَالنَّاسِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُفْسِدُهُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ .
وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْحَظْرَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ : يَثْبُتُ وَإِنَّمَا الْمَرْفُوعُ هُوَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَسْتَوِي فِيهِ الطَّوْعُ وَالْإِكْرَاهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ ؛ لَا يُزِيلُ الْحَظْرَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهَا عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا اسْتِمْتَاعٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا تَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ كَالْمَغْرُورِ .
إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِمِ كَذَا هَذَا وَيَسْتَوِي فِيهِ كَوْنُ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مُسْتَيْقِظَةً أَوْ نَائِمَةً حَتَّى يَفْسُدُ حَجُّهَا فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ

الْمُجَامِعُ لَهَا مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا ؛ لِأَنَّ النَّائِمَةَ فِي مَعْنَى النَّاسِيَةِ ، وَالنِّسْيَانُ لَا يَمْنَعُ فَسَادَ الْحَجِّ كَذَا النَّوْمُ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ كَوْنُ الْمُجَامِعِ عَاقِلًا بَالِغًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ عَاقِلَةً بَالِغَةً حَتَّى يَفْسُدَ حَجُّهَا ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَفَسَادُ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ : مِنْهَا وُجُوبُ الشَّاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وُجُوبُ بَدَنَةٍ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْبَدَنَةَ لِتَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ ، وَالْجِنَايَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَغْلَظُ ؛ لِوُجُودِهَا حَالَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَاءِ رُكْنَيْ الْحَجِّ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَبْقَ إلَّا أَحَدُهُمَا ، فَلَمَّا وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَأَنْ تَجِبَ قَبْلَهُ أَوْلَى ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْبَدَنَةَ فِي الْحِجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا : إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَعُدْ ، وَالثَّانِي : إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَرَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : وَعَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَاسْمُ ، الْهَدْيِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنَّ الشَّاةَ أَدْنَى ، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْغَنَمِ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ رَوَيْنَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ أَدْنَاهُ شَاةٌ } وَيُجْزِئُ فِيهِ شَرِكَةٌ فِي جَزُورٍ أَوْ ، بَقَرَةٍ ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْبُدْنِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحُوا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " وَاعْتِبَارُهُ بِمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَخَفُّ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فَسَادَ الْحَجِّ ، وَالْقَضَاءُ خُلْفٌ عَنْ الْفَائِتِ ، فَيُجْبِرُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَتَخِفُّ الْجِنَايَةُ فَيُوجِبُ نُقْصَانَ الْمُوجِبِ ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ مَا تَجِبُ بِهِ الْجِنَايَةُ فَبَقِيَتْ

مُتَغَلِّظَةً فَتَغَلَّظَ الْمُوجِبُ .

وَلَوْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَكَرَّرَ فَتَكَرَّرَ الْوَاجِبُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَمَا أَوْجَبُوا إلَّا دَمًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْوُجُوبِ اجْتَمَعَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيُكْتَفَى بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْأَفْعَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَا يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَإِيلَاجَاتٍ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ إيلَاجَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ أَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ كَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ إلَّا إذَا كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ جَزَاءً لِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، وَالْحُرْمَةُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا انْهَتَكَتْ مَرَّةً لَا يُتَصَوَّرُ انْهِتَاكُهَا ثَانِيًا كَمَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَكَمَا إذَا جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا كَفَّرَ فَقَدْ جَبَرَ الْهَتْكَ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْهَتْكُ ثَانِيًا ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ - وَهُوَ الْأَصْلُ - إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ جَعْلَ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا - وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ - وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ لِلصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجِمَاعِ الثَّانِي إلَّا شَاةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ

الْأَوَّلَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا شَاةً وَاحِدَةً فَالثَّانِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ إحْرَامًا صَحِيحًا ، وَالثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا مَجْرُوحًا فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لِلْأَوَّلِ إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَالثَّانِي أَوْلَى .

وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْأَوَّلِ وَلِلثَّانِي شَاةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ بَدَنَةً يَجِبُ لِلثَّانِي شَاةٌ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ هَذَا إذَا لَمْ يُرِدْ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْجِمَاعِ رَفْضَ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِهِ رَفْضَ الْإِحْرَامِ ، وَالْإِحْلَالِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَفْعُولٌ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ الْوَاحِدِ .

وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمُضِيِّ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَمْضِيَا فِي إحْرَامِهِمَا ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ لِضَرُورَةِ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا ، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ فَيَفْعَلُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْحَجَّةِ الصَّحِيحَةِ وَيَجْتَنِبُ جَمِيعَ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي الْحَجَّةِ الصَّحِيحَةِ .

وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ ؛ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْضِيَانِهِ مِنْ قَابِلٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنْ الْجِمَاعِ ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْزَمُهُ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عَنْهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَائِتِ الْحَجِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ أَفْعَالُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ إذَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْهَدْيِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ أَمَّا قَضَاءُ الْحَجَّةِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُمَا الِافْتِرَاقُ فِي الْقَضَاءِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ لَكِنَّهُمَا إنْ خَافَا الْمُعَاوَدَةَ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا أَنْ يَفْتَرِقَا .
وَقَالَ زُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَفْتَرِقَانِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَفْتَرِقَانِ ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ ثَانِيًا فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالِافْتِرَاقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ الِافْتِرَاقِ قَالَ مَالِكٌ : إذَا خَرَجَا مِنْ بَلَدِهِمَا يَفْتَرِقَانِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَكَّرَانِ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَقَعَانِ فِيهِ وَقَالَ زُفَرُ : يَفْتَرِقَانِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْإِحْرَامِ ؛ هُوَ الَّذِي حَظَرَ عَلَيْهِ الْجِمَاعَ .
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ مُبَاحًا ، وَلَنَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ ، وَالزَّوْجِيَّةُ عِلَّةُ الِاجْتِمَاعِ لَا الِافْتِرَاقِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ خَوْفِ الْوُقُوعِ ، يَبْطُلُ بِالِابْتِدَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ الِافْتِرَاقُ فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ خَوْفِ الْوُقُوعِ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : ( يَتَذَكَّرَانِ مَا فَعَلَا فِيهِ ) فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَذَكَّرَانِ ، وَقَدْ لَا يَتَذَكَّرَانِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ

يَفْعَلُ فِعْلًا فِي مَكَان يَتَذَكَّرُ ذَلِكَ الْفِعْلَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَا يَتَذَكَّرَانِ مَا فَعَلَا فِيهِ يَتَذَكَّرَانِ مَا لَزِمَهُمَا مِنْ وَبَالِ فِعْلِهِمَا فِيهِ أَيْضًا فَيَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ عَنْ الْفِعْلِ ، ثُمَّ يَبْطُلُ هَذَا بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ فَإِنَّهُ إذَا لَبِسَ الْمِخْيَطَ أَوْ تَطَيَّبَ حَتَّى لَزِمَهُ الدَّمُ يُبَاحُ لَهُ إمْسَاكُ الثَّوْبِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُذَكِّرُهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ ، فَدَلَّ أَنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَا فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَفْتَرِقَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ .

فَأَمَّا إذَا كَانَ قَارِنًا ، فَالْقَارِنُ إذَا جَامَعَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْكَثْرَةِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا عَلَى الْفَسَادِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ .
أَمَّا فَسَادُ الْعُمْرَةِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعُمْرَةِ كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ .
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجَّةِ ؛ فَلِحُصُولِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمَيْنِ فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ عِنْدَنَا ، فَالْجِمَاعُ حَصَلَ جِنَايَةً عَلَى إحْرَامَيْنِ فَأَوْجَبَ نَقْصًا فِي الْعِبَادَتَيْنِ فَيُوجِبُ كَفَّارَتَيْنِ كَالْمُقِيمِ إذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ .
وَأَمَّا لُزُومُ الْمُضِيِّ فِيهِمَا فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَائِهِمَا ؛ فَلِإِفْسَادِهِمَا فَيَقْتَضِي عُمْرَةً مَكَانَ عُمْرَةٍ وَحَجَّةً ، مَكَانَ حَجَّةٍ وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ عَنْهُ ؛ فَلِأَنَّهُ أَفْسَدَهُمَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَارِنَ إذَا فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ أَوْ أَفْسَدَ أَحَدَهُمَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ شُكْرًا ، لِنِعْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَبِالْفَسَادِ بَطَلَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَسَقَطَ الشُّكْرُ وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَوْ طَافَ أَكْثَرَهُ - وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ - أَوْ بَعْدَ مَا طَافَ لَهَا وَسَعَى قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَتْ حَجَّتُهُ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ أَمَّا فَسَادُ حَجَّتِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ حُصُولُ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ عُمْرَتِهِ فَلِحُصُولِ الْجِمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ رُكْنِهَا فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهَا كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ : أَحَدُهُمَا لِفَسَادِ الْحَجَّةِ بِالْجِمَاعِ وَالْآخَرُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ

الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ هِيَ الَّتِي فَسَدَتْ دُونَ الْعُمْرَةِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْحَجُّ وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا عُمْرَتُهُ أَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ ؛ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ وُجِدَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ .
وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ ؛ فَلِأَنَّهُ جَامَعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ رُكْنِ الْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إتْمَامُهَا عَلَى الْفَسَادِ فَعَلَى الصِّحَّةِ ، وَالْجَوَازُ أَوْلَى وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ ، الْبَدَنَةُ لِأَجْلِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَالشَّاةُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لِلْعُمْرَةِ بَاقٍ ، وَالْجِمَاعُ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ يُوجِبُ الشَّاةَ وَهَهُنَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فَسَادُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَا فَسَادُ أَحَدِهِمَا ، فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّمِ شُكْرًا ، فَإِنْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، فَعَلَيْهِ دَمَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
فَإِنْ جَامَعَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلزِّيَارَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَحَلَّلُ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ مَعًا وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ فَكَذَا فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ كَمَا يَقَعُ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ بِالْحَلْقِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ الْإِحْرَامُ رَأْسًا إلَّا إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ

وَالتَّقْصِيرِ ، فَعَلَيْهِ شَاتَانِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ لَهُمَا جَمِيعًا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ طَاهِرًا ، ثُمَّ جَامَعَ النِّسَاءَ قَبْل أَنْ يُعِيدَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ : أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَلَا شَيْءَ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِيمَا إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ طَاهِرًا أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ دَمًا وَكَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُنَا : ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فَقَدْ وَقَعَ التَّحَلُّلُ بِطَوَافِهِ ، وَالْجِمَاعُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا أَعَادَهُ - وَهُوَ طَاهِرٌ - فَقَدْ انْفَسَخَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَصَارَ طَوَافُهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَتُبُيِّنَ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الطَّوَافِ فَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ يَسِيرٌ فَلَمْ يَنْفَسِخْ الْأَوَّلُ فَبَقِيَ جِمَاعُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلُ ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ أَنَّهُ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَهَا وَعَلَيْهِ فِي الْحَجِّ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الطَّوَافِ أَكْثَرُ - الْأَشْوَاطِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ - فَإِذَا طَافَ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ فَلَمْ يَأْتِ بِأَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ فَحَصَلَ الْجِمَاعُ قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَجَامَعَ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ ، وَالْقَضَاءُ لِلْفَوَاتِ أَمَّا وُجُوبُ الْمُضِيِّ فَلِبَقَاءِ

الْإِحْرَامِ وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ بِالْجِمَاعِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحَلُّلٌ بِمِثْلِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، وَلَيْسَ بِعُمْرَةٍ بَلْ هُوَ بَقِيَّةُ أَفْعَالِ حَجٍّ قَدْ وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ إذَا جَامَعَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ وَالْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ أَوَّلًا ثُمَّ يُحْرِمُ بِحَجَّةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْحَجَّةِ ، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ فِي مَوْضِعِهِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ بِفَوَاتِهِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، فَالْحَجُّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يَفُوتُ إلَّا بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامَ - الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ - لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ ، فَيَدُلُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوَاتِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } جَعَلَ مُدْرِكَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ ، وَالْمُدْرَكُ لَا يَكُونُ فَائِتًا .

وَأَمَّا حُكْمُ فَوَاتِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا : أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ دَمٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } .
وَعَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ : يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : بِإِحْرَامِ الْحَجِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَيَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ { فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ } سَمَّاهُ عُمْرَةً وَلَا عُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، فَدَلَّ أَنَّ إحْرَامَهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَلِأَنَّ الْمُؤَدَّى أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ ، فَكَانَتْ عُمْرَةً ، وَلَهُمَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَضَافَ الْعَمَلَ إلَى الْعُمْرَةِ ، وَالشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ ، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، فَالْقَوْلُ بِانْقِلَابِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ

الِانْفِسَاخَ ، وَفِي الِانْقِلَابِ انْفِسَاخٌ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ كَمَا يَتَحَلَّلُ أَهْلُ الْآفَاقِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ .
وَلَوْ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ - وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ - وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَثْبُتُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ أَنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ لَمْ يَنْقَلِبْ إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ الْمُؤَدَّى لَيْسَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ بَلْ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى عَمَلِ الْعُمْرَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ .

وَمِنْهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ ، وَلَا دَمَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ عِنْدَنَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ ( أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ كَالْمُحْصَرِ ) وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ : يُحِلُّ بِعُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ .
وَكَذَا فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّحَلُّلَ وَالْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ كُلَّ الْحُكْمِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ { مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ الدَّمِ فَقَدْ جَعَلَ الْكُلَّ بَعْضًا - وَهُوَ نَسْخٌ أَوْ تَغْيِيرٌ - فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ ، وَقَوْلُهُ " تَحَلَّلْ قَبْلَ الْوُقُوفِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ فَائِتُ الْحَجِّ ، وَالتَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ فَائِتِ الْحَجِّ كَالْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ ، وَلَيْسَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ طَوَافُ الصَّدْرِ ؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ عُرِفَ وُجُوبُهُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ } وَهَذَا لَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ فَائِتُ الْحَجِّ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَطُوفُ لِلْعُمْرَةِ وَيَسْعَى لَهَا ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ ؛ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَقَدْ بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ ، أَمَّا الطَّوَافُ لِلْعُمْرَةِ وَالسَّعْيُ لَهَا فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَقْتُهَا ، فَيَأْتِي بِهَا كَمَا يَأْتِي الْمُدْرِكُ لِلْحَجِّ .
وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ ، فَلِأَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا ، وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ .
وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ مِنْ الطَّوَافَ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ ، وَيَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْقَارِنُ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْحَجَّةَ فَاتَتْهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ فَنَقُولُ : مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ ، وَإِمَّا إنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَأْثَمُ بِلَا خِلَافٍ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُشْكِلُ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى التَّرَاخِي ، فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ يَضِيقُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ فِي وَقْتٍ يَحْتَمِلُ الْحَجَّ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ قَادِرًا ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُقَرَّرًا ، وَيُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَفْوِيتِهِ الْفَرْضَ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَأْثَمُ لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُلْزِمَ الْوَارِثَ الْحَجَّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَهَذَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعُشْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّ ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا فَقَالَ : نَعَمْ } فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ الرَّجُلِ عَنْ أُمِّهِ ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ

أَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ وَصِيَّةٍ أَوْ لَا عَنْ وَصِيَّةٍ .
وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ .
وَأَمَّا قِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِجْزَاءِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَيِّتِ قَطْعًا ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ قَطْعًا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلسُّقُوطِ قَطْعًا ، وَالْمُوجِبُ لِسُقُوطِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الْعَمَلِ لَا عِلْمَ الشَّهَادَةِ ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الثُّبُوتِ وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الْعَمَلِ فَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ وَالسُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى احْتِرَازًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ - وَلَهُ مَالٌ - أَنَّهُ يَأْمُرُ وَارِثَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً ، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا لَكِنْ أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ ؛ لِاحْتِمَالِ الْعَدَمِ ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هَلَّا أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّكَ أَبْعَدْت فِي الْقِيَاسِ إذْ لَا كُلَّ خَبَرٍ يُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ ، وَمَحَلُّ سُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ هَذَا ، فَإِنْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ مِنْهُ فِي مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ فَتَقَعُ الْغُنْيَةُ عَنْ الْإِفْصَاحِ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .

وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ .
وَيَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ قَدْ صَحَّتْ .
وَإِذَا حُجَّ عَنْهُ يَجُوزُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ .
وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ عَنْهُ ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَجُّ بِمَالِ الْمُوصِي أَوْ بِأَكْثَرِهِ إلَّا تَطَوُّعًا ، وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ سَوَاءٌ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ ، أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَمَّا إذَا قَيَّدَ فَظَاهِرٌ .
وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُنَفَّذُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ فَمُطْلَقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ فِي خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ خُرَاسَانَ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَكِّيٍّ قَدِمَ الرَّيَّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ حُجَّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ قُرِنَ عَنْهُ مِنْ الرَّيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَصِحُّ - وَهُوَ الْقِرَانُ - مِنْ حَيْثُ مَاتَ هَذَا إذَا كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا .
وَكَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمَالٍ سَمَّى مَبْلَغَهُ إنْ كَانَ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ ، وَإِلَّا فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عَلَى مَا قَصَدَهُ الْمُوصِي ، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ الْمَالِ ثَمَنَ النَّسَمَةِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ تَفْرِيغُ

ذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ، وَذَلِكَ فِي التَّصْحِيحِ لَا فِي الْإِبْطَالِ .
وَلَوْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ لَبَطَلَتْ ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ لَصَحَّتْ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهَا ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ النَّسَمَةِ تَعَذَّرَ التَّصْحِيحُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَبَطَلَتْ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أَقْرَبَ مِنْ مَكَّةَ ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِغَيْرِ الْحَجِّ حُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَدْرَ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ فِي سَفَرِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ يُعْتَبَرُ لَكِنْ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ - وَهُوَ الثَّوَابُ - لَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ، وَكَلَامُنَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا .

وَلَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَأَقَامَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى دَارَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ عَمَلُ الْحَجَّةِ الَّتِي سَافَرَ لَهَا فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَنْ الْحَجِّ .
وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ إلَّا مَاشِيًا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ بِهِ وَلَكِنْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ ، وَإِنْ أَحَجُّوا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوصِي بِالْحَجِّ إذَا اتَّسَعَتْ نَفَقَتُهُ لِلرُّكُوبِ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مَاشِيًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا فَإِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَوْصَاهُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَاكِبًا .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَاشِيًا كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالرُّكُوبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِبَلَدِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُمَا جَمِيعًا ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَيُّهُمَا كَانَ ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فَحُجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ ، وَفَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ وَتُبُيِّنَ أَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُ مِنْ مَوْضِعٍ أَبْعَدَ مِنْهُ يَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ وَيُحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ؛ لِأَنَّهُ تُبُيِّنَ أَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ زَادٍ أَوْ كِسْوَةٍ ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَرُدُّ الْفَضْلَ إلَى الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي وَطَنَانِ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْوَطَنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ دَخَلَ فِي

الْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ وَفِي دُخُولِ الْأَبْعَدِ شَكٌّ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَجَبَ الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ إذَا أَحَجَّ الْوَصِيُّ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَيَكُونُ الْحَجُّ لَهُ وَيَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أَحَجَّ عَنْهُ قَرِيبًا إلَى وَطَنِهِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْوَطَنِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا ، وَيَكُونُ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ .
وَلَوْ مَاتَ فِي مَحَلَّةٍ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى جَازَ كَذَا هَذَا .

فَإِنْ قَالَ الْمُوصِي أَحِجُّوا عَنَى بِثُلُثِ مَالِي ، وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا حُجَّ عَنْهُ حِجَجًا كَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَثُلُثُ مَالِهِ ، يَبْلُغُ حِجَجًا يُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ وَطَنِهِ - وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ - إلَّا إذَا أَوْصَى أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ فَيُحَجُّ عَنْهُ حِجَجًا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَثْبَتُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هَذَا السَّهْمِ ، ثُمَّ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ الْحِجَجَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْجِيلُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ ، وَالتَّعْجِيلُ فِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ .

وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بُيِّنَ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بَعُدَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ الْإِحْجَاجَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ أَمْرِهِ .
وَمَا فَضَلَ فِي يَدِ الْحَاجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ النَّفَقَةِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا فَضَلَ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ إنَّمَا يَمْلِكُ ، بِالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَكَانَ الْفَاضِلُ مِلْكَ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ .
وَلَوْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَعَزَلَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَجِّ وَدَفَعَ بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ الْمَعْزُولُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَوْ فِي يَدِ الْحَاجِّ قَبْلَ الْحَجِّ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيُحَجُّ لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي حَتَّى يَحْصُلَ الْحَجُّ أَوْ يَنْوِيَ الْمَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ ، وَقِسْمَةُ الْوَصِيِّ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَاسَمَ مَعَ الْوَرَثَةِ وَعَزَلَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ يَهْلِكُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْبَاقِي كَذَلِكَ الْحَجُّ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ ثُلُثِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَعْزُولِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْمَعْزُولِ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ

شَيْءٌ فَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ ذَلِكَ الْمَالُ ، وَلَكِنْ مَاتَ الْمُجَهَّزُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةِ فَمَا أَنْفَقَ الْمُجَهَّزُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَى الْخِلَافِ بَلْ عَلَى الْوِفَاقِ ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُجَهَّزِ الْقِيَاسُ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَالِ الْمُوصِي ، فَيَعْزِلُ ثُلُثَ مَالِهِ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحُجُّ بِالْبَاقِي مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا .

( فَصْلٌ ) : ثُمَّ الْحَجُّ كَمَا هُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ - وَهُوَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ - فَقَدْ يَجِبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِنَاؤُهُ عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ النَّذْرُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ لِأَنَّ النَّذْرَ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ حَجَّةٌ فَهَذَا .
وَقَوْلُهُ : لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إحْرَامٌ : أَوْ قَالَ عَلَيَّ إحْرَامٌ صَحَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، وَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ جَازَ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَلَوْ قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، وَلَوْ قَالَ : إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْخُرُوجُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الْإِتْيَانُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ ، فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ .

فَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً ، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا ، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِقَوْلِهِ { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّاةُ ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَدْيِ مَا لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا - وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ - وَقَدْ رَوَيْنَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ } ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كَانَ أَعْلَاهُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى ، أَيْ : يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْغَنَمِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عَنْ الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ } .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا ، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } أَيْ : قَائِمَةً مُصْطَفَّةً ، وَالْإِبِلُ هِيَ الَّتِي تُنْحَرُ كَذَلِكَ .
فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ } .
حَتَّى قَالَ جَابِرٌ { نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مَيَّزَ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ } فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ ) وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ : إنَّ رَجُلًا صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ مِنْ بَنِي رَبَاحٍ فَقَالَ مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ ، إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ .
وَلَوْ لَمْ يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ ، فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى النَّاذِرِ الْإِبِلَ ؛ لِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ ظَاهِرًا ؛ وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَدَانَةِ - وَهِيَ الضَّخَامَةُ - وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا ، وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْإِبِلِ ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ

ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فِي الْحَدِيثِ فَمَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مَا خَرَجَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَهْلُ قَرْيَةِ كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ إنْ أُوِّلَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مَعَ التَّعَارُضِ وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الْإِبِلِ .

وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ .
وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى كَذَا وَكَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ .
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُوفَةِ جَازَ .
وَأَمَّا فِي النَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الثِّيَابِ فِي عَيْنِهَا وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا ، وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ .
فَأَمَّا مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْهَدْيِ مِنْ النَّعَمِ فِي الْإِرَاقَةِ شَرْعًا ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هَهُنَا فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } حَتَّى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فِي الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَلَوْ جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ بِالْأَمْرِ ، ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الْغَنَمِ يَجُوزُ

إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِيهِ كَذَا فِي النُّذُورِ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ : إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَلَا يُوجَدْ فِي الْقِيمَةِ إلَّا أَحَدُهُمَا - وَهُوَ التَّصَدُّقُ - وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمِنًى ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } الْحَرَمُ .

وَأَمَّا الْبَدَنَةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ ، فَإِنَّهُ يَنْحَرُهَا حَيْثُ شَاءَ إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ ، فَلَا يَجُوزُ نَحْرُهَا إلَّا بِمَكَّةَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَرَى أَنْ يَنْحَرَ الْبُدْنَ بِمَكَّةَ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَيْ ، الْحَرَمِ ( وَلَهُمَا ) أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَدَانَةِ - وَهِيَ الضَّخَامَةُ - يُقَالُ : بَدَنَ الرَّجُلُ ، أَيْ ضَخُمَ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أَنَّ : تَعْظِيمَهَا اسْتِسْمَانُهَا ، وَلَوْ أَوْجَبَ جُزْءًا فَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ .

وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَيَجُوزُ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ .

وَأَدْنَى السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا ، وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ .

وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهَا وَصُوفِهَا وَلَبَنِهَا إلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ مِنْ ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ : إلَى أَنْ تُقَلَّدَ وَتُهْدَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، أَيْ ثُمَّ مَحِلُّهَا إذَا قُلِّدَتْ وَأُهْدِيَتْ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ؛ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا ، فَالْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فَإِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْبَةُ فِيهَا بِالْإِرَادَةِ ، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْهَا وَيْحَكَ فَقَالَ : إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : ارْكَبْهَا وَيْحَكَ } وَقِيلَ : وَيْحَكَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَوَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهَدُّدٍ ، فَقَدْ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكُوبَ الْهَدْيِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَدْ أَجْهَدَهُ السَّيْرُ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِبَدَلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِبَدَلٍ ، وَكَذَا فِي الْهَدَايَا إذَا رَكِبَهَا وَحَمَلَ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ يَضُمُّ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا فَلَبَنُهَا يُؤْذِيهَا فَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ وَيَرْقَى لَبَنُهَا ، وَمَا حُلِبَ قَبْلَ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا إنَّهَا تُذْبَحُ وَيُذْبَحُ وَلَدُهَا كَذَا هَذَا .

، فَإِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا نَحَرَهُ ، وَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ مَكَانَهُ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ صَفْحَةَ سَنَامِهِ ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يُطْعِمُ أَحَدًا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا شَاءَ ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ عَنْ الْوَاجِبِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ ، فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ ؛ وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَفْعَلُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ هَدْيًا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَزْحَفَ مِنْهَا ، أَيْ قَامَتْ مِنْ الْإِعْيَاءِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَا أَفْعَلُ بِمَا يَقُومُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا ، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِك } وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ كَانَتْ فِي ذَبْحِهِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ كَانَتْ الْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَكَانَهُ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا } .

وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ دَمِ النَّذْرِ شَيْئًا .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ .
وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ دَمُ شُكْرٍ فَكَانَ نُسُكًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَدَمُ النَّذْرِ دَمُ صَدَقَةٍ وَكَذَا دَمُ الْكَفَّارَةِ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ .
وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ ؛ لِوُجُودِ التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ فَكَانَ دَمُ صَدَقَةٍ ، وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، وَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ .
وَكَذَا لَوْ هَلَكَ الْمَذْبُوحُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَبِالِاسْتِهْلَاكِ تَعَدَّى عَلَى حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ أَصْلِ مَالٍ وَاجِبِ التَّصَدُّقِ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ .
وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي

النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَبِيعٌ وَاجِبٌ التَّصَدُّقُ بِهِ ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ فِي ثَمَنِهِ حَنِثَ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وَفِي بَيَانِ سُنَنِهَا وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهَا وَاجِبَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يُنَافِي الْوَاجِبَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا فَرِيضَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ تَطَوُّعٌ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْحَجُّ مَكْتُوبٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ أَهِيَ وَاجِبَةٌ ؟ قَالَ : لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ } وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَالْأَمْرُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى } ، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْحَجِّ لَا يَقَعُ عَلَى الْعُمْرَةِ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَكَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ فَبَيَّنَّ لَهُ الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ لَهُ الشَّرَائِعَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعُمْرَةَ " فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي

انْتِقَاءَ فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا قُرِئَتْ بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ " وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ " وَأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحَجِّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ رَدًّا لِزَعْمِ الْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْعُمْرَةَ لِلْأَصْنَامِ عَلَى مَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ مِنْ الْإِشْرَاكِ .
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرٌ بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ ، فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهَا بِالشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرِيضَةً مَعَ مَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ أَمْرًا بِإِنْشَاءِ الْعُمْرَةِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ عِنْدَنَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَرَاءَ نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا حَجَّةً صُغْرَى فِي الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَجَّةٍ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّهَا عُطِفَتْ عَلَى الْحَجَّةِ فِي الْآيَةِ ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَيُقَالُ : حَجَّ فُلَانٌ وَمَا اعْتَمَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهَا بِالصِّغَرِ دَلِيلُ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْحَجِّ ، فَإِذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَاجِبَةٌ ؛ لِيَظْهَرَ الِانْحِطَاطُ إذْ الْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ يُصْلَحُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ ، وَالْوَاجِبُ مَا

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا ، فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ صَحِيحًا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلَيْسَ لِلْفَرْضِ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ ، وَقَوْلُ السَّائِلِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ( أَهِيَ وَاجِبَةٌ ؟ ) مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ إذْ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا عَيْنًا ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَفْيَ لَهُ ، وَبِهِ نَقُولُ .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَهِيَ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْحَجِّ .

( وَأَمَّا ) رُكْنُهَا فَالطَّوَافُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ؛ وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ إلَّا الْوَقْتَ ، فَإِنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا وَقْتُ الْعُمْرَةِ ، وَتَجُوزُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
أَمَّا الْجَوَازُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً إلَّا شَهِدْتُهَا وَمَا اعْتَمَرَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ } وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ } فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الشَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَوْسِمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّنَةِ بَلْ فِي وَقْتَيْنِ لِتَوَسُّعِ الْمَعِيشَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا ، وَاحْتَجَّ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ فِيهَا ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ ، أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتَ الْوُقُوفِ ، فَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : ( وَقْتُ الْعُمْرَةِ السَّنَةُ كُلُّهَا إلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛

لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ شُغْلِ الْحَاجِّ بِأَدَاءِ الْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةُ فِيهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فِيهِ فَيُكْرَهُ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ لَا يَنْفِيهَا ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ ، وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ التَّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَمَحْظُورَاتُ الْعُمْرَةِ مَا هُوَ مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ ، وَحُكْمُ ارْتِكَابِهَا فِي الْعُمْرَةِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَجِّ ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَجِّ .

( وَأَمَّا ) وَاجِبَاتُهَا فَشَيْئَانِ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ .
فَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالْمُعْتَمِرُ يَحْتَاجُ إلَى الْوَدَاعِ ، كَالْحَاجِّ ، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ طَوَافَ الصَّدْرِ بِالْحَجِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ } .

( وَأَمَّا ) سُنَنُهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ لَهَا مِنْ مَكَّةَ يَقْطَعُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُلَبِّي فِي الْعُمْرَةِ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ } وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ يُلَبِّي فِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ } وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ نُسُكٌ وَدُخُولُ الْحَرَمِ وَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ لَيْسَ بِنُسُكٍ فَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَنَا هُوَ نُسُكٌ أَوْلَى ، وَلِهَذَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ فَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّوَافِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ ؛ لِأَنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ ، فَالْجِمَاعُ حَصَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الرُّكْنِ فَيُفْسِدُهَا كَمَا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ ، وَإِذَا فَسَدَتْ يَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ لِأَجْلِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَدَنَةٌ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ بَعْدَ مَا طَافَ الطَّوَافَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّعْيِ أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ حَصَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الرُّكْنِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( كِتَابُ النِّكَاحِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ النِّكَاحِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ التَّوَقَانِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ : أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ يَأْثَمُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكَرْخِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ ، كَرَدِّ السَّلَامِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا ، لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَالْوِتْرِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } .

وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا ، إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَخْبَرَ عَنْ إحْلَالِ النِّكَاحِ ، وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ } وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ بَلْ : هُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لِيَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا ، وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُمْدَحَ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ } أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَدَلَّ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَيْضًا ،

لِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ .
وَلِأَنَّ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنْهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَوْ تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ ، فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ ، وَرَدَّ السَّلَامِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ يَقُولُ : صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ ، وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ ، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ، وَيُعْتَقَدُ عَلَى الْإِبْهَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ مِنْ الْوُجُوبِ الْقَطْعِيِّ أَوْ النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ اللَّهِ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ ، فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ ، وَالِاحْتِيَاطِ ، وَاحْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ

أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَمُسْتَحَبٌّ ؛ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا : أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النِّكَاحُ سُنَّتِي } وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ { فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ : دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ .
وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِنْ الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْفَاحِشَةِ ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ ، وَالسُّكْنَى ، وَاللِّبَاسِ ، لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخَلِّي أَوْلَى .
وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمُبَاحِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا : إنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ ، وَحَلَالٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ

وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ ، أَوْ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ ، وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ لِلنَّوَافِلِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ النِّكَاحِ فِي شَرِيعَتِهِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ .
وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا : فِي بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ - وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ صِيغَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ .
وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ .
وَالرَّابِعُ : فِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ .
وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالتَّمْلِيكِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : يَنْعَقِدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَحَلَّ بِهَا الْفُرُوجَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { زَوَّجْنَاكَهَا } وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هُوَ الِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَيْهِ ؛ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الِازْدِوَاجِ ، وَهُوَ لَفْظُ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ لَا غَيْرُ .
وَلَنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، فَيَنْعَقِدُ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ .
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ } مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ

إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك } أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُؤْمِنَةَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اسْتِنْكَاحِهِ إيَّاهَا حَلَالٌ لَهُ .
وَمَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ أُمَّتِهِ هُوَ الْأَصْلُ ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْخُلُوصُ يَرْجِعُ إلَى الْأَجْرِ لَا إلَى لَفْظِ الْهِبَةِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا : ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } فَدَلَّ أَنَّ خُلُوصَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَهُ كَانَ بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْضٍ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَجَ كَانَ يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِ الْعِبَارَةِ ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي إعْطَاءِ الْبَدَلِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ فِي لَفْظِ الْهِبَةِ ، لَيْسَتْ تِلْكَ فِي لَفْظَةِ التَّزْوِيجِ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمِنَّةَ فِيمَا صَارَتْ لَهُ بِلَا مَهْرٍ ، فَانْصَرَفَ الْخُلُوصُ إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا مَوْضُوعًا لِحُكْمِ أَصْلِ النِّكَاحِ شَرْعًا وَهُوَ الِازْدِوَاجُ وَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ يَثْبُتُ الِازْدِوَاجُ بِاللَّفْظِ ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الَّذِي يُلَازِمُهُ شَرْعًا .
وَلَفْظُ التَّمْلِيكِ مَوْضُوعٌ لِحُكْمٍ آخَرَ أَصْلِيٍّ لِلنِّكَاحِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي النِّكَاحِ بِدُونِ الِازْدِوَاجِ فَإِذَا أُتِيَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ ، وَيَثْبُتَ الِازْدِوَاجُ الَّذِي يُلَازِمُهُ شَرْعًا ، اسْتِدْلَالًا لِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا ، وَلَمْ

يُشْرَعْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ ضَرُورَةً ، وَيَكُونُ الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا رِضًا بِالْآخِرِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ : إنَّ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اسْتِحْلَالٌ بِغَيْرِ كَلِمَةِ اللَّه فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ : كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَمِلُ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَعَ مَا أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِضَافَةُ الْكَلِمَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْجَاعِلُ اللَّفْظَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ شَرْعًا ، فَكَانَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَا يُنْفَى الِاسْتِحْلَال لَا بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .

وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا .
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ : أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ لَفْظٍ يَكُونُ فِي اللُّغَةِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ فَهُوَ فِي الْحُرَّةِ نِكَاحٌ .
وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا ، وَلَا أَجْرَ إلَّا بِالْإِجَارَةِ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ نِكَاحًا لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ أَجْرًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْعَامَّةِ : أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّأْبِيدَ يُبْطِلُهَا ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ .
وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنْ الِانْعِقَادِ مُمْتَنِعٌ ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ الْأَجْزَاءِ .
وَالْأَعْيَانِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إنْ كَانَتْ إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ ، لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَصْلًا .
وَإِنْ كَانَتْ تَمْلِيكَ الْمُتْعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي لَفْظِ الْقَرْضِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُسْتَقْرِضِ .
وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي لَفْظِ السَّلَمِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ، وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا ، حَتَّى لَوْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يُعَدُّ الْمِلْكُ مِلْكًا فَاسِدًا ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ

الْبَيْعَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي لَفْظِ الصَّرْفِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَنْعَقِدُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَهُنَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ .
وَحُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ إنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قَالَ : أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي هَذِهِ الْآنَ يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عَنْ التَّمْلِيكِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُبِيحِ ، حَتَّى كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ ؛ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ : وَهَبْتُ أَمَتِي هَذِهِ مِنْكَ فَإِنْ كَانَ الْحَالُ يَدُلُّ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ ، وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ ، مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا عَلَى النِّكَاحِ ، فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - ثُمَّ النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِهَا بِطَرِيقِ

النِّيَابَةِ ، بِالْوَكَالَةِ ، وَالرِّسَالَةِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ ، وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَا بِأَمْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ ، وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ ، وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ خِطَابُهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - .

وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ : زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ .
وَأَمَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ : زَوِّجْنِي بِنْتَك أَوْ قَالَ : جِئْتُكَ خَاطِبًا ابْنَتَك أَوْ قَالَ جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فَقَالَ الْأَبُ : قَدْ زَوَّجْتُك أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : أَتَزَوَّجُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ : قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَالَ لَهَا : زَوِّجِينِي أَوْ انْكِحِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ : زَوَّجْتُك أَوْ أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ ، وَالْأَمْرُ مِنْ فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ ؛ فَلَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ ، فَلَمْ يُوجَدُ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا لَهُ : مَلَكْت } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا أَعَادَ الْقَوْلَ .
وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ .
وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ عَادَةً ، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّ السَّوْمَ مُعْتَادٌ فِيهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ الْإِيجَابُ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ - .

وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، سَوَاءً كَانَتْ وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً ، كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ ، أَوْ دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَكَالَةِ ؛ بِأَنْ كَانَ الْعَاقِدُ مَالِكًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، كَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ الصَّغِيرَ مِنْ بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ ، وَالْأَخَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أَوْ كَانَ أَصِيلًا وَوَلِيًّا كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَوْ رَسُولًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَوَكِيلًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، أَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا ؟ ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ : الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، فَلَا يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لَمْ يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا أَصْلًا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا

يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَتِيمَةٍ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا ، وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ ( وَوَجْهُ ) الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ ، إذْ لَوْ لَمْ يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى ، لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ .
وقَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْإِنْكَاحِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ بَلْ هُوَ سَفِيرٌ عَنْ الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ ، وَإِذَا كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ ؛ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ ؛ فَصَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ ، كَأَنَّهَا قَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ ، وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فِيهِ إذَا كَانَ وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ الْعَقْدِ ، كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ ، أَوْ يَشْتَرِي ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْعَاقِدِ ، فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ الْعَاقِدِ كَلَامَ الشَّخْصَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ

، فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - .

( وَأَمَّا ) .
صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ : أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَازِمًا قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا رُكْنٌ وَاحِدٌ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ لَهُ بِأَحَدِهِمَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ .
( أَمَّا ) .
شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ : .
نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ : فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ، بِأَنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ ، أَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ ، لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ ، فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا فِي مَكَان وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْعُقُودِ ؛ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مَعَ تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشَّطْرَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ .
( وَأَمَّا ) الْفَوْرُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : هُوَ شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَنَاكَحَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ وَبَيْنَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا ؛ لَمْ يَنْعَقِدْ حَتَّى لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ : زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ : قَبِلْت أَوْ قَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ : تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَالَتْ : زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك الشَّاهِدَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كَلَامَ

الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي بَابِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذَا الْبَابِ يَقُومُ بِالْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَالِكًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَوْ وَلِيًّا ، أَوْ وَكِيلًا ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَقْدًا لَا شَطْرًا ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّوَقُّفِ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا شَطْرُ الْعَقْدِ حَقِيقَةً ، لَا كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ كُلُّهُ ؛ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ ، وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّطْرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِصُدُورِهِ عَنْ الْوَلَاءِ عَلَى الْجَانِبَيْنِ ، فَيَصِيرُ كَلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ ، وَشَخْصُهُ كَشَخْصَيْنِ حُكْمًا ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ ؛ فَلَا يَقِفُ بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ ، وَأَنَّهُ يَمِينٌ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا ، وَمِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةً فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ كَالْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ .
وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا وَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ .
وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْكَاتِبِ ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى .
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَتْ زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا زَوَّجْت نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ

عِنْدَهُمَا ، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيْ الْعَقْدِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ تُوجَدْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قَالَ الرَّجُلُ : زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ .
وَهُمَا غَائِبَانِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا حَتَّى لَوْ بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ فَأَجَازَا ، لَمْ يَجُزْ .
وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ .
وَلَوْ قَالَ فُضُولِيٌّ : زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَقَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ عَنْ الزَّوْجِ ؛ يَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى إذَا بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ وَأَجَازَا جَازَ ، .

وَلَوْ فَسَخَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ قَبْلَ إجَازَةِ مَنْ وَقَفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَتِهِ صَحَّ الْفَسْخُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مَنْ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ ، فَكَانَ هُوَ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا فِي مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ، فَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ قَبْلَ اتِّصَالِ الْإِجَازَةِ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ هُنَاكَ تَصَرُّفٌ دَفَعَ الْحُقُوقَ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ ، فَكَانَ هُوَ بِالْفَسْخِ دَافِعًا الْحُقُوقَ عَنْ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ ، كَالْمَالِكِ إذَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ أَوْ الْبَيْعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ تَصَرُّفًا فِي كَلَامِ نَفْسِهِ بِالنَّقْضِ فَجَازَ كَمَا فِي الْبَيْعِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا : .
أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ بَالِغًا فَإِنَّ نِكَاحَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ ، بَلْ نَفَاذُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ التَّصَرُّفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالصَّبِيُّ لِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بُلُوغِهِ حَتَّى لَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ لَا يَنْفُذُ بِالْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَرِضَاهُ ، لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ رِضَا الصَّبِيِّ شَرْعًا ، وَبِالْبُلُوغِ زَالَتْ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ فَلَا يَنْفُذُ مَا لَمْ يُجِزْهُ بِنَفْسِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ أَصْلًا بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ .

وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ } .
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ ، لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ، أَوْ إجَازَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إجَازَةً لَهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا ، بَالِغًا ، سَوَاءً كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا ، أَوْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ، أَوْ مُكَاتَبَةً ، أَوْ مُكَاتَبًا أَمَّا الْقِنُّ ، فَإِنْ كَانَ أَمَةً فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ ، وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا تَعْجِزُ فَتُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فَتَعُودُ قِنَّةً كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا صَادَفَ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا ، فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمُنِعَتْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى

لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْعَبِيدَ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِيمَا رُزِقَ السَّادَاتُ ، وَلَا هُمْ بِسَوَاءٍ فِي ذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَنَافِعِ ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أُضِيفَ إلَى كُلِّهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا قَبْلَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ .
وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ ، فَكَانَ هُوَ بِالنِّكَاحِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَصَفَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لَهُ فَتَعَيَّنَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ إذْنُ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ ، فَكَانَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا لِلْإِذْنِ وَالْإِطْلَاقِ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، وَكَذَلِكَ

الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ التَّزَوُّجِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ .
وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ مَا أَفَادَ لَهُ إلَّا الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ .
وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَهُمَا .
وَلَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَوْلَى النِّكَاحَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَلَمْ يُوجَد أَحَدُهُمَا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيه مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ } وَهَذَا نَصٌّ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَكُونُ إجَازَةً : فَالْإِجَازَةُ قَدْ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالدَّلَالَةِ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالضَّرُورَةِ ، أَمَّا النَّصُّ : فَهُوَ الصَّرِيحُ بِالْإِجَازَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوَ أَنْ يُقَوَّلَ

: أَجَزْت ، أَوْ رَضِيت ، أَوْ أَذِنْت ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ : فَهِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِالنِّكَاحِ : حَسَنٌ ، أَوْ صَوَابٌ ، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، أَوْ يَسُوقُ إلَى الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا .
وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى : طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا لَمْ يَكُنْ إجَازَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُفَارَقَةِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتَارَكَةَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ وَالنِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي ثُبُوتِ الْإِجَازَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ؛ فَهُوَ إجَازَةٌ لِارْتِفَاعِ التَّرْدَادِ إذْ لَا رَجْعَةَ فِي الْمُتَارَكَةِ لِلنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَفَسْخِهِ وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ : أَنْ يُعْتِقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ أَوْ الْأَمَةَ فَيَكُونُ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً .
وَلَوْ أَذِنَ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ بِالنِّكَاحِ إجَازَةً .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْطُلَ بِالنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ ؛ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ .
فَأَمَّا إنْ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى أَوْ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ بِالْإِعْتَاقِ ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِيَّ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ فَكَيْف يَقِفُ عَقْدُ الْإِنْسَانِ عَلَى إجَازَتِهِ .
وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ

وَلَيْسَ هَهُنَا قِسْمٌ آخَرُ لَزِمَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً ضَرُورَةً وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ ، وَلِلثَّانِي أَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مَعَ صُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى - وَهُوَ الْمِلْكُ - نَظَرًا لَهُ ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ النُّفُوذِ ، وَالْإِذْنُ بِالتَّزَوُّجِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - لَكِنَّهُ بِالْإِذْنِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ كَأَنَّهُ هُوَ ، ثُمَّ ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْإِجَازَةِ لَهُ لَمْ تَكُنْ إجَازَةً مَا لَمْ يُجِزْ ، فَكَذَا الْعَبْدُ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ إجَازَةً لِذَلِكَ الْعَقْدِ ؛ فَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
وَإِنْ أَجَازَهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْعَقْدِ ، وَالْإِجَازَةُ مَعَ الْعَقْدِ مُتَغَايِرَانِ اسْمًا وَصُورَةً وَشَرْطًا أَمَّا الِاسْمُ وَالصُّورَةُ : فَلَا شَكَّ فِي تَغَايُرِهِمَا .
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّ مَحِلَّ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَمَحِلُّ الْإِجَازَةِ نَفْسُ الْعَقْدِ .
وَكَذَا الشَّهَادَةُ شَرْطُ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ الْإِجَازَةِ ، وَالْإِذْنُ بِأَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْآخَرِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِبَعْضِ مَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا عَنْ إذْنٍ ، فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى أَذِنَ لَهُ بِعَقْدٍ نَافِذٍ فَكَانَ مَأْذُونًا بِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ - وَهُوَ النَّفَاذُ - وَقَدْ حَصَلَ النَّفَاذُ فَيَحْصُلُ ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ فُضُولِيٌّ هَذَا الْعَبْدَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَأَجَازَ الْعَبْدُ نَفَذَ الْعَقْدُ دَلَّ أَنَّ تَنْفِيذَ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ ، ثُمَّ إذَا نَفَذَ النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَفَذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْإِعْتَاقُ لَمْ

يُصَادِفْهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ ، وَالْمَهْرُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى ، هَذَا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا فَإِنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَكُونُ إجَازَةً .
وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ زُفَرَ .
وَعِنْدَنَا يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا عَصَبَةٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَصَبَةِ ، وَيَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُجِيزُ غَيْرَ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ الصِّغَرِ ، وَهِيَ حُرَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُجِيزُ أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا .
وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَطَلَ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّافِذَ قَدْ طَرَأَ عَلَى الْمَوْقُوفِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْحِلِّ - وَهُوَ الْمِلْكُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ ارْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ ، وَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِأَنْ كَانَ الْوَارِثُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَقَدْ وَطِئَهَا أَبُوهُ ، أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، أَوْ وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ ، فَلِلْوَارِثِ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ طَرَيَان الْحِلِّ فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ عَلَى حَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَوْلَى قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْوَارِثِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَوَطِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا الْمَوْلَى مِنْ رَجُلٍ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يَمْنَعُ حِلَّ الْوَطْءِ لِلْمُشْتَرِي .
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَاتَ الْوَلِيُّ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ

فَلِلْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حِلُّ الْوَطْءِ هَهُنَا فَلَمْ يُوجَدْ طَرَيَان حِلِّ الْوَطْءِ ، فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِحَالِهِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي بَلْ يَبْطُلُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عَلَى إجَازَةِ إنْسَانٍ يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ ؛ لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا عَلَى الثَّانِي ، فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي تَنْفِيذَهُ ( وَلَنَا ) أَنَّهُ إنَّمَا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَقَدْ صَارَ الْمِلْكُ لِلثَّانِي فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَى الثَّانِي ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ - وَهُوَ النَّفَاذُ - فَلَأَنْ يَمْلِكَ تَنْفِيذَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ - وَأَنَّهُ إثْبَاتُ الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ - أَوْلَى وَلَوْ زَوَّجَتْ الْمُكَاتَبَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَأَعْتَقَهَا نَفَذَ الْعَقْدُ .
وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ ، وَإِنْ عَجَزَتْ فَإِنْ كَانَ بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى يَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ بِأَنْ كَانَتْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهَا فَأَجَازَتْ جَازَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ أَوْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَتِهَا إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَمَةِ ، وَتَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ غَيْرَ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ فَأَجَازُوا جَازَ وَإِذَا

أَدْرَكَتْ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ إذَا كَانَ الْمُجْبِرُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهَا حَتَّى عَجَزَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ .
وَإِنْ كَانَ بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَنَقُولُ : إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ بِالتَّزْوِيجِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ خَصَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ أَوْ عَمَّهُ فَإِنْ خَصَّ بِأَنْ قَالَ لَهُ : تَزَوَّجْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ تَزَوَّجْ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ امْرَأَةً اسْمٌ لِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِنْ عَمَّ ؛ بِأَنْ قَالَ : تَزَوَّجْ مَا شِئْتَ مِنْ النِّسَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِنِكَاحِ مَا شَاءَ مِنْ النِّسَاءِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبِيدُ مِنْ النِّسَاءِ - وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِاثْنَتَيْنِ - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ : اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ فَيَظْهَرُ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي عَدَدِ الْمَمْلُوكِ لَهُ فِي النِّكَاحِ كَمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَسَمِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعِدَّةِ ، وَالْحُدُودِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .

وَهَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ فِي الْحَالِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَدْخُلُ ، وَيُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ - وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ - لِيَحْصُلَ بِهِ عِفَّةُ الْعَبْدِ عَنْ الزِّنَا ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ ، فَلَا يَكُونُ مُرَادًا مِنْ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يَحْنَثُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ ، كَالْإِذْنِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ إنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لَفْظُ النِّكَاحِ إلَى الْفَاسِدِ لِقَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ ، إلَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّحِيحِ لَا الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَكْفِي مَانِعًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِامْتِنَاعِ بِالْيَمِينِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى نِكَاحًا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ انْتَهَى بِالنِّكَاحِ .
وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ بَقِيَ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ نَصًّا وَدَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِي الْحَالِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الصَّحِيحِ لِضَرْبِ دَلَالَةٍ

أَوْجَبَتْ إلَيْهِ ، فَإِذَا جَاءَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ - .

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ فَنَقُولُ : إذَا كَانَتْ الْإِجَازَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْأَمَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ ، مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ ، وَمَهْرٌ بِالْإِجَازَةِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ مَهْرَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : الدُّخُولُ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ دُخُولٌ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَذَا يُوجِبُ الْمَهْرَ ، كَذَا هَذَا .
وَالثَّانِي : النِّكَاحُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ صَحَّ بِالْإِجَازَةِ ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ الْإِجَازَةُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَإِذَا اسْتَنَدَتْ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ عَقَدَهُ بِإِذْنِهِ ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ فَلَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ لِوُجُودِهِ تَعَلُّقًا بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا ، وَلَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ ، وَقَدْ وَجَبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ فَلَوْ وَجَبَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ أَيْضًا لَوَجَبَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مَهْرَانِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ ثُمَّ كُلُّ مَا وَجَبَ مِنْ مَهْرِ الْأَمَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ، سَوَاءً وَجَبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالدُّخُولِ ، وَسَوَاءً كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَسَوَاءً كَانَتْ الْأَمَةُ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ، إلَّا الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُعْتَقَ بَعْضُهَا ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْعَةِ وَهِيَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةً بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَعِوَضُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْقَاةً عَلَى حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُهَا يَكُونُ

لِلْمَوْلَى أَيْضًا كَالْأُجْرَةِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَرْشُ وَالْأُجْرَةُ لَهَا ، فَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا أَيْضًا ، وَكُلُّ مَهْرٍ لَزِمَ الْعَبْدَ ، فَإِنْ كَانَ قِنًّا وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ ، وَرَقَبَتُهُ تُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
وَمِثْلُ هَذَا الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا فَإِنَّهُمَا يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ كَسْبِهِمَا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِمَا بِخُرُوجِهِمَا عَنْ احْتِمَالِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ .
وَمَا لَزِمَ الْعَبِيدَ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى اُتُّبِعُوا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْحَالِ وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .

وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ إنْكَاحُ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ ، وَفِي بَيَانِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْوِلَايَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ : وِلَايَةُ الْمِلْكِ ، وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ ، وَوِلَايَةُ الْوَلَاءِ ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامَةِ ، أَمَّا .
وِلَايَةٌ الْمِلْكِ : فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةُ نَظَرٍ ، وَالْمِلْكُ دَاعٍ إلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ ؛ فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ ؛ إذْ هُوَ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا .
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا : عَقْلُ الْمَالِكِ ، وَمِنْهَا بُلُوغُهُ ، فَلَا يَجُوزُ الْإِنْكَاحُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَلَمْ يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى غَيْرِهِمْ ؟ ؛ وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَمْلُوكًا لِلْمَالِكِ رَقَبَةً وَيَدًا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ ، أَوْ مُدَبَّرَتَهُ ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ ، أَوْ عَبْدَهُ ، أَوْ مُدَبَّرَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ سَوَاءً رَضِيَ بِهِ الْمَمْلُوكُ أَوْ لَا ، وَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا بِرِضَاهُمَا أَمَّا إنْكَاحُ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً .
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ .
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ .
وَنِكَاحُ الْمُكْرَهِ لَا يَدُومُ بَلْ يُزِيلُهُ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا ، فَمَنْ شَرَطَهُ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ ؛ وَلِأَنَّ إنْكَاحَ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْمَوْلَى تَصَرُّفٌ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ فِي إنْكَاحِ الْأَمَةِ لَهُ وَكَذَا فِي إنْكَاحِ أَمَتِهِ مِنْ عَبْدِهِ ، وَمَنْفَعَةَ الْعَقْدِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي يُوجِبُ نُقْصَانَ مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ حَصَلَ لَهُ أَيْضًا ، فَكَانَ هَذَا الْإِنْكَاحُ تَصَرُّفًا لِنَفْسِهِ .
وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ يَنْفُذُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رِضَا الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِكُلِّ مَالِكٍ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَصْلَحَةً ، وَإِنْكَاحُ الْعَبْدِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِهِ عَنْ النُّقْصَانِ بِوَاسِطَةِ الصِّيَانَةِ عَنْ الزِّنَا .
وَقَوْلُهُ : " مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ " مَمْنُوعٌ بَلْ

هِيَ مَمْلُوكَةٌ إلَّا أَنَّ مَوْلَاهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً مُنِعَتْ مِنْ اسْتِيفَائِهَا ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَالْجَارِيَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ كَذَا هَذَا .
وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُكَاتَبِ ؛ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ بِالْكِتَابَةِ حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي قَوْلِهِ : " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ " إلَّا بِالنِّيَّةِ فَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ فَانْعِدَامُ مِلْكِ الْيَدِ يَمْنَعُ مِنْ الثُّبُوتِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ بِالشَّكِّ ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ضَرَرًا ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ جَعَلَهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَالتَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ يُوجِبُ تَعَلَّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ ، فَلَا يَصِلُ إلَى الْحُرِّيَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، بِشَرْطِ رِضَاهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ : " لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا النِّكَاحِ " مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ فَحْلٍ التَّوَقَانُ إلَى النِّسَاءِ ، فَالظَّاهِرُ هُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْحُرْمَةُ - وَكَذَا الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَبْدِ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَعْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى احْتِرَامًا لَهُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ فَيُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ - .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57