كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا ، وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا - الْعَقْلُ ، وَالثَّانِي - الْبُلُوغُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً ، وَالثَّالِثُ - عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، فَإِنْ أَتَى بِهِمْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } عَلَّقَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ ، بَلْ عِنْدَ الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ ، إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ أَصْلًا ، إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَإِذَا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَزْجُرُ عَنْ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ .
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا ، وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ خَمْسَةٌ : الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا .
أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ ؛ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا ، فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ ؛ لَأَوْجَبْنَا ثَمَانِينَ ، وَهُوَ لَوْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا .
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا ؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ ، وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا ، وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطٌ ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْغَافِلَاتِ فِي الذِّكْرِ وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ ؛ فَلَوْ أُرِيدَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ دَفْعًا لِعَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَمَا فِي الْكَافِرِ مِنْ عَارِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا : هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْذُوفُ وَطِئَ فِي عُمْرِهِ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا ، وَلَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لَكِنْ فِي الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً ، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَكِنْ فَسَادًا هُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ ؛ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ ؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ؛ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ كُلَّ الْجَارِيَةِ - وَكُلُّهَا لَيْسَ مِلْكَهُ - فَيُصَادِفُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا مَحَالَةَ ، فَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا مِنْ وَجْهٍ ، لَكِنْ دُرِئَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا أَوْ لَمْ يُعْلِقْهَا ؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ حَقِيقَةً .

وَلَوْ وَطِئَ الْحَائِضَ أَوْ النُّفَسَاءَ أَوْ الصَّائِمَةَ أَوْ الْمُحْرِمَةَ أَوْ الْحُرَّةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ، أَوْ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ - لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً ، وَأَنَّهُ مُحَلَّلٌ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ ، وَكَذَا إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ تَسْقُطُ عِفَّتُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَكَذَا الْمَهْرُ يَكُونُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى ، وَهَذَا دَلِيلُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ الذَّاتَ ، وَمِلْكُ الذَّاتِ قَائِمٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ ، فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُحَلِّلُ قَائِمًا ، وَإِنَّمَا الزَّائِلُ مِلْكُ الْيَدِ فَمُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْدَادِ يَدِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ الْمُزَوَّجَةَ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ - لَا تَسْقُطُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ - لَا يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَأَثِمَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا - لَمْ تَسْقُطْ الْعِفَّةُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ ، وَالْإِثْمُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ سَقَطَتْ الْعِفَّةُ ، وَلَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِابْنَتِهَا فَوَطِئَهَا أَوْ تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا فَوَطِئَهَا ؛ لَا تَسْقُطُ

عِفَّتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْبِيلَ أَوْ النَّظَرَ أَوْجَبَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ، وَإِنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَتَسْقُطُ الْعِصْمَةُ كَحُرْمَةِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا ، بَلْ هِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ فِي السَّلَفِ ، فَلَا تَسْقُطُ الْعِفَّةُ .

فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَطِئَهَا - سَقَطَتْ عِفَّتُهُ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فِي السَّلَفِ ، إذْ لَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَالِكٍ فِيهِ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَوَطِئَهَا ، أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فَوَطِئَهُمَا - لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحِ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِفَّةِ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ - سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ فِي حَالِ الْكُفْرِ - لَمْ تَسْقُطْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لِنَوْعِ شُبْهَةٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مَحْدُودَةً فِي الزِّنَا ، أَوْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ أَوْ لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ ؛ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا مَعَهَا ظَاهِرَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً ، فَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ أَوْ مَعَ الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ النَّسَبَ أَوْ قَطَعَ لَكِنَّ الزَّوْجَ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأُلْحِقَ النَّسَبُ بِالْأَبِ - حُدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا عَلَامَةُ الزِّنَا - فَكَانَتْ عَفِيفَةً ، وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْحَدُّ كَمَا إذَا قَالَ لِجَمَاعَةٍ : كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا ، أَوْ قَالَ : لَيْسَ فِيكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدٌ ، أَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : أَحَدُكُمَا زَانٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : أَحَدُكُمَا زَانٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَحَدُهُمَا هَذَا ، فَقَالَ : لَا ، لَا حَدَّ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بِصَرِيحِ الزِّنَا ، وَلَا بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : جَدُّكَ زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَدِّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَسْفَلِ وَعَلَى الْأَعْلَى فَكَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْهُولًا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَخُوكَ زَانٍ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ ، أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ - لَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا حَضَرَ وَطَالَبَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَأَمَّا ) حَيَاةُ الْمَقْذُوفِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ ، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَوَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاذِفُ أَبِ الْمَقْذُوفِ وَلَا جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا ، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ ، فَإِنْ كَانَ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَصًّا ، نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ؛ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَالْمُطَالَبُ بِالْقَذْفِ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَ مَنْفِيًّا بِالنَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ تَوْقِيرَ الْأَبِ وَاحْتِرَامَهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقَذْفِ لِلْجَدِّ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ فَكَانَ حَرَامًا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ، وَهُوَ نَفْيُ النَّسَبِ فَإِنْ كَانَ بِالْكِنَايَةِ - لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِي أَوْ قَالَ : زَنَيْتَ ، أَوْ قَالَ أَنْتَ زَانِي - يُحَدُّ ، لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا ، وَلَوْ قَالَ : يَا زَانِئ ( بِالْهَمْزِ ) أَوْ : زَنَأْتَ ( بِالْهَمْزِ ) - يُحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ : عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ - لَا يُصَدَّقُ ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ ، وَكَذَا مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَلَوْ قَالَ : زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ - يُحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ : عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَدَّقُ ، وَلَوْ قَالَ : زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ ، وَقَالَ : عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - لَا يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الزِّنَا الَّذِي هُوَ فَاحِشَةٌ مُلَيَّنٌ يُقَالُ : زَنَى يَزْنِي زِنًى ، وَالزِّنَا الَّذِي هُوَ صُعُودٌ مَهْمُوزٌ ، يُقَالُ : زَنَأَ يَزْنَأُ زَنْئًا ، وَقَالَ الشَّاعِرُ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلْ وَأَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - حُمِلَ عَلَى الزِّنَا الْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً ، وَإِذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فَقَدْ عَنَى بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ اللَّفْظِ لُغَةً فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً ، وَالْعَامَّةُ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ بَلْ تَسْتَعْمِلُ الْمَهْمُوزَ مُلَيَّنًا وَالْمُلَيَّنَ مَهْمُوزًا ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي

الصَّرْفِ عَنْ الْمُتَعَارَفِ ، كَمَا إذَا قَالَ : زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ ، أَوْ : زَنَأْتَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ كَلِمَة " فِي " مَكَانَ كَلِمَةِ " عَلَى " ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلِأَصْلُبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ عَلَّلَ لَهُمَا بِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ وَهُوَ الزِّنَا الْمَعْرُوفُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ حَالُ الْغَضَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فِيهَا ، وَإِذَا قَالَ : زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ " عَلَى " فِي الصُّعُودِ ، فَلَا يُقَالُ : صَعِدَ عَلَى الْجَبَلِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ : صَعِدَ فِي الْجَبَلِ .
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا ابْنَ الزَّانِي - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَبُوكَ زَانِي ، وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أُمُّكَ زَانِيَةٌ ، وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَبَوَاكَ زَانِيَانِ ، وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الزِّنَا أَوْ يَا وَلَدَ الزِّنَا - كَانَ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ أَنَّكَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الزِّنَا ، وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الزَّانِيَتَيْنِ - يَكُونُ قَذْفًا ، وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُ أُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ لَا إحْصَانَ جَدَّتِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ مُسْلِمَةً ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالِدَتُهُ وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : يَا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ ، أَوْ يَا ابْنَ أَلْفِ زَانِيَةٍ - يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْإِحْصَانِ حَالُ الْأُمِّ ؛

لِمَا قُلْنَا ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ عَدَدَ الْمَرَّاتِ لَا عَدَدَ الْأَشْخَاصِ ، أَيْ أُمُّكَ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَلْفَ مَرَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّانِيَةِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْمُهَيَّأَةِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلزِّنَا وَإِنْ لَمْ تَزْنِ ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : يَا ابْنَ الدَّعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الدَّعِيَّةَ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى قَبِيلَةٍ لَا نَسَبَ لَهَا مِنْهُمْ ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا زَانِيَةً ؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِي فَقَالَ الرَّجُلُ : لَا ، بَلْ أَنْتَ الزَّانِي ، أَوْ قَالَ : لَا ، بَلْ أَنْتَ - يُحَدَّانِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفَ صَاحِبَهُ صَرِيحًا ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ : زَنَيْتُ بِكَ - لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَدَّقَتْهُ فِي الْقَذْفِ ، فَخَرَجَ قَذْفُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّهَا قَذَفَتْهُ بِالزِّنَا نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ مَعَكَ - لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ ، أَمَّا عَلَى الرَّجُلِ ؛ فَلِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْهَا إيَّاهُ .
وَأَمَّا عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا زَنَيْتُ مَعَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ زَنَيْتُ بِكَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ زَنَيْتُ بِحَضْرَتِكَ ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ لَا ، بَلْ أَنْتَ - حُدَّتْ الْمَرْأَةُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَلَا لِعَانَ عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ قَذَفَ صَاحِبَهُ ، وَقَذْفُ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُدَّ .
وَفِي الْبِدَايَةِ بِحَدِّ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ

اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَا شَهَادَةَ لَهُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ بِنْتُ الزَّانِيَةِ ، فَخَاصَمَتْ الْأُمُّ أَوَّلًا فَحُدَّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ - سَقَطَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ خَاصَمَتْ الْأُمُّ - يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةُ ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ بِكَ - لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ بِكَ أَيْ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَيْ مَا مَكَّنْتُ مِنْ الْوَطْءِ غَيْرَكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِنًا فَهُوَ زِنًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مُتَعَارَفٌ فَإِنْ أَرَادَتْ الْأَوَّلَ - لَا يَجِبُ اللِّعَانُ ، وَيَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَإِنْ أَرَادَتْ بِهِ الثَّانِي - يَجِبُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ، وَهِيَ لَمْ تُصَدِّقْهُ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ ؛ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي ثُبُوتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : أَنْتِ زَانِيَةٌ ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي - يُحَدُّ الرَّجُلُ .
وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ ، أَمَّا الرَّجُلُ ؛ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّصْدِيقُ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ النِّسْبَةَ إلَى الزِّنَا عَلَى التَّرْجِيحِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا وَأَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ : أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ ، أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ ، أَوْ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَزْنَى النَّاسِ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : يُحَدُّ ، وَفِي الثَّانِي : لَا

يُحَدُّ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ ، أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَهُوَ التَّرْجِيحُ فِي وُجُودِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ ؛ لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْ النَّاسِ فِي الْجُمْلَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ : أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي وُجُودِ الزِّنَا ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الزِّنَا مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي الْقُدْرَةِ أَوْ الْعِلْمِ ، فَلَا يَكُونُ قَذْفًا بِالزِّنَا ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : زَنَيْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ - كَانَ قَاذِفًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَحَدَهُمَا وَعَطَفَ الْآخَرَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ " الْوَاوِ " وَأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، فَكَانَ مُخْبِرًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
رَجُلَانِ اسْتَبَّا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ ، لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الزِّنَا عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُكَنِّي بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ نِسْبَةِ أَبُ صَاحِبِهِ وَأُمِّهِ إلَى الزِّنَا .
لَكِنَّ الْقَذْفَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : أَنْتَ تَزْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنْتَ تَزْنِي وَأَنَا - أُضْرَبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْقَذْفِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَى الِاسْتِعْجَابِ أَنْ كَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ عَلَى إنْسَانٍ وَالْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : مَا رَأَيْتُ زَانِيَةً خَيْرًا مِنْكِ ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : مَا رَأَيْتُ زَانِيًا خَيْرًا مِنْكَ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ هَذَا الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ

خَيْرًا مِنْ الزُّنَاةِ .
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : زَنَى بِكِ زَوْجُكِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ - فَهُوَ قَاذِفٌ ؛ فَإِنَّهُ نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا ، أَوْ جَامَعَكِ حَرَامًا ، أَوْ فَجَرَ بِكِ ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا ، أَوْ بَاضَعْتَهَا أَوْ جَامَعْتَهَا حَرَامًا - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَذْفُ بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا ، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ لَهُ : يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَقْذِفْ .
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فَقَالَ - لَا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ : يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ بَلَّغَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَالَ : أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُلْ لَكَ : يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عَنْ قَذْفِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ : أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ ، فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا لُوطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَسَبَهُ إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَهُوَ اللِّوَاطُ ، وَلَوْ أَفْصَحَ وَقَالَ : أَنْتَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، وَسَمَّى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا .
وَعِنْدَهُمَا هُوَ قَاذِفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا

، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِي ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ : صَدَقْتَ - يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ مِنْهُ .
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ : صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ ، وَلَوْ قَالَ : صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ - يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : أَخُوك زَانٍ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : لَا ، بَلْ أَنْتَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " ؛ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ ، فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ - فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَدِّ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ قَالَ : لَسْتَ لِأَبِيكَ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ ، سَوَاءٌ قَالَ فِي غَضَبٍ أَوْ رِضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ ، فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ ، وَلَوْ قَالَ : لَيْسَ هَذَا أَبُوكَ ، أَوْ قَالَ : لَسْتَ أَنْتَ ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ ، أَوْ قَالَ : أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ ، إنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ - فَهُوَ قَذْفٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ - فَلَيْسَ بِقَذْفٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ فِي الْأَخْلَاقِ ، أَيْ أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ ، أَوْ أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا ، أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ - أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا فِي حَالَةِ الرِّضَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ ، فَعَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ كَانَ يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ ؛

لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ كَانَ يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا ؛ لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ ، إذْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَنَخْوَةٍ ، كَانَ يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا ، فَإِذَا أَمْسَى خَلَعَهُ وَمَزَّقَهُ ؛ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ ، فَيُحَكَّمُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ ؛ فَيَكُونُ قَذْفًا ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ ؛ فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ لِخَالِهِ ، أَوْ لِزَوْجِ أُمِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا .
وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمِّ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } وَقِيلَ : إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمًّا - كَانَ الْخَالُ أَبًا ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَوْ قَالَ : لَسْتَ بِابْنٍ لِفُلَانٍ لِجَدِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ : يَا نَبَطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ، لِلْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَكُونُ قَذْفًا ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ : يَا نَبَطِيُّ ؛ لَمْ يَقْذِفْهُ ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ ، كَمَنْ قَالَ لِلْبَلَدِيِّ : يَا رُسْتَاقِيُّ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا ،

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَعْوَرِ ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا ، كَمَا إذَا قَالَ لِلْبَصِيرِ : يَا أَعْمَى ، ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لِسَانٍ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ بِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ مِنْ الْمَقْذُوفِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِآخَرَ : زَنَى فَخْذُكَ ، أَوْ ظَهْرُكَ - أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَجَازَ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ " ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : زَنَيْتَ بِأُصْبُعِكَ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْأُصْبُعِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً ، وَلَوْ قَالَ : زَنَى فَرْجُكَ - يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْفَرْجِ يَتَحَقَّقُ ، كَأَنَّهُ قَالَ : زَنَيْتُ بِفَرْجِكَ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : زَنَيْتِ بِفَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْكِينَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَعْلَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عِوَضًا وَأُجْرَةً عَلَى الزِّنَا ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ - لَا يَكُونُ قَذْفًا ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مَزْنِيًّا بِهَا ؛ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْ الْبَهِيمَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الثَّانِي - يَكُونُ قَذْفًا ، كَمَا إذَا قَالَ زَنَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْتِعَةِ - فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : زَنَيْتِ بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ رَمَكَةٍ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى التَّمْكِينِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ .
لِأَنَّ حَرْفَ " الْبَاءِ " قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَعْوَاضِ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْوَطْءِ ، وَوَطْؤُهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى

الْعِوَضِ فَيَكُونُ قَذْفًا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَقَالَ : يَكُونُ قَذْفًا فِي الذَّكَرِ لَا فِي الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ مِنْ الرَّجُلِ يُوجَدُ فِي الْأُنْثَى فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ ، وَلَا يُوجَدُ فِي الذَّكَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ فِي الصِّنْفَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ أَوْ مَعْتُوهَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ نَائِمَةٌ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا ، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ لِأَمَةٍ أُعْتِقَتْ : زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ ، أَوْ قَالَ لِكَافِرَةٍ أَسْلَمَتْ : زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ - يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَذَفَهَا لِلْحَالِ بِالزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا ، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَذَفَهَا لِلْحَالِ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا فِي حَالٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الزِّنَا وَهِيَ حَالُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ وُقُوعَ الْفِعْلِ زِنًا ، وَإِنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِحْصَانَ .
وَالْإِحْصَانُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَقَدْ وُجِدَ ، وَلَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ : لَسْتَ لِأُمِّكَ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ لَا يُتَصَوَّرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ نَسَبِهِ عَنْهُمَا وَلَا يَنْتَفِي عَنْ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ كَذِبًا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : لَسْتَ لِأَبِيكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَفْيٍ لِوِلَادَةِ الْأُمِّ ، بَلْ هُوَ نَفْيُ

النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ ، وَنَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ يَكُونُ قَذْفًا لِلْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : لَسْتَ لِأَبِيكَ وَلَسْتَ لِأُمِّكَ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ هَذَا وَقَوْلَهُ : لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ : لَسْتَ لِآدَمَ أَوْ لَسْتَ لِرَجُلٍ أَوْ لَسْت لِإِنْسَانٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَا قَذْفًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : يَا زَانِيَةُ ، أَنَّهُ - لَا يَكُونُ قَذْفًا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ قَذْفًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ " الْهَاءَ " قَدْ تَدْخُلُ صِلَةً زَائِدَةً فِي الْكَلَامِ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - خَبَرًا عَنْ الْكُفَّارِ { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } وَمَعْنَاهُ : مَالِي وَسُلْطَانِي " وَالْهَاءُ " زَائِدَةٌ ؛ فَيُحْذَفُ الزَّائِدُ فَيَبْقَى قَوْلُهُ : يَا زَانِي ، وَقَدْ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ ، كَمَا يُقَالُ : عَلَّامَةُ وَنَسَّابَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى الْقَذْفِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إنْ حَذَفَهُ فِي نَعْتِ الْمَرْأَةِ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الْقَذْفِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَا زَانِي - يَجِبُ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي نَعْتِ الرَّجُلِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو ، وَدَلِيلُ عَدَمِ التَّصَوُّرِ ؛ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ التَّمْكِينُ ؛ لِأَنَّ " الْهَاءَ " فِي الزَّانِيَةِ " هَاءُ " التَّأْنِيثِ كَالضَّارِبَةِ وَالْقَاتِلَةِ وَالسَّارِقَةِ وَنَحْوِهَا ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ : يَا زَانِي ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الِاسْمِ وَحَذَفَ " الْهَاءَ " وَهَاءُ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ فِي الْجُمْلَةِ كَالْحَائِضِ وَالطَّالِقِ وَالْحَامِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ - وَهُوَ الْمَكَانُ - فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِي دَارِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِلْحُدُودِ هُمْ الْأَئِمَّةُ ، وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا عَلَى دَارِ الْبَغْيِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِمَا ، فَالْقَذْفُ فِيهِمَا لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ حِينَ وُجُودِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَاجِبِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ ، فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ - لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ أَوْ الْوَقْتِ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ قَذْفًا لِلْحَالِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ الْوَقْتِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَجَّزَ الْقَذْفَ - كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَالْإِضَافَاتِ - فَكَانَ قَاذِفًا تَقْدِيرًا مَعَ انْعِدَامِ الْقَذْفِ حَقِيقَةً ؛ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ رَجُلٌ : مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا قُلْتُ - أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطِ الْقَوْلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ دَخَلْتَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ فَدَخَلَ - لَا حَدَّ عَلَى الْقَائِلِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : أَنْتَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا ، فَجَاءَ الْغَدُ وَالشَّهْرُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْقَذْفِ إلَى وَقْتٍ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقَذْفِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَظْهَرُ بِهِ الْحُدُودُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْحُدُودُ كُلُّهَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ، لَكِنْ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا ، أَمَّا شَرَائِطُ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْحَدِّ ( فَمِنْهَا ) مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا .
( وَمِنْهَا ) مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ .
أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ : فَالذُّكُورَةُ وَالْأَصَالَةُ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ؛ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودُ - لَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ صَدَّقَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ - جَازَ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَهُنَا قَامَتْ عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا عَلَى إثْبَاتِهِ ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَدِّ لَا مِنْ إسْقَاطِهِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ( فَمِنْهَا ) عَدَمُ التَّقَادُمِ ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَبَيْنَ التَّسَتُّرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ؛ لِقَوْلِهِ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ } فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ حَتَّى تَقَادَمَ الْعَهْدُ ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السِّتْرِ ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ - دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضَغَنٍ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ " ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا فَدَلَّ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ ضَغِينَةٍ ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ؛ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةَ هَذِهِ يُوَرِّثُ تُهْمَةً ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَمَّةَ لَا يَدُلُّ عَلَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ فَاحْتُمِلَ أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي ، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا فَصْلُ السَّرِقَةِ فَإِنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ وَمَعَ هَذَا التَّقَادُمِ مَانِعٌ ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ حِكْمَةُ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ

الشَّهَادَةِ .
وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ هُوَ كَوْنُ الْحَدِّ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْحِكْمَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي السَّرِقَةِ ؛ فَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ إلَّا إذَا كَانَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ خَفِيًّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ ، فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ وَتُجْعَلُ الْحِكْمَةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَمْ تُوجَدْ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ التَّقَادُمِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي الِابْتِدَاءِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْ مَالِهِ احْتِسَابًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَخْذَ الْمَالِ سَتْرًا عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمَّا أَخَّرَ - دَلَّ تَأْخِيرُهُ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جِهَةِ الْحِسْبَةِ ، فَلَمَّا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ قَصَدَ الْإِعْرَاضَ عَنْ جِهَةِ السَّتْرِ فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ قَاصِدًا جِهَةَ الْحِسْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْرَضَ عَنْهَا عِنْدَ اخْتِيَارِهِ جِهَةَ السَّتْرِ فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ يَقِفُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، فَبَقِيَ مُدَّعِيًا أَخْذَ الْمَالِ لَا غَيْرَ ؛ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً ، إذْ التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ بَيْنَ بَدَلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالدَّعْوَى ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَدَعْوَى الْقَذْفِ ، فَلَا يُتَّهَمُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً مِنْهُ .

وَالشَّيْخُ مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ إلَى مَعْنًى آخَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَكَيْتُهُ بِلَفْظِهِ : وَهُوَ أَنَّ عَادَةَ السُّرَّاقِ الْإِقْدَامُ عَلَى السَّرِقَةِ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي مَوْضِعِ الْخُفْيَةِ ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُهُمْ إلَّا بِهِمْ وَبِخَبَرِهِمْ ، فَإِذَا كَتَمُوا - أَثِمُوا ، وَقَدْ يَعْلَمُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ ، وَيَطْلُبُهَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا فَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهَا .
وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ بِالتَّقَادُمِ قُبِلَتْ فِي حَقِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا فِي حَقِّ الْحَدِّ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهَا ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ .
وَأَمَّا الْمَالُ فَيَثْبُتُ مَعَهَا ، ثُمَّ التَّقَادُمُ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ ؛ إذَا كَانَ التَّقَادُمُ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ بِأَنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ حَاكِمٌ فَحُمِلَ إلَى بَلَدٍ فِيهِ حَاكِمٌ ، فَشَهِدُوا عَلَيْهِ - جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا يَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا ، ثُمَّ لَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلتَّقَادُمِ تَقْدِيرًا ، وَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ كُلِّ حَاكِمٍ فِي زَمَانِهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُوَقِّتُ فِي التَّقَادُمِ شَيْئًا ، وَجَهِدْنَا بِهِ أَنْ يُوَقِّتَ ؛ فَأَبَى ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَدَّرَاهُ بِشَهْرٍ فَإِنْ كَانَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ - فَهُوَ مُتَقَادِمٌ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ شَهْرٍ - فَلَيْسَ بِمُتَقَادِمٍ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ فَكَانَ مَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّأْخِيرَ قَدْ يَكُونُ لِعُذْرٍ ، وَالْأَعْذَارُ فِي اقْتِضَاءِ

التَّأْخِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ فِيهِ ؛ فَفُوِّضَ إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِيمَا يُعَدُّ إبْطَاءً وَمَا لَا يُعَدُّ ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ هَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ؟ حَكَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ ، وَتَأْخِيرُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ ، فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ شَهَادَةً ؛ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُمْ وَإِنْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَشُبْهَةً فِي الشَّهَادَةِ - فَأَصْلُ الشَّهَادَةِ بَاقٍ ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِي إسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ الشُّهُودِ أَوْلَى .
( وَمِنْهَا ) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْلِهِمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالْحُجَجُ سَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا .
( وَمِنْهَا ) عَدَدُ الْأَرْبَعِ فِي الشُّهُودِ فِي حَدِّ الزِّنَا ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ ؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، وَهُنَاكَ عَدَدُ الْأَرْبَعِ شَرْطٌ .
كَذَا هَهُنَا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فَإِنَّ عَدَدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا ، فَكَذَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ مِنْ الشُّهُودِ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الزِّنَا خَاصَّةً فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ تُقْبَلْ

شَهَادَتُهُمْ ؛ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ ، وَهَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا : يُحَدُّونَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ - لَمْ يُحَدُّوا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ ، وَقَالَ الرَّابِعُ : رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ - أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَنَا وَلَا حَدَّ عَلَى الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ : أَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى ، ثُمَّ فَسَّرَ الزِّنَا بِمَا ذَكَرَ فَحِينَئِذٍ يُحَدُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ كَانَ قَصْدُهُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا الْقَذْفَ ، فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةً شَهِدُوا عَلَى مُغِيرَةَ بِالزِّنَا ، فَقَامَ الرَّابِعُ وَقَالَ : رَأَيْتُ أَقْدَامًا بَادِيَةً وَنَفَسًا عَالِيًا وَأَمْرًا مُنْكَرًا ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَقَالَ سَيّ دُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الشُّهُودِ كَلَامُ قَذْفٍ حَقِيقَةً ، إذْ الْقَذْفُ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وَقَدْ وُجِدَ مِنْ الشُّهُودِ حَقِيقَةً ، فَيَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ ، إلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا تَمَامَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ فَقَدْ قَصَدُوا إقَامَةَ الْحِسْبَةِ وَاجِبًا ؛ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا وَصَارَ شَهَادَةً شَرْعًا ، فَعِنْدَ النُّقْصَانِ بَقِيَ قَذْفًا حَقِيقَةً فَيُوجِبُ الْحَدَّ .
وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى الزِّنَا ، وَشَهِدَ رَابِعٌ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ - تُحَدُّ الثَّلَاثَةُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ صَارَتْ قَذْفًا ؛ لِنُقْصَانِ

الْعَدَدِ ، وَلَا حَدَّ عَلَى الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ حَكَى قَذْفَ غَيْرِهِ ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْأَرْبَعِ عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ - حُدُّوا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ لَيْسَتْ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا ، فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ ، أَوْ إنْ كَانَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا وَسَمَاعًا فَقَصُرَتْ أَهْلِيَّتُهُمَا لِلشَّهَادَةِ فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، وَسَوَاءٌ عُلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ، وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا - فَكَذَلِكَ يُحَدُّونَ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ الضَّرْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا - لَا يُحَدُّونَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ - سَقَطَ الْحَدُّ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ حَصَلَ مِنْ الْقَاضِي ، وَخَطَأُ الْقَاضِي عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ - حُدَّ الثَّلَاثَةُ وَلَاعَنَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ ، فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ ، فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ؛ فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ .
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ الْأَرْبَعَةَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ عُمْيَانٌ - يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ - لَا يُحَدُّونَ ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ وَالْكَافِرَ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا ، وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَهُمَا شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَتَحَمُّلًا لَا أَدَاءً ، فَكَانَ

كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، وَالْفَاسِقُ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا سَمَاعًا ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْفَاسِقِ شَهَادَةً لَا قَذْفًا فَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَبْدٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : النَّاسُ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعٍ : الشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ وَالْحُدُودِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
( وَمِنْهَا ) اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ - يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَيُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ - بَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ ، وَقَعَدُوا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا - جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِوُجُودِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الشَّهَادَةِ ، إذْ الْمَسْجِدُ كُلُّهُ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانُوا خَارِجِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَهِدَ ، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ - يُضْرَبُونَ الْحَدَّ ، وَإِنْ كَانُوا مِثْلَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ جَاءَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فُرَادَى - لَحَدَدْتُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
(

وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوَطْءُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ كَالْمَجْبُوبِ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا - قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّ ؛ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا ؛ لِقِيَامِ الْآلَةِ - بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ - ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ كَالْأَخْرَسِ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً ، وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَعْمَى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى قَادِرٌ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ .
وَلَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا ، ثُمَّ قَالُوا : تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى فَرْجِهَا - لَا تُبْطَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّحَمُّلِ ، وَلَا بُدَّ لِلتَّحَمُّلِ مِنْ النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ ، وَيُبَاحُ لَهُمْ النَّظَرُ إلَيْهَا لِقَصْدِ إقَامَةِ الْحِسْبَةِ ، كَمَا يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ لِقَصْدِ الْمُعَالَجَةِ ، وَلَوْ قَالُوا : نَظَرْنَا مُكَرَّرًا - بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُمْ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) اتِّحَادُ الشُّهُودِ ، وَهُوَ أَنْ يُجْمِعَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي مَكَانِ كَذَا ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي مَكَان آخَرَ ، وَالْمَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ ؛ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ فِيهِمَا فِعْلٌ وَاحِدٌ عَادَةً ، كَالْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ وَالْبَيْتَيْنِ - لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانَيْنِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا

، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّونَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ قَدْ اُنْتُقِصَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ شَهِدَ بِفِعْلٍ غَيْرِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ ، وَنُقْصَانُ عَدَدِ الشُّهُودِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الشَّهَادَةِ قَذْفًا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ عِنْدَ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا زِنًا وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَكَانِ فَثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الْفِعْلِ ؛ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي يَوْمِ كَذَا ، وَاثْنَانِ فِي يَوْمٍ آخَرَ ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى مِنْهُ - يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِجَوَازِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ وَقَعَ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ وَانْتِهَاؤُهُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى مِنْهُ ؛ لِانْتِقَالِهِمَا مِنْهُ وَاضْطِرَابِهِمَا فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْتُ كَبِيرًا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتَيْنِ ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا ، وَاثْنَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ - لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالزِّنَا طَوْعًا وَلَمْ تَثْبُتْ الطَّوَاعِيَةُ فِي حَقِّهَا ، ( وَأَمَّا ) الرَّجُلُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ عَنْ طَوْعٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعِ ، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا مُسْتَكْرَهَةً ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْمَشْهُودَ قَدْ اخْتَلَفَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ غَيْرُ فِعْلِ مَنْ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ فَقَدْ

شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ فَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
ثُمَّ الشُّهُودُ إذَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ ، وَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْف هُوَ وَمَتَى زَنَى وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ؟ أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَ الزِّنَا الْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ .
" وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى جِمَاعًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الزَّمَانِ ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ ، وَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْمَكَانِ ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ - فَوَصَفُوا ، سَأَلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ ، وَشَهِدَ عَلَى الْإِحْصَانِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ - سَأَلَ الشُّهُودَ عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ ؛ لِأَنَّ لَهُ شَرَائِطَ يَجُوزُ أَنْ تَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ ، فَإِذَا وَصَفُوا - قُضِيَ بِالرَّجْمِ وَلَوْ شَهِدَتْ

بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا - صَارَ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا - صَارَ مُحْصَنًا ، وَهَذَا وَقَوْلُهُ جَامَعَهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَطْءِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الزِّفَافِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ بِالْمَرْأَةِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } حَرَّمَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرَّبِيبَةَ بِشَرْطِ الدُّخُولِ بِأُمِّهَا ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدُّخُولِ هُوَ الْوَطْءُ ؛ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْوَطْءِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ مُحْصَنًا ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الدُّخُولِ وَكَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ - هُوَ مُحْصَنٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمْ .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا ، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَمِنْهَا : الْبُلُوغُ ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جِنَايَةً ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً ؛ فَكَانَ إقْرَارُهُ كَذِبًا مَحْضًا ، وَمِنْهَا : النُّطْقُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ ، حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ لَوْ كَتَبَ الْإِقْرَارَ فِي كِتَابٍ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ إشَارَةً مَعْلُومَةً - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ - لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَا ، وَالْبَيَانُ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ - وَالْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ - الْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَأَمَّا الْبَصَرُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْأَعْمَى فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا كَالْبَصِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَمْنَعُ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ وُجُوبِهَا ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى ، وَالْكَلَامُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا : عَدَدُ الْأَرْبَعِ فِي حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوَحُّدِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَزِيدُ رُجْحَانًا بِالتَّكْرَارِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُثَنَّى فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ عَلَيْهِ فِيهَا ، إلَّا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا تَعَبُّدٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ التَّعَبُّدِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقِيَاسَ مَا قَالَهُ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، هَكَذَا إلَى الْأَرْبَعِ ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُظْهِرًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْأَرْبَعِ } ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ مَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ لِلْإِمَامِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ .
( وَأَمَّا ) الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ كُلَّمَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ فَعَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ كَعَدَدِ الشُّهُودِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَحَدِّ الزِّنَا ، فَتَلْزَمُ

مُرَاعَاةُ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ كَمَا فِي الزِّنَا ، إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى هَهُنَا بِالْمَرَّتَيْنِ ، وَيُشْتَرَطُ الْأَرْبَعُ هُنَاكَ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِنِصْفِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا ؛ وَهُوَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ لَا يَزْدَادُ بِتَكْرَارِ الْخَبَرِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا عَدَدَ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا بِنَصٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ؛ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَمِنْهَا عَدَدُ الْمَجَالِسِ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَجَالِسَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْقَاضِي أَوْ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَجَالِسِ مَاعِزٍ ، حَيْثُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، ثُمَّ يَعُودُ وَمَجْلِسُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَخْتَلِفْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَفْسِيرِ اخْتِلَافِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ : هُوَ أَنْ يُقِرَّ مَرَّةً ، ثُمَّ يَذْهَبُ حَتَّى يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي ، ثُمَّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ ثُمَّ يَذْهَبُ ، هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهِ - لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ مَاعِزٍ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا فَالشَّهَادَةُ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِقْرَارِ لَا لِلشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - صَحِيحٌ ،

وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَكْرَانَ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ السَّكْرَانَ : مَنْ صَارَ بِالشُّرْبِ إلَى حَالٍ لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا فَكَانَ عَقْلُهُ زَائِلًا مَسْتُورًا حَقِيقَةً .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ الْهَذَيَانُ عَلَى كَلَامِهِ ؛ فَقَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقْلِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ ، وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ؛ فَيَصِحُّ مَعَ السُّكْرِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَإِذَا صَحَّا فَإِنْ دَامَ عَلَى إقْرَارِهِ - تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ كُلُّهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ فَيَصِحُّ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الزِّنَا مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ كَالْمَجْبُوبِ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ؛ لِانْعِدَامِ الْآلَةِ ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا ؛ لِتَحَقُّقِ الْآلَةِ ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا أَقَرَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ - فَهُوَ مِثْلُ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحِيحٌ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَزْنِيُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ ؛ لَادَّعَى النِّكَاحَ أَوْ أَنْكَرَ

الزِّنَا وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا حَضْرَةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ - صَحَّ الْإِقْرَارُ وَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ بِالْغَيْبَةِ لَيْسَ إلَّا الدَّعْوَى وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ وَلِهَذَا رُجِمَ مَاعِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُضُورِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا ثُمَّ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ يَعْرِفُهَا ، فَحَضَرَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ ، وَإِمَّا أَنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ ، فَإِنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ - تُحَدُّ أَيْضًا كَمَا حُدَّ الرَّجُلُ ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ ، وَقَدْ أُقِيمَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَامُ الْآخَرُ .
وَإِنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنْ أَنْكَرَتْ الزِّنَا وَادَّعَتْ النِّكَاحَ أَوْ لَمْ تَدَّعِ ، وَادَّعَتْ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَدَّعِ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَا أَعْرِفُهَا - صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ وَالْعِلْمُ بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَقَالُوا : لَا نَعْرِفُهَا - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ - خُصُوصًا فِي الزِّنَا ، فَكَانَ إقْرَارُهُ

إخْبَارًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ حَقِيقَةً ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَنَسَبَهَا وَذَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً ، فَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِقُصُورِ عِلْمِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ ، فَقَوْلُهُمْ : لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ يُورِثُ شُبْهَةً ؛ لِجَوَازِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ امْرَأَةٌ لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ حِلٍّ أَوْ مِلْكٍ ، فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَأَمَّا عَدَمُ التَّقَادُمِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ ؟ أَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الشَّهَادَةِ .
( وَلَنَا ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ فِي الشَّهَادَةِ تَمَكُّنُ التُّهْمَةِ وَالضَّغِينَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَشَرْطٌ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا ، وَلِهَذَا لَا يَبْقَى مَعَ التَّقَادُمِ ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَوْ لَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ ، وَلَكِنَّ رِيحَهَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ - لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُمَا ، خِلَافًا لَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَإِجْمَاعُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِ أَخٍ لَهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : بِئْسَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْتَ ، لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْت عَلَيْهِ كَبِيرًا ، ثُمَّ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ - فَاجْلِدُوهُ ، وَأَفْتَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ .
وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ ، فَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا إجْمَاعَ ، ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّائِحَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ سَكْرَانًا - فَلَا ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ أَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ الرَّائِحَةِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ جِيءَ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا تَبْقَى الرَّائِحَةُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مِثْلِهِ عَادَةً - يُحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الرَّائِحَةُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ فِيهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَإِذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ بِالزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي ؛ يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ أَوْ يَطْرُدَهُ ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ هَكَذَا فُعِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَاعِزٍ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ " .
أَيْ بِالزِّنَا ، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا نُظِرَ فِي حَالِهِ أَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ أَمْ بِهِ آفَةٌ ؟ هَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ أَبِكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ جُنُونٌ ؟ وَبَعَثَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِ .
فَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَعَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَعَنْ مَكَانِهِ وَعَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الزَّمَانِ لِمَكَانِ احْتِمَالِ التَّقَادُمِ ، وَالتَّقَادُمُ فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الزَّمَانِ

أَيْضًا ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ الصِّغَرِ ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ - سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا يَخْتَلِفُ بِالْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا مُحْصَنٌ - سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ مَا هُوَ ؟ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ فَإِذَا بَيَّنَ رَجَمَهُ .
وَأَمَّا عِلْمُ الْقَاضِي فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ ؛ حَتَّى لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أَوْ بَعْدَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَزْنِي وَيَشْرَبُ وَيَسْرِقُ ، أَوْ بِسَمَاعِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - لَزِمَهُ مُوجِبُ إقْرَارِهِ ، إذْ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ - لَاحْتَاجَ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَيَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ظُهُورِ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي ، وَلَا يَظْهَرُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِالنُّكُولِ ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَدَلٌ ، وَإِمَّا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَلَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالثُّبُوتَ بِالشُّبْهَةِ .
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَهَلْ هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ ؟ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ

فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا تُقَامُ حِسْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَتَوَقَّفُ ظُهُورُهَا عَلَى دَعْوَى الْعَبْدِ .
وَلَا خِلَافَ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، لَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ ، وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الظُّهُورِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَذْفِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَعِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ ، لَكِنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ عَنْ الْهَتْكِ ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ كَوْنِ النِّيَّةِ وَالْإِقْرَارِ مُظْهِرَيْنِ فِيهِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا ، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى : الْأَفْضَلُ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَتْرُكَ الْخُصُومَةَ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَرْكِهَا ، وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ، وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي

يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ : أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ نَدْبٌ إلَى السَّتْرِ وَالْعَفْوِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ ، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ الْخُصُومَةَ ، وَادَّعَى الْقَذْفَ عَلَى الْقَاذِفِ ، فَأَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا قَذَفَهُ ، هَلْ يَحْلِفُ ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ ، وَإِذَا نَكِلَ - يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْحَدِّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ ، فَإِذَا نَكِلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ لَا بِالْحَدِّ .
وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ ، فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْعَبْدِ فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ اعْتَبَرَ مَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَأَلْحَقَهُ فِي التَّحْلِيفِ بِالتَّعْزِيرِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَصْلًا اعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُغَلَّبُ ، فَأَلْحَقَهُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِصَةِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ هُوَ النُّكُولُ ، وَأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَدَلٌ ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ إقْرَارٍ ، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ .
إنَّهُ يَحْلِفَ وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ عِنْدَ النُّكُولِ دُونَ الْحَدِّ ، اعْتَبَرَ حَقَّ الْعَبْدِ فِيهِ لِلِاسْتِحْلَافِ

كَالتَّعْزِيرِ وَاعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَنْعِ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ ، وَلَا يَقْضِي عِنْدَ النُّكُولِ بِالْحَدِّ ، وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْمَالِ ، وَكَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - فِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَالنَّفْسِ : إنَّهُ يَحْلِفُ ، وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يَقْضِي بِالْقِصَاصِ بَلْ بِالدِّيَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ عَلَى قَذْفِهِ - يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَذْفُ إلَى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَيْ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي : لَازِمْهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ فِيهِ وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَلَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ ، وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَبْرًا ، فَأَمَّا إذَا بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْطَى الْكَفِيلَ - فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ يُرَادُ بِهَا نَفْيُ الْجَوَازِ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ فِي الْحُدُودِ ، فَالْكَفَالَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي الْحَبْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْكَفَالَةِ ، فَلَمَّا جَازَ الْحَبْسُ فَالْكَفَالَةُ

أَحَقُّ بِالْجَوَازِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
فَلَا يُنَاسِبُهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فَإِنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ ، رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } وَقَدْ ثَبَتَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ : لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ ، فَجَازَ الْحَبْسُ فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي - أَيْ لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْحَبْسِ - فَلَا خِلَافَ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا حُبِسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْبَسُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا ، فَالْحَبْسُ مِنْ أَيْنَ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ ؟ فَإِنَّ سَبَبَ ظُهُورِ الْحَقِّ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَمَالُ عَدَدِ الْحُجَّةِ ، إلَّا أَنَّ تَوَقُّفَ الظُّهُورِ لِتَوَقُّفِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَثَبَتَتْ الشُّبْهَةُ ؛ فَيُحْبَسُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التُّهْمَةَ ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِ جَائِزٌ ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي : لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَا يُحْبَسُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَذْفِ ، أَوْ أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ : أَقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِكَ .
فَإِنْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى مُعَايَنَةِ الزِّنَا مِنْ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا - سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ ، وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ - يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى

الْقَاذِفِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ مِنْ الْقَاضِي ، وَقَالَ : شُهُودِي غُيَّبٌ ، أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَمْ يُؤَجِّلْهُ ، وَلَوْ قَالَ : شُهُودِي فِي الْمِصْرِ أَجَّلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَلَازَمَهُ الْمَقْذُوفُ ، وَيُقَالُ لَهُ : ابْعَثْ أَحَدًا إلَى شُهُودِكَ فَأَحْضِرْهُمْ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إخْبَارِهِ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي الْمِصْرِ ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخْذِ الْكَفِيلِ ؛ لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقَّهُ عَسَى ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي التَّأْجِيلِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ الثَّانِي مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعَدُّ تَأْجِيلًا وَلَا مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُهُ إلَى الشُّهُودِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْعَثُ مَعَهُ مِنْ الشُّرَطِ مَنْ يَحْفَظْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - ضُرِبَ الْحَدُّ ، وَلَوْ ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَقَامَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ - قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ الْجَلَدَاتِ ، وَلَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ، كَمَا لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحَدَّ أَصْلًا وَلَوْ ضُرِبَ الْحَدَّ بِتَمَامِهِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ ، وَأَنْ لَا

يَصِيرَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ حَقِيقَةً ، حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا ، وَقَدْ ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ ؛ فَلَمْ يَصِرْ الْقَاذِفُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ قَدْ تَقَرَّرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ .
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَقَالَ : يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ ، وَالْمَقْذُوفُ يَقُولُ : هِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ ، وَعَلَى الْمَقْذُوفِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، .

وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْقَاذِفُ : أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبْدِ ، وَقَالَ الْمَقْذُوفُ : أَنْت حُرٌّ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْأَحْرَارِ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَذَفَ أُمَّ رَجُلٍ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ أُمَّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً - جَلَدَ الْقَاذِفَ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ يَثْبُتَانِ بِالْبَيِّنَةِ فَعِلْمُ الْقَاضِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ ، وَالْإِحْصَانُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ ؛ فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ أَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي - حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الْقَذْفُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْذُوفُ أُمَّهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْحَبْسِ ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ بَيِّنَتُهُ - أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا أَوْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَ الْكَفِيلَ عَلَى مَذْهَبِهِ ، فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يُعَزِّرُهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ الْقَاضِي حُكْمٌ بِإِبْطَالِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ الْإِحْصَانِ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَذْفِ أَوْ زَمَانِهِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَانِ كَذَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَان آخَرَ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ -

قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَذْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يُخَالِفُ الْقَذْفَ فِي مَكَان آخَرَ وَزَمَانٍ آخَرَ ، فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفٍ غَيْرِ الْقَذْفِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اخْتِلَافَ مَكَانِ الْقَذْفِ وَزَمَانِهِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ فِي مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ ، وَالْمُعَادُ عَيْنُ الْأَوَّلِ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَذْفُ وَاحِدًا ، فَقَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ ، بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - لَا تُقْبَلُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقْبَلَ وَيُحَدُّ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ كَلَامِهِمَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ - أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ مَعَ الْإِقْرَارِ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ ، وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ كَانَ ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مُخْتَلِفًا ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ فَلَا تُقْبَلُ .
وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لَا الْحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : قَذَفْتُكِ

بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لَا اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَنَيْتُ إنْشَاءُ الْقَذْفِ فَكَانَ قَاذِفًا لَهَا لِلْحَالِ ، وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ ، وَقَوْلُهُ : قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا ، إقْرَارٌ مِنْهُ بِقَذْفٍ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ ، وَهِيَ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً قَبْلَ التَّزَوُّجِ ، وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ ؛ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى : الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ ، فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ لَهُ ، وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ - وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْخُلُوصِ ، فَتَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جَمِيعًا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الْقَاذِفَ فِي قَذْفِهِ ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا - سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُورَثُ - وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا - هَذَا إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ .

( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَلِابْنِ ابْنِهِ ، وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا ، أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ : هُوَ إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ ؛ لِوُجُودِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ ، وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْخُصُومَةِ ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ، ثُمَّ مَاتَ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ وَهُوَ كَانَ مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ ؛ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ خَاصَّةً ، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ - لِمَا نَذْكُرُ - فَسَقَطَ ضَرُورَةً ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ ؛ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى ، وَكَذَا لَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ هَلْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ ؟ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُونَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى جَدِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ

وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ ؛ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ .
وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا يُرَاعَى وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فِيهِ ، حَتَّى كَانَ لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ .
وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْمُخَاصِمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ عَلَى الْأَبْعَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ ، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ ، وَكَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ ، بَلْ الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أَوْ الْوَالِدُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا - فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ ابْتِدَاءً - لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهَهُنَا أَوْلَى .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِهِ ، وَقَدْ لَحِقَهُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ

قَتَلَهُ حَتَّى حُرِمَ الْمِيرَاثَ - فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَذَفَ وَلَدَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْصَنٌ - لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ ؛ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : لَا خِلَافَ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ ، وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ ؛ حَتَّى لَوْ زَنَى مِرَارًا أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مِرَارًا أَوْ سَكِرَ مِرَارًا - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ ، فَكَانَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ احْتِمَالُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، فَكَانَ فِيهِ احْتِمَالُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَلَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَكِرَ أَوْ سَرَقَ فَحُدَّ ، ثُمَّ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَرَقَ يُحَدُّ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَخَاصَمُوا جَمِيعًا فَقُطِعَ لَهُمْ - كَانَ الْقَطْعُ عَنْ السَّرِقَاتِ كُلِّهَا ، وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) حَدُّ الْقَذْفِ إذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ ، أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ - فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ بِهِ الصُّلْحُ ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا بِكَلِمَةٍ ، أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ سَوَاءٌ حَضَرُوا جَمِيعًا أَوْ حَضَرَ وَاحِدٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ - فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ

حَدٌّ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ فَقَطْ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُضْرَبُ السَّوْطَ الْأَخِيرَ لِلْأَوَّلِ وَثَمَانِينَ سَوْطًا أُخَرَ لِلثَّانِي ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ ، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ - يُحَدُّ لِلثَّانِي بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَا هَذَا الْحَدُّ لَا يُورَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعِنْدَهُمْ يُورَثُ ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي قَوْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ يُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَرْعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَغْلُوبٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ أَوْ الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ ؛ هُوَ الْقَذْفُ ، وَالْقَذْفُ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِالتَّعَرُّضِ ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ حَقُّهُ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، أَوْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ ، فَكَانَ الْبَدَلُ حَقَّهُ ، وَالْجَزَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، وَالدَّعْوَى لَا تُشْتَرَطُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْمَقْذُوفِ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْقَذْفِ أَخَفُّ الضَّرَبَاتِ فِي الشَّرْعِ ، فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ هَذَا الْحَدِّ - فَرُبَّمَا يُقِيمُهُ عَلَى وَجْهِ الشِّدَّةِ ؛ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْغَيْظِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ ؛ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ لَا لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ إنَّمَا كَانَتْ حُقُوقَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى الْخُلُوصِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهِيَ دَفْعُ

فَسَادٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَيَقَعُ حُصُولُ الصِّيَانَةِ لَهُمْ ، فَحَدُّ الزِّنَا وَجَبَ ؛ لِصِيَانَةِ الْأَبْضَاعِ عَنْ التَّعَرُّضِ ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَبَ ؛ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عَنْ الْقَاصِدِينَ ، وَحَدُّ الشُّرْبِ وَجَبَ ؛ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَاسِطَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنْ الزَّوَالِ وَالِاسْتِتَارِ بِالسُّكْرِ ، وَكُلُّ جِنَايَةٍ يَرْجِعُ فَسَادُهَا إلَى الْعَامَّةِ وَمَنْفَعَةُ جَزَائِهَا يَعُودُ إلَى الْعَامَّةِ ، كَانَ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ بِهَا حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ ؛ كَيْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَهُوَ مَعْنَى نِسْبَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الصِّيَانَةِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ يَحْصُلُ لِلْعَامَّةِ بِإِقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ ، فَكَانَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَى الْخُلُوصِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ فِيهِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَقْذُوفِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ شَرْطًا .
ثُمَّ نَقُولُ : إنَّمَا شُرِطَ فِيهِ الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا ؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحَدِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى ، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ جَبْرًا ، وَالْجَبْرُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمِثْلِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقَذْفِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى ؛ فَلَا يَكُونُ حَقَّهُ .
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ

جَزَاءً لِلْفِعْلِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ .
( وَلَنَا ) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ حَقَّ الْمَقْذُوفِ لَكَانَ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ كَمَا فِي الْقِصَاصِ .
( وَالثَّانِي ) - أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْقَاذِفِ ، وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ ، وَالْجَزَاءُ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا ، وَالْجِنَايَةُ تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ ، فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ فَنَقُولُ : لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمَتْرُوكِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ لِلْمُوَرَّثِ عَلَى مَا قَالَ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ } وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا - مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كَانَ حُرًّا ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا - فَخَمْسُونَ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ ، وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ ، وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ ، وَنُقْصَانُ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ ، هَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ فِي الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا ، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ - إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا ، وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ - فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَكَذَا فِي إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهَا ، وَإِقَامَةِ الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَكْسَابِهِ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهَذَا نَصٌّ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا ، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا ، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا ، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } أَيْ بِحَبْلٍ ، وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ الْإِقَامَةَ ؛ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الرَّعِيَّةِ ، وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ ، وَيَمْلِكُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ فَالْمَوْلَى أَوْلَى ؛ وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ ، كَذَا الْحَدُّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ

وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ - لَمْ تَثْبُتْ لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَهُوَ الْأَبْعَدُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ ؛ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّعَرُّضِ خَوْفًا مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْإِمَامَةِ ، وَالْإِمَامُ قَادِرٌ عَلَى الْإِقَامَةِ ؛ لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا ، وَلَا يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ ؛ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ ، وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنْ الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ فَيُقِيمُ عَلَى وَجْهِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ .
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ ؛ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ ؛ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقَامَةِ - خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ ، وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ ، وَلَوْ قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ إهْلَاكَهُ ، وَيَهْرُبَ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْإِقَامَةِ ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ وَقَدْ لَا يُقِيمُ ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، أَوْ يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ .
وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ ، وَلَوْ أَقَامَ - فَقَدْ يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ وَقَدْ لَا يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ

لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّعْزِيرَ : هُوَ التَّغْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الْجَانِي ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَالْمَوْلَى يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ ، وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ ، فَالْمَوْلَى أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِيلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تَعْيِيبًا فِيهِ ، بِخِلَافِ الْحَدِّ .
وَالثَّانِي - أَنَّ فِي التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ فِي الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا ، فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ ، وَفِي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَوَالِي ؛ فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا ، أَوْ صَارَ الْمَوْلَى مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً ، وَصَارَ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فِيهِ ، وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ ؛ لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ ، عُلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِمْ ، وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ ، وَقَدْ يَجِيءُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَقْصِيرٌ ، وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ

ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ ، وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ ؛ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ التَّعْزِيرَ ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فِيهِ - وَهُوَ الْمَنْعُ - فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا ، وَفِي الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ - لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ } ، ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ : تَنْصِيصٌ ، وَتَوْلِيَةٌ ، أَمَّا التَّنْصِيصُ : فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ ؛ فَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ .
وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : عَامَّةٌ ، وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ : هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً ، مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ - وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ مَصَالِحِهِمْ - فَيَمْلِكُهَا ، وَالْخَاصَّةُ : هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً ، مِثْلَ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ - فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ

بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ .
وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَا كَانَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ ، لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ فِي مُعَسْكَرِهِ ، كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً ، وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَسْكَرِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الْبِدَايَةِ أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَكَذَا مِنْ الشُّهُودِ ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ ، وَالْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ كَذَا فِي الرَّجْمِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَرْجُمُ الشُّهُودُ أَوَّلًا ، ثُمَّ الْإِمَامُ ، ثُمَّ النَّاسُ وَكَلِمَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ - رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا الْبِدَايَةَ شَرْطًا اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ - فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَيْهِ ، وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً فَيَبْقَى أَمْرُ الْجَلْدِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ؛ وَلِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْأَئِمَّةِ - بِخِلَافِ الرَّجْمِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ،

حَتَّى لَوْ بَطَلَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْفِسْقِ أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ الْعَمَى أَوْ الْخَرَسِ أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ ، بِأَنْ فَسَقَ الشُّهُودُ أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ جُنُّوا أَوْ عَمُوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ ، وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ عَنْ الْقَضَاءِ .
وَأَمَّا مَوْتُ الشُّهُودِ وَغِيبَتُهُمْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الرَّجْمُ ، حَتَّى لَوْ مَاتُوا كُلُّهُمْ أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا الرَّجْمَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الْجَرْحِ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تُبْطَلُ بِالْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ بَلْ تَتَنَاهَى وَتَتَقَرَّرُ وَتُخْتَمُ بِهَا الْعَدَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْجَرْحَ ، وَفِي حَدِّ الرَّجْمِ إنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِقَامَةَ لَا لِأَنَّهُمَا يُجَرِّحَانِ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ مِنْ الشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ - وَلَمْ تُوجَدْ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ بِهِمْ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرَّمْيَ - أَنَّ الْإِمَامَ يَرْمِي ، ثُمَّ النَّاسُ ، وَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أَوْ الْمَرَضَ عُذْرًا فِي فَوَاتِ الْبِدَايَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَوْتَ عُذْرًا فِيهِ ، وَإِنْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالْإِقْرَارِ يَبْدَأُ بِهِ الْإِمَامُ ، ثُمَّ النَّاسُ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ

عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ ؛ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ وَيُقَامُ عَلَى الْحَائِضِ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ هَلَاكِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ ، وَيُقَامُ الرَّجْمُ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَّا عَلَى الْحَامِلِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمُ حَدٌّ مُهْلِكٌ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهْلَاكَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَلَا يُجْمَعُ الضَّرْبُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ ذَلِكَ الْعُضْوِ ، أَوْ إلَى تَمْزِيقِ جِلْدِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، بَلْ يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وَالرَّأْسَ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْفَرْجِ مُهْلِكٌ عَادَةً ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ } وَالضَّرْبُ عَلَى الْوَجْهِ يُوجِبُ الْمُثْلَةَ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ } ، وَالرَّأْسُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ الْعَقْلُ فَيُخَافُ مِنْ الضَّرْبِ عَلَيْهِ فَوَاتُ الْعَقْلِ أَوْ فَوَاتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ .
وَفِيهِ إهْلَاكُ الذَّاتِ مِنْ وَجْهٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا : لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ ، وَيُضْرَبُ الرَّأْسُ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَمَّا الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ ؛ فَلِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ الْهَلَاكِ .
وَأَمَّا الرَّأْسُ ؛ فَلِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ خُصُوصًا قَوْمًا كَانُوا

بِالشَّامِ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ ، ثُمَّ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : يُضْرَبُ كُلُّهُ عَلَى الظَّهْرِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْجَلْدُ وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْجِلْدِ ، وَالضَّرْبُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ مُمَزِّقٌ لِلْجِلْدِ ، وَبَعْدَ تَمْزِيقِ الْجِلْدِ لَا يُمْكِنُ الضَّرْبُ عَلَى الْجِلْدِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْجَمْعِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ خَوْفَ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا الْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَمَّا حَدُّ الرَّجْمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ بِشَيْءٍ ، وَلَا أَنْ يُمْسَكَ ، وَلَا أَنْ يُحْفَرَ لَهُ إذَا كَانَ رَجُلًا بَلْ يُقَامُ قَائِمًا ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا لَمْ يُرْبَطْ وَلَمْ يُمْسَكْ وَلَا حُفِرَ لَهُ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ وَلَوْ رُبِطَ أَوْ مُسِكَ أَوْ حُفِرَ لَهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْجُومُ امْرَأَةً فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ حَفَرَ لَهَا ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْفِرْ ، أَمَّا الْحَفْرُ ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ إلَى ثَنْدُوَتِهَا ، وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا } .
وَحَفَرَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَة الْهَمْذَانِيَّةِ إلَى سُرَّتِهَا وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ ؛ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ فَمَا كَانَ أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كَانَ أَوْلَى ، إلَّا إذَا كَانَ الرَّامِي ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ حَنْظَلَةَ - غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ أَبِي عَامِرٍ - وَكَانَ مُشْرِكًا - فَنَهَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ } .
وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ : فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ ، أَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا .
وَأَمَّا مِنْ

جِنَايَةِ الشُّرْبِ ؛ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الزِّنَا حَرَامًا فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ ، وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ ، وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمَكْنُونِ وَلَا نَصَّ فِي الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا : إذَا سَكِرَ - هَذَى ، وَإِذَا هَذَى - افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي حَدِّ الزِّنَا فِي حَدِّ الزِّنَا { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ : أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ وُجُودَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي - أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ فَجَرَى فِيهِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ عَلَى الْعِقَابَيْنِ وَلَا عَلَى الْأَرْضِ ، كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ ، بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى ؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْحَدِّ ، وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى مَا فَوْقَ رَأْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ فِيهِ الْهَلَاكُ أَوْ تَمْزِيقُ الْجِلْدِ ، وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى ، فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ ؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ ، فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بَيْنَ ضَرْبَتَيْنِ

لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ مَسٌّ ، وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ عَلَى إزَارٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا ، وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مَرَّةً فِي الضَّرْبِ ، فَلَوْ خَفَّفَ فِيهِ ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ - لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ ، وَلَا يُجَرَّدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فِيهِ التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ ، كَمَا رُوعِيَ فِي أَصْلِ الضَّرْبِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عَنْهَا ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أَوْ تَمْزِيقًا أَوْ تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ ، وَفِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عَنْ سَلِّ السُّيُوفِ فِي الْمَسَاجِدِ ، قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ فِي تَرْكِ التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَمَّا كُرِهَ ذَلِكَ ؛ فَلَأَنْ يُكْرَهَ هَذَا أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عَنْ تَلْوِيثِهِ ؛ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ كُلُّهَا فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَزَّ اسْمُهُ - { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا ، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ ، وَكَذَا فِيهِ مَنْعُ الْجَلَّادِ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ لَمَنَعَهُ النَّاسُ عَنْ الْمُجَاوَزَةِ ، وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ النَّاسُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ - يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا ؛ لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا ، لَعَلَّك مَسَسْتَهَا } .
{ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَسَرَقْتِ قُولِي : لَا مَا إخَالُكِ سَرَقْتِ } وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلْقِينًا لِلرُّجُوعِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ - مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ دَرَأَ لِلْحَدِّ ، كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ إمْضَاءِ بَعْضِ الْجَلَدَاتِ أَوْ بَعْضِ الرَّجْمِ وَهُوَ حَيٌّ بَعْدُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً ، بِأَنْ أَخَذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ ، أَوْ أَخَذَ الْجَلَّادُ فِي الْجَلْدِ ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ ، حَتَّى لَا يُتَّبَعَ وَلَا يُتَعَرَّضَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ وَرُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ } دَلَّ أَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ ،

وَأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ ، وَكَمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَصِحُّ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ ، حَتَّى لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا ، وَرَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ - يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّجْمُ وَيُجْلَدُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الزِّنَا عِلَّةً ؛ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، كَمَا يَصِحُّ عَنْ الزِّنَا ؛ فَيَبْطُلُ الْإِحْصَانُ وَيَبْقَى الزِّنَا ، فَيَجِبُ الْجَلْدُ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَا يُسْقِطُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ ، وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَدَّ الصَّادِقُ عَلَى الصِّدْقِ ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ إنَّمَا وَجَبَ ؛ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا وَشَيْنِهِ عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَلَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : إنَّكَ لَمْ تَقْذِفْنِي بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي الدَّعْوَى ، وَالدَّعْوَى شَرْطُ ظُهُورِ هَذَا الْحَدِّ .
( وَمِنْهَا ) تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ حُجَّتَهُ عَلَى الْقَذْفِ - وَهِيَ الْبَيِّنَةُ - بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ : شُهُودِي شَهِدُوا بِزُورٍ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي التَّكْذِيبِ فَثَبَتَ الشُّبْهَةُ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ .
( وَمِنْهَا ) تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا الْمُقِرَّ بِالزِّنَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ : زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ وَأَنْكَرَتْ الزِّنَا ، وَقَالَتْ : لَا أَعْرِفُكَ - وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا

يَسْقُطُ ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ قَدْ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ ، وَامْتِنَاعُ الظُّهُورِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وَهُوَ إنْكَارُهَا ؛ فَلَا يَمْنَعُ الظُّهُورَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالْفَاعِلِ وَالْمَحِلِّ ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي جَانِبِهَا - امْتَنَعَ الظُّهُورُ فِي جَانِبِهِ ، هَذَا إذَا أَنْكَرَتْ وَلَمْ تَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَإِنْ ادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ ، هَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَلَمْ تَدَّعِي النِّكَاحَ .
( فَأَمَّا ) إذَا ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَالْمَهْرَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ - يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي دَعْوَى النِّكَاحِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ - تَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ ، وَإِنْ كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ - لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا مَعَ فُلَانٍ ، فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَكَذَّبَهَا أَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الِاسْتِكْرَاهَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ ، فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْكَرَتْ وُجُودَ الزِّنَا فَلَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا ؛ فَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الْآخَرِ ، وَهَهُنَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَكِنَّهَا

ادَّعَتْ الشُّبْهَةَ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا - وَهُوَ كَوْنُهَا مُكْرَهَةً - فَلَا يَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّا لَوْ تَيَقَّنَّا بِالْإِكْرَاهِ - يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا بِالنِّكَاحِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) رُجُوعُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيُورِثُ شُبْهَةً ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ فِي بَابِ الْحُدُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ ، بِمَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ .
( وَمِنْهَا ) بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِالْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَمِنْهَا ) مَوْتُهُمْ فِي حَدِّ الرَّجْمِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً .
( وَأَمَّا ) اعْتِرَاضُ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ فَهَلْ يُسْقِطُ الْحَدَّ بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا ؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يَسْقُطُ ، وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ - كَانَ الْعُقْرُ لَهَا ،

وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ ، فَلَمْ يَحْصُلْ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ ، فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً ، وَبُضْعُ الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ ؛ فَيُورِثُ شُبْهَةً فَصَارَ كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ ؛ فَيَصِيرُ شُبْهَةً كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًا مَحْضًا ؛ لِمُصَادِفَتِهِ مَحِلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَالْعَارِضِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا ؛ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنْ الْمِلْكِ ، فَبَقِيَ زِنًا مَحْضًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، بِخِلَافِ السَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ ، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ ؛ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ ، وَهِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا

تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ ، وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ ؛ وَلِأَنَّ حَيَاةَ الْمَحِلِّ تُشْتَرَطُ ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ مَقْصُودًا بِمُبَادَلَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَالْمِلْكُ هَهُنَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حَيَاةُ الْمَحِلِّ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَوْ غَصَبَ حُرَّةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الضَّمَانِ فِي الْحُرَّةِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ ، فَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ ، وَتَعَالَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ الْحَاجَاتِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - تَسْقُطُ ضَرُورَةً ، وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا فَإِنْ كَانَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ ذَلِكَ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ الْكُلُّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا - فَنَقُولُ : إذَا اجْتَمَعَ الْقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسُّكْرُ وَالزِّنَا مِنْ غَيْرِ إحْصَانٍ - وَالسَّرِقَةُ - بِأَنْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا ، وَشَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ ، وَزَنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ ، وَسَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ ؛ بَدَأَ الْإِمَامُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَيَضْرِبُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - مِنْ وَجْهٍ ، وَمَا سِوَاهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا .
وَلَيْسَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَلَا يَسْقُطُ ، ثُمَّ إذَا ضُرِبَ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الضَّرْبِ ، ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا ، وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ ، وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا ثَبَتَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَحَدُّ الشُّرْبِ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ ، إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ آكَدُ ثُبُوتًا ، وَلَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ

وَاحِدٍ ، بَلْ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَا بَرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْكُلِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ .
وَلَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ حَدُّ الرَّجْمِ ، بِأَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ ، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ ، وَيُرْجَمُ ، وَيُدْرَأُ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَفِي إقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَيُقَامُ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ ؛ فَيُدْرَأُ ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّرْءَ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْحُدُودِ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا ، وَيُدْرَأُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ دُونَ الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ إسْقَاطَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ لِذَلِكَ يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَبْطُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ كَانَ مَعَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَيُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، ثُمَّ يُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ وَالْقَتْلُ يُقْتَصُّ وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُدُودِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَاجِبٌ ، وَمَتَى قُدِّمَ اسْتِيفَاؤُهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ ؛ فَتَسْقُطُ ضَرُورَةً ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمَحْدُودِ فَالْحَدُّ إنْ كَانَ رَجْمًا فَإِذَا قُتِلَ - يُدْفَعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَصْنَعُونَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى ، فَيُغَسِّلُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ ، بِهَذَا { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ } ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا ، إلَّا الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ ، وَإِنْ تَابَ إلَّا فِي الدِّيَانَاتِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَفُرُوعَهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ ، وَفِي بَيَانِ وَصْفِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ .
( أَمَّا ) سَبَبُ وُجُوبِهِ فَارْتِكَابُ جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِأَنْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِأَنْ قَالَ لَهُ : يَا خَبِيثُ ، يَا فَاسِقُ ، يَا سَارِقُ ، يَا فَاجِرُ ، يَا كَافِرُ ، يَا آكِلَ الرِّبَا ، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ لَهُ : يَا كَلْبُ ، يَا خِنْزِيرُ ، يَا حِمَارُ يَا ثَوْرُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِالْمَقْذُوفِ ، إذْ النَّاسُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ فَعُزِّرَ ؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي أَلْحَقَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ بِقَذْفِهِ غَيْرَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ ؛ فَيَرْجِعُ عَارُ الْكَذِبِ إلَيْهِ لَا إلَى الْمَقْذُوفِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْعَقْلُ فَقَطْ ؛ فَيُعَزَّرُ كُلُّ عَاقِلٍ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ، إلَّا الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لَا عُقُوبَةً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيبِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ ؛ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا ؛ إذَا بَلَغُوا عَشْرًا } وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي الْجِنَايَةَ ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيبِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ إنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : يَا فَاسِقُ ، يَا خَبِيثُ ، يَا سَارِقُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَالْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَزَّرَهُ بِالضَّرْبِ ، وَإِنْ شَاءَ بِالْحَبْسِ ، وَإِنْ شَاءَ بِالْكَهْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْكَلَامِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : يَا أَحْمَقُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ مِنْهُ إيَّاهُ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ ، إذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا بِأَحَدٍ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابِيِّ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ رَتَّبَ التَّعْزِيرَ عَلَى مَرَاتِبِ النَّاسِ ، فَقَالَ : التَّعَازِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ : تَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ ، وَهُمْ الدَّهَّاقُونَ وَالْقُوَّادُ ، وَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعَلَوِيَّةُ وَالْفُقَهَاءُ ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ : وَهُمْ السُّوقَةُ ، وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّاءِ : وَهُمْ السِّفْلَةُ .
فَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ بِالْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ ، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي أَمِينَهُ إلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ : بَلَغَنِي أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ وَالْحَبْسِ ، وَتَعْزِيرُ السَّفَلَةِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ هُوَ الزَّجْرُ ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الِانْزِجَارِ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ ، وَإِنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ فِي جِنْسِهَا الْحَدُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَجِبْ ؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ : يَا زَانِي ، أَوْ لِذِمِّيَّةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ : يَا زَانِيَةُ ، فَالتَّعْزِيرُ فِيهِ بِالضَّرْبِ وَيَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَفِي رِوَايَةِ

النَّوَادِرِ عَنْهُ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ الْحَدَّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرَفَ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْأَحْرَارِ .
وَزَعَمَ أَنَّهُ الْحَدُّ الْكَامِلُ لَا حَدَّ الْمَمَالِيكِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ فِي كُلِّ بَابٍ ؛ وَلِأَنَّ الْأَحْرَارَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ فِي الْخِطَابِ ، وَغَيْرُهُمْ مُلْحَقٌ بِهِمْ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ فِي رِوَايَةٍ يُنْقَصُ مِنْهَا سَوْطٌ ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبْلِيغِ يَحْصُلُ بِهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : يُنْتَقَصُ مِنْهَا خَمْسَةٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ أَثَرًا عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَلَّدْتُهُ فِي نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ وَاعْتُبِرَتْ عَنْهُ أَدْنَى الْحُدُودِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَخَذْتُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ ، وَأَخَذْتُ التَّعْزِيرَ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ، وَالْقَذْفَ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِيَكُونَ إلْحَاقَ كُلِّ نَوْعٍ بِبَابِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ صَرَفَهُ إلَى حَدِّ الْمَمَالِيكِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا فَيَتَنَاوَلُ حَدًّا مَا ، وَأَرْبَعُونَ حَدٌّ كَامِلٌ فِي الْمَمَالِيكِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحَدِّ يَقَعُ عَلَى النَّوْعَيْنِ ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ وَعِيدِ التَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - لَا يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ ؛

لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدَّ الْمَمَالِيكِ فَيَصِيرُ مُبَلِّغًا غَيْرَ الْحَدِّ - الْحَدَّ ؛ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا : أَنَّهُ أَشَدُّ الضَّرْبِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمُرَادِ بِالشِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ : أُرِيدَ بِهَا الشِّدَّةُ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِ ، وَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ الضَّرَبَاتِ فِيهِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرِّقُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ مِنْهَا الشِّدَّةُ فِي نَفْسِ الضَّرْبِ وَهُوَ الْإِيلَامُ ، ثُمَّ إنَّمَا كَانَ أَشَدَّ الضَّرْبِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا يَشُوبُهُ مَعْنَى التَّكْفِيرِ لِلذَّنْبِ ، قَالَ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا } فَإِذَا تَمَحَّضَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَشَدَّ أَزْجَرُ فَكَانَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ لَهُ أَبْلَغُ .
وَالثَّانِي - أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ عَنْ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ فِيهِ فَلَوْ لَمْ يُشَدِّدْ فِي الضَّرْبِ - لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَهُوَ الزَّجْرُ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ خَالِصًا ، فَتَجْرِي فِيهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ، كَمَا تَجْرِي فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ مِنْ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ يُوَرَّثُ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَبْدِ لَا تَحْتَمِلُ التَّدَاخُلَ - بِخِلَافِ الْحُدُودِ - وَيُؤْخَذُ فِيهِ الْكَفِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ ؛ لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ ، أَمَّا التَّكْفِيلُ ؛ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوْثِيقِ ، وَالتَّعْزِيرُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَكَانَ التَّوْثِيقُ مُلَائِمًا لَهُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا عَدَمُ الْحَبْسِ ؛ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ تَعْزِيرًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا قَبْلَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ أَنَّهُ يُحْبَسُ فِيهَا لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا ، وَاَللَّهُ -

تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ سَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ وَعِلْمِ الْقَاضِي ، وَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ ، وَلَا يُعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ كَمَا لَا يُعْمَلُ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( كِتَابُ السَّرِقَةِ ) يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ السَّرِقَةِ إلَى مَعْرِفَةِ رُكْنِ السَّرِقَةِ ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ السَّرِقَةِ .
( فَصْلٌ ) : أَمَّا رُكْنِ السَّرِقَةِ فَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْذَ الْمَسْمُوعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ اسْتِرَاقًا ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُغَالَبَةً أَوْ نُهْبَةً ، أَوْ خِلْسَةً ، أَوْ غَصْبًا ، أَوْ انْتِهَابًا وَاخْتِلَاسًا لَا سَرِقَةً وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُخْتَلِسِ ، وَالْمُنْتَهِبِ فَقَالَ : تِلْكَ الدُّعَابَةُ لَا شَيْءَ فِيهَا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا قَطْعَ عَلَى نَبَّاشٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ } ، ثُمَّ الْأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ نَوْعَانِ : مُبَاشَرَةٌ ، وَتَسَبُّبٌ ( أَمَّا ) الْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى السَّارِقُ أَخْذَ الْمَتَاعِ ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْحِرْزَ ، وَأَخَذَ مَتَاعًا فَحَمَلَهُ ، أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحِرْزِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ إثْبَاتُ الْيَدِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَإِنْ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ مِنْ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْحِرْزِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ ، وَأَخَذَ مَا كَانَ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ يُقْطَعُ ، وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْحِرْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ ، وَالرَّمْيُ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ ، وَالْأَخْذُ مِنْ الْخَارِجِ لَيْسَ أَخْذًا مِنْ

الْحِرْزِ فَلَا يَكُونُ سَرِقَةً .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَالَ فِي حُكْمِ يَدِهِ مَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ يَدُ غَيْرِهِ ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ ، وَلَوْ رَمَى بِهِ إلَى صَاحِبٍ لَهُ خَارِجَ الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا : ( أَمَّا ) الْخَارِجُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ .
( وَأَمَّا ) الدَّاخِلُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ لِثُبُوتِ يَدِ الْخَارِجِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ نَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ مُنَاوَلَةً مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ وَلَمْ يَخْرُجَ هُوَ : فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُقْطَعُ الدَّاخِلُ ، وَلَا يُقْطَعُ الْخَارِجُ إذَا كَانَ الْخَارِجُ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ إلَى الْحِرْزِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الدَّاخِلَ لَمَّا نَاوَلَ صَاحِبَهُ فَقَدْ أَقَامَ يَدَ صَاحِبِهِ مُقَامَ يَدِهِ ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ وَالْمَالُ فِي يَدِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ مِنْهُ ، وَهُوَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهِ عَلَى الدَّاخِلِ ؛ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَالَةَ الْخُرُوجِ مِنْ الْحِرْزِ ؛ لِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِهِ إلَى السِّكَّةِ ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ يَدُ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ يَدِهِ ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ : فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَقْطَعُهُمَا جَمِيعًا .
( أَمَّا ) عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى الدَّاخِلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ فَلِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ يَدَهُ ، وَنَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ لَمْ يُقْطَعْ ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِخْرَاجِ أَوْلَى ،

وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي الْخَارِجِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا نَقَبَ مَنْزِلًا ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ ، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ هَلْ يُقْطَعُ ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ : " أَقْطَعُ وَلَا أُبَالِي دَخَلَ الْحِرْزَ ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ " ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَقَبَ وَدَخَلَ ، وَجَمَعَ الْمَتَاعَ عِنْدَ النَّقْبِ ، ثُمَّ خَرَجَ ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَفَعَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الرُّكْنَ فِي السَّرِقَةِ هُوَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْحِرْزِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الصُّنْدُوقِ ، أَوْ فِي الْجَوَالِقِ ، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ يُقْطَعُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إذَا كَانَ اللِّصُّ ظَرِيفًا لَمْ يُقْطَعْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَكُونُ ظَرِيفًا ؟ قَالَ : يُدْخِلُ يَدَهُ إلَى الدَّارِ وَيُمْكِنُهُ دُخُولُهَا " ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ ، وَلَا يَتَكَامَلُ الْهَتْكُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الدُّخُولُ إلَّا بِالدُّخُولِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، بِخِلَافِ الْأَخْذِ مِنْ الصُّنْدُوقِ ، وَالْجَوَالِقِ ؛ لِأَنَّ هَتْكَهُمَا بِالدُّخُولِ مُتَعَذَّرٌ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهَا هَتْكًا مُتَكَامِلًا فَيُقْطَعُ وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى السَّاحَةِ : لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ ، وَاحِدٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِصَاحِبِ الدَّارِ احْفَظْ هَذِهِ الْوَدِيعَةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَ فِي بَيْتٍ آخَرَ فَضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ .

وَكَذَا إذَا أَذِنَ لِإِنْسَانٍ فِي دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا فَسَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ لَا يُقْطَعُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِدُخُولِ الْبَيْتِ دَلَّ أَنَّ الدَّارَ مَعَ اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ ، وَاحِدٌ فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْرَاجُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ ، بَلْ هُوَ نَقْلٌ مِنْ بَعْضِ الْحِرْزِ إلَى الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ مِنْ زَاوِيَةٍ إلَى زَاوِيَةٍ أُخْرَى ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ مَعَ بُيُوتِهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ مَنْزِلٍ فِيهَا لِرَجُلٍ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْبَيْتِ إلَى السَّاحَةِ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجَرٌ ، وَمَقَاصِيرُ فَسَرَقَ مِنْ مَقْصُورٍ مِنْهَا وَخَرَجَ بِهِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ نَقَبَ رَجُلَانِ ، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَلَمَّا خَرَجَ بِهِ إلَى السِّكَّةِ حَمَلَاهُ جَمِيعًا يُنْظَرُ : إنْ عُرِفَ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّارِقُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْهُ ، وَيُعَزَّرُ الْخَارِجُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا لَمْ يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ مَجْهُولٌ ، وَيُعَزَّرَانِ : أَمَّا الْخَارِجُ فَلِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً لَمْ يُسْتَوْفَ فِيهَا الْحَدُّ لِعُذْرٍ فَتَعَيَّنَ التَّعْزِيرُ ، وَلَوْ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مُكَابَرَةً لَيْلًا حَتَّى سَرَقَ مِنْهُ مَتَاعَهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ مِنْ الْمَالِكِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ ؛ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ ، وَغَفْلَةٍ فَتَحَقَّقَتْ

السَّرِقَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا التَّسَبُّبُ فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ جَمَاعَةٌ مِنْ اللُّصُوصِ مَنْزِلَ رَجُلٍ ، وَيَأْخُذُوا مَتَاعًا وَيَحْمِلُوهُ عَلَى ظَهْرِ وَاحِدٍ ، وَيُخْرِجُوهُ مِنْ الْمَنْزِلِ : فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا الْحَامِلُ خَاصَّةً ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقْطَعُونَ جَمِيعًا .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ ، وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَمُعِينٌ لَهُ ، وَالْحَدُّ يَجِبُ عَلَى الْمُبَاشِرِ لَا عَلَى الْمُعِينِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْإِخْرَاجَ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِخْرَاجِ إلَّا بِإِعَانَةِ الْبَاقِينَ وَتَرَصُّدِهِمْ لِلدَّفْعِ ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْكُلِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
وَلِهَذَا أُلْحِقَ الْمُعِينُ بِالْمُبَاشِرِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَفِي الْغَنِيمَةِ كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَامِلَ عَامِلٌ لَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَتَاعَ عَلَى حِمَارٍ ، وَسَاقُوهُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ الْحِرْزِ ؛ وَلِأَنَّ السَّارِقَ لَا يَسْرِقُ وَحْدَهُ عَادَةً ، بَلْ مَعَ أَصْحَابِهِ ، وَمِنْ عَادَةِ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْجَمْعِ وَالْإِخْرَاجِ ، بَلْ يَرْصُدُ الْبَعْضُ ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ لَانْسَدَّ بَابُ الْقَطْعِ ، وَانْفَتَحَ بَابُ السَّرِقَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَتْ الْإِعَانَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فِيهِ ، وَهُوَ الْمَكَانُ أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ : فَأَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَهِيَ : الْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ فَلَا يُقْطَعُ الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا .
وَفِي إيجَابِ الْقَطْعِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً ، وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَاتِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْحُدُودِ كَذَا هَذَا ، وَيَضْمَنَانِ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ يُجَنُّ مُدَّةً ، وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنْ سَرَقَ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ ؛ يُقْطَعْ وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ يَدْرَأُ عَنْهُمْ الْقَطْعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " إنْ كَانَ الصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إخْرَاجَ الْمَتَاعِ دُرِئَ عَنْهُمْ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ وَلِيَهُ غَيْرُهُمَا ؛ قُطِعُوا جَمِيعًا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ " .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْحِرْزِ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّرِقَةِ ، وَالْإِعَانَةُ كَالتَّابِعِ فَإِذَا وَلِيَهُ الصَّبِيُّ ، أَوْ الْمَجْنُونُ ؛ فَقَدْ أَتَى بِالْأَصْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْأَصْلِ كَيْفَ يَجِبُ بِالتَّابِعِ ؟ فَإِذَا وَلِيَهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ ؛ فَقَدْ حُصِلَ الْأَصْلُ مِنْهُ ، فَسُقُوطُهُ عَنْ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ الْأَصْلِ .
( وَجْهُ )

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى أَحَدٍ كَالْعَامِدِ مَعَ الْخَاطِئِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَطْعِ ، أَوْ فِي الْقَتْلِ ، وَقَوْلُهُ الْإِخْرَاجُ أَصْلٌ فِي السَّرِقَةِ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى ؛ لِاتِّحَادِ الْكُلِّ فِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَكَانَ إخْرَاجُ غَيْرِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ كَإِخْرَاجِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ضَرُورَةَ الِاتِّحَادِ .
عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ " يُدْرَأُ عَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ " ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِمْ شَرِيكُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ ، فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ فَتُقْطَعُ الْأُنْثَى ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ { : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ ، وَالْأَمَةُ ، وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَيَسْتَوِي الْآبِقُ وَغَيْرُهُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَذُكِرَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَرَقَ - وَهُوَ آبِقٌ - فَبَعَثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ : " لَا نَقْطَعُ يَدَ الْآبِقِ إذَا سَرَقَ " فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فِي أَيِّمَا كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَجَدْتَ هَذَا : أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إذَا سَرَقَ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ ، فَأَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ؛ وَلِأَنَّ الذُّكُورَةَ ، وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ سَائِرِ الْحُدُودِ ، فَكَذَا هَذَا الْحَدُّ ، وَكَذَا

الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ ، وَالْكَافِرُ لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا لَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ ، وَلَا شُبْهَةَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ ، وَيَعُدُّونَهُ مَالًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهِ ، وَخَطَرِهِ عِنْدَهُمْ ، وَمَا لَا يَتَمَوَّلُونَهُ فَهُوَ تَافِهٌ حَقِيرٌ ، قَدْ رُوِيَ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { لَمْ تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ } ، وَهَذَا مِنْهَا بَيَانُ شَرْعٍ مُتَقَرِّرٍ ؛ وَلِأَنَّ التَّفَاهَةَ تُخَلُّ فِي الْحِرْزِ ؛ لِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحْرَزُ عَادَةً ، أَوْ لَا يُحْرَزُ إحْرَازَ الْخَطَرِ ، وَالْحِرْزُ الْمُطْلَقُ شَرْطٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَكَذَا تُخَلُّ فِي الرُّكْنِ ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ التَّافِهِ مِمَّا لَا يَسْتَخْفِي مِنْهُ فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ وَالشُّبْهَةُ فِي الرُّكْنِ ، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ : إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَوْ سَرَقَ صَبِيًّا عَبْدًا لَا يَتَكَلَّمُ ، وَلَا يَعْقِلُ يُقْطَعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُقْطَعُ ( وَوَجْهُهُ ) : أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَالٍ مَحْضٍ ، بَلْ هُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ ، فَكَانَ مَحَلُّ السَّرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ فَلَا تَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ بِالشَّكِّ فَلَا يُقْطَعُ كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ مَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَلَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ - كَالْبَهِيمَةِ - وَكَوْنُهُ آدَمِيًّا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ مَالًا ، فَهُوَ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَمَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي فَيَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ

؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكِنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ يَدِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ؛ لِلتَّنَافِي فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رُكْنُ السَّرِقَةِ : وَهُوَ الْأَخْذُ ، وَلَوْ سَرَقَ مَيْتَةً ، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِانْعِدَامِ الْمَالِ وَلَا يُقْطَعُ فِي التِّبْنِ ، وَالْحَشِيشِ ، وَالْقَصَبِ ، وَالْحَطَبِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَمَوَّلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ .
وَلَا يَظُنُّونَ بِهَا ؛ لِعَدَمِ عِزَّتِهَا ، وَقِلَّةِ خَطَرِهَا عِنْدَهُمْ ، بَلْ يَعُدُّونَ الظِّنَّةَ بِهَا مِنْ بَابِ الْخُسَاسَةِ ، فَكَانَتْ تَافِهَةً ، وَلَا قَطْعَ فِي التُّرَابِ ، وَالطِّينِ ، وَالْجَصِّ ، وَاللَّبِنِ ، وَالنُّورَةِ ، وَالْآجُرِّ ، وَالْفَخَّارِ ، وَالزُّجَاجِ ؛ لِتَفَاهَتِهَا فَرَّقَ بَيْنَ التُّرَابِ ، وَبَيْنَ الْخَشَبِ ، حَيْثُ سَوَّى فِي التُّرَابِ بَيْنَ الْمَعْمُولِ مِنْهُ وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ ، وَفَرَّقَ فِي الْخَشَبِ ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِي الْخَشَبِ أَخْرَجَتْهُ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ ، وَالصَّنْعَةَ فِي التُّرَابِ لَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ تَافِهًا ، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ فَصَّلَ فِي الْجَوَابِ فِي الزُّجَاجِ بَيْنَ الْمَعْمُولِ ، وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ ، كَمَا فِي الْخَشَبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الزُّجَاجَ بِالْعَمَلِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ .
وَلَا يُقْطَعُ فِي الْخَشَبِ إلَّا إذَا كَانَ مَعْمُولًا بِأَنْ صَنَعَ مِنْهُ أَبْوَابًا ، أَوْ آنِيَةً ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مَا خَلَا السَّاجَ ، وَالْقَنَا ، وَالْأَبَنُوسَ ، وَالصَّنْدَلَ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً ، فَكَانَ تَافِهًا ، وَبِالصَّنْعَةِ يَخْرُجُ عَنْ التَّفَاهَةِ فَيَتَمَوَّلُ .
وَأَمَّا السَّاجُ ، وَالْأَبَنُوسُ ، وَالصَّنْدَلُ فَأَمْوَالٌ لَهَا عِزَّةٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَتْ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً .
( وَأَمَّا ) الْعَاجُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي الْمَعْمُولِ مِنْهُ ، وَقِيلَ

هَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَظْمِ الْجَمَلِ ، فَلَا يُقْطَعُ إلَّا فِي الْمَعْمُولِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ لِتَفَاهَتِهِ ، وَيُقْطَعُ فِي الْمَعْمُولِ ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ بِالصَّنْعَةِ - كَالْخَشَبِ الْمَعْمُولِ - فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ مَعْمُولًا ، أَوْ غَيْرَ مَعْمُولٍ ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَالِيَّتِهِ .
حَتَّى حَرَّمَ بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ ، وَالِانْتِفَاعَ بِهِ ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ قُصُورًا فِي الْمَالِيَّةِ ، وَلَا قَطْعَ فِي قَصَبِ النُّشَّابِ ، فَإِنْ كَانَ اتَّخَذَ مِنْهُ نُشَّابًا قُطِعَ ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْخَشَبِ ، وَلَا قَطْعَ فِي الْقُرُونِ مَعْمُولَةً كَانَتْ ، أَوْ غَيْرَ مَعْمُولَةٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " إنْ كَانَتْ مَعْمُولَةً وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ " قِيلَ إنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ ، فَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فِي قُرُونِ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَالِيَّتِهَا ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فِي قُرُونِ الْمُذَكَّى فَلَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ فِي غَيْرِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ ، وَأَوْجَبَ فِي الْمَعْمُولِ كَمَا فِي الْخَشَبِ الْمَعْمُولِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ : أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهَا فَإِنْ جُعِلَتْ مُصَلَّاةً ، أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْمُولِ مِنْهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَلَا قَطْعَ فِي الصَّيْدِ فَكَذَا فِي أَجْزَائِهِ ، وَبِالصَّنْعَةِ صَارَتْ شَيْئًا آخَرَ فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ الْمَصْنُوعَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْتَدَّ ، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ جُلُودَ السِّبَاعِ لَا تَطْهُرُ بِالزَّكَاةِ ، وَلَا بِالدِّبَاغِ ، وَلَا قَطْعَ فِي الْبَوَارِي ؛ لِأَنَّهَا تَافِهَةٌ لِتَفَاهَةِ أَصْلِهَا وَهُوَ الْقَصَبُ ، وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ ، وَلَا فَهْدٍ ، وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمَلَاهِي : مِنْ الطَّبْلِ ،

وَالدُّفِّ ، وَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ ، أَوْ فِي مَالِيَّتِهَا قُصُورٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِ الْمَلَاهِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَلَا عَلَى قَاتِلِ الْكَلْبِ ، وَالْفَهْدِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ .
وَلَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا ، أَوْ صَحِيفَةً فِيهَا حَدِيثٌ ، أَوْ عَرَبِيَّةٌ ، أَوْ شِعْرٌ فَلَا قَطْعَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَدَّخِرُونَهَا وَيَعُدُّونَهَا مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمُصْحَفَ الْكَرِيمَ يُدَّخَرُ لَا لِلتَّمَوُّلِ ، بَلْ لِلْقِرَاءَةِ ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ صَحِيفَةُ الْحَدِيثِ ، وَصَحِيفَةُ الْعَرَبِيَّةِ ، وَالشِّعْرِ يُقْصَدُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ لَا التَّمَوُّلِ .
( وَأَمَّا ) دَفَاتِرُ الْحِسَابِ فَفِيهَا الْقَطْعُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَدْرُ الْبَيَاضِ مِنْ الْكَاغَدِ ، وَكَذَلِكَ الدَّفَاتِرُ الْبِيضُ إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا ؛ لِمَا قُلْنَا ، عَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " إنَّ كُلَّ مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا عِزَّ لَهُ ، وَلَا خَطَرَ فَلَا يَتَمَوَّلُ النَّاسُ ، فَكَانَ تَافِهًا " ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ؛ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي عَفْصٍ ، وَلَا إهْلِيلَجَ ، وَلَا أُشْنَانٍ وَلَا فَحْمٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةُ الْجِنْسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَهِيَ تَافِهَةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْعَفْصِ ، وَالْإِهْلِيلَجِ ، وَالْأَدْوِيَةِ الْيَابِسَةِ ، وَلَا قَطْعَ فِي طَيْرٍ وَلَا صَيْدٍ وَحْشِيًّا كَانَ ، أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً ،

قَدْ رُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عُثْمَانَ ، وَسَيِّدِنَا - عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : " لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ الْجَوَارِحِ فَصَارَ صَيُودًا فَلَا قَطْعَ عَلَى سُرَّاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ عُلِمَ - فَلَا يُعَدُّ مَالًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ الْقُبُورِ فِي قَوْلِهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْ الْبَيْتِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عَنْهُ أَشَدَّ النِّفَارِ ، فَكَانَ تَافِهًا ، وَلَئِنْ كَانَ مَالًا فَفِي مَالِيَّتِهِ قُصُورٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ مَا يُنْتَفَعُ بِلِبَاسِ الْحَيِّ ، وَالْقُصُورُ فَوْقَ الشُّبْهَةِ ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ تَنْفِي وُجُوبَ الْحَدِّ ، فَالْقُصُورُ أَوْلَى ، رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ : أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ سَرِقَةُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ ، وَلَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ ، بَلْ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ لَا يُعَدُّ مَالًا ، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ ، وَالْبُقُولِ ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً ، مُبَاحُ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَكَانَ مَالًا ، فَيُقْطَعُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ ، وَالْإِمْسَاكَ إلَى زَمَانِ حُدُوثِ الْحَوَائِجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ فَقَلَّ

خَطَرُهَا عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَتْ تَافِهَةً .
وَلَوْ سَرَقَ تَمْرًا مِنْ نَخْلٍ ، أَوْ شَجَرٍ آخَرَ مُعَلَّقًا فِيهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ اسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَأَحْرَزُوهُ ، أَوْ هُنَاكَ حَائِطٌ ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ لَا يُعَدُّ مَالًا ؛ وَلِأَنَّهُ مَا دَامَ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ لَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } قَالَ مُحَمَّدٌ : الثَّمَرُ مَا كَانَ فِي الشَّجَرِ ، وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَإِنْ كَانَ قَدْ جَذَّ الثَّمَرَ ، وَجَعَلَهُ فِي الْجَرِينِ ، ثُمَّ سُرِقَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا مُطْلَقًا قَابِلًا لِلِادِّخَارِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ { : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ ، وَلَا كَثَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ } فَإِذَا آوَاهُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ مَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ جَفَافُهُ عَادَةً .
فَإِذَا اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، فَكَانَ مَالًا مُطْلَقًا ، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا كَانَتْ فِي سُنْبُلِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي الشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَا دَامَتْ فِي السُّنْبُلِ لَا تُعَدُّ مَالًا ، وَلَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهَا أَيْضًا .
( وَأَمَّا ) الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ الَّتِي تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّهُ يُقْطَعُ فِيمَا يَتَمَوَّلُ النَّاسُ إيَّاهَا ؛ لِقَبُولِهَا الِادِّخَارَ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّفَاهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ رَطْبِ الْفَاكِهَةِ وَيَابِسِهَا ، وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْحَائِطِ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّخْلَةِ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ ، فَكَانَ تَافِهًا ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ

{ : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ : إنَّهُ النَّخْلُ الصِّغَارُ ، وَيُقْطَعُ فِي الْحِنَّاءِ ، وَالْوَسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَلَمْ يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ الطَّرِيِّ ، وَالصَّفِيقِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ فِي السَّمَكِ طَرِيًّا كَانَ ، أَوْ مَالِحًا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا لِتَفَاهَتِهِ ، وَلِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَى الطَّرِيِّ مِنْهُ ، وَلِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، فَكَانَ تَافِهًا ، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ ، وَالدِّبْسِ لِعَدَمِ التَّفَاهَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِمَا الْفَسَادُ ، وَلَا قَطْعَ فِي : عَصِيرِ الْعِنَبِ ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، فَكَانَ تَافِهًا كَاللَّبَنِ ، وَلَا قَطْعَ فِي الطِّلَاءِ وَهُوَ الْمُثَلَّثُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَتِهِ ، وَفِي كَوْنِهِ مَالًا ، فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ .

وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا ، وَيُقْطَعُ فِي الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ ، وَلَا تَفَاهَةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ ، وَاللَّآلِئُ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ ، وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ لَا عَلَى إبَاحَةِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْجَوَاهِرِ ، وَاللَّآلِئِ ، وَغَيْرِهَا ، وَيُقْطَعُ فِي الْحُبُوبِ كُلِّهَا ، وَفِي الْأَدْهَانِ ، وَالطِّيبِ كَالْعُودِ ، وَالْمِسْكِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّفَاهَةِ ، وَيُقْطَعُ فِي الْكَتَّانِ ، وَالصُّوفِ ، وَالْخَزِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُقْطَعُ فِي جَمِيعِ الْأَوَانِي مِنْ الصُّفْرِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالرَّصَاصِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ النُّحَاسَ نَفْسَهُ أَوْ الْحَدِيدَ نَفْسَهُ ، أَوْ الرَّصَاصَ لِعِزَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَخَطَرِهَا فِي أَنْفُسِهَا : كَالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا مُطْلَقًا فَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ مِنْ مُسْلِمٍ ، مُسْلِمًا كَانَ السَّارِقُ ، أَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ .
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ - فَلَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَا يُقْطَعُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ، وَإِنْ كَانَ مَالًا لِانْعِدَامِ تَقَوُّمِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يُقْطَعُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ : مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْجَوَاهِرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ مَعَادِنِهَا لِعَدَمِ الْمَالِكِ ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ عَلَى أَصْلِ أَبِي

حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَع ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ، وَلَا ، وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُؤَخَّرٌ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْكَفَنِ كَمَا هُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ الدَّيْنِ ، وَالْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا أَصْلًا .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ ، وَلَا تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ ، أَوْ مَا فِيهِ تَأْوِيلُ الْمِلْكِ ، أَوْ الشُّبْهَةَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ ، وَالِاسْتِسْرَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةُ السَّرِقَةِ قَالَ اللَّهُ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ { : جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْفِعْلِ جِنَايَةً مَحْضَةً ، وَأَخْذُ الْمَمْلُوكِ لِلسَّارِقِ لَا يَقَعُ جِنَايَةً أَصْلًا فَالْأَخْذُ بِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ ، أَوْ الشُّبْهَةِ لَا يَتَمَحَّضُ جِنَايَةً فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَا أَعَارَهُ مِنْ إنْسَانٍ ، أَوْ آجَرَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ ، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ رَهْنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لَهُ .
وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ لَا غَيْرُ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَسَرَقَهُ الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ الرَّاهِنُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْأَخْذِ كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِوَطْئِهِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ ( وَأَمَّا ) الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُهُ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ يَدِهِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ لِحَقِّهِ فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُودَعِ

، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُمَا عَلَى الشُّيُوعِ ، فَكَانَ بَعْضُ الْمَأْخُوذِ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ ، فَلَا يَجِبُ بِأَخْذِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْخُمُسَ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ مِلْكًا ، وَحَقًّا .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا قَطْعَ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ ، وَبِمَا فِي يَدِهِ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا ( أَمَّا ) عَلَى أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ فَلَهُ فِيهِ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ يُشْبِهُ الْمِلْكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْكَسْبُ جَارِيَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيُورِثَ شُبْهَةً ، أَوْ نَقُولُ إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى ، وَلَا الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، وَالْغُرَمَاءُ لَا يَمْلِكُونَ أَيْضًا فَهَذَا مَالُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِكٍ ، لَهُ مُعِينٌ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَمَالِ الْغَنِيمَةِ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ مِلْكُهُ مِنْ ، وَجْهٍ ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَالْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ ، أَوْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، وَعَلَى مَوْلَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ ، فَكَانَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا لِلْحَالِ فَيُوجِبُ شُبْهَةً ، فَلَا

يَجِبُ الْقَطْعُ كَأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا سَرَقَ مَا شَرَطَ فِيهِ الْخِيَارَ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ، وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِ ، وَلَدِهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ ، أَوْ شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنْتَ ، وَمَالُك لِأَبِيك } فَظَاهِرُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِدَلِيلٍ ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ ، أَوْ يَثْبُتُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِهِ .
( وَأَمَّا ) السَّرِقَةُ مِنْ سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تُوجِبُ الْقَطْعَ أَيْضًا لَكِنْ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَوْ دَخَلَ لِصٌّ دَارَ رَجُلٍ فَأَخَذَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ نِصْفَيْنِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَشْقُوقًا يُقْطَعُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " لَا يُقْطَعُ " وَلَوْ أَخَذَ شَاةً فَذَبَحَهَا ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ السَّارِقَ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ ، وَهُوَ الشَّقُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ شَاةً فَذَبَحَهَا ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا كَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَشْقُوقَ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ مَادَامَ مُخْتَارًا لِلْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ ، فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ كَانَ الثَّوْبُ عَلَى مِلْكِهِ فَصَارَ سَارِقًا ثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الشَّاةِ : إنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي مِلْكِ

الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهَا تَمَّتْ فِي اللَّحْمِ ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ .
وَقَوْلُهُ : وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ ، قُلْنَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ : مَمْنُوعٌ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ السَّارِقِ ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ إلَيْهِ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ وُجُودِ الشَّقِّ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ شَقَّ الثَّوْبَ عَرْضًا ، فَأَمَّا لَوْ شَقَّهُ طُولًا فَلَا قَطْعَ ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّقِّ طُولًا خَرَقَهُ خَرْقًا مُتَفَاحِشًا فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا خَرَقَ الثَّوْبَ تَخْرِيقًا مُسْتَهْلَكًا ، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ تَخْرِيقِهِ عَشَرَةٌ : أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ التَّخْرِيقَ إذَا وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا أَوْجَبَ اسْتِقْرَارَ الضَّمَانِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ .
وَإِذَا لَمْ يَقَعْ اسْتِهْلَاكًا ؛ كَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ فَصَارَ قِصَاصًا بِحَقِّهِ ، فَلَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ هَذَا الْمَالِ سَارِقًا ، فَلَا يُقْطَعُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ ، بَلْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْبَيْعِ ، فَكَانَ سَارِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا قَالَ : أَخَذْتُهُ لِأَجْلِ حَقِّي عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَهَهُنَا جِنْسٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا إلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أُولَى بِالتَّخْرِيجِ

عَلَيْهِ ، وَسَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ .
مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَيْسَ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَلَا تَأْوِيلُ الْأَخْذِ ، وَلَا شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً ، وَأَخْذُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً أَصْلًا ، وَمَا فِيهِ تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ ، أَوْ شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً مَحْضَةً ، فَلَا تُنَاسِبُهُ الْعُقُوبَةُ الْمَحْضَةُ ، وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ يُؤْخَذُ مُجَاهَرَةً لَا مُخَافَتَةً فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي رُكْنِ السَّرِقَةِ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : لَا قَطْعَ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ ، وَلَا فِي الْمُبَاحِ الْمَمْلُوكِ ، وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( وَأَمَّا ) مَالُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِالْأَمَانِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَمَالِ الذِّمِّيِّ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ هَذَا مَالٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِيَقْضِيَ بَعْضَ حَوَائِجِهِ ، ثُمَّ يَعُودَ عَنْ قَرِيبٍ ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ ؛ وَلِهَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ قِصَاصًا ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ هُوَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، فَعِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ ، إنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ ، إذَا زَالَ ؛ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيُجْعَلَ كَأَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، قَدْ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ

بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ ، فَكَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ ، وَالْمَالِ عِصْمَةً مُطْلَقَةً لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ .
وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَكَذَا لَا قَطْعَ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ ، أَوْ الذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْإِبَاحَةَ ، وَلِذَا لَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي حَدِّ الزِّنَا ، وَلَا يُقْطَعُ الْعَادِلُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْبَاغِي ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّهِ كَنَفْسِهِ ، وَلَا الْبَاغِي فِي سَرِقَةِ مَالِ الْعَادِلِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ تَأْوِيلٍ ، وَتَأْوِيلُهُ .
وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ، لَكِنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ مُلْحَقٌ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَرِيمِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، وَإِمَّا إنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ ، فَإِنْ سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَيْهِ حَالًا - لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مُبَاحٌ لَهُ لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ ؛ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ ، وَإِذَا أَخَذَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَأْخُوذِ حَقُّهُ عَلَى الشُّيُوعِ ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ ، فَكَذَا فِي الْبَاقِي - كَمَا إذَا سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا - وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْطَعُ .
( وَجْهُ

) الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ ؛ فَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ قَائِمٌ ، وَهُوَ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّأْجِيلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ لَا فِي سُقُوطِ الدَّيْنِ ، فَقِيَامُ سَبَبِ ثُبُوتِهِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ .
وَإِنْ سَرَقَ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ ، أَوْ عُرُوضًا قُطِعَ ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا سَرَقَ الْعَرُوضَ ، ثُمَّ قَالَ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لَا يَقْطَعُ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ عَلَى الْمُطْلَقِ ، وَهُوَ مَا إذَا سَرَقَ ، وَلَمْ يَقُلْ : أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لَيْسَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ ، وَالتَّرَاضِي ، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ الْأَخْذَ أَيْضًا ، فَكَانَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَا شُبْهَةِ حَقٍّ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذَا ظَفَرَ ، بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافًا مُؤْذِنًا لِلشُّبْهَةِ .
وَإِذَا قَالَ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي فَقَدْ أَخَذَهُ مُتَأَوِّلًا ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى ، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ ، وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةٌ ، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ وَلَوْ أَخَذَ صِنْفًا مِنْ الدَّرَاهِمِ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ ، أَوْ أَرْدَأَ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَبْدِلًا

حَتَّى يَجُوزَ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ، مَعَ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَثْبُتُ شُبْهَةُ حَقِّ الْأَخْذِ فَيَلْحَقُ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحَدِّ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ .
وَلَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ فِضَّةٍ ، وَعَلَيْهِ دَرَاهِمُ ، أَوْ حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ ، وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا مِنْ حَقِّهِ إلَّا بِالْمُرَاضَاةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا ، وَاسْتِبْدَالًا فَأَشْبَهَ الْعُرُوضَ ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْعُرُوضَ ، أَوْ الْحُلِيَّ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّ هَذَا يُقْطَعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ إنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يُوجِبُ سِوَى الْقَطْعِ وَلَوْ سَرَقَ مُكَاتَبٌ ، أَوْ عَبْدٌ مِنْ غَرِيمِ مَوْلَاهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ قَبْضِ دَيْنِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ ؛ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يُقْطَعُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ بِالْوَكَالَةِ ، فَصَارَ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ ، أَوْ مِنْ غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكُ مَوْلَاهُ ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ ؛ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ أَبِيهِ ، أَوْ وَلَدِهِ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَلَا فِي قَبْضِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ غَرِيمُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لَهُ كَمَا فِي دَيْنِ نَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ سَرِقَةُ الْمُصْحَفِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْوِيلُ الْأَخْذِ إذْ النَّاسُ لَا يَضِنُّونَ بِبَذْلِ الْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَادَةً فَأَخَذَهُ الْآخِذُ

مُتَأَوِّلًا ، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ الْبَرْبَطِ ، وَالطَّبْلِ ، وَالْمِزْمَارِ ، وَجَمِيعِ آلَاتِ الْمَلَاهِي ؛ لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِمَنْعِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَنَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ شِطْرَنْجٍ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ صَلِيبٍ ، أَوْ صَنَمٍ مِنْ فِضَّةٍ مِنْ حِرْزٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْكَسْرِ .
( وَأَمَّا ) الدَّرَاهِمُ الَّتِي عَلَيْهَا التَّمَاثِيلُ فَيُقْطَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْبَدُ عَادَةً فَلَا تَأْوِيلَ لَهُ فِي الْأَخْذِ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَيُقْطَعُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُطِعَ سَارِقٌ فِي مَالٍ ، ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ سَارِقٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَلَا مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ ، وَتَقَوُّمُهُ فِي حَقِّهِ بِالْقَطْعِ ، وَلِأَنَّ كَوْنَ يَدِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدًا صَحِيحَةً ؛ شُرِطَ وُجُوبُ الْقَطْعِ ، وَيَدُ السَّارِقِ لَيْسَتْ يَدًا صَحِيحَةً ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَرَقَ مَالًا فَقُطِعَ فِيهِ فَرَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ ، ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهُ مِنْهُ ثَانِيًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْدُودَ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ الْمَالِكُ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُقْطَعْ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - .
( أَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْمَسْرُوقِ حَقًّا لِلْعَبْدِ قَدْ سَقَطَتْ عِنْدَ السَّرِقَةِ الْأُولَى لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَعَلَى أَصْلِهِ لَمْ تَسْقُطْ ، بَلْ بَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ ، وَسَنَذْكُرُ تَقْرِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ (

وَجْهُ ) مَا رَوَى أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ سَقَطَتْ قِيمَتُهُ الثَّابِتَةُ حَقًّا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى فَقَدْ عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا عَادَتْ فِي حَقِّ الضَّمَانِ ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعِصْمَةَ ، وَإِنْ عَادَتْ بِالرَّدِّ لَكِنْ مَعَ شُبْهَةِ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَأَثَرُ الْقَطْعِ قَائِمٌ بَعْدَ الرَّدِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعِصْمَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُ الْمَسْرُوقِ فِي حَقِّ السَّارِقِ بِالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ .
وَأَثَرُ الْقَطْعِ بَعْدَ الرَّدِّ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا كَانَ الْمَرْدُودُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ( فَأَمَّا ) إذَا أَحْدَثَ الْمَالِكُ فِيهِ حَدَثًا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ عَنْ حَالِهِ ، ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِيهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَأَوْجَبَ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ يُقْطَعُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ ، وَتَصِيرُ فِي حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَتَبَدَّلْ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا سَرَقَ غَزْلًا فَقُطِعَ فِيهِ ، وَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَعَادَ فَسَرَقَهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قَدْ تَبَدَّلَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَغْصُوبًا لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ ، وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبَ خَزٍّ فَقُطِعَ فِيهِ ، وَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ فَنَقَضَهُ فَسَرَقَ النَّقْضَ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَبَدَّلْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ ، وَلَوْ نَقَضَهُ الْمَالِكُ ، ثُمَّ غَزَلَهُ غَزْلًا ، ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ وُجِدَ مِنْ

الْغَاصِبِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ الْعَيْنِ وَلَوْ سَرَقَ بَقَرَةً فَقُطِعَ فِيهَا ، وَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ ، وَلَدًا ثُمَّ سَرَقَ الْوَلَدَ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْنٌ أُخْرَى لَمْ يُقْطَعْ فِيهَا فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ جِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مُطْلَقًا خَالِيًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ مَقْصُودًا بِالْحِرْزِ ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْحِرْزِ مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ ، أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ ، وَلَا كَثَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ } عَلَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ ، وَالْمُرَاحُ حِرْزُ الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ ، وَالْجَرِينُ حِرْزُ الثَّمَرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ ، وَلِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ هُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ ، وَالْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِخْفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا قَطْعًا لِأَطْمَاعِ السُّرَّاقِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ .
وَالْأَطْمَاعُ إنَّمَا تَمِيلُ إلَى مَا لَهُ خَطَرٌ فِي الْقُلُوبِ ، وَغَيْرُ الْمُحَرَّزِ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ عَادَةً ، فَلَا تَمِيلُ الْأَطْمَاعُ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْقَطْعِ ، وَبِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَمَلِ الِادِّخَارَ ، ثُمَّ الْحِرْزُ نَوْعَانِ : حِرْزٌ بِنَفْسِهِ ، وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ .
( أَمَّا ) الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ : كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ مَمْنُوعَةِ الدُّخُولِ فِيهَا إلَّا بِالْإِذْنِ : كَالدُّورِ ، وَالْحَوَانِيتِ ، وَالْخِيَمِ ، وَالْفَسَاطِيطِ ، وَالْخَزَائِنِ ، وَالصَّنَادِيقِ .
( وَأَمَّا ) الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ : فَكُلُّ مَكَان غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُدْخَلُ إلَيْهِ بِلَا إذْنٍ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَالْمَسَاجِدِ ، وَالطُّرُقِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ .
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ فَهُوَ حِرْزٌ ؛ لِهَذَا سُمِّيَ

حِرْزًا بِغَيْرِهِ حَيْثُ وَقَفَ صَيْرُورَتُهُ حِرْزًا عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْحَافِظُ ، وَمَا كَانَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُجُودُ الْحَافِظِ لِصَيْرُورَتِهِ حِرْزًا ، وَلَوْ وُجِدَ فَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ ، بَلْ وُجُودُهُ ، وَالْعَدَمُ سَوَاءٌ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِرْزَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ عَلَى حِيَالِهِ بِدُونِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ ، وَالْجَرِينِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ وُجُودِ الْحَافِظِ .
وَرُوِيَ أَنَّ { صَفْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ } فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ الْحِرْزِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا سَرَقَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ يُقْطَعُ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ ، أَوْ لَا لِوُجُودِ الْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ مُغْلَقَ الْبَابِ ، أَوْ لَا بَابَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْجُوزًا بِالْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْرَازُ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي يُقْطَعُ إذَا كَانَ الْحَافِظُ قَرِيبًا مِنْهُ فِي مَكَان يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ ، وَيُحْفَظُ فِي مِثْلِهِ الْمَسْرُوقُ عَادَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، أَوْ نَائِمًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقْصِدُ الْحِفْظَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ إلَّا بِفِعْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ صَفْوَانَ ، وَصَفْوَانُ كَانَ نَائِمًا وَلَوْ أُذِنَ لِإِنْسَانٍ بِالدُّخُولِ فِي دَارِهِ فَسَرَقَ الْمَأْذُونُ لَهُ بِالدُّخُولِ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَافِظٌ ، أَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ نَائِمًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ بِنَفْسِهَا لَا بِالْحَافِظِ ، وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا بِالْإِذْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَافِظِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ

صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ الدَّارِ .
فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ خَائِنٌ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ } ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهَا ، وَهُوَ مُقْفَلٌ ، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ فِي الدَّارِ ، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ فِي بَعْضِ الْبُيُوتِ ، وَهُوَ مُقْفَلٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْبَيْتُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهَا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ حِرْزٌ وَاحِدٌ قَدْ خَرَجَتْ بِالْإِذْنِ لَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ بُيُوتُهَا ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْوَدَ بَاتَ عِنْدَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَرَقَ حُلِيًّا لَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَسْرُوقًا مِنْ دَارِ النِّسَاءِ لَا مِنْ دَارِ الرِّجَالِ ، وَالدَّارَانِ الْمُخْتَلِفَانِ إذَا أُذِنَ بِالدُّخُولِ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَصِيرُ الْأُخْرَى مَأْذُونًا بِالدُّخُولِ فِيهَا ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ كَانَ فِي حَمَّامٍ ، أَوْ خَانٍ ، وَثِيَابُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَرَقَهَا سَارِقٌ : إنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانًا ، وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ ، وَثَوْبُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ قُطِعَ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الْحَمَّامِ ، أَوْ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ ، وَهُوَ مَعَهُ فِي سَفِينَةٍ ، أَوْ نَزَلَ قَوْمٌ فِي خَانٍ فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ ، وَكَذَلِكَ الْحَانُوتُ ؛ لِأَنَّ الْحَمَّامَ ، وَالْخَانَ ، وَالْحَانُوتَ كُلُّ وَاحِدٍ حِرْزٌ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ فَلَا يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ لَيْلًا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْذَنُوا بِالدُّخُولِ فِيهِ لَيْلًا فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ ، أَوْ الْمَسْجِدُ - وَإِنْ كَانَ مَأْذُونَ الدُّخُولِ إلَيْهِ - فَلَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ

، بَلْ بِالْحَافِظِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِنْ الْحَافِظِ فَلَا يَبْطُلُ مَعْنَى الْحِرْزِ فِيهِ .
وَقَالُوا فِي السَّارِقِ مِنْ الْمَسْجِدِ : إذَا كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ يُقْطَعُ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ ، بَلْ بِالْحَافِظِ ، فَكَانَتْ الْبُقْعَةُ الَّتِي فِيهَا الْحَافِظُ هِيَ الْحِرْزُ لَا كُلُّ الْمَسْجِدِ فَإِذَا انْفَصَلَ مِنْهَا فَقَدْ انْفَصَلَ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ .
( فَأَمَّا ) الدَّارُ ، فَإِنَّمَا صَارَتْ حِرْزًا بِالْبِنَاءِ ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ الِانْفِصَالُ مِنْ الْحِرْزِ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ سَرَقَ فِي السُّوقِ مِنْ حَانُوتٍ فَتَخَرَّبَ الْحَانُوتُ ، وَقَعَدَ لِلْبَيْعِ ، وَأُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُرِقَ مِنْهُ ، وَهُوَ مُغْلَقٌ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَقَدْ أُخْرِجَ الْحَانُوتُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ مِنْ بَيْتِ قُبَّةٍ ، أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِ مُقْفَلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَانُوتَ كُلَّهُ حِرْزٌ وَاحِدٌ كَالدَّارِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ ، وَمَعَهُ جُوَالِقُ وَضَعَهُ ، وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ فَسَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ شَيْئًا ، أَوْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ : فَإِنِّي أَقْطَعُهُ ؛ لِأَنَّ الْجَوَالِقَ بِمَا فِيهَا مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ فَيَسْتَوِي أَخْذُ جَمِيعِهِ ، وَأَخْذُ بَعْضِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ فُسْطَاطًا مَلْفُوفًا قَدْ ، وَضَعَهُ ، وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَإِنْ كَانَ مَضْرُوبًا لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَلْفُوفًا كَانَ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كَالْبَابِ الْمَقْلُوعِ إذَا كَانَ فِي الدَّارِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ ، وَإِذَا كَانَ الْفُسْطَاطُ مَضْرُوبًا كَانَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا سَرَقَهُ فَقَدْ سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ ، وَنَفْسُ الْحِرْزِ لَيْسَ فِي الْحِرْزِ فَلَا يُقْطَعُ كَسَارِقِ بَابِ الدَّارِ وَلَوْ كَانَ الْجَوَالِقُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ فَشَقَّ الْجَوَالِقَ ،

وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ حِرْزٌ ؛ لِمَا فِيهِ .
وَإِنْ أَخَذَ الْجَوَالِقَ كَمَا هِيَ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ الْجَمَلَ مَعَ الْجَوَالِقِ ؛ لِأَنَّ الْحِمْلَ لَا يُوضَعُ عَلَى الْجَمَلِ لِلْحِفْظِ ، بَلْ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ لَيْسَ بِمُحْرِزٍ ، وَإِنْ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَكُنْ الْجَمَلُ حِرْزًا لِلْجَوَالِقِ فَإِذَا أَخَذَ الْجَوَالِقَ فَقَدْ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَرَاعِي بَعِيرًا ، أَوْ بَقَرَةً ، أَوْ شَاةً لَمْ يُقْطَعْ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْعَطَنِ ، أَوْ الْمُرَاحِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ يُقْطَعُ إذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ ، أَوْ لَيْسَ مَعَهَا حَافِظٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ فَكَسَرَ الْبَابَ ، ثُمَّ دَخَلَ فَسَرَقَ بَقَرَةً قَادَهَا قَوْدًا حَتَّى أَخْرَجَهَا أَوْ سَاقَهَا سَوْقًا حَتَّى أَخْرَجَهَا ، أَوْ رَكِبَهَا حَتَّى أَخْرَجَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرَاعِيَ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ لِلْمَوَاشِي .
وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ الرَّعْيِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ لَا تُجْعَلُ فِي مَرَاعِيهَا لِلْحِفْظِ ، بَلْ لِلرَّعْيِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مِنْ حِرْزٍ ، بِخِلَافِ الْعَطَنِ ، أَوْ الْمُرَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْصَدُ بِهِ الْحِفْظُ ، وَوُضِعَ لَهُ ، فَكَانَ حِرْزًا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهَا ، وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا } فَإِذَا أَوَاهَا الْمُرَاحُ ، وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهَا الْقَطْعُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ فِي سَرِقَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ مُكَاتَبًا كَانَ الْعَبْدُ ، أَوْ مُدَبَّرًا ، أَوْ تَاجِرًا عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ سَرَقَتْ مِنْ مَالِ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَأْذُونُونَ بِالدُّخُولِ فِي بُيُوتِ سَادَاتِهِمْ لِلْخِدْمَةِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَوْلَاهُمْ حِرْزًا فِي حَقِّهِمْ .
وَذَكَرَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ ، وَالْحَضْرَمِيَّ

جَاءَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعَبْدٍ لَهُ فَقَالَ : اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ فَقَالَ : وَمَا سَرَقَ قَالَ : مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا فَقَالَ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرْسِلْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَلَا قَطْعَ عَلَى خَادِمِ قَوْمٍ سَرَقَ مَتَاعَهُمْ ، وَلَا عَلَى ضَيْفٍ سَرَقَ مَتَاعَ مَنْ أَضَافَهُ ، وَلَا عَلَى أَجِيرٍ سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالدُّخُولِ أَخْرَجَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا الْأَجِيرُ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي أَخْذِهِ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِأَخْذِ الْمَتَاعِ يُورِثُ شُبْهَةَ الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْأَخْذِ فَوْقَ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ ، وَذَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَهَذَا أَوْلَى .
وَلَوْ سَرَقَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمُؤَاجِرِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَنْزِلٍ عَلَى حِدَةٍ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْحِرْزِ .
وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَذَلِكَ يُقْطَعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكُ السَّارِقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي إبَاحَةِ الدُّخُولِ فَيَخْتَلُّ الْحِرْزُ فَلَا قَطْعَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمِلْكِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ إلَّا بِالْإِذْنِ ، قَدْ وُجِدَ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ مَمْنُوعٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَنْزِلِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ .
وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا وِلَادٌ ، أَوْ لَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي الْوَالِدَيْنِ ، وَالْمَوْلُودَيْنِ كَذَلِكَ

فَأَمَّا فِي غَيْرِهِمْ فَيُقْطَعُ ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْعِتْقِ ، وَالنَّفَقَةِ ، قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَادَةً ، وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فَاخْتَلَّ مَعْنَى الْحِرْزِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ .
وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَيُقْطَعُ سِوَاهُ ، وَالْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ عَادَةً ، وَكَذَا هَذِهِ الْقَرَابَةُ لَا تَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْقَطِيعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْعِتْقِ ، وَالنَّفَقَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ ذِي مَحْرَمٍ لَا رَحِمَ لَهُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُقْطَعُ الَّذِي سَرَقَ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّضَاعِ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ ثَابِتَةٌ عُرْفًا ، وَعَادَةً فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ أُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّضَاعِ لَيْسَ إلَّا الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ أُمِّ مَوْطُوءَتِهِ ؛ وَلِهَذَا يُقْطَعُ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ امْرَأَةِ أَبِيهِ ، أَوْ مِنْ زَوْجِ

أُمِّهِ ، أَوْ مِنْ حَلِيلَةِ ابْنِهِ ، أَوْ مِنْ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا ، أَوْ أُمِّهَا يُنْظَرُ إنْ سَرَقَ مَالَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ مَنْ يُضَافُ السَّارِقُ إلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ ، وَأُمِّهِ ، وَابْنِهِ ، وَامْرَأَتِهِ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي مَنْزِلِ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَنْزِلُ حِرْزًا فِي حَقِّهِ .
وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَنْزِلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلٌ عَلَى حِدَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : لَا يُقْطَعُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مَنْزِلِ السَّارِقِ ، أَوْ مَنْزِلِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْقَرَابَةُ ، وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ السَّارِقِ ، وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ فِي الْحِرْزِ شُبْهَةً ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّزَاوُرِ ثَابِتٌ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ قَرِيبِهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْزِلِ لِغَيْرِ قَرِيبِهِ لَا يَقْطَعُ التَّزَاوُرَ ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةِ الدُّخُولِ لِلزِّيَارَةِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْحِرْزِ ، وَلَا قَطْعَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ ، أَوْ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ صَاحِبِهِ ، وَيَنْتَفِعُ بِمَالِهِ عَادَةً ، وَذَلِكَ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْحِرْزِ ، وَفِي الْمِلْكِ أَيْضًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ لَا يُقْطَعُ ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ عَبْدِ صَاحِبِهِ ، أَوْ

أَمَتِهِ ، أَوْ مُكَاتَبِهِ ، أَوْ سَرَقَ عَبْدُ أَحَدِهِمَا ، أَوْ أَمَتُهُ ، أَوْ مُكَاتَبُهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ سَرَقَ خَادِمُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ وَلَوْ سَرَقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا ، أَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مِنْ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَبَانَتْ بِغَيْرِ عِدَّةٍ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ حِينَ ، وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْإِبَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ طَارِئَةٌ ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الطَّارِئُ مُقَارَنًا فِي الْحُكْمِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الِاعْتِبَارِ إسْقَاطُ الْحَدِّ وَقْتَ الِاعْتِبَارِ وَفِي الِاعْتِبَارِ هَهُنَا إيجَابُ الْحَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، أَوْ سَرَقَتْ مُطَلَّقَتُهُ ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا ، أَوْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَثَرُهُ قَائِمٌ ، وَهُوَ الْعِدَّةُ ، وَقِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَقِيَامُهُ مِنْ وَجْهٍ ، أَوْ قِيَامُ أَثَرِهِ يُورِثُ شُبْهَةً .
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ، وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ ، وَإِمَّا أَنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ ؛ لَمْ يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ فِي الْحَدِّ كَالْمُقَارَنِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَصِيرُ طَرَيَان الزَّوْجِيَّةِ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَطْعِ كَقِرَانِهَا ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَا قُضِيَ بِالْقَطْعِ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ .
( وَجْهُ )

قَوْلِهِ : أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ الْقَائِمَةَ عِنْدَ السَّرِقَةِ إنَّمَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ ، وَهِيَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ ، أَوْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ فَالطَّارِئَةُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ مَانِعَةً لَكَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ ، وَإِنَّهَا سَاقِطَةٌ فِي بَابِ الْحُدُودِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ كَالْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْقَضَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ ، ثُمَّ إنَّ الْمَقْذُوفَ زَنَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ ، وَجَعَلَ الزِّنَا الْمُعْتَرِضَ عَلَى الْحَدِّ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الطَّارِئَ عَلَى الْحُدُودِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الطَّرَّارِ إذَا طَرَّ الصُّرَّةَ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ فَطَرَّهَا ؛ يُقْطَعُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ ، وَيُقْطَع ، وَبِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ ، وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ ، وَهُوَ أَنَّ الطَّرَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَطْعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَلِّ الرِّبَاطِ ، وَالدَّرَاهِمُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً فِي بَاطِنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الطَّرُّ بِالْقَطْعِ ، وَالدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُوَ الْكُمُّ .
وَالدَّرَاهِمُ بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً فِي دَاخِلِ الْكُمِّ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ ، فَكَانَ الطَّرُّ أَخْذًا مِنْ الْحِرْزِ ، وَهُوَ الْكُمُّ فَيُقْطَعُ ،

وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ الطَّرُّ بِحَلِّ الرِّبَاطِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حَلَّ الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ بِأَنْ كَانَتْ الْعُقْدَةُ مَشْدُودَةً مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ إذَا حَلَّ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى إدْخَالِ يَدِهِ فِي الْكُمِّ لِلْأَخْذِ يُقْطَعُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ أَصْلًا إذْ لَا تُحْفَظُ الْأَمْوَالُ فِيهِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يُقْطَعُ ، وَلَا حَافِظَ لِلْكَفَنِ لِيُجْعَلَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ فَلَمْ يَكُنْ الْقَبْرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ ، وَلَا بِغَيْرِهِ ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهِ فَلَيْسَ حِرْزًا لِسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي كَوْنِهِ حِرْزًا فَلَا يُقْطَعُ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ ، أَوْ حِرْزُ نَوْعِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ : يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ كَالْإِصْطَبْلِ لِلدَّابَّةِ ، وَالْحَظِيرَةِ لِلشَّاةِ حَقٌّ لَوْ سَرَقَ اللُّؤْلُؤَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُقْطَعُ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا كَانَ حِرْزَ النَّوْعِ يَكُونُ حِرْزًا لِلْأَنْوَاعِ كُلِّهَا ، وَجَعَلُوا سُرَيْجَةَ الْبَقَّالِ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ فَالطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْعُرْفَ ، وَالْعَادَةَ ، وَقَالَ : حِرْزُ الشَّيْءِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ عَادَةً ، وَالنَّاسُ فِي الْعَادَاتِ لَا يُحْرِزُونَ الْجَوَاهِرَ فِي الْإِصْطَبْلِ ، وَالْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ ؛

لِأَنَّ حِرْزَ الشَّيْءِ مَا يَحْرُزُ ذَلِكَ الشَّيْءَ حَقِيقَةً ، وَسُرَيْجَةُ الْبَقَّالِ تَحْرُزُ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ ، وَالْجَوَاهِرَ حَقِيقَةً ، فَكَانَتْ حِرْزًا لَهَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ نِصَابًا ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي أَصْلِ النِّصَابِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا ؟ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ قَدْرِهِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الْحِبَالِ مَا لَا يُسَاوِي دَانَقًا ، وَالْبَيْضَةُ لَا تُسَاوِي حَبَّةً .
( وَلَنَا ) دَلَالَةُ النَّصِّ ، وَالْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، أَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ ، وَالسَّارِقُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى ، وَهُوَ السَّرِقَةُ ، وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لِلْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ ، وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ فِي الِاسْتِخْفَاءِ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ ، وَالْحَبَّةُ لَا خَطَرَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُهَا سَرِقَةً ، فَكَانَ إيجَابُ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ اشْتِرَاطًا لِلنِّصَابِ دَلَالَةً .
( وَأَمَّا ) الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ، وَإِنَّمَا جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي التَّقْدِيرِ ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّقْدِيرِ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ شَرْطٌ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَوْا مِنْ الْحَدِيثِ غَيْرُ ثَابِتٍ ، أَوْ مَنْسُوخٌ ، أَوْ يُحْمَلُ الْمَذْكُورُ عَلَى حَبْلٍ لَهُ خَطَرٌ كَحَبْلِ السَّفِينَةِ ، وَبَيْضَةٍ خَطِيرَةٍ كَبَيْضَةِ الْحَدِيدِ

تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي قَدْرِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا قَطْعَ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِخَمْسَةٍ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِثَلَاثِينَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بِرُبْعِ دِينَارٍ حَتَّى لَوْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ إلَّا حَبَّةً ، وَهُوَ مَعَ نُقْصَانِهِ يُسَاوِي عَشَرَةً لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا يُقْطَعُ وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عِنْدَنَا عَشَرَةٌ ، وَعِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ احْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ الْخَمْسَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُقْطَعُ الْخَمْسَةُ إلَّا بِخَمْسَةٍ } ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا رُوِيَ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } .
وَرُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ : } ، وَهِيَ قِيمَةُ رُبُعِ دِينَارٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ عَلَى أَصْلِهِ مُقَوَّمٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ إلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ } ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57