كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ } وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِرَامِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ : وَتُطْرَحُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا فِي نَوَادِرِهِ ، ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ ، فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .

وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَنْجَى أَمْ لَا ؟ وَذُكِرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَنْجَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُسْتَنْجَى هُمَا يَقُولَانِ قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهَا ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ ، فَكَانَ السَّبِيلُ فِيهِ هُوَ التَّرْكُ ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .

ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا ، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا } ؛ وَلِأَنَّ هَذَا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ ، وَلَا يُسْتَنْشَقُ ؛ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ فِي فَمِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بِالْكَبِّ ، وَذَا مِثْلُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ ، وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ بِالنَّفَسِ ، وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ الْمَيِّتِ .
وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ ذَلِكَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ ، وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ عَلَى التَّخْتِ فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا ، وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ ، وَيُمْسَحُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا ، وَهَهُنَا لَوْ سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا لَا تَعَبُّدًا ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ .

ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وَمَا أَشْبَهَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتْ قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فَقَالَتْ : عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ ؟ ، أَيْ : تُسَرِّحُونَ شَعْرَهُ ، وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهَا ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ ، وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ ؛ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الزِّينَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُصُولُ زِينَةٍ ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عَنْهُ شَعْرُ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ كَانَ يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ ، وَلَا يُحْلَقُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَحْلِقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَكَانَ يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ } ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ لَيْسَ فِيهَا إزَالَةُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ ، وَالتَّنْظِيفِ مِنْ الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا .

ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ عَلَى مَا مَرَّ ، فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ، ثُمَّ قَدْ كَانَ أُمِرَ الْغَاسِلُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ، ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ ، أَوْ الْحُرْضِ ، أَوْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أَوْ يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا ، حَتَّى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ مِنْهُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حَتَّى لَوْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قَبْلَ الْغُسْلِ ، وَتَخْرُجُ بَعْد مَا غُسِّلَ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَوْلَى ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَسْحِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ ، وَالْعَبَّاسُ ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَصَالِحُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا } وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ فِي الْبَيْتِ ، ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كَيْ لَا

يَتَلَوَّثَ الْكَفَنُ ، وَيَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا لَهُ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعِيدُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هُوَ لَمْ يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ ، فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ أَوْلَى .

ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلَّائِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ سَبْعًا } ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هُوَ الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ فِي الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي التَّنْظِيفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ مِنْ الْكَافُورِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ ، ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كَمَا يُفْعَلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ .

وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ ، وَكَذَا الصَّبِيُّ فِي الْغُسْلِ كَالْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْحَيَاةِ ، وَفِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ مَنْ لَا يَعْقِلُ ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ وُلِدَ مَيِّتًا لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ وَوُرِثَ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُسَمَّ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يَرِثْ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : فِي السِّقْطِ الَّذِي اسْتَبَانَ خَلْقُهُ : أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا ، وَالْخِلَافُ فِي الْغُسْلِ .
وَجْهُ مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثْ } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ وَرَدَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَيِّتِ فِي الْعُرْفِ لَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أُسْقِطَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَقَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ فَأَمَّا إذَا اسْتَهَلَّ بِأَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ ، أَوْ طَرَفٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا ؛

وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ حَيًّا فَيُغَسَّلُ .

وَلَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ ، أَوْ الْأُمُّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ إذَا كَانَ عَدْلًا .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً لِجَرِّهَا الْمَغْنَمِ إلَى نَفْسِهَا ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ عَدْلَةٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ .

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَالْمَيِّتُ اسْمٌ لِكُلِّهِ وَلَوْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ غُسِّلَ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ مِنْهُ ، أَوْ النِّصْفُ لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَزِدْ عَلَى النِّصْفِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، فَلَا يُغَسَّلُ أَيْضًا ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُغَسَّلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الرَّأْسُ لَا يُغْسَلُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مَعَ الرَّأْسِ فِي حُكْمِ الْأَكْثَرِ ؛ لِكَوْنِهِ مُعْظَمَ الْبَدَنِ .
وَلَوْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا لَا يُغْسَلُ لِمَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ الْأَقَلُّ أَوْ النِّصْفُ يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ .
وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُوجَدَ الْبَاقِي فَيُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا ، أَوْ يَكُونُ صَاحِبُ الطَّرَفِ حَيًّا فَيُصَلَّى عَلَى بَعْضِهِ ، وَهُوَ حَيٌّ وَذَلِكَ فَاسِدٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ وُجِدَ عُضْوٌ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ فَغَسَّلَهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا ، وَقِيلَ : إنَّهَا يَدُ طَلْحَةَ ، أَوْ يَدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رُءُوسٍ ؛ وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَتْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ ، وَكَذَا الْغُسْلُ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مُحْتَرَمٌ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : " لَا يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي أَيْضًا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَرْوِ أَنَّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَتَّى نَنْظُرَ أَهُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا ، أَوْ نَحْمِلُ الصَّلَاةَ عَلَى الدُّعَاءِ ، وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا حَتَّى لَا يَجِبَ غُسْلُ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ ، لَكِنْ إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَيَدْفِنَهُ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَا نُهِيَ عَنْ الْبِرِّ بِمَكَانِ أَبِيهِ الْكَافِرِ ، بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ ، وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَقَالَ : اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي قَالَ : فَفَعَلْت ذَلِكَ وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ } وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ : اغْسِلْ هَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا ، وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ .

وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ { فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ } وَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ شُرِعَ كَرَامَةً لَهُ ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ غُسْلَهُ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حَتَّى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ إهَانَةً ، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .

وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بِهَا يُفْصَلُ ، وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ ، وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ .
وَأَمَّا إذَا كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا ، وَهَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وَتَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْجَزُوا عَنْ تَمْيِيزِ الْقَصْدِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ .
وَأَمَّا الدَّفْنُ

فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ ، وَلَا تُسَنَّمُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَهُوَ أَحْوَطُ .

وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ ، وَمَا فِي بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الدَّفْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ : تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ ، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ : يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَهَذَا أَحْوَطُ .

وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ الْمَكَانِ ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ السِّيمَا وَدَلِيلِ الْمَكَانِ ، بَلْ يُعْمَلُ بِالسِّيمَا وَحْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَلْ يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَكَانِ وَحْدَهُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَهُ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَلَا يُغَسَّلُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْمُكَاثِرُونَ وَالْخَنَّاقُونَ إذَا قُتِلُوا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسَّلُ كَرَامَةً لَهُ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْكَرَامَةَ بَلْ الْإِهَانَةَ ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ صَاحِبِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ أَنَّ الْبَاغِيَ لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ فَيُؤْتَى بِهِ ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إهَانَةً لَهُ كَالْكَافِرِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَمَنْ قُتِلَ ظَالِمًا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْبَاغِي قُتِلَ ظَالِمًا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا وُجُودُ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْغُسْلُ ، وَلَكِنْ يُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ صَلُحَ بَدَلًا عَنْ الْغُسْلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، غَيْرَ أَنَّ الْجِنْسَ يُيَمِّمُ الْجِنْسَ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ يُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَسْتُرُ يَدَهُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُشْتَهَى كَالصَّغِيرِ ، أَوْ الصَّغِيرَةِ فَيُيَمِّمُهُ مَنْ غَيْرِ خِرْقَة ، وَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ ، فَالْمَرْأَةُ تُيَمِّمُ زَوْجَهَا بِلَا خِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى إذَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَا نَذْكُرُ ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى .
وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يُيَمِّمُ زَوْجَتَهُ بِلَا خِرْقَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ سَاقِطٌ عَنْ الشَّهِيدِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ : الْجِنْسُ يُغَسِّلُ الْجِنْسَ ، فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ ، وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْغَاسِلُ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ ، وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْفَحْلِ ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ ، أَوْ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ ، فَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .

أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ : إذَا مَاتَ رَجُلٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَتَدْفِنُهُ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبَاحَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ، ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ؛ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ النِّكَاحُ ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ ، فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هَذَا ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُبَاحُ لَهَا غُسْلُهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَبَطَلَ مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً .
وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ - أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ

.
وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ .
وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُبَاحُ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ ، كَمَا كَانَ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ، وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ بَقِيَ فِي حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ ، وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ، أَوْ قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاث ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ ، ثُمَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنَّهُ ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فِي الدِّينِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ ، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ ، سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ ، فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ ، وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِيهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا كَانَ مِلْكَ يَمِينٍ وَهُوَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ ، فَإِنَّ حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ ، كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتُهُ ، أَوْ مُدَبَّرَتُهُ ، أَمَّا الْأَمَةُ ؛ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَوْ

يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ .
وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ ؛ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هَذِهِ أَوْلَى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهَا حُكْمًا ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ .

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ : إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ : وَارَأْسَاهْ فَقَالَ : وَأَنَا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ } وَمَا جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ ، كَمَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ فَقَالَ : تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ } وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا ، أَوْ لَا يَكُونُ ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا .
وَإِذَا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ ، وَيَزُولُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { غَسَّلْتُكِ } قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك ، كَمَا يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ ، وَتَوْفِيقًا

بَيْنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي } .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ .
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ : أَمَا عَلِمْت { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَيَدْفِنُوهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ ، وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَ لَهَا إنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِمَا مَرَّ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ .

وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ ، ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ .

( فَصْلٌ ) : وَالْكَلَامُ فِي تَكْفِينِهِ فِي مَوَاضِعَ : .
فِي بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّصِّ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَعْقُولِ ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - كَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ : هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ ؛ وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً لَهُ ، وَتَعْظِيمًا ، وَمَعْنَى وَالْكَرَامَةِ التَّعْظِيمِ إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا ، كَمَا فِي الْغُسْلِ .

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ .
فَنَقُولُ : أَكْثَرُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ : إزَارٌ ، وَرِدَاءٌ ، وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ فِي الْكَفَنِ ، وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ } ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ : أَحَدُهَا الْقَمِيصُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ } وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ مَا حَضَرَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا : لَيْسَ فِيهِ قَمِيصٌ أَيْ : لَمْ يَتَّخِذْ قَمِيصًا جَدِيدًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ ، وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ ، " وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " ؛ وَلِأَنَّ حَالَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ حَيَاتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً : قَمِيصٌ ، وَسَرَاوِيلُ ، وَعِمَامَةٌ ، فَالْإِزَارُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَهُ ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ فِي الْكَفَنِ ، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ

يَكُونَ وِتْرًا ، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ ، بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنَى الزِّينَةِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كُفِّنَ فِي بُرْدٍ وَحُلَّةٍ } وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ مِنْهَا وَأَدْنَى مَا يُكَفَّنُ فِيهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ثَوْبَانِ : إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ : كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا .

وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ } .
وَكَذَا رُوِيَ { أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ } فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ .

وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ : إزَارٍ ، وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ .

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ : دِرْعٌ ، وَخِمَارٌ ، وَإِزَارٌ ، وَلِفَافَةٌ ، وَخِرْقَةٌ هُوَ السُّنَّةُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا } وَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهَا تَخْرُجُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً : دِرْعٌ ، وَخِمَارٌ ، وَإِزَارٌ ، وَمُلَاءَةٌ ، وَنِقَابٌ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ ، وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ عَلَيْهَا الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ : آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا .

، وَأَدْنَى مَا تُكَفَّنُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ : إزَارٌ ، وَرِدَاءٌ ، وَخِمَارٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ .
وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ لِمَا ذَكَرْنَا .

وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ .
وَكَذَا مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا ، أَوْ وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا طُولًا أَوْ نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فِي الْغُسْلِ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْغُسْلِ ، وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ .

وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ فِي خِرْقَةٍ ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ .

وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا جَدِيدًا غَيْرَ ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ } .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { : الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ } ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ } وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ ، وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ ، وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ ، وَلَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ : مَرَّةً ، أَوْ ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا } ؛ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوْ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ، وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا ، ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عَلَيْهَا طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِرْوَالَهُ ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ ، إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ ، ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ .
لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ وَلِيُصَانَ عَنْ سُرْعَةِ الْفَسَادِ ، وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ ، وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ

مَوْضِعُ الدِّمَاغِ ، وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ ، وَاللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ ، وَالْوَجْهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ : يُذَرُّ الْكَافُورُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُذَرُّ عَلَيْهِ الْكَافُورُ فَخَصَّ هَذِهِ الْمَحَالَّ مِنْ بَدَنِهِ لِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْمُزَعْفَرِ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ هَلْ تُحْشَى مَحَارِقُهُ ؟ وَقَالُوا : إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي أَنْفِهِ وَفَمِهِ ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي دُبُرِهِ أَيْضًا ، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مَشَايِخُنَا وَإِنْ لَمْ يُخْشَ جَازَ التَّرْكُ ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كَانَ الْإِزَارُ طَوِيلًا حَتَّى يُعْطَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى ، ثُمَّ يُعْطَفُ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ ، وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ ، فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ ، وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ مَا لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى السَّرِيرِ ، وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ مَا بَيْنَ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ فِي نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا } فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا ، وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا مِنْ بَابِ الزِّينَةِ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ .

ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ ، كَمَا يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ : يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ عُنُقُهُ فَقَالَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبِهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { : وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ طِيبًا } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ : خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ } وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ : إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ } وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَمَا رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا فِي الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لَنَا الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ فَنَقُولُ : كَفَنُ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ كَفَنُهَا عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَنُهَا ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ .

وَعَلَى هَذَا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا ؛ لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .

وَإِنْ نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنَازَةِ .

( فَصْلٌ ) : وَالْكَلَامُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ ، وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { السُّنَّةُ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ } وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ آمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ عَلَى الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ ، وَأَبْعَدُ مِنْ تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّهْرِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِهِ ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِهِ ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِهِ ، كَمَا

بَيَّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ } وَإِذَا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ ، وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ عَلَى يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا ، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا ، وَهُوَ أَفْضَلُ ، كَذَلِكَ كَانَ الْحَمْلُ ، وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً } وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ عَلَى دَابَّةٍ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، كَمَا يُصَلَّى عَلَى الْبَالِغِ ، وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَيْدِي ، فَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ ، وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ رَاكِبًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ فِي طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ

{ : عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ } لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ : مَا دُونَ الْخَبَبِ } ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ ، وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ فِي حَالِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ فِي التَّقْدِيمِ .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ } وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ ، وَالشَّفِيعُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوْتِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَانَ يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { مَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ ؛ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا فَقُلْتُ : لِعَلِيٍّ مَا بَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ : إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يُسَهَّ لَانَ عَلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لَهَا ، فَلَوْ اخْتَارَ

الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مُشَيِّعِيهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ " فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هَذَا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ قُدَّامُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : " هَذَا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ " قُلْنَا : عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ .
وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كَانَ وَاسِعًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ الْجِنَازَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .

وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ ، وَأَلْيَقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ .

، وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي : الْإِجْمَارَ فِي قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَثْ بِالْأَكَامِ } وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ مَعَهُ تَفَاؤُلًا ، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ : أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا نَارًا ؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ .

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يَرْجِعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ .

وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ { : انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } .

وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أُتِيَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا .

وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ فِي الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ : صَوْتِ النَّائِحَةِ ، وَالْمُغَنِّيَةِ } .

فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ بَكَى عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ : الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ } .

وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا وَيَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ .

وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ : عِنْدَ الْقِتَالِ ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ ، وَالذِّكْرِ ؛ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا .

، وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ ، وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قَبْلَ قُعُودِ الْأَصْلِ ؛ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قَبْلَ الْوَضْعِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَا يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ } { وَكَانَ قَائِمًا مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ فَقَالَ يَهُودِيٌّ : هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : خَالِفُوهُمْ } .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ : إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ هَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ - وَاَللَّهَ أَعْلَمُ - ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يُصَلَّى عَلَيْهَا .

( فَصْلٌ ) : وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يُكْرَهُ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ { يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ } وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَيْهَا ، دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْفَرْضُ ، وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ ، لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُصَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ ، أَوْ كَبِيرًا ، ذَكَرًا كَانَ ، أَوْ أُنْثَى ، حُرًّا كَانَ ، أَوْ عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } وَقَوْلُهُ : { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَالْبُغَاةُ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُجِدَ مَيِّتًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ .

وَإِنْ مَاتَ فِي حَالِ وِلَادَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَكْثَرُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ نِصْفُهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى نِصْفِ الْمَيِّتِ .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّا لَوْ صَلَّيْنَا عَلَى هَذَا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ عَلَى الْبَاقِي إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ يُصَلَّ عَلَى الْبَاقِي إذَا وُجِدَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ فِي النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهَا أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ } وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى عَلَيْهِ وَرُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ : قَبْرُ فُلَانَةَ فَقَالَ : هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقِيلَ : إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ ، وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ } .
وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ ؛ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ ، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قُضِيَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الصَّلَاةِ حَقٌّ ؛ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ ، وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِبَرَكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ كَرَامَةً لَهُ ، وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الْحَقَّ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ ، وَلَكِنْ اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَاتَتْهُمَا صَلَاةٌ عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا حَضَرَا مَا زَادَا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةِ عُمَرَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ : إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ لَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُمَّةَ تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْرِهِ كَمَا وُضِعَ فَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ ، بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ ، وَتَرْكُهُمْ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ ، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ الْفَرْضُ ، فَلَوْ صَلَّى ثَانِيًا كَانَ نَفْلًا .
وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كَانَ لَهُ ، فَإِذَا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فَرْضًا ، فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعَادَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُصَلِّي عَلَى مَوْتَاكُمْ غَيْرِي مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ } فَلَمْ يَسْقُطْ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْوَلَايَةَ كَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ

الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلَّ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ حَقًّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " إنَّهَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ " ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ لَهُ ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَيِّتُ خَلْفَهُ ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كَانَ مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى صَبِيٍّ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حَتَّى يُوضَعَ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لَهُمْ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الْآيَةَ فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ : أَكُفَّارٌ هُمْ ؟ فَقَالَ : لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إهَانَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ تُرِكَ عَلَى خَشَبَتِهِ إهَانَةً وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ كَذَا هَذَا ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ ثَبَتَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ فَكَانُوا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عَنْ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَكَذَلِكَ مَنْ يُقْتَلُ عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ وَالْمُكَاثِرُونَ فِي الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ : " يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا " وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ : أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هُوَ وَسَطُ الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ مِنْ الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هُوَ الصَّدْرُ ، وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى .
وَلَا نَصَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ لَهُ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي كَذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ } قَالُوا : وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ ، فَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا } وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ ، أَوْ نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ

الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ ، وَفِي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .

ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ عَنْهُ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كَانَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَقَالَ لَهُمْ : إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّا هَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فَوَجَدَهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ .
إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ ، كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ، وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ ، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا ، وَهَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ

عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَاطِمَةَ أَبُو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا ، وَعُمَرُ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا ، فَإِذَا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فِيهِ وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ، كَمَا يَسْتَفْتِحُونَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ ، ثُمَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ ، وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخِرِ هَذَا إذَا كَانَ بَالِغًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا فَإِنَّهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ ، وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ

بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا يُخَالِفُ مَا يَقُولُهُ الْحَسَنُ ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَا يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلَخْ .

فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي فِي الْخَامِسَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ هَذَا مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ ، كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فِيهِ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْخَطَأِ ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ فِي رِوَايَةٍ ؟ قَالَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُتَابِعَهُ فِي التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هُوَ الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْبَقَاءِ ، كَمَا لَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ .

وَلَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا ، وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ ، وَعِنْدَنَا لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لَمْ يُكْرَهْ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } ، وَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ } وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا ، وَعَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَعَنْ } ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَجَهَرَ بِهَا وَقَالَ : إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ } ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ يُقْرَأُ فِيهَا ؟ فَقَالَ : لَمْ يُوَقِّتْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً } ، وَفِي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت ، وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ ، وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْقِرَاءَةُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الْأَرْكَانُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهَا تُسَمَّى صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنْ

الدُّعَاءِ ، وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا .

وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَكَانَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ اخْتَارَ الرَّفْعَ : أَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بِهَا فِي قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ ، وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْأَصَمِّ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فِيهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ } وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِيهَا إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ، ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ .

وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ .

صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ .

وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً ، أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ ، وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ مَعَهُ ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حِينَ يَحْضُرُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هُوَ يَقُولُ : إنَّهُ مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حِينَ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ : أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً مِنْهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ، وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ ، كَذَا هَهُنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ ، وَيَقَعُ ذَلِكَ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بِهَا حِينَ حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ

لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا ، وَإِنْ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا .

وَلَوْ جَاءَ بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ ، وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُكَبِّرْ شَيْئًا حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ ، الصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا : لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا : الْإِمَامُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هَذَا لِتَتَابُعِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ ، وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ ، وَمَا تَفْسُدُ ، وَمَا يُكْرَهُ .
أَمَّا مَا تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَالْحُكْمِيَّةِ ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَكَذَا صَلَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّهَا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ .

وَلَوْ أَخْطَئُوا بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ ، وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءُوا لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ .

وَلَوْ تَحَرَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ فَأَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا خِلَافَهَا لَمْ تَجُزْ ، كَمَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .

وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا أَوْ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَرْكَانُ فِيهَا التَّكْبِيرَاتُ وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ ، كَمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِهَا إلَّا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فَيُرَاعَى فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ فِي شَرَائِطِهَا ، فَكَذَا فِي الرُّكْنِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ مِنْ الشَّرْطِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ ؛ وَلِهَذَا تَسْقُطُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي ، وَالْكَافِرِ ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ مَا شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .

وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُجْزِئُ الْإِمَامَ ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَأْمُومَ بِنَاءً عَلَى اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ .

وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَنَّهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ ذَكَرُوا قَبْلَ الدَّفْنِ ، أَوْ بَعْدَهُ : فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ ، فَإِذَا فُقِدَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لَمْ يَنْبُشُوا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُخْرَجُ مَا لَمْ يُهِيلُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَبْشٍ ، فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لَمْ يُخْرَجْ ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ ، وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ .

وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، أَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا أَوْلَى .
وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلَّى ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ وَفِي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ ، فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ وَالْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ ، وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ ، فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ } فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } ، وَالصَّلَاةُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ ، وَقِيلَ : إنَّهُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ ، كَمَا دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ .

الصَّلَاةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً } ؛ وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ .

ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ ؟ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا ، كَمَا يَصْطَفُّونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ شَاءُوا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ؛ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } .
ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ دُفِنُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ ؛

لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا فِي وَضْعِ الْجَنَائِزِ .

وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ ، ثُمَّ الْخُنْثَى ، ثُمَّ الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } ؛ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ فِي الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .

وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى عَلَى الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى فَيُتِمُّهَا ، فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عَنْ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مَعَ النِّيَّةِ ، كَمَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الظُّهْرِ فَكَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَاهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَيْ : يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ : إنَّهَا تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ ، وَالْكَلَامِ ، وَالْقَهْقَهَةِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً .
وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا ، فِي غَيْرِهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ : فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي ، وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ قُبْحُهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا فِي هَذِهِ فَجَعْلُهَا حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا ، وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ جُعِلَتْ مُفْسِدَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ فِي أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ التَّحَمُّلَ وَالْجَوَازَ فِي أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَفْرُغُونَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ التَّوَضُّؤِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ .
وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فَلَمَّا جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ

هَهُنَا أَوْلَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ فِيهَا فَنَقُولُ : تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا ، وَنِصْفِ النَّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا } وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : " أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا " الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ صَلَّوْا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً ، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فِيهَا دُونَ الْأَدَاءِ ، كَمَا إذَا أَدَّى عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَءُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَاتِهِ ، وَهَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقَرِيبِ لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ لَهُ .
وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَرِيبُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ ، لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَلَايَةِ ، وَالْقَرِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ ، كَمَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ ، وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى ؛ لِأَنَّهُ يُبَالِغُ فِي إخْلَاصِ الدُّعَاءِ ، وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ ، وَتُوجَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ { أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ - وَكَانَ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ - وَقَالَ :

لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُكَ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ } ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ ، وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ ، فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَتِلْكَ وِلَايَةُ نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى " فَنَقُولُ : بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مَعَ أَنَّ دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ الْإِمَامَ } ، ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عَنْ فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .

وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ ، فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كَانَ الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَصَلَّى يُنْظَرُ إنْ صَلَّى الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ .
وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكِتَابٍ كَانَ لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ ، أَوْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَدْ سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ فِي التَّوْقِيفِ عَلَى حُضُورِهِ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ ، وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مَعَ ضَرَرِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ ، وَالْمَرِيضُ فِي الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ مَنْ شَاءَ ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعَ مَرَضِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيمِ ، وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فِي التَّقْدِيمِ ؛ لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ .

وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَاتَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَ لِأَوْلِيَائِهَا : كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ ، وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ لَهُ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّقَدُّمِ حَتَّى لَا يُسْتَخَفَّ بِأَبِيهِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ فِي التَّقْدِيمِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى هَذَا الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ، وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ وَكَذَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنُ الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَابْنًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَلَايَةُ لِلْأَبِ ، وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ فَضِيلَةً عَلَى الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ ، وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَايَاتِ ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ .

وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الَّذِي هُوَ جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ .

وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حَاضِرًا فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ احْتِرَامًا لَهُ ، ثُمَّ إذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ يُدْفَنُ .

( فَصْلٌ ) : وَالْكَلَامُ فِي الدَّفْنِ فِي مَوَاضِعَ : .
فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ ، وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ : تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ ، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ اللَّحْدُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ ، وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ ، وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا } وَفِي رِوَايَةٍ { اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ النَّاسُ أَنْ يُشَقَّ لَهُ ، أَوْ يُلْحَدَ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَجُلًا إلَى أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ مَنْ كَانَ بُعِثَ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ مَنْ بُعِثَ إلَيْهِ ، وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا تَوَارَثُوا الشَّقَّ ؛ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ ؛ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ أَرَاضِيهِمْ .
وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ ، ثُمَّ يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ ، فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ عَلَى اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ وُضِعَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فُرْجَةً فِي قَبْرٍ فَأَخَذَ مُدَوَّرَةً وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وَقَالَ سُدَّ : بِهَا تِلْكَ الْفُرْجَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ كُلِّ صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ } وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ مِنْ اللَّبِنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ اجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ ، كَمَا جُعِلَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَقَبْرِ أَبِي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ ؛ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِيَمْنَعَا مَا يُهَالُ مِنْ التُّرَابِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَيِّتِ .

وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ عَلَى الْقُبُورِ ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ بِالْعُمْرَانِ ، وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ } ، وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ : لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ فِي دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي ، وَكَانَ أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى قَالَ : لَوْ اتَّخَذُوا تَابُوتًا مِنْ حَدِيدٍ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ، وَهُوَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ ، وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : .
السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا ، ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ ، وَتُدْخَلُ رِجْلَاهُ فِي الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا ، وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ سَلًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ : وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عَنْ الْعَامَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ أَبَا دُجَانَةَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هَذَا مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مِنْ قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُبِضُوا فِيهِ فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ ، وَاللَّحْدُ تَحْتَ الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ؛ وَلِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : هَذَا أَمْرٌ

مَشْهُورٌ ، قُلْنَا : رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَرْضًا سَبْخَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دَخَلَ قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ وَالْإِجْمَارِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ : إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَقِيلَ : إنَّهُ أَبُو رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَالْوِتْرُ وَالشَّفْعُ فِيهِ سَوَاءٌ ؛ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانَ شَفْعًا فَكَذَا هَهُنَا ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ ، خُصُوصًا فِي دَفْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُ تَنْزِلُ فِيهِ السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ عَلَى سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ : بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَإِذَا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ قَالَ وَاضِعُهُ : بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ : " بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ " لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ أَوْ وَضَعَهُ فِي اللَّحْدِ قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ } وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أَوْ نَامَ قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ يَقُولُ : النَّوْمُ وَفَاةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ : مَعْنَى هَذَا بِاسْمِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ .
وَلَيْسَ هَذَا بِدُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ عَلَيْهِ الْحَالَةُ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ عَلَى الْمِلَّةِ وَعَلَى هَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ ، وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةَ رَجُلٍ فَقَالَ يَا : عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جَمِيعًا بِاسْمِ اللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ

وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ } .

وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ .

وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبْشٍ ، وَإِنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ تُرِكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ .

، وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنْ الصَّعِيدِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ وَكَانَ يُدْفَنُ فِي الْقَبْرِ رَجُلَانِ ، أَوْ ثَلَاثَةٌ ، وَقَالَ : قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا } وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ .

وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، أَوْ صَبِيٌّ وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ ، ثُمَّ الْخُنْثَى ، ثُمَّ الْأُنْثَى ، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ ، وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَكَذَا فِي الْقَبْرِ ، وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُجِّيَ قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ عَلَى جِنَازَتِهَا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ ، فَلَوْ لَمْ يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ عَلَى جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ .

وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ .

وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ ، وَقَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ : إنَّهُ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حَتَّى لَا يَبْدُوَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ أُخْرَى مِنْ دَفْعِ مَطَرٍ أَوْ حَرٍّ عَنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْقَبْرِ ، وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ .

وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا } ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا ، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا ؛ وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا مِنْهُ بُدٌّ مَكْرُوهٌ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ فِي وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا ، وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا .

وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ وَأَنْ يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ ، وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عَلَيْهَا وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهَا } ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا .

وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ .

بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ يُوطَأَ عَلَى قَبْرٍ ، أَوْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ ، أَوْ يُنَامَ عَلَيْهِ أَوْ تُقْضَى عَلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ } .

وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ } قَالَ : أَبُو حَنِيفَةَ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَيْنَ الْقُبُورِ ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذَلِكَ ، وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى عَائِشَةَ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ بَيْنَ مَقَابِرِ الْبَقِيعِ ، وَالْإِمَامُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } ، وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : .
أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَنْ يَكُونُ شَهِيدًا فِي الْحُكْمِ ، وَمَنْ لَا يَكُونُ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَبُنِيَ عَلَى شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حَتَّى لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ ، أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ ، أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْتُولٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا قُتِلَ كُلُّهُمْ بِسِلَاحٍ ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حَتَّى لَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ { أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قُتِلَ مَاعِزٌ ، كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ ، وَكَفِّنْهُ ، وَصَلِّ عَلَيْهِ } .

وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مَقْتُولًا خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ ، أَوْ سَوْطٍ ، أَوْ وَكَزَهُ بِالْيَدِ ، أَوْ لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ ، وَذَا دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ فِي الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَلَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا كَبِيرَةٍ ، أَوْ بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ ، أَوْ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ ، أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ ، أَوْ خَنَقَهُ ، أَوْ غَرَّقَهُ فِي الْمَاءِ ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا .

وَلَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ لَيْلًا فِي الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لَمْ يَخْلُفْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ .

وَلَوْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ، أَوْ مَا يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ ، وَالصُّفْرِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ مِنْ جُرْحٍ ، أَوْ قَطْعٍ ، أَوْ طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ بِزُجَاجَةٍ ، أَوْ بُلَيْطَةِ قَصَبٍ ، أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ لَهُ ، أَوْ رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لَهَا ، أَوْ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ ، وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَالْقَتِيلُ شَهِيدٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يَكُونُ شَهِيدًا " ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ، وَعَلِيًّا غُسِّلَا ، وَلِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا ، وَهُوَ الْمَالُ ، أَوْ الْقِصَاصُ فَمَا هُوَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كَالْقَتْلِ خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ ، وَتَحَقُّقِ الظُّلْمِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَصَارَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَتْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمَقْتُولِ فَإِذَا ، وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي مِنْ ، وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الشَّهَادَةِ ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا ، وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ .

وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ ، أَوْ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ .

وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا ، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُرْتَثًّا فِي شَهَادَتِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَخْلَقَ شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الرَّثِّ ، وَهُوَ الْخَلَقُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ ، وَكَانَ شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ حُمِلَ حَيًّا بَعْد مَا طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ ، وَكَانَ شَهِيدًا ، وَعُثْمَانُ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ ، وَلَمْ يَرْتَثِ فَلَمْ يُغَسَّلْ { ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ارْتَثَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَادِرُوا إلَى غُسْلِ صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كَيْ لَا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ ، كَمَا سَبَقَتْنَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ } .
وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا عَلَى مَصَارِعِهِمْ ، وَلَمْ يُرْتَثُّوا ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كَانَ يُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَشْرَبُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا اُرْتُثَّ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ ، وَنُقِلَ مِنْ مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ ضَعْفًا ، وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لَمْ تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ ، وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ فِي إثَارَةِ الْمَوْتِ .
وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ .
وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ ؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ ، وَهُوَ النَّقْلُ ، وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ ، وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فَلَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا فَلَمْ يَصِرْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى ، وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا بِأَنْ جَرَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا ، أَوْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِي بَيْتِهِ ، أَوْ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ ، أَوْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ، أَوْ قَامَ

مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ ، أَوْ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ ، وَبَقِيَ عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا ، أَوْ لَيْلَةً كَامِلَةً ، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حَتَّى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ ، وَإِنْ بَقِيَ مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : " إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ " .
وَلَوْ أَوْصَى كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ : لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ ؟ فَنَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى ، وَبِهِ رَمَقٌ فَقَالَ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ ، فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ ؟ فَقَالَ : أَنَا فِي الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي السَّلَامَ ، وَقُلْ لَهُ : إنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ : جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا يُجْزَى نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ ، وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ ، وَقُلْ لَهُمْ : إنَّ سَعْدًا يَقُولُ : لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى نَبِيِّكُمْ ، وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ قَالَ : ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ

حَتَّى مَاتَ فَلَمْ يُغَسَّلْ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ } ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ ، أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ ، وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حَتَّى تَطَؤُهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ مُرْتَثًّا ؛ لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ رَاحَةِ الدُّنْيَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ ، أَوْ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ مَا مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا ، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي حَقِّ الثَّوَابِ حَتَّى إنَّهُ يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ ، وَالْحَرِيقِ ، وَالْمَبْطُونِ ، وَالْغَرِيبِ إنَّهُمْ شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا .

كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَنْ الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً لَهُ ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ .

وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا ، هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا ، أَوْجَبَ تَطْهِيرَ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ مَنْ هُوَ طَاهِرٌ ، أَوْلَى ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ ، وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ فِي حَقِّهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ فَلَا يُجْعَلُ ، وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ .
وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - غُسِّلُوا ، وَرَسُولُنَا - سَيِّدُ الْبَشَرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسِّلَ ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ، وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِالتَّطْهِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ ، وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قُتِلَ جُنُبًا لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ { أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا بَالُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ : لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ } أَشَارَ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لِنَجَاسَتِهِ كَانَتْ كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا كَانَ حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كَانَتْ ثَابِتَةً وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَدْوَنُ مِنْ الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ ضَرُورَةُ الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا عَلَى الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ ، وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا : إنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ ذَلِكَ الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجَنَابَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ تُوجَدُ فِي النُّدْرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْ .

وَأَمَّا الْحَائِضُ ، وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ ، وَطَهَارَتِهِمَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ ، فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَفِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ لِوُجُودِ شَرْطِ الِاغْتِسَالِ ، وَهُوَ الْحَيْضُ ، وَالنِّفَاسُ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَجَبَ بَعْدُ قَبْلَ الْمَوْتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ ، وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ ، وَالِاغْتِسَالُ الَّذِي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَإِذَا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ : إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ فِي الْمَعْرَكَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ ، أَوْ قُتِلَ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ ، أَوْ أَهْلِهِ ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْتُولًا مِنْ جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } ، وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا إذَا قُتِلَ فِي مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْبَاغِي فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا ، وَهُوَ الْقِصَاصُ ، وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا ، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ ، وَكَانَ قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } .
وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَالَ : لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا ، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةَ مَنْ قَتَلَنِي ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُغَسِّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ ظُلْمًا ، وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْبَاغِي مَمْنُوعٌ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ

وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذَلِكَ أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الشَّهَادَةِ ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَلَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ ، أَوْ خَنْقٍ ، أَوْ ضَرْبٍ ، أَوْ خُرُوجِ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ ، بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ ، وَقَدْ يُبْتَلَى الْجَبَانُ بِهَذَا فَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ ، وَالذَّكَرِ ، وَالدُّبُرِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ ، وَقَدْ يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ ، وَقَدْ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ .

وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ أُذُنِهِ ، أَوْ عَيْنِهِ كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ فِي الْبَاطِنِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ ، أَوْ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ رَأْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ ، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ مِنْ الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَوْ وُجِدَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ ، وَلَا دِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ وَظَاهِرًا ، كَمَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمَعْرَكَةِ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْقَوْا الْعَدُوَّ ، لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَتِيلَ الْعَدُوِّ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ .

وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ الْعَدُوِّ ، وَهُمْ رَاكِبُوهَا ، أَوْ سَائِقُوهَا ، أَوْ قَائِدُوهَا فَمَاتَ ، أَوْ نَفَّرَ الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ ، أَوْ نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ ، أَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا ، أَوْ تَعَدَّى هَذَا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا ، أَوْ سَيَّلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ حَتَّى غَرِقُوا ، أَوْ أَلْقَوْهُمْ فِي الْخَنْدَقِ ، أَوْ مِنْ السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ ، وَالدَّفْعِ حَتَّى مَاتُوا ، أَوْ أَلْقَوْا عَلَيْهِمْ الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ .

وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ دَابَّةِ الْعَدُوِّ ، أَوْ مِنْ سَوَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيرٍ مِنْهُمْ فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ ، أَوْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْخَنْدَقِ ، أَوْ مِنْ السُّورِ حَتَّى مَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ ، وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطَ فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَصْلًا فَقَالَ : إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا ، وَإِلَّا فَلَا ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ ، وَالْقِتَالِ كَانَ شَهِيدًا ، وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ ، أَوْ لَا ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ ، بِحَيْثُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَتْلُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوبِ قِصَاصٍ ، أَوْ كَفَّارَةٍ كَانَ شَهِيدًا ، وَإِذَا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا ، وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الزِّيَادَاتِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ : إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ ، وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ فِي حَقِّهِ أَوْجَبَ ، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ ، وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ ، وَجَبَ تَطْهِيرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ ، وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا عَلَى الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ النَّاسِ كَانَ مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ ، وَتَمْحِيصٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غُسْلِهِمْ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ : زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ ، وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا ، وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لَهُ ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عَنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ ، كَمَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَمَا

ذُكِرَ مِنْ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُمْ مِنْ الْحَفْرِ ، وَالدَّفْنِ ، كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً مِنْ الْغُسْلِ ؟ وَهُوَ أَيْسَرُ مَنْ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لَوْ كَانَ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ ، وَالْخَنْدَقِ ، وَخَيْبَرَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّعَذُّرِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ، وَلِذَا لَمْ يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَرْكِ الْغُسْلِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ غَيْرَ مَا فَهِمَ الْحَسَنُ .

وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ } وَرَوَيْنَا عَنْ عَمَّارٍ ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجِلْدُ ، وَالسِّلَاحُ ، وَالْفَرْوُ ، وَالْحَشْوُ ، وَالْخُفُّ ، وَالْمِنْطَقَةُ ، وَالْقَلَنْسُوَةُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ تَنْزِعُ عَنْهُ الْعِمَامَةَ ، وَالْخُفَّيْنِ ، وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَا يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا ، وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ ، وَالزِّينَةِ ، أَوْ لِدَفْعِ الْبَرْدِ ، أَوْ لِدَفْعِ مَعَرَّةِ السِّلَاحِ ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَفَنًا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ } الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا ، وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا ، وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ نَمِرَةٌ لَوْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بِهَا بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ ، وَيُوضَعُ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ } .
وَذَاكَ زِيَادَةٌ فِي الْكَفَنِ ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ

الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يُغَسَّلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ } ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ لَهُ ، وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ } فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْغُسْلِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي كِتَابِهِ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى الْحَيِّ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ } حَتَّى رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً } وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِوَاحِدٍ ، وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَرَوَى أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ ، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فَإِنَّهُ قُتِلَ أَبُوهُ ، وَأَخُوهُ ، وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا رَوَى مَا رَوَى ، وَمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَمِعَ جَابِرٌ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ

فَدَفَنَهُمْ فِيهَا ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ ، وَالشَّهِيدُ ، أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ ، فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كَانَتْ فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْحَيَاةِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، فَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ ، وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَيِّتًا فِيهِ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

كِتَابُ الزَّكَاةِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالزَّكَاةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ ، وَوَاجِبٌ فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ ، وَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرُ وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ : .
زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ ، وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي .
بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْمَعْقُولُ الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ ، وَقَوْلُهُ { : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : كُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ } فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَمْ يُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وقَوْله تَعَالَى { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُحْسِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ { : اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ ، وَجَبْهَتُهُ ، وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَصَاحِبُ الْخَيْلِ ؟ قَالَ : الْخَيْلُ ثَلَاثٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ ، فَأَمَّا مَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ طُوِّلَ لَهَا فِي مَرْجٍ خِصْبٍ أَوْ فِي رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ مِنْهُ السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ

لَهُ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كَانَتْ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهَا بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ : { لَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ } ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ .
وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ الشُّحِّ

وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الضَّنِّ بِالْمَالِ فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ ، وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بِهَا فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ الْعَيْشِ .
وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ : " إذَا لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حَتَّى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ " وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ .
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا : إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ حَتَّى مَاتَ يَأْثَمُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ هَلْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ : " إنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ " وَهُوَ

الْفِعْلُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ الْأَدَاءَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا لِتَأْخِيرِهِ فَيُضْمَنُ .
وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ ، وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ : زَكَاةُ الْمَالِ وَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهَا السَّبَبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ : صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا إسْلَامُهُ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حَتَّى إذَا مَضَى عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذَا أَسْلَمَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَتَخْفِيفًا لَهُ .
وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، وَقَوْلُهُ : أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهِ .
وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ ،

وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِيمَانُ عَنْ الْخَلَائِقِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هُوَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا لَهُ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ ، وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ تَابِعَةٌ لَهَا فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وَهُوَ الْفَرْقُ .

وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْعَدَدِ ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .

وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا : " لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ ، وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَتَّى قَالَ : " لَوْ أَدَّاهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضُمِنَ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ ، وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ ، وَالْخَرَاجِ ، وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَلَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ حَتَّى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ ، وَالْوَلِيُّ نَائِبُ الصَّبِيِّ فِيهَا فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي إقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا ابْتِدَاءً .
أَمَّا الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ : النَّصُّ ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ ، وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ

الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلِذَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ وَالِاسْتِحْلَافُ مِنْ السَّاعِي وَإِنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ .
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ الْعِبَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مَحِلُّ الصَّدَقَةِ ، وَهُوَ الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّ الْفَقِيرِ ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَالُ ، وَذَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ بَلْ هُوَ مَحِلُّ الزَّكَاةِ وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ حَتَّى لَوْ مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُوَكِّلُ ، وَالْخَرَاجُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ هُوَ

مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ وَجْهٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ } فَتَجِبُ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعُشْرِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ } وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ } .
وَرُوِيَ { مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ } ، وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْبَالِغِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ وَإِيجَابُ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ قُرْبَانُ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أَوْ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مَعَ مَا أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ } وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْجَمِيعَ

لَا الزَّكَاةُ أَوْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُهُ { : مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ } أَيْ : لِيَتَصَرَّفْ فِي مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ أَصْلِيٌّ وَطَارِئٌ .
أَمَّا الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِ الصِّبَا ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ عَلَى مَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ .
وَأَمَّا الْجُنُونُ الطَّارِئُ فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ ، وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً مِنْ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا فَكَأَنَّهُ كَانَ مُفِيقًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ .
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ ؛

لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ .
وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُ ، وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ لَهُ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ .
وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ فَضَلَ عَنْ سِعَايَتِهِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كَانَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ لِلْإِسَامَةِ وَقَدْ وُجِدَ .
أَمَّا الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ .
وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْإِسَامَةِ ؛ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى { ، وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَشَرْطَهُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الدَّيْنِ مَعَ مَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ

إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إرْضَاءٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ ، فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غِنَى الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ غِنَى الْمَالِكِ ، وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ ، وَعَلَى هَذَا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً ، فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً فَيَمْنَعُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى عَزْمٍ مِنْ قَضَائِهِ يَمْنَعُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ فِي الْأَحْكَامِ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ عَلَى الْآجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّ ذَلِكَ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ ، وَقَالُوا فِي الْبَيْعِ الَّذِي اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ بَيْعُ الْوَفَاءِ : إنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا ؛

لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ ، وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ : إنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ عَلَى حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ سَبَبًا حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ .
وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي ، وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا ، وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ ، وَقَالُوا : دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ .
وَالطَّعَامُ لَيْسَ مَالَ التِّجَارَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ .
وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي النِّصَابِ أَوْ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ

مَالُ الزَّكَاةِ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : " لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا " ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ " هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هُوَ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ ، وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ .
وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ : مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ ؟ فَقَالَ : مَا حُجَّتِي عَلَى مَنْ يُوجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ؟ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافِهِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ

وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا ، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ .
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بِهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وَكَانَ يَأْخُذُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ ؟ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عَنْ الْأَخْذِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ بِهَا ، لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ مِنْ أَرْبَابِهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ ، وَكَذَا هَذَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا سَنَتَانِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ

الثَّانِيَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ عَشْرًا وَحَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ .
وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ .
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ هَلْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ .
وَقَالَ زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَأَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لَا مَطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ ، وَنَحْوِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ ؟ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فِي

حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ إذَا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ مِنْ عَبِيدِ الْخِدْمَةِ ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ ، وَدُورِ السُّكْنَى فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ لَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَقَالَ زُفَرُ : " يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى ، وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عَنْهَا فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ " أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ ؟ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ " وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوَائِمِ ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ ، وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ .
وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ فِي الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بِمَا لَهُمْ فَكَانَ صَرْفُ الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ السَّوَائِمِ نَظَرًا

لِلْفُقَرَاءِ .
وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ سَائِمَةٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْمُصْدِقِ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ ؛ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ لَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى يَجِبَ الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حَتَّى يَجِبَ التَّبِيعُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ ، وَهَذَا إذَا صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ .
وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ التَّبِيعِ تَجِبُ

الشَّاتَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ شَاتَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الشَّاةُ .
وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْإِبِلِ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا .
وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ بَقَرًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ ، وَتَبِيعٌ وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ فِي الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا : الْمِلْكُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ .
وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بِدَرَاهِمَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهُ ، وَالزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ .

وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ رَقَبَةً وَيَدًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : " الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا .
وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هُوَ كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً ، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَفِي الْمَدْفُونِ فِي الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ احْتِجَاجًا بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً لِقِيَامِ مِلْكِهِ .
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ مَعَ عَدَمِ الْقَبْضِ ، وَتَجِبُ فِي الْمَدْفُونِ فِي الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ } وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ ؛ لِعَدَمِ وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا

فَكَانَتْ ضِمَارًا ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغِنَى بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَمَالُ ابْنُ السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا الْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ ؛ لِأَنَّ نَبْشَ كُلِّ الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فَلَمْ يُعْذَرْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَفْسُقُ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ فِي السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً .
وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ : لِأَنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مَعَ أَنَّ الْإِفْلَاسَ مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا زَكَاةَ فِيهِ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّفْلِيسَ

عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلٌ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ فِي الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ الْمُودَعُ فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا تَذَكَّرَ ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ قَائِمًا ؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ .
وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إذَا هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَمْ يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى مُطْلَقًا بَلْ كَانَ نَاقِصًا ، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِيهَا مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ لَا بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ،

وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ : دَيْنٌ قَوِيٌّ ، وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ ، وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَرَضِ التِّجَارَةِ مِنْ ثِيَابِ التِّجَارَةِ ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ ، أَوْ غَلَّةِ مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ مَا مَضَى مَا لَمْ يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ سَوَاءٌ وَجَبَ لَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ ، أَوْ بِصُنْعِهِ كَمَا لِوَصِيَّةٍ ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْبَضْ كُلُّهُ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فَمَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ ، وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ

فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَصْلًا مَا لَمْ تُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَا سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ مِلْكٌ نَاقِصٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ وَاجِبٌ وَهُوَ فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ فِي الْخِلَافِيَّاتِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي دَيْنٍ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي يَدِهِ ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا رَقَبَةً ، وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ

الَّذِي هُوَ بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ فِي احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ التِّجَارَةِ قَابِلٌ لِلْقَبْضِ ، وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ رَأْسًا وَلَا فِيمَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَا فِي بَدَلِ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَذَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ النِّصَابِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا أَيْضًا لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ مَا قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ كَمَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى النِّصَابِ .
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِالْإِسَامَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ ، وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ : وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْغِنَى وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ غَنِيًّا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَن .
وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ } فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عَنْ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ ، وَالْعَلُوفَةِ ، وَالْحَمُولَةِ ، وَالْعَمُولَةِ مِنْ الْمَوَاشِي ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَسْكَنِ ، وَالْمَرَاكِبِ ، وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ ، وَمَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ

آنِيَةٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لَمْ يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وقَوْله تَعَالَى { : وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَتَمُّ وَأَقْرَبُ ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ ، وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : أَنَّهَا نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فِيهَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْبَدَنِ ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وقَوْله تَعَالَى { : وَآتُوا الزَّكَاةَ } دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنْ الْمَالِ النَّامِي عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ لِلْإِسَامَةِ فِي الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ ، إلَّا أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فِي دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ ، إذْ النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا

حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا ، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا أَوْ نَوَى النَّفَقَةَ .
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ .
وَكَذَا فِي الْمَوَاشِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْإِسَامَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أَمَتَى مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَفْعَلُوا } ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قَدْ تَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ أَوْ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تِجَارَةٌ .
وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ نَفْسُ التِّجَارَةِ ؛ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ الْإِجَارَةَ .
وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ

الثَّمَنُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِهَا .
وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا وَنَوَى التِّجَارَةَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ .
وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ لَيْسَ مُبَادَلَةً أَصْلًا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ بِعَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ : لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُقَارِنْ عَمَلًا هُوَ تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلِ مَا هُوَ مَالٌ ، وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً عَمَلَ التِّجَارَةِ .
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي

الْعَاقِبَةِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ مِنْ رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَمْ تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ : اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فَلَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ .
وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَبِعْهَا فَيَكُونُ بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهُ مَالُ التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عَزَبَتْ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ .
وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مَعَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ ، وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ .
وَنَظِيرُهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ ، وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ .
وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ

الْعُرُوضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَعْمَلُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ عَمَلَ التِّجَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمِلَتْ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مَعَ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ ، أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ .
وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ .
وَأَمَّا إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَصْلِ .
وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ .
وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ دَارِهِ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ

كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قَدْ يُقْصَدُ بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَعَ التَّرَدُّدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ النَّاسِ ؛ وَلِأَنَّهَا كَمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ .
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُمْلَكُ دُونَ مَا لَا يُمْلَكُ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى النَّفَقَةِ ، وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ .
وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نَحْوَ الصَّبَّاغِينَ وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي عَمَلِهِمْ هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ ؟ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ

الصَّبَّاغَ إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لِيَصْبُغَ ثِيَابَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَ شَيْئًا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالشَّحْمِ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ قَائِمٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ فَيَكُونُ هَذَا تِجَارَةً ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ مِثْلُ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هَذِهِ الْآلَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مَعَ الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا فِي نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُبَاعُ مَعَ الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بِهَا الدَّوَابُّ فَهِيَ مِنْ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ ، إذَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ .
وَكَذَا إذَا فَدَى بِالدِّيَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ .
وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا الْحَوْلُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وَهُوَ النِّصَابُ الْمَوْجُودُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَالُ فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا فِي الْحَوْلِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَالْمُسْتَفَادُ فِي الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مَعَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ بَلْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ وَالرِّبْحِ ، وَأَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْمُشْتَرَى وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ وَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا

يُضَمُّ .
احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَكُونُ أَصْلًا فِي شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ ؛ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا فِي الْحَوْلِ .
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ ، إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ ؟ وَقَوْلُهُ : أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ تَبَعًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ ، فَكَانَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَتَبَعًا مِنْ وَجْهٍ ، فَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ مِنْهُ بَعْضُهُ وَهُوَ الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَامَلُ بِهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57