كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

الْحَرَمِ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحُرُمِ ، وَلَكِنْ يُبَاحُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَحَيْثُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَكَانِ ، فَكَانَ هَذَا إبَاحَةً لِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } إذَا دَخَلَ مُلْتَجِئًا ، أَمَّا إذَا دَخَلَ مُكَابِرًا أَوْ مُقَاتِلًا يُقْتَلُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مُقَاتِلًا فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ ، فَيُقْتَلُ تَلَافِيًا لِلْهَتْكِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْهَتْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ ، وَلَوْ انْهَزَمُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : النَّفَلُ ، وَالْفَيْءُ ، وَالْغَنِيمَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ .
( أَمَّا ) النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ ، وَسُمِّيَتْ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا زِيَادَاتٍ عَلَى الْفَرَائِضِ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ ، سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَالتَّنْفِيلُ هُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ : مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ : مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَوْ قَالَ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ قَالَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ : مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ : فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ النَّفْلِ أَصْلًا ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَهُ مَعَ سَرِيَّةٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ فِي الْكُلِّ ، وَالسَّلَبُ هُوَ ثِيَابُ الْمَقْتُولِ وَسِلَاحُهُ الَّذِي مَعَهُ ، وَدَابَّتُهُ الَّتِي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا ، وَمَا كَانَ

مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ ، أَوْ عَلَى وَسَطِهِ .
( وَأَمَّا ) حَقِيبَةُ غُلَامِهِ ، وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ مِنْ دَابَّةٍ أُخْرَى ، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ كَانَ السَّلَبُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ ، ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى قَدْ أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى لَمْ تُصَيِّرْهُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فِي التَّنْفِيلِ ؟ إنْ قَالَ : فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : مِنْكُمْ يَدْخُلْ ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ ، هَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ ، فَإِنْ لَمْ يُنَفِّلْ شَيْئًا ، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْغُزَاةِ قَتِيلًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ } نَصْبُ الشَّرْعِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَخْتَصُّ بِالسَّلَبِ ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْمُصَابِ مِنْ السَّلَبِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كَانَ هُوَ الْجِهَادَ وُجِدَ مِنْ الْكُلِّ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ ، وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ لِلْكُلِّ ، فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ

بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بِإِطْمَاعِ زِيَادَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ زِيَادَةُ غِنًى وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ ، لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ ، وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ ، إلَّا بِإِطْمَاعِ زِيَادَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَإِذَا لَمْ يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ الْقَوْلَ شَرْعًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ، مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ ، فَإِذَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قَبْلَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ } فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَفَّلَ مِنْ الْخُمْسِ ، أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه - تَعَالَى - عَلَيْهِ ، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي غَنِيمَةً وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ ، أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ النَّفْلِ بِالْمُنَفَّلِ حَتَّى لَا يُشَارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ؟ فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا خُمْسَ فِي النَّفْلِ ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالنَّفَلُ مَا أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ ، وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ الْغُزَاةَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا أَصَابُوا ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أَوْ الْجِهَادَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا ، وَقَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ عَنْهُ ، فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ فَيُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا ) الْفَيْءُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ ، وَلَا رِكَابٍ ، نَحْوُ الْأَمْوَالِ الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ هِيَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقَدْ كَانَ الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ ، يَخْتَصُّهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ شَاءَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَانَتْ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ فَدَكَ لَمَّا بَلَّغَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ { أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ ، بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَالَحُوهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ ، فَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ ، } ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَنَّ

الْإِمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ هَيْبَةَ الْأَئِمَّةِ بِسَبَبِ قَوْمِهِمْ ، فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ .
( وَأَمَّا ) هَيْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ مِنْ الرُّعْبِ لَا بِأَصْحَابِهِ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ } لِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَكُونُ لِلْآخِذِ خَاصَّةً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً فَيَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ ، كَمَا إذَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَاسْتَقْبَلَتْهَا سَرِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَتْهَا إنَّهُمْ يَخْتَصُّونَ بِمِلْكِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَنْ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ ، وَالِاسْتِيلَاءُ هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً ، وَأَهْلُ الدَّارِ إنْ كَانَتْ لَهُمْ يَدٌ لَكِنَّهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَالْحُرُّ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ لَا تَصْلُحُ مُبْطِلَةً لِلْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا ، وَنَقْضُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ ، لَا بِمَا هُوَ دُونَهُ فَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَيَدٌ حَقِيقَةً ، وَهِيَ مُحِقَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ مُبْطِلَةٌ ، فَجَازَ إبْطَالُهَا بِهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ ، وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْكُلِّ ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَى جَمَاعَةٌ

عَلَى صَيْدٍ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَا فِي الدَّارِ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنَائِمِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، كَهَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ : يَدُ أَهْلِ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ ، فَلَا تُبْطِلُهَا .
قُلْنَا وَيَدُ أَهْلِ الدَّارِ حَقِيقِيَّةٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ ، وَلِأَهْلِ الدَّارِ آلَاتٌ سَلِيمَةٌ لَوْ اسْتَعْمَلُوهَا فِي التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ لَحَدَثَتْ لَهُمْ بِمَجْرَى الْعَادَةِ قُدْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ وَمُعَارَضَتُهُمْ ، مَعَ مَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ يَدُ الْآخِذِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلَّهُمْ مَنَعَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ دِينٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْكُلِّ مَعْنًى ، كَمَا إذَا دَخَلَ الْغُزَاةُ دَارَ الْحَرْبِ ، فَأَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْكَفَرَةِ ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ يَكُونُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ الْكُلِّ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا السَّرِيَّتَانِ إذَا الْتَقَتَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَأَخَذَ مِنْهَا سَرِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا اخْتَصُّوا بِمِلْكِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَهِيَ أَنَّ بِالْإِمَامِ حَاجَةً إلَى بَعْثِ السَّرَايَا لِحِرَاسَةِ الْحَوْزَةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ عَنْ شَرِّ الْكَفَرَةِ ، إذْ الْكَفَرَةُ يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولَ فِي حُدُودِهَا بَغْتَةً ، فَإِذَا عَلِمُوا بِبَعْثِ السَّرَايَا وَتَهَيُّئِهِمْ لِلذَّبِّ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ ، قَطَعُوا الْأَطْمَاعَ فَبَقِيَتْ الْبَيْضَةُ مَحْرُوسَةً ، فَلَوْ لَمْ يَخْتَصُّوا بِالْمَأْخُوذِ ، لَمَا انْقَادَ طَبْعُهُمْ لِكِفَايَةِ هَذَا الشُّغْلِ ، فَتَمْتَدُّ أَطْمَاعُ الْكَفَرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِهَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً ، فَأَصَابُوا شَيْئًا يَخْتَصُّونَ بِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْفِيلِ ؛ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِزِيَادَةِ شَجَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لِإِظْهَارِهِ ، إلَّا بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هَذَا .
وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، وَلَمْ يُوجَدْ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ ، فَكَانَ مُبَاحًا ، مُلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ ، وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ ، وَهَذَا فَرْعُ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ

أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ ، وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ : الْأَخْذُ حَقِيقَةً ، فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَوْ رَجَعَ هَذَا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ إنَّهُ يَعُودُ حُرًّا كَمَا كَانَ كَذَا هَذَا وَلَوْ ادَّعَى هَذَا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ .
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فَكَأَنَّ دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَتُقْبَلُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْآخِذُ : إنِّي آمَنْتُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ .
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ دَخَلَ هَذَا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ ، فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ ، وَالدَّلِيلُ

عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يُبْطِلْ الْمِلْكَ ، فَالْحَرَمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْحَرَمِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ ، لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ ، وَلَا يُسْقَى ، وَلَا يُؤْوَى ، وَلَا يُبَايَعُ ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ .
وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ ، وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ ، فَإِذَا أَمَّنَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَرْمُوقٌ وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَكَانَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَالْأَخْذُ فِي الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لَكِنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فِي الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَا دَامَ فِيهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا .
الْأَوَّلُ : فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، وَالْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ ، أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَنَعَةِ ، وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْمَنَعَةَ أَصْلًا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا أَمْوَالًا مِنْهُمْ ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ بِالْإِجْمَاعِ .
سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِوُجُودِ الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً ، وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ } وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَلَوْ دَخَلَ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، كَانَ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا ؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً عَلَى مَا نَذْكُرهُ وَلَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً عِنْدَنَا ؛ لِانْعِدَامِ الْمَنَعَةِ أَصْلًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ غَنِيمَةً .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغَنَمَ وَالْمَغْنَمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَالٍ أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَأَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ .
وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى - { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أَشَارَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً ، وَإِصَابَةُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ ، إمَّا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً بَلْ كَانَ مَالًا مُبَاحًا ، فَيَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ كَالصَّيْدِ ، إلَّا إنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَخَذَا صَيْدًا ، أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
أَمَّا حَقِيقَةُ الْمَنَعَةِ فَظَاهِرَةٌ ، وَكَذَا دَلَالَةُ الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ ضَمِنَ لَهُ الْمَعُونَةَ بِالْمَدَدِ وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَكَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ امْتِنَاعًا بِالْجَيْشِ الْكَثِيفِ مَعْنًى ، فَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ ، فَالْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرِيقٍ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، أَنَّهُ إنْ تَفَرَّدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَخْذِ شَيْءٍ فَلِكُلِّ فَرِيقٍ مَا أَخَذَ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِالدُّخُولِ ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَإِنْ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْأَخْذِ ، فَالْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الْآخِذِينَ ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِخُمْسٍ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكَةً فِيهِ الْآخِذُ وَغَيْرُ الْآخِذِ ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ ، وَهَذَا سَبِيلُ الْغَنَائِمِ ، وَمَا أَصَابَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ لَا خُمْسَ فِيهِ ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْآخِذِينَ ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ الَّذِينَ لَمْ

يَأْخُذُوا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ .
وَهَذَا حُكْمُ الْمَالِ الْمُبَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَا وَكَانَ لَهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَنَعَةٌ ، فَمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَتَهُمْ بِخُمُسٍ ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ غَنِيمَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ ، فَكَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُمْ مَنَعَةٌ ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ لِصٌّ أَوْ لِصَّانِ لَا مَنَعَةَ لَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ لَقَوْا قِتَالًا وَأَصَابُوا مَالًا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ ، فَمَا أَصَابَ الْعَسْكَرَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ اللِّصُّ ، فَإِنَّ هَذَا اللِّصَّ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ ، وَمَا أَصَابُوهُ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ هَذَا اللِّصُّ بِهِمْ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ قَبْلَ اللَّحَاقِ حَصَلَتْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ حَقِيقَةً ، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ غُنْيَةً عَنْ مَعُونَةِ اللِّصِّ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُصَابِ قَبْلَ اللَّحَاقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْجَيْشَ إذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا ؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَسْتَعِينُ بِالْمَدَدِ لِقُوَّتِهِمْ ، فَكَانَ الْإِحْرَازُ حَاصِلًا بِالْكُلِّ .
وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بَعْدَ اللُّحُوقِ حَصَلَتْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُلِّ ، لِذَلِكَ شَارَكَهُمْ بِخِلَافِ اللِّصِّ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - .

وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ شَيْئًا مِنْ الْمَتَاعِ الَّذِي لَهُ قِيمَةٌ ، وَلَيْسَ فِي يَدِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ ، كَالْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ وَالْخَشَبِ وَالسَّمَكِ ، فَذَلِكَ غَنِيمَةٌ ، وَفِيهِ الْخُمْسُ ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إنَّمَا أَخَذَهُ بِمَنَعَةِ الْجَمَاعَةِ وَقُوَّتِهِمْ ، فَكَانَ مَالًا مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، فَكَانَ غَنِيمَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيمَةٌ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَا يَقَعُ فِيهِ تَمَانُعٌ وَتَدَافُعٌ ، فَلَا يَقَعُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً ، وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْخَشَبِ فَعَمِلَهُ آنِيَةً أَوْ غَيْرَهَا رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ بِذَاتِهِ فَالْعَمَلُ فِيهِ فَضْلٌ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً لِمَا قُلْنَا ، وَلَا خُمْسَ فِيمَا يُؤْخَذُ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً ، وَكَذَا مَا بُعِثَ رِسَالَةً إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا خُمْسَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَافْتَدَوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ : الْمَتَاعُ ، وَالْأَرَاضِي ، وَالرِّقَابُ ، أَمَّا الْمَتَاعُ : فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، وَلَا خِيَارَ لِلْإِمَامِ فِيهِ .
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَلِلْإِمَامِ فِيهَا خِيَارَانِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ ، بِأَنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ ، وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ بِالْخَرَاجِ بَلْ يَقْسِمُهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ ، فَكَانَ التَّرْكُ فِي أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ .
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فِيهَا بَيْنَ خِيَارَاتٍ ، ثَلَاثٍ ، إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى مِنْهُمْ ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ هُوَ الْإِبَانَةُ مِنْ الْمِفْصَلِ ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ حَالَ الْقِتَالِ ، وَيُقْدَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ

وَالْأَسْرِ وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَسَارَى بَدْرٍ ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ ، وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْقَتْلِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ جَاءَتْ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ } .
أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَبِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ ، لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا ، بَلْ يُقْتَلُونَ أَوْ يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَجَمِ ، وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَالْمُرْتَدِّينَ ، وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ ، وَهُمْ فِي الْكُفْرِ سَوَاءٌ ، فَكَانُوا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ

وَالْمُرْتَدِّينَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْهُمْ فَيُسْتَرَقُّونَ كَمَا يُسْتَرَقُّ نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَهُمْ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ .
وَكَذَا الصَّحَابَةُ اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ ، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ ، فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ جَازَتْ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسِيرِ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ ، لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَرَجَعَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَالَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ .
وَكَذَا مَنَّ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ بِدُونِهَا ، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ ، فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .

وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى ؟ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ تَجُوزُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ ، وَالْإِبَاحَةُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا ، وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا لَهُ ، وَلِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحِرَابِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى مِنْهُ وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ : إنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ ، وَهُوَ الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .

وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فِيمَنْ مُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَسْرِهِمْ عَلَى أَنْ يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ خَيْبَرَ ، أَوْ ذِمَّةً كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَهْلِ السَّوَادِ ، وَيُسْتَرَقُّونَ .
( وَأَمَّا ) أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ نَارًا مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسَارَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، أَيْ حَتَّى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ مَنَعَةً عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ بِهَا ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِيَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ ؛ إذْ لَوْ أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ ، وَصَارُوا حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْغَلَبَةُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُفَادَاةَ كَانَتْ جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ ، بَلْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ ، وَعَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ ، أَيْ لَوْلَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا

عَلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ ، لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَكَذَا لَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ ، وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهَا إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ ، وَلَا يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى ، وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْحَقُّ ثَابِتٌ ، ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ ، فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصْلِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، إنَّمَا الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى ، وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْحَرْبِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْأَسَارَى ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ { لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ ، وَحَرَّ السِّلَاحِ ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ ؛ } لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ { وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ } ؛ لِأَنَّهُ لَهُ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَ شَيْئًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَكَمَ فِيهِ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْإِمَامِ ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ ، أَوْ بِالِاحْتِلَامِ عَلَى قَدْرِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ ، وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ

الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا ، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا ، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ ، وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ ، إنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ ، إمَّا لَا يَرْفَعُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ ، قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ ، وَقِسْمَةُ مِلْكٍ .
( أَمَّا ) قِسْمَةُ الْحَمْلِ ، فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ ، وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذَلِكَ ، وَتَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ فَكَذَا هَذَا .

( وَأَمَّا ) قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَصْلًا فِيهَا ، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا مِنْ وَجْهٍ ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْأَحْرَارِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ ، أَوْ حَقِّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَهُ فِي حَالِ فَوْرِ الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ : ( مِنْهَا ) أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُشَارِكُونَهُمْ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجَازِفًا غَيْرَ مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تَجُوزُ .
( فَأَمَّا ) إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ

بِأَوْطَاسٍ ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْجِعْرَانَةِ } وَهِيَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ بَدْرٍ ، وَأَدْنَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَالٌ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ ، وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ ، وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ ، أَوْ يَخْرُجُ الْمَحَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ ، أَوْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ الْمِلْكُ لَهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
( أَمَّا ) الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ .

( وَأَمَّا ) قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ ؛ فَلِأَنَّ الْغُزَاةَ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ لَيْسَ بَنَادِرِ ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ ، وَالْمِلْكُ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ فَلَا يَزُولُ مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ : فَأَمَّا غَنَائِمُ خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ ، فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ .
( وَأَمَّا ) غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَهَا بِالْمَدِينَةِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ التَّعَارُضِ ثُمَّ الْمِلْكُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ لَهُمْ حَتَّى يَجُوزَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَلَوْلَا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لَجَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالًا مُبَاحًا وَكَذَا لَوْ وَطِئَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا فَأُورِثَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ مَنَافِعِ بِضْعِهَا ، وَلَوْ أَتْلَفَهَا لَا يَضْمَنُ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا لَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ مُعْتَمَدُ الْمِلْكِ أَوْ الْحَقِّ الْخَاصِّ ، وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا ، وَالْحَقُّ عَامٌّ .
وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ حُرًّا ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ أَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ دَافِعًا الْحَقَّ ، لَا رَافِعًا إيَّاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( وَأَمَّا ) بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ ، أَوْ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ وَيَتَقَرَّرُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الثَّابِتَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، أَوْ تَأَكُّدِ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا ، وَهُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ وُجِدَ ، فَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ ، وَيَضْمَنُ الْمُتْلِفُ ، وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ الْخَاصِّ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَمِلْكٌ عَامٌّ ، أَوْ حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعْتَاقَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ وَالْقِسْمَةَ ، وَيَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ ، وَانْقِطَاعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ وَادَّعَى الْوَلَدَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اسْتِحْسَانًا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ وَأُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَقِفَانِ عَلَى مِلْكٍ خَاصٍّ ، وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ ، أَوْ حَقٍّ خَاصٍّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ الْعَامَّ أَوْ الْحَقَّ الْخَاصَّ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ .

( وَأَمَّا ) بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ الْأَنْصِبَاءِ وَتَعْيِينُهَا ، وَلَوْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فَوَقَعَ عَبْدٌ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا خَاصًّا فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي سَهْمِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ ، يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ الشُّرَكَاءُ أَوْ كَثُرُوا .
( وَرُوِيَ ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرَ فِي خُصُوصِ الْمِلْكِ إلَى الْقِسْمَةِ ، وَأَبُو يُوسُفَ إلَى الْعَدَدِ ، وَالصَّحِيحُ نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَتَعْيِينٌ ، فَكَانَتْ قَاطِعَةً لِعُمُومِ الشَّرِكَةِ ، مُخَصِّصَةً لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ ، ثُمَّ جَاءَ عَسْكَرٌ آخَرُ فَأَخَذَهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ اخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنِيمَةُ لِلْآخَرِينَ ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ حَقٍّ غَيْرِ مُتَقَرِّرٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْآخَرِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمِلْكِ ، فَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَنَائِمِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ قَدْ اقْتَسَمُوهَا فَالْقِسْمَةُ لَهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْقِسْمَةِ مِلْكًا خَاصًّا ، فَإِذَا غَلَبَهُمْ الْكُفَّارُ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، فَإِنْ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ ، ثُمَّ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَالْآخَرُونَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ مِلْكٌ خَاصٌّ بِالْقِسْمَةِ وَالثَّابِتِ لِلْأَوَّلِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ عَامٌّ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى .

( وَأَمَّا ) إذَا وَجَدَهَا قَبْلَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْآخَرِينَ أَوْلَى .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الثَّابِتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ الْمُتَأَكَّدَ ، لَكِنَّ نَقْضَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي النَّسْخِ ، وَلِهَذَا جَازَ نَقْضُ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ ، وَحَقُّ الْأَوَّلِينَ زَائِلٌ ذَاهِبٌ ، فَاسْتِصْحَابُ الْحَالَةِ الثَّابِتَةِ أَوْلَى ، إذْ هُوَ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمِلْكِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ الْحَادِثُ بِالْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ النَّقْضَ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا ( بِخِلَافِ ) الْقِيَاسِ ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُفَّارُ أَحْرَزُوا الْأَمْوَالَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا حَتَّى أَخَذَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَالْغَنَائِمُ لِلْأَوَّلِينَ سَوَاءٌ قَسَمَهَا الْآخَرُونَ أَوْ لَمْ يَقْسِمُوهَا ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَكَانَتْ الْغَنَائِمُ فِي حُكْمِ يَدِ الْأَوَّلِينَ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ الْآخَرُونَ أَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِي الْأَوَّلِينَ فَيَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ عَلَيْهِ ، إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَسَمَهَا بَيْنَ الْآخَرِينَ وَرَأْيُهُ أَنَّ الْكَفَرَةَ قَدْ مَلَكُوهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ .
وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ النَّاسِ ، فَكَانَتْ قِسْمَةً فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَنْفُذُ ، وَتَكُونُ لِلْآخَرِينَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَنَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ .

( وَأَمَّا ) الْغَنَائِمُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الْأَنْفَالُ ، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِيهَا ؟ ( قَالَ ) بَعْضُ الْمَشَايِخِ : إنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالْإِصَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَّلَ ، فَقَالَ : مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ .
فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَارِيَةً ، فَاسْتَبْرَأَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَيْضَةٍ ، لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأَنْفَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ ، فَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَ الْغَنَائِمِ ، فَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا الْمُشْتَرِي بِحَيْضَةٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
( وَلَا خِلَافَ ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، بِخِلَافِ الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عَنْ سَبَبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَفِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ ضَرُورَةٌ ، وَهِيَ خَوْفُ شَرِّ الْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَاشْتَغَلُوا

بِالْقِسْمَةِ ، وَلَتَسَارَعَ كُلُّ أَحَدٍ إلَى إحْرَازِ نَصِيبِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ ، وَفِيهِ خَوْفُ تَوَجُّهِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَفَرَةِ ، فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فِيهَا إلَى مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْأَنْفَالِ ؛ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ ، فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ لَا يُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ كَمَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُنَفَّلُ لَهُ يُورَثُ نُصِيبُهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمِلْكِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ أَصْلًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ قَدْ يَمْتَنِعُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ لِعَوَارِضَ : مِنْ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَالْمَحْرَمِيَّة ، وَالصِّهْرِيَّة ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ .
ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحِلُّ هُنَاكَ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ فَكَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِرْدَادِ قَائِمًا ، وَمَتَى اسْتَرَدُّوا يَرْتَفِعْ السَّبَبُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَيَلْتَحِقْ بِالْعَدَمِ ، إمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ وَبَيْعِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ ، وَإِنْ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً وَبَيْعُهُ نَافِذًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ فِي هَذِهِ

الصُّورَةِ ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا بَيَانُ ) مَا يَجُوزُ بِهِ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنَائِمِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) فِي بَيَانِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا .
( وَالثَّانِي ) فِي بَيَانِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ .
( أَمَّا الْأَوَّلُ ) فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ مِنْهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا كَانَ الْمُنْتَفِعُ أَوْ غَنِيًّا ؛ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا حَمْلَهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ وَمُقَامِهِمْ فِيهَا لَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ ، بَلْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْمَحَالُّ بِالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مَأْكُولًا مِثْلَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ وَيُدْهِنَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَدَابَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ .
وَمَا كَانَ مِنْ الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ مِثْلُ الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ ، بَلْ مِنْ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا عُرُوضٍ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ ، وَإِسْقَاطَ اعْتِبَارِ الْحُقُوقِ وَإِلْحَاقِهَا بِالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَالٍ مَمْلُوكٍ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ تَعَلَّقَ

بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ فَكَانَ مَرْدُودًا إلَى الْمَغْنَمِ ، وَلَوْ أَحْرَزُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ رَدُّوهَا إلَى الْمَغْنَمِ ؛ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ تَصَدَّقُوا بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ لِتَعَذُّرِ قِسْمَتِهِ عَلَى الْغُزَاةِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ اللُّقَطَةَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ انْتَفَعَ بِهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ لِكَوْنِهِ مَالًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ ، وَتَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِمْ ، فَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ ، وَهُوَ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَا سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، وَفِي الِانْتِفَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ السِّلَاحِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ الثِّيَابِ ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ ، بِأَنْ انْقَطَعَ سَيْفُهُ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ سَيْفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُقَاتِلَ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ .
وَكَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ فَرَسٍ ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبٍ إذَا دَفَعَ حَاجَتَهُ بِذَلِكَ ، رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ أَيْضًا ، لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الضَّرُورَةِ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وِقَايَةً لِسِلَاحِهِ وَدَوَابِّهِ وَثِيَابِهِ وَصِيَانَةً لَهَا ، فَلَا يَنْبَغِي

لَهُ ذَلِكَ ؛ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ ، وَهَكَذَا إذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أَوْ الْغَنَمَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ وَرَدُّوا الْجُلُودَ إلَى الْمَغْنَمِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْغَنَائِمِ ، فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إلَّا الْغَانِمُونَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلتُّجَّارِ أَنْ يَأْكُلُوا شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَّا بِثَمَنٍ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ ، وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا عَبِيدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَ الرَّجُلِ عَلَى هَؤُلَاءِ إنْفَاقٌ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ ، وَمَنْ لَا فَلَا وَلَا يَجُوزُ لِأَجِيرِ الرَّجُلِ لِلْخِدْمَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَيْهِ وَلِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْحَرْبِ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَعْلِفَ دَابَّتَهَا وَتُطْعِمَ رَقِيقَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، فَكَانَتْ مِنْ الْغَانِمِينَ وَاَللَّه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ ، وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، مِنْهَا وَهُوَ خُمْسُ الْغَنِيمَةِ لِأَرْبَابِهِ ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ أَمَّا الْخُمْسُ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمْسِ ، وَفِي بَيَانِ مَصْرِفِهِ ، فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ فِي حَالِ حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى ، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وَإِضَافَةُ الْخُمْسِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا إلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ عَلَى مَا تُضَافُ الْمَسَاجِدُ وَالْكَعْبَةُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِكَوْنِهَا مَوَاضِعَ إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلْخُمْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ جُزْئِيَّةِ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهَا تَخْرُجُ مَخْرَجَ تَعْظِيمِ الْمُضَافِ ، كَقَوْلِهِ : نَاقَةُ اللَّهِ ، وَبَيْتُ اللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخُلُوصِهِ - لِلَّهِ تَعَالَى - بِخُرُوجِهِ عَنْ تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وَالْمُلْكُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَكِنْ خَصَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْمُلْكِ لَهُ فِيهِ ؛ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْأَغْيَارِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَعْدَ وَفَاتِهِ أَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّهُ سَقَطَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ ، وَيُصْرَفُ إلَى الْخُلَفَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا كَانَ يَأْخُذُهُ كِفَايَةً لَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مَشْغُولُونَ بِذَلِكَ فَيُصْرَفُ سَهْمُهُ إلَيْهِمْ كِفَايَةً لَهُمْ .
( وَلَنَا ) أَنَّ ذَلِكَ الْخُمْسَ كَانَ خُصُوصِيَّةً لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً ، وَالْفَيْءُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْفَيْءِ وَالصَّفِيِّ ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْخُمْسِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ لَكَانَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّا - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ - لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ } ( وَأَمَّا ) سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ بَاقٍ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَوْلَادِ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَغَيْرِهَا ، يَسْتَوِي فِيهِ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَنَا فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ بَقِيَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ لِفُقَرَاءِ الْقَرَابَةِ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ ، يُعْطَوْنَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ ، وَقَدْ بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كِفَايَتَهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَيُجَاوَزُ لَهُمْ مِنْ الْخُمْسِ أَيْضًا لِمَا لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، لَكِنْ

يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى غَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ الْخُمْسُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ ، وَيُقَدَّمُونَ ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ عَلَى حِدَةٍ يُصْرَفُ إلَى غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ فَإِنَّ - اللَّهَ تَعَالَى - جَعَلَ سَهْمًا لِذَوِي الْقُرْبَى ، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَسَمَ الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، وَأَعْطَى سَهْمًا مِنْهَا لِذَوِي الْقُرْبَى } ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَاسِخٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ ، وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَحِلُّ مَعَ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛

لِأَنَّ اسْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الْقَرَابَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ قَرَابَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ قَسَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، فَأَعْطَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَا الْقُرْبَى سَهْمًا } فَنَعَمْ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ أَوْ لِقَرَابَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمْنَا بِقِسْمَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ فَتَنَاوَلَ مِنْ وَبَرِ بَعِيرٍ ، وَقَالَ : { مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ وَلَا وَزْنُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمْسُ وَهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ، رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ ، فَإِنَّ الْغَلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لَمْ يَخُصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْخُمْسِ بَلْ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ أَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ سَائِرِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، يُعْطَى مَنْ يَحْتَاجُ مِنْهُمْ كِفَايَتَهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ أُعْطِيَ أَيُّ فَرِيقٍ اتَّفَقَ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ لَا لِإِيجَابِ الصَّرْفِ إلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ شَيْئًا ، بَلْ لِتَعْيِينِ الْمَصْرِفِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ ،

كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ .

مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهَا هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ ، وَذَا كَمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا ثَلَاثًا : ثُلُثٌ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ وَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ ، وَثُلُثٌ يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ ، وَثُلُثٌ يَكُونُونَ رَدًّا لَهُمْ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ .
وَسَوَاءٌ كَانَ مَرِيضًا أَوْ صَحِيحًا ، شَابًّا أَوْ شَيْخًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ .
( فَأَمَّا ) الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ ، وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ ، فَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا ؟ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؟ وَهِيَ ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا مِنْ الْغَنَائِمِ } .
وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَسْكَرُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَكَانَ مُقَاتِلًا ، وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ، فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ ، وَإِنْ لَمْ

يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِلًا .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ فِي الْبَابِ ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ ، } وَفِي بَعْضِهَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ } إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ أَصْلٌ فِي الْجِهَادِ ، وَالْفَرَسُ تَابِعٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ ، وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ وَحْدَهُ ، فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا فِي بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ التَّبَعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي السَّهْمِ ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ ، فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَتِيقُ مِنْ الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي النُّصُوصِ بَيْنَ فَارِسٍ وَفَارِسٍ ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ لَهُ إلَى فَرَسَيْنِ ، يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا

وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حَتَّى إذَا أَعْيَا الْمَرْكُوبُ عَنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ ، فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ كَفَرَسٍ وَاحِدٍ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ أَصْلُ الْإِرْهَابِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ عَلَى فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ .
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَالِ الْمُقَاتِلِ مِنْ كَوْنِهِ فَارِسًا ، أَوْ رَاجِلًا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ، فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَبَرُ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ، حَتَّى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أَوْ نَفَرَ ، أَوْ أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ بِالْجِهَادِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ ، وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا مِنْ بَابِ الْمُقَاتَلَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ ، قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } وَقَالَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ - { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وَقَالَ

- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ ، وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تَخْلُو عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ ، فَإِذَا دَخَلَهَا جَيْشٌ كَثِيفٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ ، فَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هَرَبًا إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ ، فَكَانَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وَمَا الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِإِعْزَازِ دِينِهِ ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ، وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ .
وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ ، بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا ، ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ : إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَعَلَى

هَذَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَ ، أَوْ اسْتَعَارَ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا ؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الدُّخُولِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ آجَرَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وَهُوَ رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ ، وَسَوَّى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ قَبْلَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا ، وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا ، بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَادَةً ، بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ بِعَامَّةِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ ، إنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ ، وَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ ، وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَكَذَا لَوْ قَسَمُوهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَخَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ ، أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ ، حَتَّى لَوْ قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ مِنْ إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمُدَبِّرِيهِمْ ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ ، وَمُكَاتَبِيهِمْ ، أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ ، وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ ، أَوْ بَاعَهُ ، أَوْ كَاتَبَهُ ، أَوْ دَبَّرَهُ ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذَلِكَ خَاصَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَمْلِكُونَهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ

لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا ، وَالْمَحْظُورُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ ، كَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ ، وَدَلَالَةُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ يَزُولُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً بِزَوَالِ الْمِلْكِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ ، وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ ، وَغَيْرُهُ قَدْ لَا يُوَافِقُهُ وَلَوْ وَافَقَهُ فَقَدْ لَا يَظْفَرُ بِهِ ، وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِرْدَادُ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ ، وَأَهْلُ الدَّارِ يَذُبُّونَ عَنْ دَارِهِمْ ، فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِنَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَلِهَذَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ ، وَالْمُدَبَّرَيْنِ ، وَالْمُكَاتَبِينَ ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، وَهَذَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَأَمَّا إذَا أَبَقَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، وَلَحِقَ

بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَمْلِكُونَهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُونَهُ قِيَاسًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ وَسَائِرَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَالِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ ؟ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْمُدَبَّرَيْنِ ، وَالْمُكَاتَبِينَ ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، وَدَلَالَةُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِيلَاءِ هُوَ الْمَالُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْغَانِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَكَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَتَزُولُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الرِّقُّ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ شَرْعًا ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِيهَا لَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَبِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ حَقِيقَةً صَادَفَهُ وَهُوَ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِمَانِعٍ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِكِ ، فَإِذَا أَحْرَزُوهُ

بِدَارِهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، فَيَعْمَلُ الِاسْتِيلَاءُ السَّابِقُ ، وَعَمَلُهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ .
وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ ضَرُورَةَ الْمَرْءِ هَاهُنَا ؛ لِاسْتِيلَاءِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا أَصْلًا ، وَبَعْدَ مَا وُجِدَ الِاسْتِيلَاءُ لَا مَالِيَّةَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يُصَادِفْ الِاسْتِيلَاءُ مَحَلَّهُ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ : مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ ، وَيَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهٍ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ ، إمَّا بِعِوَضٍ ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا يَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ لَأَخَذَهُ بِمِثْلِهِ فَلَا يُفِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ مُرَاعَاةَ الْجَانِبَيْنِ : جَانِبِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ بِإِيصَالِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَجَانِبِ الْغَانِمِينَ بِصِيَانَةِ مِلْكِهِمْ الْخَاصِّ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، إنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ إلَّا الْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ ، أَوْ الْمِلْكُ الْعَامُّ ، فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ رِعَايَةً لِلْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعِيرًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَغْنَمِ ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ : { إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِالْقِيمَةِ } .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ بَاعَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ ؛

لِأَنَّهُ بَاعَهُ مُسْتَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْحُرُّ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ .
وَلَوْ وَهَبَ الْحَرْبِيُّ مَا مَلَكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ ، بِأَنْ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدَ الْمُسْلِمِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَصِحَّ ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا فَاسِدًا ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ فَاسِدًا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ ، إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُفِيدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَكِنْ بِأَقَلَّ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا رِبًا ، لِأَنَّ الرِّبَا فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ .
وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ لَا يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ ، بَلْ بِطَرِيقِ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ بِمِثْلِهِ قَدْرًا لَا يَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الثَّانِي ، وَلَيْسَ

لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ ، وَيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ - أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ تَمَلُّكٌ بِبَدَلٍ فَأَشْبَهَ حَقَّ الشُّفْعَةِ ، ثُمَّ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي ، فَكَذَا حَقُّهُ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ ، فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ نَقْضَ الْمَشْفُوعِ فَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِتَمْلِيكِ الْبَائِعِ مِنْهُ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا عَلِمَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِشِرَاءِ الْمَأْسُورِ ، وَتَرَكَ الطَّلَبَ زَمَانًا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِيُشْتَرَطَ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاثَبَةِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ كَمَا يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ الطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ .
وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَقُّ يُورَثُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُورَثُ كَمَا لَا يُورَثُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ ، بَلْ هُوَ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ مِمَّا

يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَعْضُ ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْسُورَ رَجُلٌ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْعَدُوُّ ثَانِيًا ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ ، فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنْ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَزَلَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ ، فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ لَهُ .
لَكِنْ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنَيْنِ إنْ شَاءَ أَوْ يَدَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَسْرُ أَصْلًا ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ دَبَّرَهُ ، أَوْ كَاتَبَهُ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا ، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ ، وَعَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ .

( أَمَّا ) إذَا أَعْتَقَهُ فَلِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَحَصَلَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ ، كَالْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا ، وَالِاسْتِيلَادُ فَرْعُ النَّسَبِ ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَهْرُ الْحَرْبِيِّ كَمَوْتِهِ ، وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ أُمُّ وَلَدِهِ ، كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ ، وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَالْمُكَاتَبُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ؛ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَعْتِقُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا قُهِرَ الْمَوْلَى سَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ، فَعَتَقَ لِزَوَالِ رِقِّهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ حُرًّا فَاشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ حَقِيقَةً ؛ إذْ الْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ ، لَكِنَّهُ بَذَلَ مَالًا لِاسْتِخْلَاصِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِيهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْحُرُّ بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ ، فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَفَعَلَ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ ، وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الَّذِي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ ، فَنَقُولُ : الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ عِنْدَنَا ؛ لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ فِي يَدِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ

كِتَابِ الْبُيُوعِ ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَثَرًا فِي زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ ، فَإِنَّ مَالَ الْكَافِرِ مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ عَلَى إزَالَتِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِإِدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ ، فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هُوَ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ فِي اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ ، فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ عَلَى بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا ، وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ .

أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ ، وَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْإِزَالَةِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ هَاهُنَا ، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ ، وَلَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ إلَيْنَا ، فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ ، وَقَدْ قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ ، فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إيَّاهَا ، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي إبَاقِ الطَّائِفِ : { هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } وَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ مُرَاغَمٍ فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ ، فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ .
وَكَذَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ يُعْتَقُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ ، مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ ، فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ ، وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ ، عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كَمَا زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ ، فَلَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ عَلَى سَبَبِ الزَّوَالِ أَوْ شَرْطِ

الزَّوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَإِذَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى .
لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ مَا اسْتَحَقَّهُ ، وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فِيهَا ، فَخَرَجَ هُوَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ كَخُرُوجِهِ مَعَ مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، فَنَقُولُ : لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ ، دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ ؛ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا بِهِ ، تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَاخْتَلَفُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إنَّهَا بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ ، أَحَدُهَا : ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْكُفْرِ فِيهَا ، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ ؛ لِوُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا ، فَإِذَا ظَهَرَ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ ، وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى ، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إضَافَةِ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا

الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمَانَ إنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْخَوْفُ لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ فِيهَا لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَهِيَ دَارُ الْكُفْرِ وَالْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ لَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى ، فَمَا لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الِاسْتِئْمَانِ بَقِيَ الْأَمْنُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ ، وَكَذَا الْأَمْنُ الثَّابِتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْمُتَاخَمَةِ لِدَارِ الْحَرْبِ ، فَتَوَقَّفَ صَيْرُورَتُهَا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى وُجُودِهِمَا مَعَ أَنَّ إضَافَةَ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْتُمْ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْنَا ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْكَفَرَةِ بِعَارِضِ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْتُمْ تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِمَا قُلْتُمْ .
وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْنَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِمَا قُلْنَا ، فَلَا تَصِيرُ مَا بِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ بِيَقِينٍ دَارَ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، بِخِلَافِ دَارِ الْكُفْرِ حَيْثُ تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ ؛ لِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } فَزَالَ الشَّكُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْأَحْكَامِ ، لَكِنْ لَا تَظْهَرُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ - أَعْنِي الْمُتَاخَمَةَ وَزَوَالَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ - لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ ، وَلَا مَنَعَةَ إلَّا بِهِمَا وَاَللَّهُ -

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَقِيَاسُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أَرْضٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ ، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَ الْكُفْرِ ، أَوْ كَانَ أَهْلُهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَنَقَضُوا الذِّمَّةَ .
وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ ، هَلْ تَصِيرُ دَارَ الْحَرْبِ ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ ، فَإِذَا صَارَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَحُكْمُهَا إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهَا ، وَحُكْمُ سَائِرِ دُورِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ فَتَحَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ جَاءَ أَرْبَابُهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَعَادَ الْمَأْخُوذُ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ الْخَرَاجِيُّ عَادَ خَرَاجِيًّا ، وَالْعُشْرِيُّ عَادَ عُشْرِيًّا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ ، بَلْ هُوَ عَوْدُ قَدِيمِ الْمِلْكِ إلَيْهِ ، فَيَعُودُ بِوَظِيفَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَا يَعُودُ عَشْرِيًّا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَأَنْوَاعٌ ، مِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ سَرَقَ ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ .
وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا ، وَلَوْ فَعَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ هَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلْإِقَامَةِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْهَرَبِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِالْمَنَعَةِ ؛ إذْ الْوَاحِدُ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ ، وَالْمَنَعَةُ مُنْعَدِمَةٌ ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ .
وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ خَطَأً كَانَ أَوْ عَمْدًا ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً .
أَوْ لِأَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْهُ .
وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لَا عَلَى غَيْرِهِ ، فَكَذَا الدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِ بِحَيَاتِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مِنْ النُّصْرَةِ ، وَالْعِزِّ ، وَالشَّرَفِ بِكَثْرَةِ الْعَشَائِرِ ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، فَلَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ ، أَوْ أَمِيرَ جَيْشٍ وَزَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ ، أَوْ سَرَقَ ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا ، لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَمِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛

لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ الدِّيَةَ فِي بَابِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ .
وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرٌ الشَّامَ ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ ، وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بِمَالِهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا لَهُ ، فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ ؛ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعَسْكَرِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ ، وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوَقْتُ ، وَشَرْطُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا تُقْضَى ، كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ ؛

لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ ، بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ ، إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بِهَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ ، وَشُكْرِ النِّعَمِ ، وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ ، وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا عَلَى الشَّرْعِ ، بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَخَلْقِ نَفْسِهِ ، وَسَائِرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ .

وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ ، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَقَالَ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } وَلِهَذَا حَرُمَ مَعَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ ، وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ عَلَى الْإِتْلَافِ ، وَلَوْ عَاقَدَ هَذَا الْمُسْلِمُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أَوْ دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا مِنْ الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى } وَالسَّاقِطُ شَرْعًا ، وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ

.
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ ، وَمَالُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ ، بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ ، فَإِنَّ مَالَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ ، فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ حَرْبِيًّا ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا لَا يَقْضِي بِالْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ وَانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ أَيْضًا فِي حَقِّنَا ، وَكَذَا غَصْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مَالًا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَرْبِيَّيْنِ دَايَنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ، وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ لَقُضِيَ بِالدَّيْنِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ ، وَلَا يُقْضَى بِالْغَصْبِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْغَاصِبَ يُفْتَى بِأَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَادِرًا بِهِمْ نَاقِضًا عَهْدَهُمْ ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ ، وَعَلَى هَذَا : مُسْلِمَانِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ بِأَنْ كَانَا تَاجِرَيْنِ مَثَلًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ لِعَارِضِ أَمْرٍ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَا

أَسِيرَيْنِ ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَسِيرًا مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَسِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْتَأْمَنِينَ ، وَإِنَّمَا الْأَسْرُ أَمْرٌ عَارِضٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَسِيرَ مَقْهُورٌ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَصَارَ تَابِعًا لَهُمْ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا : الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفُذُ وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَنْفُذُ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ مِنْهُ ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِعْتَاقِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ ، فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفِيدُ زَوَالَ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةٌ ، فَكُلُّ مَقْهُورٍ مَمْلُوكٌ ، وَكُلُّ قَاهِرٍ مَالِكٌ ، هَذَا دِيَانَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ يَصِيرُ هُوَ مَالِكًا ، وَمَوْلَاهُ مَمْلُوكًا ، وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ الْإِعْتَاقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى قَرِيبًا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِصَرِيحِ الْإِعْتَاقِ فَكَيْفَ يُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَمَعَهُ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ

بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْكِتَابَةُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ الْمُنْجَزُ ، فَكَذَا الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَحَّ اسْتِيلَادُهُ إيَّاهَا ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ اكْتِسَابُ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ .
وَالْحَرْبِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ ؟ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، فَخَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ ؛ لِكَوْنِهَا حُرَّةً مِنْ وَجْهٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَقَدْ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ أَنْ يَسْتَرِقَّ بِيَدِهِ مَا أَعْتَقَهُ بِلِسَانِهِ ، وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَخَلَفَ الْمُدَبَّرَ ، أَوْ خَلَفَ أُمَّ وَلَدِهِ الَّتِي اسْتَوْلَدَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا أَمَّا إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ سَيِّدِهِمَا ، وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ الْمُعْتَزِلَةِ ( وَأَمَّا ) إذَا أُسِرَ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا ضَرُورَةً .
وَأَمَّا مُكَاتَبُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَدَخَلَ هُوَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ ، وَكَذَلِكَ الرُّهُونُ وَالْوَدَائِعُ وَالدُّيُونُ الَّتِي لَهُ عَلَى النَّاسِ .
وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ فَهِيَ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهَا بَاقِيًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَظَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَوْ قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ ، فَمِلْكُهُ عَلَى حَالِهِ يَعُودُ فَيَأْخُذُ ، أَوْ يَجِيءُ وَرَثَتُهُ فَيَأْخُذُونَهُ لَهُ أَمَّا إذَا هَرَبَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُؤْسَرْ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا إذَا قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ ، فَلِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ ، فَيَجِيئُونَ فَيَأْخُذُونَهُ ، وَالْمُكَاتَبُ عَلَى حَالِهِ يُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ ، أَوْ ظَهَرَ وَقُتِلَ يُعْتَقْ مُكَاتَبُهُ أَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِالْأَسْرِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وَقُتِلَ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الظُّهُورِ قَتْلٌ بَعْدَ الْأَسْرِ ، وَيَبْطُلُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ

مَالِكًا ، فَسَقَطَتْ دُيُونُهُ ضَرُورَةً .
وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَسْرِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ الْأَسْرُ ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ يَسْقُطُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَخْلُصُ السَّبْيُ لِلسَّابِي وَأَمَّا وَدَائِعُهُ فَهِيَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُودَعِ .
( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ يَدَهُ عَنْ يَدِ الْغَانِمِينَ أَسْبَقُ ، وَالْمُبَاحُ مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُهُ تَقْدِيرًا ، فَكَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ بِالْأَسْرِ اسْتِيلَاءً عَلَى مَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةً ، فَكَانَ فَيْئًا حَقِيقَةً لَا غَنِيمَةً ، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْفَيْءِ وَأَمَّا الرَّهْنُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ ، وَالزِّيَادَةُ لَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي قَدْرَ دَيْنِهِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الرِّدَّةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الرِّدَّةِ أَمَّا رُكْنُهَا ، فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِيمَانِ ، إذْ الرِّدَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِيمَانِ يُسَمَّى رِدَّةً فِي عُرْفِ الشَّرْعِ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهَا فَأَنْوَاعٌ ، مِنْهَا الْعَقْلُ ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ خُصُوصًا فِي الِاعْتِقَادَاتِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحَّتْ ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرُّجُوعِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ الذَّاهِبُ الْعَقْلِ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِظَاهِرِ اللِّسَانِ لَا عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ ، إذْ هُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الْكُفْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكُفْرِ ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ يَرْجِعَانِ إلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ الذَّاهِبِ الْعَقْلِ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى التَّكْذِيبِ ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَيْسَ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : شَرْطٌ حَتَّى لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَبَرُّعَاتُهُ ، وَالرِّدَّةُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيَقَعُ مَحْضًا ؛ لِذَلِكَ صَحَّ إيمَانُهُ وَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ صَحَّ إيمَانُهُ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَهُمَا أَفْعَالٌ خَارِجَةُ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ

سَائِرِ الْجَوَارِحِ ، وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ دَلِيلُ وُجُودِهِمَا ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا مِنْهُ حَقِيقَةً لَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - وَالْقَتْلُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الرِّدَّةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَالرِّدَّةُ مَوْجُودَةٌ وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا ؛ لَكِنَّهَا لَا تُقْتَلُ بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْتَلُ ؛ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمُكْرَهِ عَلَى الرِّدَّةِ اسْتِحْسَانًا إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى .

وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : إنَّ لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ؛ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ ، وَإِنْ أَبَى نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ طَمِعَ فِي تَوْبَتِهِ ، أَوْ سَأَلَ هُوَ التَّأْجِيلَ ، أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هُوَ التَّأْجِيلَ ، قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مُغْرِيَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا ، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا ، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ ، وَلَمْ آمُرْ ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ

كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، فَكَانَتْ الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ - عَسَى - فَنَدَبَ إلَيْهَا فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ ، وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَيَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ ، فَإِنْ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا فَحُكْمُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ؛ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا فِي كُلِّ كَرَّةٍ ؛ لِوُجُودِ رُكْنِهِ ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ وَقَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فَقَدْ أَثْبَتَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ خُشُوعِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ ، وَلَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِجْبَارُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا ، هَكَذَا إلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَزَادَ عَلَيْهِ - تُضْرَبُ أَسْوَاطًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعْزِيرًا لَهَا عَلَى مَا فَعَلَتْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْتَلُ لِعُمُومِ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَلِأَنَّ عِلَّةَ إبَاحَةِ الدَّمِ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ ، وَذَلِكَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْوُقُوفِ ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا } وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا ، وَهُوَ دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ ، بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ فِي إجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي الْعَادَةِ ، فَإِنَّهُنَّ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ ، خُصُوصًا فِي أَمْرِ الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ ، فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ثَابِتًا ، فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا ، وَيَحْبِسُهَا فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ قَائِمٌ ، وَهِيَ مَجْبُورَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى

الْمَوْلَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ ، وَلَا يَطَؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ ، وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ فَلَاحِهِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَرْجُوًّا وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ مِنْهُ مَأْمُولًا ، فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، وَعَلَى هَذَا : صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ، فَبَلَغَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ ؛ لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ مِنْهُ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ مِنْهُ رِدَّةً حَقِيقَةً فَلَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ؟ وَالْحُكْمُ فِي إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى .

وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، إنَّهَا تُسْتَرَقُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا ، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ ، فَكَانَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حَتَّى قِيلَ : إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ .

وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ ، وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الْمَرْأَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَلَا تَرْتَفِعُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَدَ النِّكَاحُ .
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ ، وَحُكْمُ الدَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ أَمْوَالُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ ، أَمْ بِالرِّدَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا عَلَى التَّوَقُّفِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِالرِّدَّةِ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمِلْكُ فِي أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَعُقْدَةُ تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : جَوَازُهَا جَوَازُ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بِيَدِهِ ، فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عَنْ الْقَتْلِ ، وَالْمَرِيضُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ ،

فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرِّدَّةُ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ .
وَالْقَتْلُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ ، فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ ، وَهُوَ الرِّدَّةُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَلُ ، فَيَبْقَى مَالُهُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لِلْحَالِ ، إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فِيهِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَكَانَ التَّوَقُّفُ فِي الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ الْعَاقِبَةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا مِنْ الْأَصْلِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ سَبَبًا لِلزَّوَالِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ زَائِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ سَبَبِهِ ، فَلَمْ يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ .
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً ضَرُورَةً وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا ، إنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَمْلُوكٌ لَهُ مِلْكًا تَامًّا .
( وَأَمَّا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ ، ثُمَّ حَقُّ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ، فَهَذَا أَوْلَى ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ ، وَتَسْلِيمُهُ الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَالثَّابِتُ

لِلشَّفِيعِ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ ، وَمُعَاوَضَتُهُ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاوَاةِ .

( وَأَمَّا ) الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا فِي مَالِهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ، فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا ، وَإِذَا عُرِفَ حُكْمُ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وَحَالُ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهِ ، فَحَالُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْلِمَ ، أَوْ يَمُوتَ ، أَوْ يُقْتَلَ ، أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَادَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ مِنْ الْأَصْلِ حُكْمًا ، وَجُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ صَارَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ ، وَعَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَمُكَاتَبُوهُ إذَا أَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ ، وَتَحِلُّ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَتُقْضَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِانْتِهَاءِ حَاجَتِهِ بِالْمَوْتِ وَعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ ، لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهِ ، فَكَانَ اللَّحَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي كَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ ، يُحْكَمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ ، وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَتَحِلُّ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ ، وَقَدْ وُجِدَ مَعْنًى .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ ، وَإِذَا عَتَقَ فَوَلَاؤُهُ

لِلْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ ، وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعُودَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَعُودَ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ عَادَ عَلَى حُكْمِ أَمْلَاكِهِ فِي الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ ، وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمَوْتٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ ، فَإِذَا عَادَ يَعُودُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فَمَا وُجِدَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ بِحَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ جُعِلَ خَلَفًا لَهُ فِي مَالِهِ ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لَهُ كَأَنَّهُ وَكِيلُهُ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا عَلَى حَالِهِ .
وَمَا زَالَ مِلْكُ الْوَارِثِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ ، أَوْ بِالْعِتْقِ ، فَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْخَلَفِ كَتَصَرُّفِ الْأَصْلِ ، بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَأَمَّا مَا أَعْتَقَ الْحَاكِمُ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا كَانَ أَدَّى الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْمَالِ ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَمَا أُدِّيَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ قَائِمًا أُخِذَ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُمْ عَنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بَعْدُ ، يُؤْخَذُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ .
وَإِنْ عَجَزَ عَادَ رَقِيقًا لَهُ وَلَوْ رَجَعَ كَافِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ

الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ بِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَرَثَةِ ، فَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَوَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ هَذَا ، وَرُجُوعُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ سَوَاءٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَصْلًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَوْ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَيْنَا ثَانِيًا ، فَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالْقَذْفِ يُؤْخَذُ بِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ يُلْتَحَقُ بِالْمَوْتِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ مَالِهِ الَّذِي خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِي لَحِقَ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مِلْكُهُ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ يَكُونُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُرْتَدِّ ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَانَ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ .

وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ الْمَالَ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَقُضِيَ بِاللَّحَاقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ فَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } نَفَى أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَوَارِثُهُ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرِثَهُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلَيَّ بِالرِّدَّةِ ، وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ ، كَالْمَوْتِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .
فَإِذَا ارْتَدَّ فَهَذَا مُسْلِمٌ مَاتَ ، فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ هَذَا إرْثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا مِنْ الْكَافِرِ ، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ - تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالرِّدَّةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ يُمْكِنُ احْتِمَالُ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ ؟ وَذَلِكَ جَائِزٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؟ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ أَيْضًا ؟ فَلَا يَكُونُ إرْثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ أَيْضًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَالِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ

فَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - هُوَ مِيرَاثٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ أَهْلُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَالرِّدَّةُ لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُنَافِي مَا يُنَافِيهَا ، وَهُوَ الرِّقُّ ؛ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ ، احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ زَوَالِهِ فَكَانَ الْكَسْبُ فِي الرِّدَّةِ مَالًا لَا مَالِكَ لَهُ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَاللُّقَطَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُورَثُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ ، وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الرِّدَّةِ ، أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَهُمَا بِالْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ ، يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرِّدَّةِ لَا غَيْرُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَهْلًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَرِثَ ، وَإِنْ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ لَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْإِرْثِ .
وَالْقَوْلُ بِالْإِرْثِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ

فَإِذَا وُجِدَ الْمَوْتُ يَثْبُتُ الْإِرْثُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ ، فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِنَادِ ، فَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مُسْلِمًا وَقْتَ الرِّدَّةِ ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ ، لَا يُورَثُ وَكَذَا إذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ الْمَرْأَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ مَوْتِهِ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِرْثَ يَتْبَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ زَالَ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهَا ، فَيَثْبُتُ الْإِرْثُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ قَوْلُهُ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ قُلْنَا : هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَكَانَتْ الرِّدَّةُ مَوْتًا مَعْنًى ، وَكَذَا اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِيمَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ ، إنَّهُ تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ أَمْ وَقْتَ اللَّحَاقِ ؟ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقْتَ الْقَضَاءِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ اللَّحَاقِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وَقْتَ الْإِرْثِ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ ، وَمِلْكُ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ بِاللَّحَاقِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْجِزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ الْمَتْرُوكِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّ الْعَجْزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ ، فَإِذَا قُضِيَ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ وَصَارَ الْعَوْدُ بَعْدَهُ كَالْمُمْتَنِعِ عَادَةً ، فَكَانَ الْعَامِلُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ هُوَ اللَّحَاقَ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَئِذٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، فَكَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الزَّوَالِ هُوَ الْقَضَاءَ ، وَعَلَى هَذَا

الِاخْتِلَافِ الْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ ، وَلَوْ .

ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ قُتِلَ الْأَبُ عَلَى رِدَّتِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ يَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ قَطْعًا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ لَمْ يَرِثْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَقَ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ ، فَلَا يَرِثُ مَعَ الشَّكِّ ، وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ مُسْلِمَةٍ وَرِثَهُ مَعَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُسْلِمَةٌ ، فَكَانَ الْوَلَدُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيَرِثُ أَبَاهُ ، وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَوَلَدَتْ هُنَاكَ ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيَرِثُ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْهُ حَتَّى سُبِيَتْ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ مَرْقُوقُ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِأَبِيهِ ، مَرْقُوقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا ، أَوْ وَطِئَ أَمَةً مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَرِثُ أَبَاهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ كَافِرَةً لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إسْلَامُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا حُكْمُ الدَّيْنِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ : دُيُونُ الْمُرْتَدِّ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا مِيرَاثٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ ، إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَرَوَى الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ : دَيْنُ الْإِسْلَامِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَدَيْنُ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْإِنْسَانِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ، وَكَذَا دَيْنُ الْمَيِّتِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ؛ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِرْثِ ، فَكَانَ قَضَاءُ دَيْنِ كُلِّ مَيِّتٍ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ وَمَالُهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَمَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِهِ كَسْبُ الْإِسْلَامِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ فَيَقْضِي الْبَاقِيَ مِنْهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا حُكْمُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ فَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فِي الْإِسْلَامِ ، أَوْ فِي الرِّدَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مَوْلُودًا فِي الْإِسْلَامِ ، بِأَنْ وُلِدَ لِلزَّوْجَيْنِ وَلَدٌ وَهُمَا مُسْلِمَانِ ، ثُمَّ ارْتَدَّا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ، فَلَا يَزُولُ بِرِدَّتِهِمَا لِتَحَوُّلِ التَّبَعِيَّةِ إلَى الدَّارِ ، إذْ الدَّارُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ التَّبَعِيَّةِ ابْتِدَاءً عِنْدَ اسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ ، تَصْلُحُ لِلْإِبْقَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ ، تَبَعًا لِلدَّارِ ، وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدَّانِ بِهَذَا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَبِرَ الْوَلَدُ ، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَكَبِرَ ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أَمَّا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فَمَعْلُومٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُقْتَلُ ، وَالْمُرْتَدَّةُ تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ فَوَلَدُ الْأَبِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ تَبَعًا لَهُمَا ، فَلَمَّا بَلَغَ كَافِرًا فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْهُ ، وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا حَقِيقَةً ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِالْحَبْسِ لَا بِالسَّيْفِ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ الْجَدَّ فِي الْإِسْلَامِ ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُرْتَدِّينَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ وَنُوحٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الرِّدَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ

بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْلُودًا فِي الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَا وَلَدَ لَهُمَا ، ثُمَّ حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا ، وَهُمَا مُرْتَدَّانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَهَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حُكْمُ الرِّدَّةِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا ، وَلَوْ لَحِقَا بِهَذَا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَلَغَ ، وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فَبَلَغُوا ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ وَسُبُوا جَمِيعًا ، يُجْبَرُ وَلَدُ الْأَبِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُونَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ ) مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ ، فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لَهُ ، وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ وَجْهُ ) الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إنَّمَا صَارَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ ، وَالتَّبَعُ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ .
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ فَذُكِرَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمْ مُرْتَدَّةٌ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ ، وَالْوَلَدُ كَمَا تَبِعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ يَتْبَعُهَا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ .
وَأَمَّا الْكِبَارُ فَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِالْبُلُوغِ ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْوِلْدَانُ فَيْءٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أُمَّهُ مُرْتَدَّةٌ .
وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فِي الرِّدَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ ، وَهُوَ كَافِرٌ ، فَكَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا ، فَاحْتَمَلَ الِاسْتِرْقَاقَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ

امْرَأَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ وَلَدُهَا فَيْئًا ؛ لِأَنَّ السَّبْيَ لَحِقَهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ جُزْءِ الْأُمِّ ، فَلَا يَبْطُلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ وَالذِّمِّيُّ الَّذِي نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْإِرْثِ وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ لَحَاقَهُ ، اللَّحَاقُ بِالْمَوْتِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يُفْصَلُ ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ : وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسْتَرَقُّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يُسْتَرَقُّ وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ شَرْعَ الِاسْتِرْقَاقِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَاسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ ، وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ فَلَا يُرْجَى فَلَاحُهُ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْبُغَاةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي تَفْسِيرِ الْبُغَاةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ إمَامَ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ أَمَّا تَفْسِيرُ الْبُغَاةِ ، فَالْبُغَاةُ هُمْ الْخَوَارِجُ ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كُفْرٌ ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً ، يَخْرُجُونَ عَلَى إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْزَمُ إمَامَ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُمْ لَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، فَيَأْخُذُهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَلَا يَبْدَؤُهُمْ الْإِمَامُ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهُ الشَّرُّ مِنْهُمْ لَا يُقَاتِلُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ ، وَالرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ ، كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَكَذَا رُوِيَ أَنْ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ نَدَبَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ ، فَدَعَاهُمْ وَنَاظَرَ هُمْ ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ

عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } وَكَذَا قَاتَلَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ { إنَّكَ تُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ كَمَا تُقَاتِلُ عَلَى التَّنْزِيلِ } وَالْقِتَالُ عَلَى التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْخَوَارِجِ ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى إمَامَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَبَّهَ قِتَالَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِقِتَالِهِ عَلَى التَّنْزِيلِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِهِ بِالتَّنْزِيلِ ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ بِالتَّأْوِيلِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إمَامَ حَقٍّ لَمَا كَانَ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ إيَّاهُمْ ، وَلِأَنَّهُمْ سَاعُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُقْتَلُونَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ غِنًى وَقُدْرَةٌ ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ ؟ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ ، وَيَلْزَمَ بَيْتَهُ ، مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ إمَامٌ يَدْعُوهُ إلَى الْقِتَالِ وَأَمَّا إذَا كَانَ فَدَعَاهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَنَقُولُ : الْإِمَامُ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمَهُمْ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا ، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ لِئَلَّا يَتَحَيَّزُوا إلَى الْفِئَةِ فَيَمْتَنِعُوا بِهَا فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ اسْتِئْصَالًا لِشَأْفَتِهِمْ ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِالْأَسْرِ وَالْحَبْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إلَيْهَا لَمْ يَتْبَعْ مُدْبِرَهُمْ ، وَلَمْ يُجْهِزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْفِئَةِ .
( وَأَمَّا ) أَمْوَالُهُمْ الَّتِي ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى قِتَالِهِمْ كَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا أَمْسَكَهَا الْإِمَامُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ لِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَإِذَا زَالَ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ ، وَكَذَا مَا سِوَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَلَكِنْ يُمْسَكُ وَيُحْبَسُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُدْفَعَ إلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَدَفْعِ شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيُقَاتَلُونَ بِكُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ فَكُلُّ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَشْيَاخِ وَالْعُمْيَانِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ فَيَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقِتَالِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَلَا يُقْتَلُونَ إلَّا إذَا قَاتَلُوا ، فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ ، إلَّا الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنْ كَانَ قَاتَلَ مَعَ مَوْلَاهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ .
( وَأَمَّا ) الْكُرَاعُ فَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ لِمَالِكِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً ، وَإِذَا أَرَادَ هُوَ قَتْلَهُ ، لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ ، بِأَنْ يَعْقِرَ دَابَّتَهُ لِيَتَرَجَّلَ فَيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا ابْتِدَاءً إلَّا الْوَالِدَيْنِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأَصْلِ مُبِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْأَبَوَانِ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَبَقِيَ غَيْرُهُمَا عَلَى عُمُومِ النَّصِّ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ عَاصِمٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَالْبَاغِي

مُسْلِمٌ ، إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ لَا لِشَوْكَتِهِمْ ، وَدَفْعُ الشَّرِّ يَحْصُلُ بِالدَّفْعِ وَالتَّسْبِيبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ ، فَبَقِيَتْ الْعِصْمَةُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْعَاصِمِ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ دَمٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ ، إنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ( وَأَمَّا ) الْبَاغِي إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ مَضْمُونٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَاغِيَ جَانٍ فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ وُجُودُ الْمَنَعَةِ وَعَدَمُهَا ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ دُونَ التَّخْفِيفِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلُّ مَالٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا قُلْنَا .
وَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ فِي الِاسْتِحْلَالِ تَأْوِيلًا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّ لَهُمْ مَنَعَةً ، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ قِيَامِ الْمَنَعَةِ يَكْفِي لِرَفْعِ الضَّمَانِ ، كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يَجِبْ ، وَلَوْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَظُهُورِ الْمَنَعَةِ أَوْ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَتَفَرُّقِ الْجَمْعِ يُؤْخَذُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ ، وَلَوْ قَتَلَ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ تَاجِرًا آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ،

أَوْ قَتَلَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَسِيرًا آخَرَ أَوْ قَطَعَ ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ عَسْكَرَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ .

وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَ بَاغِيًا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ قَالَ : قَتَلْتُهُ ، وَكُنْتُ عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَإِنْ قَالَ : قَتَلْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى بَاطِلٍ يُحْرَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ فَاسِدٌ ، إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالصَّحِيحِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فِي حَقِّ الدَّفْعِ لَا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّا نَعْتَبِرُ تَأْوِيلَهُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ هُوَ الْقَرَابَةُ ، وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ ، إلَّا أَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَّبَ الْحِرْمَانَ فَإِذَا قَتَلَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْتِحْلَالِ ، وَالْمَنَعَةُ مَوْجُودَةٌ اعْتَبَرْنَاهُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَهُوَ دَفْعُ الْحِرْمَانِ ، فَأَشْبَهَ الضَّمَانَ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ : قَتَلْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى بَاطِلٍ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يُصِرَّ ، فَلَا تَأْوِيلَ لَهُ ، فَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : ( أَمَّا ) قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُصْنَعُ بِهِمْ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الشُّهَدَاءِ ، لَا يُغَسَّلُونَ ، وَيُدْفَنُونَ فِي ثِيَابِهِمْ ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُمْ إلَّا مَا لَا يَصْلُحُ كَفَنًا ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِكَوْنِهِمْ مَقْتُولِينَ ظُلْمًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ الْيَمَنِيَّ كَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ تَحْتَ رَايَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَوْصَى فِي رَمَقِهِ : لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا ، وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا ، وَارْمُسُونِي فِي التُّرَابِ رَمْسًا ، فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( وَأَمَّا ) قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا صَلَّى عَلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ مَوْتَى بَنِي سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - .
وَيُكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رُءُوسُهُمْ ، وَتُبْعَثَ إلَى الْآفَاقِ ، وَكَذَلِكَ رُءُوسُ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا لَا تُمَثِّلُوا } فَيُكْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ وَهَنٌ لَهُمْ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَزَّ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ - عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ - يَوْمَ بَدْرٍ وَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ } وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ .
وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سِلَاحًا إلَّا بِالْعَمَلِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ ، وَلَا

يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمِزْمَارُ ، وَهُوَ الْخَشَبُ وَالْقَصَبُ ، وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ بَاطِلٌ ، وَلَا يَبْطُلُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، وَهُوَ الْعِنَبُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ ، فَنَقُولُ : الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا قَاضِيًا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَإِمَّا أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَضَى بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يُنْفِذُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا حَقًّا ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا ، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَنْفِيذُهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَوْ كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِكِتَابٍ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْفَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ لِحَقٍّ ظَاهِرٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَا يُنْفِذُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ حَقًّا ، فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى فِيمَا بَيْنَهُمْ بِقَضَايَا ، ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَهَا ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ إيَّاهُ قَدْ صَحَّتْ ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِ الْقَضَايَا بِمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ ، فَصَحَّتْ التَّوْلِيَةُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، كَمَا إذَا رُفِعَتْ قَضَايَا قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ .
وَمَا أَخَذُوا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي ظَهَرُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ الَّتِي وِلَايَةُ أَخْذِهَا لِلْإِمَامِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِمَكَانِ حِمَايَتِهِ ، وَلَمْ تُوجَدْ ، إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتُونَ بِأَنْ يُعِيدُوا الزَّكَاةَ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفهَا ، فَأَمَّا الْخَرَاجُ فَمَصْرِفُهُ الْمُقَاتِلَةُ ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْغَصْبِ ) جَمَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ ، وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ ، فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : مَعْرِفَةُ مَسَائِلِ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغَصْبِ ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
( أَمَّا ) حَدُّ الْغَصْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هُوَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَقَالَ مُحَمَّد رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِكَوْنِهِ غَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالٍ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ .
( أَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ احْتَجَّ لِتَمْهِيدِ أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } جَعَلَ الْغَصْبَ مَصْدَرَ الْأَخْذِ ، فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ وَالْأَخْذَ وَاحِدٌ ، وَالْأَخْذُ : إثْبَاتُ الْيَدِ ، إلَّا أَنَّ الْإِثْبَاتَ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ يُسَمَّى : إيدَاعًا وَإِعَارَةً وَإِبْضَاعًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ يُسَمَّى فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ : غَصْبًا ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِثْبَاتُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَقَعَ تَعَدِّيًا ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنْ غَاصِبَ الْغَاصِبِ ضَامِنٌ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ لِزَوَالِهَا بِغَصْبِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ ، وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَلَنَا ) الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحَقَّ

إزَالَةَ يَدِ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْغَصْبُ مِنْهُ إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالثَّانِي : أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ زَجْرٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ جَبْرٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّجْرِ ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ لَا يَحْصُلُ بِهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ : ضَمَانُ جَبْرٍ ، وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ التَّفْوِيتِ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَسَّرَ أَخْذَ الْمَلِكِ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِغَصْبِهِ إيَّاهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَغْصِبُ كُلَّ سَفِينَةٍ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَخْذٍ غَصْبٌ ، بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ غَصْبَ ذَلِكَ الْمَلِكِ كَانَ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى السَّفِينَةِ مَعَ إزَالَةِ أَيْدِي الْمَسَاكِينِ عَنْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِزَالَةَ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : الْغَصْبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْإِزَالَةِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ تَعَدِّيًا بِوُقُوعِهِ ضَارًّا بِالْمَالِكِ ، وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ ، وَإِعْجَازِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ تَفْوِيتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا .
( فَأَمَّا ) مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِثْبَاتُ تَعَدِّيًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَقْتَ غَصْبِ الْأُمِّ ، فَلَمْ تُوجَدْ

إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ .
وَعِنْد مُحَمَّدٍ مَضْمُونَةٌ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَهُ : إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْغَصْبُ ، وَهَلْ تَصِيرُ مَضْمُونَةً عِنْدَنَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَنْعِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ جَبْرًا .
( أَمَّا ) الْمُنْفَصِلَةُ : فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِهَا .
( وَأَمَّا ) الْمُتَّصِلَةُ : فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا خَيْرًا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا ، وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَم ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ضَمَّنَهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَيْضًا ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ .
وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْخِلَافَ : أَنْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ زِيَادَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى ، وَحَكَى الْخِلَافَ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِهْلَاكَ مُطْلَقًا ، فَقَالَ : إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا ، وَفَسَّرَهُ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَيُقْتَلُ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَقَتَلَهُ

الْغَاصِبُ خَطَأً يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ زَائِدَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يَبْقَ مُتَمَكِّنًا ، وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ تَفْوِيتُ الْيَدِ مَعْنًى ، فَكَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ إنَّمَا كَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِكَوْنِهِ إخْرَاجَ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِك ، وَإِعْجَازُهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ إمْكَانِ الْأَخْذِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَمُودِعِ الْغَاصِبِ وَالْمُشَتَّرِي مِنْ الْغَاصِبِ ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَقَعُ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ غَصْبًا لَهُ ؛ لِأَنَّ غَصْبَ الْمَغْصُوبِ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ إفْرَادُهَا بِالْغَصْبِ لِتَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيِّعِ وَالتَّسْلِيمِ ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ إفْرَادَهَا بِالْغَصْبِ بِدُونِ الْأَصْلِ مُتَصَوَّرٌ ، فَلَمْ تَكُنْ مَغْصُوبَةً بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِهَا ، فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ ، وَبِخِلَافِ الْقَتْل ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَغْصُوبِ مُتَصَوَّرٌ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَتْلِ غَيْرُ مَحَلِّ الْغَصْبِ ، فَمَحَلُّ الْقَتْلِ هُوَ الْحَيَاةُ ، وَمَحَلُّ الْغَصْبِ هُوَ مَالِيَّةُ الْعَيْنِ ، فَتَحَقُّقُ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقُ الْقَتْلِ ، إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ ، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلضَّمَانِ وَاحِدٌ ، فَيُخَيَّرُ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لَا شَكَّ فِيهِ ، فَيَصِيرُ

مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
( وَأَمَّا ) الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ : فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ ، فَكَانَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْمَنْعُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالِاسْتِهْلَاكُ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ ، فَيُعْمَلُ بِشُبْهَةِ الظُّهُورِ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِشُبْهَةِ الِاقْتِصَارِ فِي الْمُنْفَصِلَةِ ، إذْ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْعَكْسِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( وَأَمَّا ) عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَتَخْرِيجُهُمَا مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، وَالْغَاصِب إنَّمَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ بِالْقَتْلِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، لِهَذَا افْتَرَقَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ عَلَى أَصْلِهَا : إذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ، هَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْبَيْعِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْغَصْبِ ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : يَثْبُتُ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ السَّفَهِ ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الذِّمَّةَ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَلِيًّا

وَالْآخَر مُفْلِسًا ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا وَبِخِلَافِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَالٌّ ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا ، ثُمَّ إذَا ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَقْتَ الْغَصْبِ أَوْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالثَّمَنُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ .

، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا ، فَجَاءَ آخَرُ وَغَصَبَهُ مِنْهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي أَمَّا تَضْمِينُ الْأَوَّلِ فَلِوُجُودِ فِعْلِ الْغَصْبِ مِنْهُ : وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ .
وَأَمَّا تَضْمِينُهُ الثَّانِيَ ؛ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ ، وَيَدُهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَقِرُّ بِهِمَا الضَّمَانُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَكَانَتْ مَنْفَعَةُ يَدِهِ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ ، فَأَشْبَهَتْ يَدَ الْمُودِعِ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ فَخَيَّرْنَا الْمَالِكَ لِتَعَيُّنِ الْمُسْتَحِقِّ ، فَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ رَجَّعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ مِنْ وَقْتِ غَصْبِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّانِي غَصَبَ مِلْكَهُ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الثَّانِي لَا يُرْجَعُ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ الثَّانِي ، وَمَتَى اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا ، هَلْ يَبْرَأُ الْآخَرُ عَنْ الضَّمَانِ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَبْرَأُ ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ تَضْمِينَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مَا لَمْ يَرْضَ مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أَوْ يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا قَبْلَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ ، كَمَا لَوْ

بَاعَهُ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا قَبْلَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّمْلِيكُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَلَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الْآخَرِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَاضٍ بِأَخْذِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ ، وَبِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ أَظْهَرَ أَنَّ الثَّانِي مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ يَدَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الثَّانِي فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ جَازَ بَيْعُهُ وَالثَّمَنُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ ، نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قِيَاسًا ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ الثَّانِي .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ } ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَلَا يَنْعَقِدُ إعْتَاقُهُ فِيهِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا عَلَى التَّوَقُّفِ فَيَنْعَقِدُ عَلَى التَّوَقُّفِ ، كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إذَا أَعْتَقَهُ ، ثُمَّ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ عَنْ دُيُونِهِمْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا عَلَى التَّوَقُّفِ :

أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ انْعَقَدَ عَلَى التَّوَقُّفِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الْخَالِي عَنْ الشَّرْطِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّفِ فَيَتَوَقَّفُ ، وَإِذَا تَوَقَّفَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ شُرُوطًا أُخَرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ لِمَعْنَى الْغَرَرِ ، وَفِي تَوْقِيفِ نَفَاذِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْغَرَرِ ، وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي التَّضْمِينِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ .
وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغَرَرِ ، وَهُوَ ضَمَانُ الِالْتِزَامِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُودَعُ فَالْجَوَابُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُودِعِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَوْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ أَوْ رَهَنَهُ مِنْ إنْسَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ وَرَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّ فِي الرَّهْنِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ هَلَاكِ الرَّهْنِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا ضَمَّنَ ، وَالْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِدَيْنِهِ أَيْضًا .
أَمَّا رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ ، فَلَا شَكّ فِيهِ لِصَيْرُورَتِهِ مَغْرُورًا .
وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ

اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَكِنْ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْأُجْرَةُ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَرَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَعَارَهُ الْغَاصِبُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِهِ أَمَّا الْغَاصِبُ ، فَلَا شَكّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ .
وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مَنَافِعُ الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَضْمُونَةٌ ، نَحْوُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً فَأَمْسَكَهُ أَيَّامًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ ، فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَلَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ ، وَعِنْدَهُ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ .
وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَنْفَعَةِ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَتَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ ، فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ فِيهَا ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَانْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْ الْبِنَاءِ ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ

فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَضْمَنُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَحْدِيدِ الْغَصْبِ أَنَّهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ ، كَمَا يُوجَدُ فِي الْمَنْقُولِ .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي حَدِّ الْغَصْبِ أَنَّهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ ، وَالْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ ، أَوْ إعْجَازِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ فِي الْمَنْقُولِ يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَهِيَ : أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ .
كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمَنْقُولِ ، فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ فِي ضَمَانِ الرُّجُوعِ ، فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوَسَّفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقَارِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ : الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ ، فَإِنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عَنْهُ بِفِعْلٍ فِي الضَّمَانِ ، فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ مِثْلِهِ مِنْهُ فِي الْمَغْصُوبِ ، لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ ، وَعَلَى أَنَّهُمَا إنْ سَلَّمَا تَحَقَّقَ

الْغَصْبُ فِي الْعَقَارِ ، فَالْأَصْلُ فِي الْغَصْبِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ إتْلَافُ مَالِهِ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَزُولُ يَدُهُ وَمِلْكُهُ عَنْ الضَّمَانِ ، فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْإِتْلَافِ مِنْهُ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ ، إلَّا بِالْمِثْلِ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا الْإِتْلَافُ مِنْ الْغَاصِبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّغْيِيبِ عَنْ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَى مَكَانِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَبَسَ رَجُلًا حَتَّى ضَاعَتْ مَوَاشِيهِ ، وَفَسَدَ زَرْعُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَالْعَقَارُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ النَّصِّ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا غَصَبَ عَقَارًا فَجَاءَ إنْسَانٌ فَأَتْلَفَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ فَيُعْتَبَرُ الْإِتْلَافُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فِيهِ فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُتْلِفِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ .
( وَأَمَّا ) مَسْأَلَةُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَهَا ، وَقَالَ : إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ بَنَى الْجَوَابَ عَلَى أَصْلِ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنَانِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ وَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ

آفَةٍ أَصَابَتْهُ ، بِأَنْ مَرِضَ فِي يَدِهِ فَمَاتَ ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ مَالًا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ ، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ بِأَنْ عَقَرَهُ أَسَدٌ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِهِ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا مَعَ كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ .
وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ السَّبَبِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ مُكَاتَبًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ كَالْمُكَاتَبِ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنُ ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ إنْسَانٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَلَا بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَا بِالْإِعْتَاقِ كَجَارِيَةٍ بَيْن رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْعَى هِيَ فِي شَيْءٍ أَيْضًا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمُدَبَّرِ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هَلْ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِالْقَتْلِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهَا كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُوجِبُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ ؛ لِأَنَّهُ

لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ ، كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إعْتَاقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { قَالَ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، فَمَنْ ادَّعَى التَّأَخُّرَ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ لِلْحَالِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ لِلْحَالِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ ، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا .
وَلَوْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَصَارَ مَالًا فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ أَوْ خِنْزِيرًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ ، فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ .
وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا غَيْرَ أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْرِ مِثْلُهَا ، وَفِي الْخِنْزِيرِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ

وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَةِ الْخُمُورِ أَنَّهُ : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَصِفَةُ الْمَحَلِّ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَعَيْنِهَا } أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً وَجَعَلَ عِلَّةَ حُرْمَتِهَا عَيْنَهَا ، فَتَدُورُ الْحُرْمَةُ مَعَ الْعَيْنِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَا تَكُونُ مَالًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً ، مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِلْمُسْلِمِ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَلُّهُ وَشَاتُه وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَمْرُهُ أَوْ خِنْزِيرُهُ ؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى : فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا ، وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا .
فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ ، وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ تَثْبُتُ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، أَوْ مَعْقُول الْمَعْنَى لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ ، وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ ، فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا : إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ : .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَمْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضِ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلُ ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ لِلْحَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعْنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : { أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ ، وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَبَقِيَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَتَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ خَمْرٌ غَصَبَهَا ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ خَلَّلَهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ خَلًّا

مِثْلَهَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْغَاصِبِ صُنْعٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ ، فَلَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ صُنْعٌ آخَرُ سِوَى الْغَصْبِ ، وَهُوَ إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَضْمَنُ وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَخْدَمَ عَبْدُ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، أَوْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ ، أَوْ قَادَ دَابَّةً لَهُ ، أَوْ سَاقَهَا ، أَوْ رَكِبَهَا ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا أَنَّهُ ضَامِنٌ بِذَلِكَ ، سَوَاءٌ عَطِبَ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ أَوْ فِي مُضِيِّهِ فِي حَاجَتِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ .
وَإِذَا أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَوَّتَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ وَلَوْ دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ أَوْ بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلَكَ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النَّقْلِ ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ فِي الْأَصْلِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ ، وَالثَّانِي : يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عَنْ عِلْمٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَإِنْ فَعَلَهُ لَا عَنْ عِلْمٍ ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا ، فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ زِيَادَتِهِ .

( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِع : فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ ، وَالرَّدْعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ ، وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ، كَمَا يَجِبُ رَدُّ الْأَصْلِ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فِيهِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ .
( وَأَمَّا ) شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً ، يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا حَتَّى نَبَتَتْ ، أَوْ بَاقِلَةً فَغَرَسَهَا حَتَّى صَارَتْ شَجَرَةً ، أَوْ بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حَتَّى صَارَتْ دَجَاجَةً ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا ، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا ، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ ، أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ ، أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا ، أَوْ سِكِّينًا أَوْ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً ، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ

أَوْ اتَّخَذَهُ خَزَفًا ، أَوْ لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الْغَاصِبِ ، وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ ، أَوْ صِبْغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَالِكِ ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ، فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ ، فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ ، فَتَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً ، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ ، وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً ، وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّلَ وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ ، وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا وَمَعَانِيهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا ، وَفِي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَادَةً ، فَكَانَ فِعْلُهُ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ، إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِي الْهَالِكِ ، كَمَا فِي الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ ، فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً ، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ

اعْتِدَاءً عَلَيْهِ أَوْ إضْرَارًا بِهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْمَغْصُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فِيهِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ لَبَنًا أَوْ آجِرًا أَوْ سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، كَمَا كَانَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ ، إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمُفْرَدِ ، فَصَارَ بِهَا تَبَعًا لَهُ ، فَكَانَ الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ ، وَالْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ ، فَكَانَ ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى ، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ ، كَذَا هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ مَا إذَا بَنَى الْغَاصِبُ فِي حَوَالِي السَّاجَةِ لَا عَلَى السَّاجَةِ ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ ، بَلْ يُنْقَضُ ، وَهُوَ

اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ ، لَمْ يَكُنْ الْغَاصِبُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي .
وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا كَانَ مُتَعَدِّيًا عَلَى السَّاجَةِ ، فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ ، إلَّا بِنَقْضِ الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ ، هَذَا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ ، وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ فِي حَيَاةِ الْغَاصِبِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي الثَّمَن ، فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ ، فَبَطَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً ، وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجُذُوعَ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ .
وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرْسَ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْمَالِكِ ، وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ أَقْلِعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا فَارِغَةً ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَصِرْ شَيْئًا آخَرَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا ، وَيَكُونُ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ ؛

لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ ، وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ ، فَلَزِمَ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا ، وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً ، أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ مَا غَصَبَ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ وَلَمْ يَصُغْهُ ، أَوْ جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أَوْ مُطَوَّلًا أَوْ مُدَوَّرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً لَهُ مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَا اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ إنْ كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ .
وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ عَدَدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ ، إذْ الذَّبْحُ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، بَلْ هُوَ تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ ،

بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عَنْهُ ، فَإِذَا أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً ، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا .
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ ، أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ ، فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِبُطْلَانِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ، وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ أَطْعَمَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ ، وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ الْغَاصِبِ ، وَالْمُغْتَرُّ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ مِنْ الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ ، أَوْ ثَوْبًا فَآجَرَهُ مِنْهُ لِلُبْسِ ، أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ

الْغَاصِبِ عَلَى الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ ، وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ ضَرُورَةً ، فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ بِالْإِجَارَةِ ، وَقَالُوا فِي الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا مَعْلُومًا أَنَّهُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حِينَ يَبْتَدِئُ بِالْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ، وَالْأُجْرَةُ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ .
وَهَهُنَا تَجِبُ بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ، وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي .
قِيَاسِ .
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ ، لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ ، بَلْ هُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى ضَمَانِهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَغْصُوبِ ، فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ لِتَبْطُلَ عَنْهُ يَدُ الْغَاصِبِ ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْغَصْبِ كَمَا كَانَ ، فَبَقِيَ مَضْمُونًا كَمَا كَانَ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ بَرِئَ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَالثَّانِي : مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ .
( أَمَّا ) وُجُوبُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَيَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ ، وَالْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إتْلَافِ كُلِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ دَلَالَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ : عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، فَمَا دَامَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ : هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْأَصْلِ ، وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَا بِالْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ صُنْعَهُ ، لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ بَيِّنَةً ، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ ، كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ ، وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاس ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ ، بَلْ يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ ، وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُحْكَمُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَوْمَ

الْغَصْبِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ ، وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هُوَ الْغَصْبُ ، وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ ، وَبِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَمْ يَبْطُلْ الْوَاجِبُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ ، وَتَوَهُّمُ الْعَوْدِ هَهُنَا ثَابِتٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ ، وَإِذَا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ مِنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ ، فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهٍ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ ظَاهِرًا وَفِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ ، وَهُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } .
( وَأَمَّا ) وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ ، وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ : وَقْتُ وُجُودِ سَبَبِهِ ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ ، حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57