كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ، فَهُوَ عَاهِرٌ } وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَمَكَاسِبَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا يُزَوِّجُ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِنْكَاحِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ إذْ هُوَ عَبْدٌ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُزَوِّجُ أَمَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُمَا مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ اكْتِسَابًا .

وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ إذْنٌ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ هُوَ إذْنًا بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ .

وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ فِي مَالِهِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً ، أَمَّا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا فَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ .
وَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً فَلِأَنَّا وَإِنْ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ فَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِهِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ ، وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَطِيفَةٌ لَا تَتَّسِعُ لِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ ، وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَعَتَقَ فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي وَجْهٍ تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إذَا أُعْتِقْت فَثُلُثُ مَا لِي وَصِيَّةٌ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ ، وَالْحُرُّ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَيْنِ مَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِمِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ ، وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا أَجَازَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَتَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِمَّا يُجَوِّزُ الْإِجَازَةَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ : أَجَزْت لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا ثُلُثَ مَالِي فُلَانًا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَصِيَّةً .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَدَّى وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنْ يُحَدِّدَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ ، وَمِلْكُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْرُوفَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تَجُوزُ وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا

أُعْتِقْت فَهُوَ حُرٌّ .
فَأَعْتَقَ ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ : إذَا أَعْتَقْتُ لَا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ وَمَلَكَ مَمْلُوكًا لَا يَعْتِقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ ، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَتَاقِ .

وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ قَبُولُ الصَّدَقَاتِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ { وَفِي الرِّقَابِ } قِيلَ فِي التَّفْسِير مَا أَدَّاهَا الْمُكَاتَبُونَ وَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءٍ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ ، وَيَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَنِيًّا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا وَكَانَتْ تُهْدِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ } وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا جَمَعَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، وَوَارِثُهُ غَنِيٌّ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ أَوْصَى الْمُكَاتَبُ إلَى رَجُلٍ أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ بَطَلَ إيصَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيصَاءِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ جَازَ الْإِيصَاءُ وَتَكُونُ وَصِيَّتُهُ كَوَصِيَّةِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ حُرًّا فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ فَصَارَ كَوَصِيِّ الْحُرِّ ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَمْ يُؤَدِّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَإِنَّ وَصِيَّهُ يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي كِتَابَتِهِ دُونَ الْأَوْلَادِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ ، وَيَكُونُ أَضْعَفَ الْأَوْصِيَاءِ كَوَصِيِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ جُعِلَ كَوَصِيِّ الْأَبِ حَيْثُ أَجَازَ قِسْمَتَهُ فِي الْعَقَارَاتِ ، وَالْقِسْمَةُ تَمْنَعُ الْبَيْعَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ فَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ، إذَا لَمْ يَحِلَّ نَجْمٌ أَوْ نَجْمَانِ عَلَى الْخِلَافِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ ، وَتَمَامُ نَظَرِهِمْ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِي حَقِّهِمْ ، وَيَجُوزُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ إلَى الرِّقِّ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ دُونَ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : بَلَغْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَقْدِ إذَا فَسَخَ الْعَقْدَ يَصِحُّ فَسْخُهُ دُونَ الْقَاضِي كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَغَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْفَاسِدُ مِنْهُ فَغَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَر ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ النَّقْضِ ، وَالْفَسْخُ حَقٌّ لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِهِ .

وَالثَّانِي أَنَّهَا مُتَجَزِّئَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ مُتَجَزِّئُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَاتَبَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ أَنَّهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ ، وَصَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَهُ فَصَحَّتْ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ لَا غَيْرُ ، وَصَارَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالْإِذْنِ ، وَالْإِذْنُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ الْإِذْنُ فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ إذْنًا فِي الْكُلِّ فَصَارَ مَأْذُونًا فِي الْكُلِّ ، وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ .
فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ وَصَارَ النِّصْفُ الْآخَرُ مُسْتَسْعًى فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قَبْلَ الْأَدَاءِ فَنِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِهِمَا ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ صَارَ مُكَاتَبًا وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَكُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ شَيْءٌ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَهُ ، وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ نِصْفَهُ فَقَدْ أَذِنَ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ ، وَلَا يَفْسَخُ إلَّا بِرِضَاهُ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إنَّهُ يَمْلِكُ حَجْرَهُ وَمَنْعَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ ؛

لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ بِحَجْرِهِ ، وَالْإِذْنُ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بَلْ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إلَّا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَهُ مَنْعُهُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ يَوْمًا وَيُخَلِّيَ عَنْهُ يَوْمًا لِلْكَسْبِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَعْجِزَ ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِصْفَهُ رَقِيقٌ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ لِأَجْلِ النِّصْفِ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كَانَ نِصْفُك مُكَاتَبًا فَالنِّصْفُ الْآخَرُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَلِيَ الْمَنْعُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا بِالِاكْتِسَابِ وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْأَمْصَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهُ وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاكْتِسَابِ بِالِاسْتِخْدَامِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ أَوْ يَسْتَخْدِمَ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ .
فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لِلنِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَاتَبٍ ، أَوْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُكَاتَبٍ تَبَعًا لِلنِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ الرِّقَّ ، وَفِي الْكِتَابَةِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْعِتْقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ .

وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْبَاقِيَ فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ أَوْ دَبَّرَ نِصْفَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَيَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا كَذَلِكَ هَذَا .

وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ نَفْسِهِ مِنْ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، بَلْ هُوَ إعْتَاقٌ بِمَالٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْمُدَبِّرِ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ ، وَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ وَإِنْ شَاءَ عَجَزَ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوَجَّهُ إلَيْهَا وَجْهَا عِتْقٍ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ عِتْقٌ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ ، وَعِتْقٌ بِالسِّعَايَةِ ، فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيْ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ .

عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ أَوْ كُلَّهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِذَا أَذِنَ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، فَإِنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ صَارَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا لَكِنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَفِي الثَّانِي يَصِيرُ مُسْتَسْعًى فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ .
وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي كَاتَبَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفَسِهِ فَلَا يَفْسَخُ تَصَرُّفَهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِرِضَا الْعَبْدِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشَّرِيكُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَفَذَتْ فِي نَصِيبِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَرْطَ الْعِتْقِ عَتَقَ ، ثُمَّ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّرِيكِ فَيَقْبِضُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ كَانَ كَسْبَ عَبْدٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَأْخُوذِ ، ثُمَّ الَّذِي كَاتَبَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ شَرِيكُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا نِصْفَهُ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْبَدَلِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْكَسْبِ فِي يَدِ الْعَبْدِ لَهُ نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ ، هَذَا فِي الْكَسْبِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
وَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْتَسْعًى وَالْمُسْتَسْعَى أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ مِنْ السَّيِّدِ .

فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى ، فَقَالَ الْعَبْدُ : هَذَا كَسْبٌ اكْتَسَبْته بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَالَ الْمَوْلَى : بَلْ اكْتَسَبْته قَبْلَ الْأَدَاءِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْكَسْبَ شَيْءٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَصَارَ الْحُكْمُ بَعْدُ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ ثَلَاثَةُ اخْتِيَارَاتٍ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَخِيَارَانِ .
هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَإِذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلَيْنِ ، أَحَدُهُمَا إنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ هَهُنَا لِوُجُودِ الرِّضَا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا عَتَقَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَتَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ اثْنَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا ، وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا قَبَضَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ هَذَا إذَا كَاتَبَ النِّصْفَ ، فَأَمَّا إذَا كَاتَبَ الْكُلَّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ هَذَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ ، وَإِنْ أَدَّى جَمِيعَهُ إلَى الَّذِي كَاتَبَ عَتَقَ كُلُّهُ ، وَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الشَّرِيكِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى شَرِيكِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ كِتَابَةَ النِّصْفِ وَكِتَابَةَ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ كُلُّهُ ، وَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ شَرِيكُهُ وَنِصْفُ الْكَسْبِ الْفَاضِلِ لِلْمُكَاتَبِ ، وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا ، وَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَجَمِيعُ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْآخَرِ إلَّا إذَا أَذِنَ لِشَرِيكِهِ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْمَأْمُورِ عَتَقَ ، وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْآمِرِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْمَأْمُورِ .

وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ ، بِأَنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ كَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ ، صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَلَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا قَبَضَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ صَارَ رَاضِيًا بِكِتَابَتِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَقْضِيَ غَرِيمًا دُونَ غَرِيمٍ ، وَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ نَصِيبَ الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْجَوَابُ فِيهِ مَعْرُوفٌ .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْعَبْدِ صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ بِالْبَدَلِ الَّذِي سَمَّى ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لَا يَعْتِقُ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنْ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكِتَابَةُ الْبَعْضِ وَكِتَابَةُ الْكُلِّ سَوَاءٌ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ وَثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ وَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا ، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ فِي كِتَابَةِ الْآخَرِ فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : بَطَلَتْ كِتَابَةُ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْعَبْدُ أَوْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرُ .

وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَاتَبَاهُ جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً ، فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ حِصَّتَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا شَرْطَ عِتْقِهِ أَدَاءَ جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَكَاتَبَاهُمَا جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ حَتَّى لَوْ أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ هَهُنَا لَوْ جَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ لَأَدَّى إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِهِمَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَعْتِقَ بِأَدَاءِ الْكُلِّ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغْيِيرِ الشَّرْطِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ لَغْوًا .

مُكَاتَبٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَالْوَلَاءُ لَهُ ، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يُنْظَرْ إلَى قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِلَى بَاقِي الْكِتَابَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقَلَّ ضَمِنَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ أَحَدُهُمَا وَلَكِنْ دَبَّرَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا وَيَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُنَافِي الْكِتَابَةَ ، فَإِنْ أَدَّى الْكُلَّ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ مِنْهُمَا ، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا ، وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُ خِيَارَاتٍ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَرْبَعُ خِيَارَاتٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ فَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ لَمْ يُدَبِّرْهُ .

وَلَكِنْ كَاتَبَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ ، ثُمَّ الْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ وَلَا تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِنْدَنَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ مِنْهُ عُقْرَهَا وَاسْتَعَانَتْ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَرُدَّتْ إلَى الرِّقِّ ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَانِعَ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا قَدْ زَالَ وَيَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَنِصْفَ عُقْرِهَا ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا : صَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فَيَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُقْرِ .

وَمَنْ كِتَابَةِ شَرِيكِهِ عَبْدٌ كَافِرٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ عَلَى خَمْرٍ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْهُ مِنْ الْخَمْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْعِتْقِ ، فَلَمَّا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَقَعَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى نَصِيبِ نَفَسِهِ خَاصَّةً ، وَالذِّمِّيُّ إذَا كَاتَبَ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ ، كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِخَمْرٍ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لَهُمَا حَيْثُ كَانَتْ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَمَّا بَطَلَ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ بَطَلَ نَصِيبُ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ كُلُّهَا ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ الْخَمْرِ .

وَإِنْ كَاتَبَاهُ جَمِيعًا عَلَى خَمْرٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُشْكِلُ .
وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ الْكُلُّ وَلَوْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُسْلِمِ ، وَلِلذِّمِّيِّ نِصْفُ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى يَعْتِقُ كَمَا إذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُسْلِمِ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ قَدْ سَلَّمَ لَهُ شَرْطَهُ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَهُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْمُكَاتَبَةُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : صَحِيحَةٌ ، وَفَاسِدَةٌ ، وَبَاطِلَةٌ .
أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَزَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْ الْمُكَاتَبِ وَصَيْرُورَةُ الْمُكَاتَبِ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ ، وَصَيْرُورَةُ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمَوْلَى بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ لَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَهَلْ تَزُولُ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ : لَا تَزُولُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي .
عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَبِيعَ يَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ مِنْ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِك لَهُ .
وَهَكَذَا نَقُولُ فِي بَابِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكُ الْبَائِعِ أَوْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ يُجَازُ أَوْ يُفْسَخُ فَيَتَوَقَّفُ فِي عِلْمِنَا بِجَهْلِنَا بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ أَوْ الْفَسْخِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي حَقِّ الرِّوَايَةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ

الْمَسْأَلَةِ .

وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً صَارَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالْكَسْبِ ، وَالتِّجَارَةُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ السَّفَرِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْكِتَابَةُ صَحِيحَةً لِمَا مَرَّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَسْبَ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَهُ .

وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهُ وَرَهْنُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَمَنَافِعُ الْمُكَاتَبِ لَهُ ، وَالرَّهْنُ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ وَمِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ .

وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَاسْتِغْلَالُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ .

وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ ابْتِدَاءً بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ يَعْتَمِدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا يَعْتِقْ مَجَّانًا ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًا وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَقَتْ الْإِعْتَاقَ وَالْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَلَوْ دَبَّرَهُ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ كَذَا إذَا أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ ، وَيَجُوزُ لَهُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ .

وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ أَوْ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ جَازَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ فِي إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ وَالْمُشْتَرَى ، وَبِالْإِعْتَاقِ يَبْطُلُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَسْعَى فِي حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ وَأَوْلَادِهِ ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ ، وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلَّهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِعِتْقِ الْوَلَدِ .

وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُكَاتَبَةً بِكِتَابَتِهِ فَلَا تَعْتِقُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ .

وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُكَاتَبُ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَيْعِ قَالَ : الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِرِضَاهُ فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَيَكُونُ إقَالَةً ، وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِرِضَاهَا ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ .

وَلَوْ كَاتَبَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِهَا ، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَوْ وَطِئَهَا غَرِمَ الْعُقْرَ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهَا ، وَلَوْ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ إذَا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، وَتَأْوِيلِ الْمِلْكِ ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى ، صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِمَا مَرَّ ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّة أَشْهُرٍ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كَتَابَتِهَا فَأَدَّتْ وَعَتَقَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَسَقَطَ الْعُقْرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ .

وَلَوْ جَنَى الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ غَرِمَ الْأَرْشَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ ، وَكَذَا مَا اسْتَهْلَكَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَال الْمَوْلَى لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ0 لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ إنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ لَا تُبْطِلُهُ ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْلِكُ الْمَكَاتِبَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، بَلْ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ فَكَذَا هَذَا .

وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيهِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ .

وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى إنْسَانٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ .
وَالْحُكْمُ هُنَاكَ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَهُنَا ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِكَوْنِ الرَّقَبَةِ مِلْكَ الْمَوْلَى ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ جِنَايَاتُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ ، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ جِنَايَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ أَوْ بِذِمَّتِهِ ، فَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَالرَّقَبَةُ لَا تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعِنْدَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ ، وَالذِّمَّةُ مُتَّسِعَةٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا إنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى ، فَإِنَّهَا مَقْدُورُ الدَّفْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَعْجِزَ فَيَدْفَعَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْمَنْعِ السَّابِقِ ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهَا ، وَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ هَهُنَا ، هَذَا إذَا جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى .
فَأَمَّا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى

ثُمَّ جَنَى ثَانِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ أُخْرَى بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّتِهِ فَحَصَلَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ ، وَالرَّقَبَةُ فَارِغَةٌ عَنْ جِنَايَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ الْمُبْتَدَأَةِ .
فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ حَفَرَ ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى أَوْ لَمْ يَحْكُمْ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ حَفْرُ الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ الَّذِي يَلْزَمُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَوُقُوعُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَكِنْ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى حُكْمِهِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ .
فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ ، وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ بَعْدَ فَرَاغِ رَقَبَتِهِ عَنْ الْأُولَى وَانْتِقَالِهَا إلَى ذِمَّتِهِ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ ، وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ مَائِلٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحُرِّ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ قَتِيلٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَنْتَقِصَ مِنْهَا عَشْرَةَ دَرَاهِمَ .

فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَفَعَهُ مَوْلَاهُ بِهَا أَوْ فَدَاهُ ، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَهِيَ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَهُوَ كَعَبْدٍ قِنٍّ جَنَى جِنَايَةً ، أَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَإِذَا عَجَزَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ لَحِقَهُ الدَّيْنُ أَنَّهُ يُبَاعُ أَوْ يَقْضِي السَّيِّدُ دَيْنَهُ ، هَذَا إذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا قُتِلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا لَقُتِلَ بِهِ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى ، هَذَا إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى غَيْرِهِ .

فَأَمَّا إذَا جَنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالْأَرْشُ لَهُ وَأَرْشُهُ أَرْشُ الْعَبْدِ .
أَمَّا كَوْنُ الْأَرْشِ لَهُ فَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ مُلْحَقَةٌ بِالْمَنَافِعِ وَهُوَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ .
وَأَمَّا كَوْنُ أَرْشِهِ أَرْشَ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ بِالْحَدِيثِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ جِنَايَةً عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ أَرْشُهَا أَرْشَ الْعَبِيدِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِهِمْ ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا فَمَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ إنْ كَانَ عَبْدًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا عِنْدَنَا كَذَلِكَ هَهُنَا .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا وَيَتْرُكَ وَفَاءً وَيَتْرُكَ وَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ : مَاتَ حُرًّا قَالَ : وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْوَرَثَةِ ، وَمَنْ قَالَ : مَاتَ عَبْدًا قَالَ : الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى .
فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ قِيلَ قِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْلَى وَالْوَرَثَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ ، أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا فَيَقْتُلَا ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقِصَاصِ أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ كَذَلِكَ هَهُنَا ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمَوْلَى وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ ؛

لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى أَوْ الْوَارِثُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا اشْتِبَاهَ .
فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِيهَا حَقٌّ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقِّي قَوِيٌّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الْوَلِيَّانِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقِصَاصِ هُنَاكَ هُوَ الرَّاهِنُ إذْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقًّا فَإِذَا رَضِيَ بِالِاسْتِبْقَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا أَوْ يُتْرَكَ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَوْلَى .
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ هَهُنَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَشْتَبِهْ فَسَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ قَدْ اشْتَبَهَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْإِرْثِ ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْمِلْكِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَشْتَبِهْ ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ ، وَالثَّانِي : إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ اشْتَبَهَ لَكِنْ لَا اشْتِبَاهَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَتَثْبُتُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ .

فَإِنْ قُتِلَ ابْنُ الْمُكَاتِبِ أَوْ عَبْدُهُ عَمْدًا ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْتُولِ أَوْ مَوْلَى الْعَبْدِ لَوْ عَتَقَ كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ ، وَلَوْ عَجَزَ كَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَنَّهُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْمُكَاتَبِ ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَفَوَا فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ ، وَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا بُطْلَانُ الْعَفْوِ .
فَأَمَّا عَفْوُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ وَإِمَّا عَفْوُ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَى الْقَاتِلِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا مِنْهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ .

فَإِنْ قَتَلَ مَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ بِلَا شَكَّ ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَقْضِي بِهَا كِتَابَتَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الدِّيَةُ فَسَقَطَ عَنْهُ قَدْرُ مَالِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ دِيَتَيْنِ الْتَقَيَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِهِ إبْطَالُ الْعَقْدِ ، وَلَا اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَلَا يَرِثُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا إذَا حَلَّ أَجَلُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مُؤَجَّلَةً .

وَلَوْ قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبَةِ رَجُلًا خَطَأً يُقَالُ لِلْمُكَاتِبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ .
كَعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَيِّرُ الْمَأْذُونُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَالْمُكَاتِبُ أَوْلَى بِخِلَافِ نَفْسِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُكَاتَبِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ بِخِلَافِ كَسْبِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النَّقْلَ فَتَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نَفْسَ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ ، وَثَمَّةَ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا .

وَيُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ بِأَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَنَحْوِهَا ؛ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ لَا الْقِنُّ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى .

وَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ ، وَلَا مِنْ امْرَأَةِ مَوْلَاهُ ، وَلَا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ سَرَقَ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مُكَاتَبُهُ وَكَذَا لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ ، فَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُكَاتَبِ .

وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ .

وَيَصِحُّ مِنْ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ نَسَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ رَقَبَةً فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا ، وَنَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّصْدِيقِ ، ثُمَّ الْأَمَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَهَا الْعُقْرُ إنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا ، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا ، وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَنَافِعِ بُضْعِهَا فَيَكُونُ لَهَا ، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَقَطَ الْعُقْرُ ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ .
فَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ ، وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَيْهَا لِتَوَجُّهِ الْعِتْقِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ، وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا قُلْنَا وَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ .

وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ قَاصِرٌ حَتَّى لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ بِأَنَّهُ دَيْنٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَلَنَا أَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ دَيْنٌ يُحْبَسُ بِهِ وَدَيْنٌ لَا يُحْبَسُ بِهِ ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْكَفَالَةَ بِهِ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ بِهَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا أَعْطَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عَتَقَ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ مَلَكَ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْقَدْرَ ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ نَفَسِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَاجْتَمَعَ لِلْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ مَالِيَّةٌ فَلَوْ عَتَقَ بِأَدَاءِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى ، وَإِذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ وَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، كَذَلِكَ هَهُنَا ، وَجْهُ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَهُ ، كَمَا لَوْ

قَالَ لِعَبْدِهِ : إذَا أَدَيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْأَلْفِ ، كَذَا هَهُنَا ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا يَثْبُتُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ الْعِوَضِ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ عِوَضَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ كَأَنَّهُ هُوَ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ يَكُونُ بِأَعْوَاضِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا ، وَكَذَا يَثْبُتُ بِالْإِبْرَاءِ لِمَا نَذْكُرُ .

ثُمَّ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ يَعْتِقُ وَلَدُهُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بِأَنْ وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِلْأَبِ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأَبَ دُونَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا ، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ التَّبَعِ حَالَ قِيَامِ الْمَتْبُوعِ .
وَكَمَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِهِ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبُهُ .
فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ هُوَ وَوَلَدُهُ ، وَكَذَا وَلَدُهُ الْمُشْتَرِكُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ، وَالْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا ، إذَا اشْتَرَاهُمْ الْمُكَاتَبُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ يُقَالُ لِلْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَلِلْوَالِدَيْنِ : إمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ حَالًا ، وَإِلَّا رَدَدْنَاكُمْ فِي الرِّقِّ ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِمَا نَذْكُرُ وَأَمَّا مَا سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ؛ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَهَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَدْخُلُونَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَدْخُلُونَ وَيَسْعَوْنَ عَلَى النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا .
فَكَذَا فِي كَسْبِ الْكَسْبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّكَاتُبُ رَأْسًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ

الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ ، إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ فِي مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِمَكَانِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِمْ عَلَى الْأَصْلِ ، وَبَدَلُ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَسْرِي لِلْإِكْسَابِ ؛ كَكَسْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا الْوِلَادَ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى .

وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى : وُلِدَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَقَالَتْ الْمُكَاتَبَةُ : بَعْدَ الْعَقْدِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ انْفَصَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْأَمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ ؛ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الْإِبَاقَ وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ مُنْقَطِعًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ ، وَلَوْ تَصَادَقَا فِي الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ وَاخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْعَاقِدَيْنِ ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى وَرَثَتِهِ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ .

وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ يُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ وَيُسَلَّمُ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَنَا ، كَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى .
وَعِنْدَهُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَمُوتُ حُرًّا فَيُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ ، وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ قَدْ فَاتَ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الرِّقُّ ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْعِتْقِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يَعْتِقُ مُسْتَنِدًا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَكُمْ ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا ، فَيُرَاعَى قِيَامُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ ، وَالْمَحَلُّ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ لِلْحَالِ ، فَلَا يَسْتَنِدُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : إنَّ

شُرَيْحًا قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ .
فَقَالَ سَعِيدٌ : أَخْطَأَ شُرَيْحٌ ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا ، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِالدَّيْنِ ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ، فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَيْلُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ تُشِيرُ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَلَّقٌ بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِأَخْذِ الْعِوَضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لَا بِصُورَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً أَصْلًا بِأَخْذِ الْمَوْلَى وَبِالْإِبْرَاءِ ، وَقَدْ سَلِمَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِالْإِبْرَاءِ أَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ ، وَحُكْمُهُ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَسَلَامَتُهُ ، وَفِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ سَلَامَةُ رَقَبَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةُ أَوْلَادِهِ وَأَكْسَابِهِ حَالَ سَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى ، وَفِي الْحَالِ زَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَصَيْرُورَتُهُ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ ، حَتَّى لَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ ، وَلَوْ أَبْرَأهُ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَيَعْتِقُ .

وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتَب عَلَى غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ أَكْسَابِهِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ وَعَتَقَ .
وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْبَدَلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الْمُبْدَلُ مِنْ مِلْكِهِ ، وَهُوَ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ ، وَتَسْلَمُ لَهُ رَقَبَتُهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، إذْ الْمُعَاوَضَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالرَّقَبَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ .
إلَّا أَنَّ الزَّوَالَ لَوْ ثَبَتَ هَهُنَا لِلْحَالِ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ، وَيَتَكَامَلُ فِي الْأَدَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ الْكِتَابَةِ ، فَشُرِعَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي ثُبُوتِ السَّلَامَةِ وَزَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ الْمَوْلَى إلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ ، نَظَرًا لِلْمَوَالِي وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَنَظَرًا لِلْعَبِيدِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى الْعِتْقِ ، فَإِذَا جَاءَ آخِرُ حَيَاتِهِ وَعَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ انْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى أَكْسَابِهِ كَمَا فِي الْحُرِّ ، إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يَسْلَمُ لَهُ إمَّا بِالْهَلَاكِ ، أَوْ بِأَخْذِ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى فَيَسْلَمُ الْمُبْدَلُ لِلْمُكَاتَبِ ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ لَهُ .
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ آخِرَ حَيَاتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ ، وَانْتَقَلَ إلَى الْمَالِ خَلَفًا عَنْ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ ، فَيُطَالِبُ بِهِ وَصِيُّهُ ، أَوْ وَارِثُهُ ، أَوْ وَصِيُّ الْقَاضِي ، فَإِذَا أَدَّى النَّائِبُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ النَّائِبِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ ، فَيَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَعْتِقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ

لَيْسَ هُوَ مِنْ صُورَةِ الْأَدَاءِ ، بَلْ سَلَامَةُ الْبَدَلِ صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ مَعْنًى بِالْإِبْرَاءِ وَقَدْ حَصَلَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَيَبْقَى حَيًّا تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، كَمَا يَبْقَى الْمَوْلَى حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْكِتَابَةِ ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِيهِ ، وَهُوَ مُثْبَتٌ حَقِيقَةً وَيُقَدَّرُ حَيًّا عَلَى اخْتِلَافِ طَرِيقِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .

وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَك وَفَاءً وَأَوْلَادًا أَحْرَارًا بِأَنْ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ ، يُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَمَا فَضَلَ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ أَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَمُوتُ حُرًّا فَيَرِثُ مِنْهُ أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُكَاتَبِينَ تَبَعًا لَهُ ، فَإِذَا عَتَقَ هُوَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ يَعْتِقُونَ هُمْ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ ، فَإِذَا مَاتَ هُوَ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا وَهُمْ أَحْرَارٌ فَيَرِثُونَهُ ، وَكَذَا أَوْلَادُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَوَلَدَاهُ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا وَلَدُهُ الَّذِي كُوتِبَ مَعَهُ كِتَابَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ مَعَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُهُ ، وَأَمَّا وَلَدُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ كِتَابَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَيَمُوتُ حُرًّا وَوَلَدُهُ مُكَاتَبٌ ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُ الْحُرَّ .

وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَجْنَبِيٌّ ، وَدِينُ الْمَوْلَى غَيْرُ الْكِتَابَةِ ، وَلَهُ وَصَايَا مِنْ تَدْبِيرِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَتَرَك وَلَدًا حُرًّا ، أَوْ وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ ، يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجَانِبِ ، ثُمَّ بِدَيْنِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ ، وَبَطَلَتْ وَصَايَاهُ .
أَمَّا بُطْلَانُ وَصَايَاهُ فَلِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَخُصُّ التَّدْبِيرَ ، وَالثَّانِي يَعُمُّ سَائِرَ الْوَصَايَا أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّهُ إذَا أَدَّى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، وَذَلِكَ زَمَانٌ لَطِيفٌ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّةَ ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ ، وَالْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ لَهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصَايَا بَقِيَتْ الدُّيُونُ .
وَأَمَّا تَرْتِيبُ الدُّيُونِ فَيُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى ، كَمَا فِي دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ ، وَدِينُ الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرِّقِّ دَيْنُ الْمَوْلَى ، وَلَا يَبْطُلُ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ بَلْ يُبَاعُ فِيهِ ، فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْمَوْلَى وَبِالْكِتَابَةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ ، وَلَا تَصِحُّ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ نَفَسِهِ قَصْدًا بِأَنْ

يُعَجِّزَ نَفَسَهُ ، وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمَوْلَى قَصْدًا بَلْ يَسْقُطُ ضَرُورَةً بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ ، فَكَانَ دَيْنُ الْمَوْلَى أَقْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ جَمِيعًا بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بُدِئَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى لَبَطَلَ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا ، فَيَكُونُ قَدْ مَاتَ عَاجِزًا ، فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ صَارَ قِنًّا ، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْقِنِّ دَيْنٌ ، وَلَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى ، فَيُبْدَأُ بِالْكِتَابَةِ حَتَّى يَعْتِقَ ، وَيَكُونُ دَيْنُ الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ ، فَرُبَّمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ ، وَمَا فَضَلَ عَنْ هَذِهِ الدُّيُونِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ ، وَلِأَوْلَادِهِ الْمَوْلُودِينَ فِي الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُونَ كَالْحُرِّ الْأَصْلِ .

وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ وَمَهْرٌ ، وَأَوْلَادٌ أَحْرَارٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ ، وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ ، وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ ، يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ ، ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِجَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ لِمَا بَيَّنَّا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكَاتَبَ قِنٌّ ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ .
وَمَتَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ عَاجِزًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاقِي وَفَاءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ ، وَكَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْخِيَارِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ فَاتَتْ الرَّقَبَةُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ .
وَأَمَّا الْمَهْرُ ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ نِكَاحًا صَحِيحًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْضِ سَائِرَ الدُّيُونِ وَالْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفْ إلَى الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ صَارَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِأَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَاتَبَ

الِابْنَ مُكَاتَبَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ فِي حَقُّهُ ، فَلَا يَرِثُ مِنْهُ .

وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ ، بِأَنْ وَلَدَتْ أَمَتُهُ الَّتِي اشْتَرَاهَا ، بِأَنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُكَاتَبُ وَوَلَدَهَا ، أَوْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يَبْطُلُ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ لَا عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا ، فَقَامَ الْوَلَدُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ .
وَلَوْ كَانَ حَيًّا حَقِيقَةً لَكَانَ يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ ، فَكَذَا وَلَدُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَادِرًا فَيُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَجَلِهِ ، بَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ فِي الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ حَتَّى يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَيٌّ ، وَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ عَتَقَ أَبُوهُ وَهُوَ .
وَأَمَّا وَلَدُهُ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ ، بَلْ يُقَالُ : لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ حَالًا أَوْ تُرَدَّ إلَى الرِّقِّ ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ ، بَلْ يَسْعَى عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ ، إلَّا إذَا أَخَلَّ بِنَجْمٍ أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، وَتَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ أَشَدُّ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَالْجُزْئِيَّةُ فِي الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا فِيهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى ؛ لِأَنَّ جُزْئِيَّةً مَا حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ فَانْحَطَّتْ دَرَجَتُهُ عَنْهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ تَرْتِيبًا

لِلْأَحْكَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْحُجَجِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْكَافِي الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَجَعَلَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى ، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ سَوَاءٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّكَاتُبَ عَلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ لِمَكَانِ التَّبَعِيَّةِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُشْتَرَى ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَوْلُودِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ الدُّيُونَ الَّتِي ذَكَرْنَا فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ يَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً صَارَ التَّدْبِيرُ إلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْ كَسْبِهِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ ، أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ غَائِبًا وَبَعْضُهُمْ حَاضِرًا فَعَجَزَ الْحَاضِرُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ؛ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَائِبَ يَحْضُرُ فَيُؤَدِّي .

وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَكِنَّهُ تَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ فِي الْمُكَاتَبَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ اسْتَسْعَتْ فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كَانَ وَلَدُهَا أَوْ كَبِيرًا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا الْمُوَالَاةُ عِنْدَهُمَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ تَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ لَمَّا دَخَلَتْ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ وَلَدَهَا فِي الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَامَ مَقَامَهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا إنَّمَا تَسْعَى ؛ لِأَنَّ عَتَاقَ الِاسْتِيلَادِ بِمَنْزِلَةِ عَتَاقِ النَّسَبِ ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ ، فَكَانَ حَالُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ وَقَبْلَهُ وَاحِدًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا وِرَاثَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي كِتَابَتِهِ لِكِتَابَةِ وَلَدِهَا تَبَعًا ، فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْوَلَدِ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَبْطُلُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَلَوْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا وَاشْتَرَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ مَاتَتْ سَعْيًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى النُّجُومِ وَاَلَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ ، وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى تَبَعًا لِلْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، فَإِنْ قُلْت : فَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ ، قَالَ : لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدَعْ غَيْرَهُ بِيعَ ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ عَاجِلًا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ الَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ هُوَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ عَلَى الِاتِّفَاقِ ، أَوْ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ كَاتَبَ حَيَّةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهَا الْمُشْتَرَى ، فَكَذَا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهَا ، وَإِنْ سَعَى الْمُشْتَرَى فَأَدَّى الْكِتَابَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى لِلْأُمِّ ، فَإِذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدْ أَدَّى كِتَابَةَ الْأُمِّ ، وَكَسْبُهُ لَهَا ، فَلَا يَرْجِعُ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَهَا .
وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً فَأَدَّى الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَعَتَقَتْ الْأُمُّ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ لَوْ سَعَى وَأَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا إذَا أَدَّى الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ مَالٍ تَرَكَتْهُ الْأُمُّ ، فَأَمَّا إذَا أَدَّى مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى الْمُشْتَرَى ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ حُكْمَ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ حُكْمَ

الْمُشْتَرَى : إنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ ، وَلَوْ اكْتَسَبَ هَذَا الِابْنُ الْمُشْتَرَى كَسْبًا كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي كِتَابَتِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ ، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْمُشْتَرَى ، وَكَذَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي عَمَلٍ لِيَأْخُذَ كَسْبَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُؤَاجِرَ نَفَسَهُ ، أَوْ أَمَرَ أَخَاهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيَسْتَعِينَ بِأَجْرِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهَا ، وَمَا اكْتَسَبَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ وَقَائِمٌ مَقَامَهَا فَمَا اكْتَسَبَهُ يَكُونُ لَهُ وَمَا يَكْتَسِبُ أَخُوهُ حُسِبَ مِنْ التَّرِكَةِ ، فَتُقْضَى مِنْهُ الْمُكَاتَبَةُ وَالْبَاقِي مِنْهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ قَامَ مَقَامَهَا ، فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِهِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا ، كَذَا كَسْبُ وَلَدِهَا .
وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَهَا غَيْرَ أَنَّهُ كَسْبُهَا بِجَمِيعِ مَا اكْتَسَبَهُ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ مَالٍ ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ مَالٍ تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهَا ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا كَذَا هَذَا ، وَقِيلَ : هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهَا وَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسْبَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَقَامَ مَقَامَ الْمُكَاتَبَةِ وَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ عِنْدَهُمَا ، فَكَذَا إذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَيْءٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا قَبْلَ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ لِلْمَالِكِ عَنْهُ إلَى الْمُكَاتَبِ .
فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ .
وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَدَاءِ ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَالْفَاسِدُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَالصَّحِيحِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا .
وَنَفْسُ الْمُكَاتَبِ فِي قَبْضَتِهِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَدَّى يَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفَسِهِ ، وَفِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى ؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّهَا مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَسَادِ لِجَهَالَةِ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَرُّزِ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْعَبْدِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحَةِ إلَّا بِرِضَا الْعَبْدِ ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا ، وَالصَّحِيحَةَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، ثُمَّ إذَا أَدَّى فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يُنْظَرُ إلَى الْمُسَمَّى وَإِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَجْهُ

الْقِيَاسِ : أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يَقَعُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ بَطَلَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَبَقِيَ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَالْيَمِينُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْحَالِفِ ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَإِذَا بَقِيَ مِلْكُهُ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا فَاسِدَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْعِتْقُ فِيهَا يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْقِيمَةُ ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِيهَا بِمَحْضِ الْيَمِينِ لَكَانَ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْيَمِينِ ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ ، فَثَبَتَ أَنَّ فَسَادَ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا ، فَثَبَتَ الْعِتْقُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، فَنَعَمْ لَكِنْ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَزُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ .

وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَعَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّحِيحِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ ، وَالْأَوْلَادُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَذَا فِي الْفَاسِدَةِ ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ ، ثُمَّ الْأُمُّ لَا تُجْبَرُ عَلَى السِّعَايَةِ كَذَلِكَ الْوَلَدُ ، لَكِنَّهُ إذَا سَعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّتْ الْمَالَ إلَى وَرَثَتِهِ تَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَعْتِقَ .

وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا نَصَّ عَلَى التَّعْلِيقِ ، بِأَنْ قَالَ : إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَأَدَّى يَعْتِقُ لَكِنْ لَا بِالْمُكَاتَبَةِ ، بَلْ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ : فَإِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْإِقَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ لِكَوْنِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا أَصْلًا ، فَتَجُوزُ إقَالَتُهَا كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ .

وَكَذَا تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى ، بِأَنْ يَقُولَ : فَسَخْتُ الْمُكَاتَبَةَ ، أَوْ كَسَرْتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فَاسِدَةً أَوْ صَحِيحَةً ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ نَظَرًا لَهُ ، فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِهِ .

، وَهَلْ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ أَمَّا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ فَيُؤَدَّى إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فَيَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ ، فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ يَزُولُ إلَى الرِّقِّ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا ، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ ، أَوْ بَقِيَّةً مِنْهَا إلَى وَرَثَتِهِ وَعَتَقَ ، فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَرُدَّ إلَى الرِّقِّ ، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْوَرَثَةُ كِتَابَةً أُخْرَى فَأَدَّى إلَيْهِمْ وَعَتَقَ ، فَوَلَاؤُهُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمْ ، فَكَانَ مَالُهُ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ ، إذْ الْوَلَاءُ يُورَثُ بِهِ إنْ كَانَ لَا يُورَثُ نَفْسُهُ .
وَأَمَّا بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ فَيُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ مَاتَ لَا عَنْ وَفَاءٍ يَنْفَسِخْ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً .

وَلَا يَنْفَسِخُ بِرِدَّةِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَاتَبَ مُسْلِمٌ عَبْدَهُ ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَبِمَوْتِهِ حُكْمًا أَوْلَى أَنْ لَا يَنْفَسِخُ ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِالرِّدَّةِ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِهِمْ .
وَإِنْ قُتِلَ ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ نَافِذَةٍ عِنْدَهُ ، بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ .
وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ جَازَ قَبْضُهُ ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَخْذُ الدَّيْنِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي كُلِّ مَا وَلِيَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَيَمْلِكُ قَبْضَ الدُّيُونِ الَّتِي وَجَبَتْ بِعَقْدِهِ ، كَالْوَكِيلِ الْمَعْزُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَزْلِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ لِكَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَحُقُوقُ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُكَاتَبَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا حَتَّى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَجَعَلَ الْقَاضِي مَالَهُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَأَخَذُوا الْكَاتِبَةَ ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْعَبْدِ لَهُ ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ، وَلَوْ دُفِعَ إلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَذَلِكَ هَذَا ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا قَبَضُوهُ مِنْهُ إنْ وُجِدَ بِعَيْنِهِ ، كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ الَّتِي وَجَدَهَا مَعَ الْوَرَثَةِ بِأَعْيَانِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا قَبَضَ بِتَسْلِيطِ الْمُورِثِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ

وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْوَلَاءِ ) : الْوَلَاءُ نَوْعَانِ : وَلَاءُ عَتَاقَةٍ ، وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ : فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَهَذَا نَصٌّ ، وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اشْتَرَيْت هَذَا فَأَعْتَقْته فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك ، فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ } .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَهُ عَصَبَةً إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا آخَرَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُعْتَقَ مَوْلَى الْمُعْتِقِ ، بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك ، وَلَا يَكُونُ مَوْلَاهُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إرَادَةِ الْمَعْمُولِ مِنْ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمَا تَعْمَلُونَ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ مَعْمُولَهُمْ ، وَلَا مَعْمُولَ بِدُونِ الْعَمَلِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْمُولِ مَخْلُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الشُّكْرُ ، فَإِذَا شَكَرَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَشَرٌّ لَك ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي الثَّوَابِ ؛

لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى عِوَضٍ ، فَكَانَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ مِمَّنْ أَعْتَقَ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَلَى إعْتَاقِهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إذَا خَلَا عَنْ عِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ يَتَكَامَلُ ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَشَرٌّ لَهُ ؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا ، فَإِذَا لَمْ يَشْكُرْهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ ، فَكَانَ شَرًّا لَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُعْتِقَ بِنْتِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ مَالِهِ لِابْنَتِهِ ، وَالنِّصْفَ لِابْنَةِ حَمْزَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ ، فَاتِّفَاقُ هَؤُلَاءِ النُّجَبَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ سَمَاعِهِمْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا إنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ، فَالظَّاهِرُ قَوْلُ السَّمَاعِ ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْعَامٌ إذْ الْمُعْتِقُ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ بِإِيصَالِهِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مَوْلَى النِّعْمَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَكَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْعَامًا ، فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت

عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ ، فَجُعِلَ كَسْبُهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ لِمَوْلَاهُ شُكْرًا لِإِنْعَامِهِ السَّابِقِ ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُعْتَقُ مِنْ الْمُعْتِقِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَقَ فِي نُصْرَةِ الْمُعْتِقِ حَالَ حَيَاتِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ عَقْلُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ وَبِكَفِّهِ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النُّصْرَةِ ، وَهُوَ كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ ضَمَانًا لِلتَّقْصِيرِ ، فَإِذَا مَاتَ جُعِلَ وَلَاؤُهُ لِمُعْتَقِهِ جَزَاءً لِلنُّصْرَةِ السَّابِقَةِ ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ كَالْإِيلَادِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءٌ مَعْنًى ، فَإِنَّ الْمُعْتِقَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْمُعْتَقِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْآدَمِيُّ عَنْ الْبَهَائِمِ ، كَمَا أَنَّ الْأَبَ سَبَبُ حَيَاةِ الْوَلَدِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ عَادَةً ، وَهُوَ الْإِيلَادُ ، ثُمَّ الْإِيلَادُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، فَالْإِعْتَاقُ يَكُون سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَالْإِيلَادِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

فَبَعْدَ هَذَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الثَّابِتِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَمَّا .
سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ وَسَوَاءً أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ ، أَوْ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا ، أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ .
وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَعَلَى هَذَا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْغَيْرِ عَنْ نَفَسِهِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْآمِرِ ، بَلْ لِلْمَأْمُورِ ، فَكَانَ الْعِتْقُ عَنْهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَمْرٌ بِمَا لَا

وُجُودَ لِلْفِعْلِ بِدُونِهِ كَالْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّطْحِ يَكُونُ أَمْرًا بِنَصْبِ السُّلَّمِ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ عَنْ الْآمِرِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ، فَكَانَ أَمْرُ الْمَالِكِ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ عَنْهُ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ أَمْرًا بِتَمْلِيكِهِ مِنْهُ بِذَلِكَ الْبَدَلِ ، ثُمَّ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقَالَ بِعْهُ مِنِّي وَأَعْتِقْهُ عَنِّي فَفَعَلَ وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَالْأَوَّلُ ، سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْآمِرِ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ ، بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ الْمَأْمُورُ بَائِعًا عَبْدَهُ مِنْهُ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ ، ثُمَّ مُعْتِقًا عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَتَوْكِيلِهِ وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ بِالتَّمْلِيكِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ هِبَةً وَالْمِلْكُ فِي بَابِ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ ، فَإِذَا أَعْتَقَ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفَسِهِ لَا مِلْكَ الْآمِرِ فَيَقَعُ عَنْ نَفَسِهِ ، فَكَانَ الْوِلَايَةُ لَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ .

وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا آخَرَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَنْ نَفَسِهِ لَا عَنْ الْآمِرِ لِعَدَمِ الطَّلَبِ مِنْ الْآمِرِ بِالْإِعْتَاقِ عَنْهُ .

وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي فَأَعْتَقَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ ، فَإِنْ قَبِلَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ يَعْتِقْ وَيَلْزَمْهُ الْمَالُ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا طَلَبَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ ، وَهُوَ فُضُولِيٌّ فِيهِ ، فَإِذَا عَتَقَ الْمَالِكُ تَوَقَّفَ إعْتَاقُهُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ فُلَانِ كَذَا هَذَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْهُمَا وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ } الْحَدِيثَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ الْمَنْفِيِّ مُثْبَتٌ ظَاهِرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلِعُمُومِ الْحَدِيثِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا ، أَوْ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْمُعْتَقِ مِنْهُمَا لِلْمُعْتِقِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْإِرْثِ ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمِلَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ } وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لِإِنْسَانٍ وَلَا يَرِثُ بِهِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْإِرْثِ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقِ يَرِثُ بِهِ لِتَحْقِيقِ الشَّرْطِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي هُوَ مُعْتِقُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَصَبَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ مُسْلِمٌ ، أَوْ ابْنُ عَمٍّ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَرِثُ الْوَلَاءَ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُجْعَلُ

بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرَدَّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ .

وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَأَعْتَقَاهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةُ مُسْلِمٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُرَدَّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ .

وَلَوْ أَعْتَقَ حَرْبِيٌّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَوْلَاهُ حَتَّى لَوْ خَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَيْنِ لَا وَلَاءَ لَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِكَلَامِ الْإِعْتَاقِ ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالْعِتْقُ الثَّابِتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا يُوجِبُ الْوَلَاءَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ وَيَكُونُ لَهُ وَلَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِالْقَوْلِ قَدْ صَحَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اسْتِيلَادَهُ جَائِزٌ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَبْنَى الِاسْتِيلَادِ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .

وَلَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ عَبْدًا لَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ .

وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَوْلِ ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِالْقَوْلِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ مُضْطَرِبٌ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخَرَجَا مُسْلِمَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ وَلِلْمُعْتَقِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرِثُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْمُعْتَقِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ إذَا خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ ، وَإِنْ سُبِيَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلَّذِي سَبَاهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا ، أَوْ حُرًّا ، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ ، وَكَذَا إنْ كَانَ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْحُرَّ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ، فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُهُ الْمُعْتَقُ فَأَعْتَقَهُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَوْلَى صَاحِبِهِ حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً مِنْ النَّسَبِ وَرِثَهُ صَاحِبُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْإِرْثِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَشَرْطُهُ ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ هَرَبَ الذِّمِّيُّ الْمُعْتَقُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ وَأَسْلَمَ فَاشْتَرَاهُ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهُ فَأَعْتَقَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى صَاحِبِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا ، ثُمَّ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الَّذِي كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَعْتَقَتْهُ فَأَعْتَقَهَا كَانَ الرَّجُلُ مَوْلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ مَوْلَاةَ الرَّجُلِ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا ، ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ جَنَى الْمُعْتَقُ كَانَ عَقْلُهُ عَلَى الْمُعْتِقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهُ ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ فِي الْحِفْظِ .

وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ .
فَلِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءَ وَلَدِ الْعَتَاقَةِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ وَلَاءَ وَلَدِ الْعَتَاقَةِ ، فَأَمَّا الَّذِي يَعُمّهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ ، أَوْ لِوَلَدِهِ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُهُ الْمُعْتِقُ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَفِي الْعَصَبَاتِ يُعْتَبَرُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَقْوَى ، فَكَانَ أَوْلَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ ، وَإِنْ كَانَ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَ حَقِيقَةِ النَّسَبِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ النَّسَبِ أَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَلَهُ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ ، أَوْ ذَوُو الْأَرْحَامِ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ وَلَدَ الْعَتَاقَةِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مُعْتَقَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ مَمْلُوكًا سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَى أُمِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَلَاءُ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونُ الْأُمُّ حُرَّةً أَصْلِيَّةً ، فَإِنْ كَانَتْ فَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَى وَلَدِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْتَقًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَى أُمِّهِ فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً وَالْأَبُ مُعْتَقًا فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ لَا لِمَوْلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالْأَصْلُ فِي النَّسَبِ هُوَ الْأَبُ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا وَالْأُمُّ مَوْلَاةً لِقَوْمٍ فَالْوَلَدُ تَابِعٌ لِلْأَبِ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرِّقِّ وَلَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ نَبَطِيًّا ، وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ لَمْ يَعْتِقْ وَلَهُ وَلَاءُ مُوَالَاةٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَبِ كَمَا فِي الْعَرَبِيِّ .
( وَجْهٌ ) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ النَّسَبَ يُشْبِهُ النَّسَبَ وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ لَوْ كَانَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَبُ مِنْ الْمَوَالِي فَالْوَلَدُ يَكُون تَابِعًا لِقَوْمِ الْأَبِ وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْأُمِّ لِمَوَالِيهَا لِأَجْلِ النُّصْرَةِ فَيَثْبُتُ لِلْوَلَدِ هَذِهِ النُّصْرَةُ وَلَا نُصْرَةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ سِوَى الْعَرَبِ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ فَصَارَ كَمُعْتَقَةٍ تَزَوَّجْت عَبْدًا فَيَكُونُ وَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَبِ مَوْلًى عَرَبِيٌّ ،

فَإِنْ كَانَ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَرَبِيِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ } وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ مُعْتَقًا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأَبِ وَلَا لِمَوَالِي الْأُمِّ ، بَلْ يَكُونُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ صَارَ لَهُ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْوَلَاءِ ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ يُذْكَرُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَلَاءِ .

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّ الْإِرْثَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَشَرْطِهِ مِنْ طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنَّمَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ مَالَ الْمُعْتَقِ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَيَكُونُ الْمُعْتِقُ آخِرَ عَصَبَاتِ الْمُعْتَقِ مُقَدَّمًا عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا فَضَلَ مِنْ سِهَامِهِمْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْتَقِ وَارِثٌ أَصْلًا ، أَوْ كَانَ لَهُ ذُو الرَّحِمِ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فَإِنَّهُ يُعْطَى فَرَائِضَهُمْ أَوَّلًا ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُعْطَى الْمُعْتِقَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا يُرَدُّ الْفَاضِلُ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُحْتَمَلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَاضِلِ ، وَعَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَيْضًا وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ الْعِتْقِ .
( وَجْهٌ ) قَوْلُ الْأَوَّلِينَ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ وَلَاءَ مَوْلَى بِنْتِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ مُعْتِقِهَا نِصْفَيْنِ فَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقَامَ الْعَصَبَاتِ حَيْثُ جَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ لَهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهِ عَلَى بِنْتِ الْمُعْتِقِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا لَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَارِيثِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَصَبَةٌ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ

فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ هَهُنَا هُوَ الْمَوْلَى .
وَرُوِيَ { فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ ، وَهُوَ الْمَوْلَى هَهُنَا } .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهَا أَيْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ الْعَصَبَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ أَيْ الْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الْعَصَبَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنْ الْأَبْعَدِ كَالِابْنِ مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ أُمًّا وَمَوْلًى فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ الثُّلُثُ لِلْأُمِّ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عَلَيْهَا أَيْضًا ، وَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا وَمَوْلًى فَلِلْبِنْتِ فَرْضُهَا ، وَهُوَ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عَلَيْهَا وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَأُمًّا وَتَرَكَ مَوْلَاهُ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ فَقَدْ اسْتَغْرَقَتْ سِهَامُهُمْ الْمِيرَاثَ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ تَرَكَ امْرَأَةً وَمَوْلًى فَلِلْمَرْأَةِ فَرْضُهَا ، وَهُوَ الرُّبْعُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ .

وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ أَمَةً فَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَمَوْلًى فَلِلزَّوْجِ فَرْضُهُ ، وَهُوَ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَصَبَةٌ ، فَكَانَ الْبَاقِي لَهُ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ فَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرَّدِّ إذْ لَا يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ .
فَإِنْ تَرَكَ الْمُعْتَقُ عَمَّةً وَخَالَةً وَمَوْلَاهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَفِي قَوْلِ الْآخَرِينَ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ لِتَقَدُّمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَيْهِ وَقِسْ عَلَى هَذَا نَظَائِرَهُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَتْهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ فَلِمَوْلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ فَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهَا بِالْقَرَابَةِ ، وَإِذَا اشْتَرَتْ أَبَاهَا فَعَتَقَ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ فَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ بِالنَّسَبِ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنَتِهِ أَيْضًا بِحَقِّ الْوَلَاءِ بِالرَّدِّ ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةُ الْأَبِ فِي الْوَلَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ مَا بَقِيَ يُرَدُّ عَلَيْهَا بِالْقَرَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ أَعْتَقَ عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً فَإِنَّهَا تَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ مُعْتِقِهَا ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ } الْحَدِيثَ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرًا ، فَإِنْ اشْتَرَتْ أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَبَاهُمَا ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً وَتَرَكَ ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَمَا بَقِيَ فَلَهُمَا أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ وَلَكِنْ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ لِأَنَّهُمَا

عَصَبَةٌ وَعِنْدَ الْآخَرِينَ بِطَرِيقِ الرَّدِّ ، وَإِنْ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا آبَاهُمَا ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَتْرُك عَصَبَةً وَتَرَك ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَلِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي خَاصَّةً بِالْوَلَاءِ فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ وَفِي قَوْلِ الْآخَرِينَ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّ اشْتَرَتَا آبَاهُمَا ، ثُمَّ إنَّ إحْدَاهُمَا وَالْأَبُ اشْتَرَيَا أَخًا لَهُمَا مِنْ الْأَبِ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَب فَإِنَّ الْمَال بَيْن الِابْنَتَيْنِ وَبَيْنَ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا عَنْ ابْن حُرّ ، وَعَنْ ابْنَتَيْنِ حُرَّتَيْنِ ، فَكَانَ الْمِيرَاث لَهُمْ بِالْقَرَابَةِ فَلَا عِبْرَة لِلْوَلَاءِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ بَعْد ذَلِكَ فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَالثُّلُث الْبَاقِي نِصْفُهُ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مَعَ الْأَب خَاصَّة لِأَنَّ لَهَا نِصْف وَلَاء الْأَخ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِشِرَائِهَا وَشِرَاء الْأَب ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنهمَا وَمَا بَقِيَ فَبَيْنهمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرَكَتَانِ فِي وَلَاء الْأَب فَصَارَ حِصَّة الْأَب بَيْنهمَا نِصْفَيْنِ ، وَهُوَ سُدُس جَمِيع الْمَال وَتَخْرُج الْمَسْأَلَة مِنْ اثْنَتَيْ عَشَرَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا أَرْبَعَة أَسْهُم وَنِصْف ثُلُث الْبَاقِي وَذَلِكَ سَهْمَانِ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مَعَ الْأَب بِالْوَلَاءِ وَنِصْفُ الثُّلُث بَيْنهمَا نِصْفَانِ بِوَلَاءِ الْأَبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا مَاتَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ كَمَا قَالُوا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا الْأَبَ وَاشْتَرَتْ الْأُخْرَى وَالْأَبُ أَخًا لَهُمَا ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَالْمَالُ بَيْنَ الِابْنِ

وَالِابْنَتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَنِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَخَ مَعَ الْأَبِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ خَاصَّةً فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتَقِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَكُونُ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَهُمْ الذُّكُورُ مِنْ عَصَبَتِهِ لَا الْإِنَاثُ وَلَا الذُّكُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ } أَيْ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتَقِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ النَّسَب ، ثُمَّ النَّسَبُ لَا يُورَثُ نَفَسُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُورَثُ بِهِ فَكَذَا الْوَلَاءُ وَرَوَيْنَا عَنْ النُّجَبَاءِ السَّبْعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ فَالظَّاهِرُ هُوَ السَّمَاعُ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْفَتْوَى بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ فِيهَا مُخَالِفٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ أَيْ لِلْأَقْرَبِ ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ إلَى الْمُعْتَقِ يُقَالُ فُلَانٌ أَكْبَرُ قَوْمِهِ إذَا كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ .
وَإِنَّمَا شَرْطنَا الذُّكُورَةَ فِي هَذِهِ الْعُصُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَصَبَةِ هُمْ الذُّكُورُ إذْ الْعَصَبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ بَنِي يَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أَيْ جَمَاعَةٌ أَقْوِيَاءٌ أَشِدَّاءُ قَادِرُونَ عَلَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ أَنَّ الْوَلَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ فَيُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ كَمَا يُورَثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَرِثُ مِنْهُ الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلنِّسَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ } الْخَبَرَ وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ مَنْ أَحْرَزَ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ

لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ فَقَدْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الْمَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَالِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْ مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ مِنْ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِزُ الْمَالَ وَلَا تُحْرِزُ الْوَلَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْحَدِيثِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ الْعَصَبَاتِ وَبِهِ نَقُولُ وَلِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ أَوْلَى ، ثُمَّ بَيَانُ هَذَا فِي الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَوَلَاؤُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ لَا لِابْنِ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْبَرُ إذْ هُوَ أَقْرَبُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُسْتَحِقِّ عَصَبَةً يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ لَا يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ وَيُعْتَبَرُ لَهُ الْكِبَرُ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبُ لَا مِنْ حَيْثُ السِّنُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ قَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ عَمِّهِ الَّذِي هُوَ ابْنُ الْمُعْتِقِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٌ فَالْمَالُ بَيْنَ ابْنِ الْمُعْتِقِ وَبَيْنَ ابْنِ ابْنِهِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمَا فَكَمَا مَاتَ الْمُعْتَقُ فَقَدْ وِرْثَاهُ جَمِيعًا فَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَيْهِمَا ، ثُمَّ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْمَالِ ، فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ الْبَاقِي وَتَرَكَ ابْنًا ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ ابْنِ هَذَا الْمَيِّتِ وَبَيْنَ ابْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعُصُوبَةِ .

وَأَمَّا عَلَى قَوْل إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ فَلِانْتِقَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى وَلَده وَلَوْ كَانَ الْأَوَّل حِينَ مَاتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ الْبَاقِي وَتَرَك ابْنًا وَاحِدًا ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ ابْنِ هَذَا وَابْنَيْ الْأَوَّلِ يَكُونُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْعُصُوبَةِ ، وَعِنْدَهُمَا الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ النِّصْفُ لِابْنِ هَذَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ ابْنَيْ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ وَاحِدٍ حِصَّةَ أَبِيهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَمَاتَ الْبَنُونَ وَتَرَكَ أَحَدُهُمْ ابْنًا وَاحِدًا وَتَرَكَ الْآخَرُ خَمْسَةَ بَنِينَ وَتَرَكَ الثَّالِثُ عَشْرَةَ بَنِينَ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ بَيْنَ أَوْلَادِ الْبَنِينَ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْمُعْتَقِ وَعَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثٌ لِابْنِ الِابْنِ الْوَاحِدِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ بَيْنَ الْخَمْسَةِ بَنِي الِابْنِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَشَرَةِ بَنِي الِابْنِ فَتَصِحُّ فَرِيضَتُهُمْ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا لِابْنِ الِابْنِ الْوَاحِدِ عَشْرَةٌ وَعَشْرَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعَشْرَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ الْآخَرِ ، وَهُوَ الثَّالِثُ عَلَى عَشْرَةٍ ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدًا ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا شَرِيكُهُ فِي الْإِعْتَاقِ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِهِ الَّذِي هُوَ شَرِيكُ أَبِيهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّةُ أَبِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلِابْنِ الَّذِي كَانَ شَرِيكَ أَبِيهِ وَالرُّبْعُ لِلْآخَرِ ، فَإِنْ مَاتَ شَرِيكُ أَبِيهِ قَبْلَ الْعَبْدِ وَتَرَكَ ابْنًا ، ثُمَّ

مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَلِابْنِ الِابْنِ نِصْفُ الْوَلَاءِ الَّذِي كَانَ لِأَبِيهِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلِابْنِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْكُبْرُ مِنْ عَصَبَةِ الْأَبِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْوَلَاءِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْعَمِّ وَنِصْفُهُ لِابْنِ أَخِيهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْعَمُّ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِ شَرِيكِ أَبِيهِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِي عَمِّهِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثُ فَيَصِيرُ لِابْنِ شَرِيكِ أَبِيهِ الثُّلُثَانِ وَيَصِيرُ لِابْنَيْ عَمِّهِ الثُّلُثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَبًا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ ، وَإِنْ سَفَلَ لَا لِلْأَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سُدُسَا الْوَلَاءِ لِلْأَبِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشَرِيكٍ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يُنْزِلَانِ الْوَلَاءَ مَنْزِلَةَ الْمِيرَاثِ وَالْحُكْمُ فِي الْمِيرَاثِ هَذَا ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا يَتْرُكهُ الْمُعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَحَلَّ الْإِرْثِ ، بَلْ يَجْعَلُهُ لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَبُ لَا عُصُوبَةَ لَهُ مَعَ الِابْنِ ، بَلْ هُوَ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْمَالِ ، فَكَانَ الِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ .
فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ أَبًا وَثَلَاثَةَ إخْوَةً مُتَفَرِّقِينَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَأَخًا لِأُمٍّ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْأَبِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ الْعَصَبَةُ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ إلَى الْمُعْتِقِ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِ لِأَبٍ ؛ لِأَنَّهُ الْكُبْرُ ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ

مِنْ الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ ابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَلَا يَرِثُ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ وَلَا أَحَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْئًا مِنْ الْوَلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أَبِيهِ وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ فَالْوَلَاءُ لِلْجَدِّ لَا لِلْأَخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْأَخِ مَعَ الْجَدِّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُوَرِّثَانِ الْأَخَ مَعَ الْجَدِّ بِالتَّعْصِيبِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ لَا لِلْبِنْتِ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ هُوَ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لَا الْبِنْتُ وَلِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ ، أَوْ كَاتَبْنَ ، أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ } وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ اسْتِحْقَاقُهَا الْوَلَاءَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرِثْنَ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ ، أَوْ كَاتَبْنَ ، أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ أَوْ دَبَّرْنَ ، أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ ، وَإِنْ سَفَلُوا إذَا كَانُوا مِنْ امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ ، أَوْ مَا جَرَّ مُعْتِقُهُنَّ مِنْ الْوَلَاءِ إلَيْهِنَّ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي النِّسَاءِ { لَيْسَ

لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ } ، وَهَذَا مُعْتَقُهَا وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَمَنْ تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَلَوْ أَنَّ مُعْتِقَهَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَسْفَلُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَلَا يَرِثُ مَوْلَاهُ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ مَوْلَاهُ وَلَيْسَ بِمُعْتَقِهَا حَقِيقَةً ، بَلْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهَا ، فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ حَقِيقَةً أَوْلَى ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَعْلَى وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَسْفَلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ مُعْتِقِهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْ أَعْتَقَ } مَنْ أَعْتَقْنَ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ الْأَعْلَى عَصَبَةً فَمَالُهُ لِعَصَبَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ أَنْ لَا يَكُونُ لَلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمُعْتِقَ الثَّانِي أَعْتَقَ ثَالِثًا وَالثَّالِثَ أَعْتَقَ رَابِعًا فَمِيرَاثُهُمْ كُلُّهُمْ إذَا مَاتُوا لَهَا إذَا لَمْ يُخْلِفْ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَوْلًى أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْهَا وَلَا عَصَبَةً وَلَوْ كَاتَبَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا لَهَا فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ فَوَلَاؤُهُ لَهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْ كَاتَبْنَ } وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ مِنْ أَكْسَابِهِ فَأَدَّى الْأَسْفَلُ أَوَّلًا فَعَتَقَ ، كَانَ وَلَاؤُهُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ بَعْدُ ، وَكَذَا إذَا أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا فَعَتَقَا فَوَلَاؤُهُمَا لَهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْ كَاتَبَ } مَنْ كَاتَبْنَ وَكَذَا إذَا دَبَّرَتْ امْرَأَةٌ عَبْدًا لَهَا فَمَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ ، كَانَ وَلَاؤُهَا مِنْهَا حَتَّى يَكُونَ لِلذُّكُورِ مِنْ عَصَبَتِهَا وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِمَوْتِهَا فَدَبَّرَ

عَبْدًا لَهُ فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَتِهَا ، وَكَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهَا وَوَلَاءُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ يَكُونُ لَهَا ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُمْ يَثْبُتُ لِآبَائِهِمْ ، وَوَلَاءُ آبَائِهِمْ لَهَا ، كَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهِمْ .
امْرَأَةٌ زَوَّجَتْ عَبْدَهَا بِمَوْلَاةِ قَوْمٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ يَكُونُ لِمَوْلَى أُمِّهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ أَبَا الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُعْتَقٍ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِدُونِ الْعِتْقِ فَلَوْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا جَرَّ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوْلَاتِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ كَانَ مَالُهُ لِأَبِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَإِنْ كَانَ مَاتَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَعْتَقَتْ أَبَاهُ ، هَذَا تَفْسِيرُ جَرّ مَوَالِيَ النِّسَاءِ الْوَلَاءَ إلَيْهِنَّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا ثُمَّ مَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ إنْ كَانُوا مِنْ عَصَبَتِهَا ، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا ، وَعَقْلُهُ عَلَى سَائِرِ عَصَبَتِهَا دُونَ وَلَدِهَا فَإِنْ انْقَرَضَ وَلَدُهَا وَخَلَّفُوا عَصَبَةً لَهُمْ لَيْسُوا مِنْ قَوْمِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتِقَةِ وَلَهَا عَصَبَةٌ كَانَ لِعَصَبَتِهَا دُونَ عَصَبَةِ ابْنِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ ، وَأَنَّهُ لَا يُورَثُ ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَرْجِعُ الْوَلَاءُ إلَى عَصَبَتِهَا إذَا انْقَطَعَ وَلَدُهَا الذُّكُورُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبٍ وَكَانَ لَهَا مَوَالٍ أَعْتَقُوهَا فَالْوَلَاءُ لِمَوَالِيهَا ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ بَعْدَ بَنِيهَا لِعَصَبَةِ الْبَنِينَ دُونَ عَصَبَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ

مِيرَاثًا كَالْمَالِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنًا وَأَخًا لَهَا ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ ، فَمَالُهُ لِابْنِهَا لَا لِأَخِيهَا بِلَا خِلَافٍ ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا وَتَرَكَ أَخًا لَهُ وَأَبَاهُ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِلْخَالِ دُونَ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْخَالَ أَخٌ الْمُعْتِقَةِ وَهُوَ عَصَبَتُهَا وَالْأَبُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْتِقَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ الْوَلَاءُ الَّذِي لِلْأَخِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ لَا لِلْخَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ عَصَبَةُ الِابْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا لِأَبٍ أَوْ عَمًّا أَوْ جَدًّا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ أَوْ تَرَكَ مَوَالِيَ أَبِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ ، وَالْوَلَاءُ يَرْجِعُ إلَى عَصَبَةِ الْأُمِّ ، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ إنْ كَانَ لَهَا بَنُو عَمٍّ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ لَهَا مَوَالٍ أَعْتَقُوهَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ إلَيْهِمْ ، وَفِي قَوْلِ شُرَيْحٍ لَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ ، وَيَمْضِي عَلَى جِهَتِهِ ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إنَّ الْوَلَاءَ لِلذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهَا ، وَالْعَقْلُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا دُونَ سَائِرِ عَصَبَةِ الْمُعْتِقَةِ ، وَقَالَا كَمَا يَرِثُونَهُ كَذَلِكَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَلَاءِ مَوْلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : هِيَ أُمِّي فَأَنَا أَرِثُهَا وَلِيَ وَلَاؤُهَا ، وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ عَمَّتِي وَأَنَا عَصَبَتُهَا ، وَأَنَا أَعْقِلُ عَنْهَا فَلِي وَلَاؤُهَا فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ ، وَبِالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ ، وَالِابْنُ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِالتَّنَاصُرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ يَتَعَاقَلُونَ بِالتَّنَاصُرِ وَلَا

مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ وَلَا عُصُوبَةَ ، وَالتَّنَاصُرُ لَهَا وَلِمَوْلَاهَا بِقَوْمِ أَبِيهَا لَا بِابْنِهَا ؟ كَذَلِكَ كَانَ الْعَقْلُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِبَارُ الْعَقْلِ بِالْمِيرَاثِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ يَتْبَعُ الْمِيرَاثَ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَرِثُهُ وَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَأَخَوَاتُهُ وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً لَهَا عَقْلٌ كَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَصَبَتِهِ دُونَ وَلَدِهِ وَأَخَوَاتِهِ ؟ وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً لَهُ ثُمَّ غَرِقَا جَمِيعًا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا ، لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا وَكَانَ مِيرَاثُهُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ .

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَازِمٌ حَتَّى لَا يَقْدِرَ الْمُعْتِقُ عَلَى إبْطَالِهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَائِبَةً ، بِأَنْ أَعْتَقَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، كَانَ شَرْطُهُ بَاطِلًا وَوَلَاؤُهُ لَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : وَلَاؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } .
وَكَذَا لَا يَمْلِكُ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمْلِكُ نَقْلَهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا فَوَهَبَتْ الْوَلَاءَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ } .
وَلِأَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالُ ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالنَّسَبِ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَهَبَتْ لَهُ مَا اسْتَحَقَّتْ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ الْمَالُ فَرَوَاهُ الرَّاوِي وَلَاءً لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا بِالْوَلَاءِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَلْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحَّ ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهَا لِمَوَالِيهَا فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } وَهَلْ يَحْتَمِلُ

الْوَلَاءُ التَّحَوُّلَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ ؟ يُنْظَرُ فِيهِ إنْ ثَبَتَ بِإِيقَاعِ الْعِتْقِ فِيهِ لَا يَتَحَوَّلُ أَبَدًا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } أَلَزِمَ الْوَلَاءُ الْمُعْتِقَ وَإِنْ ثَبَتَ بِحُصُولِ الْعِتْقِ لِغَيْرِهِ ، تَبَعًا يَتَحَوَّلُ إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّحَوُّلِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ تَزَوُّجِ أَمَةٍ لِقَوْمٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَلَدَهَا أَوْ كَانَتْ حُبْلَى بِهِ حِينَ أَعْتَقَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ فَوَلَدَتْ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ وَقَدْ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ مَعَ أُمِّهِ ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى مَوْلَى أَبِيهِ وَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا فَقَدْ ثَبَتَ وَلَاءُ الْوَلَدِ بِإِيقَاعِ الْعِتْقِ فِيهِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُولَدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَثْبُتُ وَلَاؤُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَكُونَ حُرًّا تَبَعًا لِلْأُمِّ ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي أُمِّهِ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ ، وَوَلَاءُ الْوَلَدِ إذَا ثَبَتَ لِمَوَالِي الْأُمِّ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ يَتَحَوَّلُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ إذَا أُعْتِقَ الْأَبُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ ؛

لِأَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا فَيُجْعَلُ مُدَّةَ الْحَمْلِ سَنَتَيْنِ وَيُحْكَمُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ ، فَإِذَا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوْلَاهُ .
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا ، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ الْوَلَاءَ .
وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَبْصَرَ فِتْيَةً لَعْسَاءَ أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ ، وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ ( الْحُرْقَةِ ) مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ لِبَعْضِ أَشْجَعَ فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ قَالَ : انْتَسِبُوا إلَيَّ ، وَقَالَ رَافِعٌ : بَلْ هُمْ مَوَالِيَّ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَلَاءِ الْوَلَدِ فَقَضَى بِوَلَائِهِمْ لِلزُّبَيْرِ .
يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ جَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوْلَاهُمْ وَهُوَ الزُّبَيْرُ حِينَ أَعْتَقَهُ الزُّبَيْرُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَلَاءِ هُوَ الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ، وَالْأَبُ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَى الْأَبِ وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْأُمِّ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ النِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ ، وَكَذَا فِي اعْتِبَارِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْأُمِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاعْتِبَارِ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا فَيُعْتَبَرَ جَانِبُهُ ، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ بِالْوَلَاءِ مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ ، وَالتَّعْصِيبُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ

أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى ، وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ عَبْدًا وَلَمْ يَعْتِقْ كَانَ وَلَاءُ وَلَدِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ أَبَدًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الْأَبِ .
وَأَمَّا الْجَدُّ فَهَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ الْحَافِدِ بِأَنْ كَانَ لِلْأَبِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ أَبٌ عَبْدٌ ، وَهُوَ جَدُّ الصَّبِيِّ فَأُعْتِقَ الْجَدُّ ، وَالْأَبُ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُرُّ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ ، وَوَلَاءُ أَوْلَادِ ابْنِهِ الْعَبْدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ لَا لِمَوَالِي الْجَدِّ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يَجُرُّ ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ ، وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ إلَى الْجَدِّ ، فَكَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ وَالْإِسْلَامِ ، وَلَنَا أَنَّ الْأَبَ فَاصِلٌ بَيْنَ الِابْنِ وَالْجَدِّ ، فَلَا يَكُونُ الِابْنُ تَابِعًا لَهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْجَدَّ لَوْ جَرَّ الْوَلَاءَ لَكَانَ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ رَأْسًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَصْلَهُ يَكُونُ حُرًّا أَمَّا مِنْ الْجَدِّ أَيْ لِأَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ الْأَجْدَادِ إلَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ فِي الْجُمْلَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ ، وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لَصَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّ الْجَدِّ ، وَلَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ ، وَالْمَعْلُومُ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَعْلِ الْوَلَدِ تَابِعًا لِلْجَدِّ فِي الْوَلَاءِ بَاطِلٌ .

وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِهِ فَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهِ الْعِتْقُ ، وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ السَّبَبِ ، وَبَيَانُهُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْوَلَاءِ فَلَهُ أَحْكَامٌ : مِنْهَا الْمِيرَاثُ وَهُوَ أَنْ يَرِثَ الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ ، وَيَرِثُ مَالَ أَوْلَادِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْإِرْثِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا .
وَمِنْهَا تَحَمُّلُ الْعَقْلِ لِلتَّقْصِيرِ فِي النُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ ، وَمِنْهَا وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ، ثُمَّ إذَا وَرِثَ الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ فَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ مَعْلُومًا يُدْفَعْ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَوَقَّفَ الْوَلَاءُ ؛ كَمَا إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَكَذَا إنْ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
أَمَّا حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ فَإِنَّ إعْتَاقَ الْبَائِعِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي لِتَكْذِيبِ الْبَائِعِ إيَّاهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ مُصَدَّقٌ إنْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ ، فَيَثْبُتُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ حَقَّهُ ، فَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِعْتَاقِ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّهِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ عِتْقُ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ مَوْقُوفًا فَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مَعْلُومًا ، فَبَقِيَ وَلَاءُ الْعَبْدِ مَوْقُوفًا عَلَى تَصْدِيقِ الْبَائِعِ لَهُ وَوَرَثَتِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ ؛ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا ،

وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَصَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فَصَارَ تَصْدِيقُهُمْ كَتَصْدِيقِ الْمَيِّتِ ، هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِإِعْتَاقِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِتَدْبِيرِهِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَمَاتَ الْبَائِعُ عَتَقَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الْبَائِعِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِإِعْتَاقِهِ الْعَبْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِذَا مَاتَ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ إنْ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا ، فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَوَلَاؤُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمُ الْوَلَاءُ الْبَائِعَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِي هَذَا ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ وَلَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يَثْبُتْ فَالْوَرَثَةُ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُونَ إثْبَاتَ وَلَاءٍ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ إثْبَاتَ النَّسَبِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ تَصْدِيقَهُمْ إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِمَا يَمْلِكُونَ إنْشَاءَ سَبَبِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِلْحَالِ فَكَانَ إقْرَارًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ ، وَكَذَلِكَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ ، وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ بِعِتْقِهَا عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهَا مَوْقُوفًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَى الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِهِ فَانْتَفَى عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا ، وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّك قَدْ

أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ وَجَحَدَ الْآخَرُ فَالْعَبْدُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا لَمْ يَرِثْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَيُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ إلَى أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ ثُمَّ كُلُّ وَلَاءٍ مَوْقُوفٌ فَمِيرَاثُهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ مِيرَاثُهُ بِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ مَوْقُوفٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ هُوَ فَكَانَ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ فَيُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَاللُّقْطَةِ .
وَأَمَّا جِنَايَتُهُ فَإِنَّمَا لَا تُتَحَمَّلُ عَنْهُ بِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ لَهُ عَاقِلَةً غَيْرَ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ نَفْسُهُ ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ عَقْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيَصِيرُ هُوَ عَاقِلَةَ نَفَسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِجَهَالَةِ مَوْلَاهُ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ اللَّقِيطِ إنَّهُ يَرِثُهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَعْقِلُ عَنْهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَهُنَا وَلَاءَهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ الْعَقْلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ ثَابِتٌ إلَّا أَنَّ مِيرَاثَهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءُ اللَّقِيطِ مِنْ أَحَدٍ فَكَانَ عَقْلُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، كَمَا أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْوَلَاءُ .
فَالْوَلَاءُ يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ مَرَّةً ، وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى .
أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ أَنَّهُ وَارِثُهُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ أَعْتَقَ هَذَا الْحَيَّ أَوْ أَعْتَقَ الْمَيِّتَ ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَهُوَ وَارِثُهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا شَهَادَةً مُفَسَّرَةً ، لَا جَهَالَةَ فِيهَا .
فَقُبِلَتْ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ ، وَأَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يُفَسَّرَ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَلِفُ ، قَدْ يَكُونُ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ ، وَقَدْ يَكُونُ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ ، وَأَحْكَامُهَا تَخْتَلِفُ ، فَمَا لَمْ يُفَسَّرْ كَانَ مَجْهُولًا فَلَا يُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ أَعْلَى وَأَسْفَل ، وَاسْمُ الْمَوْلَى يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إلَّا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَهُ بِالْعِتْقِ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً جُعِلَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الدَّعْوَى وَالْحَجَّةُ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَوْ وَقَّتَا وَقْتًا فَالسَّابِقُ وَقْتًا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعِتْقَ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَكَانَ الثَّانِي مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْآخَرِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ ، فَكَانَ عَقْدُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ ، وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ لَا

يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي بِمِيرَاثِهِ وَوَلَائِهِ ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ ، إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَيَبْطُلُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِقَضِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَا يُنَافِيهَا إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كَانَ بَاطِلًا وَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ الثَّانِي إلَّا إذَا قَامَتْ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ فَيُقْبَلُ ، وَيَقْضِي لِلثَّانِي وَيَبْطُلُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا وَصَحَّ الثَّانِي .

وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَنَحْوُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ مَوْلًى لِفُلَانٍ ، مَوْلَى عَتَاقَةٍ مِنْ فَوْقُ أَوْ تَحْتُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ ، وَهُوَ مَوْلَاهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ يُتَوَارَثُ بِهِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ كِبَارٌ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : أَبُونَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لِفُلَانٍ آخَرَ ، فَالْأَبُ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفَسِهِ ، وَأَوْلَادُهُ مُصَدَّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَى الْأَوْلَادِ الْكِبَارِ ، فَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ ، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ صِغَارًا كَانَ الْأَبُ مُصَدَّقًا ؛ لِأَنَّهُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ مَعَ إنْسَانٍ عَقْدَ الْوَلَاءِ تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ ؟ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْأُمُّ وَنَفَتْ وَلَاءَهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهَا ، وَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَيًّا كَانَتْ الْوِلَايَةُ لَهُ ، وَالْوَلَاءُ يُشْبِهُ النَّسَبَ ، وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ : هُمْ وَلَدِي مِنْ غَيْرِك لَمْ تُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي يَدِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ ، فَلَا تُصَدَّقُ الْأُمُّ أَنَّهُمْ لِغَيْرِهِ .
فَإِنْ قَالَتْ وَلَدْته بَعْدَ عِتْقِي بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مَوْلَى الْمَوَالِي ، وَقَالَ الزَّوْجُ : وَلَدْتِيهِ بَعْدَ عِتْقِك بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ فِي حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ ، وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي أَنَّهَا وَلَدَتْ فِي حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأُمِّ فَكَانَ الْحَالُ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَنَظِيرُ هَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ ، إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : كَانَ النِّكَاحُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْوَلَدُ مِنْ الزَّوْجِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : كَانَ النِّكَاحُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ

قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ فِي حَالِ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ ، وَهُوَ حَالُ قِيَامِ النِّكَاحِ وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّوَارُثِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ ، وَلَوْ قَالَ : أَعْتَقَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَجْهُولٍ ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَالْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَجْهُولِ كَالنَّسَبِ ، فَبَطَلَ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يُقِرَّ لِمَنْ شَاءَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِهِ شَرْعًا ، وَفِي .
بَيَانِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ السَّبَبِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ ثَابِتٌ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُ يُورَثُ بِهِ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ إبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ ، وَكَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ ، وَلِهَذَا قَالَا : إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ، وَلَا وَارِثَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ كَانَ وَارِثُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ كَذَا هَذَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَالْمُرَادُ مِنْ النَّصِيبِ الْمِيرَاثُ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ النَّصِيبَ إلَيْهِمْ ، فَيَدُلُّ عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ

تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ ، وَوَالَاهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ } أَيْ حَالَ حَيَاتِهِ وَحَالَ مَوْتِهِ ، أَرَادَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْيَاهُ فِي الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ الْإِيمَانِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَلِلْمَوْلَى هَذَا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي فِي وَلَاءِ الْإِيمَانِ ؟ وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ كَذَا هَذَا ، إلَّا أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرٍ الْأَقَارِبِ ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ .
فَيُخَلَّفُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءُ وَإِيلَادُ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْعَقْدِ .
فَنَقُولُ : إنَّمَا يَصِيرُونَ وَرَثَتَهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْمُعَاقَدَةِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِالثُّلُثِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ .

وَأَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ : أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْت فَيَقُولَ : قَبِلْت سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لِآخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ فِي الْعَقْدِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ عَطَاءٍ هُوَ مَوْلًى لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } جَعَلَ الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ ، وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ ، وَكُلُّ النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَكَانَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ ، بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْعَقْدِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدِ ، إذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ ، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَالَاهُ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ وَعُقُودُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَقِفُ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ ، فَكَانَ إذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ .
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْقَبُولِ فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا فَقَبِلَ الصَّبِيُّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَا عَنْهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا فَقَبِلَ الْعَبْدُ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ ، إلَّا أَنَّ فِي الْعَبْدِ إذَا أَجَازَ الْمَوْلَى فَالْوَلَاءُ مِنْ الْمَوْلَى ، وَفِي الصَّبِيِّ إذَا أَجَازَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ مِنْ الصَّبِيِّ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَوَقَعَ قَبُولُهُ لِمَوْلَاهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لِمَوْلَاهُ ؟ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ ؟ وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ مُكَاتَبًا جَازَ وَكَانَ مَوْلًى لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَجَازَ قَبُولُهُ ؟ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى ؟ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ

الْوَلَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا فَأَدَّى وَعَتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى ؟ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْ الِابْنِ ؟ .
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ ، فَيَصِحُّ فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ ، وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ ، أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ ، كَذَا الْمُوَالَاةُ ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا وَالَى ذِمِّيًّا ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ جَازَ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً ، وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا ، وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَام أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَرِثُهُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْ الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَتُعْطَى نَصِيبُهَا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ فَيَتَنَاصَرُونَ بِهَا ، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ .
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَرَبِ فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ وَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقَ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِمَنْ عَاقَدَهُ أَوَّلًا فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ وَخَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَتُهُ غَيْرَهُ ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ الَّذِي يُوَالِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ جَازَ عَقْدُهُ مَعَ آخَرَ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْلِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الثَّانِي فَسْخًا لِلْأَوَّلِ .

وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ ، إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرِ لَازِمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ يَجُوزُ لِلْآخَرِ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ .
وَهَا هُنَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ وَهُوَ الْقَابِلُ ، فَكَذَا الْآخَرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ ، إلَّا أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ آخَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلَالَةً ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ أَوْ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ غَيْرِهِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ ، فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً وَضَرُورَةً ، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ عَزَلَهُ ، وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ .
فَالْعَقْلُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَالْإِرْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى يَعْقِلُ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَيَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ ، فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى أَيْضًا إذَا شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَةِ ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنَّ هُنَاكَ يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ هُنَاكَ وُجِدَ مِنْ الْأَعْلَى لَا مِنْ الْأَسْفَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ .
وَالسَّبَبُ هَهُنَا الْعَقْدُ وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ ؛ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } وَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَلَاءِ فِي الرِّجَالِ يَثْبُتُ فِي أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ تَبَعًا لَهُمْ ، حَتَّى لَوْ وَالَى إنْسَانًا وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ صَارُوا مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَاهُ الْأَبُ ، وَكَذَا إذَا وَالَى إنْسَانًا ثُمَّ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ دَخَلُوا فِي وَلَاءِ الْأَبِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، وَلِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَيَنْفُذُ عَقَدُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ مَوَالِيَ بِمُوَالَاةِ الْأَبِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ بِالْبُلُوغِ ، حَتَّى لَوْ وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا وَلَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ فَوَالَى رَجُلًا آخَرَ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِمَوْلَى أَبِيهِ ، وَلَوْ كَبِرَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أَحَدِ إخْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا جَوَازُ التَّحَوُّلِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَبِيرًا وَقْتَ عَقْدِ الْأَبِ لَجَازَ لَهُ التَّحَوُّلُ ، وَكَذَا إذَا كَبِرَ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السِّرَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ .

وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْعَقْلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اتِّصَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَفِي التَّحَوُّلِ فَسْخُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَلْزَمَ ضَرُورَةً ، وَلَوْ عَاقَدَتْ امْرَأَةٌ عَقْدَ الْوَلَاءِ وَلَهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَا يَصِيرُونَ مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَتْهُ أُمُّهُمْ وَلَا تُشْبِهُ الْأُمُّ فِي هَذَا الْبَابِ الْأَبَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَشْتَرِي لَهُمْ وَلَا تَبِيعُ عَلَيْهِمْ وَلِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؟ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : يَثْبُتُ حُكْمُ وَلَائِهَا فِي أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ ، وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا ، ثُمَّ وُلِدَ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ وَالَتْ رَجُلًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَلَاءَانِ ؛ وَلَاءُ الْأَبِ وَوَلَاءُ الْأُمِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَيْهِمْ وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهِ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذَلِكَ ؟ فَكَذَا عَقْدُ الْوَلَاءِ وَكَذَا لَوْ وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ ؛ لِأَنَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ ، وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ ، فَكَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الْعِتْقِ .
فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَبِالْعَقْدِ ، وَعَقْدُهَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَلَمْ يَصِرْ الْوَلَدُ أَصْلًا فِي الْوَلَاءِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَبِ فِي الْوَلَاءِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَوَالَتْ الْأُمُّ إنْسَانًا ثُمَّ وَالَى الْأَبُ آخَرَ فَوَلَاءُ الْأَوْلَادِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِمَا قُلْنَا ذِمِّيَّةٌ أَسْلَمَتْ فَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ مِنْ ذِمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ

وَمُحَمَّدٍ ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَتَاقَةِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأُمَّ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهَا عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَلَاءِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ مِنْ الْأَبِ ، وَالْوَلَاءُ إذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَكَمَا فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا ، وَلَوْ قَدِمَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ سُبِيَ ابْنُهُ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ ، وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَبُ فَلَا يَتْبَعُ الِابْنَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الِابْنُ إلَى أَبِيهِ فَإِنْ كَانَ ابْنُ الِابْنِ أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا لَمْ يَجُرَّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ فَيَجُرُّ بِجَرِّهِ وَلَاءَ ابْنِهِ وَلَاءَهُ ، وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ : وَجْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ مُوَالِيًا ، وَالْأَوْسَطُ حَرْبِيًّا وَالْجَدُّ مُعْتِقًا فَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ الْأَسْفَلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْأَوْسَطُ وَيُوَالِيَ ، فَيَجُرُّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ وَوَلَاءَ الْأَسْفَلِ بِجَرِّ وَلَائِهِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ الْكَبِيرُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَوْلَى لِلَّذِي وَالَاهُ وَلَا يُجَرُّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هَهُنَا وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ ، وَعَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

يَجُوزُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهُنَاكَ وَلَاءُ الْوَلَدِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ وَوَلَاءُ الْأَبِ ثَبَتَ بِالْعِتْقِ وَوَلَاءُ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَيَسْتَتْبِعُ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ صَاحِبِهِ لِثُبُوتٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ } حَتَّى لَوْ بَاعَ رَجُلٌ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ بِعَبْدٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ إذْ الْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَمْلِكْهُ فَلَمْ يَصِحَّ إعْتَاقُهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ بِحُرٍّ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَاءَهُ مِنْ آخَرَ ، أَوْ وَهَبَهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا أَيْضًا وَلَا هِبَةً لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلَاءِ الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً لِهَذَا الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُعْتَاضُ مِنْهُ فَبَطَل الْعِوَضُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ : الْوَلَاءُ لَك فَيَكُونُ مُوَالَاةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ صَحَّ التَّسْلِيمُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْمَالُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِمَا ظَهَرَ بِهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ ، أَوْ الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إقْرَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ ، وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي ، أَلِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلَا مَانِعَ عَنْهُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ ، فَإِنْ خَاصَمَهُ أَحَدٌ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ ، وَكَانَ مُدَّعِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .

( كِتَابُ الْإِجَارَةِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِجَارَةِ ، وَمَعْنَاهَا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِضَافَةِ الْبَيْعِ إلَى أَعْيَانٍ تُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ فَلَا جَوَازَ لَهَا رَأْسًا لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ أَبُ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أَيْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي أَوْ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ عِوَضِي مِنْ إنْكَاحِي ابْنَتِي إيَّاكَ رَعْيَ غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ، يُقَالُ : آجَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَوَّضَهُ ، وَأَثَابَهُ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ { قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ يَصِيرُ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً وَيَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا

مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَالْإِجَارَةُ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَدْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي حَجِّ الْمُكَارِي فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : إنَّا قَوْمٌ نُكْرَى ، وَنَزْعُمُ أَنْ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ فَقَالَ : أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ ، وَتَقِفُونَ ، وَتَرْمُونَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنْتُمْ حُجَّاجٌ ، ثُمَّ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتنِي فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتُمْ حُجَّاجٌ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِرْضَاعُ بِالْأُجْرَةِ ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ أَيْ الْأَجْرَ الَّذِي قَبِلْتُمْ ، وَقَوْلُهُ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهَذَا نَصٌّ وَهُوَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَجْرِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا فَارْتَحَلَا ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ } وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازُ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، وَهُوَ فِي حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ : لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ } خَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا مِنْهُ وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْأَصَمِّ حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هُوَ

خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْإِجَارَةِ مَاسَّةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ لَهُ دَارٌ مَمْلُوكَةٌ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أَوْ دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ يَرْكَبُهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ ، وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِجَارَةِ فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بِهَا فَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْهِبَةُ ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْإِعَارَةُ ، فَلَوْ لَمْ يُشَرِّعْ الْإِجَارَةَ مَعَ امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَمْ يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ سَبِيلًا وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْإِجَارَةِ ، وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ ، وَالِاسْتِئْجَارِ ، وَالِاكْتِرَاءِ ، وَالْإِكْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ .
وَالْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا فِي الْإِجَارَةِ كَالْكَلَامِ فِيهِمَا فِي الْبَيْعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبَدَلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ أُجْرَةً ، وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَالْأُجْرَةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ ، وَالْمَنَازِلِ ، وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ ، وَالْحَمَّامَاتِ ، وَالْفَسَاطِيطِ ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ ، وَالدَّوَابِّ ، وَالثِّيَابِ ، وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي ، وَالظُّرُوفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ إلَى الصُّنَّاعِ مِنْ الْقَصَّارِ ، وَالْخَيَّاطِ ، وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ ، وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ ، وَالْأَجِيرُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِأَجِيرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعَانِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَإِجَارَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وَفِي الْآخَرِ الْعَمَلَ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّوْعَيْنِ

جَمِيعًا ، إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى ، وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ ، وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ ، بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ ، وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ مِنْ الْخِيَاطَةِ ، وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا ، وَقَدْ يُقَامُ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَاحِد حَتَّى لَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ : لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أَوْ سَمْنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ لِتُرْضِعَ جَدْيًا أَوْ صَبِيًّا لِمَا قُلْنَا ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ عَيْنٍ لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ ، وَالْبِئْرَ مَعَ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِلسَّمَكِ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ فَاسِدٌ فَكَانَ مَعَ الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي ؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الْإِجَارَةُ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا ، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا

الْعَيْنُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بِهَا مِكْيَالًا أَوْ زَيْتًا لِيُعَبِّرَ بِهِ أَرْطَالًا أَوْ أَمْنَانًا أَوْ وَقْتًا مَعْلُومًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَهُوَ عَيْنٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ قَطْعِ النَّسْلِ ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ بِهِ أَوْ بَازِيًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّيْدُ وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى الْأَصْلِ ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى خِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ

الصَّبَّاغِ وَإِذَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ لَوْنًا آخَرَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْفَعَةَ كَذَا هَهُنَا ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تَتَبُّعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فَأُجْرِيَ اللَّبَنُ مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ ، وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ ، وَالْقِصَارَةِ ، وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ ، وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا مِنْهَا عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْإِجَارَةُ بِبَيْعِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجُزْ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فِيهِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ وَالنَّظَرُ فِي مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ مُبَاحٌ ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْحَطَبِ ، وَالْحَشِيشِ ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فِيهَا شِعْرًا أَوْ فِقْهًا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فِيهَا وَالنَّظَرُ فِي دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ لِيَقْعُدَ فِيهِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ عَقْدِ

الْمُعَاوَضَةِ ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي لِلْكَلَأِ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ إنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَالْعَقْلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ عَاقِلًا حَتَّى لَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَلَا مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذِ عِنْدَنَا ، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ لَوْ أَجَرَ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ .
وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَعَمِلَ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ كَانَ نَظَرًا لَهُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ سَلِيمًا فِي النَّفَاذِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَا يُهْدَرُ سَعْيُهُ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ مِنْ الْغَيْرِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لَهُ فَلِأَنَّهَا بَدَلُ مَنَافِعَ وَهِيَ حَقُّهُ ، وَكَذَا حُرِّيَّةُ الْعَاقِدِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا ، فَيَنْفُذُ عَقْدُ الْمَمْلُوكِ إنْ كَانَ مَأْذُونًا وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ مَحْجُورًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقِفُ بَلْ يَبْطُلُ ، وَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ أَوْ إجَارَةِ مَالِ الْمَوْلَى وَجَبَ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ الْأَجْرَ هُنَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَالْأَجْرُ كَسْبُهُ ، وَكَسْبُ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ ،

وَلَوْ هَلَكَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا حَيْثُ اسْتَعْمَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِيمَةُ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأُجْرَةِ هَهُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ لِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَسْتَأْجِرَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَاقِدِ طَائِعًا جَادًّا عَامِدًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ، وَإِسْلَامُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا فَتَجُوزَ الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ ، وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ ، غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي الْمِصْرِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ لَهُ ذَلِكَ ، وَلِرَبِّ الدَّارِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحِسْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْدَاثِ شَعَائِرَ لَهُمْ وَفِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَاسْتِخْفَافٌ بِهِمْ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } أَيْ لَا يَجُوزُ إخْصَاءُ الْإِنْسَانِ وَلَا إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَمْصَارِ ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ

بِالسَّوَادِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السَّوَادِ فِي زَمَانِهِ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَجُوسِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْإِهَانَةِ ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ صَارَ السَّوَادُ كَالْمِصْرِ فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمِصْرِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا شُرِطَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ كَافِرَةٍ ، وَاَلَّتِي وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْفُجُورَ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّ لَبَنَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ ، وَيُكْرَهُ اسْتِئْجَارُ الْحَمْقَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُفْسِدُ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ أَبْلَغُ مِنْ الرَّضَاعِ ، نَهَى وَعَلَّلَ بِالْإِفْسَادِ ؛ لِأَنَّ حُمْقَهَا لِمَرَضٍ بِهَا عَادَةً وَلَبَنُ الْمَرِيضَةِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ بِعَادَةِ الْحَمْقَى ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَعَوَّدُ بِعَادَةِ ظِئْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَمَكَانِهِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .

وَأَمَّا شَرْطُ النَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا خُلُوُّ الْعَاقِدِ عَنْ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ ، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ السِّيَرِ .

وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَنْفُذُ إجَارَةُ الْفُضُولِيِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ ، وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْبَيْعِ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ الْإِجَارَةَ الْمَوْقُوفَةَ بِشَرَائِطَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْبُيُوعِ مِنْهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَجَرَ الْفُضُولِيُّ فَأَجَازَ الْمَالِكُ الْعَقْدَ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَتْ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فَاتَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِأَمْرِهِ جَازَ فَإِذَا كَانَ مَحَلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَانَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ ، وَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا قَدْ انْعَدَمَتْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ .
وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَجَّرَهُ سَنَةً لِلْخِدْمَةِ وَفِي رَجُلٍ آخَرَ غَصَبَ غُلَامًا أَوْ دَارًا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَجُلٌ أَنَّهُ لَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ : قَدْ أَجَزْت مَا أَجَرْت إنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ إنْ كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ فَلِلْغَاصِبِ الْأَجْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ انْعَدَمَ ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَالْأَجْرُ الْمَاضِي وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْغُلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَجْرُ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ ، وَأَجْرُ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الْمُدَّةِ فَقَالَ : إذَا بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ ، وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَالَ : كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِحِيَالِهِ كَأَنَّهُ

عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً بِالْمَنَافِعِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَانْعَدَمَتْ فَانْعَدَمَ شَرْطُ لُحُوقِ الْإِجَازَةِ الْعَقْدَ فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْإِجَارَةَ : إنَّ أُجْرَةَ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ ، وَأُجْرَةَ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ قَالَ : فَإِنْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً فَأَجَازَهَا صَاحِبُ الْأَرْضِ جَازَتْ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ سَنْبَلَ مَا لَمْ يَسْمُنْ ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يُفْرَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، فَكَانَ إجَازَةُ الْعَقْدِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ .
وَأَمَّا إذَا سَمُنَ الزَّرْعُ فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُ الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدُ الْإِجَازَةَ .
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَهُوَ كَشِرَائِهِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ لَهُ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالِاسْتِئْجَارِ أَنَّهُ يَقَعُ اسْتِئْجَارُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْوَكِيلِ أَنَّهَا نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ بِإِنَابَةِ الْمَالِكِ إيَّاهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ وَأَبِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مِلْكَيْهِمَا ، كَذَا لِلْوَكِيلِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ مُكَاتَبِهِ ؛

لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ فَكَذَا لِوَكِيلِهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُهُ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ ذَلِكَ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَيَجُوزُ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكَسْبُهُ وَإِنْ كَانَ مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجُعِلَ الْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَكُلِّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِمِثْلِ أَجْرِ الدَّارِ وَبِأَقَلّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالْأَقَلِّ ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ ، وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فَاسِدَةً نَفَذَتْ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا انْتَفَعَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، وَلَوْ لَمْ يُؤَاجِرْ الْمُوَكِّلُ الدَّارَ لَكِنَّهُ وَهَبَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ أَعَارَهَا إيَّاهُ فَسَكَنَهَا سِنِينَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْإِنَابَةِ مِنْ الشَّرْع ، فَلِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فِي عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الصَّغِيرِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ

عَلَيْهِ كَشَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فَكَذَا ؛ ابْنُهُ وَلِأَنَّ فِيهَا نَظَرًا لِلصَّغِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِمَالٍ خُصُوصًا مَنَافِعُ الْحُرِّ وَبِالْإِجَارَةِ تَصِيرُ مَالًا ، وَجَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا مِنْ بَابِ النَّظَرِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ إيجَارَهُ فِي الصَّنَائِعِ مِنْ بَابِ التَّهْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ وَالرِّيَاضَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَوَصِيُّهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ ، وَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا ، وَأَمِينُهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ غَيْرِ الْأَبِ ، وَوَصِيِّهِ ، وَالْجَدِّ ، وَوَصِيِّهِ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا كَانَ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى ، إلَّا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ فَتَجُوزُ إجَارَتُهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهِ وَيُؤَدِّبُهُ ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الصَّنَائِعِ نَوْعٌ مِنْ التَّأْدِيبِ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْدِيبٌ ، فَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَأَجَرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ آخَرَ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي حِجْرِهِ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ عَمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ فَأَجَّرَتْهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَجُوزُ إجَارَتُهَا إيَّاهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَجُوزُ ، .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَمَقْصُودًا ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ ضِمْنًا لِوِلَايَةِ التَّرْبِيَةِ وَأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حِجْرِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ ذَا الرَّحِمِ إنَّمَا يَلِي عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوِلَايَةِ

بِسَبَبِ الرَّحِمِ فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي الرَّحِمِ كَانَ أَوْلَى كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ ، وَلِلَّذِي فِي حِجْرِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأُجْرَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَاقِدُ فَكَانَ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَالُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَكَذَا إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضٌ لِلصَّغِيرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ قَبْضَهَا بِنَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ ، وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي هَذَا كُلِّهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إضْرَارًا بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ خِدْمَةِ النَّاسِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَكُنْت أَتْرُكُهُ يَخْدُمُ النَّاسَ وَقَدْ أَجَرَهُ أَبُوهُ هَذَا قَبِيحٌ ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا بَلَغَ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَبَ عَقَدَ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ كَمَا إذَا عَقَدَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُمَا وَالْقَاضِي وَوَصِيُّهُ فِي إجَارَةِ عَبْدِ الصَّغِيرِ وَعَقَارِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ كَذَا بِالْإِجَارَةِ ؛ وَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ إجَارَةِ النَّفْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَمَنْ يَمْلِكُ إجَارَةَ مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَنْ يُؤْجِرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ قَدْرَ مَا

لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً ، وَلَوْ فَعَلَ لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الضَّرَرِ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ هُوَ فِي حِجْرِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ كَبَيْعِ الْمَالِ ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُؤَاجِرُوا عَبْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إجَارَةَ نَفْسِهِ فَإِجَارَةُ مَالِهِ أَوْلَى ، وَكَذَا أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْيَتِيمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ التَّصَرُّفَ فِيمَا يُخَافُ الضَّرَرُ بِتَأْخِيرِهِ ، وَفِي تَرْكِ إجَارَةِ الصَّبِيِّ ضَرَرٌ مِنْهُ بِتَرْكِ تَأْدِيبِهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِ إجَارَةِ الْعَبْدِ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَصِيِّ نَفْسَهُ مِنْهُ لِلصَّبِيِّ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُ إجَارَةَ نَفْسِهِ مِنْهُ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ ، وَلَا نَظَرَ لِلصَّغِيرِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَعْلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا فَلَمْ يَجُزْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْوَصِيَّ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَا يُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَا يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ؛

لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الصَّبِيِّ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا .
( وَأَمَّا ) اسْتِئْجَارُ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ نَفْسه إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ ، وَفِي اسْتِئْجَارِهِ إيَّاهُ لِنَفْسِهِ نَظَرٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلصَّغِيرِ أَوْ يَسْتَأْجِرَ الصَّغِيرَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْأَبِ مِنْ الصَّغِيرِ وَشِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ النَّظَرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ ، فَكَذَا الْإِجَارَةُ .

وَمِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى حِينِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ .
وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ، وَهَذَا أَصْلٌ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ انْعِقَادِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَالتَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَأَجِيرِ الْوَحْدِ ، حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا يَمْلِكُ هُوَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ ، وَلَوْ مَضَى بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا مَضَى لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ فِيهِ ، وَلَوْ أَجَرَ الْمَنْزِلَ فَارِغًا وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يُفْتَحْ الْبَابُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَهُ كُلُّ الْأَجْرِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَحَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى

الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ ، كَذَا هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ لَكِنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَابِ فَقَالَ : مُرَّ ، وَافْتَحْ الْبَابَ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ بِالْمُعَالَجَةِ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا شَهْرًا أَوْ عَبْدًا يَسْتَخْدِمُهُ شَهْرًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَ وَاسْتَخْدَمَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ إبَاقٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ كَانَ زَرْعًا فَقَطَعَ شُرْبَهُ أَوْ رَحًى فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ لَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ تِلْكَ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مُسَلَّمَةً بِتَسْلِيمِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَإِذَا اعْتَرَضَ مَنْعٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْهَلَاكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ لَا يَنْفُذُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَا دَامَ الْخِيَارُ قَائِمًا ، لِحَاجَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِمَا مَرَّ لَكِنْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ ، وَلِهَذَا جَازَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَلِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ أَعْنِي الرُّكْنَ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِجَارَةُ تِجَارَةٌ ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَبَادُلُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ } فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُنَافِي الرِّضَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا إسْلَامُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَالْكَافِرِ ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مِنْهُمْ ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ ، فَيَصِحُّ مِنْ الْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ ، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَحْجُورِ ، وَيَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَضُرُوبٌ : مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ .
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ يُوجَدُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَكُونُ بِبَيَانِ أَشْيَاءَ مِنْهَا : بَيَانُ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ : أَجَرْتُك إحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ ، أَوْ قَالَ : اسْتَأْجَرْت أَحَدَ هَذَيْنِ الصَّانِعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا بَاعَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ دَارٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ النَّصِيبِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ عَرَفَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ يَعْرِفُهُ ، أَوْ لَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِيمَا قَالَ : وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْعَ النَّصِيبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ ، وَالثَّانِي : أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مَعْلُومًا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى ، وَعِنْدَهُمَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ جَوَّزَ

إجَارَةَ النَّصِيبِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ النَّصِيبِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَالنَّصِيبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ النَّصِيبُ مَجْهُولٌ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ عَقَارٍ مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ أَرْضٍ جَرِيبًا أَوْ جَرِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الذِّرَاعِ عِنْدَهُ يَقَعُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحُلُّهُ الذِّرَاعُ مِنْ الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَذَلِكَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ ، وَكَذَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى ، وَعِنْدَهُمَا الذِّرَاعُ كَالسَّهْمِ وَتَجُوزُ إجَارَةُ السَّهْمِ كَذَا إجَارَةُ الذِّرَاعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ ، إذْ الشَّائِعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ إجَارَةَ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الشَّائِعِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ وَنَذْكُرُ الدَّلَائِلَ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا مِنْ دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ إجَارَةَ الْمَشَاعِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَيْتٍ لِيَبِيتَ عَلَيْهِ شَهْرًا أَوْ لِيَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ نُسَخِ الْأَصْلِ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا

أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْعُلُوِّ ، وَالضَّرَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَا ضَابِطَ لَهُ فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَأَثَّرُ لِثِقَلِ الْبِنَاءِ وَخِفَّتِهِ ، وَيَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَشْغَلُ الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيَسُوقَ مِنْهُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ لَهُ فَيَسْقِيهَا لَمْ يَجُزْ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا يُجْرِي فِيهِ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ أَوْ رَحًى لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرُ عَلَى سَطْحِ الْمُؤَاجِرِ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا فَاسِدًا ؟ ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا مِنْ أَرْضٍ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُسِيلُ فِيهِ مَاءَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ بِالتَّعْيِينِ ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَسِيلُ مِنْ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ وَالْمَسِيلِ مُخْتَلِفٌ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالنَّهْرِ

وَالسَّطْحِ ، وَالْمُضِرُّ مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً ، وَغَيْرُ الْمُضِرِّ غَيْرُ مَضْبُوطٍ ، فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيُرَكَّبَهُ فِي دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ الْمُرَكَّبَ فِي دَارِهِ لَا تَخْتَلِفُ مَنْفَعَتُهُ بِكَثْرَةِ مَا يَسِيلُ فِيهِ وَقِلَّتِهِ ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وَضُوءًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يُصَبُّ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ فِيهِ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَضَعَ فِيهِ مِيزَابًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ الْحَائِطِ مَوْضِعَ كُوَّةٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّوْءُ ، أَوْ مَوْضِعًا مِنْ الْحَائِطِ لِيَتِدَ فِيهِ وَتَدًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ ؟ فَالْجَوَابُ : إنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا فَرُبَّمَا تَمُوتُ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَابَّةٍ أُخْرَى ، فَيَبْقَى فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ حَمُولَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِحَالَةِ النَّاسِ ، فَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ

الْمُدَّةِ وَقَدْرِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَمَّامِ ، وَقَالَ هِشَامٌ : سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ بِأَنْ قَالَ : أُطْلِيك بِدَانِقٍ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا يَطْلِيه مِنْ غِلَظِهِ وَنَحَافَتِهِ ، قَالَ : هُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْبَدَنِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ يَسِيرٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ .

وَمِنْهَا : بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي إجَارَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ ، وَالْبُيُوتِ ، وَالْحَوَانِيتِ ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِدُونِهِ ، فَتَرْكُ بَيَانِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَسَوَاءٌ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ مِنْ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَالْقَوْلَانِ لَا مَعْنَى لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ هُوَ الْجَهَالَةَ فَلَا جَهَالَةَ ، وَإِنْ كَانَ عَدَمَ الْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ عَيَّنَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ .
وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْوَقْتُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ نَصًّا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِوَقْتٍ مُنَكَّرٍ ، وَجَهَالَةُ الْوَقْتِ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَعْيِينَ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَبْقَى مَجْهُولًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ ، وَلَنَا إنَّ التَّعْيِينَ قَدْ يَكُونُ نَصًّا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلَالَةُ التَّعْيِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ ، وَالْحَاجَةُ عَقِيبَ الْعَقْدِ قَائِمَةٌ ، وَالثَّانِي : إنَّ الْعَاقِدَ يَقْصِدُ بِعَقْدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِالصَّرْفِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ ، فَيَتَعَيَّنُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أَوْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ أَحَبَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ لَيْسَ

بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فَوَجَبَ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي شَهْرٍ مُنَكَّرٍ ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ ، وَلَوْ آجَرَ دَارِهِ شَهْرًا أَوْ شُهُورًا مَعْلُومَةً فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْأَهِلَّةِ ، بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ مَا مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ فَفِي إجَارَةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ .
وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الشَّهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ ، وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ تَكْمِيلَ هَذَا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : إذَا اسْتَأْجَرَ سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهَذَا الْيَوْمُ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ ، وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ ، وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ ، وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ : وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا قَدْ سَكَنَ فَلَمْ يَبْقَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ إلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا إذَا كَانَ سَكَنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشُّهُورِ لِلْأَهِلَّةِ إذْ الشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ لُغَةً ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَيَّامُ وَيُمْكِنُ فِيمَا بَعْدَهُ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَصِيرُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَقَدَ الْإِجَارَةَ ابْتِدَاءً

فَيُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَيَّامُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْتُبِرَ فِيهَا زِيَادَةُ الْعَدَدِ احْتِيَاطًا ، وَالْإِجَارَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَدْخُلُهُ الِاحْتِيَاطُ ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَمُلَ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي يَصِير أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي بِالْأَيَّامِ ، فَيُكْمَلُ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ وَهَكَذَا إلَى آخَرِ الشُّهُورِ ، وَلَوْ قَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَالْأُجْرَةَ مَعْلُومَةٌ فَلَا يَجُوزُ - وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا - الْفَسْخُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ السَّنَةَ فَقَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ : بِعْت مِنْك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ ، فَأَمَّا الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ، وَفَرَّقَا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ شَهْرٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْجُمْلَةِ بِالْكَيْلِ ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى قَوْلِهِمَا كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَفِي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي

الْمَذْرُوعِ فِي الْكُلِّ لَا فِي ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي الْبَاقِي ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَجُوزُ فِي وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي فِي الْحَالِ ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قَفِيزٍ وَقَفِيزٍ فَأَمَّا بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ فَلَا يَجُوزُ لِتَفَاوُتٍ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذِهِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَاعْتَبَرَهَا بِبَيْعِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ بِدِرْهَمٍ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ فِي أَنْفُسِهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا لِاخْتِلَافِهَا ، فَأَمَّا الشُّهُورُ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ فَيَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا لِلْإِجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِذَا جَازَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِي وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَصَارَا كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ ، وَكَذَا هَذَا عِنْدَ مُضِيِّ كُلِّ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَرَ شَهْرًا ، وَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ كُلَّ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ شَيْءٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي وَقْتِ الْفَسْخِ وَكَيْفِيَّتِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَقُولُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَوْرِ : فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ انْعَقَدَتْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا الْإِجَارَةَ فِي الْحَالِ ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ عَمِلَ

ذَلِكَ الْفَسْخُ السَّابِقُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ أَوْ يَوْمَهَا وَإِنْ سَكَتَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ ، وَمَعْنَى الْفَسْخُ هَهُنَا هُوَ مَنْعُ انْعِقَادِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْعَقْدِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْلِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَلْوًا وَبَكَرَةً لِيَسْقِيَ غَنَمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الزَّمَانِ الَّذِي يَسْقِي فِيهِ الْغَنَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ قَدْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَأْجَرُ لَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِجَارَةِ أَعْنِي إجَارَةَ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ جَازَ ، وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَعَ غَيْرِهِ ، وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَتَاعًا ، وَغَيْرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهِ حَدَّادًا ، وَلَا قَصَّارًا ، وَلَا طَحَّانًا ، وَلَا مَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ لِلِانْتِفَاعِ ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِالسُّكْنَى ، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدَّةُ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى ، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا ، وَأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَوَضْعُ الْمَتَاعِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِي الدَّارِ دَابَّتَهُ ، وَبَعِيرَهُ ، وَشَاتَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَالْجَوَابُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ مَنْ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ مِنْ الْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ وَالطَّحَّانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافُ الْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ ، إذْ الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَانُوتَ الَّذِي يَكُونُ فِي صَفِّ الْبَزَّازِينَ أَنَّهُ لَا يُؤَاجَرُ لِعَمَلِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ وَالطَّحَّانِ ؛ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ ، إذْ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُ فِي الْعَقْدِ إلَّا

بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالرِّضَا ، حَتَّى لَوْ آجَرَ حَانُوتًا فِي صَفِّ الْحَدَّادِينَ مِنْ حَدَّادٍ يَدْخُلُ عَمَلُ الْحِدَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِلْعَادَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ وَيُعِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا تُسْتَأْجَرُ لَهُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً ، إلَّا إذَا جَعَلَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِمَا شَاءَ ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَزْرَعُ فِيهَا أَوْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ ، وَكَذَا الْمَزْرُوعُ يَخْتَلِفُ ، مِنْهُ مَا يُفْسِدُ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُ مَا يُصْلِحُهَا ، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِخِلَافِ السُّكْنَى فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ

وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ : الْمُدَّةِ أَوْ الْمَكَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ أَحَدُهُمَا فَسَدَتْ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً يُشَيِّعُ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَتَلَقَّاهُ إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَبَّانَةَ تَخْتَلِفُ أَوَّلُهَا وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ وَاسِعٌ تَتَبَاعَدُ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا مُتَبَاعِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ هُنَاكَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَهُوَ مَنْزِلُهُ الَّذِي بِالْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى بَلَدِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ إلَى بَيْتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ الْمُكَارِينَ بِطَرْحِ الْحُمُولَاتِ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْبَلَدِ ؟ فَصَارَ مَنْزِلُهُ بِالْكُوفَةِ مَذْكُورًا دَلَالَةً وَالْمَذْكُورُ دَلَالَةً ، كَالْمَذْكُورِ نَصًّا ، وَلَا عَادَةَ فِي الْجَبَّانَةِ عَلَى مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْجَبَّانَةِ مَوْضِعٌ لَا يُرْكَبُ إلَّا إلَيْهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ إلَى الْكُوفَةِ ، وَلَوْ تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ يَذْهَبُ عَلَيْهَا إلَى حَاجَةٍ لَهُ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمَكَانَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَائِجَ تَخْتَلِفُ ، مِنْهَا مَا يَنْقَضِي بِالرُّكُوبِ إلَى مَوْضِعٍ .
وَمِنْهَا مَا لَا يَنْقَضِي إلَّا بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً فَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا تَكَارَى دَابَّةً مِنْ الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ وَجُعْفِيٌّ قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا ، أَوْ إلَى الْكُنَاسَةِ وَفِيهَا كُنَاسَتَانِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا ، أَوْ إلَى بَجِيلَةَ وَبِهَا بَجِيلَتَانِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ وَلَمْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57