كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ وَكَذَا إذَا ادَّعَتْهُ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ فَالْمُسْلِمَةُ أَوْلَى وَلَوْ شَهِدَ لِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ وَلِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّتَيْنِ وَإِنْ تَعَارَضَتَا فَإِسْلَامُ الْمُدَّعِي كَافٍ لِلتَّرْجِيحِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي بَدَنِ اللَّقِيطِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرُ فَوَافَقَتْ دَعْوَتُهُ الْعَلَامَةَ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى لِرُجْحَانِ دَعْوَاهُ بِالْعَلَامَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّرْجِيحِ بِالْعَلَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إنَّهُ مِنْ كَيَدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } جَعَلَ قَدَّ الْقَمِيصِ مِنْ خَلْفٍ دَلِيلَ مُرَاوَدَتِهَا إيَّاهُ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ جَذْبِهَا إيَّاهُ إلَى نَفْسِهَا وَالْقَدُّ مِنْ قُدَّامِ عَلَامَةَ دَفْعِهَا إيَّاهُ عَنْ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي لُؤْلُئِيٍّ وَدَبَّاغٍ فِي حَانُوتٍ وَاحِدٍ هُوَ فِي أَيْدِيهِمَا فِيهِ لُؤْلُؤٌ وَإِهَابٍ فَتَنَازَعَا أَنَّهُ فِيهِمَا يُقْضَى بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ .
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّوْجَيْنِ اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ مَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ يَجْعَلُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ يُجْعَلُ فِي يَدِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَغَالِبِ الْأَمْرِ كَذَا هَذَا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَامَاتٍ فِي هَذَا اللَّقِيطِ فَوَافَقَ الْبَعْضَ وَخَالَفَ الْبَعْضَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ؛

لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي الْعَلَامَاتِ فَسَقَطَ التَّرْجِيحُ بِهَا كَأَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْعَلَامَةِ رَأْسًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً أَصْلًا وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا عِنْدَنَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ هُوَ ابْنِي وَهُوَ غُلَامٌ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ ابْنَتِي فَإِذَا هُوَ خُنْثَى يُحَكَّمُ مَبَالُهُ فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ ابْنُ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهِيَ ابْنَةُ مُدَّعِي الْبِنْتِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُعْتَبَرُ السَّبْقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ فَهُوَ مُشْكَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ كَثْرَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْخُنْثَى وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَلَوْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ هُوَ ابْنِي مِنْ زَوْجَتِي هَذِهِ فَصَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً كَانَ الِابْنُ حُرًّا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ مِلْكًا لِمَوْلَى الْأَمَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ حُرًّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَسَبَهُ وَإِنْ ثَبَتَ مِنْ الْأَمَةِ لَكِنْ فِي جَعْلِهِ تَبَعَا لَهَا فِي الرِّقِّ مَضَرَّةٌ بِالصَّبِيِّ وَفِي جَعْلِهِ حُرًّا مَنْفَعَةٌ لَهُ فَيَتْبَعُهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَتْبَعُهَا فِيمَا

يَضُرُّهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا ادَّعَى نَسَبَ لَقِيطٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنْ لَا يَتْبَعُهُ فِيمَا يَضُرُّهُ وَهُوَ دِينُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا وَالرِّقُّ وَإِنْ كَانَ يَضُرُّهُ فَهُوَ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ ضَرُورَةَ غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَإِنْ أَقَامَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً عَلَى الْوِلَادَةِ قُبِلَتْ إذَا كَانَتْ حُرَّةً عَدْلَةٌ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ كَانَ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَتِهَا حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّحْمِيلِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ جَوَابَ الْكِتَابِ وَأَجْرَى رِوَايَةَ الْأَصْلِ عَلَى إطْلَاقِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَقَالَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الرَّجُلِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَفِي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَدْنَى الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا إذَا كُنَّ خَمْسًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَصْلًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَوِلَادَةُ وَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ امْرَأَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُتَصَوَّرَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا بِخِلَافِ

الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِهِمْ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ظُهُورِ النَّسَبِ هُوَ الدَّعْوَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَمَا قَالَا إنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْوِلَادَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ فِي مَوْضِعٍ أَمْكَنَ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ فَتَعَلَّقَ بِالدَّعْوَةِ وَقَدْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْكُلِّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ مِنْ الرَّجُلِ لَا غَيْرُ .
وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلُّ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ صَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْن الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ابْنُ الرَّجُلَيْنِ لَا غَيْرَ وَأَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَيِّنَةُ يَظْهَرُ بِهَا النَّسَبُ مَرَّةً وَيَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ أُخْرَى فَكُلُّ نَسَبٍ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِنْ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ أَصْلًا لَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ بِأَنْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا مَا احْتَمَلَ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ لَكِنْ بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ إذَا انْعَدَمَ التَّصْدِيقُ وَظَهَرَ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ وَكُلُّ نَسَبٍ يَحْتَمِلُ الظُّهُورَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ يَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلٌ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ ظَهَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ فَاحْتَمَلَ الْبُطْلَانَ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ مَعًا ثُمَّ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي النَّسَبِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرنَا فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا

عَلَى الْأُخْرَى يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِهِمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُنَا يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِ النَّسَبِ لِوَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَمْلُوكًا لِاثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ تَعَارُضَ الْبَيِّنَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَارِجِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْبَيِّنَةِ فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْيَدِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَلَامَةِ وَالْيَدِ وَقُوَّةِ الْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِنْ اسْتَوَيَا يُعْمَلُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا .
وَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ يُقْضَى لِلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الرِّقَّ فَبَيِّنَةُ الْحُرِّيَّةِ أَقْوَى وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْحُرَّةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَهُوَ ابْنُ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ فَهُوَ ابْنُ الرَّجُلَيْنِ وَابْنُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا ابْنُ الرَّجُلَيْنِ لَا غَيْرَ لِمَا مَرَّ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ

اسْتَوَى الْوَقْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ يُحْكَمُ سِنّ الصَّبِيِّ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ عَدْلٍ فَإِنْ أَشْكَلَ سِنُّهُ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبِقْهُمَا وَقْتًا وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى لَهُمَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ أَصْلًا كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عَنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ لَمْ يَصْلُحْ حُكْمًا فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلتَّارِيخِ فَيُرَجَّحُ الْأَسْبَقُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا كَمَا إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ بَلْ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا غُلَامٌ قَدْ احْتَلَمَ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ وَامْرَأَتُهُ أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهُمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ الَّذِي ادَّعَاهُ الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَيَبْطُلُ النَّسَبُ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْغُلَامُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ بِيَدِهِ إذْ هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ كَالْخَارِجَيْنِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى كَذَا هُنَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُلَامُ نَصْرَانِيًّا فَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ وَامْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ فَبَيِّنَةُ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ مِنْ النَّصَارَى يُقْضَى بِالْغُلَامِ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَةِ فَلَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ وَيُجْبَرُ الْغُلَامُ عَلَى

الْإِسْلَامِ .
غُلَامٌ فِي يَدِ إنْسَانٍ ادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَلَدَتْهُ أَمَتُهُ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَى خَارِجٌ أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهُ وَلَدَتْهُ الْأَمَةُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْيَد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَيِّنَة فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدَ بِالْيَدِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَنَا ابْنُ الْآخَرِ يُقْضَى بِالْأَمَةِ وَالْغُلَامِ لِلْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا كَانَ كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْغُلَامُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُلَامُ وَلَدَ حُرَّةٍ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَالْغُلَامُ يَتَكَلَّمُ وَيَدَّعِي ذَلِكَ وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَبِالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةٌ وَأَقَامَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتِ كَذَا وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَقْتٍ دُونَهُ يُقْضَى لِلْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبْقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَاسِدًا فَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا غُلَامٌ قَدْ احْتَلَمَ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ فُلَانَةُ عَلَى فِرَاشِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ هُوَ عَبْدِي وَلَدُ أَمَتِي الَّتِي زَوَّجْتهَا عَبْدِي فُلَانًا فَوَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُ وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ ابْنُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ الْفِرَاشَانِ فِرَاشُ النِّكَاحِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ

وَفِرَاشُ الْمِلْكِ يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى .
وَلَوْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُ الْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ ابْنُهُ فَهُوَ ابْنُ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَقُ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ فَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ فِي النَّسَبِ يُعْمَلُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَك مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْ أَمَتِهِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ مِنْ زَوْجِهَا فُلَانٍ وَالزَّوْجُ عَبْدُهُ أَيْضًا وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذَلِكَ يُقْضَى لَهُ بِالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فِرَاشَ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْحُرِّ وَوَرِثَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ لِانْعِدَامِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْعَبْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ النَّسَب الثَّابِتِ فَالنَّسَبُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ إذَا ثَبَتَ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ النَّفْيَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبهنَّ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا مَرَدَّ لَهَا ( وَأَمَّا ) فِي جَانِبِ الرِّجَالِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَنَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُهُ أَمَّا مَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَنَوْعَانِ ( نَوْعٌ ) يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ وَنَوْعٌ لَا يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ بَلْ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ ( أَمَّا الَّذِي ) يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى احْتَمَلَ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَاحْتَمَلَ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اللِّعَانِ ( وَأَمَّا ) الَّذِي لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْف عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَكَانَ قَوِيًّا فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ اللِّعَانُ .
وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاءَ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ( وَأَمَّا الَّذِي ) لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مِمَّنْ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ وَكَذَا النَّسَبُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ لَا غَيْرُ أَمَّا حُكْمُهُ فِي النَّسَبِ فَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَثْنَاءِ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الْمِلْكِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) فِي حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي قَدْرِ الْمِلْكِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبِيلُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ مَا هُوَ سَبِيلُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيهِ مِنْ طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَالْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ تَصْحِيحًا لِلدَّعْوَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ رَجُلَانِ ادَّعَيَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَهِيَ لِلرَّاكِبِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلدَّابَّةِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ ( وَكَذَلِكَ ) إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ حَمْلٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ كَوْرٌ مُعَلَّقٌ أَوْ مِخْلَاةٌ مُعَلَّقَةٌ فَصَاحِبُ الْحَمْلِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا رَاكِبَيْنِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرَ رَدِيفُهُ فَهِيَ لَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَرُوِيَ ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا لِرَاكِبِ السَّرْجِ لِقُوَّةِ يَدِهِ ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا اسْتَوَيَا فِي أَصِلْ الِاسْتِعْمَالِ فَكَانَتْ الدَّابَّةُ فِي أَيْدِيهمَا فَكَانَتْ لَهُمَا .
وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا رَاكِبَيْنِ فِي السَّرْجِ فَهِيَ لَهُمَا إجْمَاعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَبْقَى الْيَدُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى صَبِيًّا صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ ثُمَّ كَبَرَ الصَّبِيُّ فَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ فَلَا

تَزُولُ يَدُهُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ( وَبِمِثْلِهِ ) لَوْ ادَّعَى غُلَامًا كَبِيرًا أَنَّهُ عَبْدُهُ وَقَالَ الْغُلَامُ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ فِي حَالٍ هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا كَبِيرًا فَقَالَ الْعَبْدُ أَنَا عَبْدٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ آخَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ فِي إقْرَارِهِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِسُقُوطِ يَدِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَوْ قَالَ كُنْت عَبْدَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَأَنَا حُرٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَقَدْ أَقَرَّ بِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَثُبُوتِ الْعَارِضِ وَهُوَ الرِّقُّ مِنْهُ فَصَارَ الرِّقُّ فِيهِ هُوَ الْأَصْلَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلثَّوْبِ ( وَلَوْ ادَّعَيَا ) بِسَاطًا وَأَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ الْجَالِسُ بِجُلُوسِهِ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ عَلَيْهِ ( وَلَوْ ادَّعَيَا ) دَارًا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فِيهَا فَهِيَ لِلسَّاكِنِ ( وَكَذَلِكَ ) لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ ؛ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّارِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ

يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فِيهَا وَالْآخَرُ خَارِجٌ مِنْهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا ( وَكَذَا ) إذَا كَانَا جَمِيعًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ بِالْكَوْنِ فِيهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَلَوْ وُجِدَ خَيَّاطٌ يَخِيطُ ثَوْبًا فِي دَارِ إنْسَانٍ فَاخْتَلَفَا فِي الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ صُورَةً فَهُوَ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْخَيَّاطَ وَمَا فِي يَدِهِ فِي دَارِهِ وَالدَّارُ فِي يَدِهِ فَمَا فِيهَا يَكُونُ فِي يَدِهِ ( حَمَّالٌ ) خَرَجَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَامِلُ يُعْرَفُ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَحَمْلِهِ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِر شَاهِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ( وَكَذَلِكَ ) حَمَّالٌ عَلَيْهِ كَارَّةٌ وَهُوَ فِي دَارِ بَزَّازٍ اخْتَلَفَا فِي الْكَارَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْكَارَّةُ مِمَّا يُحْمَلُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْمَلُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ رَجُلٌ اصْطَادَ طَائِرًا فِي دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فِيهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ قَطُّ فَهُوَ لِلصَّائِدِ سَوَاءٌ اصْطَادَهُ مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ مِنْ الشَّجَرِ أَوْ الْحَائِطِ ؛ لِأَنَّهُ الْآخِذُ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ إذْ الصَّيْدُ لَا يَصِيرُ مَأْخُوذًا بِكَوْنِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ اصْطَدْتُهُ قَبْلَك أَوْ وَرِثْته وَأَنْكَرَ الصَّائِدُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَهُ مِنْ الْهَوَاءِ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْآخِذُ إذْ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَى الْهَوَاءِ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ جِدَارِهِ أَوْ شَجَرِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالشَّجَرَ فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي أَخْذِهِ مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ

مِنْ الْجِدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا فِي دَارِ إنْسَانٍ يَكُونُ فِي يَدِهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَسْأَلَةٌ لِلصَّيْدِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ وَلَوْ ادَّعَيَا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فِيهَا فَهِيَ لِلسَّاكِنِ فِيهَا وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ ؛ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّارِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فِيهَا وَالْآخَرُ خَارِجٌ مِنْهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا لَوْ كَانَا جَمِيعًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ بِالْكَوْنِ فِيهَا وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ ادَّعَيَا حَائِطًا مِنْ دَارَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْحَائِطِ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ جُذُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ جُذُوعٍ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَائِطِ فَاسْتَوَيَا فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَى الْآخَرِ بِمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ زِدْ أَنْتَ أَيْضًا إلَى تَمَامِ عَدَدِ خَشَبِ صَاحِبِك إنْ أَطَاقَ الْحَائِطُ حَمْلَهَا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَك الزِّيَادَةُ وَلَا النَّزْعُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةُ جُذُوعٍ وَلِلْآخَرِ جِذْعٌ أَوْ جِذْعَانِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ بِكَثْرَةِ الْجُذُوعِ زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْحَجَّةِ لَا يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ

كَانَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ دَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ لَا قَدْرُهُ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ ( وَوَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ أَصْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يُبْنَى لَهُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَقُيِّدَ بِهِ فَكَانَ مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْجُذُوعِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ وَأَمَّا مَوْضِعُ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ حَقُّ وَضَعَ الْجِذْعِ لَا أَصْلُ الْمِلْكِ وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى لَهُ مَوْضِعُ الْجِذْعِ مِنْ الْحَائِطِ وَمَا وَرَاءَهُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ ( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُسْتَعْمِلٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ حَقِيقَةً فَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي يَدِهِ فَيَمْلِكُهُ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْإِقْرَارِ مَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَحْصُلُ بِالْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْحَائِطِ فِي يَدِهِ فَكَانَ كُلُّهُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْجُذُوعِ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجِذْعِ مَمْلُوكًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ حَقُّ الْوَضْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَإِذَا أَقَامَهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْوَضْعَ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ بِغَيْرِ حَقِّ وِلَايَةِ الدَّفْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَالَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا الْحَائِطَ لَهُ لِظَاهِرِ الْيَدِ وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلتَّقْرِيرِ لَا لِلتَّغْيِيرِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ

وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا اسْتِعْمَالَ مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى مِنْ اتِّصَالِ الِالْتِزَاقِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ التَّرْبِيعِ فَنَقُولُ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّرْبِيعَ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْصَافُ أَلْبَانِ الْحَائِطِ مُدَاخَلَةً حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ يُبْنَى كَذَلِكَ كَالْأَزَجِ وَالطَّاقَاتِ فَكَانَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ فَكَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَفْسِيرَ التَّرْبِيعِ أَنْ يَكُونَ طَرَفَا هَذَا الْحَائِط الْمُدَّعَى مُدَاخَلِينَ حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ جَانِبَيْ الْحَائِطِ كَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَعَلَى قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَجْه قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ حَيْثُ حَدَثَ مِنْ بِنَائِهِ كَذَلِكَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ وَجَعْلَ الْكُلِّ بِنَاءً وَاحِدًا فَسَقَطَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِضَرُورَةِ الِاتِّحَادِ فَمِلْكُ الْبَعْضِ يُوجِبُ مِلْكَ الْكُلِّ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّفْعِ بَلْ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ مِلْكِ الْأَصْلِ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقْفَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ بَيْتِ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ بَيْتِ السُّفْلِ هُوَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ

وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ حَقُّ الْقَرَارِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ رَفْعَ السَّقْفِ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا كَذَا هَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجِذْعِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّفْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ فَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلِرَجُلٍ آخِرَ دَارٌ بِجَنْبِ تِلْكَ الدَّارِ وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ وَأَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ حَائِطِ الْمُدَّعِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْبَيْعَ فَلَمْ يَكُنْ مَبِيعًا فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْحَائِطِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ فَكَانَ مَبِيعًا فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ إذَا كَانَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ لَا تُنْزَعُ الْجُذُوعُ بَلْ تُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا لِمَا ذَكَرنَا وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ بِنَاءٌ وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ السُّتْرَةَ وَالْبِنَاءَ لَهُ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ الْحَائِطَ بِالسُّتْرَةِ فَكَانَ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مَرَادَيْ هُوَ الْقَصَبُ الْمَوْضُوعُ عَلَى رَأْسِ الْجِدَارِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا

وَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْمُرَادِي وَالْبَوَادِي شَيْئًا ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمُرَادِي عَلَى الْحَائِطِ لَيْسَ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَوْ كَانَ وَجْهُ الْحَائِطِ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ وَكَانَ أَنْصَافُ اللَّبِنِ أَوْ الطَّاقَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلَا حُكْمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُمَا الْحَائِطُ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ وَالطَّاقَاتِ وَهَذَا إذَا جُعِلَ الْوَجْهُ وَقْتَ الْبِنَاءِ حِينَ مَا بَنَى فَأَمَّا إذَا جُعِلَ بَعْدِ الْبِنَاءِ بِالنَّقْشِ وَالتَّطَيُّنِ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا ادَّعَيَا بَابًا مُغْلَقًا عَلَى حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ وَالْغَلْقُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْبَابُ لَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِمَنْ إلَيْهِ الْغَلْقُ وَلَوْ كَانَ لِلْبَابِ غَلِقَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ لَهُمَا إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خُصٌّ بَيْنَ دَارَيْنِ أَوْ بَيْنَ كَرْمَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْخُصُّ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْقِمْطِ وَعِنْدَهُمَا الْخُصُّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافَ اللَّبَنِ وَالطَّاقَاتِ وَالْغَلْقِ وَالْقِمْطِ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِنَاؤُهُ فَكَانَ فِي يَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا دَلِيلُ الْيَدِ فِي الْمَاضِي لَا وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْيَدُ فِي الْمَاضِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْحَاجَةُ فِي إثْبَاتِ الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُضِيَ بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لِكَوْنِ الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ إذَا طُلِبَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكِل يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُرُورِ فِي دَارٍ

وَلِأَحَدِهِمَا بَابٌ مِنْ دَارِهِ إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُ صَاحِبِ الْبَابِ عَنْ الْمُرُورِ فِيهَا حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي دَارِهِ طَرِيقًا وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَابِ بِالْبَابِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ إلَى دَارِ غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ لَازِمٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَصْلًا وَقَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ غَيْرِ لَازِمٍ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى حَقِّ الْمُرُورِ فِي الدَّارِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَكَذَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ كَانَ يَمُرُّ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ مُرُورَهُ فِيهَا كَانَ غَصْبًا أَوْ إبَاحَةً وَلَئِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِحَقِّ الْمُرُورِ لَكِنْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ لِلْحَالِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا فَإِنْ حَدُّوا الطَّرِيقَ فَسَمَّوْا طُولَهُ وَعَرْضَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَحُدُّوهُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِ الدَّارِ بِالطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ أَمَّا جَهَالَةُ الْمَقَرِّ بِهِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ طُولُهُ مَعْلُومٌ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ عَرْضِ الْبَابِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَتُقْبَلُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِيزَابٌ فِي دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فِي مَسِيلِ الْمَاءِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ التَّسْيِيلِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَسِيلَ مَاءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْمِيزَابِ بِنَفْسِ الْمِيزَابِ شَيْئًا لِمَا ذَكَرنَا وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو

اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِيزَابَ إذَا كَانَ قَدِيمًا فَلَهُ حَقُّ التَّسْيِيلِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ فِي نَهْرٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ كَانَ النَّهْرُ مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَكَانَ النَّهْرُ مُسْتَعْمَلًا بِهِ فَكَانَ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْمِيزَابِ فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمِيزَابِ مَاءٌ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّهْرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَاءَ يَسِيلُ فِي الْمِيزَابِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَكَذَا الشَّهَادَةُ مَا قَامَتْ بِحَقٍّ كَائِنٍ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الدَّارِ مِنْ حَيْثُ التَّسْيِيلُ فَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ مَسِيلُ مَاءٍ دَائِمٍ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ أَوْ لِمَاءِ الْمَطَرِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبَقِيَتْ الصِّفَةُ مَجْهُولَةً فَيَتَبَيَّنُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الدَّارِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكِل يُقْضَى بِالنُّكُولِ كَمَا فِي بَابِ الْأَمْوَالِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي قَدْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت بِأَلْفٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَإِمَّا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ إلَى النُّقْصَانِ .
فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَتَحَالَفَانِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْبَائِعُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا لِسَلَامَةِ الْمَبِيعِ لَهُ وَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ وَهُوَ الْحَلِفُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْمُشْتَرِي أَشَدُّ إنْكَارًا مِنْ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَالْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا مِنْهُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ مُنْكِرًا لَكِنَّ الْمُشْتَرِي أَسْبَقُ إنْكَارًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُطَالَبُ أَوَّلًا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يَصِيرَ عَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ أَسْبَقَ إنْكَارًا مِنْ الْبَائِعِ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِهِ فَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تُحَالَفَا لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ بِمَا يَقُولُهُ صَاحِبُهُ فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَالْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ قَدْ يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ لِلْحَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا

فَيَتَنَازَعَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَغَيَّرَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ وَإِمَّا أَنْ تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالسَّمْنِ وَالْجَمَالِ مَنَعَتْ التَّحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُمْنَع الْفَسْخَ عِنْدَهُمَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَتَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَة غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ تَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لِمَنْ هُمَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمَوْهُوبِ فِي الْمَكْسُوبِ لَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ إجْمَاعًا فَيَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى هَلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِذَا تَحَالَفَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ دُونَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا حَدَّثَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَتَطِيبُ لَهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْحِنْثِ فِيهَا هَذَا

إذَا تَغَيَّرَتْ السِّلْعَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ هَلْ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } أَثْبَتَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّحَالُفَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَلَا يُقَالُ وَرَدَ هُنَا نَصٌّ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا فِي الْحَمْلِ مِنْ ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ فَكَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ ثَابِتًا بِنَصَّيْنِ وَحَالُ هَلَاكِهَا ثَابِتًا بِنَصٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّصُّ الْمُطْلَقُ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَبَقِيَ التَّحَالُفُ وَهُوَ الْحَلِفُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ فَلَوْ

وَجَبَتْ يَمِينٌ لَا عَلَى مُنْكِرٍ لَمْ يَكُنْ جِنْسُ الْيَمِينِ عَلَى جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْمُنْكِرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ فَأَمَّا الْإِنْكَارُ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ التَّحَالُفُ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ مُقَيَّدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَهَذَا الْقَيْدُ ثَابِتٌ فِي النَّصِّ الْآخَرِ أَيْضًا دَلَالَةً ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرَادَّا وَالتَّرَادُّ لَا يَكُونُ إلَّا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مُثْبَتًا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَيَسْتَوِي هَلَاكُ كُلِّ السِّلْعَةِ وَبَعْضِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّحَالُفِ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِي قَدْر الْهَالِكِ لَا غَيْرَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْنَعُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَتَحَالَفَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْهَالِكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ وَيَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ أَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لِأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّحَالُفِ هُوَ الْهَلَاكُ فَيَتَقَدَّرُ الْمَنْعُ بِقَدْرِهِ

تَقْدِيرًا لِلْحُكْمِ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَنْفِي التَّحَالُفَ بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ لِمَا ذَكَرنَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي حَالِ قِيَامِ كُلِّ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ بَعْضِهَا مَنْفِيًّا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ؛ وَلِأَنَّ قَدْرَ الثَّمَنِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَائِمَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَجُوزُ التَّحَالُفُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا شَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَدَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلَةِ الْقَائِمِ فَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْقِيَامِ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُ الْمَبِيعِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ حُكْمًا يُلْحَقُ بِالْهَالِكِ حَقِيقَةً وَقَدْ مَرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَسَوَاءٌ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَخُرُوجُ الْبَعْضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّحَالُفِ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ هُنَا يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَحِصَّةَ الْخَارِجِ مِنْ الثَّمَنِ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ وَعَلَيْهِ حِصَّةُ الْخَارِجِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَالَفَانِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَالْحُكْمِيُّ أَوْلَى ثُمَّ هَلَاكُ الْكُلِّ بِأَنْ خَرَجَ كُلُّهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَإِذَا تَحَالَفَا عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِأَنْ خَرَجَ كُلُّهُ عَنْ مِلْكِهِ يَرُدُّ

الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا وَالْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِأَنْ خَرَجَ الْبَعْضُ عَنْ مِلْكِهِ دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَفِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ فَالْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْبَاقِيَ وَأَخَذَ قِيمَةَ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ وَلَا عَيْبَ فِي تَشْقِيصِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ الْفَائِتِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا وَلَوْ خَرَجَتْ السِّلْعَةُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ كَانَ مِلْكًا جَدِيدًا لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ وَالْهَلَاكُ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لَا الْعَيْنَ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ لَكِنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ أَمَّا حُكْمُ الزِّيَادَةِ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ وَأَمَّا حُكْمُ النُّقْصَانِ فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ بَابِ الْهَلَاكِ فَنَقُولُ إذَا انْتَقَضَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيع هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْهُ وَهَلَاكُ الْجُزْءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ

التَّحَالُفِ كَهَلَاكِ الْكُلِّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدِ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْعَيْنِ يَأْخُذُ مَعَهَا النُّقْصَانَ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ .

فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنُ عَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ دِينٌ فَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْعَيْنِ هُوَ الْبَائِعَ بِأَنْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } مِنْ غَيْرِ فِصَلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي جِنْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ هَلَاكِ السِّلْعَةِ وَقَدْ مَرَّتْ .
وَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْعَيْنِ هُوَ الْمُشْتَرِي بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِعَبْدِي هَذَا وَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً يَتَحَالَفَانِ بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُشْتَرِي ظَاهِرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُنْكِرُ وَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ إلْزَامَ الْعَيْنِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا مِنْ وَجْهٍ مُنْكِرًا مِنْ وَجْهٍ فَيَتَحَالَفَانِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَدَّعِي عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْكُلَّ دَيْنًا بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هَذَا وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ وَهُوَ الْجَارِيَةُ قَائِمًا تَحَالَفَا بِالنَّصِّ وَإِنْ

كَانَ هَالِكًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كَأَنْ يَدَّعِيَ الْبَعْضَ عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْبَائِعُ يَدَّعِي الْكُلَّ دَيْنًا بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك جَارِيَتَك بِعَبْدِي هَذَا وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك جَارِيَتِي هَذِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا تُقَسَّمُ الْجَارِيَةُ عَلَى قِيمَة الْعَبْدِ وَعَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَا كَانَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْجَارِيَةِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ وَمَا كَانَ بِإِزَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ الْأَلْفُ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ يَرُدُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ يَدَّعِي كُلَّ الثَّمَنِ عَيْنًا كَانَا يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ الثَّمَنِ دَيْنًا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا كَانَ يَدَّعِي بَعْضَ الثَّمَنِ عَيْنًا وَبَعْضَهُ دَيْنًا يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِإِزَاءِ الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ .

فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَدْرِهِ وَجِنْسِهِ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَإِمَّا أَنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ وَإِمَّا أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُودِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّمَنِ هُوَ الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الْأَصْلَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِهِ وَقَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صَارَ حَقًّا لَهُ بِتَصَادُقِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ وَالْمُضِيِّ جَمِيعًا فَقَالَ الْبَائِعُ الْأَجَلُ شَهْرٌ وَقَدْ مَضَى وَقَالَ الْمُشْتَرِي شَهْرَانِ وَلَمْ يَمْضِيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْقَدْرِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْمُضِيِّ فَيُجْعَلُ الْأَجَلُ شَهْرًا لَمْ يَمْضِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْبَائِعِ فِي الْقَدْرِ وَلِلْمُشْتَرِي فِي الْمُضِيِّ عَلَى مَا مَرَّ هَذَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَأَمَّا إذَا هَلَكَ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوْ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ فَكَانَ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِنْهُ فَيَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّحَالُفُ إلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الْبَتَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ مَقْبُوضَةً فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ

الْمُشْتَرِي أَوْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ هَلَاكَ الْعَاقِدِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا فَكَذَا هَلَاكُ الْعَاقِدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَالُفِ كَذَا هَذَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ يَمْنَعُ مِنْ التَّحَالُفِ لَكُنَّا عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَالَ قِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحَالُفَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَبَايِعُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَارِثِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ التَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِهِمَا أَوْ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا مَنْفِيًّا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ .

أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو الْمَبِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ مَعَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } .
وَإِنْ كَانَ دَيْنًا وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَاخْتَلَفَا فَنَقُولُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ( إمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْس الْمَالِ ( فَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إيفَائِهِ ( وَإِمَّا ) إنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ أَوْ قَدْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ .
وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هُوَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ رَبُّ السَّلَمِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْيَمِينِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَرَبِّ السَّلَمِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْمُنْكِرُ هُوَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ وَلَا إنْكَارَ

مَعَ رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ التَّحْلِيفَ فِي جَانِبِهِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالدَّعْوَى يَسْتَحْلِفُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التَّعْيِينُ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إيفَاءِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ شَرَطْت عَلَيْك الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِ كَذَا وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ شَرَطْت لَك الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِ كَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ حَتَّى كَانَ تَرْكُ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْسِدًا لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ مَكَانُ الْإِيفَاءِ فِي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالشَّرْطِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالْأَجَلِ وَعِنْدَهُمَا مَكَانُ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ مَكَانًا لِلْإِيفَاءِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ السَّلَمُ بِتَرْكِ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الْمَكَانُ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ ( وَإِمَّا ) أَنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ ( وَإِمَّا ) أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَاحْتَجَّ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَصْلِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي صِفَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ بِدُونِ

الْأَجَلِ كَمَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْوَصْفِ فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْعًا فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي الدَّيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَجَلِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا فِي الصِّفَةِ وَإِذَا لَمْ يَتَحَالَفَا فَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْأَجَلِ هُوَ رَبُّ السَّلَمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ السَّلَمُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ يَدَّعِي الْفَسَادَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَالْمُتَعَنِّتُ لَا قَوْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ السَّلَمُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ السَّلَمِ وَيَفْسُدُ السَّلَمُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ حَقًّا عَلَيْهِ شَرْعًا وَإِنَّهُ مُنْكِرٌ ثُبُوتَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فِي الشَّرْعِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ بِدَعْوَى الْأَجَلِ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْإِنْكَارِ يَدَّعِي فَسَادَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَلِّمِ اجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَمُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَعْصِيَةٌ وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الْأَجَلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى شَهْرٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبّ السَّلَمِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ

فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ إلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَصُورَتُهُ إذَا قَالَ رَبُّ السَّلَمِ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَدْ مَضَى وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ كَانَ شَهْرًا وَلَمْ يَمْضِ وَإِنْ أَخَذْت السَّلَمَ السَّاعَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى أَصْلِ الْأَجَلِ وَقَدْرِهِ فَقَدْ صَارَ الْأَجَلُ حَقًّا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمُضِيِّ قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ فِي الْقَدْرِ وَقَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْقَدْرِ وَلِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فِي الْمُضِيِّ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْسُ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا أَيْضًا سَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ قَدْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ لِمَا قُلْنَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هَهُنَا هُوَ رَبُّ السَّلَمِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُنْكِرُ أَيْضًا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالِاخْتِلَافُ فِي أَحَدِهِمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَفِيهِمَا أَوْلَى وَالْقَاضِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحِلِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْمِلْكِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لِلْمَالِكِ فِي الْمَمْلُوكِ بِاخْتِيَارِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَيُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحِلِّ عَرَفَ هَذَا فَنَقُولُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا يَتَعَدَّى فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ مِرْحَاضًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى أَوْ تَنُّورًا وَلَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ دِيمَاسًا وَإِنْ كَانَ يُهِنَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَيَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ .
وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى لَوْ طَلَب جَارُهُ تَحْوِيلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَصْلِ وَالْمَنْعُ مِنْهُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَلُّقُ لَا يَمْنَعُ إلَّا أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ دَيَّانَةً وَاجِبٌ لِلْحَدِيثِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى وَهَنَ الْبِنَاءُ وَسَقَطَ حَائِطُ الْجَارِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَعَلَى هَذَا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ انْهَدَمَا لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى عِمَارَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إنْ شِئْت فَابْن السُّفْلَ مِنْ مَالِ نَفْسِك وَضَعَ عَلَيْهِ عُلُوَّك ثُمَّ امْنَعْ صَاحِبَ السُّفْلِ عَنْ

الِانْتِفَاعِ بِالسُّفْلِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْك قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ .
وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُطْلَقًا لَهُ شَرْعًا وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْقِيمَةُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْعُلُوِّ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ وَلَا ضَرَرَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي بِنَائِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعٌ صَارَ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ قِبَلِهِ دَلَالَةً فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكِ وَالدُّولَابِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَمَّامِ الْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَرِبَتْ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْعِمَارَةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى الْعِمَارَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالتَّرْكَ لِذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمِلْكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا فَكَانَ الَّذِي أَبَى الْعِمَارَةَ مُتَعَنِّتًا مَحْضًا فِي الِامْتِنَاعِ فَيَدْفَعُ تَعَنُّتَهُ بِالْجَبْرِ عَلَى الْعِمَارَةِ هَذَا إذَا انْهَدَمَا بِأَنْفُسِهِمَا فَأَمَّا إذَا هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ سُفْلَهُ حَتَّى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ يُجْبَرُ عَلَى إعَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِإِتْلَافِ مَحِلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالْإِعَادَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ .
وَعَلَى هَذَا حَائِطٌ بَيْنَ دَارَيْنِ انْهَدَمَ وَلَهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى بِنَائِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ إذَا أَبَى أَحَدُهُمَا الْبِنَاءَ يُقَالُ لِلْآخَرِ إنْ شِئْت فَابْنِ

مِنْ مَالِ نَفْسِك وَضَعْ خَشَبَك عَلَيْهِ وَامْنَعْ صَاحِبَك مِنْ الْوَضْعِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا أَوْ نِصْفَ مَا أَنْفَقْته عَلَى حَسْبِ مَا ذَكَرنَا فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ وَقِيلَ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْحَائِطِ عَرِيضًا وَلَا يُمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا عَلَى حِدَةٍ فِي نُصِبْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ عَرِيضًا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَأَنْ يَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ حَائِطًا يَصْلُحُ لِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ فَبَنَاهُ كَمَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ عُرْضَةِ الْحَائِطِ لَمْ تُقْسَمْ إلَّا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ حَقَّ وَضْعِ الْخَشَبِ وَفِي الْقِسْمَةِ جَبْرًا إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَرِيضًا فَإِنْ كَانَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَبْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَوْ كَانَتْ الْجُذُوعُ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَطَلَب أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْجُذُوعِ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الِانْتِفَاعِ مُتَعَنِّتٌ وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا جِذْعَ لَهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ فِي وَضْعِ الْجُذُوعِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
وَلَوْ هَدَمَ الْحَائِطَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ عَلَى إعَادَتِهِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ جَبْرُهُ عَلَى الْإِعَادَةِ وَعَلَى هَذَا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ يُثْبِتَ كَوَّةً أَوْ

يَحْفِرَ طَاقًا أَوْ يَقُدَّ وَتِدًا عَلَى الْحَائِطِ أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْعُلُوِّ بِأَنْ أَوْجَبَ وَهَنَ الْحَائِطِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعُلُوِّ وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ فِي سُفْلِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ سِرْدَابًا فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ إجْمَاعًا وَكَذَا إيقَادُ النَّارِ لِلطَّبْخِ أَوْ لِلْخُبْزِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ أَوْ لِلْوُضُوءِ بِالِاتِّفَاقِ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى عُلُوِّهِ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ جُذُوعًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَشْرَعَ فِيهِ بَابًا أَوْ كَنِيفًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِالسُّفْلِ أَوْ لَا وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ وَلَهُ إيقَادُ النَّارِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إجْمَاعًا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُهُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يُمْنَعُ إلَّا لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ لَعَيْنِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَمِنْ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِ غَيْرِهِ لِانْعِدَامِ تَضَرُّرِ الْمَالِكِ وَالْخِلَافُ هُنَا فِي تَصَرُّفٌ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ لَا يَقِفُ عَلَى الضَّرَرِ بَلْ هُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَمْ لَا أَلَا تَرَى أَنَّ نَقْلَ الْمِرْآةِ والمبحار مِنْ دَارِ الْمَالِكِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ

الْمَالِكُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ لَمَا أُبِيحَ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَنْعَدِمُ بِرِضَا الْمَالِكِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ دَلَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ حَرَامٌ أَضَرَّ بِالْمَالِكِ أَوْ لَا وَهُنَا حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّفْلِ فَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ مَا ضَرَبْنَا مِنْ الْمِثَالِ وَهُوَ الِاسْتِظْلَالُ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَالِاصْطِلَاءُ بِنَارِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكٍ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَسِيلُ مَاءٍ فِي قَنَاةٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَنَاةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِيزَابًا أَوْ كَانَ مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ مِنْ مِيزَابِهِ أَوْ أَعْرَضَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسِيلَ مَاءُ سَطْحٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْمِيزَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدُّوا مَسِيلَهُ أَوْ أَرَادُوا أَنْ يَنْقُلُوا الْمِيزَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ أَوْ يَرْفَعُوهُ أَوْ يُسْفِلُوهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِبْطَالِ وَالتَّغْيِيرِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَوْ بَنَى أَصْلَ الدَّارِ لِتَسْيِيلِ مِيزَابِهِ عَلَى ظُهْرِهِ فَلَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمِيزَابِ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ .
دَارٌ لِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَأَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ مَا يَقْطَعُ طَرِيقَهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرُورِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ عَرْضَ الطَّرِيقِ مُقَدَّرٌ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَشْرَعَ إلَى

الطَّرِيقِ جَنَاحًا أَوْ مِيزَابًا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُقْلِعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ حَلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّقْضِ فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءُ الدَّكَاكِينَ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَيْسَ لَعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الضَّرَرِ وَلَا ضِرَارَ بِالْمَارَّةِ فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ مَا قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّة تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبُقْعَةِ فِي حُكْمِ الْبُقْعَةِ وَالْبُقْعَةُ حَقُّهُمْ فَكَذَا هَوَاؤُهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لَا إلَّا أَنَّهُ حَلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُمْ دَلَالَةً وَهِيَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ بِالنَّقْضِ وَالتَّصَرُّفُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ بِإِذْنِهِ مُبَاحٌ فَإِذَا وَقَعَتْ الْمُطَالَبَةُ بِصَرِيحِ النَّقْضِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَبَقِيَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبْنَى تَصَرُّفًا فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ وَرِضَاهُمْ فَلَا

يَحِلُّ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ حَقُّ الْمَنْعِ لِتَصَرُّفِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي التَّقْدِيمِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ أَوْ لَا لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا تَقِفُ عَلَى الْمَضَرَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمَ .

( كِتَابُ الشَّهَادَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الشَّهَادَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ أَمَّا رُكْنُ الشَّهَادَةِ ، فَقَوْلُ الشَّاهِدِ : " أَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا " وَفِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ : هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ ، فَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ شَاهِدٌ ، وَبِهِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْمُقِرِّ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا - أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ ، وَهِيَ الْعَقْلُ .

- وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ عِنْدَنَا ، فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ الْأَعْمَى ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَصَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبَصَرِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ ، وَلِلْأَعْمَى سَمَاعٌ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ ، وَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّحَمُّلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ السَّمَاعُ مِنْ الْخَصْمِ ؛ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَقَعُ لَهُ وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ خَصْمًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ النَّغَمَاتِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا .

( وَأَمَّا ) الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ ، بَلْ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلًا ، أَوْ عَبْدًا ، أَوْ كَافِرًا ، أَوْ فَاسِقًا ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ ، وَتَابَ الْفَاسِقُ فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ لِمَوْلَاهُ ، ثُمَّ عَتَقَ فَشَهِدَ لَهُ ، تُقْبَلُ .
وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا تَحَمَّلَتْ الشَّهَادَةَ لِزَوْجِهَا ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ فَشَهِدَتْ لَهُ ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا ؛ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا الشَّهَادَةَ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ صَارَا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَوْ شَهِدَ الْفَاسِقُ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ ، ثُمَّ شَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْبَيْنُونَةِ ، لَا تُقْبَلُ .
وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ أَوْ الْكَافِرُ عَلَى مُسْلِمٍ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَشَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا ، تُقْبَلُ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالزَّوْجَ لَهُمَا شَهَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ فَإِذَا شَهِدُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ ، فَقَدْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ ، وَالشَّهَادَةُ الْمَرْدُودَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْقَبُولَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَصْلًا ، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ ، فَقَدْ حَدَثَتْ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ شَهَادَةٌ ، وَهِيَ غَيْرُ الْمَرْدُودَةِ فَقُبِلَتْ فَهُوَ الْفَرْقُ وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ

التَّحَمُّلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنْ النَّاسِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلشَّاهِدِ { : إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ ، وَإِلَّا فَدَعْ } وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ الشَّمْسِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا تُطْلَقُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ ، وَهِيَ النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَوْتُ ، فَلَهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنْ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ بِنَفْسِهِ ؛ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِاشْتِهَارِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهَا مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ .
وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْعُرْسَ وَالزِّفَافَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ النِّكَاحِ ، وَكَذَا فِي الْمَوْتِ إذَا شَهِدَ جِنَازَةَ رَجُلٍ أَوْ دَفْنَهُ ، حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ التَّسَامُعِ ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ أَنْ يَشْتَهِرَ ذَلِكَ وَيَسْتَفِيضَ وَتَتَوَاتَرَ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ ؛ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْمَحْسُوسَ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ سَوَاءٌ ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ شَهَادَةً عَنْ مُعَايَنَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِهْرَانَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّ هَذَا ابْنُ فُلَانٍ أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ ، يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَشَهَادَتِهِ ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ مِنْهُ بَلْ بِخَبَرِهِمَا ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ ، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِمَوْتِ إنْسَانٍ حَلَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْتِ

وَبَيْنَ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الِاشْتِهَارِ ، إلَّا أَنَّ الشُّهْرَةَ فِي الْمَوْتِ أَسْرَعُ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، لِذَلِكَ شُرِطَ الْعَدَدُ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، لَا فِي الْمَوْتِ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْقَطْعِ دُونَ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْيِيدِ ، بِأَنْ يَقُولَ : " إنِّي لَمْ أُعَايِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا " حَتَّى لَوْ شَهِدَ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ .
وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَالشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ تُقْبَلُ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ ، كَذَا فِي الْوَلَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا كَمَا نَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ كَانَ ابْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا كَانَ مَوْلَى ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ لِمَا أَنَّ مَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الِاشْتِهَارِ ، فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهِ مَقَامَ السَّمَاعِ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ مَبْنَى الْوَلَاءِ عَلَى الِاشْتِهَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْإِعْتَاقِ ، حَتَّى لَوْ اشْتَهَرَ اشْتِهَارَ نَافِعٍ لِابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَلَّتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي الْوَقْفِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا أَلْحَقُوهُ بِالْمَوْتِ ؛ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَقْفِ عَلَى الِاشْتِهَارِ أَيْضًا كَالْمَوْتِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِ ، وَكَذَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ : أَنَّ هَذَا قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَوَالِي بَلَدِ كَذَا ،

وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الْمَنْشُورَ ؛ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ عَلَى الشُّهْرَةِ ، فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهَا مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ ، ثُمَّ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ كَمَا يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ دَلِيلِهِ ، بِأَنْ يَرَى ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ حَتَّى لَوْ خَاصَمَهُ غَيْرُهُ فِيهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِيهِ ، بَلْ لَا دَلِيلَ بِشَاهِدٍ فِي الْأَمْوَالِ أَقْوَى مِنْهَا وَزَادَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ : لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمْ جَمِيعًا : أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَرَاهُ فِي يَدِهِ ، يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ ، وَحَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَالَ : " كُلُّ شَيْءٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَسَعُك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ " اسْتَثْنَى الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ فِيهِمَا إلَّا إذَا أَقَرَّا بِأَنْفُسِهِمَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَبْدَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ يَدٌ ، بِأَنْ كَانَ كَبِيرًا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ .
وَكَذَا الْأَمَةُ ؛ ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ظَاهِرٌ ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي بَنِي آدَمَ ، وَالرِّقُّ عَارِضٌ فَكَانَتْ يَدُهُ إلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ تَصْلُحْ يَدُ غَيْرِهِ دَلِيلَ الْمِلْكِ فِيهِ بِخِلَافِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهَا ، فَبَقِيَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُرَّ قَدْ يَخْدُمُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَادَةً ، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَلَمْ

تَصْلُحْ الْيَدُ دَلِيلًا فِيهِ أَمَّا إذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الثَّوْبِ وَالْبَهِيمَةِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ يَدٌ فَيَلْحَقُ بِالْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَحِلُّ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ فِيهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الشَّهَادَةِ .
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَعُمُّ الشَّهَادَاتِ كُلَّهَا ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَمِنْهَا الْعَقْلُ ؛ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يَعْرِفُ الشَّهَادَةَ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِالتَّحَفُّظِ ، وَالتَّحَفُّظُ بِالتَّذَكُّرِ ، وَالتَّذَكُّرُ بِالتَّفَكُّرِ ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الصَّبِيِّ عَادَةً ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ .
وَالصَّبِيُّ مُوَلًّى عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ شَهَادَةٌ لَلَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } أَيْ دُعُوا لِلْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ إجْمَاعًا ، وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ ، وقَوْله تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَالشَّهَادَةُ شَيْءٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ؛ ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْوِلَايَاتِ وَالتَّمْلِيكَاتِ أَمَّا مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَإِنَّ فِيهِ تَنْفِيذَ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَلَاءِ وَأَمَّا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ ، فَكَأَنَّ الشَّاهِدَ مَلَّكَهُ الْحُكْمَ ، وَالْعَبْدُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ ، ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ شَهَادَةٌ لَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَلَا يَجِبُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمْ عُبَيْدٌ ، وَكَذَا

مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَمِنْهَا بَصَرُ الشَّاهِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوْ لَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى شَيْئًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إجْمَاعًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَصَرِ لَيْسَ لَعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ ، وَذَا يَحْصُلُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ ، وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَإِذَا كَانَ أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمِنْهَا النُّطْقُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ ؛ ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا ، وَلَا عِبَارَةَ لِلْأَخْرَسِ أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ لَهُ .

وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ ، لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَهَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَالشَّاهِدُ الْمَرْضِيُّ هُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدَالَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ أَنَّهَا مَا هِيَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ وُجُودًا ، أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وُجُودًا وَوُجُوبًا أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ الْمُتَعَارَفَةِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي بَطْنٍ وَلَا فَرْجٍ فَهُوَ عَدْلٌ ؛ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ يَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَمْ يُعْرَفْ عَلَيْهِ جَرِيمَةٌ فِي دِينِهِ فَهُوَ عَدْلٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسَاجِدِ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } وَرُوِيَ { مَنْ صَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ } وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَغَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ ، " وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِ أُسْتَاذِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .

وَاخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : " مَا فِيهِ حَدٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا لَا حَدَّ فِيهِ فَهُوَ صَغِيرَةٌ " ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الرِّبَا كَبِيرَتَانِ وَلَا حَدَّ فِيهِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " مَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا لَا يُوجِبُهُ فَهُوَ صَغِيرَةٌ ، " وَهَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا بِأَكْلِ الرِّبَا فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَكَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ ، هِيَ كَبَائِرُ وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ ، نَحْوُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلَّمَا جَاءَ مَقْرُونًا بِوَعِيدٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، نَحْوُ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ ، وَالزِّنَا ، وَالرَّبَّا ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقِيلَ لَهُ : إنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ ، فَقَالَ هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ ، وَلَكِنْ لَا كَبِيرَةَ مَعَ تَوْبَةٍ ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، فَقَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .

فَإِذَا عَرَفْت تَفْسِيرَ الْعَدَالَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَلَا عَدَالَةَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ ؛ ؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ كَبِيرَةٌ فَتَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فِي أُمُورِهِ تَغْلِبُ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ غَيْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحْيَانًا لِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالتَّقَوِّي ، لَا لِلتَّلَهِّي - يَكُونُ عَدْلًا ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّقَوِّي وَمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِنَفْسِ الشُّرْبِ ؛ ؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ لِلتَّقَوِّي دُونَ التَّلَهِّي حَلَالٌ ، وَأَمَّا السُّكْرُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ وَقَعَ مِنْهُ مَرَّةً ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَوْ وَقَعَ سَهْوًا ، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُعْتَادُ السُّكْرَ مِنْهُ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْهُ حَرَامٌ ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الشُّرْبِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْرَبُ ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْفِسْقِ فِسْقٌ .

وَلَا عَدَالَةَ لِلنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا مَحْظُورٌ ، وَأَمَّا الْمُغَنِّي فَإِنْ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَيْهِ لِلْفِسْقِ بِصَوْتِهِ ، فَلَا عَدَالَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَشْرَبُ ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْفَسَقَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ ، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ مِمَّا يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْفِسْقُ بِهِ .
وَأَمَّا الَّذِي يَضْرِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَلَاهِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْنَعًا كَالْقَصَبِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِهِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَشْنَعًا كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ .

وَاَلَّذِي يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ فَإِنْ كَانَ لَا يُطَيِّرُهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُطَيِّرُهَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ، وَيَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ ، وَمَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ فَلَا عَدَالَةَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَيَعْتَادُهُ فَلَا عَدَالَةَ لَهُ ، وَإِنْ أَبَاحَهُ بَعْضُ النَّاسِ لِتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَعَلُّمِ أَمْرِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ لَعِبًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ } وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَادَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَلَا يُقَامِرُ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ .

وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ ؛ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَاتِ اسْتِخْفَافًا بِهَا وَهَوَانًا بِتَرْكِهَا فَلَا عَدَالَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهَا عَنْ تَأْوِيلٍ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ عِنْدَهُ ، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِالنِّسَاءِ ، أَوْ يَعْمَلُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ، وَلَا لِلسَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْمُتَلَصِّصِ وَقَاذِفِ الْمُحْصَنَاتِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَآكِلِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ رُءُوسِ الْكَبَائِرِ .

وَلَا عَدَالَةَ لِلْمُخَنَّثِ ؛ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَعَمَلَهُ كَبِيرَةٌ ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ يَكْتَسِبُ الدَّرَاهِمَ ، مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ؛ ؛ لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ زُورًا طَمَعًا فِي الْمَالِ ، وَالْمَعْرُوفُ بِالْكَذِبِ لَا عَدَالَةَ لَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ ؛ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَاشْتُهِرَ بِهِ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا تَابَ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ سَهْوًا وَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُسْلِمٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ مُنِعَ الْقَبُولُ لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ .

وَأَمَّا الْأَقْلَفُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْخِتَانَ رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْكِبَرِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ وَلَمْ يَخْتَتِنْ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، كَالْفَاسِقِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ : أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُوزُ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَسْتَيْقِنُ كَوْنَهُ فَاسِقًا فِي تِلْكَ الْحَالِ .

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا كَانَ عَدْلًا لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ زِنَا الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَدُ الزِّنَا أَسْوَأُ الثَّلَاثَةِ } فَذَا فِي وَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ ؛ وَلِأَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .

وَأَمَّا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْهَوَى إذَا كَانَ عَدْلًا فِي هَوَاهُ وَدِينِهِ ، نُظِرَ فِي ذَلِكَ ، إنْ كَانَ هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُكَفِّرُهُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ الدَّعْوَةِ إلَى هَوَاهُ ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَجَانَةٌ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا ؛ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ ، فَكَانَ فَاسِقًا فِيهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَجَانَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاجِنَ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ فِي هَوَاهُ تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَوَاهُ يَزْجُرُهُ عَنْ الْكَذِبِ .

، إلَّا صِنْفٌ مِنْ الرَّافِضَةِ يُسَمَّوْنَ بِالْخَطَّابِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ ؛ ؛ لِأَنَّ مِنْ نِحْلَتِهِمْ أَنَّهُ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ لِمَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ ، وَقِيلَ مِنْ نِحْلَتِهِمْ أَنَّ مَنْ ادَّعَى أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فَيَشْهَدُونَ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُمْ فَلَا تَخْلُو شَهَادَتُهُمْ عَنْ الْكَذِبِ .

وَكَذَا لَا عَدَالَةَ لِأَهْلِ الْإِلْهَامِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْإِلْهَامِ ، فَيَشْهَدُونَ لِمَنْ يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الْكَذِبِ .

وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يُظْهِرُ شَتِيمَةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ شَتِيمَةَ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ ، فَشَتِيمَتُهُمْ أَوْلَى .

وَلَا عَدَالَةَ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَاتَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَحِمَارٍ نَزَعَ بِدِينِهِ } فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَةً مُسْقِطَةً لِلْعَدَالَةِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا وَاعْتَادَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ } وَإِنْ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، إذَا غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ .

وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرْطُ هُوَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ ، فَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ وَالتَّزْكِيَةِ ، فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنَّهَا شَرْطٌ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، بَلْ يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ ، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ ، سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَسْأَلُ ، وَقَالَا يَسْأَلُ .
عَنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : هَذَا الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ زَمَانٍ لَا اخْتِلَافَ حَقِيقَةٍ ؛ ؛ لِأَنَّ زَمَنَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ مِنْ أَهْلِ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ } " الْحَدِيثَ ، " فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ ، فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى السُّؤَالِ عَنْ الْعَدَالَةِ ، فَكَانَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمْ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا حَقِيقَةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا

لِلْإِثْبَاتِ لِثُبُوتِهَا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ الدَّلِيلِ ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الْإِثْبَاتِ وَهُوَ إيجَابُ الْقَضَاءِ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلِهَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أَمَةً وَسَطًا } أَيْ عَدْلًا ، وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْوَسَاطَةِ ، وَهِيَ الْعَدَالَةُ ، وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَصَارَتْ الْعَدَالَةُ أَصْلًا فِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَزَوَالُهَا بِعَارِضٍ ، ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِمْ فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وَهُوَ صَادِقٌ فِي الطَّعْنِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الظَّاهِرَيْنِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالسُّؤَالِ ، وَالسُّؤَالُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَرِيقٌ لِدَرْئِهَا ، وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ فِيهَا لِلدَّرْءِ ، وَلَوْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي حُرِّيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ وَقَالَ : إنَّهُمَا رَقِيقَانِ ، وَقَالَا : نَحْنُ حُرَّانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حَتَّى تَقُومَ لَهُمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحُرِّيَّةَ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُمَا حُرَّانِ - لَكِنَّ الثَّابِتَ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ : الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ ، هَذَا إذَا كَانَا مَجْهُولَيْ النَّسَبِ لَمْ تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُمَا وَلَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً ، بِأَنْ كَانَا مِنْ الْهِنْدِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تُعْرَفُ حُرِّيَّتُهُ أَوْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ ،

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ الرِّقُّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا وَلَا يَثْبُتُ رِقُّهُمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ .

وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ وُجُودًا ، أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا وُجُوبًا وَوُجُودًا ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : إنَّهَا شَرْطُ الْقَبُولِ لِلشَّهَادَةِ وُجُودًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا لَا شَرْطَ أَصْلِ الْقَبُولِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَبُولُ بِدُونِهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : إنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ لَا يَثْبُتُ الْقَبُولُ أَصْلًا دُونَهَا ، حَتَّى إنَّ الْقَاضِيَ لَوْ تَحَرَّى الصِّدْقَ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ، وَإِذَا شَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ شَهَادَةِ الْعَدْلِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَصْلًا ، وَكَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَبْنَى قَبُولِ الشَّهَادَاتِ عَلَى الصِّدْقِ ، وَلَا يَظْهَرُ الصِّدْقُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ ، وَاحْتَجَّ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَالْفَاسِقُ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } قَسَّمَ الشُّهُودَ إلَى مَرْضِيِّينَ وَغَيْرِ مَرْضِيِّينَ ، فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - شَاهِدًا ؛ وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ

لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا - لَا لِلْحَاجَةِ إلَى شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ ؛ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَشْتَهِرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ - فَيُمْكِنُ دَفْعُ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ ، وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ هُوَ صِدْقُ الشَّاهِدِ " فَنَعَمْ ، لَكِنَّ الصِّدْقَ لَا يَقِفُ عَلَى الْعَدَالَةِ لَا مَحَالَةَ ، فَإِنَّ مِنْ الْفَسَقَةِ مَنْ لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِهِ أَنْوَاعًا مِنْ الْفِسْقِ ، وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ الْكَذِبِ ، وَالْكَلَامُ فِي فَاسِقٍ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ - لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَنَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ يَثْبُتَ ، فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَعْلُ الْعَدَالَةِ صِفَةً لِلشَّاهِدِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ : لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، بَلْ هَذَا إضَافَةُ الشَّاهِدَيْنِ إلَى الْعَدْلِ ، وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُقَابِلَيْ كَلِمَةِ الْعَدْلِ ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ ، وَالْفَاسِقُ مُسْلِمٌ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ عِنْدَنَا وَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ ، وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } " الْآيَةَ " نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الرَّامِي عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَيَتَنَاوَلُ زَمَانَ مَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ

مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَبِمِثْلِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا قَذَفَ حُرًّا ثُمَّ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ، ثُمَّ عَتَقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا ، وَإِنْ أُعْتِقَ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ تُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَةٍ كَانَتْ لِلْقَاذِفِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ وَالثَّابِتُ لِلذِّمِّيِّ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَتَبْطُلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ بِالْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ ، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ لِتَبْطُلَ بِالْحَدِّ فَتُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ عَدَالَةَ الْإِسْلَامِ ، وَالْحَدُّ أَبْطَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ الْحَدِّ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ تُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ الْبَعْضُ حَدًّا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ " لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا فِي الْإِسْلَامِ ؛ ؛ لِأَنَّ السِّيَاطَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَوَقَّفَ كَوْنُهَا حَدًّا عَلَى وُجُودِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ ، وَقَدْ وُجِدَ كَمَالُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ ، وَفِي

رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ : إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْحَدِّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَإِلَّا ، فَلَا ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي الشَّرْعِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ ، وَعِنْدَ ضَرْبِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّ السِّيَاطَ كُلَّهَا كَانَتْ حَدًّا ، وَلَمْ يُوجَدْ الْكُلُّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ الْبَعْضُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْإِسْلَامِ ، هَذَا إذَا شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ ، فَأَمَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ شَهِدَ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَقَدْ مَرَّتْ .
وَأَمَّا النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ بِالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ فَلِأَنَّ لَهُ شَهَادَةً أَدَاءً ، فَكَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ سَمَاعًا ، وَأَمَّا عِنْدَنَا ؛ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ لَدَى النِّكَاحِ لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ ، بَلْ لِرَفْعِ رِيبَةِ الزِّنَا وَالتُّهْمَةِ بِهِ ، وَذَا يُجْعَلُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِلنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ ، وَالِانْعِقَادُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْقَبُولِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَدْلًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ لَوْلَا النَّصُّ الْخَاصُّ بِعَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَجُرَّ الشَّاهِدُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا ، وَلَا يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا بِشَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِجَارِ

الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ } ، ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ إذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَرَّ النَّفْعَ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - ، بَلْ لِنَفْسِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ ، وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ، وَعَكْسُهُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ؛ ؛ لِأَنَّ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ يَنْتَفِعُ الْبَعْضُ بِمَالِ الْبَعْضِ عَادَةً ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى جَرِّ النَّفْعِ ، وَالتُّهْمَةِ ، وَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، وَلَا الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا ، وَلَا الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ } .
وَأَمَّا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ؛ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ تَسَلُّطٌ فِي مَالِ الْبَعْضِ ، عُرْفًا وَعَادَةً فَالْتَحَقُوا بِالْأَجَانِبِ ، وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ مِنْ الرَّضَاعِ لِوَلَدِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ مِنْ الرَّضَاعِ لِوَالِدِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِانْتِفَاعِ هَؤُلَاءِ بَعْضِهِمْ بِمَالِ الْبَعْضِ فَكَانُوا كَالْأَجَانِبِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ، وَلَا شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - جَلَّ وَعَلَا - { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ

} وَقَوْلِهِ - عَظُمَتْ كِبْرِيَاؤُهُ - { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَدْلٍ وَعَدْلٍ ، وَمَرْضِيٍّ وَمَرْضِيٍّ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا مِنْ النُّصُوصِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ " ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ ، وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَتِهِ لِلزَّوْجِ الْآخَرِ يَجُرُّ الْمَغْنَمَ إلَى نَفْسِهِ ، ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً ، فَكَانَ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْخَصَّافِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْعُمُومَاتُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهَا لَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ إنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ لِصَاحِبِهِ عَدْلٌ وَمَرْضِيٌّ ، بَلْ هُوَ مَائِلٌ وَمُتَّهَمٌ لِمَا قُلْنَا ، لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومَاتُ ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لَهُ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهُ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَائِزَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ ، وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِالثُّلُثِ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ غَصَبَهُمَا دَارًا أَوْ عَبْدًا وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ ، وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ فَرِيقٍ ، فَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُشَارِكُهُ فِيهِ ، فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ شَاهِدًا

لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَشْهُودِ بِهِ ؛ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَا يَتَحَقَّقُ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَصْمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ ، } ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ خَصْمًا فَشَهَادَتُهُ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، ذَاكِرًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ فِي الْكِتَابِ ، لَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَوْ شَهِدَ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَشْهَدَ ، وَلَوْ شَهِدَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ عَلَى الصَّكِّ ، دَلَّ أَنَّهُ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فِي الصَّكِّ ، فَيَحِلُّ لَهُ أَدَاؤُهَا ، وَإِذَا أَدَّاهَا تُقْبَلُ ، ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالشَّيْءِ ؛ ؛ لِأَنَّ طُولَ الْمُدَّةِ يُنْسِي ، فَلَوْ شَرَطَ تَذَكُّرَ الْحَادِثَةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِشَاهِدٍ { إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى الْخَطِّ وَالْخَتْمِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَتْمُ يُشْبِهُ الْخَتْمَ وَيَجْرِي فِيهِ الِاحْتِيَالُ وَالتَّزْوِيرُ مَعَ مَا أَنَّ الْخَطَّ لِلتَّذَكُّرِ فَخَطٌّ لَا يُذْكَرُ ، وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ

إذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لَا يَذْكُرُهُ - وَدِيوَانُهُ تَحْتَ خَتْمِهِ - أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدُهُمَا يَعْمَلُ إذَا كَانَ تَحْتَ خَتْمِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي ، ثُمَّ اسْتَقْضَى بَعْدَمَا عُزِلَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَرَى فِي دِيوَانِهِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ ، فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، فَلَا تُقْبَلُ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ ، كَلَفْظِ الْإِخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ وَنَحْوِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّهَادَةِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى .

وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى فَإِنْ خَالَفَتْهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي بَيْنَ الدَّعْوَى وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ ؛ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا خَالَفَتْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ انْفَرَدَتْ عَنْ الدَّعْوَى ، وَالشَّهَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ عَنْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ : إذَا ادَّعَى مِلْكًا بِسَبَبٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا تُقْبَلُ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ مِنْ الْمِلْكِ بِسَبَبٍ ؛ ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى تُسْتَحَقَّ بِهِ الزَّوَائِدُ ، وَالْمِلْكُ بِسَبَبٍ يَقْتَصِرُ عَلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ ، فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ أَعَمَّ ، فَصَارَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مُكَذِّبًا شُهُودَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ .
وَالتَّوْفِيقُ مُتَعَذَّرٌ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ الْأَصْلِ يُنَافِي الْمِلْكَ الْحَادِثَ بِسَبَبٍ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِمَا مَعًا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَخَصُّ مِنْ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَقَدْ شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى ، فَلَمْ يَصِرْ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا شُهُودَهُ ، بَلْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ ، وَادَّعَى زِيَادَةَ شَيْءٍ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَلْفٍ أَنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَلْفِ لِمَا ، قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ آخَرَ : بِأَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى

الْمِلْكِ : أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَ ، أَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوْ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِرْثِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِاخْتِلَافِ الْبَيِّنَتَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَى ؛ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، فَقَالَ : كُنْتُ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ لَكِنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ وَعَجَزْتُ عَنْ إثْبَاتِهِ فَاسْتَوْهَبْتُ مِنْهُ فَوَهَبَ مِنِّي ، وَقَبَضْتُ ، وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ ، تُقْبَلُ ؛ ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ فَقَدْ زَالَتْ الْمُخَالَفَةُ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْ شُهُودَهُ ، وَيَصِيرُ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً .
وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ عِنْدِ الدَّعْوَى ، وَكَذَا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ : وَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي إلَّا أَنَّهُ جَحَدَ إرْثِي فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ ، أَوْ وَهَبَ لِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِزَوَالِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ هَذَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا تُقْبَلُ ؛ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَدْ اخْتَلَفَ ، وَاخْتِلَافُ الْبَدَلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ ، فَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَقْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي ، فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ بِالْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَتُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُخَالَفَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ دَعْوَى التَّوْفِيقِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قَامَ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى التَّوْفِيقَ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُمْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَدَعْوَى التَّوْفِيقِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ،

وَبِمِثْلِهِ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا : إنَّهُ لِي لَا يَنْفِي قَوْلَهُ : إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ ، وَلِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ ، فَكَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّانِي ؛ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، يَنْفِي قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ لِي ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِفُلَانٍ ، وَأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ : إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : " هُوَ لِي " إقْرَارًا مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فَلَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، لَا تُقْبَلُ ؛ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا : إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، كَمَا يَنْفِي قَوْلَهُ : " إنَّهُ لِي " يَنْفِي قَوْلَهُ : " إنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ " فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ : " إنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ بَاعَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الثَّانِي ثُمَّ وَكَّلَنِي الثَّانِي بِالْخُصُومَةِ " فَيُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُنَاقَضَةِ ، وَلَوْ ادَّعَى فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَلْفٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالدَّارِ عَلَى الْمُدَّعِي فِي شَعْبَانَ ، لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى التَّصَدُّقِ فِي شَعْبَانَ تُنَافِي الشِّرَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِاسْتِحَالَةِ شِرَاءِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَالتَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا تُقْبَلُ .
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّصَدُّقِ فِي شَوَّالٍ ، وَوَفَّقَ فَقَالَ : " جَحَدَنِي الشِّرَاءَ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ " تُقْبَلُ وَلَوْ

ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي بِالْأَمْسِ لَا تُقْبَلُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَى أَنَّهَا مَا كَانَتْ فِي يَدِهِ ، فَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ ، وَلِهَذَا قَبِلْت الْبَيِّنَةُ عَلَى مِلْكٍ كَانَ ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَى يَدٍ كَانَتْ ، فَلَا يَثْبُتُ الْكَوْنُ لِلْحَالِ إلَّا بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ ، ؛ وَلِأَنَّ الْيَدَ قَدْ تَكُونُ مُحِقَّةً ، وَقَدْ تَكُونُ مُبْطِلَةً ، وَقَدْ تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ ، وَقَدْ تَكُونُ يَدَ أَمَانَةٍ ، فَكَانَتْ مُحْتَمَلَةً ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ وَالْمُعَايَنَةِ ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِالْمُحْتَمَلِ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ فَأَخَذَهَا هَذَا مِنْهُ ، أَوْ غَصَبَهَا أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ تُقْبَلُ ، وَيَقْضِي لِلْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ تَلَقَّى الْيَدَ مِنْ جِهَةِ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ ، فَنَقُولُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، إمَّا أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لِأَبِيهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا إنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ

وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا إنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ ، وَإِمَّا أَنْ أَثْبَتُوا مِنْ أَبِيهِ فِعْلًا فِيهَا عِنْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - " لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ " وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " تُقْبَلُ " ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ قَبْلَهَا لَا تُقْبَلُ ، قَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأَمَالِي " يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ " ، ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِأَبِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَالْأَصْلُ فِيمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ أَيْضًا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى ؛ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى مِلْكًا كَائِنًا ، وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ بِمِلْكٍ كَانَ لَا بِمِلْكٍ كَائِنٍ ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَا ثَبَتَ يَبْقَى ، قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنْ لَا حُكْمًا لِدَلِيلِ الثُّبُوتِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْبَقَاءِ ، وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِجَدِّهِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَقْضِي بِهَا مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِيرَاثِ بِأَنْ يَقُولُوا : " مَاتَ جَدُّهُ وَتَرَكَهَا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْظُرُ : إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَبِ يَقْضِي بِهَا لَهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبَ مَاتَ قَبْلَ الْجَدِّ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَقْضِ بِهَا ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا لِأَبِيهِ لَا يَقْضِي بِهَا لَهُ ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا

أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مَقْبُولَةٌ ؛ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالتَّرْكِ مِيرَاثًا لَهُ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ ، فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ ؛ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ مِنْ الْأَصْلِ يُحْمَلُ عَلَى يَدِ الْمَالِكِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِيَدٍ قَائِمَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ شَهَادَةً بِمِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَرَكَ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَتْرُوكِ ، إذْ هُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ ؛ وَلِأَنَّ يَدَهُ إنْ كَانَتْ يَدَ مِلْكٍ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ انْتَقَلَتْ يَدَ مِلْكٍ إذَا مَاتَ مُجَهِّلًا ؛ ؛ لِأَنَّ التَّجْهِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ عِنْدَنَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ ، وَهُوَ مَا إذَا ثَبَتَ لِيَدِ الْمَشْهُودِ مِنْ الْأَبِ فِعْلًا فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِعْلًا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَيْسَ هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ ، وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ هُوَ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِ النَّقْلِ فِي النَّقْلِيَّاتِ ، كَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ ، أَوْ فِعْلٌ يُوجَدُ لِلنَّقْلِ عَادَةً ، كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ ، أَوْ فِعْلًا يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْمُلَّاكِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ كَالسُّكْنَى فِي الدُّورِ ، وَالْفِعْلُ الَّذِي لَيْسَ بِدَلِيلِ الْيَدِ هُوَ فِعْلٌ ثَبَتَ فِي النَّقْلِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ ، وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ لِلنَّقْلِ عَادَةً كَالْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ ، أَوْ فِعْلٌ لَيْسَ بِفِعْلٍ لِلْمُلَّاكِ غَالِبًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ ، كَالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ فِي الدَّارِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ

الْقَائِمَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَائِمَةٌ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْيَدِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْيَدِ الَّتِي هِيَ دَلَالَةُ الْمِلْكِ ؛ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ : أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ دَالٍّ عَلَى الْيَدِ ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ هُوَ فِعْلُ الْمُلَّاكِ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ قَدْ يَمُوتُ فِيهَا الْمَالِكُ ، وَقَدْ يَمُوتُ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِكِ مِنْ الزُّوَّارِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ لَابِسٌ هَذَا الْقَمِيصَ ، أَوْ لَابِسٌ هَذَا الْخَاتَمَ تُقْبَلُ ؛ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالْخَاتَمِ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الْجَوَابَ فِي الْخَاتَمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْخَاتَمُ فِي خِنْصَرِهِ أَوْ بِنْصِرِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَصَابِعِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ فِي الْخَاتَمِ هَذَا عَادَةٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِ قَائِمَةً عَلَى الْيَدِ ، فَأَمَّا جَعْلُهُ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَصَابِعِ مِنْ الْمُلَّاكِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ الْخَاتَمِ ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ ، وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ جَعَلَ الْمُودِعُ الْخَاتَمَ فِي خِنْصَرِهِ أَوْ بِنْصِرِهِ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ يُضْمَنُ لِمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ ، وَلَوْ جَعَلَهُ فِيمَا سِوَاهُمَا الْأَصَابِعَ فَضَاعَ لَا يَضْمَنُ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ ، وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ جَوَابِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَانَ

دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ ، أَوْ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ ، لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تُفْعَلُ لِلنَّقْلِ عَادَةً ، فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الْيَدِ ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي بِسَاطٍ ، أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ ، وَالْآخِرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا دَلِيلُ ثُبُوتِ يَدَيْهِمَا عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِدَعْوَاهُمَا أَنَّهُ فِي يَدَيْهِمَا لَا لِثُبُوتِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النَّقْلِ ، وَلَا يُوجَدُ أَنَّ النَّقْلَ غَالِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ تُقْبَلُ ، وَيَقْضِي بِالدَّابَّةِ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كَانَ يَتَهَيَّأُ بِدُونِ نَقْلِ الدَّابَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِلنَّقْلِ ، فَكَانَ دَلِيلَ الْيَدِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ سَاكِنٌ هَذِهِ الدَّارَ تُقْبَلُ ، وَيَقْضِي لِلْوَارِثِ ( وَرُوِيَ ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَقْضِي ، ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ فِعْلَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ كَمَا يُوجَدُ مِنْ الْمُلَّاكِ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْمُلَّاكِ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ عَلَى رَأْسِهِ ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ حَامِلًا لَهُ لَا تُقْبَلُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِهَذَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ وَضَعَهُ غَيْرُهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ رِيحٌ بِهِ فَأَلْقَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ

فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي النَّقْلُ مِنْهُ ، فَلَا يَثْبُتُ النَّقْلُ مِنْهُ بِالشَّكِّ ، فَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ بِالشَّكِّ ، ثُمَّ نَقُولُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَالُوا : " هَذَا وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا : " هُوَ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ لَهُ وَارِثًا غَيْرُهُ " ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا : " هُوَ وَارِثُهُ " ، وَلَمْ يَقُولُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَلَا قَالُوا : " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ مَا إذَا قَالُوا : " هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ ؛ لِأَنَّهَا كَشَهَادَةٍ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لِلشَّاهِدِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ لَا يَعْلَمُهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلشَّاهِدِ { إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ ، وَإِلَّا فَدَعْ } ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ : لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، أَوْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فِي عِلْمِنَا ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ ، فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) الْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَا إذَا قَالُوا : " هُوَ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ حَتَّى يَقُولُوا : " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِمَا فِي عِلْمِهِ ، وَنَفْيُ وَارِثٍ آخَرَ لَيْسَ فِي عِلْمِهِ ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ ، إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِي عِلْمِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالُوا : " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا

غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ ، أَوْ فِي أَرْضِ كَذَا " تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ : " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ " لَا يَنْفِي وَارِثًا غَيْرَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مِصْرٍ آخَرَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَعَلِمُوهُ ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْإِنْسَانِ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِ عَادَةً ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ وَالتَّعْمِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، أَوْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ كُلَّ التَّرِكَةِ إلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ ، كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ ، أَوْ يَحْتَمِلُهُ ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَنَحْوِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ وَارِثًا لَهُ فَيُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ إلَّا إذَا كَانَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً فَلَا يُعْطَى إلَّا أَكْثَرُ نَصِيبِهِ ، فَلَا يُعْطَى الزَّوْجُ إلَّا النِّصْفُ ، وَلَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ إلَّا الرُّبُعُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا ، وَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْوَارِثِ كَفِيلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَمْ يَقُولُوا : " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " ، وَلَا قَالُوا : " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ حَاجِبٍ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُعْطَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعْطَى بِالشَّكِّ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ يُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِمَا إلَّا نَصِيبُهُمَا ، وَهُوَ

أَكْثَرُ النَّصِيبَيْنِ ، عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ أَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُزَاحَمَةِ ، وَفِي وُجُودِ الْمُزَاحِمِ شَكٌّ ، فَلَا يَثْبُتُ النُّقْصَانُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الرُّبُعَ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ الثُّمْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ لَهَا رُبُعُ الثُّمْنِ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ ، وَرَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ وَلِلزَّوْجِ الْخُمُسُ ، وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ التُّسْعِ ، أَمَّا الزَّوْجُ ؛ فَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ وَزَوْجٌ ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ، لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ : أَرْبَعَةٌ ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ : ثَمَانِيَةٌ ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ : ثَلَاثَةٌ ، فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ : خُمُسُهَا فَذَلِكَ لِلزَّوْجِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ ؛ فَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ وَزَوْجَةٌ ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ : ثَمَانِيَةٌ ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ : سِتَّةَ عَشَرَ ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ : ثَلَاثَةٌ ، فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ : تُسْعُهَا ، ثُمَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى فَيَكُنَّ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ ، فَيَكُونُ لَهَا رُبُعُ التُّسْعِ ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ ، فَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ فِي تِسْعَةٍ ، وَيَكُونُ سِتَّةً

وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، تُسْعُهَا : أَرْبَعَةٌ ، فَلَهَا مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ ، وَهُوَ رُبُعُ التُّسْعِ ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، ثُمَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ وَدُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : " لَا يُؤْخَذُ " ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " يُؤْخَذُ " ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لِصِيَانَةِ الْحَقِّ ، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الصِّيَانَةِ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ نَظَرًا لِلْوَارِثِ ، كَمَا فِي رَدِّ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ إلَى صَاحِبِهَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِلْحَالِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، وَفِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِوَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ وَارِثٌ آخَرُ ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَقِّ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لِحَقٍّ مَشْكُوكٍ فِيهِ مَعَ مَا أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ ، وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ قَوْلُهُمَا لِمَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى أَنَّا سَلَّمْنَا فَتِلْكَ كَفَالَةٌ لِمَعْلُومٍ لَا لِمَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ كَيْ لَا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ فَلَمْ تَكُنْ كَفَالَةً لِمَجْهُولٍ وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ ، وَهُوَ ظُلْمٌ ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كُنْتُ أَمْنَعُهُ حَقَّهُ دَلَّتْ تَسْمِيَتُهُ أَخُذَ الْكَفِيلِ ظُلْمًا عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ : أَنَّ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، إذْ الصَّوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عَنْ لَوْثِ الِاعْتِزَالِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَعْلُومٍ ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ قَضَائِهِ ، فَمَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي : أَنَّ فُلَانًا وَارِثُ هَذَا الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لِجَهَالَةِ الْوَارِثِ أَسْبَابَ الْوِرَاثَةِ وَاخْتِلَافَ أَحْكَامِهَا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا : " ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " ، أَوْ " أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " ، وَقَوْلُهُ : " لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " لِئَلَّا يَتَلَوَّمَ الْقَاضِي لَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَابٌ فِي الزِّيَادَاتِ يُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ ظَنَّ ، لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ وَأَخْبَرَهُ النَّاسُ بِمَا يَتَذَكَّرُ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْحُجَجِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْمَكَانَ فَوَاحِدٌ ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً مُلْزِمَةً إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ دُونَ الْبَعْضِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا ( مِنْهَا ) الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُدَّعِي بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ ؛ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ الْمُدَّعِي وَلَا يَتَحَقَّقُ قَوْلُهُ إلَّا بِدَعْوَاهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ .
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى كَأَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي بَابِ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالدَّعْوَى فَشُرِطَتْ الدَّعْوَى لِهَذَا ، وَاخْتُلِفَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ : أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، لِمَا عُلِمَ مِنْ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } ( وَقَوْلُهُ ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " الْآيَةُ " وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } ، وقَوْله تَعَالَى { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } وَلَا تَقَعُ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً صَافِيَةً عَنْ جَرِّ النَّفْعِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لِلشَّاهِدِ مِنْ حَيْثُ التَّصْدِيقُ ؛ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَقَ قَوْلُهُ يَتَلَذَّذُ بِهِ ، فَلَوْ قُبِلَ قَوْلُ الْفَرْدِ لَمْ تَخْلُ شَهَادَتُهُ عَنْ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ ، فَلَا يَخْلُصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَشُرِطَ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُضَافًا إلَى قَوْلِ صَاحِبِهِ ، فَتَصْفُو الشَّهَادَةُ لِلَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فَرْدًا يُخَافُ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، فَشَرْطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ لِيُذَكِّرَ الْبَعْضُ الْبَعْضَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إقَامَةِ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ فِي الشَّهَادَةِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } ثُمَّ الشَّرْطُ عَدَدُ الْمُثَنَّى فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، إلَّا فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } .
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ ، فَتُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ ، ثُمَّ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ

الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الزِّنَا عِنْدَنَا فَكَذَا عَدَدُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ لِظُهُورِهَا ، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ لَا يَخْلُو عَنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ ، وَعَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي احْتِمَالِ الْكَذِبِ ، مِثْلُ عَدَدِ الْمُثَنَّى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ شَرْطًا بِنَصٍّ خَاصٍّ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَأَمَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ فِي النِّسَاءِ فَالْعَدَدُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا ، فَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْعَدَدَ فِيهِ شَرْطٌ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْتَفَى فِيهِ بِامْرَأَتَيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ الْأَرْبَعِ ، وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي هَذَا الْبَابِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِعَدَدِهِمْ مِنْ النِّسَاءِ ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ لَا يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَلَا يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ؛ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطْعًا وَيَقِينًا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ ، وَهَذَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْعَدَدَ فِيهَا شَرْطًا بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْعَدَدِ فِي

شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } ، فَبَقِيَتْ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الرِّجَالِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِالْوِلَادَةِ يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا اتِّفَاقُ الشَّهَادَتَيْنِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ فَإِنْ اخْتَلَفَا لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ ، ؛ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ ، ثُمَّ نَقُولُ : الِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ فِي جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي قَدْرِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الزَّمَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْعَقْدِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَالِ ، أَمَّا فِي الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ غَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ وَأَمَّا فِي الْمَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِمَكِيلٍ وَالْآخَرُ بِمَوْزُونٍ ، فَلَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ .
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِي قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَنَحْوُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ ، لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلًا ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ ، تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُخَالِفْ الدَّعْوَى فِي قَدْرِ الْأَلْفِ بَلْ وَافَقَتْهَا بِقَدْرِهَا ، إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي زِيَادَةَ مَالٍ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، فَيَثْبُتُ قَدْرُ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ ، كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا

كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ خَالَفَ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ ، وَأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ دَلَالَةً عَلَى عَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ ، كَالْبَرْكِ لِأَلْفٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْهُنَيْدَةِ لِمِائَةٍ مِنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ مُدَّعًى ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَاهِدَةً عَلَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الدَّعْوَى فَانْفَرَدَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى ، فَلَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ اسْمٌ لِعَدَدَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقَالُ : أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الدَّعْوَى ، فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِمَا تَكُونُ قَائِمَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا ، فَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ فَقَدْ شَهِدَ بِأَحَدِ الْعَدَدَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ الدَّعْوَى ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِي عَدَدِ الْأَلْفِ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ - بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ - ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعَدَدٍ وَاحِدٍ لَا تَصِحُّ عَلَى مَا دُونَهُ بِحَالٍ ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّعْوَى ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهَا شَهَادَةً عَلَى مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الدَّعْوَى ، فَلَا تُقْبَلُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي الْبَاقِي ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ : كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ

قَدْ قَضَانِي أَلْفًا ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشَّاهِدُ فَيُقْبَلُ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا تُقْبَلُ لِمَا قُلْنَا ، إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ : كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ، إلَّا أَنَّهُ قَضَانِي خَمْسَمِائَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الشَّاهِدُ فَتُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَ الِاخْتِلَافُ الْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفَيْنِ وَآخَرُ بِأَلْفٍ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ ، وَاخْتِلَافُ الْبَدَلَيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدَيْنِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِعَقْدٍ غَيْرِ عَقْدِ صَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ دَعْوَى الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ لَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُقْبَلُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمُدَّةِ ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا ؛ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي النِّكَاحِ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ ، فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - حَتَّى أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا

عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ ؛ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكَرُ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، أَوْ فِي الْعَتَاقِ ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ وَلِيِّ الْقِصَاصِ تُقْبَلُ ؛ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الْعَبْدِ أَوْ الْقَاتِلِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ ، فَلَا تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ .

( وَأَمَّا ) اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقَارِيرِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَفَاعِيلِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ ، وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ ، فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ لِسَمَاعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ مَكَانَيْنِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ ، فَاخْتِلَافُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الشَّهَادَتَيْنِ فَيَمْنَعُ الْقَبُولَ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ قَرْضَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَرْضِ وَالْآخَرُ عَلَى الْقَرْضِ وَالْقَضَاءِ ، يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْضِ وَلَا يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِالْقَرْضِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَرْضِ لَكِنَّ الَّذِي شَهِدَ بِالْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ ، فَبَقِيَ عَلَى الْقَرْضِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَقْضِي بِالشَّهَادَةِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقَضَاءِ لَا فِي الْقَرْضِ ، بَلْ اتَّفَقَا عَلَى الْقَرْضِ فَيُقْضَى بِهِ ، وَقَوْلُهُ : شَاهِدُ الْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ قُلْنَا : مَمْنُوعٌ بَلْ قَرَّرَ شَهَادَتَهُ عَلَى الْقَرْضِ ؛ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَرْضِ بَعْدَ الْقَرْضِ يَكُونُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا - أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ ؛ لِأَنَّهُنَّ جُبِلْنَ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ، فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، وَالْإِبْدَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، كَالْكَفَالَاتِ وَالْوَكَالَاتِ .

وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ فَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ فِيهَا بِشَرْطٍ ، وَالْأُنُوثَةُ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ، فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْمُدَايَنَةِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } .

وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " شَرْطٌ " ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّجَالِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ فِيهَا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ ، وَلِهَذَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَكَذَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، ( وَلَنَا ) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ ، جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ شَهَادَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ ، وَالشَّاهِدُ الْمُطْلَقُ مَنْ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَهَادَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي إظْهَارِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِثْلُ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهَا عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ بِالْعَدَالَةِ ، لَا أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِنَوْعِ قُصُورٍ وَشُبْهَةٍ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ بِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ فَلَا تَسْلَمُ ، فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ مَقْبُولَةٌ ، فَدَلَّ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا ضَرُورَةً ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالْعَدَدِ فَكَانَتْ

شَهَادَةً مُطْلَقَةً ، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَقَالَ زُفَرُ : شَرْطٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَظْهَرُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ فِي عِلَّةِ الْعُقُوبَاتِ بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى لَا يَظْهَرَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَالْإِحْصَانُ مِنْ جُمْلَةِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الرَّجْمِ لَيْسَ هُوَ الزِّنَا الْمُطْلَقَ ، بَلْ الزِّنَا لِمَوْصُوفٍ بِالتَّغْلِيظِ ، وَلَا يَتَغَلَّظُ إلَّا بِالْإِحْصَانِ ، فَكَانَ الْإِحْصَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ جَازَ رُجُوعُهُ ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا رَجَعَ ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْإِحْصَانِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الزِّنَا .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ الْإِحْصَانُ " ، قُلْنَا : " لَا مَمْنُوعٌ ، بَلْ هُوَ شَرْطُ الْعِلَّةِ " فَيَصِيرُ الزِّنَا عِنْدَهُ عِلَّةً ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَلَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى زُفَرَ ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا عَلَى أَنَّهُ تُضَافُ إلَيْهِ الْعُقُوبَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ إجْمَاعًا ، وَلَا فِي عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ،

وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَرَّرُ تَعَلُّقُ عُقُوبَةٍ بِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْصَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .

وَمِنْهَا إسْلَامُ الشَّاهِدِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ ، وَهُوَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى ( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَافِرًا ، فَإِسْلَامُ الشَّاهِدِ ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ ؟ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " لَيْسَ بِشَرْطٍ " حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : شَرْطٌ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ أَصْلًا .
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلٌ ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنَّهُ مَنْفِيٌّ ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَالْفِسْقُ مَانِعٌ ، وَالْكُفْرُ رَأْسُ الْفِسْقِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْقَبُولِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ { فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } ، وَلِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ ، فَكَذَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ كَالْمُسْلِمِ ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ ، ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِ أَهْلِ

الذِّمَّةِ .
وَلَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ مَاسَّةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا ، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّيَانَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ تَكْثُرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَحْضُرُونَ مُعَاقَدَتِهِمْ لِيَتَحَمَّلُوا حَوَادِثَهُمْ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ لَضَاعَتْ حُقُوقُهُمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالشَّهَادَةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّقْلِيدِ السَّابِقِ ، وَالشَّهَادَةُ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، فَلَا يَكُونُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى الْمَجُوسِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : " إنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ " : وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ صُورَةً ، فَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَيْفَ مَا كَانَ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا صُورَةً ؛ لِأَنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَنَا لِلسُّكْنَى فِيهَا بَلْ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُ ، ثُمَّ يَعُودَ عَنْ قَرِيبٍ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَاخْتَلَفَتْ الدَّارَانِ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَصَارَ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ الذِّمِّيِّ فِي

الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ ، وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ إنْ اتَّفَقَتْ دَارُهُمْ وَمِلَلُهُمْ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ .

وَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ كُلِّهَا إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ، إلَّا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قِيَامُ الرَّائِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ ، وَلَمْ يُحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ مَسِيرِهِ لَا يَبْقَى الرِّيحُ مِنْ الْمَجِيءِ بِهِ مِنْ مِثْلِهَا عَادَةً عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَتُذْكَرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَمِنْهَا ) الْأَصَالَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا ، كَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى تُقْبَلَ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْهَا ؛ فَتُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفُرُوعَ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ نِيَابَةً عَنْ الْأُصُولِ ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ مَعْنًى ، وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَقْبُولَةٌ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ بِسَبَبِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَا تَمَكَّنَتْ فِي مَجْلِسٍ ، فَكَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الدَّرْءِ أَوْجَبَ ذَلِكَ اخْتِصَاصَهَا بِحُجَجٍ مَخْصُوصَةٍ ، بَلْ إيقَافَ إقَامَتِهَا ، وَلِهَذَا شُرِطَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ عَلَى غَيْبُوبَةِ ذَكَرِهِ فِي فَرْجِهَا ، كَمَا يَغِيبُ الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ ، ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي صُورَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَفِي شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ ، وَفِي صُورَةِ أَدَاءِ

الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَفِي شَرَائِطِ الْأَدَاءِ أَمَّا صُورَةُ التَّحَمُّلِ فَلَهَا عِبَارَتَانِ : مُخْتَصَرَةٌ ، وَمُطَوَّلَةٌ ، أَمَّا اللَّفْظُ الْمُخْتَصَرُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ : " أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا " ، أَوْ يَقُولَ : " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا ، فَأَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ " .
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ : " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا ، أُشْهِدُكَ عَلَى شَهَادَتِي هَذِهِ وَآمُرُكَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِي هَذِهِ فَاشْهَدْ " .

وَأَمَّا شَرَائِطُ تَحَمُّلِ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْإِشْهَادُ حَتَّى لَا يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِنَفْسِ السَّمَاعِ دُونَ الْإِشْهَادِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا " فَسَمِعَ إنْسَانٌ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ : " اشْهَدْ أَنْتَ " لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، أَنَّهُ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِنَفْسِ مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ وَسَمَاعِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْفُرُوعَ يَشْهَدُونَ نِيَابَةً عَنْ الْأُصُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّاهِدِ فِي سَائِرِهَا بِطَرِيقِ الْإِحَالَةِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، فَيَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ .

وَمِنْهَا الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى لَوْ قَالَ : " أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتُ " ، أَوْ " كَمَا شَهِدْت " ، أَوْ " عَلَى مَا شَهِدْتُ " لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مَا لَمْ يَقُلْ " عَلَى شَهَادَتِي " ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ .

وَمِنْهَا عَدَدُ التَّحَمُّلِ ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ اثْنَانِ ، حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَاحِدٌ ، وَتَحَمَّلَ مِنْ الْآخَرِ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الشَّاهِدِ ، وَالْحُقُوقُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَمِ لَا يَنْقُلُهَا إلَى الْقَاضِي إلَّا شَاهِدَانِ ، وَلَوْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا شَهَادَتَهُ ، ثُمَّ تَحَمَّلَا مِنْ الْآخَرِ شَهَادَتَهُ جَازَ التَّحَمُّلُ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى التَّحَمُّلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ ، فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فِي تَحَمُّلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ التَّحَمُّلُ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ .
( وَأَمَّا ) صُورَةُ أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَلَهَا لَفْظَانِ أَيْضًا : مُخْتَصَرٌ ، وَمُطَوَّلٌ فَالْمُخْتَصَرُ أَنْ يَقُولَ : " شَهِدَ فُلَانٌ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ " .
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : " شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا ، وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ ، وَأَنَا أَشْهَدُ الْآنَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ " ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ : " وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ " جَازَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ يَتَأَدَّى بِقَوْلِهِ : " أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ " فَكَانَ قَوْلُهُ : " أَمَرَنِي بِذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ " وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَمَا ذَكَرْنَاهُ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَيِّتًا ، أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ ، أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ

الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ شَهَادَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ؛ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ وَالْأَصْلُ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ ، إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الذُّكُورَةِ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ثَبَتَ بِنَصٍّ خَاصٍّ ، وَهُوَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ فِي شَهَادَتِهِنَّ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، وَاشْتِرَاطُ الْأَصَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِي شَهَادَةِ الْفُرُوعِ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَشُرِطَ ذَلِكَ احْتِيَالًا لِدَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ مِمَّا ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ فَثَبَتَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } إلَّا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا طَلَبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } أَيْ دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الشَّاهِدِ .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } وَقَالَ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَفِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ ، نَحْوُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ ، وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوُهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِقَامَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ .
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } ، وَثُبُوتُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ .

( كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا - يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ ، وَالثَّانِي - يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ إمَّا بِالِالْتِزَامِ أَوْ بِالْإِتْلَافِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ الْإِتْلَافُ فِيهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلِمَ لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ لَهُ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلِ - أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ مِنْ

حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا كَانَ .
وَالثَّانِي - أَنَّ الشَّاهِدَ فِي الرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ ، لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَرَّهُ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ فَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ لِلتُّهْمَةِ ، إذْ التُّهْمَةُ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ ، وَلَا يُسْتَرَدُّ الْمُدَّعَى مِنْ يَدِهِ ، وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقّه ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَيَظْهَرُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا ، وَإِذَا رَجَعَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ ؛ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ ، فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَا ، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا ، فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِأَنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ بِالْمُتْعَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى ثُمَّ رَجَعَا : ضَمِنَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ ، لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ

الدُّخُولِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا ، فَصَارَتْ شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ ، كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخِذِ ، وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ ، فَهُوَ بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْوَاجِبِ كَذَا هَذَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَهُ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، فَإِنْ قِيلَ : " هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ " قِيلَ لَهُ : " الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هَذَا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ " .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وَلَدَتْ مِنْهُ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ رَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى ، وَإِمَّا أَنْ رَجَعَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا ، فَتُقَوَّمُ أَمَةً قِنًّا وَتُقَوَّمُ أُمَّ وَلَدٍ : لَوْ جَازَ بَيْعُهَا فَيَضْمَنَانِ

النُّقْصَانَ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ حَالَ حَيَاتِهِ فَيَضْمَنَانِهِ ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا ، وَيَضْمَنَانِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا كُلَّ الْجَارِيَةِ ، لَكِنَّ بَعْضَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَالْبَاقِي بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيَضْمَنَانِ ، كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا لَهُ ، فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ ، وَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ نُقْصَانِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا ، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا قَبَضَ الْأَبُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْوَلَدَانِ رُجُوعَهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ مَا أَخَذَ الْأَبُ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخٌ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا قَبَضَ الْأَخُ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ ظَلَمَ عَلَيْهِمَا فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا عَلَيْهِ ، وَلَا ضَمَانَ لِلْأَخِ مَا أَخَذَ هَذَا مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، هَذَا إذَا كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ،

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهِمَا لِمَا قُلْنَا ، وَيَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْوَلَدِ ، وَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ مَا أَخَذَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْأَخِ فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا الْوَلَدَ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَبْدًا وَأَمَةً وَتَرِكَةً ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ وَلَدَتْهُ هَذِهِ الْأَمَةُ مِنْ الْمَيِّتِ ، وَصَدَّقَهُمَا الْوَلَدُ وَالْأَمَةُ ، وَأَنْكَرَ الِابْنُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَا : يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلِابْنِ ، فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمَمَاتِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَضْمَنَانِ الْمِيرَاثَ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ حَالَ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ أَوَّلًا فَيَرِثَهُ الِابْنُ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الِابْنُ أَوَّلًا وَيَرِثَهُ الْأَبُ ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِالنَّسَبِ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إتْلَافًا لِلْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمَالِ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ فَيَضْمَنَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَا :

يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ ، فَيُقَوَّمُ قِنًّا ، وَيُقَوَّمُ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ فَيَضْمَنَانِهِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُدَبَّرُهُ ، وَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهِ عَبْدًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا بَقِيَّةَ مَالِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمُدَبَّرِ عَتَقَ عَلَيْهِ مَجَّانًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْوَصَايَا ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَبْدًا قِنًّا لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا تَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَيَضْمَنُ الشَّاهِدُ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا ثُلُثَ الْعَبْدِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ السِّعَايَةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا أَيْسَرَ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ : " إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ شَرْطٌ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِتْقِ لَا إلَى الشَّرْطِ ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا ، فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لَا عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ

قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً ، وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ فِي مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بِالْإِتْلَافِ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْإِقْرَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّا صَرِيحًا ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَا فِي حَالِ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقَارِيرِ ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ خَطَأً ، وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّاهِدَانِ بِآخَرَ فَقَالَا : " أَوْهَمْنَا أَنَّ السَّارِقَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي وَقُتِلَ ، ثُمَّ رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ ، ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ قَتْلًا تَسْبِيبًا ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ ، وَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ ، وَالتَّسْبِيبُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ .
( وَلَنَا ) أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ لَكِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لَا

تَسْبِيبًا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِيَدِ الْمُكْرَهِ وَهُوَ كَالْآلَةِ ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ عَنْ نُصُوصِ الْمُمَاثَلَةِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْفَرْعِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا : أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافُ الْمَالِ وَلَا النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا قَامَتْ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَعَفَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مَالًا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَكَذَا مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَفَا ، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ مَالًا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ ، كَمَا إذَا تَبَرَّعَ فِي مَرَضِهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الدِّيَةَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إتْلَافٌ لِلنَّفْسِ ؛ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ ، فَقَدْ أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْمَوْلَى نَفْسًا تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنَانِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ ، بَلْ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكُ الْفِعْلِ لَا مِلْكُ الْمَحَلِّ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا عُلِمَ فِي مَسَائِلِ الْقِصَاصِ فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافَ

النَّفْسِ وَلَا إتْلَافَ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الرَّجُلِ ، وَالْأَبُ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِانْعِدَامِ إتْلَافِ الْمَالِ مِنْهُمَا .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرْنَا : أَنَّ الرُّكْنَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالشَّهَادَةِ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا ، وَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا إذَا صَارَتْ حُجَّةً وَلَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا بِهِ .
( وَمِنْهَا ) مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي كَمَا لَا عِبْرَةَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى رُجُوعِهِمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَكَذَا لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا إذَا أَنْكَرَ الرُّجُوعَ إلَّا إذَا حَكَيَا عِنْد الْقَاضِي رُجُوعَهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ رُجُوعُهُمَا ؛ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ رُجُوعِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مُعْتَبَرًا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ بِالشَّهَادَةِ عَيْنَ مَالٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْفَعَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ ، وَهِيَ تُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ شَيْئًا ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ .
وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ بِعَارِضِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَى الزَّوْجِ الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هَذِهِ الدَّابَّةَ مِنْ فُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَأَجْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ وَقَضَى الْقَاضِي .
ثُمَّ

رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمُؤَجِّرِ شَيْئًا ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ إتْلَافُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنَ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةً لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَكُونُ إتْلَافًا صُورَةً لَا مَعْنًى ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا : أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُشْتَرِي ؛ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِعِوَضٍ ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ أَوْ أَقَلَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِلْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ ؛ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِغَيْرِ الزِّيَادَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالرَّجُلُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ بِذَلِكَ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ ، ثُمَّ رَجَعَا : أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَإِنْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِعِوَضٍ لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ ، وَهُوَ الْبُضْعُ ؛ ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ ابْنِهِ امْرَأَةً وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْبُضْعُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا مَلَكَ ؛ ؛

لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ عَلَى ابْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا ، لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ فِي حُكْمِ الْمَالِ فِي حَالِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَالتَّبَرُّعِ ، دَلَّ أَنَّ الْبُضْعَ يُعْتَبَرُ مَالًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ هُوَ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَالِ ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ رَجَعَا : أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا عَيْنَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا ؛ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَخْلَعَ مِنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَالٍ ، وَلَوْ فَعَلَ وَأَدَّى مِنْ مَالِهَا يَضْمَنُ وَلَوْ كَانَ مَالًا لِمِلْكٍ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا حَالَ مَرَضِهَا عَلَى مَالٍ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لَاعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، كَمَا فِي سَائِرِ مُعَاوَضَاتِ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا عَلَيْهِمَا مِنْ عِوَضٍ أَصْلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ آجَرَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ ،

وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ يَنْظُرُ ، إنْ كَانَ أُجْرَةُ الدَّارِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَوْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ لَكِنْ بِعِوَضٍ ، لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْأُجْرَةِ ؛ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَاتِلِ : أَنَّهُ صَالَحَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ ، وَالْقَاتِلُ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا لِلْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ بِعِوَضٍ ، وَهُوَ النَّفْسُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرِيضِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَصَالَحَ الْوَلِيَّ عَلَى الدِّيَةِ جَازَ ، وَلَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ النَّفْسُ عِوَضًا لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ ، دَلَّ أَنَّ هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ إلَّا إذَا شَهِدَا عَلَى الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ ؛ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى فَصْلِ التَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّ مَا قَابَلَهُ عِوَضٌ ، لَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى ، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ فَافْهَمْ ذَلِكَ .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ ، وَالرُّجُوعُ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ الْفُرُوعُ وَثَبَتَ الْأُصُولُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَثَبَتَ الْفُرُوعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفُرُوعِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ مِنْهُمْ ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأُصُولِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجِبُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجِبُ ، ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرُوعَ لَا يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فَإِذَا شَهِدُوا فَقَدْ أَظْهَرُوا شَهَادَتَهُمْ ، فَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَشَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا ، ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْفُرُوعِ لَا مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ حَقِيقَةً ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا شَهِدَ الْفُرُوعُ ، وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ، فَلَا يَضْمَنُونَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُصُولِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفُرُوعِ حَقِيقَةً لَا مِنْ الْأُصُولِ ، وَعِنْدَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولُ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الْأُصُولَ أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الرُّجُوعِ رُجُوعُ الشُّهُودِ وَالْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّ الْمُزَكِّينَ لَوْ زَكَّوْا الشُّهُودَ فَشَهِدُوا ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رُجُوعَ الْمُزَكِّينَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ؛ ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِنَاءً عَنْ الشُّهُودِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِوُقُوعِهِ إتْلَافًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إتْلَافًا بِالتَّزْكِيَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا التَّزْكِيَةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ، فَكَانَتْ إتْلَافًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ كَوْنِ الزِّنَا عِلَّةً ، وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ .

وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الضَّمَانِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْإِتْلَافِ ؛ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْإِتْلَافُ ، وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ ، وَالْعِبْرَةُ فِيهِ لِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَنْ يَحْفَظُ الْحَقَّ كُلَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا مِنْ أَحَدٍ ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ بَعْضَ الْحَقِّ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ضَمَانُ قَدْرِ التَّالِفِ بِالْحِصَصِ ، فَنَقُولُ : بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الْبَاقِي ، وَلَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً ، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَحْفَظَانِ الْمَالَ ، وَلَوْ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ عِنْدَنَا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِمَالٍ ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ : غَرِمَ نِصْفَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ بَقِيَ بِثَبَاتِ الْمَرْأَتَيْنِ ، وَلَوْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ غَرِمَتَا نِصْفَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِثَبَاتِ الرَّجُلِ ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالُ ، نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَرُبُعُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِبَقَاءِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ عَلَيْهَا الرُّبُعُ وَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ ، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَنِصْفُ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الشَّهَادَةِ وُجُودُهَا

وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهَا ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِالرَّجُلَيْنِ ، وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلَانِ يَضْمَنَانِ نِصْفَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَحْفَظَانِ النِّصْفَ ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ يَحْفَظُونَ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا رُبُعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ الرُّبُعَ ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ أَيْضًا : ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ ضِعْفَ مَا تَلِفَ بِشَهَادَتِهَا وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسٌ : سُدُسُهُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ : نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى النِّسْوَةِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَهُنَّ شَطْرُ الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ وَالنِّصْفَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَنْصَافًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ ، فَكَانَ قِسْمَةُ الضَّمَانِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَتْ النِّسْوَةُ غَرِمْنَ نِصْفَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ، هَذَانِ الْفَصْلَانِ

يُؤَيِّدَانِ قَوْلَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَقِيَ مَحْفُوظًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِثَبَاتِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ الرُّبُعَ ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ يَحْفَظْنَ الْمَالَ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ النِّصْفَ ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ وَامْرَأَةٌ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِصْفُ الْمَالِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : خُمُسَاهُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ ، وَعِنْدَهُمَا نِصْفُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرْنَ ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ كُلِّ نَوْعٍ نِصْفَ الْمَالِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعٌ : عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ الرُّبُعُ ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ شَهِدَا بِكُلِّ الْمَهْرِ ؛ ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ ، وَلِلْمُؤَكَّدِ حُكْمُ الْمُوجَبِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَشَاهِدَيْ الطَّلَاقِ شَهِدَا بِالنِّصْفِ ؛ ؛ لِأَنَّ

نِصْفَ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ ، فَشَاهِدُ الدُّخُولِ انْفَرَدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَكَ فِيهِ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ ، فَكَانَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ ، وَثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ .

فَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا - وُجُوبُ الْحَدِّ لَكِنْ فِي شَهَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الزِّنَا ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّهُودِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ، سَوَاءٌ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ انْعَقَدَ قَذْفًا لَا شَهَادَةً ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ ، فَإِذَا رَجَعُوا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجَبُ الْحَدُّ بِالنَّصِّ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ وَإِنْ صَارَ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَقَدْ انْقَلَبَ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَصَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ ، وَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالْإِمْضَاءِ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفُوا صَرِيحًا ، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَسْقُطُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ بِالرُّجُوعِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَذْفًا وَقْتَ الرُّجُوعِ ، وَالْمَقْذُوفُ وَقْتَ الرُّجُوعِ مَيِّتٌ فَصَارَ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَيَجِبُ الْحَدُّ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ .

وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ ، فَأَمَّا قَبْلَ الْإِمْضَاءِ : لَا ضَمَانَ أَصْلًا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا ، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا ضَمِنُوا الدِّيَةَ بِلَا خِلَافٍ لِوُقُوعِ شَهَادَتِهِمْ إتْلَافًا أَوْ إقْرَارًا بِالْإِتْلَافِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجَلَدَاتِ إذَا لَمْ يَمُتْ مِنْهَا وَلَا الدِّيَةُ إنْ مَاتَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ وَقَعَتْ إتْلَافًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ ؛ ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ .
وَالْقَضَاءُ يُفْضِي إلَى إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ إتْلَافًا تَسْبِيبًا ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ أَوْ بِالْمَالِ ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ وَالضَّمَانُ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا - أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ضَرْبٍ جَارِحٍ ؛ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْجَلْدِ ، فَلَا يَكُونُ الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ وَالثَّانِي - أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ إلَيْهِ .
وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى التَّسْبِيبِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ هَهُنَا فَلَا شَيْءَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ .
وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا

بِالرُّجُوعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمْ ، فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا خَاصَّةً ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ ؛ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ مِنْ الِابْتِدَاءِ قَذْفًا .
( وَلَنَا ) أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا شَهَادَةً ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِالنَّصِّ لِوُجُودِ الرَّمْيِ مِنْهُمْ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ ، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً ، فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ، فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا ، فَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ أَوْ رِدَّتَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِمْضَاءِ ، فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ ؛ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ

شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ .

فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا مِنْ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا غَرِمَ الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ ؛ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ ، هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ اثْنَانِ ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ الْمَرْجُومُ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَالثَّانِي - وُجُوبُ التَّعْزِيرِ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ ، وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ ؛ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ أَوْ مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ النَّاسُ مِنْهُ فَيُقَالُ : " هَذَا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ " ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ أَسْوَاطٍ ، هَذَا إذَا تَابَ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ : " إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ " فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ

بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ ، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ .
؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَشْهَرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ ، وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ نَادِمًا عَلَى مَا فَعَلَ لَا مُصِرًّا عَلَيْهِ ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَوْجِبُ الضَّرْبَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ يُضْرَبُ ، وَفِعْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

كِتَابُ آدَابِ الْقَاضِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْقَاضِي ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ آدَابِ الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا ، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا ؛ إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُحِلُّهُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُحِلُّهُ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنْصَبُ لِإِقَامَةِ أَمْرٍ مَفْرُوضٍ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّنَا الْمُكَرِّمِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَالْقَضَاءُ هُوَ : الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي ؛ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ ، فَكَانَ فَرْضًا ضَرُورَةً ؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَرْضٌ ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَلَا عِبْرَةَ - بِخِلَافِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ - ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؛ لِتَقَيُّدِ الْأَحْكَامِ ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا تَقُومُ إلَّا بِإِمَامٍ ، لِمَا عُلِمَ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا نُصِبَ لَهُ بِنَفْسِهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى نَائِبٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْقَاضِي ؛ وَلِهَذَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ إلَى الْآفَاقِ قُضَاةً ، فَبَعَثَ سَيِّدَنَا مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ ، وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ

أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ ، فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي مِنْ ضَرُورَاتِ نَصْبِ الْإِمَامِ ، فَكَانَ فَرْضًا } ، وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فَرِيضَةً مُحْكَمَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْعَقْلِ ، وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِسَاخَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَنَقُولُ : الصَّلَاحِيَّةُ لِلْقَضَاءِ لَهَا شَرَائِطُ ( مِنْهَا ) : الْعَقْلُ ، ( وَمِنْهَا ) الْبُلُوغُ ، ( وَمِنْهَا ) : الْإِسْلَامُ ، ( وَمِنْهَا ) : الْحُرِّيَّةُ ، ( وَمِنْهَا ) : الْبَصَرُ ( وَمِنْهَا ) : النُّطْقُ ، ( وَمِنْهَا ) : السَّلَامَةُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ ، وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ ، وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسِ ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْوِلَايَاتِ ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ أَدْنَى الْوِلَايَاتِ - وَهِيَ الشَّهَادَةُ - فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَهْلِيَّةٌ أَعْلَاهَا أَوْلَى ، وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَقْضِي بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ .
( وَأَمَّا ) الْعِلْمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ : فَهَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ ؟ عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ ، بَلْ شَرْطُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ؛ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ ؛ مَعَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ ، كَمَا قَالُوا فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ .
وَعِنْدَنَا هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ غَيْرِهِ ، بِالرُّجُوعِ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَذَا فِي الْقَاضِي ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِنَفْسِهِ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ ، بَلْ يَقْضِي بِالْبَاطِلِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضٍ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57