كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ ، أَوْ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ } ، وَكَانَ يُقَوَّمُ يَوْمَئِذٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَعَنْ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَنَّهُ قَالَ { مَا قُطِعَتْ يَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ : } ، وَكَانَ يُسَاوِي يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقِ ثَوْبٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَرَّ بِهِ - سَيِّدُنَا - عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَا يُسَاوِي إلَّا ثَمَانِيَةً فَدَرَأَ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ الْقَطْعَ عَنْهُ ، وَعَنْ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي الْعَشَرَةِ .
وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النِّصَابَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي أَخْذِ سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ كَمَالُ النِّصَابِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ السَّرِقَةُ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِفَقْدِ الشَّرْطِ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا دَخَلَ رَجُلٌ دَارَ الرَّجُلِ فَسَرَقَ مِنْ بَيْتٍ فِيهَا دِرْهَمًا فَأَخْرَجَهُ إلَى صَحْنِهَا ، ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا مِنْ الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ ، ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا مِنْ الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ حَتَّى أَخَذَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْعَشَرَةَ مِنْ الدَّارِ قُطِعَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ

صَحْنِهَا ، وَبُيُوتِهَا حِرْزٌ ، وَاحِدٌ فَمَا دَامَ فِي الدَّارِ لَمْ يُوجَدْ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْ الدَّارِ جُمْلَةً فَقَدْ وُجِدَ إخْرَاجُ نِصَابٍ مِنْ الْحِرْزِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ .
وَلَوْ كَانَ خَرَجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ الدَّارِ ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهُ إخْرَاجٌ مِنْ الْحِرْزِ ، فَكَانَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ سَرِقَةُ مَا دُونَ النِّصَابِ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ دَخَلُوا دَارًا ، وَأَخْرَجُوا مِنْ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا الْمَتَاعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى صَحْنِ الدَّارِ ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ مِنْ الصَّحْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُقْطَعُونَ إذَا كَانَ مَا أَخْرَجُوا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْإِخْرَاجُ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا تَفَرَّقَ فَهُوَ سَرِقَاتٌ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ مَنْزِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ دِرْهَمًا ، أَوْ تِسْعَةً لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُمَا سَرِقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَنْزِلَيْنِ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهِ فَهَتْكُ أَحَدِهِمَا بِمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَتْكِ الْآخَرِ فَيَبْقَى كُلُّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ .
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِعَشْرَةِ أَنْفُسٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قُطِعَ ، وَإِنْ تَفَرَّقَ مُلَّاكُهَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ السَّارِقِ ، وَالسَّارِقُ وَاحِدٌ ، فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُ السَّارِقِ دُونَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَالْقَطْعُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ مَنْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَجِبْ لَهُ ، بَلْ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِنْ كَانَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَيْتٍ

عَلَى حِدَةٍ فَسَرَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا يُقْطَعُ إذَا خَرَجَ بِالْجَمِيعِ مِنْ الدَّارِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ وَاحِدٌ .
وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا نِصَابًا كَامِلًا ، فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا حُجُرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُجْرَةٌ فَسَرَقَ مِنْ كُلِّ حُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ حُجْرَةٍ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهَا ، وَالسَّرِقَاتُ إذَا اخْتَلَفَتْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَالُ النِّصَابِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ سَرَقَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يُقْطَعُوا ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي حِرْزٍ وَاحِدٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ السَّارِقِ لَا جَانِبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّ السَّارِقِ لَا فِي حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مُجْتَمَعَةً ، أَوْ مُتَفَرِّقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحِرْزُ وَاحِدًا حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مُتَفَرِّقًا مِنْ كُلِّ كِيسٍ دِرْهَمًا مِنْ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ مِنْ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَإِذَا أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَقَدْ خَرَجَ بِنِصَابٍ كَامِلٍ مِنْ السَّرِقَةِ فَيُقْطَعُ وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخَذَ ثَوْبًا آخَرَ يُسَاوِي تِسْعَةً فَأَخْرَجَهُ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْمَأْخُوذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا فَلَا يُقْطَعُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) صِفَاتُ النِّصَابِ ( فَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَسْرُوقَةُ جِيَادًا حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً زُيُوفًا ، أَوْ نَبَهْرَجَةً ، أَوْ سَتُّوقَةً لَا يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً تَبْلُغُ قِيمَةَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَحَادِيثِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَعْتَبِرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَزْنَ سَبْعَةٍ كَذَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُدِّرَ بِهِ النِّصَابُ فِي الزَّكَوَاتِ ، وَالدِّيَاتِ ، وَكَذَا النَّاسُ أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا فِي ، وَزْنِ الدَّرَاهِمِ .
وَلِأَنَّ هَذَا أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ صِغَارًا ، وَكِبَارًا فَإِذَا جُمِعَ صَغِيرٌ ، وَكَبِيرٌ كَانَا دِرْهَمَيْنِ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ ، فَكَانَ هَذَا الْوَزْنُ هُوَ أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ فَاعْتُبِرَ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا : } ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ مَضْرُوبَةً ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً ، وَهَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَوْ كَانَ تِبْرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً لَا يُقْطَعُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ - أَنَّ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ قُطِعَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا مَضْرُوبَةً لَيْسَ بِشَرْطٍ .
بَلْ يُقْطَعُ فِي الْمَضْرُوبَةِ ، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ لَهُمَا أَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ ، أَوْ تَقْوِيمَ الْمِجَنِّ ، وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّرَاهِمُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبَةِ ، وَالتِّبْرُ

لَيْسَ بِمَضْرُوبٍ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَضْرُوبِ فِي الْمَالِيَّةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْهُ فِي الْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ الْوَزْنِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْجَوَازَ ، وَالرَّوَاجَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَأَجْرَى بِهِ التَّعَامُلَ بَيْنَ النَّاسِ ، يَسْتَوِي فِي نِصَابِهِ الْمَضْرُوبُ ، وَالصَّحِيحُ ، وَالْمُكَسَّرُ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْحُدُودِ ، ثُمَّ كَمَالُ النِّصَابِ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا غَيْرُ ، أَمْ وَقْتَ السَّرِقَةِ ، وَالْقَطْعِ جَمِيعًا ؟ .
وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ كَامِلَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ ، ثُمَّ نَقَصَتْ أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ الْقَطْعُ ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِأَنْ دَخَلَ الْمَسْرُوقَ عَيْبٌ ، أَوْ ذَهَبَ بَعْضُهُ .
( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ يُقْطَعُ السَّارِقُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ وَقْتَ الْقَطْعِ ، بَلْ وَقْتَ السَّرِقَةِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ عَيْنِهِ هَلَاكُ بَعْضِهِ ، وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ - ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُقْطَعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا .
وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ دُونَ نُقْصَانِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ، ثُمَّ نُقْصَانُ الْعَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ ، فَنُقْصَانُ السِّعْرِ أَوْلَى (

وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقُ بَيْنَ النُّقْصَانَيْنِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ فِي الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ ، وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ أَصْلًا فَيُجْعَلَ النُّقْصَانُ الطَّارِئُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ ، بِخِلَافِ نُقْصَانِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْعَيْنِ إذْ هُوَ هَلَاكُ بَعْضِ الْعَيْنِ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُجُودِهِ وَقْتَ السَّرِقَةِ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ فِي بَلَدٍ فَأَخَذَ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ أَنْقَصُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى تَكُونَ الْقِيمَةُ جَمِيعًا فِي السِّعْرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا غَيْرُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ لَا تَبَعًا لِمَقْصُودٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ ، وَبَلَغَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ بِنَفْسِهِ نِصَابًا إلَّا بِالتَّابِعِ يَكْمُلُ النِّصَابُ بِهِ فَيُقْطَعُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمَا مَقْصُودًا ، وَلَا يَبْلُغُ بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكْمُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيُقْطَعُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ لَا يُقْطَعُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يَبْلُغُ نِصَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْغَيْرُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ ، بَلْ يَكُونُ تَابِعًا فِي قَوْلِهِمَا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْطَعُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ نِصَابًا كَامِلًا ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا سَرَقَ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ فِيهِ شَرَابٌ ، أَوْ مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ ، أَوْ مَاءُ وَرْدٍ ، أَوْ ثَرِيدٌ ، أَوْ نَبِيذٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ ؛ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ مَا فِي الْإِنَاءِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ أَخَذُ الْإِنَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيُقْطَعُ فِيهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ السَّرِقَةِ مَا فِي الْإِنَاءِ ، وَالْإِنَاءُ تَابِعٌ .
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْإِنَاءَ بِالْأَخْذِ لَأَبْقَى مَا فِيهِ ، وَمَا فِي الْإِنَاءِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْمَقْصُودِ لَا يَجِبُ بِالتَّابِعِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ فَقَالَ : إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ مَا فِي جَوْفِهِ لَا يُقْطَعُ فِيهِ ؛ لَمْ أَقْطَعْهُ وَلَوْ سَرَقَ مَا فِي

الْإِنَاءِ فِي الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الْإِنَاءَ مِنْهَا ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْإِنَاءَ فَارِغًا مِنْهُ قُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَقَ مَا فِيهِ فِي الدَّارِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ هُوَ الْإِنَاءُ ، وَالْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ ، وَبَلَغَ نِصَابًا يُقْطَعُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ .
وَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ سَرِقَةً ، بَلْ يَكُونُ خِدَاعًا فَلَا يُقْطَعُ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدًا صَبِيًّا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ يُقْطَعُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَرِقَةَ مِثْلِ هَذَا الْعَبْدِ يُوجِبُ الْقَطْعَ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُوجِبُ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَلَوْ سَرَقَ كَلْبًا ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ السِّبَاعِ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ لَمْ يُقْطَعْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا مُفَضَّضًا ، أَوْ مُرَصَّعًا بِيَاقُوتٍ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ سَرَقَ كُوزًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ ، وَفِيهِ عَسَلٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ مِنْ الْعَسَلِ ، وَالْكُوزُ تَبَعٌ فَيَكْمُلُ نِصَابُ الْأَصْلِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً ، وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا يُقْطَعُ ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ ثَوْبٍ ، وَالثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ بِأَنْ تُشَدَّ فِيهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً بِأَنْ كَانَتْ خِرْقَةً ، وَنَحْوَهَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ هُوَ مَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ بِأَنْ كَانَ ثَوْبَ كِرْبَاسَ فَإِنْ كَانَ تَبْلُغُ قِيمَةُ الثَّوْبِ نِصَابًا بِأَنْ كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةً يُقْطَعُ بِلَا

خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُقْطَعُ .
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّصَّ إنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ يُقْطَعْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَا يُقْطَعُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
( وَوَجْهُهُ ) : أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَسْرُوقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نِصَابًا ، قَدْ وُجِدَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ : أَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْأَخْذِ الدَّرَاهِمَ وَقَدْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَيُقْطَعُ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهَا كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّوْبَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ النِّصَابَ فَلَا يُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا تُشَدُّ بِهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً كَانَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ فَكَذَا فِيمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ وَلَوْ سَرَقَ جُوَالِقًا ، أَوْ جِرَابًا فِيهِ مَالٌ كَثِيرٌ قُطِعَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ هُوَ الْمَظْرُوفُ لَا الظَّرْفُ ، وَالْمَقْصُودُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فَيُقْطَعُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً ، وَفِيهِ مَالٌ عَظِيمٌ عَلِمَ بِهِ اللِّصُّ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْمَالِ الْكَثِيرِ ، وَلَا يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْيَسِيرِ ، فَفِيمَا صَلَحَ وِعَاءً لَهُ يُعْتَبَرُ مَا فِيهِ ، لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَقْصُودَهُ مَا فِيهِ وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ ، وَمَا فِيهِ تَابِعًا لَهُ وَلَا قَطْعَ فِي الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فَكَذَا فِي التَّابِعِ ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ ، وَهُوَ يَدُ الْمِلْكِ ، أَوْ يَدُ الْأَمَانَةِ كَيَدِ الْمُودِعِ ، وَالْمُسْتَعِيرِ ، وَالْمُضَارِبِ ، وَالْمُبْضِعِ ، أَوْ يَدُ الضَّمَانِ كَيَدِ الْغَاصِبِ ، وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَالْمُرْتَهِنِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْ هَؤُلَاءِ ، أَمَّا مِنْ الْمَالِكِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَا مِنْ أَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ أَمِينِهِ يَدُهُ فَالْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْمَالِكِ ، فَأَمَّا مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ يَدَهُ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ إذْ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ .
وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَنَا ضَمَانُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُشْتَرِي ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ ، وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ ؛ فَيَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْهُمْ ، وَهَلْ يَسْتَوْفِي بِخُصُومَتِهِمْ حَالَ غِيبَةِ الْمَالِكِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ ؛ لِأَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ ، وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ ، وَلَا يَدَ ضَمَانٍ ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ دُرِئَ عَنْ الْأَوَّلِ قُطِعَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا دُرِئَ عَنْهُ الْقَطْعُ صَارَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ ، وَيَدُ الضَّمَانِ يَدٌ صَحِيحَةٌ كَيَدِ الْغَاصِبِ ، وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فِيهِ ، وَهُوَ الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ فِي دَارِ الْعَدْلِ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَدَارِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا عَلَى دَارِ الْبَغْيِ ، فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَا تَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلِ التُّجَّارِ ، أَوْ الْأَسَارَى مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَمْ تَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، فَلَا تَسْتَوْفِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، أَوْ الْأَسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .
ثُمَّ خَرَجُوا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وُجِدَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَتْ السَّرِقَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَاءَ لِلْإِمَامِ تَائِبًا ، وَقَدْ سَرَقَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَمْ يَقْطَعْهُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَغَارَ عَلَى مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَسَرَقَ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِعَدَمِ وَلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ عَنْ تَأْوِيلٍ ؛ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَيَحْبِسُونَهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا ، فَكَانَ فِي الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا سَرَقَ مِنْ مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَعَادَ إلَى مُعَسْكَرِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إبَاحَةَ أَمْوَالِنَا ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ ، فَكَانَ أَخْذُهُ عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ

كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ سَرَقَ مِنْ إنْسَانٍ مَالًا ، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ ، وَيَسْتَحِلُّ دَمَهُ ، وَمَالَهُ يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فَيَسْقُطَ الْقَطْعُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِثْلُهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ : - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي تَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْبَيِّنَةُ ، وَالثَّانِي : الْإِقْرَارُ .
أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَتَظْهَرُ بِهَا السَّرِقَةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ يُرَجَّحُ فِيهِ جَنَبَةُ الصِّدْقِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ فَيَظْهَرُ الْمُخْبَرُ بِهِ ، وَشَرَائِطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبَيِّنَاتِ كُلَّهَا ، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَبْوَابَ الْحُدُودِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَهُوَ الذُّكُورَةُ ، وَالْعَدَالَةُ ، وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَلَا شَهَادَةُ الْفُسَّاقِ ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ زِيَادَةَ شُبْهَةٍ ، لَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِيمَا يُحْتَالُ لِدَفْعِهِ ، وَيُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ ، وَكَذَا عَدَمُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ ، وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ بَعْد حِينٍ لَمْ تُقْبَلْ وَلَا يُقْطَعُ ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، وَلَا يُبْطِلُهَا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ ، وَلَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ أَيْضًا .
وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلشُّبْهَةِ ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ ، وَهُوَ الْخُصُومَةُ ، وَالدَّعْوَى مِمَّنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ ، حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ ، مِنْهُ وَيُخَاصِمُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ

الْخُصُومَةُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ السَّارِقُ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ أَوْرَثَ تُهْمَةً ، وَيَجُوزُ الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَرِقَةِ عَبْدِهِ مَالَ إنْسَانٍ ، وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حَضْرَتِهِ ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ سَائِرِ الْأَجَانِبِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ نَفَذَ إقْرَارُهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُقْضَى بِهَا مَعَ غِيبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى مِلْكِ شَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ مَا أَمْكَنَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى رَدَّهُ بِوَجْهٍ فَلَمْ تَتَمَكَّنْ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ بِالنُّكُولِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ سَرِقَةً فَأَنْكَرَ فَاسْتُخْلِفَ فَنَكَلَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ ، وَيُقْضَى بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْبَدَلِ .
وَالْقَطْعُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ

وَالْإِبَاحَةَ ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ ، وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى إقْرَارٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ؛ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا مِنْ طَرِيقِ السُّكُوتِ لَا صَرِيحًا ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ .
( وَأَمَّا ) الْإِقْرَارُ فَتَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَتَظْهَرَ بِهِ السَّرِقَةُ ، كَمَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَبَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَا لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عَبْدًا مَأْذُونًا ، أَوْ مَحْجُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْطَعُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ : أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مَأْذُونًا ، أَوْ مَحْجُورًا ، وَالْمَالُ قَائِمٌ ، أَوْ هَالِكٌ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا ؛ يُقْطَعُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا ، أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فِي إقْرَارِهِ ، أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فَهُوَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى ، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَضَرَرُ الْعَبْدِ أَعْظَمُ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُقْبَلَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ ، كَمَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي

نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْقَتْلِ ، فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ كَالْحُرِّ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِعَدَمِ الْحَقِّ لَهُ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا تُقْطَعْ يَدُهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا ، أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَّبَهُ مَوْلَاهُ ، أَوْ صَدَّقَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ ؛ تُقْطَعُ يَدُهُ ، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ بِأَنْ قَالَ : هَذَا مَالِي اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " تُقْطَعُ يَدُهُ ، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ " ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " تُقْطَعُ يَدُهُ ، وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْحَالِ ، وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ " .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : " لَا تُقْطَعُ يَدُهُ ، وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى ، وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ " .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَلَا قَطْعَ فِي مَالِ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ جَائِزٌ ، وَإِذَا جَازَ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لِغَيْرِهِ تَثْبُتُ السَّرِقَةُ مِنْهُ فَيُقْطَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَدِّ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ بِالْمَالِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْحَدِّ جَوَازُهُ فِي الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : سَرَقْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ مِنْ عَمْرٍو يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي الْقَطْعِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ بِالْحَدِّ جَائِزٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقْطَعَ فِي الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ

بِعَيْنِهِ ، وَيُرَدَّ الْمَسْرُوقُ إلَى الْمَوْلَى ، وَإِمَّا أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ فِي مَالٍ مَحْكُومٍ بِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَالًا مُعَيَّنًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقْطَعَ فِي الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ بِعَيْنِهِ ، وَيُرَدَّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا عَاقِلًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا عَاقِلًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالشَّرَائِعِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا يُرَدُّ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ هَالِكًا يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَا فِي الْحَالِ ، وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا يَضْمَنْ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُخَاطَبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى ، وَيَضْمَنُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ إنْ كَانَ مُخَاطَبًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ .
وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ ، ثُمَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ بِالْقِصَاصِ ، أَوْ حَدِّ الزِّنَا ، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ ، أَوْ السَّرِقَةِ ، أَوْ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِحُّ .
( وَأَمَّا ) إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الدَّفْعُ ، أَوْ

الْفِدَاءُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ فِيهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ .
وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ كَذَا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ، وَعَدَمُ التَّقَادُمِ فِي الْإِقْرَارِ ( إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ ) لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فَيَجُوزُ سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُ السَّرِقَةِ ، أَوْ لَا ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ ، وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْعَدَدِ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ : أَنَّهُ هَلْ هُوَ شَرْطٌ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطٌ فَلَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
وَكَذَا اُخْتُلِفَ فِي دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مُظْهِرًا لِلسَّرِقَةِ كَمَا هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لَهَا ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - شَرْطٌ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ السَّارِقُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ يُقْطَعْ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ، وَيُخَاصَمُ عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الدَّعْوَى فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، وَيُقْطَعُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ إقْرَارَهُ بِالسَّرِقَةِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْإِنْسَانُ يُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ ، وَهِيَ غَائِبَةٌ قَبْلَ إقْرَارِهِ حُدَّ كَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ { أَنَّ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنِّي سَرَقْت لِآلِ

فُلَانٍ فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : إنَّا فَقَدْنَا بَعِيرًا لَنَا فِي لَيْلَةِ كَذَا فَقَطَعَهُ } فَلَوْلَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَهُمْ ، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ السَّارِقَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ .
( فَأَمَّا ) إذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَالْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَذِّبَهُ فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ ، وَلِأَنَّ فِي ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ التَّكْذِيبِ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ فَيُكَذِّبُهُ فِي إقْرَارِهِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُقِرُّ ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ فَتَدَّعِي شُبْهَةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً ، وَادَّعَتْ الشُّبْهَةَ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَلَوْ سَقَطَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لَسَقَطَ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَهَهُنَا ، بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا ، وَكَذَّبَ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ لَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ ، بَلْ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ .
فَلَمْ يَكُنْ السُّقُوطُ حَالَ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَوْ قَالَ سَرَقْت هَذِهِ الدَّرَاهِمَ ، وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ ، أَوْ قَالَ : سَرَقْتهَا ، وَلَا أُخْبِرُك مَنْ صَاحِبُهَا : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوْقَ غَيْبَتِهِ ، ثُمَّ الْغَيْبَةُ لَمَّا مَنَعَتْ الْقَطْعَ عَلَى أَصْلِهِ فَالْجَهَالَةُ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا ، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولًا تَتَحَقَّقُ الْخُصُومَةُ فَلَا يُقْطَعُ ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ

السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ : - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ، وَمَنْ لَا فَلَا ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ يَدٌ صَحِيحَةٌ .
وَأَمَّا الْمُودِعُ ، وَالْمُسْتَعِيرُ ، وَالْمُضَارِبُ ، وَالْمُبْضِعُ ، وَالْغَاصِبُ ، وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَالْمُرْتَهِنُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا السَّارِقَ ، وَتُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ ثُبُوتِ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ ، وَالْإِعَادَةِ إلَى أَيْدِيهِمْ .
وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْقَطْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِمْ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ الْقَطْعِ ، وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُعْتَبَرُ بِخُصُومَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ أَصْلًا لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ ، وَلَا فِي حَقِّ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ .
( وَوَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ فِي الْأَصْلِ أَمَّا يَدُ الْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهَا يَدُ حِفْظٍ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِضَرُورَةِ الْإِعَادَةِ إلَى يَدِ الْحِفْظِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّسْلِيمِ مِنْ الْمَالِكِ ، وَكَذَلِكَ يَدُ الْغَاصِبِ ، وَالْقَابِضِ - عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ - وَالْمُرْتَهِنِ يَدُهُمْ يَدُ ضَمَانٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ ، فَكَانَ ثُبُوتُ وَلَايَةِ الْخُصُومَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةٍ يَكُونُ عَدَمًا فِيمَا ، وَرَاءَ مَحِلِّ الضَّرُورَةِ ؛ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ ، وَهِيَ الضَّرُورَةُ ، فَكَانَتْ

الْخُصُومَةُ مُنْعَدِمَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ ، وَلَا قَطْعَ بِدُونِ الْخُصُومَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ السَّارِقِ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْبَيِّنَةِ : حُجَّةً مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَحَقَّقُ سَرِقَةً مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْخُصُومَةِ ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ، وَكَوْنُهَا مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ ، وَإِذَا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، بِخِلَافِ السَّارِقِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ ؛ لِمَا نَذْكُرُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِخَلَلٍ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهَهُنَا لَا خَلَلَ فِي الْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ ، وَهَهُنَا يُقْطَعُ وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ ، وَغَابَ الْمُرْتَهِنُ هَلْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ ، وَيَقْطَعَهُ ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ وَلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَالْمَالِكُ لَيْسَ بِمَسْرُوقٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ إنَّمَا شُرِطَتْ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فَتَصِحُّ خُصُومَتُهُ كَمَا تَصِحُّ خُصُومَةُ الْمُرْتَهِنِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ نِيَابَةٍ فَلَمَّا صَحَّتْ الْخُصُومَةُ بِيَدِ النِّيَابَةِ فَيَدُ الْأَصَالَةِ أَوْلَى .
وَلَوْ حَضَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، وَغَابَ الْغَاصِبُ ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ أَنْ

يُخَاصِمَ ، وَيُطَالِبَ بِالْقَطْعِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي الْغَصْبِ خِلَافًا ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهِمَا ، وَاحِدًا ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ فَيَقْطَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ ، حَتَّى لَوْ قَضَى الدَّيْنَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وَلَايَةُ الْقَبْضِ بِالْفِكَاكِ قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُرْتَهِنِ كَمَا فِي الْمُودِعِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمُودِعِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ ، وَيَدَ الْمُودِعِ لِغَيْرِهِ .
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ السَّارِقِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ ، وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ لَهُ وَلَايَةُ الْقَطْعِ قَبْلَ الْهَلَاكِ ، وَهَلَاكُ الْمَحِلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَيُثْبِتَ الْوَلَايَةَ .
( فَأَمَّا ) الرَّاهِنُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَرْهُونِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ .
( وَأَمَّا ) السَّارِقُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ ، وَلَا يَدِ ضَمَانٍ ، وَلَا يَدِ أَمَانَةٍ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ بِالْقَطْعِ ، وَلَا لِلْمَالِكِ أَيْضًا وَلَايَةُ الْمُخَاصَمَةِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ .
وَهَلْ لِلسَّارِقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الثَّانِيَ بِرَدِّ الْمَسْرُوقِ إلَى يَدِهِ قَالُوا : فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَلِكَ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا : أَنَّ الْمَسْرُوقَ

مِنْهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ ، وَيَتْرُكَ الْقَطْعَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ فَيَتَخَلَّصُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُقْطَعْ فَلَهُ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَطْعِ يُحْتَمَلُ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ ، وَبَعْدَهُ لَا ، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَطْعِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ بِعِلْمِ الْقَاضِي ، سَوَاءٌ اسْتَفَادَهُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ ، وَالْآخَرُ : يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ ( أَمَّا ) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ؛ وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ صِفَاتِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا لِمَانِعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ .
( أَمَّا ) صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ ، وَالْقَطْعَ هَلْ يَجْتَمِعَانِ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ ، أَوْ قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَيُقْطَعُ ، وَيَضْمَنُ مَا اسْتَهْلَكَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ ؛ فَيَجِبَانِ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّرِقَةُ ، وَإِنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حَقَّيْنِ : حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ .
( أَمَّا ) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَهَتْكُ حُرْمَةِ حِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - .
( وَأَمَّا ) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ فَبِإِتْلَافِ مَالِهِ ، فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقَّيْنِ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ

اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَضَمَانُ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ ، كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ ، وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ ، كَذَا هَذَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ .
( وَلَنَا ) الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْمَعْقُولُ : أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّى الْقَطْعَ جَزَاءً ، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ - عَنْ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ ذَكَرَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ ؛ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ } ، وَالْغُرْمُ فِي اللُّغَةِ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِنَاءٌ ، وَالْآخَرُ ابْتِدَاءٌ ( أَمَّا ) وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ : أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، أَوْ اخْتِيَارِهِ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ ضَمَّنَّا السَّارِقَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ ، أَوْ مِثْلَهُ لَمَلَكَ الْمَسْرُوقَ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قُطِعَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
(

وَأَمَّا ) ، وَجْهُ الِابْتِدَاءِ فَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ : أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ حَقًّا لِلْمَالِكِ ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانَات ، وَالْمَضْمُونُ حَالَةَ السَّرِقَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ بِدَلَالَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَلَوْ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لَمَا وَجَبَ ، إذْ الثَّابِتُ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ ، وَحَاجَةُ السَّارِقِ كَحَاجَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ .
وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ حَالَ قِيَامِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ لَا عَلَى الْعِصْمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَمْرَ الْمُسْلِمِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ ؛ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا ، وَلَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْمَحِلّ ، وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَالْعِصْمَةُ زَائِلَةٌ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَضْمَنُ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَقَبْضُ السَّارِقِ لَيْسَ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ ، فَكَانَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحِلِّ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْمَالِكِ قَدْ سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ إيجَابِ الْقَطْعِ ، فَلَا يَعُودُ إلَّا

بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا قَبْلَهُ ؛ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا ، وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ ؛ رَجُلٌ آخَرُ يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ؛ فَيَضْمَنُ ، وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ ، قَدْ زَالَ الْمَانِعُ .
وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ مِنْ إنْسَانٍ ، أَوْ مَلَكَهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ ، وَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى السَّارِقِ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمَسْرُوقِ لَا بِقِيمَتِهِ لِيُوجِبَ ذَلِكَ مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ ، وَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، أَمَّا السَّارِقُ ؛ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ .
( وَأَمَّا ) الْمُشْتَرِي ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَالِكَ ضَمِنَ السَّارِقَ ، وَقَطْعُهُ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَيْسَ بِتَضْمِينٍ وَلَوْ اغْتَصَبَهُ إنْسَانٌ مِنْ السَّارِقِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا ضَمَانَ لِلسَّارِقِ ، وَلَا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، ( أَمَّا ) السَّارِقُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ .
( وَأَمَّا ) الْمَالِكُ ؛ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لَهُ حَقًّا قَدْ بَطَلَتْ ، قَالَ الْقُدُورِيُّ : وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ الْغَاصِبَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ فِي الدَّارِ خَرْقًا

فَاحِشًا ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الْخَرْقَ الْفَاحِشَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَطْعَ ، وَإِنْ خَرَقَهُ عَرْضًا ؛ فَقَدْ مَرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّدَاخُلُ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَرَفَعَ فِيهَا كُلِّهَا فَقُطِعَ ، أَوْ رَفَعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَ فِيمَا رَفَعَ فَالْقَطْعُ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا ، وَلَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ - وَأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ - يُكْتَفَى فِيهَا بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الزِّنَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ ، وَالرَّدْعُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ ، فَكَانَ فِي إقَامَةِ الثَّانِي .
وَالثَّالِثِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فَلَا يُقَامُ ؛ وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِي بَابِ الزِّنَا بِالْإِقَامَةِ لِأَوَّلِ حَدٍّ كَذَا هَذَا ، وَلِأَنَّ مَحِلَّ الْإِقَامَةِ قَدْ فَاتَ ، إذْ مَحِلُّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ وُجِدَتْ مَا أَوْجَبَتْ إلَّا قَطْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى ، فَإِذَا قُطِعَتْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَقَدْ فَاتَ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ .
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَصْحَابُ السَّرِقَاتِ ، وَخَاصَمُوا فِيهَا فَقُطِعَ بِمُخَاصَمَتِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِالْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا خَاصَمُوا جَمِيعًا فَكَأَنَّهُمْ أَبْرَءُوا .
وَأَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاحِدٌ فِي سَرِقَةٍ فَقُطِعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا خُوصِمَ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَأَمَّا فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّرِقَاتِ خَاصَمُوا ، أَوْ لَمْ يُخَاصِمُوا " ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " يَضْمَنُ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا إلَّا فِيمَا خُوصِمَ " .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَ لِيَسْتَوْفِيَ

حَقَّهُ ، وَهُوَ الضَّمَانُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ لِيَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَهُوَ الْقَطْعُ ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ ، فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ مَبْنِيًّا عَلَى دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا ، فَمَنْ خَاصَمَ مِنْهُمْ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ ، وَمَنْ لَمْ يُخَاصِمْ ؛ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمُسْقِطُ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الضَّمَانِ كَمَا كَانَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ النَّافِيَ لِلضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ ، وَالْقَطْعُ وَقَعَ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا فَيَنْفِي الضَّمَانَ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ هَالِكًا ، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ كُلُّ مَسْرُوقٍ إلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ لَا الرَّدَّ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَطْعِ السَّارِقِ فَعَفَا عَنْهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَفْوِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَقًّا لِلْعَافِي ، وَالْقَطْعُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ أَصْلِ الْمَحِلِّ ، وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ مَوْضِعِ إقَامَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الْمَحِلِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا طَرَفَانِ فَقَطْ ، وَهُمَا : الْيَدُ الْيُمْنَى ، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى ، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَا يُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ ، وَيُعَزَّرُ ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الْأَطْرَافُ الْأَرْبَعَةُ مَحِلُّ الْقَطْعِ عَلَى التَّرْتِيبِ : فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَتَقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الرَّابِعَة ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، وَالْأَيْدِي اسْمُ جَمْعٍ ، وَالِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَطْعِ الْأَيْدِي ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ .
وَهَذَا لَا يُخْرِجُ الْيَدَ الْيُسْرَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَرُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقَ حُلِيِّ أَسْمَاءَ ، وَكَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَالَ : لَا أَقْطَعُهُ إنْ قَطَعْت يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ ،

وَإِنْ قَطَعْت رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ فَضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ ، وَحَبَسَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ نِعَالًا يُقَالُ لَهُ سَدُومُ ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ فَقَالَ لَهُ - سَيِّدُنَا - عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ فَحَبَسَهُ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَزِيدَا فِي الْقَطْعِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى ، وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( وَلَنَا ) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ ، وَالْمَعْقُولِ ، أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً لَا يُعْدَلُ إلَى الْيَدِ الْيُسْرَى ، بَلْ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى ، وَلَوْ كَانَ لِلْيَدِ الْيُسْرَى مَدْخَلًا فِي الْقَطْعِ لَكَانَ لَا يُعْدَلُ إلَّا إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ الْعُدُولُ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى لَا إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ أَصْلًا .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ النَّفْسِ أَصْلًا ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُمْنَى فَتَصِيرُ النَّفْسُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ هَالِكَةً ، فَكَانَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَا قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ

الْيُمْنَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَصْلُحُ حَدًّا فِي السَّرِقَةِ ، كَذَا إهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحُدُودِ احْتِيَاطًا ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا " ، وَلَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ .
بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِمُبْهَمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَنَّهُ قَالَ أَيْمَانَهُمَا ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ - سَيِّدُنَا - أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ ، ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى .
وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى ، فَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً ، أَوْ شَلَّاءَ ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ ، أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا ؛ فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ ، وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ

الْيُسْرَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُهْلِكُ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ .
وَكَذَا إنْ كَانَتْ الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً ، أَوْ شَلَّاءَ ، أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ الشِّقِّ ، وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ ، وَالْمَشْيَ عَلَيْهَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ ، وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ ، أَوْ شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوْ الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ ، وَلَا فِيهِ فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا .
وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ ، أَوْ الْأَصَابِعِ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَيْ : أَيْمَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ يَمِينٍ ، وَيَمِينٍ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ إصْبَعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى ، وَلَمْ يُجْعَلْ فَوَاتُ إصْبَعَيْنِ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا .
( وَجْهُ ) الْفَرْقِ : أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ النُّقْصَانِ يُورِثُ شُبْهَةً ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ

الْيُسْرَى فَهَذَا عَلَى ، وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ : اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ : لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ ، وَقَدْ قَطَعَ الْيَدَ ، وَإِنْ قَيَّدَ فَقَالَ : اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ ، وَقَالَ هَذَا هُوَ يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ ، وَالْيَسَارِ ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ ، وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ ، وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ ، فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَإِنَّمَا

قُلْنَا : إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ لَهُ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالْيُمْنَى خَيْرٌ مِنْ الْيُسْرَى ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَطْعُ - وَهُوَ قَطْعُ الْيُسْرَى - قَطْعًا مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّارِقِ ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى يَضْمَنَ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَكُونُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ مِنْ ، وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيُرَدُّ عَلَيْهِ الْمَسْرُوقُ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ وَقَدْ سَقَطَ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ حَتَّى قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا ، وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ ، وَلَا يَمِينَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، إلَّا أَنَّا هَهُنَا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْيَمِينِ وَقَدْ فَاتَتْ ؛ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ ؛ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَكَانَ قَطْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ

الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ السَّرِقَةِ فِي يَدِهِ ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ .
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ ، وَقَالَ الْخَوَارِجُ : تُقْطَعُ مِنْ الْمَنْكِبِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ } ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَقَالَ : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ وَالْمُتَوَلِّي لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أَوْ مَنْ وَلَّوْهُمْ مِنْ الْقُضَاةِ ، وَالْحُكَّامِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ : مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي ، وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ : شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ ؛ فَسَقَطَ الْقَطْعُ ، وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا : الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ ، أَوْ قَالَ : هَذَا لِي دُرِئَ الْقَطْعُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّرِقَةِ .
ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الشَّرِيكِ ؛ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ، وَقَالَ كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ ، وَهَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ : إنَّهُ يُحَدُّ الرَّجُلُ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا عَدَمُهُ مِنْ جَانِبِهِ ، كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ ، أَوْ مَجْنُونَةٍ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى

وَجْهِ الشَّرِكَةِ ، فَعَدَمُ السَّرِقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي السَّرِقَةِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فِعْلُ السَّرِقَةِ ، وَعَدَمُ الْفِعْلِ مِنْهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ ، بِخِلَافِ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ ، وَهِيَ تَجْحَدُ ؛ إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُودُ مِنْ الرَّجُلِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ عِنْدَهُمَا ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ السَّرِقَةَ حِينَ وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ ؛ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا ، وَقَدْ وُجِدَتْ .

( وَمِنْهَا ) مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَحْوُ مَا إذَا وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَهَبَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَإِمَّا أَنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَسْقُطُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ { : أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } فَدَلَّ أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُسْقِطُ ، وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ .
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وَقَدْ تَمَّتْ السَّرِقَةُ ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا كَمَا كَانَ ، كَمَا لَوْ رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْخُصُومَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْهِبَةِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ مِنْ ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلسَّارِقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ

إمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقْضَ ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُقْضَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لَمْ يَمْضِ .
وَلِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ ؛ إذَا كَانَ فِي الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ ، وَهَهُنَا فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ " هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ " ، وَقَوْلُهُ " هُوَ " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ ، وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ : وَهَبْت الْقَطْعَ ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالْمَسْرُوقِ ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فِي الزِّنَا ؛ فَيُحَدُّ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ وَغَيْرُهَا ، فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ فِي ضَمَانِ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي يَدِ السَّارِقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَإِمَّا أَنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ ، وَقَطَعَ السَّارِقَ فِيهِ } ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ .
وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ ، فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ؛ لِمَا مَرَّ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فِي يَدَيْ الْقَابِضِ ، وَكَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَطْعِ ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا عَلَى السَّارِقِ ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ ، فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ ، وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ ، وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ ، وَيَرُدُّ الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ ، وَإِنْ أَحْدَثَ

حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ ، يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ قِيمَتَهُ ، وَهَهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْقَطْعُ ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا ؛ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ : أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ إذْ الْغَصْبُ ، وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي الضَّمَانِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ ، وَالسَّرِقَةِ هَهُنَا وَهُوَ : أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إنَّمَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ ، وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ ، وَهَهُنَا حَقُّ السَّارِقِ فِي الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي أَصْلِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ

أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَاعْتُبِرَ حَقُّ السَّارِقِ ، وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ ، وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ لَهُ مَجَّانًا ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذَا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ ، وَتَضْمِينُهُ فِي الْحُكْمِ ، وَالْقَضَاءِ ، فَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الضَّمَانِ ؛ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ إنْسَانٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ ، وَالضَّمَانُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ .
وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ، ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِنَا ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ، وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا بَطَلَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ، وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ ، بِخِلَافِ الْبَاغِي ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ

، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّهِ ، فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } ، بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ فِي الْحُكْمِ ، وَالْقَضَاءِ لَا فِي الْفَتْوَى ، وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي ، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ ، وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ ، وَالْقَضَاءَ ، فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَيُقْضَى بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَنَّهُ يُقْطَعُ ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ الدَّرَاهِمِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ ، وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا ، أَوْ صُفْرًا ، أَوْ نُحَاسًا ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بَعْدَ الصِّنَاعَةِ ، وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ - كَمَا فِي الْغَصْبِ - وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ، وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ، وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ .

( كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ قَطْعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ( فَصْلٌ ) : أَمَّا رُكْنَهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ الْمَارَّةُ عَنْ الْمُرُورِ ، وَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ ، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَا وَالْحَجَرِ ، وَالْخَشَبِ ، وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِمُبَاشَرَةِ الْكُلِّ ، أَوْ التَّسْبِيبِ مِنْ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ ، وَالْأَخْذِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَعْنِي : الْمُبَاشَرَةَ مِنْ الْبَعْضِ ، وَالْإِعَانَةَ مِنْ الْبَعْضِ بِالتَّسْمِيرِ لِلدَّفْعِ ، فَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ ؛ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَانْسِدَادِ حُكْمِهِ ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي السَّرِقَةِ كَذَا هَهُنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ خَاصَّةً ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ لَهُ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فِيهِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا ، أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ كَانَ الصَّبِيُّ هُوَ الَّذِي يَلِي الْقَطْعَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ ؛ حَدَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ ، قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ .
( وَمِنْهَا ) الذُّكُورَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي الْقُطَّاعِ امْرَأَةٌ فَوُلِّيَتْ الْقِتَالَ ، وَأَخْذَ الْمَالِ دُونَ الرِّجَالِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ : النِّسَاءُ ، وَالرِّجَالُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْله تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهَا ، وَعَلَى الرِّجَالِ .
( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ : أَنَّ هَذَا حَدٌّ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِ الذَّكَرُ ، وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنْ كَانَ هُوَ الْقَطْعُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ ، وَالْأُنُوثَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ كَحَدِّ السَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ كَحَدِّ الزِّنَا ، وَهُوَ الرَّجْمُ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ : أَنَّ رُكْنَ الْقَطْعِ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ ، وَالْمُغَالَبَةِ

لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ ، وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ ، فَلَا يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ الْحِرَابِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ ، وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ ، وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَا أَسْبَابُ سَائِرِ الْحُدُودِ تَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الرِّجَالِ .
( وَأَمَّا ) الرِّجَالُ الَّذِينَ مَعَهَا فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - سَوَاءٌ بَاشَرُوا مَعَهَا ، أَوْ لَمْ يُبَاشِرُوا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الصَّبِيِّ ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قَالَ : إذَا بَاشَرَ الصَّبِيُّ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ مِنْ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ ، وَإِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ تُحَدُّ الرِّجَالُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ : لَهُ أَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَعَلَّقُ سَائِرُ الْحُدُودِ بِفِعْلِهَا ، بَلْ لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ مِنْهَا أَوْ نُقْصَانِهَا عَادَةً ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، وَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْحُدُودِ فَإِذَا انْتَفَى الْوُجُوبُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَصْلٌ امْتَنَعَ التَّبَعُ ضَرُورَةً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ شَيْءٌ ، وَاحِدٌ ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ ، وَقَدْ حَصَلَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ أَصْلًا كَمَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛

وَلِأَنَّ الرُّكْنَ ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَبْدِ حَسْبَ تَحَقُّقِهِ مِنْ الْحُرِّ ؛ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ كَمَا يَلْزَمُ الْحُرَّ ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لَا حَدَّ عَلَى الْقَاطِعِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مُطْلَقًا ، بَلْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ الْأَمَانِ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، فَكَانَ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ بِالْقَطْعِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَفَادَ لَهُ عِصْمَةَ مَالِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِأَخْذِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهِ وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً بِأَنْ كَانَتْ يَدَ مِلْكٍ ، أَوْ يَدَ أَمَانَةٍ ، أَوْ يَدَ ضَمَانٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً كَيَدِ السَّارِقِ لَا حَدَّ عَلَى الْقَاطِعِ كَمَا لَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَوَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَبَسُّطًا فِي الْمَالِ ، وَالْحِرْزِ ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ عَادَةً فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ الْحِرْزُ الْمَبْنِيُّ فِي الْحَضَرِ ، وَلَا السُّلْطَانُ الْجَارِي فِي السَّفَرِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الْأَجَانِبِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ ، وَكَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ : جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْقُطَّاعِ مَنْ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالٌ مُفَرَّزٌ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ لَهُ فَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدٍ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَلَا تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ ، وَلَا تُهْمَةُ التَّنَاوُلِ مَمْلُوكًا لَا مِلْكَ فِيهِ لِلْقَاطِعِ ، وَلَا تَأْوِيلَ الْمِلْكِ ، وَلَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ مُحَرَّزًا مُطْلَقًا بِالْحَافِظِ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ نِصَابًا كَامِلًا : عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، أَوْ مُقَدَّرًا بِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُطَّاعِ عَشَرَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، قَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي تُخَرَّجُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَشَرَطَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي نِصَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ زِيَادٍ : إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا ، وَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ : أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشَرَةٍ ، وَالْوَاجِبُ فِيهَا قَطْعُ طَرَفِ الْوَاحِدِ ، وَهَهُنَا يُقْطَعُ طَرَفَانِ فَيُشْتَرَطُ نِصَابَانِ ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا قُتِلُوا ، فَإِذَا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ ، وَإِنْ قَلَّ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا .
( وَلَنَا ) الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ ، وَالْقَتْلُ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فِي نَفْسِهَا فَيُجَازَى بِعُقُوبَةٍ مُتَكَامِلَةٍ ، وَهِيَ الْقَتْلُ ، وَلَمَّا أَخَذُوا الْمَالَ ، وَقَتَلُوا دَلَّ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْمَالُ ، وَإِنَّمَا قَتَلُوا لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً إلَّا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ نِصَابًا كَمَا فِي السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فِيهِ ، وَهُوَ الْمَكَانُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَايَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالسَّبَبُ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ ؛ لِعَدَمِ الْوَلَايَةِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي سَائِرَ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ أَسْبَابَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَإِنْ كَانَ فِي مِصْرٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ نَهَارًا ، أَوْ لَيْلًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِسِلَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فَيَجِبُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِانْقِطَاعِ ، وَالطَّرِيقُ لَا يَنْقَطِعُ فِي الْأَمْصَارِ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى ؛ لِأَنَّ الْمَارَّةَ لَا تَمْتَنِعُ عَنْ الْمُرُورِ عَادَةً فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ ، وَقِيلَ : إنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَلَى مَا شَاهَدَهُ فِي زَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ فَالْقُطَّاعُ مَا كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُغَالَبَتِهِمْ فِي الْمِصْرِ ، وَالْآنَ تَرَكَ النَّاسُ هَذِهِ الْعَادَةَ ؛ فَتُمْكِنُهُمْ الْمُغَالَبَةُ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْحِيرَةِ ، وَالْكُوفَةِ : إنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ كَانَ يَلْحَقُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي زَمَانِهِ ؛ لِاتِّصَالِهِ بِالْمِصْرِ ، وَالْآنَ صَارَ مُلْتَحِقًا بِالْبَرِّيَّةِ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ ؛ فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ .

وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَكُونُونَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ ، وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّا فَيَجِبُ الْحَدُّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْمِصْرِ إنْ قَاتَلُوا نَهَارًا بِسِلَاحٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، وَإِنْ خَرَجُوا بِخَشَبٍ لَهُمْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ ، وَالْخَشَبُ يَلْبَثُ فَالْغَوْثُ يَلْحَقُ ، وَإِنْ قَاتَلُوا لَيْلًا بِسِلَاحٍ ، أَوْ بِخَشَبٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ قَلَّمَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ ؛ فَيَسْتَوِي فِيهِ السِّلَاحُ ، وَغَيْرُهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَوْ أَشْهَرَ عَلَى رَجُلٍ سِلَاحًا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ ، أَوْ فِي مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شُهِرَ عَلَيْهِ عَصًا لَيْلًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ ، أَوْ فِي مِصْرٍ ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فِي مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ يُقْتَلْ بِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ لَا يَنْهَدِرُ دَمُهُ ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ الْقَتْلِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَتْلِ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ ، فَإِنْ شَهَرَ عَلَيْهِ سَيْفَهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَّا بِالْقَتْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ النَّاسَ لَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ إذْ السِّلَاحُ لَا يَلْبَثُ ، فَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ ؛ فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مُبَاحَ الدَّمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا أَشْهَرَ عَلَيْهِ الْعَصَا لَيْلًا ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ عَادَةً سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ ، أَوْ فِي الْمِصْرِ ، وَإِنْ أَشْهَرَ عَلَيْهِ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ يُبَاحُ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغَاثَةُ فَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُ إلَّا بِالْقَتْلِ ؛ فَيُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ قَتْلُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ إذْ لَوْ لَمْ يُبَحْ لَقَتَلَهُ الْقَاصِدُ .
وَإِذَا قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ، فَكَانَ فِيهِ إتْلَافُ نَفْسَيْنِ ، فَإِذَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَانَ فِيهِ إتْلَافُ أَحَدِهِمَا ، فَكَانَ أَهْوَنَ وَلَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَكَانَ لَا

يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاصِدَ فَإِنْ قَتَلَهُ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْكِ الْإِبَاحَةِ هَهُنَا إتْلَافُ نَفْسٍ فَلَا يُبَاحُ ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومَ الدَّمِ عَلَى الْأَبَدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي : فَاَلَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَلَا يَظْهَرُ بِعِلْمِ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ : أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ : أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَلَنْ يُمْكِنَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : قَطْعُ الطَّرِيقِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : .
إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَخْذِ الْمَالَ لَا غَيْرُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ ، وَلَا قَتْلٍ ، فَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَمَنْ قَتَلَ ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ ، وَقَتَلَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ ، وَرِجْلَهُ ، ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقِطْهُ ، وَقَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ ، وَقِيلَ : إنَّ تَفْسِيرَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ : أَنْ يَقْطَعَهُ الْإِمَامُ ، وَلَا يَحْسِمُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ ، بَلْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْتَلُ ، وَلَا يُقْطَعُ ، وَمَنْ أَخَافَ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا ، وَلَا قَتَلَ نَفْسًا يُنْفَى ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَاطِعِ الطَّرِيق : مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ

تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } احْتَجَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ فِيهَا بِحَرْفِ ، أَوْ ، وَأَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ؛ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْحَرْفِ إلَّا حَيْثُ قَامَ الدَّلِيلُ ، بِخِلَافِهَا .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ ، وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ، وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } فَالتَّخْيِيرُ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِالْجَزَاءِ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقُطَّاعَ لَوْ أَخَذُوا الْمَالَ ، وَقَتَلُوا لَا يُجَازُونَ بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ .
وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعِ دَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، أَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَلِفًا فَيُخَرَّجُ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ ، بَلْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ فِي نَفْسِهِ ؛ لِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَتَأْوِيلُهُ إمَّا أَنْ تُعَذِّبَ مَنْ ظَلَمَ أَوْ تَتَّخِذَ الْحُسْنَ فِيمَنْ آمَنَ ، وَعَمِلَ

صَالِحًا .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } الْآيَةُ { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } الْآيَةُ ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ قَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ لَا غَيْرُ ، فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفًا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّخْيِيرِ ، بَلْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلِّ نَوْعٍ ، أَوْ يُحْتَمَلُ هَذَا ، وَيُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْتُمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ إلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَيُضْمَرَ فِي كُلِّ حُكْمٍ مَذْكُورٍ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } إنْ أَخَذُوا الْمَالَ ، وَقَتَلُوا { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } إنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } إنْ أَخَافُوا هَكَذَا { ذَكَرَ - سَيِّدُنَا - جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ أَبُو بُرْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَصْحَابِهِ الطَّرِيقَ عَلَى أُنَاسٍ جَاءُوا يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ قُتِلَ ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ ، وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الشِّرْكِ } ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ ، وَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ ، لَكِنْ فِي مُحَارِبٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ ، وَقَتَلَ ، فَكَانَ الْعَمَلُ

بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } فَالْمُحَارَبَةُ هِيَ الْقَتْلُ ، وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فَأَوْجَبَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَحَدَ الْأَجْزِيَةِ مِنْ الْفِعْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَ ، وَفِيهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ ، وَعَمَلٌ بِحَقِيقَةِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَهُوَ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - مِنْ الْمُحَارَبَةِ ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ، إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ الْحَسَنُ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَخَذَا بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ التَّرْتِيبِ فِي الْمُحَارِبِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ ، وَقِيلَ : إنَّهُ يُقْتَلُ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ - سَيِّدَنَا - جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا مَرَّ ، وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَذَا النَّصِّ ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ ، وَالْقَتْلَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ جِنَايَةُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَا يُقَابَلُ إلَّا بِعُقُوبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْقَتْلُ ، وَالْقَطْعُ عُقُوبَتَانِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا جِنَايَتَيْنِ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَالسَّارِقِ إذَا زَنَى ، وَهُوَ مُحْصَنٌ .
وَكَمَنْ زَنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ ثُمَّ أُحْصِنَ فَزَنَى : أَنَّهُ لَا يُرْجَمُ لَا غَيْرُ كَذَا هَهُنَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَةِ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ وَهُوَ التَّكْفِيرُ يَحْصُلُ

بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ فَلَا يُفِيدُ الْقَطْعُ ، فَلَا يُشْرَعُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ ، وَالْقَتْلِ ، وَهُوَ أَحَقُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْآيَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ ، وَبِحَقِيقَةِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا حُكْمَ أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ ، وَحُكْمَ الْقَتْلِ وَحْدَهُ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَلَكِنْ بِحَدِيثِ - سَيِّدِنَا - جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ .
وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَطْعَيْنِ ؛ يَجِبُ الْقَبُولُ بِإِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالتَّرْتِيبِ فَيُوجِبُ الصَّلْبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَالْقَطْعَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَامَ دَلِيلُ إسْقَاطِ الْأَخَفِّ ، وَلَمْ يَقُمْ هَهُنَا ، بَلْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الْبَابِ عَلَى التَّغْلِيظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ فِي أَخْذِ الْمَالِ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي أَخْذِ الْمَالِ فِي الْمِصْرِ ، وَكَذَلِكَ يُصْلَبُ فِي الْقَتْلِ وَحْدَهُ هَهُنَا ، وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُصْلَبَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْقَتْلِ فِي الْمِصْرِ فَكَذَا جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ النَّوْعَيْنِ هَهُنَا دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلْبِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا ، ثُمَّ يُطْعَنُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ ، ثُمَّ يُصْلَبُ ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلْبَ حَيًّا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ ، قَدْ { نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْمُثْلَةِ } ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَ لِزِيَادَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ تَغْلِيظًا ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : يُصْلَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : تُقْطَعُ يَدُهُ ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ فَكَذَا هَذَا .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُثْلَةِ فِي الْحَدِيثِ قَطْعُ بَعْضِ الْجَوَارِحِ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ : إذَا صَلَبَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ يَتَغَيَّرُ ؛ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ النَّاسُ .
وَأَمَّا النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ ، وَمَعْنَاهُ : وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ ، وَالصَّلْبِ إذًا هُوَ النَّفْيُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ ، وَقِيلَ : إنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ ، وَالنَّفْيِ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي التَّخْيِيرِ ؛ لِأَنَّ بِالْقَتْلِ ، وَالصَّلْبِ يَحْصُلُ النَّفْيُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ النَّفْيُ مُشَارِكًا الْأَجْزِيَةَ الثَّلَاثَةَ فِي التَّخْيِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ الْقَتْلَ ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ ، وَقِيلَ : نَفْيُهُ أَنْ يُطْرَدَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ

قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أَنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنَّهُ يُطْلَبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ ، وَالْقَوْلَانِ لَا يَصِحَّانِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ طُلِبَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قَطَعَ الطَّرِيقَ ، وَنُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ أَلْقَى ضَرَرَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ، وَإِنْ طُلِبَ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَنُفِيَ عَنْهُ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الْكُفْرِ ، وَجَعْلُهُ حَرْبًا لَنَا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَعَنْ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ، وَفِيهِ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ إلَّا عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عُرْفِ النَّاسِ يُسَمَّى نَفْيًا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَخُرُوجًا عَنْ الدُّنْيَا كَمَا أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْمَحْبُوسِينَ خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلهَا فَلَسْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَالْجِرَاحَاتِ عَمْدًا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ ، أَوْ خَطَأً ، أَمَّا الْمَالُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ ، وَالضَّمَانِ عِنْدَنَا .
وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ إذَا كَانَتْ خَطَأً ؛ فَلِأَنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا ؛ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ فَكَذَا ضَمَانُ الْجِرَاحَاتِ ، قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْمَسَائِلِ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّدَاخُلُ حَتَّى لَوْ قَطَعَ قِطْعَاتٍ فَرُفِعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ ، وَرِجْلُهُ فِيمَا رُفِعَ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْقِطْعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ التَّدَاخُلَ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ مَعَ بَقَاءِ مَحِلِّ الْقَطْعِ ، وَهُوَ الرِّجْلُ الْيُسْرَى ، وَهَهُنَا التَّدَاخُلُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ .
وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ مَا هُوَ الْكَلَامُ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا يَرُدُّهُ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْعَفْوُ ، وَالْإِسْقَاطُ ، وَالْإِبْرَاءُ ، وَالصُّلْحُ عَنْهُ فَكُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ مِنْ قَتْلٍ ، أَوْ قَطْعٍ ، أَوْ صَلْبٍ يُسْتَوْفَى مِنْهُ ، سَوَاءٌ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ عَنْ ذَلِكَ ، أَوْ لَمْ يَعْفُو أَوْ سَوَاءٌ أَبْرَءُوا مِنْهُ ، أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ تَرْكُهُ ، وَإِسْقَاطُهُ ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَدٌّ ، وَالْحُدُودُ حُقُوقُ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا الْعَبْدُ ، وَلَا صُلْحُهُ ، وَلَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَنَقُولُ : مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ قَتَلَ ، أَوْ أَخَذَ الْمَالَ ، وَقَتَلَ ، أَوْ الْحَبْسُ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ ، وَلَكِنَّهُ خَوَّفَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ النَّفْسُ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَطْعُ بِأَنْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ الْيَدُ الْيُمْنَى ، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى ؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى ، وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ فِعْلِ الْحَدَّادِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى مَكَانَ الْيُمْنَى مُتَعَمِّدًا ، أَوْ مُخْطِئًا ، وَحُكْمُ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى خَطَأً أَوْ عَمْدًا هَهُنَا مِثْلُ الْحُكْمِ فِي السَّرِقَة ، قَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَكَذَا مَحِلُّ الْقَطْعِ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى هُوَ الْمَفْصِلُ كَمَا فِي السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمَ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ ، لَيْسَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ ، بَلْ يُقِيمُهُ الْإِمَامُ طَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْإِقَامَةِ ، أَوْ لَمْ يُطَالِبُوا ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةِ الْإِمَامِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ هَذَا الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَشْيَاءُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ : ( مِنْهَا ) تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الْقَاطِعَ فِي إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ .
( وَمِنْهَا ) رُجُوعُ الْقَاطِعِ عَنْ إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ .
( وَمِنْهَا ) تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ .
( وَمِنْهَا ) مِلْكُ الْقَاطِعِ الْمَقْطُوعَ لَهُ ، وَهُوَ الْمَالُ قَبْلَ التَّرَافُعِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ .
( وَمِنْهَا ) تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ : رَجَعُوا عَمَّا فَعَلُوا فَنَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ أَصْلًا ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ حَدًّا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَالَ ، وَقَتَلَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِيَقْتُلُوهُ قِصَاصًا إنْ كَانَ الْقَتْلُ بِسِلَاحٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ عَنْ طَوْعٍ ، وَاخْتِيَارٍ ، وَيُظْهِرَ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَبْسُ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوْبَةِ ، وَقَدْ تَابَ فَلَا مَعْنًى لِلْحَبْسِ ، وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ الصُّغْرَى ، إذَا تَابَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ ، وَرَدَّ الْمَالَ إلَى

صَاحِبِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْجِنَايَةِ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ ، وَالْخُصُومَةُ تَنْتَهِي بِالتَّوْبَةِ ، وَالتَّوْبَةُ تَمَامُهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ ، فَإِذَا وَصَلَ الْمَالُ إلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ مَعَ السَّارِقِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فَإِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ كَانَتْ شَرْطًا لَكِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّوْبَةِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِالْبَصْرَةِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ زَيْدٍ حَارَبَ اللَّهَ ، وَرَسُولَهُ ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فَكَتَبَ إلَيْهِ - سَيِّدُنَا - عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَارِثَةَ قَدْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ فَلَا تَتَعَرَّضْ لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ هَذَا إذَا تَابَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إذَا تَابَ بَعْدَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَخَذَ ، ثُمَّ تَابَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ السَّرِقَةِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِرَدِّ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَبَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ رَدُّ الْمَالِ ، بَلْ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا مِنْهُ جَبْرًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ فَهُوَ بَعْدَ الْأَخْذِ مُتَّهَمٌ فِي إظْهَارِ التَّوْبَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ سُقُوطِ الْحَدِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَحُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ فَنَقُولُ : - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ رَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا ، أَوْ مُسْتَهْلَكًا ؛ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ ، وَإِنْ كَانُوا قَتَلُوا لَا غَيْرُ يُدْفَعُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِيَقْتُلُوهُ ، أَوْ يَعْفُوا عَنْهُ ، وَمَنْ قَتَلَ بِعَصًا ، أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ، وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ ، وَقَتَلُوا فَحُكْمُ أَخْذِ الْمَالِ ، وَالْقَتْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ صَارَ حُكْمُ الْقَتْلِ ، وَأَخْذُ الْمَالِ ، وَهَلَاكُهُ ، وَاسْتِهْلَاكُهُ مَا هُوَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ مَا قُلْنَا .
وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ ، وَجَرَحُوا ، أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ ، وَقَتَلُوا ، وَجَرَحُوا قَوْمًا ، أَوْ جَرَحُوا قَوْمًا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَخْذٌ ، وَلَا قَتْلٌ فَحُكْمُ الْقَتْلِ ، وَالْمَالِ مَا ذَكَرْنَا ، وَالْجِرَاحَاتُ فِيهَا الْقِصَاصُ فِيمَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقِصَاصِ ، وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ صَارَ كَأَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قَتْلٌ ، وَلَا أَخْذُ مَالٍ قَدْ أَخَافُوا قَوْمًا بِجِرَاحَاتٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الِاقْتِصَاصُ ، وَالدِّيَةُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ فَيُودَعُونَ السِّجْنَ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا .
وَالتَّعْزِيرُ لَا تَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، قَدْ قَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ جَمَعُوا

بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْحَدُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَالْقِصَاصِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمَا .
( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ السُّقُوطُ بِتَكْذِيبِ الْحُجَّةِ مِنْ الْإِقْرَارِ ، أَوْ الْبَيِّنَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَصْلًا ، وَرَأْسًا ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ دَرْءًا لِلْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَالْقِصَاصِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ بِأَنْ فَاتَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَدِّ نَحْوَ نُقْصَانِ النِّصَابِ بِأَنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا .
وَيَضْمَنُونَ إنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ بِسِلَاحٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ، وَمَنْ جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ فَقَدْ حَصَلَ الْأَخْذُ ، وَالْقَتْلُ ، وَالْجِرَاحَةُ مِنْ غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَحُكْمُهَا فِي غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يُدْفَعُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ قَتَلَ مِنْهُمْ بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ ، أَوْ يَعْفُونَ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ قَتَلَ بِسِلَاحٍ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ ، وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ

أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ عَمْدُهُمَا خَطَأً ، وَإِنْ كَانَا أَخَذَا الْمَالَ ضَمِنَا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقُطَّاعِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي رَجَعُوا فِي ذَلِكَ إلَى حُكْمِ غَيْرِ الْقُطَّاعِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ أَيْنَمَا وَجَدَهُ سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُحَارِبِ ، أَوْ فِي يَدِ مَنْ مَلَّكَهُ الْمُحَارِبُ بِبَيْعٍ ، أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَالُ إلَى الزِّيَادَةِ ، أَوْ النُّقْصَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ السِّيَرِ ) وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْجِهَادِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ مَعْنَى السِّيَرِ ، وَالْجِهَادِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ ، أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ تَرْكُهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَمَا لَا يُكْرَهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْغُزَاةِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ ، وَالسِّيرَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : الطَّرِيقَةُ ، يُقَالُ : هُمَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالثَّانِي : الْهَيْئَةُ ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أَيْ هَيْئَتَهَا فَاحْتَمَلَ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابَ السِّيَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ الْغُزَاةِ وَهَيْئَاتِهِمْ مِمَّا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْجِهَادُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ ، أَوْ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْجَهْدِ بِالْفَتْحِ ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُسْتَعْمَلُ فِي بَذْلِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، أَوْ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ ، فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إمَّا إنْ كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا ( وَإِمَّا ) إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمَعْنَاهُ : أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ ، لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَعَدَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمَا وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } الْآيَةَ وَلِأَنَّ مَا فُرِضَ لَهُ الْجِهَادُ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكَفَرَةِ وَقَهْرِهِمْ ، يَحْصُلُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ .
وَكَذَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا ، وَلَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَكَانَ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْقُعُودُ عَنْهُ فِي حَالٍ ، وَلَا أَذِنَ غَيْرَهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ بِحَالٍ ، وَإِذَا كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَلِّيَ ثَغْرًا مِنْ الثُّغُورِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْغُزَاةِ فِيهِمْ غِنًى وَكِفَايَةٌ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ ، فَإِذَا قَامُوا بِهِ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ ضَعُفَ أَهْلُ ثَغْرٍ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكَفَرَةِ ، وَخِيفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ فَعَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَنْ يَنْفِرُوا إلَيْهِمْ ، وَأَنْ يَمُدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ ، وَالْكُرَاعِ ، وَالْمَالِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ ، لَكِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ

عَنْهُمْ بِحُصُولِ الْكِفَايَةِ بِالْبَعْضِ ، فَمَا لَمْ يَحْصُلْ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُبَاحُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى ، وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ .
كُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَكَذَا الْوَلَدُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الْآخَرُ مَيِّتًا ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلَاكُ ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ لَا يَحِلُّ لَلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ ، وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا إذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا ؛ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ رَخَّصَ فِي سَفَرِ التَّعَلُّمِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ ، فَلَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا ، فَأَمَّا إذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ ، فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } قِيلَ : نَزَلَتْ فِي النَّفِيرِ .
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ قَبْلَ عُمُومِ النَّفِيرِ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ عَنْ الْبَاقِينَ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ ، فَإِذَا عَمَّ النَّفِيرُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِالْكُلِّ ، فَبَقِيَ فَرْضًا عَلَى الْكُلِّ عَيْنًا بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ، وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا ؛

لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ عَيْنًا مُسْتَثْنَاةً عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ شَرْعًا ، كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَكَذَا يُبَاحُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَظْهَرُ فِي فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ لَا جِهَادَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْجُهْدِ ، وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ بِالْقِتَالِ ، أَوْ الْمُبَالَغَةُ فِي عَمَلِ الْقِتَالِ ، وَمَنْ لَا وُسْعَ لَهُ كَيْفَ يَبْذُلُ الْوُسْعَ وَالْعَمَلَ ، فَلَا يُفْرَضُ عَلَى الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ ، وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ ، وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ ، وَالْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ ، وَاَلَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } الْآيَةَ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ عَذَرَ اللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - هَؤُلَاءِ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ .
وَلَا جِهَادَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ بِنْيَتَهُمَا لَا تَحْتَمِلُ الْحَرْبَ عَادَةً ، وَعَلَى هَذَا الْغُزَاةُ إذَا جَاءَهُمْ جَمْعٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، وَخَافُوهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ ، فَلَا بَأْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ إلَى بَعْضِ جُيُوشِهِمْ ، وَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِغَالِبِ الرَّأْيِ ، وَأَكْبَرِ الظَّنِّ دُونَ الْعَدَدِ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْغُزَاةِ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْ الْكَفَرَةِ ، وَكَذَا الْوَاحِدُ مِنْ الْغُزَاةِ لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مَعَهُمَا سِلَاحٌ ، أَوْ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَعَهُ سِلَاحٌ ، لَا بَأْسَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ : قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ

يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ } وَأَوْعَدَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } الْآيَةَ ؛ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } ثُمَّ اسْتَثْنَى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمَنْ يُوَلِّي دُبُرَهُ لِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَقَالَ - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - { إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ ، فَكَانَ الْمَحْظُورُ تَوْلِيَةً مَخْصُوصَةً ، وَهِيَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ ، وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ فَبَقِيَتْ التَّوْلِيَةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَظْرِ ، فَلَا تَكُونُ مَحْظُورَةً ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وَكَذَا قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ }

وَقَوْلُهُ { وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا } لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ لِلتَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ خَصَّ فِيهَا ، فَلَمْ تَكُنْ الْآيَتَانِ مَنْسُوخَتَيْنِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِينَ فَرُّوا إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِيهَا { أَنْتُمْ الْكَرَّارُونَ ، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ } أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ إلَى فِئَةٍ كَرَّارٌ وَلَيْسَ بِفَرَّارٍ مِنْ الزَّحْفِ ، فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْغُزَاةُ فِي سَفِينَةٍ فَاحْتَرَقَتْ السَّفِينَةُ وَخَافُوا الْغَرَقَ ، حَكَّمُوا فِيهِ غَالِبَ رَأْيِهِمْ ، وَأَكْبَرَ ظَنِّهِمْ ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْبَحْرِ لِيَنْجُوا بِالسِّبَاحَةِ ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ الطُّرُقُ لِيَسْبَحُوا فَيَتَحَيَّزُوا إلَى فِئَةٍ ، وَإِنْ اسْتَوَى جَانِبَا الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ ، بِأَنْ كَانَ إذَا قَامُوا حُرِّقُوا ، وَإِذَا طَرَحُوا غَرِقُوا ، فَلَهُمْ الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَوْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ لَهَلَكُوا ، وَلَوْ أَقَامُوا فِي السَّفِينَةِ لَهَلَكُوا أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُمْ لَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ صَبَرُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ ، فَكَانَ الصَّبْرُ أَقْرَبَ إلَى الْجِهَادِ ، فَكَانَ أُولَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْهَلَاكِ ، فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَارُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ أَرْفَقَ قَوْلُهُ لَوْ أَقَامُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ وَقُلْنَا وَلَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ أَيْضًا ، إذْ الْعَدُوُّ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي الْحَالَيْنِ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ أَسْهَلَ

فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَارُ ، وَلَوْ طُعِنَ مُسْلِمٌ بِرُمْحٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ إلَى مَنْ طَعَنَهُ مِنْ الْكَفَرَةِ حَتَّى يُجْهِزَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْمَشْيِ إلَيْهِ بَذْلَ نَفْسِهِ ؛ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَتَحْرِيضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَكَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ - .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّهُ يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ ، مِنْهَا أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمِيرِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُؤَمَّرُ عَلَيْهِمْ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُوهِ السِّيَاسَاتِ ، بَصِيرًا بِتَدَابِيرِ الْحُرُوبِ وَأَسْبَابِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْصُلُ مَا يُنْصَبُ لَهُ الْأَمِيرُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُوصِيَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا ، كَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَقُومُ بِهَا إلَّا الْمُتَّقِي وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ يُكَلِّفُهُمْ طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ مَا حَكَمَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى } وَلِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ لَازِمَةٌ كَذَا طَاعَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا طَاعَةُ الْإِمَامِ ، إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ إيَّاهُ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ

الْخَالِقِ } وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فِيهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مَعْصِيَةً ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ ، كَاتِّبَاعِ الْقُضَاةِ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ ، وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ ، لَكِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِمَا أَقَامَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ ، وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ ؛ لِئَلَّا يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ { فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ : دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ ، وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ ، وَهُوَ اللِّسَانُ ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنْ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ

الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً ، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ ، ثُمَّ ، إذَا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ ، } فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ ، إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدُ فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَبَوْا ، اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى قِتَالِهِمْ ، } وَوَثَّقُوا بِعَهْدِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - النَّصْرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ ، وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ ، وَثَبَتُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا عَلَى مَا قَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا

وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالدَّعْوَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ الْمُثْمِرَةِ ، وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ ، وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ ؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } أَذِنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِقَطْعِ النَّخِيلِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَنَبَّهَ فِي آخِرِهَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَبْتًا وَغَيْظًا لِلْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
وَلَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ ، وَإِغْرَاقِهَا بِالْمَاءِ ، وَتَخْرِيبِهَا وَهَدْمِهَا عَلَيْهِمْ ، وَنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهَا ؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقِتَالِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ الْعَدُوِّ وَكَبْتِهِمْ وَغَيْظِهِمْ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ ؛ لِحُرْمَةِ أَرْبَابِهَا ، وَلَا حُرْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يُقْتَلُونَ ، فَكَيْفَ لِأَمْوَالِهِمْ ؟ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ بِالنِّبَالِ ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمِينَ مِنْ الْأَسَارَى وَالتُّجَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ ، إذْ حُصُونُ الْكَفَرَةِ قَلَّمَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ أَسِيرٍ ، أَوْ تَاجِرٍ فَاعْتِبَارُهُ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْجِهَادِ ، وَلَكِنْ يَقْصِدُونِ بِذَلِكَ الْكَفَرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ

حَقٍّ .
وَكَذَا إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ ؛ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الْأَطْفَالِ ، فَإِنْ رَمَوْهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ : تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الرَّمْيِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لَا فِي نَفْيِ الضَّمَانِ ، كَتَنَاوُلِ مَاءِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ إنَّهُ رَخَّصَ لَهُ التَّنَاوُلَ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرنَا ، كَذَلِكَ هَاهُنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ كَمَا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لِإِقَامَةِ فَرْضِ الْقِتَالِ ، مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ ، وَإِيجَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْوَاجِبِ مُتَنَاقِضٌ ، وَفَرْضُ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ ، دَلَّ أَنَّ الضَّمَانَ سَاقِطٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ لَهَلَكَ ، وَكَذَا حَصَلَ لَهُ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهُمْ ، إذْ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ تَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ، إلَّا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ ، فَنَقُولُ : الْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ الْقِتَالِ ، أَوْ حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ ، أَمَّا حَالَ الْقِتَالِ فَلَا يَحِلُّ فِيهَا قَتْلُ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ ، وَلَا شَيْخٍ فَانٍ ، وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا يَابِسِ الشِّقِّ ، وَلَا أَعْمَى ، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ ، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ الْيُمْنَى ، وَلَا مَعْتُوهٍ ، وَلَا رَاهِبٍ فِي صَوْمَعَةٍ ، وَلَا سَائِحٍ فِي الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَقَوْمٍ فِي دَارٍ أَوْ كَنِيسَةٍ تَرَهَّبُوا وَطَبَقَ عَلَيْهِمْ الْبَابُ ، أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { هَاهْ مَا أُرَاهَا قَاتَلَتْ ، فَلِمَ قُتِلَتْ ؟ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، } وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَلَا يُقْتَلُونَ ، وَلَوْ قَاتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ ، وَكَذَا لَوْ حَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ ، أَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ كَانَ الْكَفَرَةُ يَنْتَفِعُونَ بِرَأْيِهِ ، أَوْ كَانَ مُطَاعًا ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا ؛ لِوُجُودِ الْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ رَفِيعٍ السُّلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْرَكَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ يَوْمَ حُنَيْنٌ ، فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ كَالْقَفَّةِ ، لَا يَنْفَعُ إلَّا بِرَأْيِهِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، } وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ يَحِلُّ قَتْلُهُ ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إلَّا إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِالرَّأْيِ وَالطَّاعَةِ

وَالتَّحْرِيضِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَيُقْتَلُ الْقِسِّيسُ وَالسَّيَّاحُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ ، وَالْأَصَمُّ وَالْأَخْرَسُ ، وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى ، وَأَقْطَعُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، وَلَوْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ ، إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْأَمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَسْرِ وَالْأَخْذِ ، فَكُلُّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ ، وَكُلُّ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى ، يُبَاحُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ إلَّا الصَّبِيَّ ، وَالْمَعْتُوهَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُمَا فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى ، وَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ إذَا أُسِرَا ، وَإِنْ قَتَلَا جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ فَلِدَفْعِ شَرِّ الْقِتَالِ ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرُّ مِنْهُمَا فَأُبِيحَ قَتْلُهُمَا لِدَفْعِ الشَّرِّ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرُّ بِالْأَسْرِ ، فَكَانَ الْقَتْلُ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ أَبَاهُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْقَتْلِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِمُصَاحَبَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ ، فَنَهَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ } وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِحْيَائِهِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِيهِ إفْنَاؤُهُ ، يَكُونُ مُتَنَاقِضًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ ، يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ ، وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْعِ الْقَتْلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَصْدِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسَعُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ ، وَمَنْ لَا يَسَعُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْغُزَاةُ قَادِرِينَ عَلَى عَمَلِ هَؤُلَاءِ ، وَإِخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَدِرُوا عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاللِّقَاحِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ ، وَلَا لِقَاحَ ، فَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ ، فَلَا يُبَاحُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ ، فَإِنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهِ ، وَإِنْ شَاءُوا أَخْرَجُوهُ لِفَائِدَةِ الْمُفَادَاةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَا يُخْرِجُونَهُمْ ؛ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إخْرَاجِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْعَجُوزُ الَّتِي لَا يُرْجَى وَلَدُهَا ، وَكَذَلِكَ الرُّهْبَانُ ، وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ إذَا كَانُوا حُضُورًا ، لَا يَلْحَقُونَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَمْلِ هَؤُلَاءِ وَنَقْلِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ ، وَيُتْرَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى نَقْلِهِمْ ، فَيُتْرَكُونَ ضَرُورَةً .
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالسِّلَاحُ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَّا الْحَيَوَانُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ ؛ لِئَلَّا يُمْكِنَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا السِّلَاحُ فَمَا يُمْكِنُ إحْرَاقُهُ بِالنَّارِ يُحْرَقُ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِحْرَاقَ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ ، فَيُدْفَنُ بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَجِدُوهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

.

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَمَا لَا يُكْرَهُ ، فَنَقُولُ : لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ الْأَسْلِحَةِ ، وَالْخَيْلِ ، وَالرَّقِيقِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَكُلِّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إمْدَادَهُمْ ، وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْحَمْلِ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلَاحَ ، وَلَوْ اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا ، إلَّا إذَا كَانَ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِسِلَاحٍ فَاسْتَبْدَلَهُ ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ ، إنْ كَانَ الَّذِي اسْتَبْدَلَهُ خِلَافَ جِنْسِ سِلَاحِهِ ، بِأَنْ اُسْتُبْدِلَ الْقَوْسُ بِالسَّيْفِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ سِلَاحِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ مِنْهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالطَّعَامِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ ؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِمْدَادِ ، وَالْإِعَانَةِ ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ تُجَّارِ الْأَعْصَارِ ، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ ، إلَّا أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَيَدْعُونَهُمْ إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الدُّخُولِ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَانِ ، وَالدِّينِ عَنْ الزَّوَالِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ ، إنْ كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَإِذَا كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ

فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ ، كَالسَّرِيَّةِ يُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِيهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ، فَكَانَ الدُّخُولُ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَعْرِيضًا لِلِاسْتِخْفَافِ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ، مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسَافَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ إخْرَاجِ النِّسَاءِ مَعَ أَنْفُسِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّبْخِ وَالْغُسْلِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا يُكْرَهُ إخْرَاجُهُنَّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ : الْأَسْبَابُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقِتَالِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ ، الْإِيمَانُ ، وَالْأَمَانُ ، وَالِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيمَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : الطُّرُقُ الَّتِي يُحْكَمُ بِهَا بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا ثَلَاثَةٌ : نَصٌّ ، وَدَلَالَةٌ ، وَتَبَعِيَّةٌ .
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَةِ ، أَوْ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، أَوْ يَأْتِيَ بِهِمَا مَعَ التَّبَرُّؤِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ صَرِيحًا .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ : صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا ، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ ، وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ أَصْلًا .
فَإِذَا أَقَرُّوا بِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَيَّتَهُمَا كَانَتْ - دَلَالَةَ الْإِيمَانِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّالِثِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ

عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا دَلِيلَ الْإِيمَانِ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ ؛ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التَّبَرُّؤِ دَلِيلًا عَلَى إيمَانِهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ : آمَنْتُ أَوْ : أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ ، وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ : أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ : أَسْلَمْتُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَالدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ بِقَوْلِي : أَسْلَمْتُ أَنِّي عَلَى الْحَقِّ ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِي لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَتَبَرَّأُ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، وَالتَّبَرُّؤِ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ، لَا يَكُونُ دَلِيلَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عَنْ ذَلِكَ ، وَدَخَلَ فِي دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا يَصْلُحُ التَّبَرُّؤُ

دَلِيلَ الْإِيمَانِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَوْ أَقَرَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَالَ : دَخَلْتُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الصَّلَاةَ لَوْ صَلَحَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ حَالِ الِانْفِرَادِ ، وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي نُصَلِّيهَا الْيَوْمَ ، لَمْ تَكُنْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا ، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ دَلَالَةً عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِشَرِيعَتِنَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ شَهِدَ جِنَازَتَنَا ، وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَنَا أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً ، إذْ لَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يُؤْمِنُ بِهِ ، كَالْمُعَانِدِينَ مِنْ الْكَفَرَةِ ، وَلَوْ حَجَّ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قَالُوا : يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ تَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ ، وَلَبَّى

وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ ، لَمْ تَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا ، فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ .
وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ ، أَوْ شَهِدَ الْمَنَاسِكَ ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا بِالْأَدَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ ، وَالْأَدَاءُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً ، وَمَا قَالَا : رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ يَقُولُ : صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا ، فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ : رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَشَهِدَ الْآخَرُ وَقَالَ : رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا تُقْبَلُ ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ الصَّلَاةِ مِنْهُ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ ، فَقَدْ اجْتَمَعَ شَاهِدَانِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً ، لَكِنْ تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْجَبْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، لَا فِي الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً ، فَهُوَ مُخْتَلِفٌ صُورَةً لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقَتْلِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ عَقَلَ أَوْ لَمْ يَعْقِلْ مَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَيْضًا ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ : أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّارِ مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دِينٍ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ، وَالصَّبِيُّ لَا يَهْتَمُّ لِذَلِكَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ ، وَإِمَّا لِقُصُورِهِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، وَجَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الدَّارُ مُنْشَأٌ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِمَا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الصَّبِيُّ تَنْتَقِلُ التَّبَعِيَّةُ إلَى الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَسْتَتْبِعُ الصَّبِيَّ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّقِيطِ ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ ، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ ، وَهِيَ التَّوَلُّدُ وَالتَّفَرُّعُ ، فَيُرَجَّحُ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا ، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَقْرَبُ ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ أَرْجَى وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ : إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ ، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، .
فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا ، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا ، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ وَحْدَهُ فَإِنْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَهُوَ عَلَى دِينِ أَبَوَيْهِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبَوَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا حَتَّى يُسْلِمَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا تَنْقَطِعُ

تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ بِمَوْتِهِمَا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ ، وَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سُبِيَ الصَّبِيُّ بَعْدَهُ وَأُدْخِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا قَبْلَ الْإِدْخَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَاخْتِلَافُ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ إذَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ فَلَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ ، وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ وَالْفِقْهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ فَرْضًا ، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ نَفْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْإِسْلَامِ مُحَالٌ ، وَالْفَرْضِيَّةُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ ، وَالْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأَحْكَامِ الضَّارَّةِ ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ ، وَوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ .

وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ ، فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ آمَنَ بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ غَيْبٍ فَيَصِحُّ إيمَانُهُ كَالْبَالِغِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَهُوَ تَصْدِيقُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ ، أَوْ تَصْدِيقُ رُسُلِهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ ، وَخُصُوصًا عَنْ طَوْعٍ ، فَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ } وَقَوْلُهُ : إنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ قُلْنَا : نَعَمْ .
فِي الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا فِي الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ ، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ فَنَقُولُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ - حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَكَيْنُونَةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا خَتَمَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَعِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } إلَّا أَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ تَثْبُتُ مَقْصُودَةً ، وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَثْبُتُ تَابِعَةً لِعِصْمَةِ النَّفْسِ ، إذْ النَّفْسُ أَصْلٌ فِي التَّخَلُّقِ ، وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ اسْتِبْقَاءً لَهَا ، فَمَتَى ثَبَتَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ ثَبَتَتْ عِصْمَةُ الْمَالِ ، تَبَعًا إلَّا إذَا وُجِدَ الْقَاطِعُ لِلتَّبَعِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلْدَةٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } .
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَاحْتَجَّا بِالْعُمُومَات الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مُؤْمِنٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أَوْجَبَ -

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهَا كُلَّ مُوجِبِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً ، وَالْجَزَاءُ يُنْبِئُ عَنْ الْكِفَايَةِ ، فَاقْتَضَى وُقُوعَ الْكِفَايَةِ بِهَا عَمَّا سِوَاهَا مِنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَالْحَاجَةُ إلَى الْإِحْيَاءِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ لِعَدَاوَةٍ حَامِلَةٍ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ هَاهُنَا وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَهُوَ لَهُ ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَكُون فَيْئًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ اسْتَفَادَتْ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ ، وَمَالُهُ الَّذِي فِي يَدِهِ تَابِعٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَكَانَ مَعْصُومًا تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ ، إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى ، فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا لَهُ ، فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ ، فَيَكُون مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً لَهُ فَهُوَ لَهُ ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ لَهُ ، وَيَدُ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ فَكَانَ مَا فِي يَدِهِ مَعْصُومًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَأَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً ، فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لَهُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ ، فَكَانَ مَعْصُومًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ لَهُ تَكُونُ يَدُهُ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ ، فَيَكُونُ مَعْصُومًا ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَرْبِيِّ غَيْرُ مَعْصُومَةٍ ، فَوَقَعَ

الشَّكُّ فِي الْعِصْمَةِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ ، وَكَذَا عَقَارُهُ يَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ ، فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُحْصَنٌ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ فِي يَدِهِ ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَامْرَأَتُهُ يَكُونُونَ فَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ .
وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَرَقِيقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقَةً ، لَا عَلَى مَنْ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ ، وَالْإِسْلَامُ شَرْعًا ، هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ ، فَلَوْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ .
أَمَّا أَمْوَالُهُ فَمَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ لَهُ ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا وَقِيلَ مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ ، وَلَا يُسْتَرَقُّونَ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ إنْشَاءَ الرِّقِّ إلَّا رِقًّا ثَبَتَ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِ الْأُمِّ ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ ، فَلَا يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ .
وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ وَالْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ ، وَرَقِيقًا تَبَعًا لِأُمِّهِ ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ

، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ ، فَجَمِيعُ مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ ، وَالْكِبَارِ ، وَامْرَأَتِهِ ، وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ ، لِمَا لَمْ يُسْلِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ لِمَالِهِ ؛ لِانْعِدَامِ عِصْمَةِ النَّفْسِ .
فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ صَارَتْ مَعْصُومَةً ، لَكِنْ بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبَعِيَّةِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ : الْأَمَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ ، وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ ، وَهُوَ أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ ، فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ .
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ .

فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْأَمَانِ ، نَحْوُ قَوْلِ الْمُقَاتِلِ : أَمَّنْتُكُمْ أَوْ : أَنْتُمْ آمِنُونَ أَوْ : أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ ، وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ ، فَيَتَنَاقَضُ .
إلَّا إذَا كَانَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى ؛ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ .

وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ ، وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِيمَانِ ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّفَرُّقِ عَنْ حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ .

وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَلْ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْقِتَالِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ ، وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ ، بَلْ هُوَ فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَلَا مَضَرَّةَ لِلْمَوْلَى فِي أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ ، بَلْ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ، فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ ، إلَّا إذَا وَقَعَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ ، لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَلَا يَجُوزُ ، فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَيَقَعُ أَمَانُهُ وَسِيلَةً إلَى

الْقِتَالِ ، فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّنَاءَةِ ، وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدُّنُوِّ ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } وَلَا خَسَاسَةَ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي صَفِّ الْقِتَالِ ، فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا مِنْ الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النَّبِيِّ الْمُكَرَّمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا } وَكَذَلِكَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَمَى ، وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ التَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَالْأَسِيرِ فِيهَا ، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ عَلَى حَالِ الْغُزَاةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ مَصْلَحَةً ، وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي حَقِّ الْغُزَاةِ ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ، وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ ، فَيَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً ، أَوْ أَهْلَ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ .

وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ ، فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لَهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي النَّقْضِ يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ ، كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ، إمَّا أَنْ كَانَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : نَقْضُ الْإِمَامِ ، فَإِذَا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ ، ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ فَيَنْقُضَ ، وَإِذَا جَاءُوا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ الْغَدْرِ ، فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ ، وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ عَلَى مَا يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ ، وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْضِ ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَمَضَى الْوَقْتُ ، وَهُوَ فِيهِ ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ

إلَى مَأْمَنِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

هَذَا إذَا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ ، فَجَاءُوا فَاسْتَأْمَنُوهُمْ ، فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عَنْ الْحُكْمِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ .
( إمَّا ) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِمَّا أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ ، بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَازَ إنْزَالُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ سَبَى الْكُلَّ ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ مُقَاتَلَتِهِمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ { : وَإِذَا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا ، فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ } نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِنْزَالِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ ، وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ .
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَيُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا يَسْتَرِقُّهُمْ ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً ، فَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ

إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لَنَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ ، فَجَازَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : إنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي الْمُنْزَلَ عَلَيْهِ ، أَيُّ حُكْمٍ هُوَ ؟ .
قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ : إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ ، كَذَا هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ إنْزَالٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةً ، إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ حُكْمَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَشْرُوعَ فِي الْحَادِثَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ ، وَهُوَ حَالُ حَيَاةِ النَّبِيِّ ؛ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِانْعِدَامِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى ؛ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ

عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا جَازَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ ، فَأَيُّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ ، فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ ، وَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ ، وَيَضَعُ عَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( إمَّا ) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ ، بِأَنْ قَالُوا : عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ ( وَإِمَّا ) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ ، غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ ، جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ، اسْتَنْزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً } فَقَدْ اسْتَصْوَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُ ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا .
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا ؛ لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لَنَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَانَ فَاسِقًا ، أَوْ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا ، فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ قَاضِيًا ، وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا

يَصْلُحُ حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ ، وَلِهَذَا لَوْ رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ آخَرَ ، إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا جَازَ حُكْمُهُ فِي الْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ ، فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ كَانَ عَلَى شَرْطٍ ، وَهُوَ حُكْمُ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْأَمَانِ ، فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمْ إلَى حِصْنٍ هُوَ أَحْصَنُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَلَا إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ تَوَهُّمِ الْعُذْرِ ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ ، أَوْ يَحْكُمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي ، الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ : الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ يُقَالُ : تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْمُوَادَعَةِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِهَا ، وَشَرْطِهَا ، وَحُكْمِهَا ، وَصِفَتِهَا ، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَّا رُكْنُهَا : فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ ، أَوْ الْمُسَالَمَةِ ، أَوْ الْمُصَالَحَةِ ، أَوْ الْمُعَاهَدَةِ ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ ، بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ ، فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ } .
وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ ، أَوْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وُجِدَ .
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ ، وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ مِنْ الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } أَبَاحَ -

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَنَا الصُّلْحَ مُطْلَقًا ، فَيَجُوزُ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي الثَّانِي مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ ، فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا ` غَلَبُوا عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ ، وَخِيفَ مِنْهُمْ ، وَلَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ ، وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا يُرَدُّ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ؟ وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ ؛ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى ، وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ ، يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَمَانِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا ، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ إنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمَ بِأَمَانٍ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ ، فَهُوَ آمِنٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ فَيْئًا ، لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَهَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ ، وَلَوْ أَسَرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ ، كَانَ فَيْئًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ فَهُوَ آمِنٌ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ ، وَإِذَا دَخَلَ تَاجِرًا لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ ، فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } فَإِذَا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ ، فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لَمْ يَبْلُغْ قَوْمَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وَتَغْرِيرًا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّبْذُ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا بِالنَّبْذِ ، وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ ، لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ عَلَى جَعْلٍ ، أَخَذَهُ مِنْهُمْ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجَعْلِ الَّذِي أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ بِقَدْرِ الْفَائِتِ ، هَذَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ .
( فَأَمَّا ) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهُ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ ، لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ ، فَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ ( إمَّا ) أَنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَاَلَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ : نَصٌّ ، وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ ، هُوَ النَّبْذُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا .
( وَأَمَّا ) الدَّلَالَةُ ، فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّبْذِ ، نَحْوُ أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ النَّبْذِ ، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لَهُمْ ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً لِلنَّقْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ ؟ كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ .
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ ، فَالْمَلِكُ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ عَلَى مُوَادَعَتِهِمْ ؛ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ النَّقْضِ فِي حَقِّهِمْ ، وَلَكِنْ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِيمَا بَيْنَ الْقُطَّاعِ ، حَتَّى يُبَاحَ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ النَّقْضِ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ ، يَنْتَهِي الْعَهْدُ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّبْذِ ، حَتَّى كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّاقِضِ ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِالْمُوَادَعَةِ الْمُؤَقَّتَةِ ، فَمَضَى الْوَقْتُ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لَهُ يُوهِمُ الْغَدْرَ وَالتَّغْرِيرَ ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ ،

وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ .
( أَمَّا ) رُكْنُ الْعَقْدِ فَهُوَ نَوْعَانِ : نَصٌّ ، وَدَلَالَةٌ .
( أَمَّا ) النَّصُّ فَهُوَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَفْظُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ .
( وَأَمَّا ) الدَّلَالَةُ فَهِيَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ نَحْوُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا سَنَةً بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ ، فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِي رَأْيُهُ وَيَقُولَ لَهُ : إنْ جَاوَزْتَ الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ، فَقَدْ رَضِيَ بِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا ، فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ ، أَخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَتْرُكُهُ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ عِنْدَ الدُّخُولِ : اُدْخُلْ وَلَا تَمْكُثْ سَنَةً فَمَكَثَ سَنَةً ، صَارَ ذِمِّيًّا ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً ، فَإِذَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ صَارَ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَّاجِ يَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ، وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا ، لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ ، وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا

نَفْسُ الشِّرَاءِ فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَزَرَعَهَا لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْآجِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كَانَ خَرَاجًا مُقَاسَمَةً ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ الْخَارِجِ وَضَعَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ ، وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا .
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ الْمُقَاسَمَةِ ، وَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ ، بَلْ دَلِيلُ الِالْتِزَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجِبْ وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا ، فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا ، فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ ، إنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَجِبْ الْخَرَاجُ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْهَا فَبَقِيَ نَفْسُ الشِّرَاءِ ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ الْخَرَاجُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ مُنْذُ يَوْمِ مَلَكَهَا ، صَارَ ذِمِّيًّا حِينَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ خَرَاجِ الْأَرْضِ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ نَصًّا ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ ، فَيُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا ، صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِذِمِّيٍّ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا ، فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَرْأَةِ ، فَلَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُ

إيَّاهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا ، فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعَاهَدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ ، أَوْ مِنْ الْعَجَمِ ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ وَيَجُوزُ مَعَ الْمَجُوسِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الْجِزْيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَكَذَلِكَ فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ .
ثُمَّ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ، أَوْ طَمَعٍ فِي ذَلِكَ ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ ، فَيَتَأَمَّلُوا فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ ، وَيَنْظُرُوا فِيهَا فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ ، وَتَقْبَلُهُ ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَيَرْغَبُونَ فِيهِ ، فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ ، لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ ، بَلْ يَعُدُّونَ مَا سِوَى ذَلِكَ سُخْرِيَةً وَجُنُونًا ، فَلَا

يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا عَلَيْهَا فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ ، وَمُشْرِكُو الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إلَّا الْإِسْلَامُ ، أَوْ السَّيْفُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ فِي الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ ، فَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ فَلَاحِهِ ، فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لَهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ ، وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ ، وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا ، فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ : إنَّ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا ( مِنْهَا ) عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } نَهَى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ ، وَإِذَا انْتَهَتْ الْإِبَاحَةُ ، تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً .
( وَمِنْهَا ) عِصْمَةُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ ؛ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا .

وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) الْعَقْلُ ( وَمِنْهَا ) الْبُلُوغُ ( وَمِنْهَا ) الذُّكُورَةُ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ .
( وَمِنْهَا ) الصِّحَّةُ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ ، وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ .
( وَمِنْهَا ) السَّلَامَةُ عَنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، وَتَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ؟ وَكَذَا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ .
( وَأَمَّا ) أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَعَدَمُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ

أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَلَمْ يَزْرَعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) الْحُرِّيَّةُ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ .

( وَأَمَّا ) وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ ، وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ ، وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْجِزْيَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي ، وَهُوَ الصُّلْحُ ، وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ ، كَمَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ ، بِأَنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ : أَغْنِيَاءُ ، وَأَوْسَاطٌ ، وَفُقَرَاءُ ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأْيًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ ، فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَالْوَسَطِ ، وَالْفَقِيرِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَهُوَ فَقِيرٌ ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ

فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ ، وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا : أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ وَقِيلَ : مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) الْإِسْلَامُ ( وَمِنْهَا ) الْمَوْتُ عِنْدَنَا ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَبَاحَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ ، فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِوَضُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ ، كَالْقِتَالِ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ ، فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الَّذِي فِيهِ تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقِتَالُ ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَقَوْلُهُ : إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ مَا وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ مِنْ الدُّنْيَا ، خَارِجٌ عَنْ الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ فَأَمَّا

التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ ، مَعَ مَا أَنَّهَا إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ ، فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ .
( وَمِنْهَا ) مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ ، وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ ، حَتَّى إنَّهُ إذَا مَضَى عَلَى الذِّمَّةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ مِنْهُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى مَا دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَمْ لَا ؟ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ ، وَهُوَ خَرَاجُ الْأَرْضِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ ، فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى ، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ كَذَا هَذَا وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بِهَا

وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاعَ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا : أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي : أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ ، وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - ( وَالثَّالِثُ ) أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً ، وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ عَلَى كُفْرٍ ، وَالْعَهْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مَعَ الزِّيَادَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ ، فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ : إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا ، وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ ، فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ عَلَى وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ ، وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا عَلَى قَرَبُوسِهِ مِثْلَ الرُّمَّانَةِ ، وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : أَصْلَحَكَ اللَّهُ ، تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ ، وَرَكِبَ الْإِكَافَ .
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ ، وَلِأَنَّ فِي إظْهَارِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ ، وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ فِي الْحَمَّامَاتِ فِي الْأُزُرِ ، فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ

الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بِهَا دُورُهُمْ مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أَنَّهَا دُورُ الْكَفَرَةِ ، فَلَا يَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ .
وَفِيهِ أَيْضًا مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَيُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِيهَا ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ .
وَعِنْدَهُمْ : أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَان مُعَدٍّ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إدْخَالِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنِّي لَا أَمْنَعُهُمْ مِنْ إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الْخِنْزِيرِ .
وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ فِي عِيدِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ وَكَذَا لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، فَإِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ

وَالْخِنْزِيرِ ، وَالصَّلِيبِ ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهِيَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ .
( وَأَمَّا ) إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي أَمْصَارِهِمْ وَمَدَائِنِهِمْ وَقُرَاهُمْ ، وَكَذَا الْمَزَامِيرُ وَالْعِيدَانُ ، وَالطُّبُولُ فِي الْغِنَاءِ ، وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ ، وَنَظِيرُهَا ، يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا نَعْتَقِدُهَا نَحْنُ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِيُقَرُّوا عَلَيْهَا .

( وَأَمَّا ) الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ الْقَدِيمَةُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلَا يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا .
( وَأَمَّا ) إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ أُخْرَى فَيُمْنَعُونَ عَنْهُ فِيمَا صَارَ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ } .
وَلَوْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كَمَا كَانَتْ ؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْبِنَاءِ حُكْمَ الْبَقَاءِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَبْقُوهَا فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى .
( وَأَمَّا ) فِي الْقُرَى أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً ، وَيَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ .
وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ ، لَا يُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا إذَا صَارُوا ذِمَّةً بِالصُّلْحِ ، بِأَنْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَّا أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ عَنْ رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا ، وَنُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَصَالَحْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَكَانَتْ أَرَاضِيهِمْ مِثْلَ أَرَاضِي الشَّامِ مَدَائِنَ وَقُرًى ، وَرَسَاتِيقَ وَأَمْصَارًا ، إنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْهَا يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مِصْرًا

لِلْمُسْلِمِينَ ، كَمَا مَصَّرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ ، فَاشْتَرَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُورًا ، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا كَنَائِسَ لَا يُمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّى رَجُلٌ فِي صَوْمَعَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ ، وَكُلُّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُشْرِكِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ عَنْوَةً ، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَمَا كَانَ فِيهِ كَنِيسَةٌ قَدِيمَةٌ مَنَعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْكَنَائِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فُتِحَ عَنْوَةً فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاكِنَ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَهْدِمَهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ قَرْيَةٍ جَعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا ، وَلَوْ عَطَّلَ الْإِمَامُ هَذَا الْمِصْرَ وَتَرَكُوا إقَامَةَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ فِيهِ ، كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يُحْدِثُوا مَا شَاءُوا ؛ لِأَنَّهُ عَادَ قَرْيَةً كَمَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ نَصْبِ الصَّلِيبِ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الصَّلِيبِ كَنَصْبِ الصَّنَمِ ، وَتُصَلِّي فِي بَيْتِهِ حَيْثُ شَاءَتْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ أَرْضِ الْعَجَمِ .
( وَأَمَّا ) أَرْضُ الْعَرَبِ فَلَا يُتْرَكُ فِيهَا كَنِيسَةٌ ، وَلَا بِيعَةٌ وَلَا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مِصْرًا كَانَ أَوْ قَرْيَةً ، أَوْ مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ ، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
وَأَمَّا الِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ ، لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى ، وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقْتَلُ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57