كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِهِ بِدَعْوَى الْإِيفَاءِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ سَلَّمَ لِلشُّفْعَةِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الْوَكِيلِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : اتْبَعْ الشَّفِيعَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا يَكُونُ فَلَا يُبْطَلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ بِدَعْوَى التَّسْلِيمِ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرَى إلَى الْوَكِيلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الرَّدِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَوْلِهِ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ ، لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ عَيْبٍ مُوجِبًا لِلرَّدِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ مَعَ وُجُودِ الْعَيْبِ ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَيَمِينِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْغَرِيمُ أَنْ يُحَلِّفَ الْوَكِيلَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ زُفَرُ : يُحَلِّفُهُ عَلَى عِلْمِهِ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ خَرَجَ عَنْ الْوَكَالَةِ وَلَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ وَكَانَ الطَّالِبُ عَلَى حُجَّتِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لَلَزِمَهُ ، وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْقَبْضِ ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِجَوَازِ أَنَّهُ يَنْكُلُ عَنْ الْيَمِينِ ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ .
( وَلَنَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَالْغَرِيمُ مَا ادَّعَى عَلَى الْوَكِيلِ شَيْئًا وَإِنَّمَا ادَّعَى عَلَى الْمُوَكِّلِ ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، وَالْيَمِينُ مِمَّا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ اسْتِحْلَافِ الْوَكِيلِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الطَّالِبُ ، فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتَوْفَاهُ حَالَ حَيَاتِهِ ، وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْوَارِثَ عَلَى عِلْمِهِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَارِثَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي عَلَيْهِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ ، فَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْلَافُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ .
وَكُلُّ مَنْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ لَا الْبَتِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ .
فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيفَاءِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا لَا تُسْمَعُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ هَلْ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ؟ عِنْدَهُ يَكُونُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْطَى الطَّالِبَ بِالدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ أَوْ بَاعَهُ بِهَا عَرَضًا فَبَيِّنَتُهُ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقَيْ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُقَاصَّةِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِمَا الْجِنْسُ وَخِلَافُ الْجِنْسِ فَكَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ ثَابِتًا .

( وَأَمَّا ) : الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى إنَّهُ إذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ إلَى خَيْرٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ ، فَيَلِي مِنْ التَّصَرُّفِ قَدْرَ مَا وَلَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِلَافًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلَالَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَنَفَذَ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ : بِعْ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ لَا يَنْفُذُ ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ ، لَا يَنْفُذُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى شَرٍّ ؛ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخِلَافِ إلَى شَرٍّ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ ، فَلَمْ يَكُنْ خِلَافًا أَصْلًا ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَمْ يَنْفُذْ بَلْ يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ - دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ ، فَبَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ ، لَمْ يَجُزْ ، بَلْ يَتَوَقَّفُ .
وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْإِجَازَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ ، هَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ مُقَيَّدًا .
فَأَمَّا : إذَا كَانَ مُطْلَقًا فَيُرَاعَى فِيهِ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ

الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ ، وَالْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقَ أَنْ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّلِ بِثَمَنِهِ إلَى شِرَاءِ مَا هُوَ أَرْبَحُ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مَعَ التَّعَارُضِ مَعَ مَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلًا فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا أَوْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ لُغَةً وَقَدْ وُجِدَ ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْلُهُ مُتَعَارَفًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا إطْلَاقًا وَتَسْمِيَةً كَذَا هَذَا .

: ( وَأَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ ، وَذِكْرُ الثَّمَنِ فِيهِ تَبَعٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ ، إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى مَنْ يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ جَرَى التَّعَارُفُ بِشِرَاءِ مِثْلِهِ بِمِثْلِهِ فَيَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ .
الثَّانِي الْمُشْتَرِي مُتَّهَمٌ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ : أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْبَيْعِ مُنْعَدِمَةٌ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالنَّقْدِ .
وَالْحُجَجُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ بَعْضَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا ؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ بِبَيْعِ النِّصْفِ الْبَاقِي .
وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ إجْمَاعًا .
إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِي الْبَاقِي وَيُجِيزُهُ الْمُوَكِّلُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِجَامِعٍ ، وَهُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَوُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ فِي

الْأَعْيَانِ ؛ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى مَا مَرَّ .
أَلَا يُرَى أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ يَجُوزُ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْبَعْضِ بِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ نَفَّعَ مُوَكِّلَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ الْبَعْضَ عَلَى مِلْكِهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الشِّرَاءَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى النِّصْفَ بِثَمَنِ الْكُلِّ لَا يَجُوزُ ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ ؛ وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ عِوَضًا ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى شَيْءٍ وَيَحْتَالَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ ، وَأَخَوَاتِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا أَجْنَبِيٌّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ حَقُّهُ ، فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ إبْرَاءً عَنْ قَبْضِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَلَوْ أُسْقِطَ حَقُّ الْقَبْضِ لَسَقَطَ الدَّيْنُ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَبَقِيَ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ أَصْلًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ؛ وَلِأَنَّ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ ، وَالِاسْتِيفَاءَ بِوَجْهٍ لَا يُفِيدُ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ عِوَضًا عَنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مِنْهُ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ فَيَصِحُّ ، وَمَتَى مَلَكَ ذَلِكَ فَيَمْلِكُ رَقَبَةَ الدَّيْنِ ضَرُورَةً بِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْعِوَضِ ؛ وَيَضْمَنُ لِمَا ذَكَرْنَا ؛ وَكَذَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مُبَادَلَةٌ ؛ وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى إنْسَانٍ وَقَبِلَ

الْوَكِيلُ الْحَوَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُحِيلِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ مِنْ الْوَكِيلِ ، تَأْخِيرُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ صَادَفَ حَقَّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الْمُوَكِّلِ بِثُبُوتِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَيَضْمَنُ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا أَفَادَهُ ، وَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ إلَّا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ ، فَإِنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ ، وَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْأَوَّلُ أَوْ الْمُوَكِّلُ ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ فُضُولِيٌّ فَبَلَغَ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُوَكِّلَ ، فَأَجَازَ يَجُوزُ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ لَيْسَتْ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ ، بَلْ الْمَقْصُودُ رَأْيُهُ .
فَإِذَا بَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ حَصَلَ التَّصَرُّفُ بِرَأْيِهِ فَنَفَذَ وَإِذَا بَاعَهُ لَا بِحَضْرَتِهِ أَوْ بَاعَ فُضُولِيٌّ ، فَقَدْ خَلَا التَّصَرُّفُ عَنْ رَأْيِهِ فَلَا يَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُوَكِّلِ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ

مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا ، مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا وَهَذَا مُحَالٌ ، وَكَذَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْكِبَارِ وَزَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ صَاحِبِهِ ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِاتِّصَالِ مَنْفَعَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ عَبْدِهِ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
كَذَا هَذَا يُحَقِّقُهُ أَنَّ اتِّصَالَ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا تُورِثُ التُّهْمَةَ ، لِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ عَمَّمَ التَّوْكِيلَ فَقَالَ : اصْنَعْ مَا شِئْتَ ، أَوْ بِعْ مِنْ هَؤُلَاءِ ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ ، جَازَ بَيْعُهُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحَالُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ ، وَالْفَاسِدَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

مِنْ النِّكَاحَ الْحِلُّ ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ الْمِلْكُ ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ .

وَأَمَّا : الْوَكِيلُ : بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَهَلْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَمْلِكُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَمْلِكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بَيْعٌ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ ، وَالصَّحِيحُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِأَحَدِهِمَا تَوْكِيلًا بِالْآخَرِ .
فَإِذَا بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا صَارَ مُخَالِفًا ( وَلَهُمَا ) أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ خَيْرٌ ، وَكُلُّ مُوَكَّلٍ بِشَيْءٍ مُوَكَّلٌ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ دَلَالَةً ، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا ، فَكَانَ آتِيًا بِمَا وُكِّلَ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا .
( وَأَمَّا ) الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ كَانَ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرْنَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَيْدُ رَاجِعًا إلَى الْمُشْتَرَى أَوْ إلَى الثَّمَنِ ، حَتَّى إنَّهُ إذَا خَالَفَ يَلْزَمُ الشِّرَاءَ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى خَيْرٍ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ، مِثَالُ الْأَوَّلِ : إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي جَارِيَةً ؛ أَطَؤُهَا ، أَوْ أَسْتَخْدِمُهَا أَوْ أَتَّخِذُهَا أُمَّ وَلَدٍ ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ ، لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَيَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تَخْدِمُنِي ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ عَمْيَاءَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إلَّا قَيْدًا لَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهُ ، وَاعْتِبَارُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَيْدِ مُفِيدٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تُرْكِيَّةً ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً حَبَشِيَّةً ، لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَمِثَالُ الثَّانِي إذَا قَالَ : لَهُ اشْتَرِ لِي جَارِيَةً بِأَلْفِ

دِرْهَمٍ ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ ، تَلْزَمُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ ، فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، لَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً ، فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِأَحَدِهِمَا مُفِيدًا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ، كَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْوَكَالَةِ كَمَا اُعْتُبِرَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الشُّفْعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَرَاهِمَ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ الدَّنَانِيرِ ، صَحَّ التَّسْلِيمُ .
كَذَا هَهُنَا فَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا يُشْتَرَى بِأَلْفٍ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ مِقْدَارَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مِقْدَارَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَزِمَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ مَعْرُوفٌ .
وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَمِثْلُهَا يُشْتَرَى بِأَلْفٍ ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إلَى خَيْرٍ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى .
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً بِأَلْفٍ نَسِيئَةً ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ حَالَّةً ، لَزِمَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ قَيْدَ الْمُوَكِّلِ .
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَلْفٍ حَالَّةً فَاشْتَرَى بِأَلْفٍ نَسِيئَةً ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ

خَالَفَ صُورَةً فَقَدْ وَافَقَ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى ، لَا لِلصُّورَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُوَكِّلِ فَاشْتَرَى بِغَيْرِ خِيَارٍ ، لَزِمَ الْوَكِيلَ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَالْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا خَالَفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ مُتَّهَمٌ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الشِّرَاءَ لِأَنْفُسِهِمَا ، فَلَا يُمْكِنُ التَّنْفِيذُ عَلَيْهِمَا فَتَوَقَّفَ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُرْتَدًّا ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهِ ، فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ ؛ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمُوَكِّلِ تُوُقِّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ ، فَقَدْ بَاعَ الْعَيْنَ ، وَالْبَيْعُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ هَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُقَيَّدًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْإِطْلَاقُ مَا أَمْكَنَ ، إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ مِنْ عُرْفٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى نَوْعَهَا وَثَمَنَهَا حَتَّى صَحَّتْ الْوَكَالَةُ فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ عَوْرَاءَ ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ عَمْيَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ تُشْتَرَى

لِلِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً وَغَرَضُ الِاسْتِخْدَامِ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ فَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ، فَيَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ نَصُّ التَّحْرِيرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّلَامَةِ لِثُبُوتِهَا دَلَالَةً كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ بِإِطْلَاقِهَا يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ كَمَا يَقَعُ عَلَى سَلِيمَةِ الْأَطْرَافِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ وُجِدَ .
( وَأَمَّا ) فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ ، وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ ، فَإِذَا فَاتَ مَا يَقُومُ بِهِ جِنْسٌ مِنْ مَنَافِعِ الذَّاتِ ، انْتَقَضَ الذَّاتُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الرَّقَبَةِ فَأَمَّا اسْمُ الْجَارِيَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ ، فَلَا يَقْدَحُ نُقْصَانُهَا فِي اسْمِ الْجَارِيَةِ ، بِخِلَافِ اسْمِ الرَّقَبَةِ حَتَّى إنَّ التَّوْكِيلَ لَوْ كَانَ بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَةِ كَذَا قَالُوا .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً وَكَالَةً صَحِيحَةً ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ جَارِيَةً ، إنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا فَلَوْ مَنَعْتَ النَّفَاذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى الْوُكَلَاءِ وَلَامْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ الْوَكَالَاتِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهَا ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَحَمُّلِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إنْ كَانَتْ زِيَادَةً تَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهِيَ قَلِيلَةٌ ، وَمَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ

تَقْوِيمِهِمْ فَهِيَ كَثِيرَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ زِيَادَةً وَمَا لَا يَدْخُلُ كَانَتْ زِيَادَتُهُ مُتَحَقَّقَةً ، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ الَّتِي يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا فِي الْجَامِعِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ فَقَالَ : إنْ كَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ أَوْ أَقَلَّ فَهِيَ مِمَّا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ فَهِيَ مِمَّا لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا ، وَقَالَ الْجَصَّاصُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ، لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْدِيرِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ .
مِنْهَا مَا يُعَدُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ غَبْنًا فِيهِ ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ غَبْنًا فِيهِ ، وَقَدَّرَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى : الْقَلِيلَ بالده ينم وَفِي الْحَيَوَانِ بالده يازده وَفِي الْعَقَارِ بالده دوازده ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ إنْ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْوَكِيلِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَلَوْ خَاصَمَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ الْبَاقِيَ ، وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ ثُمَّ إنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَى الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ مَا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَفِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ ، كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ ، فَبَاعَ نِصْفَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ مَعْلُومًا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَاعَ الْبَاقِيَ مِنْهُ أَوْ لَا ، وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا .
وَلَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى نِصْفَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ أَعْتَقَهُ الْمُوَكِّلُ جَازَ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ خَالَفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ مِنْهُ إعْتَاقُهُ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ، فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُوَكِّلِ صَادَفَ عَقْدًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَتِهِ ، فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً مِنْهُ ، كَمَا إذَا صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ .
وَإِعْتَاقُ الْوَكِيلِ لَمْ يُصَادِفْ عَقْدًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ التَّوَقُّفَ عَلَى إجَازَتِهِ ؛ فَبَطَلَ .
وَإِنْ كَانَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَلَا فِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُهُ عَلَى شِرَاءِ الْبَاقِي .
نَحْوَ إنْ وَكَّلَهُ

بِشِرَاءِ كُرِّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَاشْتَرَى نِصْفَ الْكُرِّ بِخَمْسِينَ ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا .
وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعَبِيدِ ، فَاشْتَرَى وَاحِدًا مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ إذَا اشْتَرَى عِشْرِينَ رَطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِثْلُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ وَلَوْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ اسْتِحْسَانًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ هَذَا خِلَافٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ ، وَذَا لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
كَمَا إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفًا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْآمِرِ ، فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ .
بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةً لِدُخُولِهَا بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ ، فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي مِائَةً رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّانِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا ، يَلْزَمُهُ

وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا اشْتَرَى يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّه - تَعَالَى - .

( وَأَمَّا ) الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِلْمُوَكِّلِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّهُ إذَا قَالَ : اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي ، وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَالْمُشْتَرَى لَهُ ، وَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ : اشْتَرَيْتُهُ لِي وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ ، فَالْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ ، كَمَا يَمْلِكُ لِلْمُوَكِّلِ ، فَاحْتُمِلَ شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ ، وَاحْتُمِلَ شِرَاؤُهُ لِمُوَكَّلِهِ ، فَيَحْكُمُ فِيهِ التَّصْدِيقُ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ : اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ : بَلْ اشْتَرَيْتَهُ لِي ، يَحْكُمُ فِيهِ الثَّمَنُ ، فَإِنْ أَدَّى الْوَكِيلُ الثَّمَنَ مِنْ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ .
فَالْمُشْتَرَى لَهُ ، وَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ دَرَاهِمَ مُوَكِّلِهِ ؛ فَالْمُشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَقْدُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ مَنْ يُشْتَرَى لَهُ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلثَّمَنِ ، فَكَانَ صَادِقًا فِي حُكْمِهِ .
( وَأَمَّا ) إذَا لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ يَحْكُمُ فِيهِ الثَّمَنُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَكِيلِ فَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِي تَحْكِيمِ الثَّمَنِ عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الشِّرَاءِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ ، فَيُؤَدِّي إلَى الْإِحَالَةِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلَّمًا مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ .

وَلَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شِرَاءٌ مِنْ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، أَوْ مُكَاتَبِهِ .
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ أَبِيهِ ، وَجَدِّهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، وَزَوْجَتِهِ ، وَكُلِّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، أَوْ بِأَقَلَّ ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، وَمُكَاتَبِهِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ بِحُجَجِهَا مِنْ قَبْلُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً ، بِأَنْ قَالَ لَهُ : اعْمَلْ مَا شِئْتَ ، أَوْ قَالَ لَهُ : بِعْ مِنْ هَؤُلَاءِ ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ بِالْأَمْرِ وَالْإِجَازَةِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ ، وَوَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا طَعَامًا ، فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ لَا عَلَى الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِمَا يُطْعَمُ ، لَكِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ بِقَرِينَةِ الشِّرَاءِ فِي الْعُرْفِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ السُّوقُ الَّذِي تُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ سُوقَ الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ ، إلَّا إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ قَلِيلًا ، كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ وَلِيمَةً فَيَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ ، وَقِيلَ : يَحْكُمُ الثَّمَنُ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا .
وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا ، يَنْصَرِفُ إلَى اللَّحْمِ الَّذِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ ، وَيَشْتَرِي النَّاسُ مِنْهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ لَحْمِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِشِرَائِهِ .
وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ ، إلَّا إذَا

كَانَ مُسَافِرًا وَنَزَلَ خَانًا ، وَدَفَعَ إلَى إنْسَانٍ دِرْهَمًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَحْمًا وَلَا إلَى لَحْمِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالسَّمَكِ وَلَا إلَى شَاةٍ حَيَّةٍ وَلَا إلَى مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ ؛ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِاشْتِرَائِهِ ، وَإِنْ اشْتَرَى مَسْلُوخًا جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْلُوخَ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْعَادَةِ ، وَلَا إلَى الْبَطْنِ وَالْكِرْشِ وَالْكَبِدِ وَالرَّأْسِ وَالْكُرَاعِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ ، وَلَا يُشْتَرَى مَقْصُودًا أَيْضًا بَلْ تَبَعًا لِلَّحْمِ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً ، وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ عَادَةً وَفِعْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْحِنْثِ يَلْزَمُ بِأَكْلِ الْقَدِيدِ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْقَدِيدَ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ؛ لِانْعِدَامِ الْعَادَةِ بِبَيْعِ الْقَدِيدِ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْغَالِبِ .
وَلَا إلَى شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِلَحْمٍ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ أَلْيَةٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَقْصُودًا .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَمَكًا بِدِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى الطَّرِيِّ الْكِبَارِ دُونَ الْمَالِحِ وَالصِّغَارِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ شِرَاءُ الطَّرِيِّ الْكِبَارِ مِنْهُ دُونَ الْمَالِحِ وَدُونَ الصِّغَارِ ؛ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الرَّأْسِ فَهُوَ عَلَى النِّيءِ دُونَ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ ، وَالْإِبِلِ ، إلَّا فِي مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ ، وَالْمَذْكُورُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ الْعَصْرِ وَالزَّمَانِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَدُونَ رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لِانْعِدَامِ الْعَادَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُهْنٍ ، فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ دُهْنٍ شَاءَ ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ فَاكِهَةٍ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ

فَاكِهَةٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ عَادَةً ؛ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْبَيْضِ فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الدَّجَاجِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَيْهِ تَقَعُ عَلَى بَيْضِ الطُّيُورِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَبَنًا فَهُوَ عَلَى مَا يُبَاعُ فِي عَادَةِ الْبَلَدِ فِي السُّوقِ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ السَّمْنِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا إنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى لَبَنِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعُرْفِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الْكَبْشِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ النَّعْجَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّ الْكَبْشَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ ، وَالنَّعْجَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَنَاقٍ ، فَاشْتَرَى جَدْيًا ، أَوْ شِرَاءِ فَرَسٍ ، أَوْ بِرْذَوْنٍ ، فَاشْتَرَى رَمَكَةً ، لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
وَالْبَقَرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَكَذَا الْبَقَرَةُ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ ذَكَرًا وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ } وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ عَمَلُ الثِّيرَانِ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأُنْثَى .
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالدَّجَاجُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالدَّجَاجَةُ عَلَى الْأُنْثَى ، وَالْبَعِيرُ عَلَى الذَّكَرِ ، وَالنَّاقَةُ عَلَى الْأُنْثَى ، وَالْبُخْتِيُّ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ الْإِبِلِ ، وَالنَّجِيبَةُ ضَرْبٌ مَعْرُوفٌ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ ، وَهِيَ كَالْحِمَارَةِ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبَقَرِ عَلَى الْجَامُوسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْبَقَرِ حَتَّى يَتِمَّ بِهِ نِصَابُ الزَّكَاةِ لِبُعْدِهِ عَنْ أَوْهَامِهِمْ لِقِلَّتِهِ فِيهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ ، فَاشْتَرَى إنْ فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ ، أَوْ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ، جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِلَّا فَلَا إلَّا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : : الْوَكِيلَانِ هَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ ؟ أَمَّا الْوَكِيلَانِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ صَاحِبِهِ .
وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَجُزْ ، حَتَّى يُجِيزَ صَاحِبُهُ أَوْ الْمُوَكِّلُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ، وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا ، وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَلَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ .
وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ الْآخَرُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ فِي الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَفِي الْبَيْعِ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ بِالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَكُلِّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ .
وَكَذَا مَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمْلِيكِ بِأَنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : جَعَلْتُ أَمْرَ امْرَأَتِي بِيَدِكُمَا ، أَوْ قَالَ لَهُمَا : طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا ، لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّطْلِيقِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ الْيَدِ تَمْلِيكًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْمَجْلِسِ ؟ وَالتَّمْلِيكَاتُ هِيَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ ، وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا وَهُنَاكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّطْلِيقَ دُونَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِمَا فَكَذَا هَذَا ، وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْبِضَ دُونَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ وَالْأَمَانَةِ ، وَقَدْ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا لَا

إلَى أَحَدِهِمَا وَرَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُبَرِّئْهُ الْغَرِيمُ حَتَّى يَصِلَ مَا قَبَضَهُ إلَى صَاحِبِهِ ، فَيَقَعُ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا ، أَوْ يَصِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْمَقْبُوضُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ إلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَبَضَاهُ جَمِيعًا ابْتِدَاءً .

( وَأَمَّا ) الْوَكِيلَانِ بِالطَّلَاقِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، وَالْعِتْقُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَالْوَكِيلَانِ بِتَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لَا تَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ ، فَكَانَ إضَافَةُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلتَّصَرُّفِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ .

( وَأَمَّا ) الْوَكِيلَانِ بِالْخُصُومَةِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَنْفَرِدُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخُصُومَةَ مِمَّا يَحْتَاجُ ، إلَى الرَّأْيِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ : أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْخُصُومَةِ إعْلَامُ الْقَاضِي بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُخَاصِمُ ، وَاسْتِمَاعُهُ وَاجْتِمَاعُ الْوَكِيلِينَ عَلَى ذَلِكَ يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ ؛ لِأَنَّ ازْدِحَامَ الْكَلَامِ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ ، فَكَانَ إضَافَةُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلْخُصُومَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ كَانَ تَمْثِيلًا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبْضَ دُونَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ .
( وَأَمَّا ) الْمُضَارِبَانِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهِ إجْمَاعًا .
وَفِي الْوَصِيَّيْنِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

الْوَكِيلُ هَلْ يَمْلِكُ الْحُقُوقَ ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْمُوَكَّلَ بِهِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا حُقُوقَ لَهُ ، إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ ، كَالْوَكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ ، وَالتَّوْكِيلِ بِالْمُلَازَمَةِ وَنَحْوِهِ .
وَنَوْعٌ لَهُ حُقُوقٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِ .
( أَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : فَحُقُوقُهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ ، فَيُسَلَّمُ الْمَبِيعَ ، وَيَقْبِضُهُ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالِبُ بِهِ وَيُخَاصِمُ فِي الْعَيْبِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ ، فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ كَالْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ .
وَالْإِجَارَاتِ وَالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيلِ وَعَلَيْهِ ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ ، وَالْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ طَالَبَهُ فَأَبَى لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ .
وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَيْهِ .
وَلَوْ نَهَاهُ الْوَكِيلُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ صَحَّ نَهْيُهُ .
وَلَوْ نَهَى الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ عَنْ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا ، وَكَذَا الْوَكِيلُ هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إذَا نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُوَكِّلُ .
وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا ، لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ عَلَيْهِ

وَرَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْ الْوَكِيلِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ الثَّمَنَ ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أَخَذَهُ مِنْهُ .
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْمَبِيعَ دُونَ الْمُوَكِّلِ .
وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ .
وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِالْعَيْبِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إلَى مُوَكِّلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ إلَّا بِرِضَا مُوَكِّلِهِ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَالِاسْتِئْجَارِ وَأَخَوَاتِهِمَا ، وَكُلُّ عَقْدٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَالْعَتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَالْكِتَابَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ ، وَالْوَكِيلُ فِيهَا يَكُونُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا .
حَتَّى إنَّ وَكِيلَ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لَا يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ ، فَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ ، وَوَكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ الْمَهْرِ .
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ إنْ كَانَ وَكِيلَ الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يُطَالَبُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ ، إلَّا بِالضَّمَانِ .
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ وَأَخَوَاتِهِمَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَرْجِعُ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى

الْمُوَكِّلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ تَصَرُّفُ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ ؟ فَكَذَا حُقُوقُهُ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِلْحُكْمِ ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْمَتْبُوعُ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَهُ فَكَذَا التَّابِعُ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً ، فَكَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ ، كَمَا إذَا تَوَلَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ حَقِيقَةً وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فَاعِلًا بِفِعْلِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُقَرَّرَةٌ بِالشَّرِيعَةِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقَالَ اللَّه - عَزَّ شَأْنُهُ - : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحُكْمِ لَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ أَصْلَ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا فَعَلَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ وَإِنَابَتِهِ ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ ، فَتَعَارَضَ الشَّبْهَانِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، فَعَمِلْنَا بِشِبْهِ الْآمِرِ .
وَالْإِنَابَةُ بِإِيجَابِ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ وَنِسْبَةِ الْحَقِيقَةِ الْمُقَرَّرَةِ بِالشَّرِيعَةِ بِإِثْبَاتِ تَوَابِعِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ تَوْفِيرًا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظُّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ إثْبَاتُ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ ، وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ هُوَ الْوِلَايَةُ ؛ لِأَنَّهَا عِلَّةُ نَفَاذِهِ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ .
وَالْمُوَكِّلُ أَصْلٌ فِي الْوِلَايَةِ ، وَالْوَكِيلُ تَابِعٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ بَلْ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ ، فَكَانَ إثْبَاتُ

أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ ، وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْوَكِيلِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ حَدُّ الْحِكْمَةِ ، وَعَكْسُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَهُوَ حَدُّ السَّفَهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ بَلْ هُوَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ ، بَلْ إلَى مُوَكِّلِهِ ؟ فَانْعَدَمَتْ النِّيَابَةُ ، فَبَقِيَ سَفِيرًا مَحْضًا فَاعْتُبِرَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا مِنْ الْمُوَكِّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ، ثُمَّ نَقُولُ : إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ ، وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعُهْدَةِ ، ( فَأَمَّا ) إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ ، وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ ؛ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ ، فَيَقَعُ مَحْضًا لِحُصُولِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ الْمَحْجُورِ سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا خِيَارَ لَهُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ جَاهِلًا فَلَهُ الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ جَوَازِ التِّجَارَةِ ، وَقَدْ اخْتَلَّ الرِّضَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَى الْعَاقِدِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ اخْتَلَّ رِضَاهُ ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ، كَمَا إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ ( وَجْهُ ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : أَنَّ الْجَهْلَ بِالْحَجْرِ لَيْسَ بِعُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ ، خُصُوصًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْحَجْرُ ، وَالْإِذْنُ يُعَارِضُ الرُّشْدَ ، فَكَانَ سَبَبُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ قَائِمًا ،

فَالْجَهْلُ بِهِ لِتَقْصِيرٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يُعْذَرُ وَيُعْتَبَرُ عَالِمًا .
وَلَوْ عَلِمَ بِالْحَجْرِ حَقِيقَةً لَمَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

الْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَبَضَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَالرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ ، وَلَا صُنْعَ لِلْوَكِيلِ فِي الْقَبْضِ ، بَلْ هُوَ صُنْعُ الْقَابِضِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى ، فَكَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ ، وَكَانَ الْوَكِيلُ سَفِيرًا عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ .
بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ ، وَهُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَتْ الْحُقُوقُ عَائِدَةً إلَيْهِ وَكَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ ، وَالِارْتِهَانِ وَالِاسْتِيهَابِ ، الْحُكْمُ وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ .
وَكَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا .
وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحُقُوقِ ، وَالْمَالِكُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَمَلَكَ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ فِيهَا ( وَمِنْهَا ) : أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بِجِهَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَبْضِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ - أَمَانَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ يَدِ الْمُودِعِ ، فَيَضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فِيهَا ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَقَالَ : اقْضِهِ فُلَانًا عَنْ دَيْنِي فَقَالَ الْوَكِيلُ : قَدْ قَضَيْتُ صَاحِبَ الدَّيْنِ ، فَادْفَعْهُ إلَيَّ وَكَذَّبَهُ ، صَاحِبُ الدَّيْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى لَا يَسْقُطَ دَيْنُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُصَدَّقُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يُصَدَّقُ

عَلَى الْغَرِيمِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ ، وَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَكِّلِ مِنْ تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا ، وَتَكْذِيبِ الْآخَرِ ، فَيَحْلِفُ الْمُكَذَّبُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُصَدَّقِ .
فَإِنْ صُدِّقَ الْوَكِيلُ فِي الدَّفْعِ ، يَحْلِفُ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَبَضَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَظْهَرْ قَبْضُهُ ، وَلَمْ يَسْقُطْ دَيْنُهُ ، وَإِنْ نَكَلَ ظَهَرَ قَبْضُهُ وَسَقَطَ دَيْنُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ صُدِّقَ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَكُذِّبَ الْوَكِيلُ ، يَحْلِفُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَقَدْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا دَفَعَ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَ مَالَهُ رَجُلًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى فُلَانٍ ، فَقَالَ الْمُودَعُ : دَفَعْتُ ، وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ إلَى رَجُلٍ ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الْأَمْرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَمْرَ ، وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى رَجُلٍ كَالْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ ، فَأَمَرَ الطَّالِبُ ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ : قَدْ دَفَعْتُ إلَيْهِ ، وَقَالَ فُلَانٌ : مَا قَبَضْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ فُلَانٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ .
وَلَا يُصَدَّقُ الْوَكِيلُ عَلَى الدَّفْعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَدَّعِي الدَّفْعَ إلَى فُلَانٍ يُرِيدُ إبْرَاءَ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ .
فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ يَبْرَأُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلَكِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْقَابِضِ ،

وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ ، وَطَلَبَ الْوَكِيلُ يَمِينَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ دَفَعَ ، فَإِنْ حَلَفَ أُخِذَ مِنْهُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ .
وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْمَالُ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَأَمْسَكَ مَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمُوَكِّلُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَصْلًا وَقَضَى الْوَكِيلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَكِيلٌ بِشِرَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الطَّالِبِ ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ فَهَذَا أَوْلَى .
وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَضَيْتُهُ ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ ، فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى صَاحِبَ الدَّيْنِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَبَرِئَ الْمُوَكِّلُ مِنْ الدَّيْنِ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ حِسًّا ، وَمُشَاهَدَةً ، وَقَدْ ثَبَتَ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِدَعْوَى الْقَبْضِ يُرِيدُ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ : وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ الطَّالِبِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَلَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ، وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ .
وَكَذَا الْمُوَكِّلُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ

عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مَعَ الْيَمِينِ .
أَوْ يُقَالُ : إنَّ الْوَكِيلَ بِقَوْلِهِ : قَضَيْتُ يَدَّعِي عَلَى الطَّالِبِ بَيْعَ دَيْنِهِ مِنْ الْغَرِيمِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ مِنْهُ وَهُمَا مُنْكِرَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مَعَ الْيَمِينِ ، وَيَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ قَبْضُ الطَّالِبِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْقَضَاءِ ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ ، يُصَدَّقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الطَّالِبِ ، حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى ، وَيَغْرَمَ أَلْفًا أُخْرَى لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَصْدِيقِهِ فَثَبَتَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ : أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مُنْكِرٌ ؛ إلَّا أَنَّا نَقُولُ : إنْكَارُ الطَّالِبِ يَمْنَعُ وُجُودَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ مَا لَا يُمْنَعُ وُجُودُهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ .
وَإِقْرَارُ كُلِّ مُقِرٍّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ فَقَضَاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ قَضَاهُ الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الطَّالِبِ بِمَا قَبَضَ مِنْ الْوَكِيلِ .
وَإِنْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ ، فَقَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ إلَّا أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ .
فَإِذَا عَلِمَ بِفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَقَدْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ .
وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ

التَّعَدِّي ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَدَّى الْوَكِيلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ، مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ إسْقَاطُ الْفَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْ الْوَكِيلِ لِحُصُولِهِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ الدَّفْعُ مِنْ الْوَكِيلِ تَعَدِّيًا مَحْضًا ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَعِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَالْمَدْفُوعُ إلَى الطَّالِبِ مَقْبُوضٌ عَنْهُ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ مَضْمُونٌ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، لِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِجِهَةِ الْقَضَاءِ ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ .
وَيُقَالُ : إنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُعَاوَضَةٍ ، وَهُوَ نَوْعُ شِرَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ .
وَالْمَقْبُوضُ مِنْ الْوَكِيلِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ ، لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ ، فَبَقِيَ تَعَدِّيًا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ التَّعَدِّي .
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ .
وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ ، ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا - وَاَللَّهُ عَزّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ : بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ .
( أَمَّا ) إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْوَكِيلِ .
أَوْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ : بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِي .
أَوْ قَالَ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ .
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا : أَنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ .
فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَهْلِكُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ : بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ .
وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا نَقَدَهُ .
كَذَا .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْقَبْضِ ، لِمَا ذَكَرْنَا .
وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ ، أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ .
وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّلُ

عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ .
وَلَا يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ ، وَوُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ .
هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مُسَلَّمًا إلَى الْوَكِيلِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ : بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي أَوْ قَالَ : دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، أَوْ قَالَ : قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ .
( أَمَّا ) إذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ : فَلَا يُشْكَلُ .
وَكَذَا إذَا كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ ، فَلَا يَحْلِفُ .
وَيَحْلِفُ الْوَكِيلُ .
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ .
فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي - فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ .
إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ .
وَالْوَكِيلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّهِ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ .
فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ ،

وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الثَّمَنَ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ ، إذَا أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ ، لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ .
فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ ، وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ فَيَسْتَوْفِي مَا ضَمِنَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ ، لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَعَلَى الْمُوَكِّلِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَهُ .
وَإِنَّ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُهُ فِي قَوْلِهِمَا .
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَبِيعُهُ وَجَعَلَ هَذَا كَبَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ .
وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رُدَّ عَلَيْهِ فَسْخًا ، عَادَتْ الْوَكَالَةُ .
فَإِذَا بِيعَ الْعَبْدُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْهُ إنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ

بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي ، يَأْخُذُ مِنْ الثَّمَنِ مِقْدَارَ مَا غَرِمَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ .

( وَمِنْهَا ) : أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ فَقَضَاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، يَرْجِعُ بِمَا قَضَى عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ اسْتِقْرَاضٌ مِنْهُ ، وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْوَكِيلِ تَوْكِيلٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْوَكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ : إذَا قَضَى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
فَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ ؛ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ : لَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْأَمِينِ حَبْسُ الْأَمَانَةِ بَعْدَ طَلَبِ أَهْلِهَا ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ عَاقِدٌ وَجَبَ الثَّمَنُ لَهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ - ضَمَانًا لِلْمَبِيعِ ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ ؛ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي - وَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمُوَكِّلُ ، فَحَبَسَهُ حَتَّى هَلَكَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا .
لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْبَيْعِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ .
وَقَالَ زُفَرُ : يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَالْأَمِينُ لَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْأَمَانَةِ عَنْ صَاحِبِهَا ، فَإِذَا حَبَسَهَا فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا ، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
( وَجْهُ

) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ الدَّيْنِ كَالرَّهْنِ .
( وَجْهٌ ) قَوْلُهُمَا أَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ هُوَ ثَمَنٌ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ ؛ إذَا بَاعَ ، وَسَلَّمَ ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ فَيَأْخُذُ عَيْنَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَمِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ : فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : الْوَكِيلُ يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ بِأَشْيَاءَ ( مِنْهَا ) : عَزْلُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَنَهْيُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ وَلِصِحَّةِ الْعَزْلِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا عِلْمُ الْوَكِيلِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ ، كَالْفَسْخِ فَإِذَا عَزَلَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ انْعَزَلَ ، - وَكَذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ ، وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ ، انْعَزَلَ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا ، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ .
وَقَالَ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ، وَيَقُولُ : إنِّي عَزَلْتُكَ عَنْ الْوَكَالَةِ ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ، بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .
وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا ، وَلَا أَرْسَلَ رَسُولًا ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ ، يَنْعَزِلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوْ الْعَدْلِ أَوْلَى ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ : فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَنْعَزِلُ وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الْعَزْلِ

مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ ، وَلَا الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الْعَزْلِ لَهُ شِبْهُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ ، وَهُوَ لُزُومُ الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ ؛ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوْ الْعَدَدُ - وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ : الشَّفِيعُ إذَا أَخْبَرَهُ بِالْبَيْعِ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ ، وَلَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ حَتَّى ظَهَرَ عِنْدَهُ صِدْقُ الْخَبَرِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فِي بَنِي آدَمَ ، ثُمَّ أَخْبَرَ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ مَوْلَاهُ أَنَّ عَبْدَهُ قَدْ جَنَى ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ ، لَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا : يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ .
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ : الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَلَغَهُ حَجْرُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عَدْلٍ ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا : يَصِيرُ مَحْجُورًا .
وَإِنْ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ ، وَأَشْهَدَ عَلَى عَزْلِهِ ، وَهُوَ غَائِبٌ ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالْعَزْلِ أَحَدٌ ، لَا يَنْعَزِلُ ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بَعْدَ الْعَزْلِ كَتَصَرُّفِهِ قَبْلَ الْعَزْلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : فِي الْمُوَكِّلِ : إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمْنِ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَيَرْجِعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا قَبْلَ الْعَزْلِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ .

وَالثَّانِي - أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ ، فَأَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، وَجَعَلَ الْمُرْتَهَنَ أَوْ الْعَدْلَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ ، وَقَبْضِ ثَمَنِهِ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ ، فَعَزَلَ الرَّاهِنُ الْمُسَلَّطَ عَلَى الْبَيْعِ ، لَا يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي ، فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي ، لَا يَنْعَزِلُ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ غَابَ ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَصِحُّ عَزْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا عَلَى التَّوْكِيلِ بِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ .
وَلَوْ وَكَّلَ وَكَالَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ ، يَعْنِي بِالْفَارِسِيَّةِ وَكِيلِي دماركست ، هَلْ يَمْلِكُ عَزْلَهُ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ لَا يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ وَكَالَةً ثَابِتَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ عَنْهَا ، فَقَدْ أَلْحَقَ حُكْمَ هَذَا التَّوْكِيلِ بِالْأَمْرِ ، ثُمَّ لَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ إلَى رَجُلٍ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ ، أَوْ أَمْرَ عَبْدِهِ إلَى رَجُلٍ يُعْتِقُهُ مَتَى شَاءَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : طَلِّقْ امْرَأَتِي - إنْ شِئْتَ أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي إنْ شِئْتَ - لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ ، كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ

وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكُ عَزْلَهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ ، بَلْ هِيَ إبَاحَةٌ ، وَلِلْمُبِيحِ حَقُّ الْمَنْعِ عَنْ الْمُبَاحِ .
وَلَوْ قَالَ وَقْتَ التَّوْكِيلِ : كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً فَعَزَلَهُ يَنْعَزِلُ ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا ثَانِيًا وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً كَمَا شَرَطَ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ .
وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ : كُنْتُ وَكَّلْتُكَ وَقُلْتُ لَكَ : كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ وَقَدْ عَزَلْتُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِتَوْكِيلٍ جَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَّقَ التَّوْكِيلَ بِشَرْطٍ ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ ، وَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي التَّوْكِيلِ الْمُعَلَّقِ : لَا يَمْلِكُ الْعَزْلَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْعَزْلَ فِي الْمُرْسَلِ فَفِي الْمُعَلَّقِ أَوْلَى .

( وَمِنْهَا ) مَوْتُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْآمِرِ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا ( وَمِنْهَا ) جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبِقَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ الْآمِرِ .
وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي حَدِّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ ، وَمُحَمَّدٌ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الْحَوْلَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلْحَوْلِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى .
( وَمِنْهَا ) : لَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ ، فَكَانَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفَةً أَيْضًا ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُوَكِّلُ نَفَذَتْ .
وَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، بَطَلَتْ .
وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ ، فَكَذَا الْوَكَالَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ ، فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إجْمَاعًا .
لِأَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ النَّفَاذُ وَهُوَ الْمِلْكُ .
( وَمِنْهَا ) عَجْزُ الْمُوَكِّلِ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ بِأَنْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا ، فَعَجِزَ الْمُوَكِّلُ ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الْمَأْذُونُ إنْسَانًا ، فَحُجِرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ آمِرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ ، فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ .

( وَمِنْهَا ) مَوْتُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ ( وَمِنْهَا ) جُنُونُهُ الْمُطْبِقُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَوْقُوفًا فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا زَالَ التَّوَقُّفُ ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا .
وَإِنْ حُكِمَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا هَلْ تَعُودُ الْوَكَالَةُ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَعُودُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَعُودُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ نَفْسَ الرِّدَّةِ لَا تُنَافِي الْوَكَالَةَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ؟ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِتَعَذُّرِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ .
فَإِذَا عَادَ زَالَ الْمَانِعُ ، فَيَجُوزُ ، وَنَظِيرُهُ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ بِالْكُوفَةِ ، فَلَمْ يَبِعْهُ فِيهَا حَتَّى خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ ، لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِالْبَصْرَةِ ، ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْكُوفَةِ مَلَكَ بَيْعَهُ فِيهَا ، كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ ، حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ - كَالنِّكَاحِ .
( وَأَمَّا ) الْمُوَكِّلُ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ، لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ : وَوَجْهُهُ : أَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ لِبُطْلَانِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا ، عَادَ مِلْكُهُ الْأَوَّلُ ، فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ .
وَلَوْ مَاتَ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ - فَكَذَا - إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ - .

( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ نَحْوُ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ ، فَبَاعَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَكَذَا إذَا اسْتَحَقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ .
لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ ؛ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ؛ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ .
كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ - وَلَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ ، هَلْ تَعُودُ الْوَكَالَةُ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَعُودُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَعُودُ ؛ لِأَنَّ الْعَائِدَ بِالْفَسْخِ عَيْنُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ، فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ - .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ وَالْوَكِيلُ بَعْدَ مَا انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا ، إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ ، فَوَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ ، لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ أَنْ يَهَبَهُ .
فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ : ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ لَمْ يَتَّضِحْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ ، فَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَزْوِيجِهَا مِنْهُ ، فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ .
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ الْهِبَةِ فَفَعَلَ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِخُلْعِ امْرَأَتِهِ .
ثُمَّ خَلَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْعَ .
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، فَطَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً ، وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ

فَالْوَكَالَةُ قَائِمَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الْعِدَّةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْكِتَابَةِ فَكَاتَبَهُ ، ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً .
وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً ، فَزَوَّجَهُ ، وَأَبَانَهَا ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ ، فَانْتَهَى حُكْمُ الْآمِرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَيَجْعَلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَكْرَارًا .
حَتَّى لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ جَدِيدٌ وَقَدْ انْتَهَتْ الْوَكَالَةُ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ .

( وَمِنْهَا ) : هَلَاكُ الْعَبْدِ الَّذِي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَوْ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ بِهِبَتِهِ أَوْ بِتَدْبِيرِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِهِ .
وَالْوَكَالَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ مُحَالٌ ، فَبَطَلَ - ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بِهَا الْوَكِيلَ مِنْ الْوَكَالَةِ سِوَى الْعَزْلِ وَالنَّهْيِ ، لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، لَكِنْ تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِيمَا بَيْنَ الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوَكَّلَ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ ، وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ ، رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ، أَوْ اسْتَحَقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ .
وَفِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوْ جُنَّ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الَّذِي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ وَنَحْوَهُ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ .
وَالْفَرْقُ : - أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ وَإِنْ صَارَ مَعْزُولًا بِتَصَرُّفِ الْمُوَكَّل - لَكِنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَرْكِ إعْلَامِهِ إيَّاهُ ، فَصَارَ كَفِيلًا لَهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ ؛ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ ؛ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ - وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْعَبْدِ وَالْجُنُونِ وَأَخَوَاتِهَا ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ وَهَبَ الْمَالَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ الْمَالَ ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ لِدَافِعِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُوَكِّلَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ نِيَابَةٍ

عَنْ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ .
وَقَبْضُ النَّائِبِ كَقَبْضِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ، فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا وَهَبَهُ مِنْهُ .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الصُّلْحِ ) الْكَلَامُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الصُّلْحِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الصُّلْحِ بَعْدَ وُجُودِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا بَطَلَ ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَصْلِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
الصُّلْحُ فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : .
صُلْحٌ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَصُلْحٌ عَنْ إنْكَارِهِ ، وَصُلْحٌ عَنْ سُكُوتِهِ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ ، وَلَا إنْكَارٍ ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْمَشْرُوعُ هُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ وَسُكُوتٍ لَا غَيْرِهِمَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا الْمَشْرُوعُ هُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ لَا غَيْرُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ أَمَّا فِي الْإِنْكَارِ ؛ فَلِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّعْوَى ، وَقَدْ عَارَضَهَا الْإِنْكَارُ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، فَأَمَّا فِي السُّكُوتِ فَلِأَنَّ السَّاكِتَ يُنَزَّلُ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَكَانَ إنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ .
وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ ( وَلَنَا ) ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ ، فَكَانَ كُلُّ صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ

هَذَا النَّصِّ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا ، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ أَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ مُطْلَقًا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً ؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ ، وَالْمُنَازَعَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ إذْ الْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ ، وَمُسَاعَدَةٌ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ مَا صَنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي بَنِي آدَمَ مَا صَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إنْكَارِهِ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَقَوْلُهُ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ بِثَابِتٍ قُلْنَا هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْحَقُّ ثَابِتٌ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي ، وَحَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ ثَابِتَانِ لَهُ شَرْعًا فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ مَشْرُوعًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الصُّلْحِ .
فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا ، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : قَبِلْتُ ، أَوْ رَضِيت ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الصُّلْحِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ .
فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ .
( أَمَّا ) .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ .
فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، وَهَذَا شَرْطٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ .

( فَأَمَّا ) الْبُلُوغُ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ صُلْحُ الصَّبِيِّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ ، فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْخُصُومَةُ ، وَالْحَلِفُ وَالْمَالُ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ .
وَلَوْ أَخَّرَ الدَّيْنَ جَازَ سَوَاءً كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، أَوْ لَا فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَاتِ كَالْبَالِغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّأْجِيلَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِأَنْ يَبِيعَ بِأَجَلٍ ، فَيَمْلِكُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْحَطِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِلْعَيْبِ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ أَخْذِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ ، فَيَمْلِكُهُ وَلَوْ صَالَحَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ لِلْعَقْدِ وَالْإِقَالَةُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَصَالَحَ الْبَائِعَ عَلَى أَنْ قَبِلَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَنْفَعُ مِنْ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ عَادَةً .
وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ ، فَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ الْبَائِعِ تَبَرُّعٌ مِنْهُ عَلَى الصَّبِيِّ ، فَيَصِحُّ .
وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَيْهِ دَيْنًا فَأَقَرَّ بِهِ ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ حَطَّ عَنْهُ الْبَعْضَ جَازَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ

الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ ، فَكَانَ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا عَلَى الصَّبِيِّ بِحَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُتَبَرَّعَ عَلَيْهِ ، فَيَصِحُّ .

وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُصَالِحِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ ، حَتَّى يَصِحَّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ، أَوْ كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَلَى حَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ، وَيَمْلِكُ التَّأْجِيلَ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَيَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ دَيْنًا ، وَهُوَ مَأْذُونٌ فَأَقَرَّ بِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فَكَانَ الْحَطُّ مِنْ الْمُدَّعِي تَبَرُّعَا عَلَى الْعَبْدِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ فَيَصِحُّ .
وَلَوْ حَجَر عَلَيْهِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَأَقَرَّ بِهِ ، وَهُوَ مَحْجُورٌ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ضَمِنَهُ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ لَا يَنْفُذُ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ لَا يَنْفُذُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ لَمْ يَنْفُذْ الصُّلْحُ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مِنْ نَفْسِهِ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِالْحَجْرِ ، وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ ظُهُورِهِ حَقُّ الْمَوْلَى فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ ثَابِتَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ مَنَعَ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ

يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَمْنَعُ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى فِيهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَلَا يَظْهَرُ ، فَلَا تَبْطُلُ يَدُهُ الثَّابِتَةُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً ، وَالْإِقْرَارُ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ يَدِهِ الثَّابِتَةِ حَقِيقَةً مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبِ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ ، فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهُ ، وَيُؤَخِّرَ بَعْضَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ ، فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّف ، فَلَا يَصِحّ صُلْحُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ عَجَزَ ، فَالْخَصْم فِي دُيُونِهِ هُوَ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا لِحَطِّ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الْمُصَالِحُ بِالصُّلْحِ عَلَى الصَّغِيرِ مُضِرًّا بِهِ مَضَرَّةٌ ظَاهِرَةٌ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى صَبِيٍّ دِينًا فَصَالَحَ أَبِ الْوَصِيِّ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةً ، وَمَا أَعْطَى مِنْ الْمَالِ مِثْلَ الْحَقِّ الْمُدَّعَى ، أَوْ زِيَادَةً يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى كُلِّ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْأَبُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ يَقَعُ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا بِمَالِ الصَّغِيرِ ، وَأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ .
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَرَّ بِالصَّغِيرِ ، بَلْ نَفْعَهُ حَيْثُ قَطْعَ الْخُصُومَةَ عَنْهُ .
وَلَوْ ادَّعَى أَبُو الصَّغِيرِ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنًا لِلصَّغِيرِ فَصَالَحَ عَلَى أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ ، وَأَخَذَ الْبَاقِيَ فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ؛ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْهُ تَبَرُّعٌ مِنْ مَالِهِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِثْلِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ ، وَهَلْ يَمْلِكُ الْأَبُ الْحَطَّ مِنْ دَيْنٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) إنْ كَانَ وَلِيَ ذَلِكَ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ ( وَإِمَّا ) إنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ ، وَالْإِبْرَاءَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ ، وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ ؛ لِكَوْنِهِ مَضَرَّةً مَحْضَةً ، وَإِنْ كَانَ وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي عَنْ

الثَّمَنِ ، أَوْ حَطَّ بَعْضَهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدٍ عَلَى حَمْلٍ أَيًّا كَانَ الْمُصَالِحُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَوِرْثَ وَجَازَتْ الْوَصَايَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَيْهِ ؛ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ تَنْفِيذِ الْوِلَايَةِ ، وَهُوَ لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ ، وَيَمْلِكُ الْأَبُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ تَصَرُّفٌ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ بِالْإِحْيَاءِ ، وَتَحْصِيلِ التَّشَفِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ { ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وَكَذَا مَنْفَعَةُ التَّشَفِّي رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِهِ ، وَلِلْأَبِ ، وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا مَلَكَ إنْكَاحَهُ دُونَ الْوَصِيِّ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَك الْأَمْوَالِ لِشَبَهِهِ بِالْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَلَا بَيْنَ طَرَفِ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى مَعَ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ ، وَيُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْحُرِّ كَمَا يُسْتَوْفَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ ، وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِيهِ ، وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْأَطْرَافِ ، كَمَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَمْوَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَنْفُسِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ ، وَالْمَآلِ فَيَلِي التَّصَرُّفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَيَمْلِكُ الْأَبُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ

الِاسْتِيفَاءَ ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ ، وَكَذَا الْوَصِيُّ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَكَذَا الصُّلْحُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ ، وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَمْلِكُ ، وَكَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ ، وَالتَّشَفِّي ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الصُّلْحِ أَنَّ الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْقِصَاصَ ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ ؟ وَلَوْ صَالَحَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، وَالْحَطُّ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِهِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَطَّ نُقْصَانٌ مُتَحَقِّقٌ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ مُتَحَقِّقٌ وَإِنْ قَلَّ وَالنُّقْصَانُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ لِاخْتِلَافِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ الْعِوَضُ لَا يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ عَنْ الصَّغِيرِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا صُلْحُهُ نَافِذٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ نَفَاذُ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَفَاذُ تَصَرُّفِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَصُلْحُهَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا إذَا الْتَحَقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ بَطَلَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ كَصُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهَا بِالْتِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ .
فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَمَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لَا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَبْدٍ ، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ ؛ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا ، أَوْ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا ، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَاضِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ عَيْنًا ، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَاسْتِحْقَاقًا كَالْعُرُوضِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَقَارِ مِنْ الْأَرْضَيْنِ وَالدُّورِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَكِيلِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ ( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ دَيْنًا ، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ سِوَى الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ وَالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ ( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً ( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَيْسَ بِعَيْنٍ ، وَلَا دَيْنٍ ، وَلَا مَنْفَعَةٍ ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً وَالصُّلْحُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَوْ عَنْ إنْكَارِهِ ، أَوْ عَنْ سُكُوتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَنْ إقْرَارٍ يَجُوزُ سَوَاءً كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَيْنًا ، أَوْ دَيْنًا بَعْدَ أَنْ

كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ إلَّا الْحَيَوَانُ ، وَإِلَّا الثِّيَابُ إلَّا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَكَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي مَعْنَى الثَّمَنِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ عَيْنًا كَانَتْ ، أَوْ دَيْنًا إلَّا الْحَيَوَانَ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ أَصْلًا ، وَالثِّيَابُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ مِنْ بَيَانِ الْقَدْرِ ، وَالْوَصْفِ وَالْأَجَلِ ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَثْبُتَانِ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَجْلٍ ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرْفٍ وَلَا فِي تَرْكِ قَبْضِهِ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، بَلْ هُوَ افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ ، أَوْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَصَالَحَ مِنْهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( إمَّا ) إنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ جِنْسِهَا ، أَوْ عَلَى جِنْسِهَا ، فَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى عَيْنٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهَا فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَيْنٍ سِوَاهُ ؛ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَائِعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ أَبَدًا ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَبِيعٌ فَالصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَقَعُ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى جِنْسِهَا ، فَإِنْ صَالَحَ مِنْ دَرَاهِمَ عَلَى دَرَاهِمَ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ ، أَوْجُهٍ .
( إمَّا ) أَنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ ( وَإِمَّا ) أَنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى

أَلْفٍ جِيَادٍ ، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ الْجِيَادِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ يَجُوزُ أَيْضًا ، وَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلًا وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَاقِي أَصْلًا وَوَصْفًا ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ .
وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ؛ يُؤَدَّى إلَى الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَأَنَّهُ رِبًا ، فَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ ، وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْبَاقِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ لِيَكُونَ صَرْفًا ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ ، وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ عَنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ ، أَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا ، بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ يَجُوزُ ، وَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ ، وَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ وَالتَّجَوُّزُ بِدُونِ الْحَقِّ أَصْلًا وَوَصْفًا ؛ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَمُؤَجَّلًا .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ ، أَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رِبَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ هُنَا لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى أَلْفٍ جِيَادٍ جَازَ ، وَيُشْتَرَطُ الْحُلُولُ ، أَوْ التَّقَابُضُ حَتَّى لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مُؤَجَّلًا إنْ لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ يَبْطُلْ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ .
( وَأَمَّا ) إذَا صَالَحَ عَلَى

أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَصْفًا ، وَأَقِلَّ مِنْهُ قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : يَجُوزُ ، ثُمَّ رَجَعَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا حَطُّ بَعْضِ حَقِّهِ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ إلَّا أَنَّهُ أَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ ؛ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْأَلْفِ النَّبَهْرَجَةِ عَلَى الْخَمْسمِائَةِ الْجَيِّدَةِ اعْتِيَاضٌ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَيِّدُهَا ، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا لِسُقُوطِ قِيمَتِهَا شَرْعًا ، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا ، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ ؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ الْحَقِّ ، أَوْ يُجْعَلَ مُعَاوَضَةً لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِيءِ لَا فِي الْجَيِّدِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا أَلْفًا نَبَهْرَجَةً بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَيَكُونُ رِبًا ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ ، وَالصُّلْحُ مِنْهَا عَلَى دَنَانِيرَ كَحُكْمِ الدَّرَاهِمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَرَاهِمَ عَلَى دَنَانِيرَ ، أَوْ مِنْ دَنَانِيرَ عَلَى دَرَاهِمَ ؛ جَازَ ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ .
وَلَوْ ادَّعَى أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَمِائَةَ دِينَارٍ ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ ؛ جَازَ ، وَطَرِيقُ جَوَازِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُعَاوَضَةً ؛ لَبَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضُ الْمِائَةِ عِوَضًا عَنْ الدَّنَانِيرِ ، وَالْبَعْضُ عِوَضًا عَنْ

الدَّرَاهِمِ ، فَيَصِيرُ بَائِعًا تِسْعَمِائَةٍ بِخَمْسِينَ ، فَيَكُونُ رِبًا ، وَأُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لِلدَّنَانِيرِ أَصْلًا ، وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ ، وَتَأْجِيلُ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُرٍّ ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةٍ جَازَ ، وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا وَإِسْقَاطًا لِلْكُرِّ لَا مُعَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْمُسْلِمِ فِيهِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالَانِ عَلَيْهِ لِرَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَالْآخَرُ دَنَانِيرُ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ ، وَطَرِيقَةُ جَوَازِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَحَطًّا ، وَإِسْقَاطًا فِي حَقِّ الْآخَرِ ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَسَّمَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ دَيْنِهِمَا مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، فَالْقَدْرُ الَّذِي أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْهَا فَيَكُونُ صَرْفًا ، فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ، فَيَشْتَرِطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ وَالْقَدْرِ الَّذِي أَصَابَ الدَّرَاهِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، فَيُجْعَلُ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصُّلْحَ مَتَى وَقَعَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ يُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي ، وَمَتَى وَقَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْهَا ، أَوْ وَقَعَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الدَّيْنِ ، وَالْعَيْنِ يُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الْحَقِّ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً فَمَا جَازَتْ بِهِ الْمُعَاوَضَاتُ يَجُوزُ هَذَا ، وَمَا فَسَدَتْ بِهِ تِلْكَ ؛ يَفْسُدُ بِهِ هَذَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَسَائِلِ هَذَا الْأَصْلِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ

حَالَّةٍ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ ؛ جَازَ ، وَيُعْتَبَرُ حَطًّا لِلْحُلُولِ ، وَتَأْجِيلًا لِلدَّيْنِ ، وَتَجَوُّزًا بِدُونِ مِنْ حَقِّهِ لَا مُعَاوَضَةَ .
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَيُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي .
وَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( إمَّا ) إنْ وَقَّتَ لِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ وَقْتًا ( وَإِمَّا ) إنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ، وَيَكُونُ حَطًّا لِلْخَمْسِمِائَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَلَزِمَهُ الْإِعْطَاءُ ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَذَلِكَ الْحَطُّ عَلَى هَذَا بِأَنْ قَالَ لِلْغَرِيمِ حَطَطْتُ عَنْكَ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي خَمْسَمِائَةٍ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ وَقَّتَ بِأَنْ قَالَ : صَالَحْتُكَ عَلَى خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِيهَا الْيَوْمَ ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ فَأَمَّا إنْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى شَرْطِ الْعَدَمِ .
وَأَمَّا إنْ نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ : فَإِنْ لَمْ تُعْطِنِي الْيَوْمَ ، أَوْ إنْ لَمْ تُعَجِّلْ الْيَوْمَ ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ ، فَالْأَلْفُ عَلَيْك فَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ ، وَعُجِّلَتْ فِي الْيَوْمِ ، فَالصُّلْحُ مَاضٍ ، وَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ ، فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَلِكَ الْحَطُّ عَلَى هَذَا .
( وَأَمَّا ) إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى شَرَطِ الْعَدَمِ فَإِنْ أَعْطَاهُ فِي الْيَوْمِ بَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ مَاضٍ ، وَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ فَقَطْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ مَا أَفَادَهُ شَيْئًا لَمْ

يَكُنْ مِنْ قَبْلُ ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : فَإِنْ لَمْ نَفْعَلْ فَكَذَا ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ نَفْيٌ لِلْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَ مُفِيدًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ شَرْطُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِدَلَالَةِ حَالِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَقْصِدُ بِتَصَرُّفِهِ الْإِفَادَةَ دُونَ اللَّغْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ .
وَلَوْ حُمِلَ الْمَذْكُورُ عَلَى ظَاهِرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَلَغَا ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ فَيُجْعَلُ ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ ظَاهِرًا شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْجِيلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَقَالَ ، فَإِنْ لَمْ تُعَجِّلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَنَا .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَنْقُدْهُ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِدُخُولِ الشَّرْطِ عَلَى الْفَسْخِ لَا عَلَى الْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَشَرَطَ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ خَمْسَمِائَةٍ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ كُلُّ الْمَالِ ، وَهُوَ الْأَلْفُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ إيفَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلْكَفَالَةِ بِأَلْفٍ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْمَشْرُوطُ .
وَلَوْ ضَمِنَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ ، ثُمَّ قَالَ : حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي رَأْسَ الشَّهْرِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ فَهَذَا أَوْثَقُ مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُنَا عَلَّقَ

الْحَطَّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ، وَهُوَ إيفَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ رَأْسَ الشَّهْرِ ، وَجَعَلَ عَدَمَ هَذَا الشَّرْطِ شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْحَطِّ ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَعَلَ عَدَمَ التَّعْجِيلِ شَرْطًا لِلْعَقْدِ ، وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَلْفِ ، وَالْفَسْخُ لِلشَّرْطِ أَقْبَلُ مِنْ الْعَقْدِ لِذَلِكَ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ الْمَالَ نُجُومًا بِكَفِيلٍ ، أَوْ بِغَيْرِ كَفِيلٍ ، وَشَرَطَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ كُلَّ نَجْمٍ عِنْدَ مَحَلِّهِ ، فَالْمَالُ حَالٌّ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِخْلَالَ بِنَجْمٍ شَرْطًا لِحُلُولِ كُلِّ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ فَقَالَ : أَدِّ إلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا يَبْرَأُ مِنْ الْبَاقِي إجْمَاعًا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ، فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي ، أَوْ قَالَ : مَتَى أَدَّيْتَ فَأَدِّ إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ حَتَّى يُبْرِئَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِمُكَاتَبِهِ ذَلِكَ فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْبَاقِي حَتَّى يُبْرِئَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ أَوْ الْحَطِّ أَوْ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ قَالَ لِمُكَاتَبِهِ إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ ، فَصَالَحَ مِنْهَا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إمَّا أَنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ ، أَوْ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ ، وَكُلُّ

ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا أَوْ قَدْرًا وَوَصْفًا ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ التَّعْجِيلَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ جَازَ ، وَيَكُونُ حَطًّا ، وَتَجَوُّزًا بِدُونِ حَقِّهِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبْضَ وَالرُّجُوعُ بِرَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُعَاوَضَةَ الْأَجَلِ ، وَهُوَ التَّعْجِيلُ بِالْحَطِّ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ ؛ جَازَ ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَإِنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ عَلَى أَلْفٍ مُعَجَّلَةٍ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ عَلَى هَذَا .
وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْلَكُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيمَةِ ، فَصَالَحَ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً جَازَ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ قَبْلَ الْمُتْلَفِ صُورَةً وَمَعْنًى كَذَا الِاسْتِهْلَاكُ تَحْقِيقًا لِلْمَاثِلَةِ الْمُعَلَّقَةِ ، ثُمَّ يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَإِذَا صَالَحَ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ عَلَى عَيْنِ حَقِّهِ فَيَجُوزُ عَلَى أَيْ وَصْفٍ كَانَ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إنْ كَانَ عَيْنًا ؛ جَازَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا مَوْصُوفًا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ .
وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الَّذِي لَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَحُكْمُ الصُّلْحِ فِيهِ كَحُكْمِ الصُّلْحِ فِي كُرِّ الْحِنْطَةِ فَنَقُولُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

إذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا بِأَنْ كَانَ كُرَّ حِنْطَةٍ مِثْلًا ، فَصَالَحَ مِنْهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( أَمَّا ) إنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ ، أَوْ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
( أَمَّا ) إنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ .
( وَأَمَّا ) عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ ( وَأَمَّا ) إنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ ، وَيَكُونُ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي الدَّرَاهِمِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَيَكُونُ مُؤَجَّلًا ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ ، وَصْفًا لَا قَدْرًا ؛ جَازَ أَيْضًا ، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا ، وَإِبْرَاءً لَهُ عَنْ الصِّفَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضِ ، وَيَجُوزُ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالتَّأْجِيلِ أَوْ تَرْكِهِ ، وَيُعْتَبَرُ رِضًا بِدُونِ حَقِّهِ .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ، أَوْ قَدْرًا لَا وَصْفًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ كُرٍّ رَدِيءٍ عَلَى كُرٍّ جَيِّدٍ جَازَ وَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى كُرٍّ مُؤَجَّلٍ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ حَقَّهُ فِي الْحُلُولِ ، وَرَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ هَذَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ الدَّيْنِ حَالًّا ، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ ، أَوْ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ هَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ الْكُرِّ عَلَى جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ الْكُرُّ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَمًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَكُونُ

مُعَاوَضَةً ، وَفِيهِ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ إقَالَةً لِلْمُسْلِمِ ، وَفَسْخًا لَهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا فَصَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ جَازَ ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَإِنْ كَانَ مُعِينًا مُشَارًا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ تَرْكُ قَبْضِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَهُوَ عَيْنٌ جَازَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَيْضًا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبِيعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُوبِلَ بِالْأَثْمَانِ ، وَالْمَبِيعُ مَا يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ ، وَهَذَا لَا يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ مَبِيعًا إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا مِنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَ عَيْنًا ؛ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا يَجُوزُ فِي الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ إذَا أَتَى بِشَرَائِطِ السَّلَمِ لَكِنْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ احْتِرَازٍ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَصَالَحَ مِنْهُ عَلَى جِنْسِهِ أَوْ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ .

فَإِنْ كَانَ ثَوْبَ السَّلَمِ فَصَالَحَ مِنْهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( إمَّا ) إنْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى جِنْسِهِ ، وَإِمَّا إنْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ ؛ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
( إمَّا ) إنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ ؛ جَازَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ، أَوْ وَصْفًا لَا قَدْرًا يَجُوزُ ، وَيَكُونُ هَذَا اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ حَقِّهِ ، وَحَطًّا لِلْبَاقِي ، وَإِبْرَاءً عَنْهُ أَصْلًا وَوَصْفًا ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ ؛ جَازَ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ ، أَوْ صَالَحَ مِنْ كُرٍّ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفِ كُرٍّ جَيِّدٍ ، أَوْ صَالَحَ مِنْ حَدِيدٍ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفٍ مِنْ جَيِّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ هُنَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا لَهَا قِيمَةٌ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْجَوْدَةُ مُتَقَوِّمَةً فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ يُبْذَلُ الْعِوَضُ فِي مُقَابِلَتِهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ تَعَبُّدًا بِقَوْلِهِ جَيِّدُهَا ، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ ، فَبَقِيَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي غَيْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ

هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ جَيِّدَيْنِ يَجُوزُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْض لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ عَنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ رَدِيئَيْنِ جَازَ ، وَالْقَبْضُ شَرْطٌ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ رَدِيءٍ عَلَى ثَوْبٍ جَيِّدٍ ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ عَيْن الْحَقّ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَجُوزُ دَيْنًا كَانَ ، أَوْ عَيْنًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْدَالَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ يَكُونُ إقَالَةً ، وَفَسْخًا لَا اسْتِبْدَالًا .

وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى حَيَوَانًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ فَصَالَحَ ، فَنَقُولُ الْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ .
( إمَّا ) أَنْ صَالَحَ عَلَى مَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي بَابِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ صَالَحَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ فِي الْبَابِ أَصْلًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَالَحَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي نَوْعًا مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ ، أَوْ بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَوْعًا مِنْهَا ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي بِأَنْ صَالَحَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، أَوْ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ ، أَوْ عَلَى مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ ، أَوْ عَلَى مِائَةِ بَقَرَةٍ ، أَوْ عَلَى أَلْفَيْ شَاةٍ ، أَوْ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ ؛ جَازَ الصُّلْحُ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْيِينٌ مِنْهَا لِلْوَاجِبِ مِنْ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَيَجُوزُ ، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ فِعْلًا بِرِضَا الْقَاتِلِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الْمَفْرُوضِ يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ ، وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا .
وَلَوْ صَالَحَ بَعْدَ مَا عَيَّنَ الْقَاضِي نَوْعًا مِنْهَا فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ الْمُعَيَّنِ جَازَ إذَا كَانَ مِثْلُهُ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَفْرُوضِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ عَيَّنَ الْقَاضِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَصَالَحَ عَلَى مِائَةٍ مِنْ الْبَقَرِ ، أَوْ أَكْثَرَ جَازَ ، وَتَكُونُ مُعَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ وَاجِبَةً بِتَعْيِينِ الْقَاضِي ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ وَاجِبًا فَكَانَتْ الْبَقَرُ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَتْ مُعَاوَضَةً ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ

مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَفْرُوضِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ جَازَ ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً ، وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى قِيمَةِ الْإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْإِبِلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا مُعَاوَضَةً فَيَجُوزُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ ، وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ ، وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ؛ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ ، بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ دِينًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ إذَا جَاءَ بِقِيمَتِهِ يُجْبَرُ مَنْ لَهُ عَلَى الْقَبُولِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً هَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْإِبِلِ فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ فَصَالَحَ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ، أَوْ بَقَرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَأَنَّهَا أَثْمَانٌ فَتَتَعَيَّنُ هَذِهِ مَبِيعَةً وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ أَصْلًا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ لَهُ فِي الْفَرْضِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي ؛ جَازَ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَكِنْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَيَجُوزُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ .
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَنْ

إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسُكُوتِهِ بِحُكْمِ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ مَالًا عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْفَعَةً بِأَنْ صَالَحَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا ، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضٍ ، أَوْ سُكْنَى دَارٍ ، وَقْتًا مَعْلُومًا جَازَ الصُّلْحُ ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ سَوَاءً كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَوْ عَنْ إنْكَارِهِ ، أَوْ عَنْ سُكُوتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ ، وَقَدْ وُجِدَ أَمَّا فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عِوَضٌ عَنْ الْمُدَّعَى ، وَكَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ ، وَكَذَا فِي السُّكُوتِ ؛ لِأَنَّ السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا ، أَوْ دَيْنًا لَكِنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْعَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّيْنِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، كَمَا إذَا صَالَحَ مِنْ سُكْنَى دَارٍ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ إجَارَةً يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْإِجَارَاتُ ، وَيَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَنْ يُعْتِقَهُ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَإِنَّهُ قَائِمٌ فَأَشْبَهَ إعْتَاقَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْمَرْهُونِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ بَعْدَ مِلْكِ الْيَدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَرْهُونِ .
وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالصُّلْحِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ

مَلَكَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ ، كَمَا لَوْ آجَرَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ، وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ كَمَا لَوْ آجَرَهُ مِنْ الْمُؤَاجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ كَذَا هَذَا ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ خِدْمَتِي السَّفَرِ ، وَالْحَضَرِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْآجِرِ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا يُلْزِمُهُ بِرَدِّهِ مُؤْنَةً تَزِيدُ عَلَى الْأُجْرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُسَافِرَةَ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى هَهُنَا مُنْعَدِمٌ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَالْعَبْدَ الْمَرْهُونَ ، وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمُسَافَرَةَ بِهِ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَارًا فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَى الْمُدَّعِي ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِ سَنَةً ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فِي زَعْمِهِ فَيَجُوزُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا ، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَلٍّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ لَمْ يَصِحَّ ؛

لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ حَتَّى إنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمُدَّعِي لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَصِحَّ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ ، فَسَادَ الْعَقْدِ إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا لَا يُفْتَقَرُ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ ، كَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا ، ثُمَّ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ادَّعَاهُ عَلَى صَاحِبِهِ صُلْحًا مِمَّا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لَعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَإِذَا كَانَ مَالًا يُسْتَغْنَى عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَهُ تُتَحَمَّلُ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ فِي الْبَدَلِ ، كَمَا تُتَحَمَّل فِي الْمَهْرِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ، وَالْخُلْعِ ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ لِمَا عُلِّمَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى مُسَيِّلٍ ، أَوْ شِرْبٍ مِنْ نَهْرٍ لَا حَقَّ لَهُ فِي رَقَبَتِهِ ، أَوْ عَلَى أَنْ يُحَمِّلَ كَذَا ، وَكَذَا جِذْعًا عَلَى هَذَا الْحَائِطِ ، وَعَلَى أَنْ يُسَيِّلَ مِيزَابَهُ فِي دَارِهِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ فَلَمْ تَكُنْ جَهَالَتُهُ مُحْتَمَلَةً لِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَمَا لَا ، فَلَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ .
فَأَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لَا حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءً كَانَ مَالًا عَيْنًا ، أَوْ دَيْنًا ، أَوْ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ عَيْنٍ ، وَلَا دَيْنٍ حَتَّى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنْ أَخَذَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى وَلِي الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُلِّ حَقِّهِ ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ ، وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي ، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَكَانَ فِي حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الصُّلْحَ كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } ، وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ إلَّا أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً فَتُقْبَلُ ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ التَّعْزِيرِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَكَذَا يَصِحُّ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا ، أَوْ دَيْنًا إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا

يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا ، أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً غَيْرَ مُتَفَاحِشَةٍ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَبْدٍ ، أَوْ ثَوْبٍ هَرَوِيٌّ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ قَلَّتْ بِبَيَانِ النَّوْعِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَبْدِ يَقَعُ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ ، وَمُطْلَقُ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْهُ ، فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى قِيمَتَهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ دَارٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ مُتَفَاحِشَةٌ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ ، وَكَذَا جَهَالَةُ الدُّورِ لِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مُلْحَقَةٌ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ ، وَالدَّابَّةِ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ ، وَمَا لَا فَلَا ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ ، وَالْمَهْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ الصِّحَّةِ لَعَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعِ وَرَدَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَمَبْنَى النِّكَاحِ وَالصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْإِنْسَانِ يُسَامِحُ بِنَفْسِهِ مَا لَا يُسَامِحُ بِمَالِهِ عَادَةً فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ الْجَهَالَةِ مُفْضِيًا إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُعَاكَسَةِ ، وَالْمُضَايَقَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ ، وَالْإِنْسَانُ يُضَايِقُ بِمَالِهِ مَا لَا يُضَايِقُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِتَفَاحُشِ جَهَالَةِ الْبَدَلِ

يَسْقُطُ الْقِصَاصُ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ ، وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ؛ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ .
( وَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ بَدَلَ الصُّلْحِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ ، وَجُعِلَ لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ الْفَضْلُ ، وَفِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْفَضْلِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ ، وَبَعْدَ الْعَفْوِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ ، فَأَمَّا لَفْظُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ ، وَلَوْ احْتَمَلَهُ فَالْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، كَمَا إذَا سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَدْرَ الدِّيَةِ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أَيْ أُعْطِي لَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ فَلْيَتَّبِعْ : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ ، إذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي بَابِ الْخَطَإِ ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ عِوَضٌ عَنْ الدِّيَةِ ، وَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ تَكُونُ رِبًا فَأَمَّا بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ

الْقِصَاصِ ، فَعِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْبَدَلُ عَنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْمَالِ الْمُقَدَّرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا فِي عَيْنٍ ، فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ أَوْ أَنْكَرَ فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ كَمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ ، وَالْقَبْضَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ .

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُصَالِحِ ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَمَا لَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ ، أَوْ لَا يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا ، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنْ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا فَلَا تَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا ؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ إمَّا إسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ ، وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا .
وَلَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوِلَايَةِ ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي ، فَلَا يُحْتَمَلُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ فَمَلَكَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِالصُّلْحِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا فَأَشْبَهَ الشُّفْعَةَ ، وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَصِحُّ ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَضَ فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ فَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ

ظُلَّةً عَلَى طَرِيقٍ ، أَوْ كَنِيفِ شَارِعِهِ ، أَوْ مِيزَابِهِ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْرَحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذًا ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا فَإِذَا كَانَ نَافِذًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُرُورِ ، وَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَارِّ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَقَطَ حَقُّ هَذَا الْوَاحِدِ بِالصُّلْحِ ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّ الْقَلْعِ .
وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِيَ مَعَ هَذَا الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ الطَّرْحُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَأَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ رِشْوَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ هُنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِ السِّكَّةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا مِلْكًا فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ ، وَكَذَا إسْقَاطُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِي مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ ؛ جَازَ ، وَيَطِيبُ لَهُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَكَانَ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكِهِ فَصَحَّ ، فَأَمَّا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكٍ ، وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ

فَبَطَلَ ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الطَّرِيقِ ، فَأَمَّا إذَا شَرَعَ إلَى الْهَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْهَوَاءِ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ فَصَالَحَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحْلِفُهُ ؛ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنْ الْيَمِينِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : صَالَحْتُكَ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ ، أَوْ قَالَ افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا ، وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ : { أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : إذًا لَكَ يَمِينُهُ } جَعَلَ الْيَمِينَ حَقَّ الْمُدَّعِي فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ شَرْعًا لِلْمُدَّعِي ، وَكَذَا الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى ثَابِتٌ فِي زَعْمِهِ ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ بَدَلُ الْمَالِ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ ، وَالِافْتِدَاءِ عَنْ الْيَمِينِ .
وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا ، وَقَالَ الْمُدَّعِي بِعْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ خَالَفَ الصُّلْحُ الْبَيْعَ ، حَيْثُ جَازَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالِافْتِدَاءِ ، وَلَمْ يَجُزْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ فَيَصِحُّ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ لَهُ لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الرِّقَّ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى حَيَوَانٍ

فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَجُوزُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْهُ ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ إذْ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِالْبُضْعِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ جَائِزًا ، وَفِي حَقِّهَا بَدَلُ مَالٍ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلنَّصِّ .
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ ثَابِتًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا كَانَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهَا مِنْ الرَّجُلِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِهَذَا الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ لَا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ ، فَلَا يَجُوزُ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصَالَحَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَهُوَ بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَالْأَصْلُ فِي التَّمْلِيكِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ ؛ فَهُوَ عَلَى ، وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَلِفُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَلَا

تَنْقَطِعُ بِهَا خُصُومَةٌ ، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عِنْدَ الْقَاضِي مُعْتَدٌّ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ ثَانِيًا .
وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا حَلَفَ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ وُجُوبِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِكَوْنِهِ قِمَارًا .
وَلَوْ أُودَعَ إنْسَانًا وَدِيعَةً ، ثُمَّ طَلَبَهَا مِنْهُ ، فَقَالَ الْمُودَعُ : هَلَكَتْ ، أَوْ قَالَ : رَدَدْتُهَا ، وَكَذَّبَهُ الْمُودِعُ ، وَقَالَ : اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا صُلْحٌ وَقَعَ عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَيَمِينٍ مُتَوَجِّهَةٍ ، فَيَصِحُّ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُدَّعِي مُنَاقَضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينُ الْمَالِكِ ، وَقَوْلُ الْأَمِينِ قَوْلُ الْمُؤْتَمَنِ ، فَكَانَ إخْبَارُهُ بِالرَّدِّ ، وَالْهَلَاكِ إقْرَارًا مِنْ الْمُودِعِ ، فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ ، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ لَا لِدَفْعِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهَا مُنْدَفِعَةٌ لِبُطْلَانِهَا بَلْ لِلتُّهْمَةِ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ .
وَلَوْ ادَّعَى الْمُودِعُ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَمْ يَقُلْ الْمُودَعُ إنَّهَا هَلَكَتْ ، أَوْ رَدَدْتُهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحَةٌ ، وَالْيَمِينُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ فَصَحَّ الصُّلْحُ .
وَلَوْ طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَجَحَدَهَا الْمُودَعُ ، وَقَالَ : لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : هَلَكَتْ ، أَوْ رَدَدْتُهَا ، وَقَالَ الْمُودِعُ : بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِالْجُحُودِ إذْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي

الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَطَعَنَ فِيهِ بِعَيْبٍ ، وَخَاصَمَهُ فِيهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ ، أَوْ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّا يَجُوزُ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ دُونَ الرَّدِّ ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ ، وَهُوَ صِفَةُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنْ عَيْبٍ ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ ، فَكَانَ عَنْ الْعَيْبِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، فَصَحَّ ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَنْ الْأَرْشِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِذَا صَارَ الْمَبِيعُ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى ، وَالْخُصُومَةِ فِيهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ .
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ الْعَيْبِ ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ بِأَنْ كَانَ بَيَاضًا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ ، فَانْجَلَى بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ ، وَهِيَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قَدْ عَادَتْ فَيَعُودُ الْعِوَضُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ .
وَلَوْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ ، وَمِنْ كُلِّ عَيْبٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْبِ إبْرَاءٌ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ ، وَإِسْقَاطٍ لَهَا ، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهَا ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ ، وَإِنْ كَانَ إبْرَاءً عَنْ الْمَجْهُولِ لَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لِلْفِقْهِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْجَهَالَةَ لَعَيْنِهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَاَلَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ ، فَلَا تَضُرُّهُ

الْجَهَالَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطْعَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ بِعَيْبٍ ، فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَيُصَالِحُهُ لِإِبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ .
وَلَوْ خَاصَمَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْعُيُوبِ نَحْوَ الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ ، فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي غَيْرِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ امْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالْعَيْبِ ، فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَرْشُ الْعَيْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَهْرُهَا ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يُكَمَّلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ لَمَّا صَارَ مَهْرُهَا ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَإِذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا ، فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْعَيْبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَرْشِ عَيْبٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُعَاوَضَةٌ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَرَّةً يَصِحُّ مُعَاوَضَةً ، وَمَرَّةً يَصِحُّ إسْقَاطًا ، فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ .
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ ، فَقَبَضَهُمَا ، ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا ، فَصَالَحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي ثَمَنِ الْآخَرِ دِرْهَمًا ، فَالرَّدُّ جَائِزٌ ، وَزِيَادَةُ الدِّرْهَمِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ ، وَالْفَسْخَ بَيْعٌ جَدِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ ، وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بِالشَّرْطِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ

تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَأَمَّا الرَّدُّ فَفَسْخُ الْعَقْدِ ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَجَائِزٌ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا ، فَجَحَدَتْ فَصَالَحَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ ، فَأَقَرَّتْ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَتُجْعَلُ الْمِائَةُ مِنْ الزَّوْجِ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَلْفًا ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ ، فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ الْأَلْفَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهَا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَالْأَلْفُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ أَخْذُ الْعِوَضُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ : أَعْطَيْتُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَفَعَلَتْ ذَلِكَ ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ وَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَجَحَدَتْ ، فَقَالَ : أَزِيدُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقْرِي لِي بِالنِّكَاحِ ، فَأَقَرَّتْ ؛ جَازَ ، وَلَهَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ ، وَيُحْمَلُ إقْرَارُهَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ .

( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ ، أَوْ الْمُتَبَرِّعِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ ، وَالصُّلْحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَهُوَ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ ، وَإِنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ إلَى نَفْسِهِ : بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي : صَالَحْتُكَ ، أَوْ أُصَالِحُكَ مِنْ دَعْوَاكِ هَذِهِ عَلَى فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكِ الْأَلْفَ ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ الْأَلْفَ ، وَالثَّانِي : أَنْ يُضِيفَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ ، أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا ، وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَدَلَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسُبُهُ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ ، وَالرَّابِعُ : أَنْ يُسَلِّمَ الْبَدَلَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ، وَلَمْ يُنْسِبْ بِأَنْ قَالَ : صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفٍ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَالْخَامِسُ : أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ صَالَحْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ ، وَسَطٌ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ : يَصِحُّ الصُّلْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ، وَهَذَا خَاصٌّ فِي صُلْحِ الْمُتَوَسِّطِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى الصُّلْحِ ، وَأَنَّهُمَا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ؛ وَلِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَصَرِّفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّبَرُّعِ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ بِالْقَضَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ فَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ كَمَا إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً ، وَمَتَى صَحَّ صُلْحُهُ يُجِبْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ فِي

الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُطْلِقُ الرُّجُوعَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الضَّمَانِ وَالنِّسْبَةِ ، وَتَعْيِينِ الْبَدَلِ ، وَالتَّمْكِينِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُنْ مُتَصَرِّفًا عَلَى نَفْسِهِ ، بَلْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ ، وَيَجِبُ الْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ .
وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَحَقَ التَّوْكِيلُ بِالْإِجَازَةِ ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَصِحُّ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ إذَا كَانَ حُرًّا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَالصَّبِيّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، وَكَذَا الْخُلْعُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِأَنْ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ وَكِيلًا ، وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ؛ فَهُوَ عَلَى الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْحِ ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَكِيلًا ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفُصُولِ ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ بِمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ،

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَا يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْقَاتِلِ وَمَا لَا فَلَا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ الْفُضُولِيَّ عَلَى خَمْسَةِ عَشَرَ أَلْفًا ، أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ ، وَضَمِنَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَلْفِ دِينَارٍ ، وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِالصُّلْحِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ ، فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَضَى عَنْهُ أَلْفَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الرِّبَا ، وَلَا يَجْرِي فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ بِعَيْنِهَا ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ؛ جَازَ صُلْحُهُ عَلَى الْمِائَةِ لِمَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمَا جَازَ إلَّا عَلَى الْمِائَةِ فَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْأَسْنَانِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِبِلِ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا ، فَالْوَاجِبُ مِائَةٌ مِنْهَا ، وَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُلِّ يَكُونُ رِضًا بِالْبَعْضِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ نُقْصَانٌ عَنْ أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرُدَّ الصُّلْحَ ؛ لِأَنَّ صُلْحَ الطَّالِبِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ نُقْصَانٌ فِي السِّنِّ لَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الزِّيَادَةُ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ فَاخْتَلَّ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ فَأَوْجَبَ حَقَّ النَّقْصِ .
وَلَوْ

صَالَحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَسْنَانِ الدِّيَةِ ، وَضَمِنَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا خِيَارَ لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَسْنَانِ الدِّيَةِ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ الْحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَيَّنَ الْوَاجِبَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمَ ، فَصَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ ؛ جَازَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْقَاتِلُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ ، فَيُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ .
فَنَقُولُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ لِلصُّلْحِ أَحْكَامًا بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ جِنْسُ الصُّلْحِ الْمَشْرُوعِ ، وَبَعْضُهَا دَخِيلٌ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الْأَصْلُ ، فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ شَرْعًا حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهَذَا حُكْمٌ لَازَمَ جِنْسَ الصُّلْحِ .

فَأَمَّا .
الدَّخِيلُ .
فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى لَوْ كَانَ دَارًا ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ سِوَى الدَّارِ مِنْ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ ، وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَجِبُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، بَلْ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ ، وَالْيَمِينِ لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمُدَّعِي فَيُدْلِيَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا الشَّفِيعُ عَلَيْهِ ، وَأَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَنَكَلَ ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ دَارًا ، وَالصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الصُّلْحَ هُنَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ ، فَيَأْخُذُ شَفِيعُ كُلِّ دَارٍ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى ، وَإِنْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ ، وَيُعْطِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَارًا أُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ فِيهِمَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا مِلْكُ الْمُدَّعِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ .
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الدَّارِ عَلَى مَنَافِعَ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ

بِعَيْنِ مَالٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَبِيعًا فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ إنْكَارٍ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ ، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ ، بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْخُصُومَةِ ، وَدَفْعُ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ الْمُدَّعَاةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةِ الْمُدَّعِي فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، أَوْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَنْكُلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

وَمِنْهَا حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَلَا يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْعَيْبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الدَّارَ ، وَقَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَنُقِضَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى جَارِيَةً ، فَاسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي لَيْسَ بَدَلَ الْمُدَّعَى فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى بَدَلُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّهِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْمُؤَدَّى .
وَلَوْ وُجِدَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِلْهَلَاكِ أَوْ لِلزِّيَادَةِ أَوْ لِلنُّقْصَانِ فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الْمُدَّعَى ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ ، وَكَذَا إذَا حَلَّفَهُ فَنَكَلَ ، وَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .

وَمِنْهَا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ ، وَفَرَّقَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الرَّدَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارٍ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَبِالْمَهْرِ ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ ، وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ ، فَكَذَا هَهُنَا ، وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَثْبَتَ حَقَّ الرَّدِّ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِي فَيَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً عَنْ حَقِّهِ ، وَقَدْ وُجِدَ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا عَلَى مَا نَذْكُرُ .

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَيَبْرَأَ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ التَّحَرُّزُ عَنْ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْمَنْعِ كَالْمَوْرُوثِ ، وَبِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إلْحَاقَ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ .
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَيْنٍ ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؛ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَنْفَسِخْ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُصْلِحِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ .

( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ إذَا صَالَحَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ يَلْزَمُهُ ، أَوْ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَلْزَمُهُ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْبَيْعِ ، وَحُقُوقُ الْبَيْعِ رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إنْ ضَمِنَ بَدَلَ الصُّلْحِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَضْمَنْ ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَفِيرًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ ، فَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقُ ، وَإِنْ ضَمِنَ لَزِمَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ .
( وَأَمَّا ) الْفُضُولِيُّ فَإِنْ نَفَذَ صُلْحُهُ فَالْبَدَلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ ، وَإِنْ وَقْفَ صُلْحُهُ فَإِنْ رَدَّهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَطَلَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ ، وَالْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْفُضُولِيِّ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ أَشْيَاءُ ( مِنْهَا ) الْإِقَالَةُ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْقِصَاصِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ( فَأَمَّا ) فِي الْقِصَاصِ فَالصُّلْحُ فِيهِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ ، وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ ( وَمِنْهَا ) لِحَاقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ مَوْتُهُ عَلَى الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْمَوْتِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ، أَوْ قُتِلَ ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ تَبْطُلُ ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَمِنْهَا ) الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ لِمَا عُلِمَ ( وَمِنْهَا ) الِاسْتِحْقَاقُ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إبْطَالًا حَقِيقَةً ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا لَا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ الصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ إبْطَالٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِنَفَاذِ الصُّلْحِ ظَاهِرًا ، فَيَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ حَقِيقَةً ، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِأَقْسَامِ الشَّرَائِطِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ وَالْفِقْهِ ، فَكَانَ أَوْلَى ( وَمِنْهَا ) هَلَاكُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَأَمَّا هَلَاكُ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ هَلْ يُوجِبُ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فَلَا يَخْلُو إمَّا

أَنْ كَانَ حَيَوَانًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا ؛ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ ، فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ إجْمَاعًا ، وَإِنْ هَلَكَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَبْطُلُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ نَقْضَ الصُّلْحَ ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى لَهُ بِقِيمَتِهِ عَبْدًا يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ ، وَقَدْ وُجِدَ ؛ وَلِهَذَا مِلْكُ إجَارَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ، وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا صُلْحٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمٌ فِي الْإِجَارَةِ فَمَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلٌ فِي الصُّلْحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُدَّعَى فَيَجِبُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا مِلْكُهُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا وَبَعْدَ الْقَتْلِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا يُمْكِنُ مِنْ بَدَلِهَا ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْبَدَلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا فَيَخْدُمَهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَلَهُ حَقُّ النَّقْضِ أَيْضًا لِتَعَذُّرِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

بِأَنْ قَتَلَهُ ، أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا ، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَبْطُلُ ، وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ ، كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَكَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ ، أَوْ أَعْتَقَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَكِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَهُوَ الْمُدَّعِي لَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا ، فَتَجِبُ رِعَايَتُهُمَا جَمِيعًا بِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ ، وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ ، كَمَا فِي الرَّهْنِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَبْطُلُ ، وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمُدَّعِي قِيمَةُ الْعَبْدِ ، وَيُشْتَرَى عَبْدٌ آخَرُ يَخْدُمُهُ ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي فِي نَقْضِ الصُّلْحِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِيهِ نَظَرٌ هَذَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَهَلَكَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ انْهَدَمَ ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ بِأَنْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ السُّكْنَى ، وَهُوَ الْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ بَنَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بَيْتًا آخَرَ يَسْكُنُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ ، وَلَا يَتَعَذَّرُ هُنَا خِلَافُ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَبْدِ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِجَارَةَ الدَّارِ لَا تَبْطُلُ بِانْهِدَامِهَا ، وَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي بَعْضِ إشَارَاتِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ .
وَلَوْ تَصَالَحَا عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مُقِرًّا لِلصُّلْحِ لَا مُبْطِلًا لَهُ .
وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا تُسْمَعُ

بَيِّنَتُهُ إلَّا إذَا ظَهَرَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبٌ ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ ، فَتُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلصُّلْحِ الْمَاضِي حُكْمَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ فِي هَذَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا .
فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُدَّعِي إلَى أَصْلِ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ قِصَاصٍ إذَا لَمْ يَصِحَّ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمَا إذَا تَقَايَلَا الصُّلْحَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ ، أَوْ رَدَّ الْبَدَلَ بِالْعَيْبِ ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ ، وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَإِذَا فُسِخَ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَعَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ ، وَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا ، فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى ، وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَصَّاصِ وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَسَقَطَ لَكِنْ إلَى بَدَلٍ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، فَأَمَّا الْمَالُ ، وَمَا سِوَى الْقِصَاصِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَأَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِالْمُدَّعَى ، وَلَا يُرْجَعُ بِشَيْءٍ آخَرَ إلَّا إذَا صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ جَارِيَةً ، فَقَبَضَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَأَخَذَ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَقْتَ الْخُصُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى ، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ

الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِمَا ادَّعَى ، وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الْعُقْرَ بَدَلٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَى ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، أَوْ مَا دُونَهَا فَصَالَحَ عَلَى جَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَة ، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ ؛ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَنَكَلَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ ، أَوْ صَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ ، أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ حَتَّى بَطَلَ الصُّلْحُ لَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُتَوَسِّطِ ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ بِهَذَا الصُّلْحِ لَا يَضْمَنُ سِوَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ .
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ ، وَضَمِنَهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ، أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُصَالِحِ الْمُتَوَسِّطِ ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ ، وَسَلَامَةَ الْمَضْمُونِ .
وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ بَعْدَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ ، أَوْ عَنْ إنْكَارٍ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا دَفَعَ .
( أَمَّا ) فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ ، فَلَا شَكَّ

فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا .
( وَأَمَّا ) فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَاتَ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ عِوَضِهِ هَذَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا ، فَإِنْ كَانَ ادَّعَى جَمِيعَ الدَّارِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا اُسْتُحِقَّ لِفَوَاتِ بَعْضِ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ ، وَإِنْ كَانَ ادَّعَى فِيهَا حَقًّا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ ، وَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بِالْمُدَّعَى بِقَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى فِي قَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ .
وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَمْرٍ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ ؛ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَابِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا ، وَفِيمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ لِرَجُلٍ مِثْلِهِ هُنَاكَ يَجِبُ ذَاكَ هُنَا ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَهَهُنَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ وَالْخَلِّ ، وَكُلُّ مَنْ غَرَّ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ ، يَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ ، وَمَعْنَى الْغُرُورِ ، لَا يَتَقَدَّرُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُسَمَّى فَتَبْقَى لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ ، وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْحَقِّ أَصْلًا ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الشَّرِكَة ) الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ ، وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ وَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَثْبُتُ بِفِعْلِ الشَّرِيكَيْنِ ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا .
( أَمَّا ) الَّذِي يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا ، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا ، أَوْ يُوصَى لَهُمَا ، أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا ، فَيَقْبَلَا فَيَصِيرَ الْمُشْتَرَى وَالْمَوْهُوبُ وَالْمُوصَى بِهِ وَالْمُتَصَدَّقَ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا فَالْمِيرَاثُ بِأَنْ وَرِثَا شَيْئًا فَيَكُونَ الْمَوْرُوثُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ .
( وَأَمَّا ) .
شَرِكَةُ الْعُقُودِ .
فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وَكَيْفِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ، وَرُكْنِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّرِكَةِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَشَرِكَةُ الْعُقُودِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : شَرِكَةٌ بِالْأَمْوَالِ ، وَشَرِكَةٌ بِالْأَعْمَالِ ، وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الصَّانِعِ ، وَشَرِكَةٌ بِالتَّقَبُّلِ ، وَشَرِكَةٌ بِالْوُجُوهِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : وَهُوَ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ : فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي رَأْسِ مَالٍ ، فَيَقُولَانِ اشْتَرَكْنَا فِيهِ ، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ مَعًا ، أَوْ شَتَّى ، أَوْ أَطْلَقَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رِبْحٍ ، فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا ، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا : ذَلِكَ ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : نَعَمْ .
وَلَوْ ذَكَرَا الشِّرَاءَ دُونَ الْبَيْعِ ، فَإِنْ ذَكَرَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ ، بِأَنْ قَالَا : مَا اشْتَرَيْنَا فَهُوَ بَيْنَنَا ، أَوْ مَا اشْتَرَى أَحَدُنَا مِنْ تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا ، يَكُونُ شَرِكَةً ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ الشَّرِكَةَ ، لَا الْوَكَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُوَكِّلُ مُوَكَّلَهُ عَادَةً ،

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَكَالَةً لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ التَّخْصِيصُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوْ النَّوْعِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ بَلْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَذْكُرَا الشِّرَاءَ ، وَلَا الْبَيْعَ .
وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ ، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ : مَا اشْتَرَيْتُ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ ، أَوْ قَالَ : فَبَيْنَنَا ، وَقَالَ الْآخَرُ : نَعَمْ فَإِنْ أَرَادَا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى شَرِيكَيْ التِّجَارَةِ ، كَانَ شَرِكَةً حَتَّى تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى ، وَنَوْعِهِ وَقَدْرِ الثَّمَنِ ، كَمَا إذَا نَصَّا عَلَى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ .
وَإِنْ أَرَادَا بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا خَاصَّةً بِعَيْنِهِ ، وَلَا يَكُونَا فِيهِ كَشَرِيكَيْ التِّجَارَةِ بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا بِعَيْنِهِ كَمَا إذَا أُورِثَا أَوْ وُهِبَ لَهُمَا ، كَانَ وَكَالَةً لَا شَرِكَةً فَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَهُوَ بَيَانُ جِنْسِ الْمُشْتَرَى ، وَبَيَانُ نَوْعِهِ ، أَوْ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُفَوِّضَ الْمُوَكِّلُ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلِ ، بِأَنْ يَقُولَ : مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ تُرْكِيٍّ ، أَوْ جَارِيَةٍ رُومِيَّةٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، أَوْ بَيَانُ الْوَقْتِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسِ الْمُشْتَرَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَقُولَ : مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ الْيَوْمَ أَوْ شَهْرَ كَذَا أَوْ سَنَةَ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ ، أَوْ قَالَ : مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ الْبَزِّ وَالْخَزِّ ، فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَيَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فَإِنْ نَوَيَا بِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ شَرِكَةً فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ

الْعُمُومُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ وَإِنْ نَوَيَا بِهِ الْوَكَالَةِ كَانَ وَكَالَةً وَيَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى شَرَائِطِهَا مِنْ الْخَاصَّةِ أَوْ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَمَلَّكُ الْعَيْنِ لَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ مِنْهَا فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّخْصِيصِ بِبَيَانِ مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَّمَهَا بِتَفْوِيضِ الرَّأْيِ فِيهَا إلَى الْوَكِيلِ فَقَدْ شَبَّهَهَا بِالشَّرِكَةِ فَكَانَ فِي احْتِمَالِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالشَّرِكَةِ لَكِنَّهَا وَكَالَةٌ وَالْخُصُوصُ أَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ضَرْبِ تَخْصِيصٍ فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ، جَازَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ .
قَالَ بِشْرٌ : سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : مَا اشْتَرَيْتَ الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَيْنِ فَقَالَ الرَّجُلُ : نَعَمْ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : هَذَا جَائِزٌ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ .
وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ مَالًا ، وَلَمْ يُوَقِّتْ يَوْمًا ، وَكَذَا إنْ وَقَّتَ صِنْفًا مِنْ الثِّيَابِ ، وَسَمَّى عَدَدًا ، أَوْ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا وَلَا يَوْمًا ، وَإِنْ قَالَ : مَا اشْتَرَيْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ ، عُلِمَ أَنَّهَا وَكَالَةٌ ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا خَصَّا صِنْفًا

مِنْ الْأَصْنَافِ ، أَوْ عَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا فَهُوَ جَائِزٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُوَقِّتَا لِلشَّرِكَةِ وَقْتًا كَانَ هَذَا جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا شَرِكَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَكَالَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَادَةً ، وَإِذَا كَانَ شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّخْصِيصِ .
قَالَ وَإِنْ أَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَكُلَّمَا اشْتَرَيَا شَيْئًا ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا صَحَّتْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ ، فَهُوَ بِالْإِشْهَادِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ ، يُرِيدُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .

( وَأَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ : فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ الْخِيَاطَةِ ، أَوْ الْقِصَارَةِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَقُولَا : اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَعْمَلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُجْرَةٍ فَهِيَ بَيْنَنَا ، عَلَى شَرْطِ كَذَا ، .

( وَأَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ : فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ ، لَكِنْ لَهُمَا وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَقُولَا : اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ ، وَنَبِيعَ بِالنَّقْدِ ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا .
وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ بِالنَّسِيئَةِ إلَّا الْوَجِيهُ مِنْ النَّاسِ عَادَةً أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَاجِهُ صَاحِبَهُ يَنْتَظِرَانِ مَنْ يَبِيعُهَا بِالنَّسِيئَةِ وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ : الْعِنَانُ وَالْمُفَاوَضَةُ وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِشَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِالْمُفَاوَضَةِ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ جَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهَا جَائِزَةٌ ، عِنَانًا كَانَتْ أَوْ مُفَاوَضَةً ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ لَا جَوَازَ لَهَا أَصْلًا وَرَأْسًا .
( وَأَمَّا ) شَرِكَةُ الْأَمْوَالِ : فَتَجُوزُ فِيهَا الْعِنَانُ ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الْمُفَاوَضَةُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَعْرِفُ الْمُفَاوَضَةَ .
وَقِيلَ فِي اشْتِقَاقِ الْعِنَانِ : أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَنِّ ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ يُقَالُ : عَنَّ لِي ، أَيْ اعْتَرَضَ وَظَهَرَ .
قَالَ امْرُؤُ الْقِيسِ : فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلِ سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِثْلَ الشَّرِكَةِ عِنَانًا ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعِنُّ لَهُمَا فِي كُلِّ التِّجَارَاتِ ، أَوْ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ ، أَوْ تَفَاضُلِهِمَا وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ ، أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ ، وَيَدُهُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَشَاءُ ، فَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ لَهُ عِنَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَاقِي كَيْفَ يَشَاءُ ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ عِنَانَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِصَاحِبِهِ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاطَوْنَ هَذِهِ الشَّرِكَةَ قَالَ النَّابِغَةُ وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ .
( وَأَمَّا ) .
الْمُفَاوَضَةُ : فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا الْمُسَاوَاةُ فِي اللُّغَةِ قَالَ الْقَائِلُ وَهُوَ الْعَبْدِيُّ : تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ وَلَا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ مُفَاوَضَةً ؛ لِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَالتَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَقِيلَ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ ؛

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ ( فَوَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ ، وَلِهَذَا شَرَطَ الْخَلْطَ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ ؛ وَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ ، وَكَذَا مَا وُضِعَ لَهُ الشَّرِكَةَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ وَالنَّاسُ فِي الِاهْتِدَاءِ إلَى التِّجَارَةِ مُخْتَلِفُونَ ، بَعْضُهُمْ أَهْدَى مِنْ الْبَعْضِ ، فَشُرِعَتْ الشَّرِكَةُ ؛ لِتَحْصِيلِ غَرَضِ الِاسْتِنْمَاءِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَصْلٍ يُسْتَنْمَى ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ مَا وُضِعَ لَهُ الشَّرِكَةُ فَلَا يَجُوزُ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ } ؛ وَلِأَنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ ، وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجَائِزِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ : إنَّ الشَّرِكَةَ شُرِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي أَصْلًا يُسْتَنْمَى فَنَقُولُ : الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ ، أَوْ بِالْوُجُوهِ : فَمَا شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ ، بَلْ لِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَى تَنْمِيَتِهِ ، فَلَمَّا شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ الْوَصْفِ فَلَأَنْ تُشْرَعَ لِتَحْصِيلِ الْأَصْلِ أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ : فَأَمَّا الْعِنَانُ فَجَائِزٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ { أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَتَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ وَكُنْتَ شَرِيكِي وَنِعْمَ الشَّرِيكُ ، لَا تُدَارِي ، وَلَا تُمَارِي } ، وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ ، فَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، حَيْثُ لَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ مُتَحَقِّقَةٌ .
وَهَذَا النَّوْعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ مَشْرُوعًا ؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ إجْمَاعًا .
( وَأَمَّا ) الْمُفَاوَضَةُ : ( فَأَمَّا ) قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَعْرِفُ الْمُفَاوَضَةَ فَإِنْ عَنَى بِهِ : لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ ، وَإِنْ عَنَى بِهِ : لَا أَعْرِفُ جَوَازَهَا فَقَدْ عَرَّفَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تَفَاوَضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ ، وَلِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ وَهُمَا : الْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَائِزَةٌ حَالَ الِانْفِرَادِ ، وَكَذَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ ، كَالْعِنَانِ ؛ وَلِأَنَّهَا طَرِيقُ اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ أَوْ تَحْصِيلِهِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَتْ جَائِزَةٌ كَالْعِنَانِ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ عِنْدَكُمْ ، وَالْكَفَالَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ كَفَالَةٌ بِمَجْهُولٍ ، وَأَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ وَدَلِيلُنَا عَلَى الْجَوَازِ : مَا ذَكَرْنَا مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ :

الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ فَنَعَمْ ، لَكِنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَفْوٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفْوًا حَالَةَ الِانْفِرَادِ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً عَامَّةً وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ ، فَكَذَا هَذَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْوَكَالَةِ لَا تَثْبُتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَقْصُودًا ، بَلْ ضِمْنًا لِلشَّرِكَةِ وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا ، وَيُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ مَقْصُودًا مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ جَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلِجَوَازِهَا شَرَائِطُ : بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا : وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ .
( أَمَّا ) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَازِمَةٌ فِي الْكُلِّ وَهِيَ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَتَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَذِنَ لِصَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، وَتَقَبُّلُ الْأَعْمَالِ مُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ عَنْ إذْنٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا تَفْسُدُ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، وَجَهَالَتُهُ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ جُزْءًا شَائِعًا فِي الْجُمْلَةِ ، لَا مُعَيَّنًا ، فَإِنْ عَيَّنَا عَشَرَةً ، أَوْ مِائَةً ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ وَالتَّعْيِينُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ : فَيَخْتَلِفُ .

( أَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَلَهَا شُرُوطٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْمُفَاوَضَاتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، عِنَانًا كَانَتْ الشَّرِكَةُ أَوْ مُفَاوَضَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرِكَةِ ، وَالْوَكَالَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ فِي الْعُرُوضِ ، وَتَصِحُّ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ .
فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : بِعْ عَرْضَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْوَكَالَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّرِكَةِ لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ : اشْتَرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَيْتَهُ بَيْنَنَا جَازَ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَكُونُ قِيمَةَ الْعُرُوضِ لَا عَيْنَهَا ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ ، وَالظَّنِّ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ مَجْهُولًا ؛ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ عَيْنُهَا ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَالشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْهَلَاكِ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ ، فَهَلَكَ الْعَرْضُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، لَا يَضْمَنُ شَيْئًا آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً ، فَالشَّرِكَةُ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ

، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَالشَّرِكَةُ فِيهَا لَا تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ بَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَا ضَمِنَ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ وَكُلِّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ صَاحِبِهِ ، حَتَّى يَصِيرَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَتَحْصُلُ شَرِكَةُ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَعْقِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ ، فَتَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ ، وَمِنْ الْآخَرِ عُرُوضٌ ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ : أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْعُرُوضِ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ ، وَيَتَقَابَضَا ، وَيَخْلِطَا جَمِيعًا حَتَّى تَصِيرَ الدَّرَاهِمُ بَيْنَهُمَا ، وَالْعُرُوضُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَعْقِدَانِ عَلَيْهِمَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ .
وَأَمَّا التِّبْرُ فَهَلْ يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ؟ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَجَعَلَهُ كَالْعُرُوضِ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ جَعَلَهُ كَالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ : إذَا اشْتَرَى بِهِ فَهَلَكَ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إلَى تَعَامُلِ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ ، فَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعُرُوضِ ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الشَّرِكَةُ .
( وَأَمَّا ) الْفُلُوسُ : فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ ، وَلَا الْمُضَارَبَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا عُرُوضٌ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً : فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ وَالْكَلَامُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَيْسَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَتَصِيرُ مَبِيعًا بِإِصْلَاحِ الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى جَازَ

بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا عِنْدَهُمَا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا مُطْلَقَةً ؛ لِاحْتِمَالِهَا التَّعْيِينَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، لَمْ تَصْلُحْ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الثَّمَنِيَّةَ لَازِمَةٌ لِلْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ، فَكَانَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ ، وَلِهَذَا أَبَى جَوَازَ بَيْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ ، فَتَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ ، وَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ وَوَجْهُهُ : أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ جَهَالَةُ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْكَسَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَإِذَا كَسَدَتْ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَةً ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَ الْكَسَادِ يَأْخُذَانِ رَأْسَ الْمَالِ عَدَدًا لَا قِيمَةً ، فَكَانَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا .

( وَأَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَثْمَانٍ مُطْلَقَةٍ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْخَلْطِ ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، إذَا كَانَتْ عَيْنًا فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ فِيهَا لَا تَصِحُّ قَبْلَ الْخَلْطِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ آخَرُ قَبْلَ الْخَلْطِ : بِعْ حِنْطَتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا بَيْنَنَا لَمْ يَجُزْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّرِكَةُ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْخَلْطِ : فَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا خُلِطَتْ بِالشَّعِيرِ ، خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِدَلِيلِ أَنَّ مُسْتَهْلِكَهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا ، لَا مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : لَا تَصِحُّ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا بَعْدَ الْخَلْطِ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكِيلُ نِصْفَيْنِ ، وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا ، فَخَلَطَاهُ وَاشْتَرَيَا بِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ : عَلَى مَا شَرَطَا فَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُطَّرِدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، أَنَّ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، بَلْ تَكُونُ تَارَةً ثَمَنًا ، وَتَارَةً مَبِيعًا ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَكَانَتْ كَالْفُلُوسِ .
( وَوَجْهُ ) التَّخْرِيجِ لِمُحَمَّدٍ : أَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ ثَابِتٌ بَعْدَ الْخَلْطِ ، فَأَشْبَهَتْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْخَلْطِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الشَّرِكَةِ لَا يَصِحُّ فِيهَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ

بِالْمَكِيلَاتِ ، وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُخْلَطَا حَتَّى تَصِيرَ شَرِكَةَ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ يَعْقِدَا عَلَيْهَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَيْضًا .

( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ عَيْنًا حَاضِرًا لَا دَيْنًا ، وَلَا مَالًا غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ لَا تَجُوزُ عِنَانًا ، كَانَتْ أَوْ مُفَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّرِكَةِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ التَّصَرُّفِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الدَّيْنِ وَلَا الْمَالِ الْغَائِبِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْحُضُورُ عِنْدَ الشِّرَاءِ لَا عِنْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَتِمُّ بِالشِّرَاءِ ، فَيُعْتَبَرُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَخْرِجْ مِثْلَهَا ، وَاشْتَرِ بِهِمَا ، وَبِعْ فَمَا رَبِحْتَ يَكُونُ بَيْنَنَا ، فَأَقَامَ الْمَأْمُورُ الْبَيِّنَةَ ، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ حَاضِرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمَّا كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ الشِّرَاءِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ ، وَهُوَ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا يُشْتَرَطُ ، وَقَالَ زُفَرُ : يُشْتَرَطُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ : يُبْنَى مَا إذَا كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ ، وَالْآخَرِ دَنَانِيرُ ، أَنَّ الشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، لَكِنْ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالصِّحَاحِ مَعَ الْمُكَسَّرَةِ ، أَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا بَيْضَاءَ ، وَالْآخَرِ سَوْدَاءَ وَعِلَّةُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ : أَنَّ الْخَلْطَ شَرْطٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ ، لَا فِي الْعِنَانِ وَلَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا عِنْدَ زُفَرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ ، وَالِاخْتِلَاطُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَيُّزِ الْمَالَيْنِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الْهَلَاكَ يَكُونُ مِنْ الْمَالَيْنِ ، وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْخَلْطِ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ

يَهْلَكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ الشَّرِكَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ ، فَمَا جَازَ التَّوْكِيلُ بِهِ ، جَازَتْ الشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ فِي الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ كَذَا الشَّرِكَةُ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : الشَّرِكَةُ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنْ عَلَى اخْتِلَاطِ رَأْسَيْ الْمَالِ ، أَوْ عَلَى اخْتِلَاطِ الرِّبْحِ فَهَذَا مِمَّا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لَفْظُ الشَّرِكَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَتُهُ شَرِكَةً لِاخْتِلَاطِ الرِّبْحِ ، لَا لِاخْتِلَاطِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَاخْتِلَاطُ الرِّبْحِ يُوجَدُ وَإِنْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَهِيَ الرِّبْحُ تَحْدُثُ عَلَى الشَّرِكَةِ .
( وَأَمَّا ) مَا هَلَكَ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ : فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالشِّرَاءِ ، فَمَا هَلَكَ قَبْلَهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّرِكَةِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَحَدِهِمَا : كَانَ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ .
( وَأَمَّا ) تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ مَالِهِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِنَانِ ، وَالْمُفَاوَضَةِ جَمِيعًا وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ .

( وَمِنْهَا ) : مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ ، بِأَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ ، أَنَّ كُلَّ مَا يَلْزَمُ لِأَحَدِهِمَا مِنْ حُقُوقِ مَا يَتَّجِرَانِ فِيهِ يَلْزَمُ الْآخَرَ ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ عَنْهُ لِمَا نَذْكُرُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَشَرَائِطُ أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ تُطْلَبُ مِنْ كِتَابِ الْكَفَالَةِ ( وَمِنْهَا ) الْمُسَاوَاةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ قَدْرًا وَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ بِلَا خِلَافٍ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ قَدْرًا لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مَا أَمْكَنَ ، وَكَذَا قِيمَةٍ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا صِحَاحًا وَالْآخَرُ مُكَسَّرَةً ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا بَيْضَاءَ وَالْآخَرُ أَلْفًا سَوْدَاءَ وَبَيْنَهُمَا فَضْلُ قِيمَةٍ فِي الصَّرْفِ لَمْ تَجُزْ الْمُفَاوَضَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْوَزْنِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ إحْدَى الْأَلْفَيْنِ إذَا كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ الْأُخْرَى جَازَ ، وَكَانَتْ مُفَاوَضَةً لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَلْ تُشْتَرَطُ الْمُجَانَسَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَرَاهِمَ أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ ؟ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لَا تُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ ، جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بَعْدَ أَنْ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَسْتَوِيَا

فِي الْقِيمَةِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ بِالْمُسَاوَاةِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةً فِي الثَّمَنِيَّةِ ( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الشَّرِكَةِ ، فَإِنْ كَانَ ، لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالدَّيْنِ ، جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ ، وَكَذَا الْمَالُ الْغَائِبُ لِأَنَّ مَا لَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الشَّرِكَةُ كَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ ، وَكَانَ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالتَّفَاضُلِ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ ، ( وَمِنْهَا ) الْمُسَاوَاةُ فِي الرِّبْحِ فِي الْمُفَاوَضَةِ ، فَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ ؛ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ ( وَمِنْهَا ) الْعُمُومُ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِتِجَارَةٍ دُونَ شَرِيكِهِ لِمَا فِي الِاخْتِصَاصِ مِنْ إبْطَالِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَخْتَصُّ بِتِجَارَةٍ ، لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ ، وَهِيَ التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَلَمْ يَسْتَوِيَا فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ، وَتَجُوزُ مُفَاوَضَةُ الذِّمِّيِّينَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي

التِّجَارَةِ .

( وَأَمَّا ) مُفَاوَضَةُ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَكَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مُتَوَقِّفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي التَّصَرُّفِ ، فَلَا تَجُوزُ كَمَا لَا تَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ : قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، أَنَّهُ يَجُوزُ يَعْنِي قِيَاسَ قَوْلِهِ فِي الذِّمِّيّ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ وَزَوَالِ مِلْكِهِ ؛ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ؟ وَإِذَا كَانَ نَاقِصَ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَلَوْ فَاوَضَ مُسْلِمٌ مُرْتَدَّةً ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ .
( وَأَمَّا ) أَبُو يُوسُفَ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَانِعٍ ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ نُقْصَانُ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَرْأَةِ .
وَأَمَّا مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدَّيْنِ أَوْ شَرِكَتِهِمَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا أَصْلُهُ فِي عُقُودِ الْمُرْتَدِّ ، أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَا جَازَ عَقْدُهُمَا وَإِنْ قُتِلَا عَلَى رَدَّتِهِمَا أَوْ مَاتَا أَوْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ .
( وَأَمَّا ) عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَشَرِكَةُ الْعِنَانِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ عُقُودَهُمَا نَافِذَةٌ .
( وَأَمَّا ) مُفَاوَضَتُهُمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ يَمْنَعُ الْمُفَاوَضَةَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَمِلْكُهُمَا نَاقِصٌ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، فَصَارَا كَالْمُكَاتَبَيْنِ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَ مُحَمَّدٍ

فَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَقْتَضِي جَوَازَ الْكَفَالَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ شَارَكَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ، ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ زَالَتْ أَمْلَاكُهُ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ حِينِ ارْتَدَّ ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ ؛ فَبَطَلَتْ شَرِكَتُهُ ، وَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ ، وَجُعِلَ كَأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْمُرْتَدَّ مِنْهُمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ قُتِلَ لَمْ يَلْزَمْ إقْرَارُهُ شَرِيكَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ ، فَقَدْ أَقَرَّ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ .
( وَأَمَّا ) عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ ، وَكَذَا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا بَطَلَتْ بِالْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ ، فَكَانَتْ بَاقِيَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ الذِّمِّيَّ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ عُقُودًا لَا تَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ ، فَيَحْصُلُ كَسْبُهُ مِنْ مَحْظُورٍ فَيُكْرَهُ ، وَلِهَذَا كُرِهَ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ .
وَلَوْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ ، جَازَ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ ، ( وَمِنْهَا ) لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ لِلْمُفَاوَضَةِ شَرَائِطَ لَا يَجْمَعُهَا إلَّا لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ أَوْ عِبَارَةٌ أُخْرَى تَقُومُ مَقَامَهَا ، وَالْعَوَامُّ قَلَّمَا يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ تُجْرَى بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِهَا بِلَفْظٍ آخَرَ

يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهَا ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا عَيْنِ الْأَلْفَاظِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ الشُّرُوطِ بِالْمُفَاوَضَةِ كَانَتْ الشَّرِكَةُ عِنَانًا ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَضَمَّنَتْ الْعِنَانَ وَزِيَادَةً ، فَبُطْلَانُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعِنَانِ ، وَلِأَنَّ فَقْدَ شَرْطٍ فِي عَقْدٍ إنَّمَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَا يَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقِفُ صِحَّةُ الْعِنَانِ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَفُقْدَانُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ .

( وَأَمَّا ) شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يُرَاعَى لَهَا شَرَائِطُ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ حَتَّى تَصِحَّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ رَأْسَيْ الْمَالِ ، فَيَجُوزُ مَعَ تَفَاضُلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَمَعَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ آخَرُ يَجُوزُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِ سِوَى رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ بَلْ يَجُوزُ عَامًّا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ ، وَخَاصًّا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ كَالْبَزِّ وَالْخَزِّ وَالرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي الْمُفَاوَضَاتِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعِنَانِ وَلَا لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فِي الْمُفَاوَضَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى شَرَائِطَ مُخْتَصَّةٍ بِالْمُفَاوَضَةِ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعِنَانِ فَلَا حَاجَةَ إلَى لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا إلَى لَفْظَةِ الْعِنَانِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا الْمُسَاوَاةِ فِي الرِّبْحِ ، فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا لِمَا قُلْنَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَنَا إمَّا بِالْمَالِ وَإِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالضَّمَانِ ، أَمَّا ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَالِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ لِمَالِكِهِ ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْمَالِ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَأَمَّا بِالْعَمَلِ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَكَذَا الشَّرِيكُ .
وَأَمَّا بِالضَّمَانِ فَإِنَّ الْمَالَ إذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الرِّبْحِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ خَرَاجًا بِضَمَانِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } ، فَإِذَا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ

كَانَ خَرَاجُهُ لَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَانِعًا تَقَبَّلَ عَمَلًا بِأَجْرٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ قَبِلَهُ لِغَيْرِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ، وَلَا سَبَبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَضْلِ إلَّا الضَّمَانَ ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ صَالِحٌ لِاسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : تَصَرَّفْ فِي مِلْكِكَ عَلَى أَنَّ لِي بَعْضَ رِبْحِهِ ؛ لَمْ يَجُزْ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ لَا مَالَ وَلَا عَمَلَ وَلَا ضَمَانَ ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : إذَا شَرَطَا الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ اسْمٌ لِجُزْءٍ هَالِكٍ مِنْ الْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَشَرَطَا لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا عَلَى رِبْحٍ يُنْظَرُ إنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا جَازَ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا خِلَافَ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الشَّرِيكَانِ فِي مِلْكِ مَاشِيَةٍ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا مِنْ أَوْلَادِهَا وَأَلْبَانِهَا ، لَمْ تَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَنَا فَالرِّبْحُ تَارَةً يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْعَمَلِ وَتَارَةً بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَسَوَاءٌ عَمِلَا جَمِيعًا أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ

الْآخَرِ ، فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَعْمَالِ بِشَرْطِ الْعَمَلِ لَا بِوُجُودِ الْعَمَلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعَمَلُ ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ شَرْطَاهُ عَلَى الَّذِي شَرَطَا لَهُ فَضْلَ الرِّبْحِ ؛ جَازَ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فَيَسْتَحِقُّ رِبْحَ رَأْسِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ ، وَإِنْ شَرْطَاهُ عَلَى أَقَلِّهِمَا رِبْحًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَا لَهُ الزِّيَادَةَ لَيْسَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ مَالٌ .
وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ ، وَشَرَطَا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا ، وَكَانَ زِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ بِعَمَلِهِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الرِّبْحِ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالَيْنِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى الَّذِي رَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ ؛ جَازَ ، وَيَسْتَحِقُّ قَدْرَ رِبْحِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ ، وَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى صَاحِبِ الْأَكْثَرِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَقَلِّ لَا يُقَابِلُهَا مَالٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ .
( وَأَمَّا ) الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ ، وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الرِّبْحِ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ ، فَكَانَ

الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطًا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَجَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تُوزَنَانِ وَقْتَ الشِّرَاءِ ، فَيَعْلَمُ مِقْدَارَهَا فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ .

( وَأَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْهَا ( فَمِنْ ) شَرَائِطِهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ ( وَمِنْهَا ) التَّسَاوِي فِي الْأَجْرِ ( وَمِنْهَا ) مُرَاعَاةُ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ ، أَمَّا الْعِنَانُ مِنْهَا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ فَقَطْ ، كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ تَجُوزُ فِيهِ الشَّرِكَةُ ، وَمَا لَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّرِكَةُ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ فِي الْبَرَارِي وَمَا يَكُونُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الثِّمَارِ وَمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَادِنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَصِيدَا أَوْ يَحْتَطِبَا أَوْ يَحْتَشَّا أَوْ يَسْتَقِيَا الْمَاءَ وَيَبِيعَانِهِ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ، أَنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ ؟ كَذَا الشَّرِكَةُ ، فَإِنْ تَشَارَكَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِلْكًا لَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَيَنْفَرِدُ بِالْمِلْكِ ، وَإِنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا مَعًا كَانَ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ ، يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الَّذِي لَهُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57