كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الْحَقِّ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ ، أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ ، أَوْ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ " لِأَنَّهُ أَدْخَلَ أَلِفَ التَّفْضِيلِ وَأَضَافَ إلَى الطَّلَاقِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْوَاقِعَ عَلَى الْحُسْنِ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ طَلَاقٍ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا إذَا قِيلَ : " فُلَانٌ أَعْلَمُ النَّاس " يُوجِبُ هَذَا مَزِيَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً يَقَعُ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً عَدْلَةٌ أَوْ عَدْلِيَّةً أَوْ عَادِلَةً أَوْ سُنِّيَّةً يَقَعُ لِلسُّنَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لِلسُّنَّةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَقَعُ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ غَيْرَ حَائِضٍ جَامَعَهَا فِي طُهْرِهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ طَالِقٌ " تَطْلِيقَةً سُنِّيَّةً ، وَصَفَ التَّطْلِيقَةَ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً ، وَالطَّلَاقُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ فَهُوَ سُنِّيٌّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَبِاقْتِرَانِ الْفَسْخِ بِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي ذَاتِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ كَذَا هَهُنَا ، وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ فِي قَوْلِهِ " حَسَنَةً " أَوْ "

جَمِيلَةً " بِخِلَافِ قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لِلسُّنَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ : هَذَا اللِّجَامُ لِلْفَرَسِ ، وَهَذَا الْإِكَافُ لِهَذِهِ الْبَغْلَةِ وَهَذَا الْقُفْلُ لِهَذَا الْبَابِ ، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ جِنْسُ السُّنَّةِ اقْتَضَى صِفَةَ التَّمَحُّضِ لِلسُّنَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا يَشُوبَهَا بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ فَالسُّنَّةُ الْمَعْهُودَةُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مَا لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا إيقَاعُ طَلَاقٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ سُنِّيًّا مُطْلَقًا فَلَا يَقَعُ إلَّا عَلَى صِفَةِ السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ " كَذَا هَذَا وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ وَبَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالْجَمِيلَةِ ، وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهُ كَقَوْلِهِ سُنِّيَّةً وَعَدْلِيَّةً وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ " حَسَنَةً وَجَمِيلَةً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَذْكُورَةٌ فِي اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ وَالتَّطْلِيقَةُ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ : " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ " وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مِنْ كُلِّ حَيْضَةٍ تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ أَطْهَارُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَقَالَ لَهَا : " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ " لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ لِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلشُّهُورِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ

وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى ، لِأَنَّ الشُّهُورَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ شُهُورُ الْعِدَّةِ .
وَكَذَا الْحَامِلُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ نَوَى - بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ - الْوُقُوعَ لِلْحَالِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيَكُونُ عَلَى مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ أَمَّا فِي لَفْظِ الْأَحْسَنِ وَالْأَجْمَلِ وَالْأَعْدَلِ فَلِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الصِّفَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ إذْ لَا تَفَاوُتَ لِلْأَشْيَاءِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ وَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مُصَدَّقًا وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ إيقَاعُهُ سُنَّةً فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ : قِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَقِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ إنْ نَوَى وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَا يَكُونُ لِلسُّنَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ ، وَقِسْمٌ مِنْهَا مَا يُصَدَّقُ فِيهِ إذَا قَالَ نَوَيْتُ بِهِ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ فِي أَوْقَاتِهَا وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ بَلْ يَقَعُ لِلْحَالِ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْعِدَّةِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعَدْلِ أَوْ طَلَاقَ الدِّينِ أَوْ طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا عَدْلًا أَوْ طَلَاقَ عِدَّةٍ أَوْ

طَلَاقَ سُنَّةٍ أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ طَلَاقَ الْحَقِّ أَوْ طَلَاقَ الْقُرْآنِ أَوْ طَلَاقَ الْكِتَابِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ مَعَ السُّنَّةِ أَوْ عِنْدَ السُّنَّةِ أَوْ عَلَى السُّنَّةِ .
( وَأَمَّا ) الْقِسْمُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لِأَنَّ فِيهِ شَرْعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا فَكَانَ الطَّلَاقُ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَوُقِّفَ عَلَى نِيَّتِهِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْقُضَاةِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أَوْ طَلَاقَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ لَفْظُهُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا يَكْتُبْ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَعَلِمْت مَا فِيهِ ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ،

وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَحْوَطُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ " أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ " وَلِأَنَّ فِيهِ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي صَادَفَهَا الطَّلَاقُ فِيهِ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهَا ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْحَاجَةِ هُوَ الطَّلَاقُ فِي زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ ، وَزَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ سَفَهًا .
إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُشْكِلُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِطَلَاقٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَوْلَى ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الرَّجْعَةِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أُعْتِقَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إذَا أَدْرَكَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْعِنِّينِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي ذَوَاتِ

الْأَقْرَاءِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَمْلِ يَنْدَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَا لِحَاجَةٍ وَفَائِدَةٍ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً وَلِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فَقَدْ قَلَّتْ رَغْبَتُهُ إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ فَهُوَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ أَوْ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْجَمْعِ بِأَنْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكُلُّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا أَعْرِفُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ احْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ وَالْمُفْتَرِقِ وَالْمُجْتَمِعِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ } وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَشْرُوعٌ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْخَلِّ وَالصُّفْرِ وَنِكَاحَ الْأَجَانِبِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهَهُنَا لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ دَلَّ أَنَّهُ

مَشْرُوعٌ وَبِهَذَا عُرِفَتْ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا الْمُجْتَمِعُ .
( وَلَنَا ) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ فِي أَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ وَهُوَ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إيجَابٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ نَدْبٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ نَدْبٍ .
وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْآخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } أَيْ دَفْعَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْطَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُعْطِيَهُ دَفْعَتَيْنِ .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ يَخْرُجُ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَلَى إرَادَةِ الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } أَيْ لَيُرْضِعْنَ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا ، فَصَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ طَلِّقُوهُنَّ مَرَّتَيْنِ إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ نَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجَمْعِ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جِنْسَ الطَّلَاقِ ، وَجِنْسُ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالثَّلَاثُ

إذَا وَقَعَ دَفْعَتَيْنِ كَانَ الْوَاقِعُ فِي دَفْعَةٍ طَلْقَتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطَّلْقَتَيْنِ فِي دَفْعَةٍ مَسْنُونَتَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ أَيْ دَفْعَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أَيْ وَهُوَ الرَّجْعَةُ ، وَتَفْرِيقُ الطَّلَاقِ وَهُوَ إيقَاعُهُ دَفْعَتَيْنِ لَا يَتَعَقَّبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ كُلِّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَهُوَ الثَّلَاثُ ، وَالْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ طَلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَوَضَحَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَعْدَ النَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ هَهُنَا غَيْرًا حَقِيقِيًّا مُلَازِمًا لِلطَّلَاقِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُشَرَّعِ لِمَكَانِ الْحَرَامِ الْمُلَازِمِ لَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالطَّلَاقُ إبْطَالٌ لَهُ وَإِبْطَالُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ وَقَدْ قَالَ

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَهَذَا مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْأَخْلَاقِ وَتَبَايُنِ الطَّبَائِعِ أَوْ لِفَسَادٍ يَرْجِعُ إلَى نِكَاحِهَا بِأَنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَفُوتُهُ بِنِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ أَنَّ الْمُقَامَ مَعَهَا سَبَبُ فَسَادِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَسْتَوْفِيَ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَلَمْ يَنْظُرْ حَقَّ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ قَائِمٌ فَالشَّرْعُ وَالْعَقْلُ يَدْعُوَانِهِ إلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً حَتَّى أَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الصَّلَاحِ إذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتُوبُ نَظَرَ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا ؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُرَاجِعْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُطَلِّقْهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي ثَانِيًا وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَخْرُجُ نِكَاحُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَالِبًا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِ نِكَاحِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَصَيْرُورَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ الْغَضَبِ ؛ وَلَيْسَتْ حَالَةُ الْغَضَبِ حَالَةَ التَّأَمُّلِ ؛ لَمْ يَعْرِفْ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فَكَانَ الطَّلَاقُ إبْطَالًا لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ مَفْسَدَةً .
وَالثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مَسْنُونٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَكَانَ الطَّلَاقُ قَطْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَفْوِيتًا

لِلْوَاجِبِ فَكَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لِلتَّخْلِيصِ وَالتَّأْدِيبُ يَحْصُلُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَإِذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَتَأَدَّبُ وَتَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالصَّلَاحِ ، وَالتَّخْلِيصُ يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَالثَّابِتُ بِالرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ صَارَ مَقْضِيًّا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْ نَدَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ رَغْبَةً فِيهَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالنِّكَاحِ فَيَقَعُ فِي السِّفَاحِ فَكَانَ فِي الْجَمْعِ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ ذَلِكَ ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّدَارُكِ بِالرَّجْعَةِ وَبِخِلَافِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَقِّبُ النَّدَمَ ظَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي الْأَطْهَارِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ .
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَنَا تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ ، وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلْعِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي الطَّلَاقِ الْوَاحِدِ الْبَائِنِ

رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَذَكَرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ لَا يُفَارِقُ الرَّجْعِيَّ إلَّا فِي صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ ، وَصِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لَا تُنَافِي صِفَةَ السُّنَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنَةً وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَذَا الْخُلْعُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ بَائِنٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَائِنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالرَّجْعِيِّ فَكَانَ الْبَائِنُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً وَلِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ لِاحْتِمَالِ النَّدَمِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُرَاجَعَةُ وَرُبَّمَا لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ فَيَتْبَعَهَا بِطَرِيقٍ حَرَامٍ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِحَاجَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بَائِنًا فَكَانَ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْخُلْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بِصِفَةِ الْإِبَانَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا ؟ وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ الْجُنَاحَ فِي الْخُلْعِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا مُطْلَقًا ، ثُمَّ الْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ؛ فَيُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَالَةِ

الْحَيْضِ لِمَكَانِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا كَوْنُهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي الْعَدَدِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا يَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْكُلِّ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ ، أَوْ طَلَاقَ الْجَوْرِ أَوْ طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا ، فَهُوَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَالْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ بِدْعَةٌ ، وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ بِدْعَةٌ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَمْ يُجْعَلْ لَهَا وَقْتٌ فِي الشُّرُوعِ لِتَنْصَرِفَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَلْغُو قَوْلُهُ لِلْبِدْعَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْجَوْرِ أَوْ طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ وَنَوَى الثَّلَاثَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَقَعْ لِلْحَالِ مَا لَمْ تَحِضْ أَوْ يُجَامِعْهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّهُ لَا يَقَعُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا وِلَايَةَ الْإِيقَاعِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ؛ وَمَنْ جُعِلَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ إذَا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بَعْضَ آبَائِهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَانَتْ بِالثَّلَاثِ فِي مَعْصِيَةٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إنَّ أَحَدَكُمْ يَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ فَيُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أَلْفَا ثُمَّ يَأْتِي فَيَقُولُ : " يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَا أَجِدُ لَك مَخْرَجًا بَانَتْ امْرَأَتُك وَعَصَيْتَ رَبَّك وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَتْ قَضَايَاهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُمْ : إنَّ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّلَاقَ نَفْسَهُ مَشْرُوعٌ عِنْدَنَا مَا فِيهِ حَظْرٌ ، وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَسَادِ وَالْوُقُوعِ فِي الزِّنَا وَالسَّفَهِ

وَتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنْ مُنِعَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَلِيَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَلِيَ لِأَنَّهُ مَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَلِيَ إيقَاعَهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ إلَّا أَنَّهُ بِهَذَا الطَّلَاقِ بَاشَرَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا وَارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْمَشْرُوعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَظَائِرِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ تَوْكِيلٌ بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ لَا يَتَضَمَّنُهُ ارْتِكَابُ حَرَامٍ بِوَجْهٍ ، فَإِذَا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ فَقَدْ أَتَى بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ يُلَازِمُهُ حَرَامٌ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَقَعُ فَهُوَ الْفَرْقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الزَّوْجَانِ إمَّا إنْ كَانَا حُرَّيْنِ وَإِمَّا إنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ وَإِمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ ، فَالْحُرُّ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ فَالْعَبْدُ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَمْ بِحَالِ الْمَرْأَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : يُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ .
وَالْحُرُّ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُ قَوْلِهِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ أَيِّهِمَا كَانَ رَقِيقًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } وَالْمُرَادُ مِنْهُ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ فِي الْقَدْرِ وَالْعَدَدِ لَا الْإِيقَاعُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْكِلُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : يُطَلِّقُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ

تَحْتَهُ أَمَةٌ أَوْ حُرَّةٌ .
وَلِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الْحِلِّ لِكَوْنِ الْحِلِّ نِعْمَةً وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ لَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَرْقُوقَةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ رِقُّهَا فِي نُقْصَانِ الْحِلِّ .
( وَلَنَا ) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْحُرَّةِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حِلَّ الْحُرَّةِ يَزُولُ بِالثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْحُرَّةِ قَرَائِنُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ الِافْتِدَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أَيْ يَتَنَاكَحَا بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَذَا فِي الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَاقَ جِنْسِ الْإِمَاءِ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ الْجِنْسِ عَلَى الْإِمَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ : طَلَاقُ كُلِّ أَمَةٍ ثِنْتَانِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ عِنْدَ

ذَلِكَ تَصِيرُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَزْدَوِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ يُوَافِقُهُ فَتَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ احْتِمَال النَّدَمِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُشَرَّعْ طَلَاقٌ آخَرُ حَتَّى يَتَأَمَّلَ الزَّوْجُ فِيهِ رُبَّمَا يَنْدَمُ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَا فِي الْحُرَّةِ إذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ وَعَبْدٍ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ وَإِبَانَةً لِشَرَفِهِ ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ فِي الْأَمَةِ فِي الشَّرَفِ وَالْخَطَرِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ لِأَنَّ شَرَفَ النِّكَاحِ وَخَطَرَهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْهَا الْوَلَدُ وَالسَّكَنُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ دُونَهُمَا فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الرَّقِيقَةِ رَقِيقٌ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوَلَدِ الِاسْتِئْنَاسُ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالدَّعْوَةُ الصَّالِحَةُ فِي الْعُقْبَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْوَلَدِ الرَّقِيقِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْمَرْقُوقِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَكَذَا سُكُونُ نَفْسِ الزَّوْجِ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ سُكُونِهِ إلَى امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَتْ الطَّلْقَةُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ زَوَالُ الْحِلِّ وَهُوَ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحِلِّ وَحِلُّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنْقِصُ الْحِلَّ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ ؛

وَهِيَ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ ، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي نُقْصَانِ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا أَثَرٌ فِي نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ حَتَّى يَمْلِكَ الْحُرُّ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ إلَّا بِامْرَأَتَيْنِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمَا غَرِيبَانِ ثُمَّ إنَّهُمَا مِنْ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِهِ ثُمَّ نَقُولُ : لَا حُجَّةَ فِيهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ } إلْصَاقُ الِاسْمِ بِالِاسْمِ فَيَقْتَضِي مُلْصَقًا مَحْذُوفًا ، وَالْمُلْصَقُ الْمَحْذُوفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيقَاعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاعْتِبَارُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ وَقَوْلُهُ : " الْإِيقَاعُ لَا يُشْكِلُ " مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الِانْعِقَادِ وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ عَقْدٍ - كَانَ انْعِقَادُهُ بِعَاقِدَيْنِ - أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُ بِهِمَا أَيْضًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَقَاصِدِ فَيُشْكِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِيقَاعُ بِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ فَحَلَّ الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ " الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ " وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُطَلِّقُ ثِنْتَيْنِ وَهَذَا لَا يَنْفِي الثَّالِثَةَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ } إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْأَمَةِ وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَلَوْ مَلَكَ الثَّالِثَةَ عَلَيْهَا لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ " مَالُ فُلَانٍ دِرْهَمَانِ " أَنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ الْحِلَّ فِي جَانِبِهَا لَيْسَ بِنِعْمَةٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ

نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا أَيْضًا ، لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ وَالْمِلْكُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي هِيَ نِعَمٌ ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ الطَّلَاقِ فَرُكْنُ الطَّلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الطَّلَاقِ لُغَةً وَهُوَ التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ وَرَفْعُ الْقَيْدِ فِي الصَّرِيحِ وَقَطْعُ الْوَصْلَةِ وَنَحْوُهُ فِي الْكِنَايَةِ أَوْ شَرْعًا ، وَهُوَ إزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي النَّوْعَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ أَمَّا اللَّفْظُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكِنَايَةِ : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُكِ أَوْ يَقُولَ فِي الصَّرِيحِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى إلَّا أَنَّ التَّطْلِيقَ وَالطَّلَاقَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَرْأَةِ خَاصَّةً وَالْإِطْلَاقُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا يُقَالُ فِي الْمَرْأَةِ طَلَّقَ يُطَلِّقُ تَطْلِيقًا وَطَلَاقًا وَفِي الْبَعِيرِ وَالْأَسِيرِ وَنَحْوِهِمَا يُقَالُ أَطْلَقَ يُطْلِقُ إطْلَاقًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللُّغَةِ وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَمَا يُقَالُ حَصَانٌ وَحِصَانٌ وَعَدِيلٌ وَعَدْلٌ فَالْحَصَانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْأَةِ وَبِالْخَفْضِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرَسِ وَإِنْ كَانَا يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ لُغَةً وَهُوَ الْمَنْعُ .
وَالْعَدِيلُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْآدَمِيِّ وَالْعَدْلُ فِيمَا سِوَاهُ ، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْمُعَادَلَةِ فِي اللُّغَةِ كَذَا هَذَا ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ مُخَفِّفًا يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِي إثْبَاتِ الِانْطِلَاقِ عَنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَيْدِ الْحُكْمِيِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيَسْتَوِي فِي الرُّكْنِ ذِكْرُ التَّطْلِيقَةِ وَبَعْضِهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً وَهَذَا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ الرَّأْيُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ لَا يَكُونُ تَطْلِيقَةً

حَقِيقَةً بَلْ هُوَ بَعْضُ تَطْلِيقَةٍ وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَالْعَفْوِ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ أَنَّهُ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْكُلِّ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَنِصْفَ أَوْ وَاحِدَةً وَثُلُثَ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْبَعْضَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَضَافَ النِّصْفَ إلَى الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْوَاقِعُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ ثَانِيًا وَهُنَا ذَكَرَ نَصًّا مُنَكَّرًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى وَاقِعٍ فَيَكُونُ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى .
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ هَذَا إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى ، كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الْعَدَدُ عَنْ وَاحِدَةٍ لَوْ جُمِعَ ذَلِكَ فَهُوَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَجَاوَزَ بِأَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعَهَا وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا ؛ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ ، فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ تَطْلِيقَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَوْ كَانَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَالَ بَيْنَكُنَّ

تَطْلِيقَةٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إذَا انْقَسَمَتَا بَيْنَ الْأَرْبَعِ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ ، وَنِصْفُ التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُقَسِّمُ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بِحِيَالِهَا عَلَى الْأَرْبَعِ فَيَلْزَمُ تَطْلِيقَتَانِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ هَكَذَا بَلْ جَعَلَ التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَالْقِسْمَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ يَقَعُ عَلَى جُمْلَتِهِ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْآحَادُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مُتَفَاوِتًا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَطْلِيقَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بَيْنَهُنَّ يَكُونُ عَلَى مَا نَوَى وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ : بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْخَمْسَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ ؛ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَكُونُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَعَلَى هَذَا مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ إلَى ثَمَانِيَةٍ .
فَإِنْ قَالَ بَيْنَكُنَّ تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ وَقَعَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ التِّسْعَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ ، وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ فِي تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ إنَّ هَذَا وَقَوْلُهُ بَيْنَكُنَّ سَوَاءٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبَيْنِ تُنْبِي عَنْ الشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ "

بَيْنَكُنَّ " كَذَا مَعْنَاهُ أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ كَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ فِي طَلَاقِهَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْرَكْتُك فِي طَلَاقِهَا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي الْوَاقِعِ وَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي الْوَاقِعِ إلَّا بِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُ التَّطْلِيقَةِ الْوَاقِعَةِ عَنْهَا وَإِيقَاعُهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَزِمَتْ الشَّرِكَةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَهَذَا يُوجِبُ وُقُوعَ تَطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَسَوَاءٌ كَانَ مُبَاشَرَةُ الرُّكْنِ مِنْ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَكَانَ فِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَأَمَّا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَالْكِتَابَةُ وَالْإِشَارَةُ عَلَى مَا نُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ أَمَّا .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ كَوْنَ التَّصَرُّفِ مَصْلَحَةً وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمْ : إنَّ عَقْلَهُ زَائِلٌ وَالْعَقْلُ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَاَلَّذِي زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ كَذَا هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ أَوْلَى .
( وَلَنَا ) عُمُومُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ ؛ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُنَزَّلُ قَائِمًا عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ إنْسَانَا أَوْ قَتَلَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ وَأَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ دَلَّ أَنَّ عَقْلَهُ جُعِلَ قَائِمًا وَقَدْ

يُعْطَى لِلزَّائِلِ حَقِيقَةَ حُكْمِ الْقَائِمِ تَقْدِيرًا إذَا زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَيُجْعَلُ الْمُوَرِّثُ حَيًّا زَجْرًا لِلْقَاتِلِ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ لِأَنَّهُ مَا زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ اسْتِحْسَانًا نَظَرًا لَهُ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقْلِ تَقْدِيرًا بَعْدَ زَوَالِهِ حَقِيقَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَيْهِ طَبْعًا ، وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْقَاءِ عَقْلِهِ فِيهَا لِلزَّجْرِ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ تَقْدِيرًا تَقْتَضِي زَوَالَ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَكِنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ لَذَّةٌ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا حَتَّى سَكِرَ أَوْ شَرِبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ فَسَكِرَ قَالُوا : إنْ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِلَذَّةٍ فَيُجْعَلُ قَائِمًا وَيُلْحَقُ الْإِكْرَاهُ وَالِاضْطِرَارُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ شَرِبَ طَائِعًا حَتَّى سَكِرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ وَلَكِنْ صُدِّعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ عَقْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بِلَذَّةٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَكَذَلِكَ إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمَيًا عَلَيْهِ وَلَا نَائِمًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ هَؤُلَاءِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَجْنُونِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ خُرُوجِ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالصَّبِيُّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَتَأَمَّلُ فَلَا يَعْرِفُ .

وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حَتَّى يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ { أَنَّ امْرَأَةً اعْتَقَلَتْ زَوْجَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ فَوَضَعَتْهَا عَلَى حَلْقِهِ ، وَقَالَتْ : لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَوْ لَأُنْفِذَنَّهَا فَنَاشَدَهَا اللَّهَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ } .

وَكَذَا كَوْنُهُ جَادًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْهَازِلِ بِالطَّلَاقِ وَاللَّاعِبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، وَرُوِيَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَزِمَهُ } .
وَقِيلَ فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَقَالَ إنِّي كُنْت لَاعِبًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْهُ } .

وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَبِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمُسْتَبِينَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةَ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ .

وَكَذَا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ شَارِطِ الْخِيَارِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ } وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَشَرْطٌ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِهَا الْمَالُ فَكَانَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا ، فَيُمْنَعُ انْعِقَادُ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ .

وَكَذَا صِحَّةُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَا إسْلَامُهُ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْكُفْرَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الطَّلَاقِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَقَعَ طَلَاقُ الْخَاطِئِ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا الْقَصْدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ وَاللَّاعِبِ بِالطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ لِمَا قُلْنَا فِي الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ فِي الْعَتَاقِ رِوَايَتَيْنِ فَإِنَّ هِشَامًا رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اسْقِينِي مَاءً فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَقَعْ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَنَدِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ ثَبَتَ بِسَبَبٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَعَلَى ذَلِكَ زَوَالُهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ مُخْتَلِفٌ فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ زَوَالُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُشْرَطُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يُشْرَطُ لِزَوَالِهِ ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالثُّبُوتِ عَلَى الزَّوَالِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا النِّيَّةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي .
بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ التَّطْلِيقِ مِثْلُ قَوْلِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ " أَنْتِ الطَّلَاقُ ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ " مُشَدَّدًا ، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ صَرِيحًا ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ : صَرَّحَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ أَيْ : كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ ، وَسُمِّيَ الْبِنَاءُ الْمُشْرِفُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ظَاهِرَةُ الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ؛ إذْ النِّيَّةُ عَمَلُهَا فِي تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ وَلَا إبْهَامَ فِيهَا .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } مُطْلَقًا .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } ، حَكَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِزَوَالِ الْحِلِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ وَرَوَيْنَا : " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ؟ .
وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ وَلَا مُرَاجَعَةَ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ

نِيَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ : أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ .
وَكَذَا لَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِهِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَقَالَ : أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَصْلًا فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَقَالَ : نَوَيْتُ الطَّلَاقَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَيْدٍ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَقِيقَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِنْ صَرَّحَ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ أَيْضًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ أَطْلَقُ مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْكَلَامِ

أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ : أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا حَتَّى لَا يَجِبُ الْحَدُّ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وُقِفَ عَلَى النِّيَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَخَفَّفَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْطِلَاقَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي قَيْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَبْسِ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فَوَقَفَ عَلَى النِّيَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُونِي طَالِقًا أَوْ أَطْلِقِي .
قَالَ : أَرَاهُ وَاقِعًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { : كُنْ فَيَكُونُ } إنَّ قَوْلَهُ : كُنْ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّكْوِينِ وَلَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَكَذَا قَوْلُهُ : " اُطْلُقِي " وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُونِي حُرَّةً أَوْ عَتْقَى وَلَوْ قَالَ : يَا مُطَلَّقَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً وَلَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً إلَّا بِالتَّطْلِيقِ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ الشَّتْمَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى فِيمَا هُوَ وَصْفٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا فَكَانَ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِمِثْلِهِ الشَّتْمُ وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ ، فَقَالَ : عَنَيْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ دِينَ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَتَهُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ، فَالنِّيَّةُ

صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ فَانْصَرَفَ الْوَصْفُ إلَى كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لَهُ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ : قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ، أَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ طَلَّقْتُكِ يَقَعُ ثِنْتَانِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْوُقُوعِ ، وَلَوْ قَالَ : عَنَيْتُ بِالثَّانِي الْإِخْبَارَ عَنْ الْأَوَّلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ فَصَرْفُهَا إلَى الْإِخْبَارِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ صِيغَتَهَا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا قُلْتَ ؟ فَقَالَ : طَلَّقْتُهَا أَوْ قَالَ قُلْتُ : هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ انْصَرَفَ إلَى الْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِخْبَارِ .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي فَارِسِيٍّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : بهشتم إنْ زن ، أَوْ قَالَ : إنْ زن بهشتم ، أَوْ قَالَ : بهشتم لَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ خَلَّيْتُ ، وَقَوْلُهُ : خَلَّيْتُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، فَكَذَا هَذَا اللَّفْظُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ : خَلَّيْتُ يَقَعُ بَائِنًا ، وَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَقَعُ رَجْعِيًّا ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي لُغَتِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فَلَا

تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ .
وَالثَّانِي قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : خَلَّيْتُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَا يُدَيَّنَ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَوْ قَالَ : مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أُقِيمَ مَقَامَ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ التَّخْلِيَةِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : إنْ نَوَى بَائِنًا يَكُونُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ : خَلَّيْتُ وَنَوَى الْبَائِنَ أَوْ الثَّلَاثَ وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ يَكُونُ وَاحِدَةً ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : خَلَّيْتُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا يَكُونُ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بِخِلَافِ لَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا قَالَ : بهشتم إنْ زن ، أَوْ قَالَ : إنْ زن بهشتم هِيَ طَالِقٌ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ وَيَكُونُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَطَ الْعَجَمَ وَدَخَلَ جُرْجَانَ فَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي لُغَتِهِمْ صَرِيحٌ قَالَ : وَإِنْ قَالَ : بهشتم ، وَلَمْ يَقُلْ : إنْ زن ، فَإِنْ قَالَ : ذَلِكَ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ أَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُدَيَّنُ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ قَالَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ بهشتم خَلَّيْتُ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : خَلَّيْتُ إضَافَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَلَا إلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِقَرِينَةِ نِيَّةٍ أَوْ بِدَلَالَةِ حَالٍ ، وَحَالُ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ قَالَ : وَإِنْ نَوَى بَائِنًا فَبَائِنٌ .
وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي الْفَارِسِيَّةِ فَمَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ

فِي الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيْنُونَةِ وَالثَّلَاثِ كَلَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ فَجَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ - فِي قَوْلِهِ : بهشتم إنْ زن ، أَوْ إنْ زن بهشتم - إنَّ هَذَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ - فِي قَوْلِهِ : بهشتم إنَّهُ - إنْ كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ وَلَا يُدَيَّنُ ؛ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ : أَنْتِ مُخَلَّاةٌ أَوْ قَدْ خَلَّيْتُكِ .
وَقَالَ زُفَرُ : إذَا قَالَ بهشتم وَنَوَى الطَّلَاقَ بَائِنًا أَوْ غَيْرَ بَائِنٍ فَهُوَ بَائِنٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَانِ وَأُجْرِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَجْرَى قَوْلِهِ : خَلَّيْتُ ، وَلَوْ قَالَ : خَلَّيْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ نَوَى الْبَيْنُونَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ اثْنَتَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ فَكَذَا هَذَا .
هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ ، وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا لَفْظٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ فَذَلِكَ اللَّفْظُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا : دها كنم أَوْ فِي عُرْفِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بهشتم ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَمَا كَانَ فِي الْفَارِسِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْفَارِسِيَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ كِنَايَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الْإِبَانَةَ فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْبَيْنُونَةَ بِهَذَا

اللَّفْظِ مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِذَا نَوَى إبَانَتَهَا لِلْحَالِ مُعَجَّلًا فَقَدْ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لَغَتْ نِيَّتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : " طَالِقٌ " مُشْتَقٌّ مِنْ الطَّلَاقِ كَالضَّارِبِ وَنَحْوِهِ ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ الْمَعَانِي ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الضَّارِبُ بِلَا ضَرْبٍ وَالْقَاتِلُ بِلَا قَتْلٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّالِقُ بِلَا طَلَاقٍ ؟ فَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ مِنْهُ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الطَّلَاقِ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ ، وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَامْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ } أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِلْمُطَلِّقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ عِنْدَ مُطْلَقِ التَّطْلِيقِ إلَّا بِمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا : اسْقِينِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ نَوَى الثَّلَاثَ ، وَقَوْلُهُ : طَالِقٌ لَا يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ طَالِقٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ ، وَذَاتُهَا وَاحِدٌ ، وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ ثَبَتَ مُقْتَضَى الطَّالِقِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا ؛ لِأَنَّ الطَّالِقَ بِدُونِ الطَّلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ كَالضَّارِبِ بِدُونِ الضَّرْبِ ، وَهَذَا الْمُقْتَضَى غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ عَدَمًا فِيمَا

وَرَاءَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ .
وَذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ ضَرُورَةً أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ قَبُولِ النِّيَّةِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ مُقْتَضَاهُ الْبَيْنُونَةُ ، وَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَكَانَ اسْمُ الْبَائِنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ كَاسْمِ الْجَالِسِ ؛ يُقَالُ : جَلَسَ أَيْ : قَعَدَ وَيُقَالُ جَلَسَ أَيْ : أَتَى نَجْدًا فَكَانَ الْجَالِسُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْجُلُوسُ ، فَكَذَا الْبَائِنُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِمُعَيَّنٍ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ عَيَّنَ إحْدَى نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : " طَالِقٌ " لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الطَّلَاقِ ، وَالطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَنَوَّعُ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْقَيْدِ ، وَالْقَيْدُ نَوْعٌ وَاحِدٌ .
وَالثَّانِي : إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ صَارَ مَذْكُورًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ قَيْدِ النِّكَاحِ ؛ وَالْقَيْدُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا ضَرُورَةً فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى الْعَدَدَ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الثَّلَاثُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً .

وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : طَالِقٌ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فَكَانَ قَوْلُهُ : " طَلَاقًا " تَنْصِيصًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الطَّالِقُ فَكَانَ تَأْكِيدًا كَمَا يُقَالُ : قُمْت قِيَامًا وَأَكَلْت أَكْلًا ، فَلَا يُفِيدُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْمُؤَكِّدُ وَهُوَ قَوْلُهُ : " طَالِقٌ " فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَوْلَهُ : - " طَلَاقًا " - مَصْدَرٌ فَيَحْتَمِلُ كُلَّ جِنْسِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وَصَفَ الثُّبُورَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِالْكَثْرَةِ ، وَالثَّلَاثُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ ، وَهَهُنَا أَمْكَنَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ : طَالِقٌ طَلَاقًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ ، ثُمَّ الشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ وَاحِدًا مِنْ النَّوْعِ كَزَيْدٍ مِنْ الْإِنْسَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ كَالْإِنْسَانِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَلَا تُوجَدُ فِي الِاثْنَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَلَا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ فَكَانَ عَدَدًا مَحْضًا فَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظَةُ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا النِّكَاحِ ، وَكُلُّ جِنْسٍ مِنْ الْأَفْعَالِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ

مَتَى عَدَّدْتَ الْأَجْنَاسَ تَعُدُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْأَجْنَاسِ ، كَالضَّرْبِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْفِعْلِ .
وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ عَلَى التَّقْسِيمِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا نَذَرَ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ : هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ : مَضْرُوبُهُ وَهَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لَلَغَا كَلَامُهُ ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَصَحَّ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَتَّبِعُ الْمَذْكُورَ ، وَالْمَذْكُورَ يُلَازِمُ الْجِنْسَ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ الطَّالِقُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ : أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ ، .
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا ، فَلَا يُتَبَيَّنُ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَلَاقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ الطَّلَاقُ .
وَحُكِيَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ : فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ وَإِنْ تَخْرَقِي يَا هِنْدُ فَالْخُرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ قَالَ : وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَلَاقٌ ، وَصَارَ قَوْلُهُ : وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ بِالْأَوَّلِ ، وَإِنْ قَالَ : وَالطَّلَاقُ

عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا طَلَقَتْ ثَلَاثًا ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ فِي الْحَالِ تَفْسِيرُ الْمُوقَعَ فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَنَوَى الثَّلَاثَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَعَرَّفَهُ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ وَهُوَ الثَّلَاثُ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامه فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِقَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ صِيغَتُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ لَازِمًا ، وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ مَحْضٌ لَا تُوجَدُ فِيهِ بِوَجْهٍ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلتَّوْحِيدِ ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الثَّلَاثَ مِنْ حَيْثُ التَّوْحِيدُ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ ، وَكُلُّ الْجِنْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ وَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَرَّفَ الْمَصْدَرَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لَكِنَّهُ انْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَحْظُورٌ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَحْظُورَ فَانْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ إنْ نَوَى كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ لِدَلَالَةِ الْحَالِ كَذَا هَذَا ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْت بِقَوْلِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً ، وَبِقَوْلِي : الطَّلَاقُ أَوْ

طَلَاقًا أُخْرَى صُدِّقَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ إيقَاعًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقٌ يَقَعُ أَيْضًا ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ حَتَّى لَوْ قَالَتْ : طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَصِيرُ مَذْكُورًا فِي الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَصِّلِي طَلَاقًا ، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا ، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ فَكَانَ مَعْنَى التَّوَحُّدِ فِيهِ مُنْعَدِمًا أَصْلًا وَرَأْسًا ؛ فَلَا يَحْتَمِلُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : قَدْ جَعَلْتُ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أَوْقَعْتُهَا عَلَيْك ثَلَاثًا أَوْ قَالَ قَدْ جَعَلْتُهَا بَائِنًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ قَالَ : أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ ثَلَاثًا وَيَكُونُ بَائِنًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَلَا بَائِنًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ شَرْعًا بِصِفَةٍ لَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً لَا تَصِيرُ وَاحِدَةً ؟ وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَجَعَلَهَا رَجْعِيَّةً لَا تَصِيرُ رَجْعِيَّةً لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَهَا الْبَيْنُونَةُ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ

عِدَّتُهَا تَصِيرُ بَائِنَةً فَجَازَ تَعْجِيلُ الْبَيْنُونَةِ فِيهَا أَيْضًا ، .
فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَصِيرَ ثَلَاثًا أَبَدًا فَلَغَا قَوْلَهُ : جَعَلْتُهَا ثَلَاثًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ هَذِهِ التَّطْلِيقَةِ بَائِنَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَمْلِكُ إلْحَاقَهَا بِالْبَائِنَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبَانَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُهَا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَمَعْنَى " جَعْلِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثًا " أَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَا تَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاحِدَ ثَلَاثًا

( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا ) الْكِنَايَةُ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ هُوَ كِنَايَةٌ بِنَفْسِهِ وَضْعًا ، وَنَوْعٌ هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا فِي حَقِّ النِّيَّةِ ، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ خَلِيَّةٌ بِرِئِيَّةٍ بَتَّةٌ أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ سَرَّحْتُكِ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ فَارَقْتُكِ خَالَعْتكِ - وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ - لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَنْتِ حُرَّةٌ قَوْمِي اُخْرُجِي اُغْرُبِي انْطَلِقِي انْتَقِلِي تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي تَزَوَّجِي ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ الْحَقِي بِأَهْلِك وَنَحْوُ ذَلِكَ .
سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةً ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمَ لَفْظٍ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ السَّامِعِ ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : " بَائِنٌ " يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ ، وَقَوْلُهُ : " حَرَامٌ " يَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : " خَلِيَّةٌ " مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلُوِّ فَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الزَّوْجِ وَالنِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ ، وَقَوْلُهُ " بَرِيئَةٌ " مِنْ الْبَرَاءَةِ فَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ وَقَوْلُهُ : " بَتَّةٌ " مِنْ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ عَنْ الشَّرِّ ، وَقَوْلُهُ : " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " يُحْتَمَلُ فِي الطَّلَاقِ .
وَيُحْتَمَلُ فِي أَمْرٍ آخَرَ مِنْ الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : " اخْتَارِي " يَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ : " اعْتَدِّي " أَمْرٌ

بِالِاعْتِدَادِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَدَدِ أَيْ اعْتَدِّي نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكِ وَقَوْلُهُ " اسْتَبْرِئِي رَحِمَك " أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ طَهَارَتُهَا عَنْ الْمَاءِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الِاعْتِدَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ لَأُطَلِّقكِ وَقَوْلُهُ " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ صِفَةَ الطَّلْقَةِ أَيْ : طَالِقٌ وَاحِدَةً أَيْ : طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ التَّوْحِيدَ فِي الشَّرَفِ أَيْ : أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي الشَّرَفِ ، وَقَوْلُهُ " خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ " يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ لِزِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ ، وَقَوْلُهُ " سَرَّحْتُك " يَعْنِي خَلَّيْتُكِ يُقَالُ : سَرَّحْتُ إبِلِي وَخَلَّيْتهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ ، وَقَوْلُكَ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِك اسْتِعَارَةٌ عَنْ التَّخْلِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ إذَا أُلْقِيَ حَبْلُهُ عَلَى غَارِبِهِ فَقَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ ، وَقَوْلُهُ " فَارَقْتُكِ " يَحْتَمِلُ الْمُفَارَقَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْمُفَارِقَةَ عَنْ الْمَكَانِ وَالْمَضْجَعِ وَعَنْ الصَّدَاقَةِ ، وَقَوْلُهُ " خَالَعْتكِ " وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ يَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْهَجْرِ عَنْ الْفِرَاشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : " لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ " يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : " لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ " يَحْتَمِلُ مِلْكَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ مِلْكَ الْبَيْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ : لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَيْ : لَا أَتَزَوَّجُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك أَيْ : لَا أَطَؤُكِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَقَوْلُهُ : أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ

الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : " قُومِي " وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي يَحْتَمِلُ أَيْ : افْعَلِي ذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ طَلُقْتِ .
وَالْمَرْأَةُ إذَا طَلُقَتْ مِنْ زَوْجِهَا تَقُومُ وَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَتَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ ، وَيَحْتَمِلُ التَّقَيُّدَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ : " اُغْرُبِي " عِبَارَةٌ عَنْ الْبُعْدِ أَيْ : تَبَاعَدِي فَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ الْفِرَاشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : انْطَلِقِي وَانْتَقِلِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّهَا تَنْطَلِقُ وَتَنْتَقِلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا طَلُقَتْ وَيَحْتَمِلُ الِانْطِلَاقَ وَالِانْتِقَالَ إلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : " تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي " أَمْرٌ بِالتَّقَنُّعِ وَالِاسْتِتَارِ فَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّهَا إذَا طَلُقَتْ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ وَسَتْرُ أَعْضَائِهَا بِالثَّوْبِ عَنْ زَوْجِهَا ، وَيَحْتَمِلُ تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَيْ : كُونِي مُتَقَنِّعَةً وَمَسْتُورَةً لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُ أَجْنَبِيٍّ عَلَيْكِ ، وَقَوْلُهُ : تَزَوَّجِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ تَزَوَّجِي إنْ طَلَّقْتُكِ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ .
وَقَوْلُهُ الْحَقِي بِأَهْلِك يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا إذَا صَارَتْ مُطَلَّقَةً ، وَيَحْتَمِلُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَ الطَّلَاقِ فَقَدْ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وَهِيَ قَوْلُهُ : سَرَّحْتُكِ ، وَفَارَقْتُكِ ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : قَوْلُهُ : سَرَّحْتُكِ وَفَارَقْتُكِ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِمَا إلَّا بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُمَا صَرِيحَانِ لَا

يَفْتَقِرَانِ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ ، وَقَوْلُهُ : " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " مِنْ الْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ نَوَى ( أَمَّا ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
وَالتَّسْرِيحُ هُوَ التَّطْلِيقُ وقَوْله تَعَالَى { : فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَالْمُفَارَقَةُ هِيَ التَّطْلِيقُ ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ : الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلَّقْتُكِ كَانَ صَرِيحًا فَكَذَا إذَا قَالَ : سَرَّحْتُكِ أَوْ فَارَقْتُكِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَمَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْمُرَادِ ، بَلْ يَكُونُ مُسْتَتِرَ الْمُرَادِ وَلَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ يُقَالُ : سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ صَدِيقِي فَكَانَ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِمَا : إنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ طَلَاقٌ ، لَكِنْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لَا صَرِيحًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّرِيحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الْوَاحِدَةَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ : طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهَذَا شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ أَعْطَيْته جَزِيلًا وَضَرَبْتُهُ وَجِيعًا أَيْ : عَطَاءً جَزِيلًا وَضَرْبًا وَجِيعًا ؛ وَلِهَذَا يَقَعُ الرَّجْعِيُّ عِنْدَنَا دُونَ الْبَائِنِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا

فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ " وَاحِدَةً " بِالْوَقْفِ وَلَمْ يُعْرِبْ .
فَأَمَّا إذَا أَعْرَبَ الْوَاحِدَةَ فَلَا خِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ إنْ رَفَعَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةَ الشَّخْصِ وَإِنْ نَصَبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَهَا وَلَمْ يُعْرِبْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَوْضِعَ الرَّفْعِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : أَنْتِ وَاحِدَةٌ أَيْ : أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ النِّكَاحِ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ : إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَهْتَدُونَ إلَى هَذَا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجَوَاهُ .
وَهَلْ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ ؟ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ وَإِمَّا إذَا كَانَتْ حَالَةَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ ، وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ قَضَاءً .
وَإِنْ كَانَتْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ أَوْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ قَالُوا : إنَّ الْكِنَايَاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ : فِي قِسْمٍ مِنْهَا لَا

يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا فِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وَلَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ وَلَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ( أَمَّا ) الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ : " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " " اخْتَارِي " " اعْتَدِّي " " اسْتَبْرِئِي رَحِمَك " " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ إنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَحَالُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ ، لَكِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَلَا لِلتَّبْعِيدِ فَزَالَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ فَتَعَيَّنَتْ الْحَالَةُ دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَثَبَتَتْ إرَادَةُ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِهِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ كَمَا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَأَمَّا ) الْقِسْمُ الثَّانِي فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ أَيْضًا خَلِيَّةٌ " " بَرِيئَةٌ " " بَتَّةٌ " " بَائِنٌ " " حَرَامٌ " ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الشَّتْمِ : أَنْتِ خَلِيَّةٌ مِنْ الْخَيْرِ ، بَرِيئَةٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ ، بَتَّةٌ مِنْ الْمُرُوءَةِ ، حَرَامٌ أَيْ مُسْتَخْبَثٌ ، أَوْ حَرَامٌ الِاجْتِمَاعُ وَالْعِشْرَةُ مَعَكِ .
وَحَالُ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَيَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَبَقِيَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، فَإِذَا عَنِيَ بِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ ،

وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَيُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ ، وَالْحَالُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ فَيَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ لَا التَّبْعِيدِ وَلَا الشَّتْمِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ خَمْسَةً أُخْرَى : لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ فَارَقْتُكِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ بِنْتِ مِنِّي لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الشَّتْمَ كَمَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيَقُولُ الزَّوْجُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لِشَرِّكِ وَفَارَقْتُكِ فِي الْمَكَانِ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِي مَعَكِ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَمَا أَنْتِ عَلَيْهِ وَلَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنَّكِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ أَتَمَلَّكَكِ وَبِنْتِ مِنَى لِأَنَّك بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ أَوْ الْخَيْرِ وَحَالُ الْغَضَبِ يَصْلُحُ لَهُمَا ، وَحَالُ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْتَحَقَتْ بِالْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
( وَأَمَّا ) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَبَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَتَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْعِدُ الزَّوْجَةَ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَكَذَا حَالَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ فَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا قَالَ : مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَالظَّاهِرُ لَا يُخَالِفُهُ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ قَبِلُوهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهَا هُنَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَهْلِهَا وَتَحْتَمِلُ التَّبْعِيدَ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقْلَ إلَى أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ .
وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ مُحْتَمَلًا ، وَسَوَاءٌ قَبِلَهَا أَهْلُهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا ؛ لِأَنَّ

كَوْنَ التَّصَرُّفِ هِبَةً فِي الشَّرْعِ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَأَهْلُهَا لَا يَمْلِكُونَ طَلَاقَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبُولِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ : وَهَبْتُكِ لِأَبِيكِ أَوْ لِأُمِّكِ أَوْ لِلْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَتُسَلَّمُ إلَيْهِمَا وَيَمْلِكُهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ قَالَ : وَهَبْتُكِ لِأَخِيكِ أَوْ لِأُخْتِكِ أَوْ لِخَالَتِكِ أَوْ لِعَمَّتِكِ أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُرَدُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ عَادَةً ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : لَسْت - لِي بِامْرَأَةٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : مَا أَنَا بِزَوْجِكِ ، أَوْ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ لَك امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَ : لَا فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ جَمِيعًا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قَالَ : نَوَيْتُ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ نَوَى وَلَوْ قَالَ : لَمْ أَتَزَوَّجْك وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ قَالَ : عَلَيَّ حُجَّةٌ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ لَا مَرْأَةَ لِي أَوْ مَا أَنَا بِزَوْجِك كَذِبٌ ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ قِيَامِهَا فَيَكُونُ كَذِبًا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا إذَا قَالَ : لَمْ أَتَزَوَّجْكِ أَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ ، وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَقَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ

وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ لَمْ أَتَزَوَّجْكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ نَفْيُ فِعْلِ التَّزَوُّجِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى النَّفْيِ تَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ، وَلَوْ قَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانِ قَدْ يَتَزَوَّجُ بِمَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى تَزَوُّجِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ : لِامْرَأَتِهِ أَفْلِحِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَفْلِحِي بِمَعْنَى اذْهَبِي فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ : أَفْلِحْ بِخَيْرٍ أَيْ : اذْهَبْ بِخَيْرٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : اذْهَبِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَذَا هَذَا وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ : أَفْلِحِي أَيْ : اظْفَرِي بِمُرَادِكِ يُقَالُ : أَفْلَحَ الرَّجُلُ إذَا ظَفِرَ بِمُرَادِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَرَادُهَا الطَّلَاقَ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَلَوْ قَالَ : فَسَخْتُ النِّكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ نَقْضُهُ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْإِبَانَةِ .
وَلَوْ قَالَ : وَهَبْتُ لَك طَلَاقًا .
وَقَالَ أَرَدْتُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي يَدِك لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ ، وَهِبَةُ الطَّلَاقِ مِنْهَا تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَجَعْلُ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِزَالَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ ، وَتَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا هُوَ

أَنْ يُجْعَلَ إلَيْهَا إيقَاعُهُ ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ : وَهَبْتُ لَك طَلَاقَكِ أَيْ : أَعْرَضْتُ عَنْ إيقَاعِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ لَهُ : هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ : أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ : قَدْ وَهَبْتُ لَك طَلَاقَك يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْإِيقَاعِ ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ : تَرَكْتُ طَلَاقَكِ أَوْ خَلَّيْتُ سَبِيلَ طَلَاقِكِ ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَقَعَ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَاقِ وَتَخْلِيَةَ سَبِيلِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِهِ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَلَوْ قَالَ : أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِكِ أَوْ صَفَحْتُ عَنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَالصَّفْحُ هُوَ الْإِعْرَاضُ فَلَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ .
وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ نَوَى ، مِثْلُ قَوْلِهِ : بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك أَوْ قَالَ لَهَا : أَطْعِمِينِي أَوْ اسْقِينِي وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَبَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا : اذْهَبِي وَكُلِي ، أَوْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي الثَّوْبَ ، وَنَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ اذْهَبِي ذُكِرَ فِي اخْتِلَاف زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَفِي قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ طَلَاقًا .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ : أَحَدَهُمَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالْآخَرَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَلْغُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَيَصِحُّ مَا يَحْتَمِلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ : اذْهَبِي مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ كُلِي أَوْ بِيعِي لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْهَبِي لِتَأْكُلِي الطَّعَامَ وَاذْهَبِي لِتَبِيعِي الثَّوْبَ ، وَالذَّهَابُ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا تَعْمَلُ

نِيَّتُهُ ، وَلَوْ نَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ بَوَائِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ : غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ ، فَالْخَفِيفَةُ هِيَ الَّتِي تُحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِدُونِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ ، وَالْغَلِيظَةُ مَا لَا تُحِلُّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَدْتَ ثَلَاثًا فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِحْلَافِ مَعْنًى .
وَكَذَا قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَالْخَفِيفَةَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى إحْدَى نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَقَعُ مَا نَوَى .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْحُرْمَةَ وَالْبَيْنُونَةَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ قَوْلَهُ : بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ ، وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَإِنَّمَا اُحْتُمِلَ الثَّلَاثُ مِنْ حَيْثُ التَّوَحُّدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا تَوَحُّدَ فِي الِاثْنَيْنِ أَصْلًا ، بَلْ هُوَ عَدَدٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ بِالثِّنْتَيْنِ ، وَالْحَاصِلَ بِالْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحِلُّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ

جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ ؟ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِمَا بَيْنُونَةً خَفِيفَةً وَحُرْمَةً خَفِيفَةً كَالثَّابِتِ بِالْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ هَهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي الْمَعْنَى ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي الِاثْنَتَيْنِ يَقَعُ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ فِي الْأَمَةِ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَكَانَ الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، وَقَالُوا : لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي اثْنَتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَا كُلَّ جِنْسِ طَلَاقِ الْحُرَّةِ بِدُونِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ فَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنُونَةٌ غَلِيظَةٌ بِدُونِهَا ، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثَلَاثًا لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَجْعِيَّةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ وَكَذَا قَوْلُهُ : اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجْعِيٌّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ وَاحِدَةٌ .
وَكَذَا لَوْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ كِتَابَةً مُسْتَبِينَةً لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ ؛ فَإِنْ قَالَ : نَوَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيُرِيدُ بِهِ

الطَّلَاقَ وَقَدْ يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كُتِبَتْ كِتَابَةٌ غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ عَلَى الْهَوَاءِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى ؛ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَبِينُ بِهِ الْحُرُوفُ لَا يُسَمَّى كِتَابَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابَةً مَرْسُومَةً عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلُ : أَنْ يَكْتُبَ أَمَّا بَعْدَ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ قَالَ : مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَصْلًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ : نَوَيْت طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخِطَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَلِّغُ بِالْخِطَابِ مِرَّةً وَبِالْكِتَابِ أُخْرَى وَبِالرَّسُولِ ثَالِثًا ؟ ، وَكَانَ التَّبْلِيغُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالتَّبْلِيغِ بِالْخِطَابِ فَدَلَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ فَإِذَا قَالَ : مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ ، ثُمَّ إنْ كَتَبَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ وَلَمْ يَعْقِلْهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ كِتَابَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَةَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّلَفُّظِ بِهَا .
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِأَنْ كَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ ، وَقَالُوا فِيمَنْ

كَتَبَ كِتَابًا - عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَكَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً - وَقَعَ الطَّلَاقُ ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إلَيْهَا ، فَإِنْ مَحَا مَا فِي الْكِتَابِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى كِتَابًا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا : فَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ نَوْعَانِ : رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ أَمَّا الصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً غَيْرَ مَقْرُونٍ بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أَوْ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أَوْ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ ، لَكِنْ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ بَعْدَهُ ، لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أَوْ إشَارَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا إذَا عُرِفَ هَذَا فَصَرِيحُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَائِنًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطٍ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِلْحَالِ وَالتَّأَخُّرِ فِيمَا بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلَوْ خَلَا بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا صَرِيحَ الطَّلَاقِ .
وَقَالَ : لَمْ أُجَامِعْهَا كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْوَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً فَكَانَ بَائِنًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وَهُوَ الْخُلْعُ بِبَدَلٍ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ طَلَاقٌ عَلَى مَالٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَهُوَ مَالُهَا فَتَمْلِكُ هِيَ الْعِوَضَ الْآخَرَ وَهُوَ نَفْسَهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْبَائِنِ فَكَانَ الْوَاقِعُ

بَائِنًا .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى عَدَدِ الثَّلَاثِ بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَإِنْ أَشَارَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ أَشَارَ بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِهَا الْعِبَارَةُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ بِهَا وَهُوَ الْإِعْلَامُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ أَيْضًا أَمَّا الْعُرْفُ فَظَاهِرٌ .
( وَأَمَّا ) الشَّرْعُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا } فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ } فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِذَا قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِبَارَةِ بِهَا مَقَامَ الْكَلَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَصَابِعِ عَدَدُ الْمُرْسَلِ مِنْهَا دُونَ الْمَقْبُوضِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَقَبَضَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فُهِمَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَقْبُوضُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ الْمُرْسَلُ مِنْهَا لَا الْمَقْبُوضُ .
وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنْتِ

طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ مُعَقِّبٌ لِلرَّجْعَةِ ، فَلَمَّا قَالَ : بَائِنٌ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَعَرْتُكِ عَارِيَّةً لَا رَدَّ فِيهَا ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ .
وَقَالَ : أَرَدْتُ بِهِ الْإِبَانَةَ ، وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ : بَائِنٌ قَرِينَةً مُبَيِّنَةً لَا مُغَيِّرَةً ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْأُخْرَى بِقَوْلِهِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : بَائِنٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا مُقْتَضًى وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَدْنَى .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَوِيَّةً أَوْ شَدِيدَةً ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقَوِيَّةِ ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْبَائِنُ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً ؛ لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَقْتَضِيَانِ الْقُوَّةَ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ رَجْعِيٌّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَائِنٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً ( وَلَنَا ) أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صُورَةً وَبِالْقَصْرِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَقَعُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا فَكَانَ الْقَصْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَصْفًا لَهُ بِالْقَصْرِ ، وَالطَّلْقَةُ الْقَصِيرَةُ هِيَ الرَّجْعِيَّةُ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ

طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ أَشَدُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعِيِّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَصْلِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حُكْمًا مِنْ الرَّجْعِيَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ نِهَايَةِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : مِلْءَ الْبَيْتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْعِظَمُ وَالْقُوَّةُ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهَا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ رَجْعِيٌّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ بَائِنٌ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْبَائِنُ فَيَقَعُ بَائِنًا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ : أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ ، وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبَعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِجِهَةِ الْإِبَانَةِ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِإِيقَاعِهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ،

وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْبَائِنِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا تَثْبُت الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَلَوْ شَبَّهَ صَرِيحَ الطَّلَاقَ بِالْعَدَدِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ وَإِمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا هُوَ ذُو عَدَدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ فَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : ( الْأَوَّلِ ) هَذَا .
( وَالثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ ، وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ ( أَمَّا ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ : مُحَمَّدٌ هُوَ ثَلَاثٌ ، وَلَوْ قَالَ : نَوَيْت بِهِ وَاحِدَةً دَيَّنْته فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ أُدَيِّنْهُ فِي الْقَضَاءِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ : كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ إذْ الْأَلْفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ ثَلَاثًا كَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَلْفِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهُوَ صِفَةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الرِّجَالِ قَدْ يُشَبَّهُ بِأَلْفِ رَجُلٍ فِي الشَّجَاعَةِ ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَلَا

يَثْبُتُ الْعَدَدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَدَدِ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوَاحِدَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَتَعَيَّنَ التَّشْبِيهُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ .
وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ فَيَقَعُ بَائِنًا .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَوْ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ أَوْ مِثْلِ عَدَدِ ثَلَاثٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ فَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعَدَدِ يَنْفِي احْتِمَالَ إرَادَةِ الْوَاحِدِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ أَصْلًا كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى الْوَاحِدَةَ ، وَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ بِأَنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلُ عَدَدِ كَذَا أَوْ كَعَدَدِ كَذَا لِشَيْءٍ لَا عَدَدَ لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ لَغْوٌ فَبَطَلَ التَّشْبِيهُ ، وَقَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ ، وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ : لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَاحَتِي أَوْ عَدَدَ مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي مِنْ الشَّعْرِ وَقَدْ حَلَقَ ظَهَرَ كَفِّهِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَا عَدَدَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِوُجُودِ الشَّعْرِ عَلَى

رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ لِلْحَالِ وَلَيْسَ عَلَى رَاحَتِهِ وَلَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ شَعْرٌ لِلْحَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّشَبُّهُ بِالْعَدَدِ فَلَغَا التَّشَبُّهُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَأْسِي وَعَدَدَ شَعْرِ ظَهْرِ كَفِّي وَقَدْ حَلَقَهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ ؛ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ ذُو عَدَدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَشْبِيهًا بِهِ حَالَ وُجُودِهِ ، وَهُوَ حَالَ وُجُودِهِ ذُو عَدَدٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّشْبِيهِ بِوُجُودِهِ لِلْحَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِلْحَالِ ، فَيَلْغُو التَّشْبِيهُ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ : مِثْلُ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلُ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي التَّوَحُّدِ ؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي عَدَدٍ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا فِي الذَّاتِ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ بِهَا ، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ أَوْ قَالَ : مِثْلَ عِظَمِ كَذَا فَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَبَلِ فِي الْعِظَمِ فَهَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الصَّرِيحُ ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ سَمَّى وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَا تَكُونُ إلَّا

الْبَيْنُونَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِالثَّلَاثِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ يَكُونُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِكَوْنِهَا أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ شَكٌّ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ وَإِذَا نَوَى بِهِ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ .
وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : مِنْ الْكِنَايَاتِ رَوَاجِعُ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ قَوْلُهُ : اعْتَدِّي ، وَاسْتَبِرِي رَحِمَك ، وَأَنْتِ وَاحِدَةً أَمَّا قَوْلُهُ : اعْتَدِّي فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الْأَثَرَ وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اعْتَدِّي فَنَاشَدَتْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى تُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ فَرَاجَعَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا يَوْمَهَا ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ .
وَالِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُقْتَضَى يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ مَا سِوَاهَا ثُمَّ قَوْلُهُ : اعْتَدِّي إنَّمَا يُجْعَلُ مُقْتَضِيًا لِلطَّلَاقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا مِنْ الطَّلَاقِ ، وَقَوْلُهُ : اسْتَبْرِي رَحِمَك تَفْسِيرُ قَوْلِهِ اعْتَدِّي ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ شُرِعَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَيُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ : اعْتَدِّي وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَنْتِ وَاحِدَةً فَلِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ : وَاحِدَةً نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الطَّلْقَةُ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً كَمَا يُقَالُ : أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا أَيْ : عَطَاءً جَزِيلًا وَاخْتُلِفَ فِي الْبَوَاقِي مِنْ الْكِنَايَاتِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّهَا بَوَائِنُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَوَاجِعُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ فَكَانَتْ مَجَازًا عَنْ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِدُونِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعَامِلُ هُوَ

الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ الْكِنَايَةُ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ رَوَاجِعَ فَكَذَا الْبَوَاقِي ، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْبَيْنُونَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْلِ ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَثْبُتُ بِهِ قَبُولُ الْمَحِلِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ فِي مَحِلٍّ لَا يَحْتَمِلُهَا مُحَالٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَوْله تَعَالَى { : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقَوْله تَعَالَى { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ، وَقَوْلُهُ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .
وَالتَّسْرِيحُ وَالْمُفَارَقَةُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَرُوِيَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ لَهَا : الْحَقِي بِأَهْلِكِ ، وَهَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ وَأَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ بِهَا الثَّلَاثَ ، وَقَوْلُهُ : أَلْبَتَّةَ مِنْ الْكِنَايَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مَشْرُوعٌ فَوُجُودُ التَّصَرُّفِ - حَقِيقَةً - بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودُهُ - شَرْعًا - بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ الطَّلَاقِ فِي الْأَصْلِ لِمَكَانِ الْمَصْلَحَةِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ تَخْتَلِفُ أَخْلَاقُهُمَا وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ مَصْلَحَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى

وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ إلَى الطَّلَاقِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجٍ يُوَافِقُهُ فَيَسْتَوْفِي مَصَالِحَ النِّكَاحِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ ، فَالشَّرْعُ شَرَعَ الطَّلَاقَ وَفَوَّضَ طَرِيقَ دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِعَادَةِ إلَى الْمُوَافَقَةِ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهِ يُطَلِّقُهَا طَلَاقًا وَاحِدًا رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا رَاجَعَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ تَتُوبَ وَتَعُودَ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ لَا تَتُوبُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي بِهَا يَزُولُ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ لِتَذُوقَ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَسَى وَإِذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْإِبَانَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا تَحْقِيقًا لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ ، بَلْ هِيَ حَقَائِقُ عَامِلَةٌ بِأَنْفُسِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلْعَمَلِ بِأَنْفُسِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِهَا لَا بِالْمُكَنَّى عَنْهُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ فَلَفْظُ الْمَجَازِ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ أَيْضًا كَلَفْظِ الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَيَعْمَلُ بِنَفْسِهِ كَالْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ لِلْمَجَازِ عُمُومًا كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْغَلِيظَةِ

وَالْخَفِيفَةِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِي الْحَقِيقَةِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ وَتَعْيِينَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ أَمْرِهِ .
وَذَلِكَ نَوْعَانِ : تَوْكِيلٌ ، وَتَفْوِيضٌ أَمَّا التَّفْوِيضُ فَنَحْوُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَقَوْلِهِ اخْتَارِي ، وَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَقَوْلِهِ : طَلِّقِي نَفْسَكِ .

( فَصْلٌ ) : أَمَّا قَوْلُهُ : أَمْرُك بِيَدِك فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا التَّفْوِيضِ ، وَهُوَ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ بَقَائِهِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ أَمَّا بَيَانُ صِفَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلَا نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَمَّا جُعِلَ إلَيْهَا وَلَا فَسْخَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَمَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شَيْئًا فَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالرُّجُوعِ وَالنَّهْيِ وَالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، بَلْ هُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ فَكَذَا بَعْدَ إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بَعْدَ إيجَابِهِ أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّمْلِيكِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ .
وَالْفَسْخُ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ رَأْسًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ هُوَ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ الْجَعْلُ ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الْإِبْطَالِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ بِصَرِيحِ إبْطَالِهِ كَيْفَ يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ ثُمَّ قَامَ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ .
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ اخْتِيَارهَا نَفْسَهَا فِي

التَّطْلِيقِ وَبَيْنَ اخْتِيَارهَا زَوْجَهَا ، وَالتَّخْيِيرُ بِنَا فِي اللُّزُومَ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُهُ فَهُوَ صَيْرُورَةُ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَعْلِ ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْجَعْلِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا .

( وَأَمَّا ) شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا نِيَّةُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ ؟ حَتَّى لَوْ قَالَ الزَّوْجُ مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُصَدَّقُ وَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ الْحَالُ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ أَوْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ .
لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ ، فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ ادَّعَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَذِكْرَ الطَّلَاقِ يَقِفُ الشُّهُودَ عَلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بِهَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَتُقْبَلُ ، وَلَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا وُقُوفَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ فِي الْقَلْبِ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً لَا عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ .
وَالثَّانِي عِلْمُ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ لَمْ تَسْمَعْ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا مَا لَمْ تَسْمَعْ أَوْ يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ لِأَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ هُوَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ زَوْجَهَا بِتَرْكِ الطَّلَاقِ اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ

بِالتَّخْيِيرِ فَإِذَا عَلِمَتْ بِالتَّخْيِيرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ عَلِمَتْ إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ وَعَلِمَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا .
فَأَمَّا إذَا عَلِمَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ الْمُؤَقَّتَ بِوَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيضِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ شَرْطِ بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ فَلَنْ يُمْكِنَ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَالْمُنَجَّزُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِك فَشَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِهِ بَقَاءُ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا بِالتَّفْوِيضِ فَمَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمَرَهَا فِي الطَّلَاقِ بِيَدِهَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِرَأْيِهَا وَتَدْبِيرِهَا كَيْفَ شَاءَتْ بِمَشِيئَةِ الْإِيثَارِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَةِ الْإِيثَارِ .
وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَتْ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْخِطَابَ ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَقَيَّدُ جَوَابُ التَّمْلِيكِ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَبُولِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ قَصُرَ الْمَجْلِسُ أَوْ طَالَ ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَلَا ضَابِطَ لَهُ إلَّا الْمَجْلِسَ فَقُدِّرَ بِالْمَجْلِسِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَلْمُخَيَّرَةِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا بَقِيَ الْمَجْلِسُ فَإِنْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالْقِيَامُ عَنْ الْمَجْلِسِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَوَابِ التَّمْلِيكِ فَكَانَ رَدًّا لِلتَّمْلِيكِ دَلَالَةً

؛ وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَمْلِكُ الْجَوَابَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا فِي غَيْرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهَا عَنْ الْجَوَابِ بِأَنْ دَعَتْ بِطَعَامٍ لِتَأْكُلَ أَوْ أَمَرَتْ وَكِيلَهَا بِشَيْءٍ أَوْ خَاطَبَتْ إنْسَانًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَرَكِبَتْ أَوْ رَاكِبَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أَوْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ مَكَّنَتْ زَوْجَهَا حَتَّى وَطِئَهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِالنَّوْمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَوْ كَانَا فِي مَحْمَلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ أَجَابَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَّا بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِ الرَّاكِبِ ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فَوَقَفَتْ الدَّابَّةُ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي سَفِينَةٍ فَسَارَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْتِ ؛ وَكُلُّ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ يَبْطُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ وَمَا لَا فَلَا فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَقَامَتْ ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَجْمَعُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَكَانَ الْقُعُودُ دَلِيلَ إرَادَةِ التَّأَمُّلِ ، وَالْقِيَامُ دَلِيلَ إرَادَة الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةً يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَقْعُدُ لِيَجْتَمِعَ رَأْيُهُ فَأَمَّا الْقَاعِدُ فَلَا يَتَّكِئُ لِذَلِكَ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَنْتَقِلُ مِنْ الِاتِّكَاءِ إلَى الْقُعُودِ مِرَّةً وَمِنْ الْقُعُودِ إلَى الِاتِّكَاءِ أُخْرَى ، وَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ ؛ فَلَوْ كَانَتْ

قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَإِنْ ابْتَدَأَتْ الصَّلَاةَ بَطَلَ خِيَارُهَا فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا أَوْ وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالصَّلَاةِ إعْرَاضٌ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَأَتَمَّتْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَوْ الْوَاجِبِ كَالْوِتْرِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْإِتْمَامِ لِكَوْنِهَا مَمْنُوعَةً مِنْ الْإِفْسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْمَامُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنْ سَلَّمَتْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الشَّفْعِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ أُخْبِرَتْ وَهِيَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ فَأَتَمَّتْ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَبْطُلُ خِيَارُهَا كَمَا فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَبْطُلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ فَكَانَتْ مَنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صَلَاةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِيَدِهَا فَأَقَامَهَا بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ تَمْتَنِعْ فَقَدْ قَامَتْ بِاخْتِيَارِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ .
وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تَمْتَنِعَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ اخْتَرْتُ نَفْسِي فَلَمَّا لَمْ تَقُلْ فَقَدْ أَعْرَضَتْ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ أَكَلَتْ طَعَامًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِطَعَامٍ أَوْ شَرِبَتْ شَرَابًا قَلِيلًا أَوْ نَامَتْ قَاعِدَةً أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ لَبِسَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ وَلَمْ تَقُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا ؛

لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إحْضَارِ الشُّهُودِ فَتَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لِتَسْتَتِرَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ ، وَالْأَكْلُ الْيَسِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَكَذَا النَّوْمُ قَاعِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْتَغِلَ بِهِ .
وَكَذَا إذَا سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ شَيْئًا قَلِيلًا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الْيَسِيرَ وَالْقِرَاءَةَ الْقَلِيلَةَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْإِعْرَاضِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عَنْ التَّسْبِيحِ الْقَلِيلِ وَالْقِرَاءَةِ الْقَلِيلَةِ ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْخِيَارِ لَانْسَدَّ بَابُ التَّفْوِيضِ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ بَطَلَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الطَّوِيلَ مِنْهُ يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاض وَلَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ ، فَإِنْ قَالَتْ : اُدْعُ لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ صِيَانَةً لِاخْتِيَارِهَا عَنْ الْجُحُودِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ : اُدْعُ لِي أَبِي أَسْتَشِيرُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشُورَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أَرَادَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك } ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَشُورَةُ مُبْطِلَةً لِلْخِيَارِ لَمَا نَدَبَهَا إلَى الْمَشُورَةِ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْتُك أَوْ قَالَتْ : لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِرَدِّ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرَّدِّ فَبِالصَّرِيحِ أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّمْلِيكُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا أَوْ بِدُونِهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا رَدُّ التَّمْلِيكِ فَيَرْتَدُّ مَا جُعِلَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ هَذَا إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُوَقَّتًا فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ بِأَنْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ إذَا شِئْتِ

أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا .
وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ كَلَامٍ آخَرَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ مُطْلَقًا لِيَكُونَ طَالِبًا جَوَابَهَا فِي الْمَجْلِسِ ، بَلْ مَلَّكَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ ، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا نَذْكُرُ فَإِنْ وَقَّتَهُ بِوَقْتٍ خَاصٍّ بِأَنْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ قَالَ : الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ قَالَ : هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذِهِ السَّنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَلَهَا الْأَمْرُ فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِيمَا شَاءَتْ مِنْهُ ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ تَشَاغَلَتْ بِغَيْرِ الْجَوَابِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا مَا بَقِيَ الْوَقْتُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْوَقْتُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِإِعْرَاضِهَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ ، وَكَانَ الْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ سَوَاءً غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ مُنْكِرًا فَلَهَا الْأَمْرُ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا إلَى مِثْلِهَا مِنْ الْغَدِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ وَشَهْرٍ تَامٍّ وَسَنَةٍ تَامَّةٍ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا قُلْنَا .
وَيَكُونُ الشَّهْرُ هَهُنَا بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَرَّفًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَفِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وَفِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْبَاقِي وَيُعْتَبَرُ الشَّهْرُ هَهُنَا

بِالْهِلَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا ، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ مَرَّةً لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْوَقْتَ وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت زَوْجِي أَوْ قَالَتْ : لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ حَتَّى لَا تَمْلِكَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفُ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ ، فَإِعْرَاضُهَا فِي بَعْضِ الْوَقْتِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهَا فِي الْجَمِيعِ كَمَا إذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّ قَوْلَهَا : اخْتَرْتُ زَوْجِي رَدٌّ لِلتَّمْلِيكِ .
وَالتَّمْلِيكُ تَمْلِيكٌ وَاحِدٌ فَيَبْطُلُ بِرَدٍّ وَاحِدٍ كَتَمْلِيكِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَدٍّ حَقِيقَةً ، بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ رَدًّا فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْوَقْتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالْمَجْلِسُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فَلَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَقِيَ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ مِنْهَا الْجَوَابَ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا وَلَوْ

اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِك هَذَا الْيَوْمَ كَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْيَوْمَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عُمْرِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ عُمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عُمْرَهُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ ، فَإِذَا صَارَ الْيَوْمُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي جُعِلَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ فِي عُمْرِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جُزْءًا مِنْ عُمْرِهِ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ ، وَإِذَا صَارَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ جُزْءٌ أَوْلَى مِنْ جُزْءٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ ، وَلَوْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِك إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَرْكِ الْجَوَابِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا .

وَأَمَّا التَّفْوِيضُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ : إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِك فَقَدِمَ فُلَانٌ فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا إذَا عَلِمَتْ فِي مَجْلِسِهَا الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الْقُدُومِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا .
وَإِنْ مُوَقَّتًا بِأَنْ قَالَ : إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا أَوْ قَالَ : الْيَوْمُ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ ، فَإِذَا قَدِمَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ .
بِأَنْ قَالَ : إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا .
وَإِنْ عَرَّفَهُ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ .
وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا لِمَا مَرَّ .
وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ ؛ بِأَنْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَجَاءَ الْوَقْتُ ؛ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَكَذَا تَمْلِيكُهُ وَكَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا مِنْ أَوَّلِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ وَأَوَّلِ الْغَدِ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي وَرَأْسُ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ وَيَوْمَهَا ، وَإِنْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِك إذَا هَلَّ الشَّهْرُ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا سَاعَةَ يَهُلُّ الْهِلَالُ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ .
وَلَوْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا ، أَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَهَا

الْأَمْرُ فِي الْيَوْمَيْنِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِي أَيِّهِمَا شَاءَتْ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتَيْنِ .
وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا ؟ فَهُوَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الِاخْتِلَافِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ ، ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَسَبَ الْقَوْلَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي وَقْتَيْنِ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا وَقْتًا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْ صَاحِبِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْرِ مُفْرَدًا بِهِ فَيَتَعَدَّدُ التَّفْوِيضُ مَعْنًى كَأَنَّهُ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ فَرَدُّ الْأَمْرِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا أَوْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : يَبْطُلُ الْأَمْرُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّمَانَ وَاحِدٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ مَا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ وَاحِدًا فَرَدُّ الْأَمْرِ فِيهِ يُبْطِلُهُ ، وَلَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ أَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهَا غَدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ اللَّفْظَ فَقَدْ تَعَدَّدَ التَّفْوِيضُ ، فَرَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْآخَرِ ، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ فَلَهَا ذَلِكَ ، وَتَطْلُقُ أُخْرَى إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا بِكُلِّ

وَاحِدَةٍ مِنْ التَّفْوِيضَيْنِ طَلَاقًا ، فَالْإِيقَاعُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالْآخَرِ ، وَلَوْ قَالَ : لَهَا أَمْرُك بِيَدِك هَذِهِ السَّنَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَلْزَمَهَا الطَّلَاقُ فِي الْخِيَارِ الثَّانِي وَلَسْت أَرْوِي هَذَا عَنْهُ ، وَلَكِنْ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا ، وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْخِيَارُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَالْمُوَكِّلِ إذَا بَاعَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ مَا دَامَ طَلَاقُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ قَائِمًا كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ ، وَقَوْلُهُ : الزَّوْجُ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً فَيَقْتَضِي خُرُوجَ الْمُفَوَّضِ مِنْ يَدِهِ لَا غَيْرُ ، كَمَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ ثَوْبَيْنِ لَهُ فَبَاعَ الْمُوَكَّلُ أَحَدَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالتَّفْوِيضِ : فَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَمْلِكَ رَدَّهُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَخْيِيرٌ لَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا ، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لَا يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى يَدِهَا بِذَلِكَ الْجَعْلِ أَبَدًا ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِأَنْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْتِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } وَقَالَ : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } فَيُقْتَضَى تَكْرَارُ التَّمْلِيكِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا لَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ : أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا اخْتَارَتْ فَقَدْ انْتَهَى مُوجَبُ ذَلِكَ التَّمْلِيكِ ، ثُمَّ يَتَجَدَّدُ لَهَا الْمِلْكُ بِتَمْلِيكٍ آخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ مَشِيئَةٍ أُخْرَى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ بَانَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ طَلَقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا طَلَقَاتِ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ فَمَا لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ ؟ وَإِنْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ

بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ فَلَهَا أَنْ تَشَاءَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً لَا يَتَكَرَّرُ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَقْتِ ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت ، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ ، لَكِنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى مُوجِبُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ التَّفْوِيضُ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ : فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مِنْ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ يَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ وَمَا لَا فَلَا إلَّا فِي لَفْظِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ وَيَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا ، فَمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَا لَا فَلَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : إذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَانَ طَلَاقًا .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ : أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ طَلَاقًا .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ كَانَ طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَتْ : أَنَا بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ أَوْ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيْكَ فَهُوَ جَوَابٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ ، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي وَعَلَيَّ كَانَ طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَنْتَ بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنِّي أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَنْتَ حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيَّ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنَا بَائِنٌ أَوْ أَنَا حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَتْ : أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ فَهُوَ جَوَابٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا .
وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَنَا طَالِقٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا ، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَنْتَ مِنِّي طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنَا

مِنْك طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْتُ نَفْسِي كَانَ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقًا ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا فَطَلَاقٌ وَاحِدٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك وَلَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ ، أَمَّا وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّفْوِيضِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعَدَدِ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا بَائِنَةً فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ ، وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِنَا مُنْبِيَاتٌ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : أَمْرُك بِيَدِك جَعَلَ أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةَ نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةَ نَفْسِهَا بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ .
وَإِنْ قَرَنَ بِهِ ذِكْرَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الصَّرِيحَ حَيْثُ نَصَّ عَلَيْهِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَإِنَّمَا مَلَّكَهَا التَّطْلِيقَةَ وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ؛ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصِّ كَلَامِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَقَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ ، وَلَوْ قَالَ : أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى الثَّلَاثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ الْوَاحِدُ وَيُحْتَمَلُ الثَّلَاثُ ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ : طَلَّقْت نَفْسِي

أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَلَمْ تَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَهِيَ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ ثَلَاثًا .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا ، وَلَوْ قَالَتْ : طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى ثَلَاثًا فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَهِيَ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَتَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً .
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا بِوَاحِدَةٍ أَيْ : بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَحُّدِ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ ، وَانْقِطَاعُ الْعُلْقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالثَّلَاثِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا جَعَلَتْ التَّوَحُّدَ هُنَاكَ صِفَةَ الْمُخْتَارِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا صِفَةَ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ : اخْتَارِي فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَاضِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ ، وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَتَخْيِيرُهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فِي قَوْلِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِك يَصِحُّ ، وَفِي قَوْلِهِ اخْتَارِي لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي اخْتَارِي لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ إمَّا فِي تَفْوِيضِ الزَّوْجِ وَإِمَّا فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَك وَتَقُولُ : اخْتَرْتُ أَوْ يَقُولَ لَهَا : اخْتَارِي فَتَقُولُ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا : اخْتَارِي فَتَقُولُ : اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ أَوْ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَهُوَ تَكْرَارُ التَّخْيِيرِ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي فَتَقُولُ : اخْتَرْتُ أَوْ ذِكْرُ الِاخْتِيَارِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ : اخْتَارِي اخْتِيَارَةً ، فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ : اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي قَوْلِهِ : اخْتَارِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؟ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْتَرْت نَفْسِي لَا تَطْلُقُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ

وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } إلَى قَوْلِهِ { : أَجْرًا عَظِيمًا } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّخْيِيرِ مَعْنًى وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك ، قَالَتْ : وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ { : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرًا عَظِيمًا } فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَتْ : بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } وَفَعَلَ سَائِرُ أَزْوَاجِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ فَدَلَّ أَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِيَارَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَا شَبَّهُوا أَيْضًا هَذَا الْخِيَارَ بِالْخِيَارَاتِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِذَلِكَ الْخِيَارِ ، فَكَذَا بِهَذَا وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَلِكَ دَلِيلُ أَصْلِ الْوُقُوعِ إذْ الْكَيْفِيَّةُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ ، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ

الْمَوْصُوفِ فَثَبَتَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْعِ فَيُتَّبَعُ مَوْرِدُ الشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ مَعَ قَرِينَةِ الْفِرَاقِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ قَرِينَةِ النَّفْسِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْفِرَاقِ مُضْمَرٌ فِي قَوْله تَعَالَى { : إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ كَأَنَّهُ قَالَ { : إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ تَخْيِيرًا لَهُنَّ بَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَكُنَّ مُخْتَارَاتٍ لِلطَّلَاقِ لَوْ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُنَّ الدُّنْيَا وَزْنِيَّتهَا اخْتِيَارًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا .
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْمَجْلِسَ ، وَقَالُوا : إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ الشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَيُقْتَصَرُ حُكْمُهُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِذَا قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : اخْتَارِي مَعْنَاهُ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك فَإِذَا قَالَتْ : اخْتَرْتُ فَلَمْ تَأْتِ بِالْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ وَإِذَا قَالَ : لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ : اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا

اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك وَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَتَتْ بِالْجَوَابِ .
وَكَذَا لَوْ قَالَتْ : أَخْتَارُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الِاخْتِيَارِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ كَأَنَّهُ قَالَ : اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً ، فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ جَوَابٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : اخْتِيَارَةً يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدَهُمَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالثَّانِي مَعْنَى التَّوَحُّدِ وَالتَّفَرُّدِ ، فَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَإِذَا قَالَ لَهَا : اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك ، فَإِذَا قَالَتْ : اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَ جَوَابًا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي أَوْ أَهْلِي وَالْأَزْوَاجَ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ جَوَابًا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ وَلَا فِي لَفْظِ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى

اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَلْحَقُ بِأَبَوَيْهَا وَأَهْلِهَا وَتَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ عَادَةً ، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا هَؤُلَاءِ دَلَالَةً عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقَ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ : اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ .

( وَأَمَّا ) الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ وَاحِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ - وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ - وَيَكُونُ بَائِنًا عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ بِالتَّخْيِيرِ الطَّلَاقَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَنَوَتْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَيْضًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا } وَعَنْ مَسْرُوقٍ .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ يَكُونُ طَلَاقًا ؟ فَقَالَتْ { : خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ طَلَاقًا } ؛ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ .
وَاخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاض عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا ؟ وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ أَحَدِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : يَقَعُ بَائِنًا لَا رَجْعِيًّا وَلَا ثَلَاثًا أَمَّا وُقُوعُ الْبَائِنِ :

فَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا ، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا لَوْ كَانَ الْوَاقِعُ رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا ، بَلْ لِزَوْجِهَا ؛ إذْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ .
وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَإِنْ وُجِدَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي التَّخْيِيرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَقَعَ بِالِاخْتِيَارِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا بِالشَّرْعِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّخْيِيرِ ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ ، وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا بِتَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ وَبَيْنَ رَدِّ التَّطْلِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِك فَإِنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ : اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الثَّلَاثِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّدُ ، فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ ، وَلَوْ كَرَّرَ التَّخْيِيرَ بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي وَنَوَى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْتُ يَقَعُ ثِنْتَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ النِّيَّةُ ، وَالثَّانِي لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُفَسَّرُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا أَيْضًا وَلَا عِلَّةً وَلَا حُكْمًا لِلْأَوَّلِ ؛ فَيَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً ، وَالتَّكْرَارُ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ، قَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَكُونُ جَوَابًا لَهُمَا جَمِيعًا ، وَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ بَائِنٌ فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الثَّانِي

بِحَرْفِ الصِّلَةِ بِأَنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ إلَّا أَنَّ الْفَاءَ قَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْحُكْمِ ؛ كَمَا يُقَالُ : أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ ، وَيُقَالُ قَدْ أَتَاك الْغَوْثُ فَأَبْشِرْ ، لَكِنْ هَهُنَا لَا تَصْلُحُ عِلَّةً وَلَا حُكْمًا فَتَكُونُ لِلْعَطْفِ ، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَوْ قَالَ : لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي ، أَوْ قَالَ : اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْت فَهِيَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَالَ : لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهَا مَا أَوْقَعَتْ إلَّا وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إلَّا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ فَلَا تَقَعُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ وَاحِدَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ جُمْلَةً لَيْسَ فِيهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ يَكُونُ لَغْوًا فَيَبْطُلُ تَعْيِينُهَا وَيَبْقَى قَوْلُهُ اخْتَرْتُ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ جَوَابَ الْكُلِّ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ لَهَا : اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ : اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي أَوْ ذَكَرَ التَّخْيِيرَيْنِ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَوْ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَقَالَتْ : قَدْ اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَرْتُ الْكُلَّ مَرَّةً فَيَقَعُ الثَّلَاثُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ

الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ الزَّوْجِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ : اخْتَرْتُ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ قَالَتْ اخْتَرْتُ مَرَّةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَالَتْ : قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأَخِيرَةِ كَانَتْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى أَوْ بِالْوُسْطَى كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا .
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَعْيِينَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ الْمُمَلَّكَةُ جُمْلَةً لَيْسَ لَهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَكَانَ التَّعْيِينُ هَهُنَا لَغْوًا فَبَطَلَ التَّعْيِينُ وَبَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْتُ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْتُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ كَذَا هَذَا .
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ اخْتِيَارَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ صَحِيحٌ وَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَا يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ إلَّا إذَا اخْتَارَتْ الْأَخِيرَةَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّخْيِيرَاتِ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ حَرْفُ الْجَمْعِ فَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرًا تَامًّا بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ .
وَالْبَدَلُ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي التَّخْيِيرِ الْأَخِيرِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْأَخِيرَةِ ، وَلَوْ ذَكَرَ حَرْفَ الْوَاوِ أَوْ حَرْفَ الْفَاءِ فَقَالَ :

اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ : اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ : اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ التَّخْيِيرَاتِ الثَّلَاثِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ جَعَلَ الْكُلَّ كَلَامًا وَاحِدًا وَقَدْ أَمَرَهَا أَنْ تُحَرِّمَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَا تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ اخْتَارِي فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ هَهُنَا رَجْعِيٌّ وَهُنَاكَ بَائِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَ هَهُنَا صَرِيحٌ وَهُنَاكَ كِنَايَةٌ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْتِ أَوْ أَرَدْتِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شِئْت .
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ أَيْنَمَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : إنْ شِئْت ؛ لِأَنَّ حَيْثُ وَأَيْنَ اسْمُ مَكَان وَمَا صِلَةٌ فِيهِمَا وَلَا تَعَلُّقَ لِلطَّلَاقِ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو ذِكْرُهُمَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَيَبْقَى ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت غَيْرَ أَنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ مَا شَاءَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَمْ لِلْقَدْرِ وَقَدْرُ الطَّلَاقِ هُوَ الْعَدَدُ وَالْعَدَدُ هُوَ الْوَاقِعُ .
وَكَذَا كَلِمَةُ مَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْقَدْرِ يُقَالُ : كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْتَ أَيْ الْقَدْرَ الَّذِي شِئْتَ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَعْدَ الْقِيَامِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ عَلَى مَا مَرَّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْتِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ - وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ الثَّابِتُ - مُقْتَضَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الطَّلَاقُ ، لَكِنَّهُ عَلَّقَ

الْمَشِيئَةَ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ الْمُعَلَّقُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ .
وَإِذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْمَشِيئَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكُلِّ مَشِيئَةٍ وَالْمُفَوَّضَ إلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْبَائِنَةُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا تَمْلِكُ الثَّلَاثَ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ طَلُقَتْ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ ؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ صِفَةُ الْوَاقِعِ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ ، وَعِنْدَهُمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ الْمَشِيئَةُ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ وَقَدْ عَلَّقَ الْوَصْفَ بِالْمَشِيئَةِ ، وَتَعْلِيقُ الْوَصْفِ بِالْمَشِيئَةِ تَعْلِيقُ الْأَصْلِ بِالْمَشِيئَةِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الصِّفَةِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ ، وَإِذَا تَعَلَّقَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَنْزِلُ مَا لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ أَوْقَعَ أَصْلَ الطَّلَاقِ لِلْحَالِ وَفَوَّضَ تَكْيِيفَ الْوَاقِعِ إلَى مَشِيئَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ لِلْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَيْفِيَّةَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِتَتَخَيَّرَ هِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ

الزَّوْجَ كَيَّفَ الْمَعْدُومَ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُكَيَّفُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُودِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ الْوُقُوعُ ثُمَّ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ وَلَا الثَّلَاثَ فَشَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ مَا شَاءَتْ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ الْكَيْفِيَّةَ إلَيْهَا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ أَوْ الثَّلَاثَ فَإِذَا وَافَقَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا : شِئْتُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا .
وَقَالَ الزَّوْجُ : ذَلِكَ نَوَيْتُ ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ نِيَّةٌ فَقَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ الْوَاقِعُ مَا شَاءَتْ ؛ فَإِذَا وَاقَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ أَوْلَى ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ : شِئْتُ ثَلَاثًا .
وَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْتُ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ آخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سِوَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا إذَا قَالَتْ : شِئْتُ وَاحِدَةً ثَانِيَةً فَتَصِيرُ تِلْكَ الطَّلْقَةُ ثَانِيَةً لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِمَشِيئَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ قَالَتْ : شِئْتُ وَاحِدَةً .
وَقَالَ الزَّوْجُ : نَوَيْتُ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ حَالَ وُجُودِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا وَلَا نِيَّةَ

لِلزَّوْجِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ وَهِيَ مُتَيَقَّنٌ بِهَا ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَتْ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ : شِئْتُ إنْ كَانَ كَذَا فَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ نَحْوَ مَا إذَا قَالَتْ : إنْ كَانَ هَذَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَإِنْ كَانَ هَذَا أَبِي وَأُمِّي أَوْ زَوْجِي وَنَحْوُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ ، وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ وَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ فَقَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ وَهِيَ أَبَتْ بِالتَّعْلِيقِ ، وَالتَّنْجِيزُ غَيْرُ التَّعْلِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ تَطْلِيقٌ ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهُ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ فُلَانٍ ؛ فَإِنْ شَاءَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ ، وَالتَّعْلِيقُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقِفُ الْوُقُوعُ عَلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ يَقَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ : طَلِّقِي نَفْسَكِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَا وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ تَوْكِيلٌ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : لِأَجْنَبِيٍّ : طَلِّقْ امْرَأَتِي تَوْكِيلٌ وَلَا يَتَقَيَّد بِالْمَجْلِسِ ، وَهُوَ فَصْلُ التَّوْكِيلِ فَإِنْ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ فَهَذَا تَمْلِيكٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ .
أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْأَمْرَ بِالتَّطْلِيقِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ كَانَ تَوْكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ إلَّا الشَّخْصُ وَالصِّيغَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ .
وَكَذَا إذَا قَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا إذْ هِيَ غَيْرُ مُضْطَرَّةٍ فِي ذَلِكَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ لَغْوًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى قَوْلُهُ : طَلِّقِي نَفْسَك ، وَأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيِّ ، وَلَنَا لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكٌ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَالْمَرْأَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ فَكَانَ تَفْوِيضُ التَّطْلِيقِ إلَيْهَا تَمْلِيكًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ لِلزَّوْجِ وَالِاخْتِيَارَ لَهُ ، فَكَانَ إضَافَةُ الْأَمْرِ إلَيْهِ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ

لِنَفْسِهِ ، وَالْمُتَصَرِّفَ عَنْ تَوْكِيلٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ ؛ وَالْمَرْأَةُ عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا بِالتَّطْلِيقِ تَرْفَعُ قَيْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ ، .
فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَإِنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ عَائِدَةٌ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُتَصَرِّفًا عَنْ تَوْكِيلٍ وَأَمْرٍ لَا عَنْ مِلْكٍ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَوْكِيلًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ وَكِيلَةً فِي حَقِّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ بِالتَّطْلِيقِ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، وَالْإِنْسَانُ يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ لَكَانَ تَوْكِيلًا فَكَذَا إذَا قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ وَالْإِطْلَاقَ عَلَى السَّوَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ وَلَا مَحَالَةَ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّطْلِيقِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِيهِ ، وَلَنَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي الْمُطْلَقِ ، فَيَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ الْغَيْرِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا .
وَأَمَّا فِي الْمُقَيَّدِ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ رَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ نَفْسِهِ ، وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ ؛ وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَهَذَا فَرْقٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ ، فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ ؛ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِمَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهُوَ

الْمَعْنَى الَّذِي يَنْفِي الْغَلَبَةَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا : الْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَوَلَّى تَخْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ التَّخْلِيقُ ، بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ يُقَالُ : إنْ شِئْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ أَيْ : إنْ شِئْت آثَرْتُ الْفِعْلَ وَإِنْ شِئْتُ آثَرْتُ التَّرْكَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ قَوْلِنَا : الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ هَهُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ لَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَلَغَا كَلَامُهُ ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ لَمْ يَلْغُ ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَان ، وَاخْتِيَارِ الْإِيثَارِ فِي التَّمْلِيكِ لَا فِي التَّوْكِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ عَنْ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَتَدْبِيرِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُ مِنْهُ الْعِبَارَةَ فَقَطْ فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَا مِنْ الْوَكِيلِ .
وَأَمَّا الْمُمَلَّكُ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِيثَارِهِ لَا بِالْمُمَلِّكِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ مُفِيدًا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لُغَةً هُوَ الْإِنَابَةُ ، وَالتَّفْوِيضَ هُوَ التَّسْلِيمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِذَلِكَ سَمَّى مَشَايِخُنَا الْأَوَّلَ تَوْكِيلًا وَالثَّانِيَ تَفْوِيضًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَالْمُطْلَقَ تَوْكِيلٌ وَالتَّمْلِيكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُمَلَّكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِشَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْخِطَابِ ؛ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا وُكِّلَ بِتَحْصِيلِهِ فِي

الْمَجْلِسِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِشَيْءٍ لَا يَحْضُرُهُ الْمُوَكِّلُ وَيُفْعَلُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَسْتَغْنِي بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ عَنْ اسْتِعَارَةِ عِبَارَةِ غَيْرِهِ فَلَوْ تَقَيَّدَ التَّوْكِيلُ بِالْمَجْلِسِ لَخَلَا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَيَكُونُ سَفَهًا وَيَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلَهُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَدْ صَارَ الثَّلَاثُ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : إيَّاهَا طَلِّقِي نَفْسَكَ أَيْ : حَصِّلِي طَلَاقًا ، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الثِّنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ لَفْظُ وُحْدَانٍ وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ لَا تَوَحُّدَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ فِي الشَّاهِدِ يُصْرَفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ : اسْقِ هَذِهِ الْأَرْضَ وَكَانَتْ الْأَرْضُ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ إلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ بِالسَّقْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ مَأْمُورًا بِهِ ، وَمَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ : اضْرِبْ هَذَا الَّذِي اسْتَخَفَّ بِي يَنْصَرِفُ إلَى ضَرْبٍ يَقَعُ بِهِ التَّأْدِيبُ عَادَةً وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِانْزِجَارُ وَمَنْ أَصَابَتْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ : اغْسِلِيهِ لَا تَصِيرُ مُؤْتَمِرَةً إلَّا بِغَسْلٍ مُحَصِّلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِي الشَّاهِدِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ وَالْعُرْفِ ، وَالْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مُخْتَلِفٌ ؛ فَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْمِلْكِ

وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ سَدًّا لِبَابِ التَّدَارُكِ ، فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى انْصَرَفَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَوْ الِاثْنَتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةَ كَالزَّوْجِ سَوَاءً ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ اقْتِضَاءَ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَ وَاحِدَةً تَقَعُ كَالزَّوْجِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَقَدْ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الثَّلَاثِ ، وَبَعْضُ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ مَمْلُوكًا ، وَلَوْ قَالَ : لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَقَعُ وَاحِدَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهَا أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا وَزَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَذَا هَذَا كَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَتَلْغُو صِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وُجُوهٌ مِنْ الْفِقْهِ : أَحَدُهَا أَنَّهُ

لَوْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ إمَّا أَنْ تَقَعَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ مَقْصُودًا أَوْ ضِمْنًا أَوْ ضَرُورَةَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِانْعِدَامِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَوُجُودِ لَفْظٍ آخَرَ وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهَا نَفْسِي وَسُكُوتِهَا عَلَيْهِ ، وَوَقْتَ وُقُوعِهَا مَعَ الثَّلَاثِ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ إذْ الزَّوْجُ لَمْ يُمَلِّكْهَا الثَّلَاثَ فَلَا تَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ فَلَا تَقَعُ الْوَاحِدَةُ ضِمْنًا لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَمَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ ، وَمَالِكُ إيقَاعِ الثَّلَاثِ يَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقَتْ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ ثَمَّ أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِوُجُودِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَقْتَ وُقُوعِهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثُمَّ اشْتَغَلَتْ بِغَيْرِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهَا فَلَغَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ : قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْقَعَتْ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً عَلَى مَا نَذْكُرُ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ الطَّلَاقِ .
وَالثَّانِي إنَّ الْمَرْأَةَ بِقَوْلِهَا : طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا أَعْرَضَتْ عَمَّا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا ،

وَدَلَالَةُ أَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الْوَاحِدَةَ وَهِيَ أَتَتْ بِالثَّلَاثِ ؛ وَالْوَاحِدَةُ مِنْ الثَّلَاثِ إنْ لَمْ تَكُنْ غَيْرَ الثَّلَاثِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ ذَاتًا ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَيْرَ نَفْسِهِ لَكِنَّهَا غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتًا .
( أَمَّا ) اللَّفْظُ فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ لَفْظِ الثَّلَاثِ .
وَكَذَا حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الثَّلَاثِ .
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ وَقْتِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَالثَّلَاثَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَدَدَ وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ ذِكْرُ عَدَدٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ ، وَيَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَصَارَتْ الْمَرْأَةُ بِاشْتِغَالِهَا بِذِكْرِ الثَّلَاثِ لَفْظًا مُعْرِضَةً عَنْ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِصَيْرُورَتِهَا مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَمَّا مَلَكَتْ ؛ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مَا مَلَكَتْ يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّمْلِيكِ وَخُرُوجَ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَتَفْوِيضَ الثَّلَاثِ تَفْوِيضُ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ ، وَتَمْلِيكَ الثَّلَاثِ تَمْلِيكُ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الثَّلَاثِ وَجُزْءُ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ فَلَمْ تَصِرْ بِاشْتِغَالِهَا بِالْوَاحِدَةِ مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ وَلَا تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ .
فَأَمَّا تَمْلِيكُ الْجُزْءِ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الْكُلِّ فَافْتَرَقَا .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ ، وَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ

الْمُنْفَرِدَةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَأَعْتَقَتْ عَبْدَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّوَحُّدِ ، وَالتَّوَحُّدُ يُنْبِئُ عَنْ التَّفَرُّدِ فِي اللُّغَةِ فَكَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ غَيْرِهَا ؛ وَهِيَ وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ بِإِتْيَانِهَا بِالثَّلَاثِ فَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِثَلَاثٍ مُجْتَمِعَةٍ وَالثَّلَاثُ الْمُجْتَمِعَةُ لَا يُوجَدُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مُنْفَرِدَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لِتَضَادٍّ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَكِنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً وَقَعَتْ كَمَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً ، وَلَوْ كَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ لَمَا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، فَإِذَا صَارَتْ الثَّلَاثُ - مُطْلَقًا - مَمْلُوكَةً لَهَا ، مُجْتَمَعَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَرِدَةً صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَمْلُوكَةً لَهَا مُنْفَرِدَةً كَانَتْ أَوْ مُجْتَمَعَةً ، فَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَدْ أَتَتْ بِالْمَمْلُوكِ ضَرُورَةً ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَقَالَتْ : طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ وَزِيَادَةً فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ ، وَهَهُنَا مَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا أَصْلًا وَرَأْسًا فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ : أَبَنْتُ

نَفْسِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا وَزِيَادَةٍ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ إلَيْهَا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلَغَا الْوَصْفُ وَهُوَ وَصْفُ الْبَيْنُونَةِ وَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا .
وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ بِشَرْطِ مَشِيئَتِهَا الثَّلَاثَ فَإِذَا شَاءَتْ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ لِوُجُودِ بَعْضِ شَرْطِ الْمِلْكِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ : تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : كُلْ مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ مَا شِئْتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ الرَّغِيفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَا كَلِمَةٌ عَامَّةٌ ، وَكَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا مِنْ الثَّلَاثِ بَعْضًا لَهُ عُمُومٌ وَذَلِكَ اثْنَانِ ؛ فَتَمْلِكُ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا وَهُوَ الثِّنْتَانِ .
وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّغِيفِ صُرِفَتْ كَلِمَةُ مِنْ عَنْ حَقِيقَتِهَا إلَى الْجِنْسِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ هُوَ السَّمَاحُ دُونَ الشُّحِّ خُصُوصًا فِي

حَقِّ مَنْ قُدِّمَ إلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْتُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يَقَعُ ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَمَرَهَا بِالتَّطْلِيقِ فَمَا لَمْ تُطَلِّقْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَمَشِيئَةُ التَّطْلِيقِ لَا تَكُونُ تَطْلِيقًا ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَقَدْ شَاءَتْ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ، وَإِنْ قَالَتْ : قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ قَوْلَهَا أَبَنْتُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ لُغَةً ، وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ لُغَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ يَتَأَخَّرُ شَرْعًا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَكَانَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مُوَافَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَإِذَا قَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي فَقَدْ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزَادَتْ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَتَلْغُو الصِّفَةُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْتُ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُكِ أَوْ قَالَ : اخْتَرْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ .
وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ : طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ ، وَلَوْ قَالَتْ : اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، بَلْ يَبْطُلُ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا فِي غَيْرِهِ فَيَلْغُو ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ كَأَنَّهَا قَالَتْ : أَبَنْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ

خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا ` ، وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَائِنًا أَوْ قَالَ لَهَا : طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَطَلَّقَتْ رَجْعِيَّةً يَقَعُ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ لَا مَا أَتَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ لَهَا ؛ فَتَمْلِكُ مَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ وَمَا أَتَتْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَإِذَا وَقَعَ الْأَصْلُ اسْتَتْبَعَ الْوَصْفُ الْمُمَلَّكُ فَيَقَعُ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَبْعَثَ الزَّوْجُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ الْغَائِبَةِ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ فَيَذْهَبُ الرَّسُولُ إلَيْهَا وَيُبَلِّغُهَا الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ كَلَامَ الْمُرْسِلِ فَكَانَ كَلَامُهُ كَكَلَامِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

عَدَمُ الشَّكِّ مِنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ شَكَّ فِيهِ ، لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ ، أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ وَلَا يَرِثَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَقَارِبِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشَّكِّ قَوْله تَعَالَى { : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ - { لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } اعْتَبَرَ الْيَقِينَ وَأَلْغَى الشَّكَّ ثُمَّ شَكُّ الزَّوْجِ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ التَّطْلِيقِ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَا ؟ وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَقَدْرِهِ ؛ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، أَوْ صِفَةِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً فَإِنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ يُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي وَصْفِهِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَتْ مُتَيَقَّنًا بِهَا .

( فَصْل ) وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ فَمِنْهَا الْمِلْكُ أَوْ عَلَقَةٌ مِنْ عَلَائِقِهِ ؛ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي عَلَقَةٍ مِنْ عَلَائِقِ الْمِلْكِ وَهِيَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى وَقْتٍ أَمَّا التَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ فَبَاطِلٌ ؛ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالُ الْحِلِّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ وَلَا حِلَّ وَلَا قَيْدَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إبْطَالُهُ وَرَفْعُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } .
وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ فَنَوْعَانِ : تَعْلِيقٌ فِي الْمِلْكِ ، وَتَعْلِيقٌ بِالْمِلْكِ .
وَالتَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ نَوْعَانِ : حَقِيقِيٌّ ، وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ : فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَكَانَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ فَصَحَّتْ الْيَمِينُ ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَالْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَكِنْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ طَلُقَتْ .
وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ

وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ ، وَلَكِنْ تَبْطُلُ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ ، وَالتَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ بَاطِلٌ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ ، وَلَوْ نَجَزَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقَعُ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ التَّطْلِيقَ كَلَامُهُ السَّابِقُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَ وُجُودِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ ، وَالثَّانِي أَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهُ تَنْجِيزًا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا ، وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْعِنِّينَ إذَا أَجَّلَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَدْ جُنَّ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا فَاطَّرَدَ الْكَلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَلَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِبَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ فَمَا قَامَتْ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ طَالِقٌ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ شَيْءٌ ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا

وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا تَعُودُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فِي قَوْلِهِمَا ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ هَلْ يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ ؟ عِنْدَهُمَا يَهْدِمُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَهْدِمُ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي الثَّلَاثَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا وَهَذِهِ مُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ قَدْ سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ حَقِيقَةً ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الطَّلْقَةُ الَّتِي سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَحَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ ، وَغَايَةُ الْحُرْمَةِ لَا تُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النُّصُوصُ : فَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } .
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَزَوَّجُوا وَلَا

تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تَقْتَضِي جَوَازَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا تَخَلَّلَهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ لَا إلَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي خُصَّتْ عَنْ النُّصُوصِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا تَحْتَهَا .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَسْنُونٌ وَعَقْدٌ وَمَصْلَحَةٌ لِتَضَمُّنِهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ التَّنَاقُضِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً بِمُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُبَايَنَةِ الطِّبَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجَةٍ أُخْرَى ، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَلِهَذَا فُوِّضَ الطَّلَاقُ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِيَتَأَمَّلَ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى ظَنِّ الْمُخَالَفَةِ ، ثُمَّ مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهَا حَتَّى تَزَوَّجَهَا بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ النِّفَارِ فِي طِبَاعِ الْفَحْلِ وَنِهَايَةِ الْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ طَرِيقَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي التَّجْرِبَةِ وَقَصَّرَ فِي التَّأَمُّلِ ؛ فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَصْلَحَةً لِقِيَامِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دَلِيلُ أَصْلِ الْمُوَافَقَةِ وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ كَمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ الْمَيْلُ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي

النَّفْرَةِ ثُمَّ لَمَّا حَلَّ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الْمَقَاصِدِ فَبَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْلَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً .
وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ إيَّاهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حِلٌّ جَدِيدٌ .
وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا حِلٌّ جَدِيدٌ أَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْحِلَّيْنِ حُرْمَةٌ يُجْعَلُ كَالدَّائِمِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَيَكُونُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَانَ الثَّانِي حِلًّا جَدِيدًا ، وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ .
وَأَمَّا فِي قَوْله تَعَالَى { : فَإِنْ طَلَّقَهَا } فَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَنَاوَلُ طَلْقَةً ثَالِثَةً مَسْبُوقَةً بِطَلْقَتَيْنِ بِلَا فَصْلٍ ، لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ وَإِصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي هَهُنَا حَاصِلَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا ، أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَنَقُولُ كَوْنُ الْإِصَابَةِ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ

عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا مُقَيَّدَةٌ بِالْحِلِّ الْقَائِمِ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَطْلَقَ وَمَا قَيَّدَ ، وَالْحِلُّ الْقَائِمُ إنْ بَطَلَ بِالتَّنْجِيزِ فَقَدْ وُجِدَ حِلٌّ آخَرُ ؛ فَكَانَ التَّعْلِيقُ بَاقِيًا وَقَدْ وُجِدَ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْقَى تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ الْحِلِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِ ، وَقَدْ بَطَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْحِلِّ الْقَائِمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ كَمَا إذَا صَارَ الشَّرْطُ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ هَذَا الْحِلِّ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَاقٌ مَانِعٌ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ ، وَالْمَنْعُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِكَوْنِهِ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ .
وَذَلِكَ هُوَ الْحِلُّ الْقَائِمُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لِلْحَالِ ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فَيَصْلُحُ مَانِعًا ، وَاَلَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي عَدَمٌ لِلْحَالِ ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَدَمِ فَكَانَ غَالِبَ الْعَدَمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَصْلُحُ إطْلَاقهُ مَانِعًا فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مَا لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْحَالِفُ أَطْلَقَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ .
وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ

إلَّا بِتَطْلِيقَاتِ هَذَا الْحِلِّ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الظِّهَارِ فَفِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ رَوَى أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ فَلَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْمِلْكِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ .

فَإِنْ كَانَ بِشَرْطَيْنِ هَلْ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَطَيْنِ جَمِيعًا ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا يُشْتَرَطُ بَلْ الشَّرْطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ .
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلَّمَتْ زَيْدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَكَلَّمَتْ عَمْرًا طَلُقَتْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَطْلُقُ ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِأَنْ كَلَّمَتْ زَيْدًا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ عَمْرًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ كَلَامَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو جَمِيعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَوُجُودُ جَمِيعِ الشَّرْطِ شَرْطٌ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْجَزَاءِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ فَكَذَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيُشْتَرَطُ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ وَوَقْتِ نُزُولِ الْجَزَاءِ وَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ لَا غَيْرَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إمَّا لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أَوْ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ نُزُولُ الْمُعَلَّقِ وَالْمِلْكِ الْقَائِمِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا .
فَأَمَّا وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا وَقْتَ نُزُولِ الْجَزَاءِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ .
وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ : كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ

مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الدُّخُولُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا عِنْدَ الدُّخُولِ : إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَالْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافَةً إلَى الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ الدَّارَ صَحَّتْ الْيَمِينُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ ، فَإِذَا كَلَّمَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَلَّمَتْ .
وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ تَنْجِيزًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا أَيْضًا فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ .
وَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ شَرْطُهُ فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَهَذَا وَقَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا سَوَاءٌ ؛ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَتِهَا كَمَا يَقِفُ عَلَى دُخُولِهَا وَكَلَامِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ كَقَوْلِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِك وَاخْتَارِي وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِمَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَمَشِيئَتُهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ مَا جُعِلَ عِلْمَنَا عَلَى الطَّلَاقِ ، وَهُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الطَّلَاقِ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عِلَّةً لَا شَرْطًا ،

وَمَشِيئَتُهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُودُ الطَّلَاقِ ، بَلْ هِيَ تَطْلِيقٌ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ مَشِيئَتُهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتُ أَنَا .
أَلَا تَرَى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : شِئْت طَلَاقَك طَلُقَتْ ، كَمَا إذَا قَالَ طُلِّقْتِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ طَلَّقْتُكِ كَانَ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ بِشَرْطِ التَّطْلِيقِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا يَقَعُ الْمُنَجَّزُ ثُمَّ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ ، وَالتَّعْلِيقُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَعَ هَذَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّنْجِيزَ يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ لَا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بَلْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ ، فَكَانَ التَّنْجِيزُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عِلْمًا مَحْضًا فَكَانَ شَرْطًا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ هَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَوْ أَحْبَبْتُ أَوْ رَضِيتُ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : إنْ شِئْتُ وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِحَقَائِقِهَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ ، وَمَتَى عُلِّقَ بِشَيْءٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا قَالَ لَهَا : إنْ كُنْت تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ : أُحِبُّ أَوْ أَبْغَضُ يَقَعُ الطَّلَاقُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : إنْ أَخْبَرْتِنِي عَنْ مَحَبَّتِكِ أَوْ بُغْضِكِ إيَّايَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ كَذَا هَذَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا : إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَكِ اللَّهُ بِالنَّارِ أَوْ إنْ كُنْت

تَكْرَهِينَ الْجَنَّةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ : أُحِبُّ النَّارَ أَوْ أَكْرَهُ الْجَنَّةَ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَالَ : إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ : أُحِبُّكَ بِقَلْبِي وَفِي قَلْبِهَا غَيْرُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَقَعُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْمَحَبَّةَ بِالْقَلْبِ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ لَا بِالْمُخَبِّرِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهَا مَحَبَّةٌ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ لَمَّا كَانَتَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهَا تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا دُونَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا إنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ حِضْتُ طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ وَاسْتَمَرَّ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } وَيَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ ، وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا مِنْ ذَلِكَ بِاتِّصَالِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ بِهَا فَكَانَ هَذَا فِي الْحَقَائِقِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ .
وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ : إذَا صُمْت يَوْمًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَيَّ صَوْمُ كُلِّ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَكَذَا هَذَا .
وَكَذَا إذَا قَالَ : إنْ

حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إذَا حِضْتِ حَيْضَةً .
وَكَذَا إذَا قَالَ : إذَا حِضْت سُدْسَ حَيْضَةٍ أَوْ ثُلُثَ حَيْضَةٍ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِذَا حِضْت نِصْفَهَا الْآخَرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلْقَةً بِنِصْفِ حَيْضَةٍ ، وَنِصْفُ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ ، وَعَلَّقَ طَلْقَةً أُخْرَى بِنِصْفِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ بِعَيْنِهَا وَهِيَ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَامِلَةٍ ؛ وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا وَاتِّصَالِ الطُّهْرِ بِهَا وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا الطُّهْرُ طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضِك ، فَحِينَ مَا رَأَتْ الدَّمَ تَطْلُقُ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ ، وَالْحَيْضُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ شَرْطًا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت ، وَكَلِمَةُ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الطَّلَاقِ مُقَارِنًا لِحَيْضِهَا فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضَتِك فَمَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ لَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الطُّهْرِ ، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَتَحِيضُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ لَا الْمَوْجُودُ فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِحَيْضٍ مُبْتَدَأٍ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ

طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَكِ فَقَالَتْ : حِضْت ؛ إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ كَذَّبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَا يَقَعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَثَبَتَ حَيْضُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ شَخْصٍ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا وَغَيْرَ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إذَا قَامَتْ عَلَى السَّرِقَةِ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ .
وَإِذَا قَالَ إذَا حِضْتِ فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ ، وَإِنْ كَذَّبَهَا لَا يَقَعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهَا عَلَى غَيْرِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَيْرِ .
وَلَوْ قَالَ : إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ وَلَدْت لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَادَتَهَا قَدْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَائِمًا ، وَالْوِلَادَةُ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَفِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ النَّسَبُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوِلَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ : دَخَلْتُ أَوْ كَلَّمْتُ ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا دَخَلْت أَوْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57