كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

يَمْتَدُّ هَذَا الْخِيَارُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ بَلْ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ مِنْ الْبِكْرِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ ، وَخِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَاكَ ، وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ ، وَهُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَوْلَى أَمَّا فِي الزَّوْجِ ، فَظَاهِرٌ .
وَكَذَا فِي الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ ، وَالْعِتْقُ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ ، وَالتَّخْيِيرُ مِنْ الْعَبْدِ تَمْلِيكٌ فَيَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ ، فَيَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ بَلْ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا ، فَلَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ ، فَلَهَا الْخِيَارُ حِينَ تَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ خِيَارُ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْمُعْتَقَةِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ ، وَذَا يَخْتَصُّ بِهَا .
وَكَذَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إذَا كَانَتْ الْأُنْثَى ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ ، وَالْمُخَيَّرَةُ يَبْطُلُ وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْبِكْرِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ ، وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ ، وَالثَّانِي لَا يَبْطُلُ .
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالْجَهْلُ بِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ ، فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِالتَّعَلُّمِ ، فَكَانَ الْجَهْلُ بِالْخِيَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَلِهَذَا لَا يُعْذَرُ الْعَوَامُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلِهِمْ بِالشَّرَائِعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخِيَارِ هُنَاكَ شَرْطٌ ، وَالْجَهْلَ بِهِ عُذْرٌ ، وَإِنْ كَانَ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ ،

وَالْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّعَلُّمِ ، وَالْأَمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعَلُّمِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ مَوْلَاهَا بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ، ثُمَّ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفُرْقَةَ ، فَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ ، فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ( وَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ هَهُنَا ثَابِتٌ ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ ، وَإِنَّمَا الْغَائِبُ وَصْفُ الْكَمَالِ ، وَهُوَ صِفَةُ اللُّزُومِ ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَفْعَ الْأَصْلِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ ، وَفَوَاتُ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِلْوَصْفِ ، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ ، وَهُوَ الْقَاضِي ؛ لِيَرْفَعَ النِّكَاحَ دَفْعًا لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي بَلَغَ ، وَنَظَرًا لَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُعْتِقِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ازْدَادَ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ ، وَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ ، فَكَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا بِانْدِفَاعِ مَا كَانَ ثَابِتًا ، فَيَنْدَفِعُ الثَّابِتُ ضَرُورَةَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا يُمْكِنُ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْمِلْكِ تَابِعًا لِبَعْضٍ ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالثَّانِي لَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ ابْنَ أَخِيهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ عَنْ الْأَبِ .
وَأَمَّا ابْنُ الْأَخِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ لِصُدُورِ النِّكَاحِ عَنْ الْعَمِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا خِيَارَ لَهُ ،

وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ .
وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ، ثُمَّ زَوَّجَهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَلَاءِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ ثَمَّةَ ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ هَهُنَا أَوْلَى ، وَلَوْ زَوَّجَهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَلَهَا إذَا بَلَغَتْ خِيَارُ الْعِتْقِ لَا خِيَارَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَادَفَهَا ، وَهِيَ رَقِيقَةٌ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا كَفَاءَةُ الزَّوْجِ فِي إنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : .
أَحَدِهَا : فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ هَلْ هِيَ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ النِّكَاحِ الَّذِي الْكَفَاءَةُ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ ، وَالثَّالِثِ : فِي بَيَانِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ ، وَالرَّابِعِ : فِي بَيَانِ مَنْ يُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهَا شَرْطٌ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ خَطَبَ إلَى بَنِي بَيَاضَةَ ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكِحُوا أَبَا طَيْبَةَ إنْ لَا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ، وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَهُمْ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَزَوَّجُونِي } أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لَمَا أَمَرَ ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ .
{ وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى } ، وَهَذَا نَصٌّ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكَانَ أَوْلَى الْأَبْوَابِ بِالِاعْتِبَارِ بِهَا بَابُ الدِّمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاطُ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى يُقْتَلَ الشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ ، فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا

لَمْ تُعْتَبَرْ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ تَخْتَلُّ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ ، وَالْمَرْأَةُ تَسْتَنْكِفُ عَنْ اسْتِفْرَاشِ غَيْرِ الْكُفْءِ ، وَتُعَيَّرُ بِذَلِكَ ، فَتَخْتَلُّ الْمَصَالِحُ ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا مُبَاسَطَاتٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ بِدُونِ تَحَمُّلِهَا عَادَةً ، وَالتَّحَمُّلُ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَمْرٌ صَعْبٌ يَثْقُلُ عَلَى الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ ، فَلَا يَدُومُ النِّكَاحُ مَعَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ، فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّزْوِيجِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ نَدْبًا لَهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الدِّينِ ، وَتَرْكُ الْكَفَاءَةِ فِيمَا سِوَاهُ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ .
وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ اعْتِبَارُ الدِّينِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَمَرَهُمْ بِالتَّزْوِيجِ مِنْهُمَا مَعَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ تَخْصِيصًا لَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا خَصَّ أَبَا طَيْبَةَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ شُرْبِ دَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَّ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ ، وَحْدَهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَلَا شَرِكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِيَّةِ حَمَلْنَا الْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِظُهُورِ فَضْلِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الْعَجَمِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ، وَبِهِ نَقُولُ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْقِصَاصِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لَمَصْلَحَةِ الْحَيَاةِ ، وَاعْتِبَارُ

الْكَفَاءَةِ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُ قَتْلَ عَدُوِّهِ الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ ، فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْقِصَاصِ ، وَفِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ .
وَكَذَا الِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ اسْتِفْرَاشِ الْمَرْأَةِ الدَّنِيئَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْكَافَ عَنْ الْمُسْتَفْرِشِ لَا عَنْ الْمُسْتَفْرِشِ ، وَالزَّوْجُ مُسْتَفْرِشٌ ، فَيَسْتَفْرِشُ الْوَطِيءَ وَالْخَشِنَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الثَّانِي فَالنِّكَاحُ الَّذِي الْكَفَاءَةُ فِيهِ شَرْطُ لُزُومِهِ هُوَ إنْكَاحُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا يَلْزَمُ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا يَلْزَمُ .
وَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكَفَاءَةِ حَقًّا لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِعُلُوِّ نَسَبِ الْخَتَنِ ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الضَّرَرَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ كَالْمُشْتَرِي إذَا بَاعَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ، وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ كَانَ التَّزْوِيجُ بِرِضَاهُمْ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ الْمَرْأَةِ تَصَرُّفٌ مِنْ الْأَهْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّهَا ، وَهُوَ نَفْسُهَا ، وَامْتِنَاعُ اللُّزُومِ كَانَ لِحَقِّهِمْ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَفَاءَةِ ، فَإِذَا رَضُوا ، فَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّ أَنْفُسِهِمْ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ ، فَيَسْقُطُ .
وَلَوْ رَضِيَ بِهِ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكُلِّ ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمْ ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ كَالدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ ، فَأَبْرَأَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّ رِضَا أَحَدِهِمْ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ رِضَاهَا ، فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِرِضَاهَا ، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِرِضَا أَحَدِهِمْ أَوْلَى ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَهُوَ

الْقَرَابَةُ ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطٌ لِكُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ ، فَإِذَا أُسْقِطَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ كَالْقِصَاصِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ ، فَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالتَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَقَعَ إضْرَارًا بِالْأَوْلِيَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ أَحَدُهُمْ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْكَفَاءَةِ وَقَفَ هُوَ عَلَيْهَا ، وَغَفَلَ عَنْهَا الْبَاقُونَ لَوْلَاهَا لَمَا رَضِيَ ، وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحَقُّ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ ، فَنَقُولُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ بَلْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَحَقِّ الْقِصَاصِ ، وَالْأَمَانِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ يَتَجَزَّأُ فَتُتَصَوَّرُ فِيهِ الشَّرِكَةُ ؟ وَبِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدٌ ، فَحَقُّهَا خِلَافُ جِنْسِ حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي نَفْسِهَا ، وَفِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي نَفْسِهَا ، وَلَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي دَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْحَقِّ ، فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ .
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا الْحَقَّ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَفِي إبْقَائِهِ لُزُومُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ ، فَسَقَطَ ضَرُورَةً ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ لَوْ زَوَّجُوهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا مِنْ غَيْرِ

رِضَا الْبَاقِينَ يَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَهَلْ يَلْزَمُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَلْزَمُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَزُفَرُ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِهِ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَالْقِصَاصِ وَالْأَمَانِ ؛ وَلِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى النِّكَاحِ مَعَ كَمَالِ الرَّأْيِ بِرِضَاهَا مَعَ الْتِزَامِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ بِالْقَبِيلَةِ وَبِنَفْسِهِ ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِلُحُوقِ الْعَارِ وَالشَّيْنِ دَلِيلُ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً فِي الْبَاطِنِ ، وَهُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى دَفْعِ ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ، وَهُوَ ضَرَرُ عَارِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ لَوْلَاهُ لَمَا فُعِلَ .
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْأَبِ ، وَالْجَدِّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ ، فَالْكَفَاءَةُ فِيهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلُزُومِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ ، وَيَلْزَمُ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَهُ كَمَالُ نَظَرٍ لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ بِخِلَافِ إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ .
وَأَمَّا إنْكَاحُهُمَا مِنْ الْكُفْءِ ، فَجَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَازِمٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ ، فَمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ أَشْيَاءُ .
مِنْهَا النَّسَبُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ، حَيٌّ بِحَيٍّ ، وَقَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ } ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ ، وَالتَّعْيِيرَ يَقَعَانِ بِالْأَنْسَابِ ، فَتُلْحَقُ النَّقِيصَةُ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ ، فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ الْقُرَشِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كَالتَّيْمِيِّ ، وَالْأُمَوِيِّ وَالْعَدَوِيِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ } ، وَقُرَيْشٌ تَشْتَمِلُ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ ، وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كُفْئًا لِقُرَيْشٍ لِفَضِيلَةِ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ ، وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّتْ الْإِمَامَةُ بِهِمْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } بِخِلَافِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ يَصْلُحُ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لِلْهَاشِمِيِّ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِلْقُرَشِيِّ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ أُمَوِيًّا لَا هَاشِمِيًّا ، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَتَهُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هَاشِمِيًّا بَلْ عَدَوِيًّا ، فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي قُرَيْشٍ لَا تَخْتَصُّ بِبَطْنٍ دُونَ بَطْنٍ ، وَاسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْتَ الْخِلَافَةِ ، فَلَمْ يَجْعَلْ الْقُرَشِيَّ الَّذِي

لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كُفْئًا لَهُ ، وَلَا تَكُونُ الْمَوَالِي أَكْفَاءَ لِلْعَرَبِ لِفَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَجَمِ ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ ، وَمَوَالِي الْعَرَبِ أَكْفَاءٌ لِمَوَالِي قُرَيْشٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ } ، ثُمَّ مُفَاخَرَةُ الْعَجَمِ بِالْإِسْلَامِ لَا بِالنَّسَبِ .
وَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِالْجَدِّ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لَهَا ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَدْ طَالَ عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَامْتَدَّ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَهْدُ الْإِسْلَامِ قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا يُعَيَّرُ بِذَلِكَ ، وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا يَكُونُ بَعْضُهُمْ كُفْئًا لِبَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِيرَ إذَا لَمْ يُجْبَرْ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُعَدّ عَيْبًا لَمْ يَلْحَقْ الشَّيْنُ وَالنَّقِيصَةُ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ ، وَالشَّيْنَ بِالرِّقِّ ، فَوْقَ النَّقْصِ ، وَالشَّيْنِ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ ، فَلَا يَكُونُ الْقِنُّ ، وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُكَاتَبُ كُفْئًا لِلْحُرَّةِ بِحَالٍ ، وَلَا يَكُونُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ كُفْئًا لِحُرَّةِ الْأَصْلِ ، وَيَكُونُ كُفْئًا لِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ بِالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَالتَّعْيِيرُ يَجْرِي فِي الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْإِعْتَاقِ .
وَكَذَا مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ ، فَصَاعِدًا فِي الْحُرِّيَّةِ .
وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي إسْلَامِ الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْرِيفِ بِالْأَبِ ، وَتَمَامُهُ بِالْجَدِّ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ .
وَكَذَا مَوْلَى الْوَضِيعِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَوْلَاةِ الشَّرِيفِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْلَى الْعَرَبِ كُفْئًا لِمَوْلَاةِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ مَوْلَاةُ بَنِي هَاشِمٍ نَفْسَهَا مِنْ مَوْلَى الْعَرَبِ كَانَ لِمُعْتِقِهَا حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا الْمَالُ ، فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْئًا لِلْغَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً ، وَخُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ تَعَلُّقًا لَازِمًا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ الْمَهْرِ ، وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ ثَمَّةَ ، فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ هَهُنَا أَوْلَى ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَالنَّفَقَةِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْمَالِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ تَسَاوِيهِمَا فِي الْغِنَى شَرْطُ تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ فِي الْغِنَى عَادَةً ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْغِنَى لَا ثَبَاتَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٍ ، فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْغِنَى .
وَمَنْ لَا يَمْلِكُ مَهْرًا ، وَلَا نَفَقَةً لَا يَكُونُ كُفْئًا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضُ مَا يُمْلَكُ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَقِيَامُ الِازْدِوَاجِ بِالنَّفَقَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْمَهْرِ ، وَالنَّفَقَةِ يُسْتَحْقَرُ ، وَيُسْتَهَانُ فِي الْعَادَةِ كَمَنْ لَهُ نَسَبٌ دَنِيءٌ ، فَتَخْتَلُّ بِهِ الْمَصَالِحُ كَمَا تَخْتَلُّ عِنْدَ دَنَاءَةِ النَّسَبِ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَهْرِ قَدْرُ الْمُعَجَّلِ عُرْفًا وَعَادَةً دُونَ مَا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُسَامَحُ فِيهِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ ، فَلَا يَطْلُبُ بِهِ لِلْحَالِ عَادَةً ، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ يَكُونُ كُفْئًا ،

وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمَهْرَ هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ الْكُفْءِ ، فَقَالَ : الَّذِي يَمْلِكُ الْمَهْرَ ، وَالنَّفَقَةَ ، فَقُلْت ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَ النَّفَقَةِ ، فَقَالَ : لَا يَكُونُ كُفْئًا ، فَقُلْتُ ، فَإِنْ مَلَكَ النَّفَقَةَ دُونَ الْمَهْرِ ، فَقَالَ : يَكُونُ كُفْئًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُعَدُّ قَادِرًا عَلَى الْمَهْرِ بِقُدْرَةِ أَبِيهِ عَادَةً ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى وَلَدِ الْغَنِيِّ إذَا كَانَ صَغِيرًا ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ ، وَلَا يُعَدُّ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ بِغِنَى أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَتَحَمَّلُ الْمَهْرَ الَّذِي عَلَى ابْنِهِ ، وَلَا يَتَحَمَّلُ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ عَادَةً .
وَقَالَ : بَعْضُهُمْ إذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا جَاهٍ كَالسُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كُفْئًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ إلَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ تَجْرِي فِيهِ الْمُسَامَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ ، وَالْمَالُ يَغْدُو ، وَيَرُوحُ ، وَحَاجَةُ الْمَعِيشَةِ تَنْدَفِعُ بِالنَّفَقَةِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا الدِّينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاسِقٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالدِّينِ أَحَقُّ مِنْ التَّفَاخُرِ بِالنَّسَبِ ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِ ، وَالتَّعْيِيرُ بِالْفِسْقِ أَشَدُّ وُجُوهِ التَّعْيِيرِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ، وَالْكَفَاءَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا الْفِسْقُ إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا ، فَاحِشًا بِأَنْ كَانَ الْفَاسِقُ مِمَّنْ يُسْخَرُ مِنْهُ ، وَيُضْحَكُ عَلَيْهِ ، وَيُصْفَعُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُهَابُ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا قَتَّالًا يَكُونُ كُفْئًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِسْقَ لَا يُعَدُّ شَيْئًا فِي الْعَادَةِ ، فَلَا يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ مُعْلِنًا لَا يَكُونُ كُفْئًا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا يَكُونُ كُفْئًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْحِرْفَةُ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ ، وَالصِّنَاعَاتِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَلَا يَكُونُ الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْجَوْهَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ ، وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَوَالِيهمْ يَعْمَلُونَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَقْصِدُونَ بِهَا الْحِرَفَ ، فَلَا يُعَيَّرُونَ بِهَا ، وَأَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ حِرْفَةً ، فَيُعَيَّرُونَ بِالدَّنِيءِ مِنْ الصَّنَائِعِ ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي الْحِرْفَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، فَتَثْبُتُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ الْحِرْفَتَيْنِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبَزَّازِ مَعَ الْبَزَّازِ ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَائِكِ ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْحِرَفِ إذَا كَانَ يُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْبَزَّازِ مَعَ الصَّائِغِ ، وَالصَّائِغِ مَعَ الْعَطَّارِ ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَجَّامِ ، وَالْحَجَّامِ مَعَ الدَّبَّاغِ ، وَلَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُمَا كَالْعَطَّارِ مَعَ الْبَيْطَارِ ، وَالْبَزَّازِ مَعَ الْخَرَّازِ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً كَالْحِيَاكَةِ ، وَالْحِجَامَةِ وَالدَّبَّاغَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهَا ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْحِيَاكَةِ وَأَخَوَاتِهَا ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهَا ، وَمَعَ هَذَا يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ لِدَفْعِ النَّقِيصَةِ ، وَلَا نَقِيصَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْكُفْرِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ ، فَالْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ لِلنِّسَاءِ لَا لِلرِّجَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ خَاصَّةً .
وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ الْكَفَاءَةُ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ اعْتِبَارِهَا بِجَانِبِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَنْكِفُ لَا الرَّجُلُ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَفْرَشَةُ .
فَأَمَّا الزَّوْجُ ، فَهُوَ الْمُسْتَفْرِشُ ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ قِبَلِهَا .
وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ ، وَهِيَ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً ، فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ قَالَ : جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا زَعَمُوا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ ، وَالتُّهْمَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا لِاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُمَا إذْ الْمُتَعَارَفُ هُوَ التَّزْوِيجُ بِالْكُفْءِ ، فَاسْتَحْسَنَّا اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي جَانِبِهِنَّ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ ، وَالْعَادَةِ ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْقِيَاسِ ، وَالِاسْتِحْسَانِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا عَلَى اعْتِبَارِ

الْكَفَاءَةِ فِي جَانِبِهِنَّ أَصْلًا عِنْدَهُمَا ، وَلَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ .
وَلَوْ أَظْهَرَ رَجُلٌ نَسَبَهُ لِامْرَأَةٍ ، فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ، ثُمَّ ظَهَرَ نَسَبُهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ ، فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُومُ مِثْلَ الْمُظْهَرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ تَيْمِيٌّ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَدَوِيٌّ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ يَكُونُ رِضًا بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِنْهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْأَدْنَى يَكُونُ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَعَنْ الْحَسَنِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يَحْتَمِلُ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الْأَدْنَى ، فَلَا يَكُونُ الرِّضَا مِنْهَا بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْهُ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَرْضَى بِالْكُفْءِ ، وَإِنْ كَانَ الْكُفْءُ لَا يَحْتَمِلُ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ غَيْرُ الْكُفْءِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْكُفْءِ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ ، فَكَانَ الرِّضَا بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ أَدْوَنَ مِنْهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ، فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ كُفْئًا لَهَا بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَبِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِشَرْطِ الزِّيَادَةِ ، وَهِيَ زِيَادَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا ، وَلَمْ تَحْصُلْ ، فَلَا تَكُونُ رَاضِيَةً بِدُونِهَا ، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِدَفْعِ النَّقْصِ ، وَلَا نَقِيصَةَ ؛ لِأَنَّهُ كُفْءٌ لَهَا هَذَا إذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا ، فَعَلَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ امْرَأَةٌ نَسَبَهَا لِرَجُلٍ ، فَتَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ ظَهَرَ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَتْ ، فَلَا خِيَارَ

لِلزَّوْجِ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا مَا إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا أَمَتُهُ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ النِّكَاحَ ، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَصَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، فَوُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَيَغْرَمُ الْعُقْرَ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ حَقِيقَةً ، فَلَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ لِلشُّبْهَةِ ، فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا ؛ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ حَصَلَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ النِّكَاحِ إذْ لَا عِلْمَ لَلْمُسْتَوْلِدِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ، فَكَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَوْنُ الْجَارِيَةِ مِلْكًا لَهُ ، فَتَجِبُ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، فَرَاعَيْنَا حَقَّ الْمُسْتَوْلِدِ فِي صُورَةِ الْأَوْلَادِ ، وَحَقَّ الْمُسْتَحِقِّ فِي مَعْنَى الْأَوْلَادِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ مَنْعُ الْوَلَدِ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَبْدًا فِي حَقِّهِ ، وَمُنِعَ عَنْهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ .
وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْمَنْعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمَنْعُ مِنْ الْمَغْرُورِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي مَوْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ تَرَكَ مَالًا ، فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَبِيهِ ؛

لِأَنَّهُ ابْنُهُ ، وَقَدْ مَاتَ حُرًّا ، فَيَرِثُهُ ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُسْتَحِقِّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَتَلَهُ رَجُلٌ ، وَأَخَذَ الْأَبُ الدِّيَةَ ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمَقْتُولِ ، فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ضَرَبَ بَطْنَ الْجَارِيَةِ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا يَغْرَمُ الضَّارِبُ الْغُرَّةَ خَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَوْلِدُ لِلْمُسْتَحِقِّ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا ، فَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى ، فَعُشْرُ قِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا ، فَالْأَوْلَادُ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُونَ أَحْرَارًا ، وَيَكُونُونَ أَوْلَادَ الْمَغْرُورِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا وَلَدُ الْمَغْرُورِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِلْكَ الْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِلْكُهُ ، فَيُتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ ، وَالرِّقِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُمْ إنَّمَا قَضَوْا بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي الْمَغْرُورِ الْحُرِّ ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِهِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، ثُمَّ الْمَغْرُورُ هَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ عَلَى الْغَارِّ ، وَالْغَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هِيَ الْجَارِيَةُ ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَ حُرًّا ، فَغَرَّهُ بِأَنْ قَالَ : تَزَوَّجْ بِهَا ، فَإِنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ لَكِنَّهُ زَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ قَالَ : هِيَ حُرَّةٌ ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ

بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ .
وَلَوْ قَالَ : هِيَ حُرَّةٌ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ ، وَلَمْ يُزَوِّجْهَا مِنْهُ لَا يُرْجَعُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الضَّمَانِ ، وَالِالْتِزَامِ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَارُّ عَبْدَ الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ إلَّا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ مُكَاتَبَةً ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي غَرَّهُ ، فَلَا يَضْمَنُ الْمَغْرُورُ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لِلْمَوْلَى لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا ضَمِنَ ، فَلَا يُفِيدُ وُجُوبَ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَمْ يَأْمُرْهَا بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمَغْرُورَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَمَةِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لَا لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَمَةِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ ، وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى هَذَا إذَا غَرَّهُ أَحَدٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ ، وَلَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَتَزَوَّجَهَا ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عَلَى أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا ، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ لِمَوْلَى الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِقْدَارُ مَا لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ الزَّوْجُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ بِدُونِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاض ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
وَالْمَسْأَلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ ، وَبِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّعَانِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَرِوَايَةِ الرُّجُوعِ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ ، فَيُشْكِلُ التَّفْرِيعُ ، فَتُصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ لَهَا بِالتَّزْوِيجِ ، فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ صُورَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ مَا إذَا أُكْرِهَ الْوَلِيُّ ، وَالْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَلِيَّ وَالْمَرْأَةَ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ، وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَهَا حَقُّ الِاعْتِرَاضِ ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ ، وَالْمَهْرِ ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْسَخَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ ، وَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى

أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا أَمَرَ الْوَلِيُّ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ ، فَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ بِرِضَاهَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ ، فَكَانَتْ هِيَ بِالنَّقْصِ مُتَصَرِّفَةً فِي خَالِصِ حَقِّهَا ، فَيَصِحُّ ، وَيَلْزَمُ كَمَا إذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا عَنْ الْمَهْرِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا فِي الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِبَخْسِهِ ، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ بِالْبَخْسِ ، وَهُوَ ضَرَرُ التَّعْيِيرِ ، فَكَانَ لَهُمْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّهَا بِالْبَخْسِ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَضَرَّتْ بِنِسَاءِ قَبِيلَتِهَا ؛ لِأَنَّ مُهُورَ مِثْلِهَا عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ تُعْتَبَرُ بِهَا ، فَكَانَتْ بِالنَّقْصِ مُلْحِقَةً الضَّرَرَ بِالْقَبِيلَةِ ، فَكَانَ لَهُمْ دَفْعُ هَذَا الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْفَسْخِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا خُلُوُّ الزَّوْجِ عَنْ عَيْبِ الْجَبِّ ، وَالْعُنَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ الزَّوْجَةِ بِهِمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَيْبُ الْعُنَّةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ ، فَطَلَّقَنِي آخِرَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ، وَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، فَوَاَللَّهِ مَا ، وَجَدْتُ مَعَهُ إلَّا مِثْلَ الْهُدْبَةِ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ } .
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ادَّعَتْ الْعُنَّةَ عَلَى زَوْجِهَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا الْخِيَارَ ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ لَازِمًا لَا ثَبَتَ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ لَا يُوجِبُ ، فَوَاتَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ ، فَلَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعُيُوبِ بِخِلَافِ الْجَبِّ ، فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الْعِنِّينِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَإِلَّا أَخَذَتْ مِنْهُ الصَّدَاقَ كَامِلًا ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُؤَجَّلُ سَنَةً ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ قَضَاؤُهُمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ بِالْعَقْدِ ، وَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ عِنْدَ تَقَرُّرِ الْعَجْزِ عَنْ

الْوُصُولِ تَفْوِيتُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا ضَرَرٌ بِهَا ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } ، فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيجَ بِإِحْسَانٍ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِيفَاءَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهَا مَحْرُومَةَ الْحَظِّ مِنْ الزَّوْجِ لَيْسَ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِنْ سَرَّحَ بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَالْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأَكُّدِهِ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَصِمَا إلَى قَاضٍ لَا يَرَى تَأَكُّدَ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ ، فَيُطَلِّقُهَا ، وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الْمَهْرِ ، فَيَتَمَكَّنُ فِي الْمَهْرِ عَيْبٌ ، وَهُوَ عَدَمُ التَّأَكُّدِ بِيَقِينٍ ، وَالْعَيْبُ فِي الْعِوَضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ دَعْوَى الْعُنَّةِ بَلْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ مَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ دِقَّةُ الْقَضِيبِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْعُيُوبُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِمَا نَذْكُرُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا يُوجِبُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَقَرَّرُ بِعَدَمِ الْوُصُولِ فِي مُدَّةِ السَّنَةِ ظَاهِرًا ، فَيَفُوتُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ ظَاهِرًا ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَإِذَا رَفَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ ، وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُهُ هَلْ وَصَلَ إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَصِلْ ؟ فَإِنْ

أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ أَجَّلَهُ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، وَإِنْ أَنْكَرَ ، وَادَّعَى الْوُصُولَ إلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْوُصُولِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْوُصُولِ مِنْ جِهَتِهِ عَارِضٌ إذْ الْأَصْلُ هُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ ، وَإِنْ قَالَتْ أَنَا بِكْرٌ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ بَابٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مَقْبُولَةٌ لِلضَّرُورَةِ ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } ، وَحَقُّ الرُّخْصَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا قُبِلَ قَوْلُ النِّسَاءِ فِيهِ بِانْفِرَادِهِنَّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثِّنْتَانِ أَوْثَقُ ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِخَبَرِ الْعَدَدِ أَقْوَى ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ فِيهَا أَصْلٌ ، وَقَدْ تَفُوتُ شَهَادَتُهُنَّ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا إمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ أَجَّلَهُ الْقَاضِي حَوْلًا ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُنَّتُهُ ، وَالْعِنِّينُ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْوُصُولِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبُغْضِهِ

إيَّاهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ ، فَيُؤَجَّلُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَدَمُ الْوُصُولِ لِلْبُغْضِ يَطَؤُهَا فِي الْمُدَّةِ ظَاهِرًا ، وَغَالِبًا دَفْعًا لِلْعَارِ ، وَالشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ يُعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ كَانَ لِلْعَجْزِ .
وَأَمَّا التَّأْجِيلُ سَنَةً ؛ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ أَوْ طَبِيعَةٍ غَالِبَةٍ مِنْ الْحَرَارَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ أَوْ الرُّطُوبَةِ أَوْ الْيُبُوسَةِ ، وَالسَّنَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ، فَيُؤَجَّلُ سَنَةً لِمَا عَسَى أَنْ يُوَافِقَهُ بَعْضُ فُصُولِ السَّنَةِ ، فَيَزُولَ الْمَانِعُ ، وَيَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ قَالَ : يُؤَجَّلُ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُمْ أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ ، فَلَا يَقْدَحُ خِلَافُهُ فِي الْإِجْمَاعِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ؛ وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ سَنَةً لِرَجَاءِ الْوُصُولِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَا تَكْمُلُ الْفُصُولُ إلَّا فِي سَنَةٍ تَامَّةٍ ، ثُمَّ يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً بِالْأَيَّامِ أَوْ قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤَجَّلُ سَنَةً قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ قَالَ : وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً ، وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ قَالُوا يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ( وَجْهُ ) هَذَا الْقَوْلِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ لَا تَكْمُلُ إلَّا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ بِأَيَّامٍ ، فَيُحْتَمَلُ زَوَالُ الْعَارِضِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّمْسِيَّةِ ،

وَالْقَمَرِيَّةِ ، فَكَانَ التَّأْجِيلُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ أَوْلَى ، وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ ، وَرَحْمَتِهِ الْهِلَالَ مُعَرِّفًا لِلْخَلْقِ الْأَجَلَ وَالْأَوْقَاتَ وَالْمُدَدَ وَمُعَرِّفًا وَقْتَ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ بِالْأَيَّامِ لَاشْتَدَّ حِسَابُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَلَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي الْمَوْسِمِ .
وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ { أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى ، وَشَعْبَانَ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ } ، وَالشَّهْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْهِلَالِ يُقَالُ رَأَيْتُ الشَّهْرَ أَيْ : رَأَيْتُ الْهِلَالَ ، وَقِيلَ : سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ ، وَالشُّهْرَةُ لِلْهِلَالِ ، فَكَانَ تَأْجِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْعِنِّينَ سَنَةً ، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ تَأْجِيلًا لِلْهِلَالِيَّةِ ، وَهِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ ضَرُورَةً ، وَأَوَّلُ السَّنَةِ حِينَ يَتَرَافَعَانِ ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَى الزَّوْجِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَرَاهَتِهِ إيَّاهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ ، فَإِذَا أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ وَطْئِهَا إلَّا لِعَجْزِهِ خَشْيَةَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ فَإِذَا

أُجِّلَ سَنَةً ، فَشَهْرُ رَمَضَانَ وَأَيَّامُ الْحَيْضِ تُحْسَبُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ مَكَانُهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً وَاحِدَةً مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَخْلُو عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَمِنْ زَمَانِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْسُوبًا مِنْ الْمُدَّةِ ؛ لَأَجَّلُوا زِيَادَةً عَلَى السَّنَةِ .
وَلَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ أَوْ مَرِضَتْ هِيَ ، فَإِنْ اسْتَوْعَبَ الْمَرَضُ السَّنَةَ كُلَّهَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ سَنَةٌ أُخْرَى ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرَضَ إنْ كَانَ نِصْفَ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَجُعِلَ لَهُ مَكَانَهَا ، وَكَذَلِكَ الْغَيْبَةُ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ صَحَّتْ هِيَ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِالسَّنَةِ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرَضَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ شَهْرًا فَصَاعِدًا لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِأَيَّامِ الْمَرَضِ ، وَيُجْعَلُ لَهُ مَكَانُهَا ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ قَلِيلَ الْمَرَضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْكَثِيرِ ، فَجَعَلَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ نِصْفَ الشَّهْرِ ، وَمَا دُونَهُ قَلِيلًا ، وَالْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ كَثِيرًا اسْتِدْلَالًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ ، فَإِنَّهُ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ فِي اللَّيَالِي دُونَ النَّهَارِ ، وَاللَّيَالِي دُونَ النَّهَارِ تَكُونُ نِصْفَ شَهْرٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ نِصْفَ شَهْرٍ ، فَمَا دُونَهُ يُعْتَدُّ بِهِ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِالنِّصْفِ ، فَمَا دُونَهُ إمَّا لَا يَنْفِي الِاعْتِدَادَ

بِمَا فَوْقَهُ ، وَإِمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، فَنَقُولُ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ زَمَانًا يُمْكِنُ الْوَطْءُ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يَطَأْهَا ، فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ صَحَّ جَمِيعَ السَّنَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ جَمِيعَ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ زَمَانًا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فِيهِ ، فَتَعَذَّرَ الِاعْتِدَادُ بِالسَّنَةِ فِي حَقِّهِ ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ مَا دُونَ الشَّهْرِ قَلِيلًا ، وَالشَّهْرَ فَصَاعِدًا كَثِيرًا ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْآجِلِ ، وَأَقْصَى الْعَاجِلِ ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ ، وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ شَرْعًا ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْوَطْءِ فِيهَا شَرْعًا ، وَإِنْ حَجَّ الزَّوْجُ اُحْتُسِبَتْ الْمُدَّةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَ نَفْسِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ خَاصَمَتْهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ يُؤَجَّلُ سَنَةً بَعْدَ الْإِحْلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ شَرْعًا مَعَ الْإِحْرَامِ ، فَتُبْتَدَأُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهِ شَرْعًا ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِحْلَالِ ، وَإِنْ خَاصَمَتْهُ ، وَهُوَ مُظَاهِرٌ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أُجِّلَ سَنَةً مِنْ حِينِ الْخُصُومَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعْتَاقِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَطْءِ بِتَقْدِيمِ الْإِعْتَاقِ كَالْمُحْدِثِ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهِمَا ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِمَا مِنْ الْأَجَلِ ، ثُمَّ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بَعْدَهُمَا ، فَإِنْ أُجِّلَ سَنَةً ، وَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ ، ثُمَّ ظَاهَرَ فِي السَّنَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُدَّةِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ

يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الظِّهَارِ ، فَلَمَّا ظَاهَرَ ، فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَطْءِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةُ الْعِنِّينِ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ ؛ لَا يُؤَجَّلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْجِيلِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ ، وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةٌ ، وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ ، فَطَالَبَتْ بِالتَّأْجِيلِ لَا يُؤَجَّلُ بَلْ يُنْتَظَرُ إلَى أَنْ يُدْرِكَ ، فَإِذَا أَدْرَكَ يُؤَجَّلُ سَنَةً ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُجَامِعُ لَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ التَّأْجِيلِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ هُوَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْفُرْقَةِ ، وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ طَلَاقٌ ، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ؛ وَلِأَنَّ لِلصَّبِيِّ زَمَانًا يُوجَدُ مِنْهُ الْوَطْءُ فِيهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَلَا يُؤَجَّلُ لِلْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا مَجْنُونًا ، فَوَجَدَتْهُ عِنِّينًا قَالُوا : إنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّفْرِيقِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ ، وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ طَلَاقٌ ، وَالْمَجْنُونُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ حَوْلًا ، وَلَا يُنْتَظَرُ إلَى إفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ ، فَيُسْتَأْنَى إلَى أَنْ يَزُولَ الصِّغَرُ ، ثُمَّ يُؤَجَّلُ سَنَةً .
فَأَمَّا الْجُنُونُ ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُصُولَ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ يُجَامِعُ ، فَيُؤَجَّلُ لِلْحَالِ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا مَضَى أَجَلُ الْعِنِّينِ ، فَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُؤَجِّلَهُ سَنَةً أُخْرَى لَمْ يَفْعَلْ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ التَّفْرِيقِ ، وَفِي التَّأْجِيلِ تَأْخِيرُ حَقِّهَا ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا ، ثُمَّ إذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً ، وَتَمَّتْ الْمُدَّةُ ، فَإِنْ

اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ ، وَصَلَ إلَيْهَا ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَا ، وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا ، وَادَّعَى الزَّوْجُ الْوُصُولَ ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ وَقَعَ لِلنِّسَاءِ شَكٌّ فِي أَمْرِهَا ، فَإِنَّهَا تُمْتَحَنُ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي طَرِيقِ الِامْتِحَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ : تُؤْمَرُ بِأَنْ تَبُولَ عَلَى الْجِدَارِ ، فَإِنْ أَمْكَنَهَا بِأَنْ تَرْمِيَ بِبَوْلِهَا عَلَى الْجِدَارِ ، فَهِيَ بِكْرٌ ، وَإِلَّا فَهِيَ ثَيِّبٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تُمْتَحَنُ بِبَيْضَةِ الدِّيكِ ، فَإِنْ وَسِعَتْ فِيهَا ، فَهِيَ ثَيِّبٌ ، وَإِنْ لَمْ تَسَعْ فِيهَا ، فَهِيَ بِكْرٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا إمَّا بِاعْتِرَافِهِ ، وَإِمَّا بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيِّرُهَا ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَيَّرُوا امْرَأَةَ الْعِنِّينِ ، وَلَنَا فِيهِمْ قُدْوَةٌ ، فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ ، وَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الزَّوْجَ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْخِيَارِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَارِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُهُ .

( فَصْلٌ ) : أَمَّا شَرَائِطُ الْخِيَارِ ، فَمِنْهَا عَدَمُ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا فِي هَذَا النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا حَقُّهَا بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالْخِيَارُ لِتَفْوِيتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى غَيْرِ امْرَأَتِهِ الَّتِي أُجِّلَ لَهَا ، وَكَانَ وَصَلَ إلَى غَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تُرَافِعَهُ ، فَوُصُولُهُ إلَى غَيْرِهَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا فِي التَّأْجِيلِ وَالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا حَقُّهَا ، فَكَانَ لَهَا التَّأْجِيلُ ، وَالْخِيَارُ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ وَقْتَ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عِنِّينٌ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ لَدَى التَّزْوِيجِ ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ ، وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرَّدَّ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ، فَوَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً ، ثُمَّ عُنَّ ، فَفَارَقَتْهُ ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا ، فَلَهَا الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ، فَلَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً بِالْعَيْبِ ، وَالْوُصُولُ فِي أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي ، فَإِنْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي ، فَلَمْ يَصِلْ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِعَدَمِ الْوُصُولِ فِي الْمُدَّةِ ، فَتَقَرَّرَ الْعَجْزُ ، فَكَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَيْبِ ، وَالْعِلْمِ بِهِ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَارِ ، فَهُوَ تَخْيِيرُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ الْفُرْقَةِ ، وَبَيْنَ النِّكَاحِ ، فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ ، وَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الزَّوْجَ ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَام مَعَ الزَّوْجِ ؛ بَطَلَ حَقُّهَا .
وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خُصُومَةٌ فِي هَذَا النِّكَاحِ أَبَدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ ، فَسَقَطَ خِيَارُهَا ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ ، وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ يَقُلْ الْقَاضِي : فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْبُلُوغِ هَكَذَا ذَكَرَ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْهُ ، وَمَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُمَا ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ فُرْقَةُ بُطْلَانٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّهَا فَسْخٌ عِنْدَهُ ، وَالْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْتِي فِي مَوْضِعهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهَا الْقَاضِي ، وَهُوَ التَّأْجِيلُ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْقَاضِي ، فَكَذَا الْفُرْقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَفُرْقَةِ اللِّعَانِ .
( وَجْهُ ) الْمَذْكُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَخْيِيرَ الْمَرْأَةِ مِنْ الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا ، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ تَفْرِيقًا مِنْ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا

مِنْهَا ، وَالْقَاضِي يَمْلِكُ ذَلِكَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّفْرِيقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إيفَاءُ حَقِّهَا دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَالضَّرَرِ عَنْهَا ، وَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا ، فَيُحْتَاجُ إلَى التَّفْرِيقِ ثَانِيًا وَثَالِثًا ، فَلَا يُفِيدُ التَّفْرِيقُ فَائِدَتَهُ ، وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ خَلَا بِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْلُ بِهَا ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ مُسَمًّى ، وَالْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى ، وَإِذَا .
فَرَّقَ الْقَاضِي بِالْعُنَّةِ ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ ثَبَتَ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ حُكْمٌ بِشُغْلِ الرَّحِمِ ، وَشَغْلُ الرَّحِمِ يَمْتَدُّ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : كُنْتُ قَدْ وَصَلْتُ إلَيْهَا ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : يُبْطِلُ الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ ، وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ ، فَقَدْ ثَبَتَ الدُّخُولُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ إبْطَالَ الْفُرْقَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي لَا يُبْطِلُ الْفُرْقَةَ .
وَكَذَا هَذَا وَكَذَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّسَبِ عَلَى الدُّخُولِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ الْمَجْبُوبِ ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْمَجْبُوبِ تُوجِبُ الْعِدَّةَ ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الْمَجْبُوبِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الْفُرْقَةُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَجْبُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى

الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يَقْذِفُ بِالْمَاءِ ، فَكَانَ الْعُلُوقُ بِقَذْفِ الْمَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ ، فَإِنْ فَرَّقَ بِالْعُنَّةِ ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا أَبْطَلَ الْفُرْقَةَ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا عِنْدَ الْقَاضِي .
وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْفُرْقَةِ .
وَكَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهَا بِأَنْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إلَيْهَا قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْقَاضِي فِي إبْطَالِ قَضَائِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ عِنِّينًا ، فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْخِيَارُ إلَى الْأَمَةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ ، وَذَلِكَ حَقُّ الْأَمَةِ ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهَا كَالْحُرَّةِ ، وَلَهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَطْءِ هُوَ الْوَلَدُ ، وَالْوَلَدُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحْدَهُ ؛ وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ أَوْ الْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ تَصَرُّفٌ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَنَفْسُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى ، فَكَانَ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ ، فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ نَوْعَانِ : نَصٌّ ، وَدَلَالَةٌ ، فَالنَّصُّ هُوَ التَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أَوْ رَضِيتُ بِالنِّكَاحِ أَوْ اخْتَرْتُ الزَّوْجَ وَنَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي أَوْ قَبْلَهُ ، وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ بِأَنْ خَيَّرَهَا الْقَاضِي .
فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْمَضْجَعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ ، وَالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ ، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًا ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مَعَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قَدْ تَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ بِحَالِهِ ، فَلَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ ، وَبِشْرًا قَالَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ ، فَأَقَامَتْ مَعَهُ أَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ أَوْ قَامَ الْحَاكِمُ أَوْ أَقَامَهَا عَنْ مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي ، وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَهَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ، وَهُوَ مَجْلِسُ التَّخْيِيرِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا قَالَا : يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ( وَجْهُ ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَخْيِيرَ الْقَاضِي هَهُنَا قَائِمٌ مَقَامَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ ، فَكَذَا خِيَارُ هَذِهِ .
وَكَذَا إذَا قَامَ الْحَاكِمُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ

التَّخْيِيرِ قَدْ بَطَلَ بِقِيَامِ الْحَاكِمِ .
وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَنْ مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ ، فَدَلَّ امْتِنَاعُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالتَّخْيِيرِ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ إذْ الْمَالِكُ لِلشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكًا لِلطَّلَاقِ ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَلِّكَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ فِي الْمَجْلِسِ عَادَةً ، وَلِهَذَا يَقْتَصِرُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا ، وَالتَّخْيِيرُ مِنْ الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا مَلَّكَهُ الطَّلَاقَ ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ التَّطْلِيقَ ، وَوَلَّاهُ ذَلِكَ ، فَيَلِيَ التَّفْوِيضَ لَا التَّمْلِيكَ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ بِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْمُؤَخَّذُ وَالْخَصِيُّ فِي جَمِيعِ مَا ، وَصَفْنَا مِثْلُ الْعِنِّينِ لِوُجُودِ الْآلَةِ فِي حَقِّهِمَا ، فَكَانَا كَالْعِنِّينِ ، وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى .
وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ ، فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ إمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْمَسِّ ، فَوْقَ الْإِزَارِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِذَلِكَ وَقْتَ النِّكَاحِ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا لِرِضَاهَا بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ ؛ فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ لِلْحَالِ ، وَلَا يُؤَجَّلُ حَوْلًا ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُ الْوُصُولُ ، فَلَمْ يَكُنْ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا ، فَلَا يُؤَجَّلُ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ ، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَى الِاخْتِلَافِ

الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ ، وَعَلَيْهَا كَمَالُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَعَلَيْهَا كَمَالُ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْلُ بِهَا ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا خُلُوُّ الزَّوْجِ عَمَّا سِوَى هَذِهِ الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْجَبِّ ، وَالْعُنَّةِ وَالتَّأَخُّذِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ ، فَهَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : خُلُوُّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامَ مَعَهُ إلَّا بِضَرَرٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ ، شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ حَتَّى يُفْسَخَ بِهِ النِّكَاحُ ، وَخُلُوُّهُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِيَارَ فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَرْأَةِ وَهَذِهِ الْعُيُوبُ فِي إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهَا فَوْقَ تِلْكَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ عَادَةً ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بِتِلْكَ ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذِهِ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهَا لَكِنْ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا يُمْكِنُهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَتَعَيَّنَ الْفَسْخُ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي تِلْكَ الْعُيُوبِ ثَبَتَ لَدَفْعِ ضَرَرِ فَوَاتِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ الْوَطْءُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا الْحَقُّ لَمْ يَفُتْ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الزَّوْجِ مَعَ هَذِهِ الْعُيُوبِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ هَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ .
( وَأَمَّا ) فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ ، فَخُلُوُّهَا عَنْ الْعَيْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلُزُومِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : خُلُوُّ الْمَرْأَةِ عَنْ خَمْسَةِ عُيُوبٍ بِهَا شَرْطُ اللُّزُومِ ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ بِهَا ، وَهِيَ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالرَّتَقُ وَالْقَرَنُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ } ، وَالْفَسْخُ طَرِيقُ الْفِرَارِ .
وَلَوْ لَزِمَ النِّكَاحُ لَمَا أَمَرَ بِالْفِرَارِ ، وَرُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، فَوَجَدَ بَيَاضًا فِي كَشْحِهَا فَرَدَّهَا وَقَالَ : لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِكِ } ، .
وَلَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَمَا رَدَّ ؛ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ لَا تَقُومُ مَعَ هَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْ تَخْتَلُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهَا الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَهُوَ الْجُذَامُ وَالْجُنُونُ وَالْبَرَصُ فَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ أَوْ تَخْتَلُّ وَبَعْضُهَا مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ ، وَعَامَّةُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ يَقِفُ حُصُولُهَا عَلَى الْوَطْءِ ، فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا وَالسَّكَنِ وَالْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ ، فَلَا يُفْسَخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْعَيْبَ لَا يَفُوتُ مَا هُوَ حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ الِازْدِوَاجُ الْحُكْمِيُّ ، وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلُّ ، وَيَفُوتُ بِهِ بَعْضُ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ ، وَفَوَاتُ جَمِيعِ ثَمَرَاتِ هَذَا الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ بِأَنْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ ، فَفَوَاتُ بَعْضِهَا أَوْلَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هُوَ الِازْدِوَاجُ الْحُكْمِيُّ ، وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ شُرِعَ مُؤَكِّدًا لَهُ ، وَالْمَهْرُ يُقَابِلُ إحْدَاثَ هَذَا الْمِلْكِ ، وَبِالْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ إحْدَاثَ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا يَرْتَفِعُ مَا يُقَابَلُ ، وَهُوَ الْمَهْرُ ، فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَمَّا الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ ،

فَلَا يُشْكِلُ ، وَكَذَلِكَ الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ يُقْطَعُ وَالْقَرَنُ يُكْسَرُ ، فَيُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِوَاسِطَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُفْسَخْ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ، فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ أَنَّهُ يَجِبُ الِاجْتِنَابُ عَنْهُ ، وَالْفِرَارُ يُمْكِنُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْفَسْخِ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ طَرِيقِ الِاجْتِنَابِ وَالْفِرَارِ ، وَأَمَّا الثَّانِي ، فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِك ، وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا ، وَالْكَلَامُ فِي الْفَسْخِ وَالرَّدِّ الْمَذْكُورُ فِيهِ قَوْلُ الرَّاوِي ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً أَوْ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّدِّ بِالطَّلَاقِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَخُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلُزُومِ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ، وَلَمْ يَرَهَا لَا خِيَارَ لَهُ إذَا رَآهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَكَذَا خُلُوُّهُ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ ، وَجَازَ النِّكَاحُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الثَّانِي ، فَشَرْطُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ ، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ أَمَّا .
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ ، فَعَدَمُ تَمْلِيكِهِ الطَّلَاقَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا بِأَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَنْوِي الطَّلَاقَ أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ كَذَا عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ جَعَلَ النِّكَاحَ بِحَالٍ لَا يَتَوَقَّفُ زَوَالُهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ بَعْدَ الْجَعْلِ .
وَكَذَا بِالتَّعْلِيقِ ، وَالْإِضَافَةِ ، وَهَذَا مَعْنَى عَدَمُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا .
( وَأَمَّا ) .
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ ، فَهُوَ أَنْ لَا يَعْتِقَ أَمَتَهُ الْمَنْكُوحَةَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا ، وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الْعَتَاقَةِ .
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ شَرَائِطُ مِنْهَا : وُجُودُ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا ، ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْ إنْسَانٍ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ .
وَلَوْ أَعْتَقَهَا ، ثُمَّ زَوَّجَهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لَا خِيَارُ الْعِتْقِ لِمَا قُلْنَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ نَافِذًا حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ الْأَمَةُ نَفْسَهَا مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ رَقِيقًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ، فَهَلْ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : شَرْطٌ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا كَانَ

زَوْجُهَا حُرًّا ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { زَوْجُ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ حُرًّا مَا خَيَّرَهَا } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْعَبْدِ إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَضَرَرُ لُزُومِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَضَرَرُ نُقْصَانِ الْمُعَاشَرَةِ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحُرِّ ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِبَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ ، فَاخْتَارِي } .
وَرُوِيَ مَلَكْتِ أَمْرَكِ ، وَرُوِيَ مَلَكْتِ نَفْسَكِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا بِنَصِّهِ ، وَالْآخَرِ بِعِلَّةِ النَّصِّ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ أَنَّهُ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُعْتِقَتْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا ، فَإِنْ قِيلَ رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا رَوَيْنَا مُثْبِتٌ لِلْحُرِّيَّةِ ، وَمَا رَوَيْتُمْ مُبْقٍ لِلرِّقِّ ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ قَدْ يَكُونُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَالثُّبُوتُ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ ، فَمَنْ قَالَ : كَانَ عَبْدًا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ اعْتَمَدَ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ .
وَمَنْ قَالَ : كَانَ حُرًّا بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ ، فَصَارَ كَالْمُزَكِّيَيْنِ جَرَّحَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا ، وَالْآخَرُ زَكَّاهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ ، وَمَا رَوَيْتُمْ مُخَالِفٌ لَهُ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَالْمُوَافِقُ

لِلْقِيَاسِ أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي ، فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مِلْكَهَا بُضْعَهَا أَوْ أَمْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا عِلَّةً لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ ، وَمِلْكُهَا نَفْسَهَا مُؤَثِّرٌ فِي رَفْعِ الْوِلَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ ، وَلَا اخْتِصَاصَ مَعَ وِلَايَةِ الْغَيْرِ ، وَالْحُكْمُ إذَا ذُكِرَ عَقِيبَ وَصْفٍ لَهُ أَثَّرَ فِي الْجُمْلَةِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، وَكَمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَا ، فَسَجَدَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى ، فَرُجِمَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِخُصُوصِ الْمَحَلِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْعَقْلِيَّةِ ، وَزَوْجُ بَرِيرَةَ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَى الْخِيَارَ فِيهِ عَلَى مَعْنًى عَامٍّ وَهُوَ مِلْكُ الْبُضْعِ يُعْتَبَرُ عُمُومُ الْمَعْنَى لَا خُصُوصُ الْمَحَلِّ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ؛ وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزْدَادُ مِلْكُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا عُقْدَةً زَائِدَةً لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، وَالْمَسْأَلَةُ ، فَرِيعَةُ ذَلِكَ الْأَصْلِ ، وَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِهَا ، وَلَهَا وِلَايَةُ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهَا ، وَلَا يُمْكِنُهَا رَفْعُ الزِّيَادَةِ إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ النِّكَاحِ ، فَبَقِيَتْ لَهَا وِلَايَةُ رَفْعِ النِّكَاحِ ، وَفَسْخِهِ ضَرُورَةَ رَفْعِ الزِّيَادَةِ ، وَقَدْ خَرَجَ

الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الضَّرَرِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ ، وَبَقِيَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزَّوْجُ مَنَافِعَ بُضْعِ حُرَّةٍ جَبْرًا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهَا بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِبَقَاءِ هَذَا النِّكَاحِ لَازِمًا يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْحُرَّةُ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْضَى بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِهَا إلَّا بِبَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ هِيَ ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ لَهَا لَصَارَ الزَّوْجُ مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَ بُضْعِهَا ، وَهِيَ حُرَّةٌ جَبْرًا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ مَوْلَاهَا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا كَذَا إذَا كَانَ حُرًّا .
وَكَذَا اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ كَوْنَهَا رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ لَا ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ كَانَتْ رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ ، فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى أَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَقْتَ النِّكَاحِ ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الرِّقُّ ، فَأَعْتَقَهَا حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَا مَعًا ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ ، فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ شَرْطٌ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا .
وَكَذَا الْمُسْلِمَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا ، ثُمَّ ارْتَدَّا ، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَتْ ، وَزَوْجُهَا مَعَهَا فَأَسْلَمَا ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، فَمُحَمَّدٌ ، فَرَّقَ بَيْنَ الرِّقِّ الطَّارِئِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَبَيْنَ الْمُقَارِنِ إيَّاهُ ، وَأَبُو يُوسُفَ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ ، فَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ ، وَإِذَا كَانَتْ حُرَّةً ؛ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ لَا

يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِطَرَيَانِ الرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرِّضَا ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِلْكِ تَثْبُتُ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ ، وَالْعِتْقُ مُوجِبُ الْإِعْتَاقِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ السَّابِقَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْأَمَةَ ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَجْعَلُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ ، وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلُهَا حُكْمَ الْعَقْدِ السَّابِقِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِعْتَاقِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ ، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا ، ثُمَّ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ، ثُمَّ سُبِيَتْ ، وَزَوْجُهَا مَعَهَا ، فَأُعْتِقَتْ ، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْإِعْتَاقِ ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الْإِعْتَاقُ ، فَيَتَكَرَّرُ الْخِيَارُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا خِيَارٌ وَاحِدٌ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ ، فَوَقْتُ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ وَبِالْخِيَارِ ، وَأَهْلِيَّةُ الِاخْتِيَارِ ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي تَعْلَمُ فِيهِ بِالْعِتْقِ ، وَبِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ أَوْ عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ ، فَلَمْ تَخْتَرْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا وَلَهَا بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ إذَا عَلِمَتْ بِهِمَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخِيَارِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَلَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ إذَا بَلَغَتْ ؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ ، وَلَيْسَ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وُجِدَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ مُكَاتَبَةٌ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، فَأُعْتِقَتْ ، فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا خِيَارَ لَهَا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا ضَرَر عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ لَهَا ، وَالْمَهْرُ مُسَلَّمٌ لَهَا ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيَّرَ بَرِيرَةَ ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً } ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ النَّصِّ عَامَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَكَذَا الْمِلْكُ يَزْدَادُ عَلَيْهَا كَمَا يَزْدَادُ عَلَى الْقِنَّةِ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ ، فَهَذَا الْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِبْطَالِ نَصًّا ، وَدَلَالَةً مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي خِيَارِ الْإِدْرَاكِ ، وَيَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ بَلْ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرِضَاهَا بِالْمُقَامِ مَعَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأَمُّلِ ؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا ، فَتَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ ، وَلَا بُدَّ لِلتَّأَمُّلِ مِنْ زَمَانٍ ، فَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ .
وَخِيَارُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ مِنْ الْبِكْرِ ؛ لِأَنَّ بِالْبُلُوغِ مَا ازْدَادَ الْمِلْكُ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأَمُّلِ ، فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا لِلتَّأَمُّلِ ، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا ، وَفِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ثَبْتُ الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا جَعَلَهَا الْعَقْدُ السَّابِقُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ النِّكَاحِ ، فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا حَتَّى وَقْتِ الْفُرْقَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَا تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا بَقَاءُ الزَّوْجِ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْ النَّفَقَةِ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ ، وَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِمْسَاكٌ

بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ ، وَالنَّفَقَةِ ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِنْ فَعَلَ ، وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ فَاتَ الْعِوَضُ بِالْعَجْزِ ، فَلَا يَبْقَى النِّكَاحُ لَازِمًا كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فَوَاتَ الْعِوَضِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ لَازِمًا ، فَكَذَا ، فَوَاتُ الْمُعَوَّضِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّفْرِيقَ إبْطَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَذَا فِي الضَّرَرِ ، فَوْقَ ضَرَرِ الْمَرْأَةِ بِعَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ ، وَيَأْمُرُهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ ، وَبِالِاسْتِدَانَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ ، فَتَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ إذَا أَيْسَرَ الزَّوْجُ ، فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهَا إلَى يَسَارِ الزَّوْجِ وَلَا يَبْطُلُ ، وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ بِخِلَافِ التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ ، وَالْعُنَّةِ ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ الضَّرَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ يَفُوتُ عَنْ الْوَطْءِ ، وَضَرَرُهَا أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لِعَجْزِهِ عَنْ الْوَطْءِ .
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ ، فَإِنَّهَا مَحَلٌّ صَالِحٌ لِلْوَطْءِ ، فَلَا يُمْكِنُهَا اسْتِيفَاءُ حَظِّهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ ، وَلَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ لِمَكَانِ هَذَا الزَّوْجِ ، فَكَانَ الرُّجْحَانُ لِضَرَرِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، فَقَدْ قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ

بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ ، وَهُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا عَلَى قَصْدِ الْإِمْسَاكِ ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَعَ مَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } ، فَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ بِالْتِزَامِ النَّفَقَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ إذَا كَانَ قَادِرًا ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالتَّطْلِيقِ مَعَ إيفَاءِ حَقِّهَا فِي نَفَقَةِ الْعِدَّةِ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَةِ الْحَالِ ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْرِيقَ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْرِيقَ ، وَالتَّبْعِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ ، وَهُوَ تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ ، وَإِزَالَةُ الْيَدِ إذْ حَقِيقَةُ التَّسْرِيحِ هِيَ التَّخْلِيَةُ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ ، وَعِنْدَنَا لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ النَّفَقَةُ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فَمَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الْعِوَضَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ نَصًّا ، وَالنَّفَقَةُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا ، فَلَا تَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِيَ بِمُقَابَلَةِ الِاحْتِبَاسِ .
وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الِاحْتِبَاسِ تَزُولُ عِنْدَ الْعَجْزِ ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عِوَضٌ لَكِنَّ بَقَاءَ الْمُعَوَّضِ مُسْتَحِقًّا يَقِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ لَا عَلَى وُصُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ ، وَالنَّفَقَةُ هَهُنَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ إلَيْهَا لِلْحَالِ ، فَيَبْقَى الْعِوَضُ حَقًّا لِلزَّوْجِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ النِّكَاحِ ، فَنَقُولُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي الْأَصْلِ أَحَدِهِمَا : فِي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ حُكْمَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَالنِّكَاحُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ ( أَمَّا ) .
النِّكَاحُ الصَّحِيحُ ، فَلَهُ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ ، وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ ، أَمَّا الْأَصْلِيَّةُ مِنْهَا ، فَحِلُّ الْوَطْءِ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الظِّهَارِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { ، وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } نَفَى اللَّوْمَ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُ فَرْجَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ فَدَلَّ عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ خُصَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، وَالنِّفَاسُ أَخُو الْحَيْضِ ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } .
وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي حَرْثِهِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ إتْيَانَ الْحَرْثِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ شَيْئًا اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ الْمَذْكُورَةُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ لَفْظَةُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَغَيْرِهِمَا فِي مَعْنَاهُمَا ، فَكَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ضَمٌّ وَتَزْوِيجٌ لُغَةً

، فَيَقْتَضِي الِانْضِمَامَ ، وَالِازْدِوَاجَ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِحِلِّ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا ، فَزَوْجُهَا يَحِلُّ لَهَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إلَّا عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ مِنْ الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ ، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا حِلُّ النَّظَرِ ، وَالْمَسِّ مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمَيْهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ ، فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ ، فَكَانَ إحْلَالُهُ إحْلَالًا لِلْمَسِّ ، وَالنَّظَرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَهَلْ يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ ، وَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْمَسُّ وَالنَّظَرُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ ، وَهُوَ اخْتِصَاصُ الزَّوْجِ بِمَنَافِعِ بُضْعِهَا وَسَائِرِ أَعْضَائِهَا اسْتِمْتَاعًا أَوْ مِلْكُ الذَّاتِ وَالنَّفْسِ فِي حَقِّ التَّمَتُّعِ عَلَى اخْتِلَافِ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاخْتِصَاصُ الْحَاجِزُ عَنْ التَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الزَّوْجِ لَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَنَفْسَهُ لَا تَسْكُنُ مَعَهَا ، وَيَفْسُدُ الْفِرَاشُ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَازِمٌ فِي النِّكَاحِ ، وَأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمِلْكِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ ، وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمَهْرِ ، وَالْمَهْرُ عَلَى الرَّجُلِ ، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ الْمِلْكُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا مِلْكُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ ، وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ } ، وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْإِخْرَاجِ إذْ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لَاخْتَلَّ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا ، وُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِهِ شَرْعًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إحْدَاثِ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَثُبُوتُ الْعِوَضِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُعَوَّضِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً لَكِنَّ سَبَبَهُ الظَّاهِرَ هُوَ النِّكَاحُ لِكَوْنِ الدُّخُولِ أَمْرًا بَاطِنًا ، فَيُقَامُ النِّكَاحُ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَشْرِقِيُّ بِمَغْرِبِيَّةٍ ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ ، وَالسُّكْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ، وقَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } ، وَقَوْلِهِ { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } ، وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ لِكَوْنِهَا عَاجِزَةً بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا وَالْكَلَامُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا ، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْهَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ النَّفَقَةِ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَهِيَ حُرْمَةُ أَنْكِحَةِ فِرَقٍ مَعْلُومَةٍ ذَكَرْنَاهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَذَكَرْنَا دَلِيلَ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ ، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهَا .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا الْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا ، وُجُوبُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي حُقُوقِهِنَّ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ امْرَأَةٍ ، فَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ فِي حُقُوقِهِنَّ مِنْ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ أَوْ أَمَتَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالسُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } عَقِيبَ قَوْله تَعَالَى { ، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أَيْ : إنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ فِي نِكَاحِ الْمَثْنَى ، وَالثَّلَاثِ ، وَالرُّبَاعِ ، فَوَاحِدَةً نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ، فَدَلَّ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَعُولُوا } أَيْ : تَجُورُوا ، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ ، فَكَانَ الْعَدْلُ وَاجِبًا ضَرُورَةً ؛ وَلِأَنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ إلَّا مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقِسْمَةِ ، وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ ، وَلَا أَمْلِكُ } ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ ، فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،

وَشِقُّهُ مَائِلٌ } ، وَيَسْتَوِي فِي الْقَسْمِ الْبِكْرُ ، وَالثَّيِّبُ وَالشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ ، وَالْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ؛ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ ، وَلَا قَسْمَ لِلْمَمْلُوكَاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْ : لَا لَيْلَةَ لَهُنَّ ، وَإِنْ كَثُرْنَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَصَرَ الْإِبَاحَةَ فِي النِّكَاحِ عَلَى عَدَدٍ لِتَحَقُّقِ الْجَوْرِ فِي الزِّيَادَةِ ، ثُمَّ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَأَبَاحَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ خَوْفُ الْجَوْرِ ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ قَسْمٌ إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ فِيهِ خَوْفُ الْجَوْرِ كَمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ النِّكَاحُ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً ، وَالْأُخْرَى أَمَةً ، فَلِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ ، وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { لِلْحُرَّةِ ثُلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ ، وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ } ؛ وَلِأَنَّهُمَا مَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ ، وَلَا مَعَ نِكَاحِهَا .
وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ ، وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، فَلَمْ يَتَسَاوَيَا فِي السَّبَبِ ، فَلَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ الْكِتَابِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا قَبْلَ الْمُسْلِمَةِ وَبَعْدَهَا ، وَمَعَهَا .
وَكَذَا لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، فَتَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ ،

فَيَتَسَاوَيَانِ فِي الْحُكْمِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْكَمَالِ ، وَالرِّقُّ يُشْعِرُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي الشَّرْعِ فِي الْمَالِكِيَّةِ وَحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَكَذَا فِي الْقَسْمِ ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ فِي السُّكْنَى ، وَالْبَيْتُوتَةِ يَسْكُنُ عِنْدَ الْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ .
وَعِنْدَ الْأَمَةِ لَيْلَةً .
فَأَمَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ، وَالْمَلْبُوسِ ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَالْمَرِيضُ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ كَالصَّحِيحِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } ، فَلَوْ سَقَطَ الْقَسْمُ بِالْمَرَضِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ مَعْنًى ، وَلَا قَسْمَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا سَافَرَ حَتَّى لَوْ سَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا ، وَقَدِمَ مِنْ السَّفَرِ ، وَطَلَبَتْ الْأُخْرَى أَنْ يَسْكُنَ عِنْدَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ ضَائِعَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ دُونَهُنَّ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ ، فَيَخْرُجُ بِمِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ دَفْعًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ سَافَرَ بِهَا بِقُرْعَةٍ ، فَكَذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ لِلْبَاقِيَاتِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ بِالْقُرْعَةِ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي حَالَةِ السَّفَرِ أَوْ لَا ، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَبَدًا لِاخْتِلَافِ عَمَلِهَا فِي نَفْسِهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ بَلْ مَرَّةٌ هَكَذَا ، وَمَرَّةٌ هَكَذَا ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ .
وَلَوْ وَهَبَتْ إحْدَاهُمَا

قَسْمَهَا لِصَاحِبَتِهَا أَوْ رَضِيَتْ بِتَرْكِ قَسْمِهَا ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لَهَا ، فَلَهَا أَنْ تَسْتَوْفِيَ ، وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا كَبُرَتْ ، وَخَشِيَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَقِيلَ فِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصُّلْحِ هُوَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ ، وَطَلَبَتْ قَسْمَهَا ، فَلَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ إبَاحَةً مِنْهَا ، وَالْإِبَاحَةُ لَا تَكُونُ لَازِمَةً كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبِيحُ مَنْعَهُ ، وَالرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ .
وَلَوْ بَذَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مَالًا لِلزَّوْجِ ؛ لِيَجْعَلَ لَهَا فِي الْقَسْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْعَلَ ، وَيَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَذَلَ الزَّوْجُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَالًا لِتَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِصَاحِبَتِهَا أَوْ بَذَلَتْ هِيَ لِصَاحِبَتِهَا مَالًا لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَهَا لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُسْتَرَدُّ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ الْقَسْمِ بِالْمَالِ ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا ، هَذَا إذَا كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ فَطَالَبَتْهُ بِالْوَاجِبِ لَهَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا تَشَاغَلَ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالصَّلَاةِ أَوْ بِأَمَةٍ اشْتَرَاهَا قَسَمَ لِامْرَأَتِهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً ، وَقِيلَ لَهُ تَشَاغَلْ

ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَثَلَاثَ لَيَالٍ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالْأَمَةِ ، وَهَكَذَا كَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ : إنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا يَوْمًا وَاحِدًا يَسْكُنُ عِنْدَهَا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ ، وَأَشْغَالِهِ ( وَجْهُ ) هَذَا الْقَوْلِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ زَوْجَهَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَتْ أَنَّهُ يَصُومُ النَّهَارَ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ ، فَقَالَ : عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَحْسَنَكِ ثَنَاءً عَلَى بَعْلِكِ ، فَقَالَ : كَعْبٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهَا تَشْكُو إلَيْكَ زَوْجَهَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : كَعْبٌ إنَّهُ إذَا صَامَ النَّهَارَ ، وَقَامَ اللَّيْلَ ، فَكَيْفَ يَتَفَرَّغُ لَهَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَعْبٍ اُحْكُمْ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ : أَرَاهَا إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ يُفْطِرُ لَهَا يَوْمًا ، وَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِهَذَا الْقَوْلِ .
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْهَبَنَا ؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ فِي الْقَسْمِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُشَارَكَاتِ الزَّوْجَاتِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ غَيْرُهَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ ، فَلَا يَقْسِمُ لَهَا ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ لَا تُدَاوِمْ عَلَى الصَّوْمِ ، وَوَفِّ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا كَذَا قَالَهُ الْجَصَّاصُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ : أَوَّلًا كَمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ كَعْبٌ ، وَهُوَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا أُخَرَ سِوَاهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَتَزَوَّجْ ، فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ، فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ شَاءَ ؛ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجَاتِ ، وَإِنْ شَاءَ ؛ صَرَفَهُ إلَى صِيَامِهِ ، وَصَلَاتِهِ ، وَأَشْغَالِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ

.
وَقَالَ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا ، فَطَالَبْنَ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ مِنْ الْأَرْبَعِ ، فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا حَقًّا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا يَتَفَرَّغُ لِأَعْمَالِهِ ، فَلَمْ يُوَقِّتْ فِي هَذَا وَقْتًا .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَخِيرًا إنْ صَحَّ الرُّجُوعُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ لَهَا كَمَا يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يَجْعَلُ لَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ سِتَّةِ أَيَّام ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ حَرَائِرَ ؛ لِأَنَّ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ ، وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَاحِدَةً ، فَلَمَّا لَمْ يَتَزَوَّجْ ، فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ؛ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجَاتِ ، وَإِنْ شَاءَ ؛ صَرَفَهُ إلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَإِلَى أَشْغَالِ نَفْسِهِ ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ أَيْضًا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا ، وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى الْفِرَاشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ : لَهَا الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي نَفْسِهَا ، وَتَحْفَظَ غَيْبَتَهُ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِنَّ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ ، وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } ، فَدَلَّ أَنَّ التَّأْدِيبَ كَانَ لِتَرْكِ الطَّاعَةِ ، فَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ طَاعَتِهِنَّ الْأَزْوَاجَ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ تُطِعْهُ فِيمَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كَانَتْ نَاشِزَةً ، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي مِنْ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا ، فَلَعَلَّ تَقْبَلُ الْمَوْعِظَةَ ، فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ ، وَرَجَعَتْ إلَى الْفِرَاشِ وَإِلَّا هَجَرَهَا .
وَقِيلَ يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا ، وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ قِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا ، وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إيَّاهَا لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا ، فَلَا يُؤَدِّبَهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ ، وَيُبْطِلُ حَقَّهُ ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ ، وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ وَخَوْفِ النُّشُوزِ وَالتَّنَازُعِ وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا ، وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا ، وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا ، فَإِذَا هَجَرَهَا ، فَإِنْ تَرَكَتْ النُّشُوزَ ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا عِنْدَ ذَلِكَ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَا شَائِنٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ

الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ ، وَإِلَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ، وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ ، فَإِنْ قَبِلَتْ ، وَإِلَّا غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ ، فَإِنْ قُبِلَتْ ، وَإِلَّا بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَكَبَتْ مَحْظُورًا سِوَى النُّشُوزِ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا تَعْزِيرًا لَهَا ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ كَمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَمِنْهَا الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَمُسْتَحَبٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ هِيَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي } ، وَقِيلَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ هِيَ أَنْ يُعَامِلَهَا بِمَا لَوْ فُعِلَ بِك مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ تُنْكِرْهُ بَلْ تَعْرِفُهُ ، وَتَقْبَلُهُ وَتَرْضَى بِهِ ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا بِالْإِحْسَانِ بِاللِّسَانِ ، وَاللُّطْفِ فِي الْكَلَامِ ، وَالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ ، وَقِيلَ فِي ، قَوْله تَعَالَى { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ هُوَ أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْبِرِّ بِاللِّسَانِ ، وَالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَيُكْرَهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ عَنْ إنْزَالٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ ، وَلَهَا فِي الْوَلَدِ حَقٌّ ، وَبِالْعَزْلِ يَفُوتُ الْوَلَدُ ، فَكَأَنَّهُ سَبَبًا لِفَوَاتِ حَقِّهَا ، وَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ بِرِضَاهَا لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِفَوَاتِ حَقِّهَا ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اعْزِلُوهُنَّ أَوْ لَا تَعْزِلُوهُنَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ خَلْقَ نَسَمَةٍ ، فَهُوَ خَالِقُهَا } إلَّا أَنَّ الْعَزْلَ حَالَ عَدَمِ الرِّضَا صَارَ مَخْصُوصًا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةَ الْغَيْرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْعَزْلُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا أَوْ رِضَا مَوْلَاهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إلَيْهَا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ حَقُّهَا ، وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَلِكَ ،

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَرَاهَةَ الْعَزْلِ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ ، وَالْوَلَدُ لَهُ لَا لَهَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ ، فَلَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعِدَّةِ ، وَهُوَ حُكْمُ الدُّخُولِ فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمَهْرِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْمَنَافِعِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ ، وَالْحُرُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ خُلُوصٌ ، وَالْمِلْكُ يُنَافِي الْخُلُوصَ ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْآدَمِيِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالرِّقِّ ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي الرِّقَّ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى دَرْءِ الْحَدِّ وَصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الضَّيَاعِ بِثَبَاتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةِ الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ غَرَامَةٍ ، وَلَا عُقُوبَةٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ ، فَجُعِلَ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا قَبْلَهُ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا } جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ ، فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْمَهْرِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُقْرِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى .
وَقَالَ زُفَرُ

: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَكَذَا هَذَا الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَنَافِعَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا كَالْأَعْيَانِ ، فَيَلْزَمُ إظْهَارُ أَثَرِ التَّقَوُّمِ ، وَذَلِكَ بِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ، وَإِنَّمَا الْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَلَمْ تَصِحَّ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبْنَا كَمَالَ الْقِيمَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ مَا قَوَّمَا الْمَنَافِعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى ، فَلَا تَتَقَوَّمُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى ، فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِرِضَاهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ تُعْتَبَرُ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : إنَّهَا تَجِبُ مِنْ حِينِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ زُفَرُ : مِنْ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ الْوَطْءِ ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِالْوَطْءِ تَجِبُ عَقِيبَ الْوَطْءِ بِلَا فَصْلٍ كَأَحْكَامِ سَائِرِ الْعِلَلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الْوَطْءِ مُنْعَقِدٌ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْفِرَاشُ لَا يَزُولُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ الْوَطْءِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ .
وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَلَوْ دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يَلْزَمُهُ

مَهْرٌ آخَرُ ، فَكَانَ التَّفْرِيقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَمَا تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ حَقِيقَةً مَعَ قِيَامِ الْمَنَافِع لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى ذَلِكَ ، فَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْتَوْفَى عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ ، وَلَمْ يُوجَدْ اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً بِالْخَلْوَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِدَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَطْءُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا أَقَمْنَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَقَامَهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يُحْتَاطُ فِيهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ التَّمَكُّنِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوْ الْإِحْرَامِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ شَرْعًا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ التَّمَكُّنُ ثَابِتًا ، وَدَلِيلُهُ مَوْجُودٌ ، فَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ ، وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ بِهَا الْعِدَّةُ ، فَالْمَهْرُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِهَا ، وَلَا يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ ، فَبَيَانُهُ بَيَانُ مَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَلِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْبَابٌ لَكِنَّ الْوَاقِعَ بِبَعْضِهَا فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ، وَبَعْضُهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا .
الطَّلَاقُ بِصَرِيحِهِ ، وَكِنَايَاتِهِ ، وَلَهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ ، وَمِنْهَا اللِّعَانُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَكَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ ، وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، بَلْ تَكُونُ فَسْخًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ ، فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا ، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إلَّا إذَا مُلِكَتْ كَالْمُخَيَّرَةِ ، فَكَانَ فَسْخًا ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ ، فَكَذَا إذَا اُلْتُحِقَ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ .
وَكَذَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْمَرْأَةُ ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْغُلَامُ ، فَاخْتَارَ نَفْسَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَلَا

مَهْرَ لَهَا أَيْضًا ، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَالِانْفِصَالُ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَإِذًا لَا فَائِدَةَ فِي الْخِيَارِ إلَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ ، فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْفُرْقَةِ ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْبَدَلُ إلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ الْمُبْدَلُ إلَيْهَا ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا ، فَلَا يُفْسَخُ ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا يَغْرَمُ قِيمَتَهَا ، وَقِيمَتُهَا هُوَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى ، فَلَا يُفِيدُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ ، فَلَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ .

وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبِ الْجَبِّ ، وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ ، وَالتَّأَخُّذِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَأَنَّهُ فُرْقَةُ بُطْلَانٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إيفَاءِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالنِّكَاحِ ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ وَضَرَرٌ فِي حَقِّهَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَامَ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ بُطْلَانٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ ، فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ .

وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ ، وَالْفُرْقَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وِلَايَةُ الطَّلَاقِ ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا ، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ .

وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجَةِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْمُشْرِكُ أَوْ الْمَجُوسِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَا كِتَابِيَّيْنِ ، فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مَحَلٌّ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً ، فَكَذَا بَقَاءً ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ نِكَاحِ الْكَافِرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ ابْتِدَاءً ، فَكَذَا فِي الْبَقَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، فَإِنْ أَسْلَمَ ؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ ؛ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبَاءَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا ، وَهُوَ الْإِبَاءُ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَالْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الطَّلَاقَ ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِبَاءُ مِنْ الزَّوْجِ يَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِلْحَالِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى

تَمْضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ مُضِيِّهَا ؛ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ ؛ بَانَتْ بِمُضِيِّهَا أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنْ كَفَرَ الزَّوْجُ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ ، وَكَذَلِكَ شِرْكُ الْمَرْأَةِ ، وَتَمَجُّسُهَا مَانِعٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ ، وَالْمَجُوسِيَّةِ ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ ، فَعَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ، فَامْتَنَعَ ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ لَمَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْأَمْلَاكِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُبْطِلًا لَهَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَمْنَعْ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْبَقَاءَ وَأَنَّهُ أَسْهَلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّا لَوْ بَقَّيْنَا النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا لَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ ، وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْمُسْلِمَةِ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِفْرَاشُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ لِخُبْثِهِمَا ، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ هَذَا النِّكَاحِ فَائِدَةٌ ، فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْيَأْسَ عَنْ حُصُولِ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ أَوْ الْمَجُوسِيَّةُ

أَوْ الْكِتَابِيَّةُ ، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَشْتَرِكُ فِي سَبَبِهَا الزَّوْجَانِ ، وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ ، فَإِنَّ الْإِبَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِإِبَائِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، فَكَذَا بِإِبَائِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْإِبَاءِ لِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إذَا لَمْ تَحْصُلْ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ ، وَالْأَصْلُ فِي التَّفْرِيقِ هُوَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، وَالْقَاضِي يَنُوبُ مَنَابَهُ كَمَا فِي الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ ، فَيُجْعَلُ طَلَاقًا مَا أَمْكَنَ ، وَفِي إبَاءِ الْمَرْأَةِ لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا .

وَمِنْهَا رِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مُفْضٍ إلَيْهِ ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ لِأَحَدٍ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ مَعَ الرِّدَّةِ ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَبْقَى مَعَ زَوَالِ الْعِصْمَةِ غَيْرَ أَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا رِدَّةُ الرَّجُلِ ، فَهِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا تُجْعَلُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ ، وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِرِدَّتِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَذَا بِرِدَّتِهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ الرَّجُلِ ، وَهُوَ رِدَّتُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الرِّدَّةُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ، وَفُرْقَةُ الْمَوْتِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ ، وَالْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِالرِّدَّةِ فُرْقَةٌ وَاقِعَةٌ بِطَرِيقِ التَّنَافِي ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمِلْكِ ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّنَافِي لَا يُسْتَفَادُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَثَمَرَاتِهِ ، وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الزَّوْجِ ، فَيَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِلَّا التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي الطَّلَاقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ كَأَنَّهُ

طَلَّقَ بِنَفْسِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فُرْقَةَ الْإِبَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، وَفُرْقَةَ الرِّدَّةِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ التَّنَافِي ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ ، فَتَثْبُتُ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ تَتَأَجَّلُ الْفُرْقَةُ إلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ هَذَا إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ .
فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَا مَعًا ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَكَذَا إذَا ارْتَدَّا ؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا ، وَزِيَادَةً ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فِي زَمَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَ حَضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنْ قِيلَ بِمَ يُعْلَمُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا ، وَأَسْلَمُوا مَعًا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقِرَانُ بَلْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الرِّدَّةِ ، وَالْإِسْلَامِ فَفِيمَا عُلِمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَرَّقَ ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى ، وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً ، فَتَمَجَّسَتْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ

قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَلَا نَفَقَةَ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، فَكَانَتْ فَسْخًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ، فَلَهَا الْمَهْرُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ ، وَإِنْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ الْمَهْرُ سُمِّيَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؛ تَجِبُ الْمُتْعَةُ ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ كُلُّ الْمَهْرِ ، وَالنَّفَقَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً ؛ فَتَنَصَّرَتْ أَوْ نَصْرَانِيَّةً ؛ فَتَهَوَّدَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْقَرَارِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ تُجْبَرُ عَلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَعُودَ إلَى دِينِهَا الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بَاطِلٌ ، فَكَانَ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ تَقْرِيرًا عَلَى الْبَاطِلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
( وَلَنَا ) أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ ، وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً ؛ فَصَبَأَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الصَّابِئِيَّةِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا .

وَمِنْهَا إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَكِنْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ بَلْ تَقِفُ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَنَفْسُ الْكُفْرِ أَيْضًا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ ، فَإِذَا أَبَى حِينَئِذٍ يُفَرَّقُ ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِالْإِبَاءِ ، وَلَا يُعْرَفُ الْإِبَاءُ إلَّا بِالْعَرْضِ ، وَقَدْ امْتَنَعَ الْعَرْضُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ ، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ إذْ الْمُشْرِكُ لَا يَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ، فَيُقَامُ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ ، وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إذْ هُوَ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ الْعِلَّةِ ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ جَائِزٌ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ ، وَهِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ صَارَ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي .
وَتَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بِسَبَبِ الْإِبَاءِ حُكْمًا وَتَقْدِيرًا .
وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ هَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّهَا ؟ بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةُ ، فَخَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَتَمَّتْ الْحِيَضُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ .

وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا بِأَنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَتَرَكَ الْآخَرَ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْمَنًا ، وَبَقِيَ الْآخَرُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ السَّبْيُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَخَلَّفَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ كَافِرًا بِمَكَّةَ ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } .
وَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ لَمَا رُدَّ بَلْ جُدِّدَ النِّكَاحُ ؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ ، وَالْوِلَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ .
( وَلَنَا ) أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَادَةً ، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ ، فَيَزُولُ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ ، وَتُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، فَيُخَالِطُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ ، فَكَانَ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ ثَابِتًا ، فَيَبْقَى النِّكَاحُ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مَا أَنَّ

الْعَمَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ ، فَكَانَ رَاوِي الرَّدِّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ ، فَظَنَّ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ ، وَرَاوِي النِّكَاحِ الْجَدِيدِ اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ ، وَصَارَ كَاحْتِمَالِ الْجَرْحِ ، وَالتَّعْدِيلِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَرْبِيٌّ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا ؛ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْلِمًا بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا بِأَمَانٍ ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لَا لِلتَّوَطُّنِ ، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِالدُّخُولِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ مَعًا أَوْ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ، فَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا ، وَانْعِدَامِ السَّبْيِ عِنْدَهُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا ، وَأُحْرِزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، وَعِنْدَهُ بِالسَّبْيِ ، وَعِنْدَنَا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ .
وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ ، وَعِنْدَهُ تَقَعُ لِوُجُودِ السَّبْيِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } حَرَّمَ الْمُحْصَنَاتِ ، وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ إذْ هُوَ مَعْطُوفٌ

عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ، وَاسْتَثْنَى الْمَمْلُوكَاتِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِهَا ؛ وَلِأَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ ، وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الرَّقَبَةِ ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَسْبِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ ، وَمَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي ؛ يَزُولُ مِلْكُ الزَّوْجِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً هِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ فِي الْأَمَةِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ ، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلِهِ مُطْلَقًا ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ إمَّا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أَوْ تَقْدِيرًا لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ ، وَإِمَّا لِفَوَاتِ حَاجَةِ الْمَالِكِ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَنَاقُضًا ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ ، وَالْمَحَلُّ صَالِحٌ ، وَالْمَالِكُ صَالِحٌ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْمِلْكِ ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِمْتَاعِ ثَابِتٌ ظَاهِرًا ، وَغَالِبًا إذَا سُبِيَا مَعًا ، وَلَا يَكُونُ نَادِرًا .
وَكَذَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا ، وَالْمَسْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْكَفَرَةِ أَوْ اسْتِنْقَاذِ الْأُسَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا ، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ

إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ السَّبْيُ وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ ، فَنَعَمْ لَكِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْوَارِدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ هَهُنَا قَائِمٌ لِمَا بَيَّنَّا ، فَلَمْ يَكُنْ السَّبْيُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلسَّابِي ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجِ ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا سُبِيَتْ ، وَحْدَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ .

وَمِنْهَا الْمِلْكُ الطَّارِئُ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ مَلَكَ شِقْصًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُقَارَنَ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ ، فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ يُبْطِلُهُ ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ لَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا ، فَتُجْعَلُ فَسْخًا ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِطَرِيقِ التَّنَافِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ كَالْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْقِنِّ ، وَالْمُدَبَّرِ وَالْمَأْذُونِ إذَا اشْتَرَيَا زَوْجَتَيْهِمَا لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُفِيدُ لَهُمَا مِلْكَ الْمُتْعَةِ ، فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ .
وَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ مِنْ .
وَجْهٍ ، فَكَانَ مِلْكُهُ فِيهَا ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَالنِّكَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي انْعِقَادِهِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ ، وَإِذَا كَانَ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعَتْ الْعِدَّةُ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، وَلَمْ تَمْنَعْ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا ، وَقَالُوا فِيمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ ، ثُمَّ مَاتَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :

يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فِي الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ ، وَعِنْدَهُ يُورَثُ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهَا فِي زَوْجِهَا ، فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ فِي أَمْلَاكِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ ، وَمِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ ، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى إبْقَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يُصَيِّرُ ذَلِكَ الْحَقَّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ مِنْ قِبَلِهِ ، فَلَوْ نَقَلْنَا الْمِلْكَ مِنْ الْمَيِّتِ إلَى الْوَارِثِ لَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِانْعِدَامِ تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِيهِ لَأَجْلِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِلْمُكَاتَبِ ، فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ ، وَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ ، وَشَرْطُهُ ، وَهُوَ الْمَوْتُ ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ ثَبَتَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ ، فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ كَمَنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً ، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ بَانَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لَهُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ .
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ ، فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَحُرْمَةُ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ يَسْتَوِي فِيهَا السَّابِقُ وَالطَّارِئُ .
وَكَذَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ الْمُقَارَنِ وَالطَّارِئِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ .

وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا ، وَالْفُرْقَةُ بِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ ، وَالْفُرَقُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَعْضِهَا الْخَلَاصُ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ ، وَفِي بَعْضِهَا الْمَحَلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ ، فَافْهَمْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ .
أَنْوَاعِ الْيَمِينِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ كُلِّ نَوْعٍ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْيَمِينُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : يَمِينٌ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَسَمِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ، وَيَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا مَجَازًا ، حَتَّى إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَحْنَثُ ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْنَثُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ الْقَسَمَ بِمَا جَلَّ قَدْرُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ وَكَثُرَ نَفْعُهُ عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِهَذَا النَّوْعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ التَّعْظِيمَ بِهَذَا النَّوْعِ عِبَادَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } سَمَّاهُ حَلِفًا ، وَالْحَلِفُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ ، وَالْأَصْلُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَمِينٌ حَقِيقَةً .
وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ الْقُوَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } أَيْ بِالْقُوَّةِ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْيَدُ الْيَمِينُ يَمِينًا لِفَضْلِ

قُوَّتِهَا عَلَى الشِّمَالِ عَادَةً .
قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ ، وَمَعْنَى الْقُوَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَعَلَى التَّحْصِيلِ فِي الْمَرْغُوبِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إلَى فِعْلٍ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ فَعَقْلُهُ يَزْجُرُهُ عَنْهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعَاقِبَةِ الْوَخِيمَةِ ، وَرُبَّمَا لَا يُقَاوِمُ طَبْعَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى عَلَى الْجَرْيِ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْلِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ مِنْ قُبْحِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَكَذَا إذَا دَعَاهُ عَقْلُهُ إلَى فِعْلٍ تَحْسُنُ عَاقِبَتُهُ وَطَبْعُهُ يَسْتَثْقِلُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى التَّحْصِيلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الَّذِي هُوَ مُسْتَثْقَلٌ عَلَى طَبْعِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا سَمَّى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي أَبْوَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ يَمِينًا ، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ .

ثُمَّ .
الْيَمِينُ - بِاَللَّهِ - تَعَالَى مُنْقَسِمٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينُ الْغَمُوسِ وَيَمِينُ اللَّغْوِ وَيَمِينٌ مَعْقُودَةٌ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَقَالَ : الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ وَيَمِينٌ لَا تُكَفَّرُ وَيَمِينٌ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا ، وَفَسَّرَ الثَّالِثَةَ بِيَمِينِ اللَّغْوِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ : الْأَيْمَانُ ثَلَاثٌ الْأَيْمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا جِنْسَ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ بِلَغْوِ الْيَمِينِ بِلَفْظَةِ التَّرَجِّي وَانْتِفَاءُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْيَمِينِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَكِنْ لَا عَنْ قَصْدٍ بَلْ خَطَأً أَوْ غَلَطًا عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّحَرُّزُ عَنْ فِعْلِهِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ وَحِفْظُ النَّفْسِ عَنْهُ مَقْدُورٌ فَكَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَفَضْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَنْ فِعْلِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ كَذَلِكَ فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ لَفْظَ الرَّجَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بَعْدَمَا كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً عَنْ هَذَا النَّوْعِ قَطْعًا لَكِنَّ الْعِلْمَ بِمُرَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ اجْتِهَادٍ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ لَا عِلْمُ الْقَطْعِ فَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدٌ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ

اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ مَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُ مُحَمَّدٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ : الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مُحِيطَةً بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخُرُوجِ الْحَالِ عَنْهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ وَيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهُمَا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ نَاقِصَةً وَالنُّقْصَانُ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ عُيُوبِ الْقِسْمَةِ كَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ الصَّحِيحَةُ مَا ذَكَرْنَا لِوُقُوعِهَا حَاصِرَةً جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ عَنْهَا جُزْءٌ وَكَذَا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ نَوْعٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَنَحْنُ أَخَّرْنَا بَيَانَ الْحُكْمِ عَنْ بَيَانِ النَّوْعِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ .

أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَهِيَ الْكَاذِبَةُ قَصْدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ عَلَى النَّفْيِ أَوْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَهِيَ الْخَبَرُ عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فِي ذَلِكَ مَقْرُونًا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ ، أَوْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ ، أَوْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَهَذَا تَفْسِيرُ يَمِينِ الْغَمُوسِ .

وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا ، قَالَ أَصْحَابُنَا : هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أَوْ غَلَطًا فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ وَهِيَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي أَوْ عَنْ الْحَالِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ ، أَوْ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَهُوَ بِخِلَافِهِ أَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الْجَائِيَ لَزَيْدٌ ، إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَغُرَابٌ وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ وَهُوَ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ مِنْ قَوْلِهِمْ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا لَغْوَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ ، قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَإِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَقَطْ ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى إثْرِ حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ لَغْوٌ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينٍ لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَغْوٍ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ لَغْوٌ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعَاصِي نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظَّهْرِ وَلَا أَصُومُ صَوْمَ

شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ لَا أُكَلِّمُ أَبَوَيَّ أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا .
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ .
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْإِثْمُ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } أَيْ كَلَامًا فِيهِ إثْمٌ ، فَقَالُوا : إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى - { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْإِثْمِ فِي أَيْمَانِكُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِنَقْضِهَا وَالْحِنْثِ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } صِلَةَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } .
وَقِيلَ فِي الْقِصَّةِ إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصْنَعَ الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبَرَّ وَلَا يَصِلَ أَقْرِبَاءَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ إنِّي حَلَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } الْآيَةَ لِأَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمْ بِنَقْضِ ذَلِكَ الْيَمِينِ وَتَحْنِيثِ النَّفْسِ فِيهَا وَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْإِثْمِ فِيهَا بِحِفْظِهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَفَّارَتُهُ إلَى قَوْلِهِ { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ أَصْلًا لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ

يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ : هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ وَعَنْ عَطَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ } فَثَبَتَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّ تَفْسِيرَ يَمِينِ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ لَغْوًا عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْحَالِفُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَكَانَ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلًا فِي قَسَمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى - { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ اللَّغْوِ غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ ، وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَوْ لَا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } أَيْ بَاطِلًا .
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرًا عَنْ الْكَفَرَةِ { وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَهُوَ الْحَلِفُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ عَلَى ظَنٍّ مِنْ الْحَالِفِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فَهُوَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ لَغْوًا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ

لَهُ كَانَ هُوَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا مَعْقُودَةً لِأَنَّ لَهَا حُكْمًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ هِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي فِي كَلَامِ النَّاسِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فِي الْمَاضِي لَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا فَسَّرَتْهَا بِالْمَاضِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ مَطَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتهَا عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ قَوْلُ الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إذْ الْمُجْمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَابَلَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ فَنَقُولُ : فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَكْسُوبَةِ ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَعْقُودَةِ ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى التَّوَافُقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّعَارُضِ فَنَجْمَعُ بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ : يَمِينُ اللَّغْوِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَكْسُوبَةٍ وَغَيْرُ مَعْقُودَةٍ ، وَالْمُخَالِفُ عَطَّلَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فَكُنَّا أَسْعَدَ حَالًا مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا } الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنَاهُ { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا } أَيْ لَا تَحْلِفُوا أَنْ لَا

تَبَرُّوا وَيَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى } أَيْ لَا يُؤْتَوْا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً أَيْ لَا تَحْلِفُوا لِكَيْ تَبَرُّوا فَتَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً بِالْحِنْثِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْكِ التَّعْظِيمِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْيَمِينِ ، يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقَعُونَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا نَهْيًا عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنِ الْحَالِفُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ أَوْ غَالِبِ الرَّأْيِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - .

وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ فَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا نَحْوَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ ثُمَّ الْمُقْسَمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ اسْمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً وَالِاسْمُ قَدْ يَكُونُ مَذْكُورًا وَقَدْ يَكُونُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ كِنَايَةً ، أَمَّا الِاسْمُ صَرِيحًا فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا خَاصًّا لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - نَحْوُ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَلَى غَيْرِهِ كَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْحَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَكِنْ تُعَيِّنُ الْخَالِقَ مُرَادًا بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِي أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ .
وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَنْ قَالَ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَالِفٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ الْبَاءِ أَوْ الْوَاوِ أَوْ التَّاءِ بِأَنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِكُلِّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ } وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ

} وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَدَعْ } إلَّا أَنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَمَا سِوَاهَا دَخِيلٌ قَائِمٌ مَقَامَهَا ، فَقَوْلُ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ وَرَبْطُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ الْبَاءَ حَرْفَ إلْصَاقٍ وَحَرْفَ الرَّبْطِ وَحَرْفَ الْآلَةِ وَالتَّسْبِيبِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَقَدْ أَلْصَقْتَ الْفِعْلَ بِالِاسْمِ وَرَبَطْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَكَانَ الْقَلَمُ آلَةَ الْكِتَابَةِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهَا فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ فَقَدْ أَلْصَقَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وَهُوَ قَوْلُهُ : احْلِفْ بِالِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ : بِاَللَّهِ وَجَعَلَ اسْمَ اللَّهِ آلَةً لِلْحَلِفِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أُسْقِطَ قَوْلُهُ أَحْلِفُ وَاكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَرَبِ مِنْ حَذْفِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَعْضِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خُفِضَ الِاسْمُ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْخَفْضِ وَالْوَاوُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَاءَ هُوَ الْمَذْكُورُ وَكَذَا التَّاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَاوَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْسَمُ بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَذَا الْوَاوُ .
فَأَمَّا التَّاءُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ تَاللَّهِ وَلَا تَقُولُ تَالرَّحْمَنِ وَتَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ بِأَنْ قَالَ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَلَّفَ رُكَانَةَ

بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَقَالَ : اللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِالْبَتِّ إلَّا وَاحِدَةً } وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ اللَّهَ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَاحِدٌ وَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ : خَيْرٍ عَافَاكَ اللَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ هَلْ يَكُونُ يَمِينًا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الرَّاءَ تُوضَعُ مَوْضِعَ اللَّامِ يُقَالُ آمَنَ بِاَللَّهِ وَآمَنَ لَهُ بِمَعْنًى .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { آمَنْتُمْ لَهُ } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ { آمَنْتُمْ بِهِ } وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ وَرَبِّي وَرَبِّ الْعَرْشِ أَوْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ حَالِفًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ .

( وَأَمَّا ) الصِّفَةُ فَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا لِذَاتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ إلَّا فِي الصِّفَةِ نَفْسِهَا فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِعْمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا أَيْضًا ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي غَيْرِهَا لَكِنْ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الصِّفَةِ هُوَ الْغَالِبُ فَالْحَلِفُ بِهَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَعَنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ يَمِينًا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَتَعَارَفُوهُ يَمِينًا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا نَفْسَهَا فَكَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِهَا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا النَّاس يَتَعَارَفُونَ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا .
وَكَذَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَكَلَامِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ لَكِنَّ الصِّفَةَ تَعَيَّنَتْ مُرَادَةً بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَالظَّاهِرُ إرَادَةُ الصِّفَةِ بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ وَكَذَا النَّاسُ يُقْسِمُونَ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا ، وَلَوْ قَالَ وَرَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ غَضَبِهِ أَوْ سَخَطِهِ لَا يَكُونُ هَذَا يَمِينًا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ آثَارُهَا عَادَةً لَا نَفْسُهَا فَالرَّحْمَةُ يُرَادُ بِهَا الْجَنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِ أَثَرُ الْغَضَبِ وَالسَّخَطِ عَادَةً وَهُوَ

الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ لَا نَفْسُ الصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إلَّا إذَا نَوَى بِهِ الصِّفَةَ .
وَكَذَا الْعَرَبُ مَا تَعَارَفَتْ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا وَكَذَا وَعِلْمِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ عَادَةً يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَك فِينَا أَيْ مَعْلُومَك مِنَّا وَمِنْ زَلَّاتِنَا وَيُقَالُ هَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ لِأَنَّ عِلْمَ أَبِي حَنِيفَةَ قَائِمٌ بِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُزَايِلُهُ ، وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَالِمِ بِأَعْيَانِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَالْمَعْدُومَاتُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مَعْلُومٌ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ .
وَكَذَا الْعَرَبُ لَمْ تَتَعَارَفْ الْقَسَمَ بِعِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِدُونِ النِّيَّةِ .
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّنْ قَالَ وَسُلْطَانِ اللَّهِ فَقَالَ لَا أَرَى مَنْ يَحْلِفُ بِهَذَا أَيْ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَقْدُورَ لَا يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَأَمَانَةِ اللَّهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فَرَائِضُهُ الَّتِي تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَكُونُ

يَمِينًا .
( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْقَسَمِ يُرَادُ بِهَا صِفَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمَانَةِ ؟ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ صِفَةَ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَعَهْدِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِمَا يُذْكَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَمِينٌ فَكَذَا هَذَا .
وَلَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِالِاسْمِ حَلِفًا بِالذَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ بِاَللَّهِ ، وَلَوْ قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قَالَ تَعَالَى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } أَيْ ذَاتَهُ .
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } أَيْ ذَاتُهُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ .
وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ حَلِفُ السَّفَلَةِ ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا .
وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِالْقَسَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا قَبْلَ الْخَبَرِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْقَسَمِ فَيَكُونُ حَالِفًا وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَمَلَكُوتِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِ اللَّهِ إنَّهُ يَمِينٌ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ فَكَانَ

الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا كَقَوْلِهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ .
وَلَوْ قَالَ وَعَمْرِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِبَقَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ وَكَذَا الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ : - { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
وَقَالَ طَرَفَةُ لَعَمْرُك إنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الْفَتَى لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ وَلَوْ قَالَ وَاَيْمُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِلَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْبَصْرِيَّيْنِ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَّرَهُ فِي حَرْبِ مُؤْتَةَ وَقَدْ بَلَغَهُ الطَّعْنُ وَاَيْمُ اللَّهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ } وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ تَقْدِيرُهُ وَأَيْمُنِ اللَّهِ إلَّا أَنَّ النُّونَ أُسْقِطَتْ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - { حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَالْأَيْمُنُ جَمْعُ يَمِينٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَإِنَّهُ حَلِفٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْهُ يَمِينًا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَإِنْ قُطِعَتْ رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي حَلَفْتُ لَهَا بِاَللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِي .
وَقَالَتْ عُنَيْزَةُ فَقَالَتْ يَمِينُ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ وَمَا أَنْ أَرَى عَنْكَ الْغِوَايَةَ تَنْجَلِي فَقَدْ اسْتَعْمَلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَمِينَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ حَلِفًا بِاَللَّهِ .
وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَالِفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَحَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ إضَافَةَ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَقُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ

الْحَقِّ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَالْحَلِفُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } .
وَقِيلَ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِّ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ حَقًّا ، لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ قَوْلَهُ حَقًّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صِدْقًا وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَوْلُهُ حَقًّا كَقَوْلِهِ وَالْحَقِّ .
وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ وَلَنَا أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَلِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَكَانَ هَذَا إخْبَارًا عَنْ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ لِلْحَالِ وَهَذَا إذَا ظَهَرَ الْمُقْسَمُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِأَنْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ كَانَ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ يَمِينًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمَحْلُوفَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَيَحْتَمِلُ

أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُجْعَلُ حَلِفًا مَعَ الشَّكِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ إخْبَارًا عَمَّا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْ الْحَلِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّاهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
وَقَالَ تَعَالَى { إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ ثُمَّ سَمَّاهُ قَسَمًا وَالْقَسَمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } فَقَالَ أَفَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا فِي الْيَمِينِ ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْيَمِينِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْإِخْبَارَ عَنْ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ أَعْزِمُ مَعْنَاهُ أُوجِبُ فَكَانَ إخْبَارًا عَنْ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَزَمْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ حَالِفًا وَكَذَا لَوْ قَالَ آلَيْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْأَلِيَّةَ هِيَ الْيَمِينُ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا أَوْ

لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ : أَوَقَالَ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ : فَقَالَتْ : لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ كَلَّمْتُهُ أَبَدًا فَأَعْتَقَ عَنْ يَمِينِهَا عَبْدًا وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ لَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ لَا يَكُونُ يَمِينًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ قَدْ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينًا بِالشَّكِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَيْ يَمِينُ اللَّهِ إذْ لَا يَجُوزُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ يَمِينُ اللَّهِ دُونَ قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ فَكَيْفَ مَعَهُ ؟ أَوْ يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ أَيْ عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقٍ أَوْ نَفْيِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَجُعِلَ الْعَهْدُ يَمِينًا ، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ وَمِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَيْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَالْعَهْدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ إيَّاهُمْ وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ } أَيْ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ كَافِرٌ أَوْ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا فَهُوَ يَمِينٌ

اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ شَارِبٌ خَمْرًا أَوْ آكِلٌ مَيْتَةً .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَلِفًا لَمَا تَعَارَفُوا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ فَدَلَّ تَعَارُفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ .
وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ ثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ إنَّ ذَلِكَ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ التَّصَدُّقِ فِي عُرْفِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَذَا هَذَا ، هَذَا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهَذَا يَمِينُ الْغَمُوسِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ هَلْ يُكَفَّرُ ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى إلَى ابْنِ شُجَاعٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا يَكْفُرُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهِ الْكُفْرَ وَلَا اعْتَقَدَهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ تَرْوِيحَ كَلَامِهِ وَتَصْدِيقَهُ فِيهِ وَلَوْ قَالَ عَصَيْتُ اللَّهَ إنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ عَصَيْتُهُ فِي كُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيَّ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
وَلَوْ قَالَ هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ

أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ أَوْ عَذَابِ النَّارِ بِأَنْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ قَالَ أَمَاتَهُ اللَّهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُحْلَفُ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَلَوْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّاسُ وَإِنْ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهِمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْحَلِفِ لِتَعْظِيمِ الْمَحْلُوفِ وَهَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ قَالَ وَدِينِ اللَّهِ أَوْ طَاعَتِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ أَوْ أَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ عَرْشِهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْحَلِفُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَغَيْرِهِمْ يَمِينٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِلْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ قَسَمًا كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ كَذَا لَوْ قَالَ وَبَيْتِ اللَّهِ أَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَوْ بِالصَّفَا أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَوْ بِالصَّلَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَذَا الْحَلِفُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَحْلِفُ بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ وَلَا بِالشَّمْسِ وَلَا بِالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَلَا

بِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحْلَفُ إلَّا بِاَللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ .
وَلَوْ قَالَ وَعِبَادَةِ وَحَمْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْحَمْدَ فِعْلُكَ .
وَلَوْ قَالَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِسُورَةِ كَذَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ وَسُورَةُ كَذَا فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ اسْمِ الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ لَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تُنَافِي السُّكُوتَ وَالْآفَةَ .
وَلَوْ قَالَ بِحُدُودِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِحُدُودِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهِ الْحُدُودُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهَا الْفَرَائِضُ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَّا } .

وَلَوْ قَالَ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ أَوْ لَعْنَتُهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ وَالطَّرْدِ عَنْ الرَّحْمَةِ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ مَنْ قَالَ فِي تَخْرِيجِهِ الْقَسَمَ بِالصِّفَاتِ : أَنَّ الصِّفَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَصِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ أَنَّ مَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى فَهُوَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَمَا يُثْبَتُ وَيُنْفَى فَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالتَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَجَعَلَ صِفَةَ الذَّاتِ قَدِيمَةً وَصِفَةَ الْفِعْلِ حَادِثَةً فَقَالَ الْحَلِفُ بِصِفَةِ الذَّاتِ يَكُونُ حَلِفًا بِاَللَّهِ فَيَكُونُ يَمِينًا ، وَالْحَلِفُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَفَصَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَصَّلَتْ بِلُزُومِ النَّقِيصَةِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَمَا لَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى حُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي التَّحْدِيدِ لِأَجْلِ الْكَلَامِ ، فَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ يُنْفَى وَيُثْبَتُ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَكَانَ حَادِثًا وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَزَلِيٌّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَكَانَ قَدِيمًا ، وَمَذْهَبُنَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ وَاَللَّهَ

تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَوْ إلَى الْفِعْلِ فَهَذَا التَّخْرِيجُ وَقَعَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ وَالْحُجَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ فِي تَخْرِيجِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا سَلَكْنَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَمَّا إذَا كُرِّرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى ثَانِيًا ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إنْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا جَمِيعًا وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ يَكُونَ بِدُونِهِ .
فَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى كَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ الْعَطْفِ كَانَ يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مُخْتَلِفًا أَوْ مُتَّفِقًا فَالْمُخْتَلِفُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ ، وَالثَّانِي يَصْلُحُ صِفَةً لِلْأَوَّلِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ لَا بِاسْمِ الذَّاتِ عَلَى حِدَةٍ وَبِاسْمِ الصِّفَةِ عَلَى حِدَةٍ ، وَالْمُتَّفِقُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ وَيَصْلُحُ تَكْرِيرًا وَتَأْكِيدًا لَهُ فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ يَمِينَيْنِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ : اللَّهِ ابْتِدَاءَ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَأَنَّهُ قَسَمٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ أَدْخَلَ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ حَرْفَ عَطْفٍ بِأَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ

كَذَا ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَمَّا عُطِفَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يُجْعَلُ الثَّانِي صِفَةً لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً لِأَنَّ الِاسْمَ يَخْتَلِفُ وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ الْعَالِمُ وَالزَّاهِدُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ فَاحْتَمَلَ الْمُغَايِرَةَ وَاحْتَمَلَ الصِّفَةَ فَلَا تَثْبُتُ يَمِينٌ أُخْرَى مَعَ الشَّكِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ هَذَا يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ يَمِينَيْنِ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إدْخَالَ الْقَسَمِ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ هَلْ يَجُوزُ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ وَالْخَلِيلِ حَتَّى حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } يَمِينٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ إنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { ص } قَسَمٌ ، وَقَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ

} قَسَمٌ آخَرُ ، وَالْحُجَجُ وَتَعْرِيفُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ تُعْرَفُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي إنَّا إذَا جَعَلْنَاهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لَا نَحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ جَوَابٍ آخَرَ بَلْ يَصِيرُ قَوْلُهُ لَا أَفْعَلُ مُقْسَمًا عَلَيْهِ بِالِاسْمَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَسَمًا عَلَى حِدَةٍ لَاحْتَجْنَا إلَى إدْرَاجِ ذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ يَكُونُ يَمِينَيْنِ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، وَحَمَلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ لِتَعَارُفِ النَّاسِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَفِيهِ قُبْحٌ وَيَنْبَغِي فِي الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَاحِدَةً هَكَذَا ذُكِرَ ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَلَكَنَّى أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِاسْمِ الْمُتَّفِقِ ، تَرَكَ مُحَمَّدٌ الْقِيَاسَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ لِمَا زَعَمَ أَنَّ مَعَانِيَ كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ ، هَذَا إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ، الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثَانِيًا ، .
فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ فَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَكَذَا لَوْ أَعَادَهُمَا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ

بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْمِ الثَّانِي عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا أُخْرَى إذْ لَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ أَوْ التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا .
وَقَالَ أَرَدْتُ بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مُحْتَمِلٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فَإِنَّ الْمُعَلَّى رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : فِي رَجُلٍ حَلَفَ فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعَةِ أَيْمَانٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ ، وَمَقْعَدٌ وَاحِدٌ وَمَقَاعِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قَالَ : عَنَى بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيُصَدَّقُ فِي الْيَمِينِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْفِدْيَةِ وَكُلُّ يَمِينٍ قَالَ فِيهَا عَلَيَّ كَذَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ الْقُرْبُ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ كَذَا وَصِيغَةُ هَذَا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَإِذَا أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَحَّ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَكُلُّ يَمِينٍ مُنْفَرِدَةٍ بِالِاسْمِ فَيَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ : قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ

إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مَجُوسِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مُشْرِكٌ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ قَالَ : عَلَيْهِ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَمِينٌ .
وَلَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ هُوَ مَجُوسِيٌّ هُوَ مُشْرِكٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ مَعَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَإِذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَكَرَّرَهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفُ إيجَابٍ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْإِيجَابِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُمَا ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الْكَافِرِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْكَافِرُ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَنِثَ فِي حَالِ الْكُفْرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ بَلْ بِالْمَالِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ وَكَذَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَمَا انْعَقَدَ كَإِيلَاءِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَكَذَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَالْمُسْلِمِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أَنَّهَا لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا لَا تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ وَهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَصَّانِ بِالْعِبَادَاتِ إذْ غَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلَا يَخْتَصُّ سُقُوطُهُ بِأَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ كَالدُّيُونِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلصَّوْمِ فِيهَا مَدْخَلًا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ فَلَا تَجِبُ بِيَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ كَيَمِينِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى لِأَنَّ

الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ التَّحَرُّجُ عَنْ الْكَذِبِ كَالْمُسْلِمِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِيمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِيلَاء إنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُرْبَانِ ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَافِرُ ، وَالطَّلَاقُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ يَمِينُ الْمَمْلُوكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ وَكَذَا كُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَضَرَّر بِصَوْمِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْإِضْرَارَ بِالْمَوْلَى وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْعِتْقِ وَكَذَا الطَّوَاعِيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا فَيَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَكُلِّ تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ وَكَذَا الْجَدُّ وَالْعَمْدُ فَتَصِحُّ مِنْ الْخَاطِئِ وَالْهَازِلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبَقَاؤُهَا أَيْضًا مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْيَمِينِ شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ عَلَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً وَلَا يَبْقَى إذَا صَارَ بِحَالٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَا لِبَقَائِهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً فَهَلْ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ ؟ .
قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً .
وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ شَرْطٌ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِهِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَإِذَا لَا مَاءَ فِيهِ لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ وَهُوَ تَصَوُّرُ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِضَافَةُ إلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَقَّتَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ

كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ شَرْطَ عَدَمِ حِنْثِهِ الْقَتْلَ وَالشُّرْبَ فِي الْمُطْلَقِ وَفِي الْمُوَقِّتِ عَدَمَ الشُّرْبِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَدَمُ فَتَأَكَّدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا وَلَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ لِلْبِرِّ ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ الْيَمِينِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ تَحْقِيقَ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِمَا عَهِدَ وَإِنْجَازَ مَا وَعَدَ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْحَاصِلِ بِتَفْوِيتِ الْبِرِّ وَهُوَ الْحِنْثُ فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبِرُّ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ فَلَمْ يَكُنْ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَائِدَةٌ فَلَا تَنْعَقِدُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِي الْكُوزِ مَاءً وَأَنَّ الشَّخْصَ حَيٌّ فَيَمِينُهُ تَقَعُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَعَلَى إزَالَةِ حَيَاةٍ قَائِمَةٍ وَقْتَ الْيَمِينِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ زَالَتْ تِلْكَ الْحَيَاةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَإِنَّمَا انْعَقَدَ يَمِينُهُ عَلَى مَاءٍ آخَرَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَعَلَى حَيَاةٍ أُخْرَى يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ

تَحْقِيقِ الْبِرِّ ثَابِتًا عَادَةً فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ - هُنَاكَ - الْبِرَّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يُقْدِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَقْدَرَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَلِتَصَوُّرِ وُجُودِهِ حَقِيقَةً انْعَقَدَتْ وَلِلْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِهِ عَادَةً حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي الْيَمِينِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ يَقُولُ الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً يُلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَفِي الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً لَا تَنْعَقِدُ كَذَا فِي الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً ، وَلَنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَفِيمَا قُلْنَاهُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ جَمِيعًا وَفِيمَا قَالَهُ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَإِهْدَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ الْيَوْمَ يَحْنَثُ فِي آخَرِ الْيَوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ كُلَّهُ الْيَوْمَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَحْنَثُ السَّاعَةَ فَإِنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ غَدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ .
فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ يَحْنَثُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْغَدِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ - وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ - هَذَا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً وَقْتَ الْيَمِينِ حَتَّى انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ ثُمَّ فَاتَ فَالْحَلِفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ فِي النَّفْيِ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ أَوْ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الْبِرِّ فِي جَمِيعِ الْبِرِّ فَمَا دَامَا قَائِمَيْنِ لَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ تَحْقِيقِ الْبِرِّ فَلَا يَحْنَثُ فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا يَحْنَثُ لِوُقُوعِ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَقْتَ هَلَاكِهِ وَإِذَا هَلَكَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الْبِرِّ .
وَوَقْتُ فَوَاتِ الْبِرِّ فِي هَلَاكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَقْتُ هَلَاكِهِ ، وَفِي هَلَاكِ الْحَالِفِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ أَوْ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ الْمَاءَ حَتَّى هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ فَالْوَقْتُ نَوْعَانِ مُوَقَّتٌ نَصًّا وَمُوَقَّتٌ دَلَالَةً أَمَّا الْمُوَقَّتُ نَصًّا فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ أَوْ لَأَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ وَالْوَقْتُ قَائِمًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبِرَّ فِي الْوَقْتِ مَرْجُوٌّ فَتَبْقَى الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ وَمَضَى الْوَقْتُ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ

حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ فَفَاتَ الْبِرُّ عَنْ الْوَقْتِ فَيَحْنَثُ .
وَإِنْ هَلَكَ الْحَالِفُ فِي الْوَقْتِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمٌ فَمَضَى الْوَقْتُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ يَقَعُ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَهُوَ مَيِّتٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَيِّتُ لَا يُوصَفُ بِالْحِنْثِ وَإِنْ هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَالْحَالِفُ قَائِمٌ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَبْطُلُ وَيَحْنَثُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحِنْثِ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ أَوْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ ، قِيلَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ فَمَضَى الْوَقْتُ وَالْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَانِ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ فُعِلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ حَنِثَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمُوَقَّتُ دَلَالَةً فَهُوَ الْمُسَمَّى يَمِينَ الْفَوْرِ وَأَوَّلُ مَنْ اهْتَدَى إلَى جَوَابِهَا أَبُو حَنِيفَةَ ثُمَّ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ اسْتَحْسَنَهُ وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ نَصًّا ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الشَّرْطِ بِالْفَوْرِ بِأَنْ خَرَجَ جَوَابًا لِكَلَامٍ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ : تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى فَلَمْ يَتَغَدَّ مَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَغَدَّى لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ التَّغَدِّي عَامًّا فَصَرْفُهُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ

تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَالسُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ .
وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْغَدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَكَذَا إذَا قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَقَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ خَرَجْتِ هَذِهِ الْخَرْجَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْخَرْجَةَ الْمَقْصُودَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخُرُوجَ الْمُطْلَقَ عَنْ الدَّارِ فِي الْيَوْمِ حَيْثُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قِيلَ لَهُ إنَّك تَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جَنَابَةٍ فَقَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ اغْتَسَلَ لَا عَنْ جَنَابَةٍ ثُمَّ قَالَ : عَنَيْتُ بِهِ الِاغْتِسَالَ عَنْ جَنَابَةٍ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهِ عَنْ الْجَوَابِ فَيُقَيَّدُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ إعَادَةٌ .
وَلَوْ قَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ فِيهَا اللَّيْلَةَ عَنْ جَنَابَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ الِاغْتِسَالَ عَنْ جَنَابَةٍ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ حَيْثُ أَتَى بِكَلَامٍ مُفِيدٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَوَابِ وَصَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لَكِنْ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ وَمَعَ هَذَا زَادَ عَلَى قَدْرِهِ

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا قَالَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى الْفَوْرِ قَالَ وَقَوْلُهُ : " لَمْ " يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى قَبْلٍ وَعَلَى بَعْدٍ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَعْدٍ فَهِيَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتَنِي فَلَمْ أُجِبْكَ فَهَذَا عَلَى بَعْدٍ وَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِنْ قَالَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْك فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ الْحَالِفُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَإِنْ أُرَاد بِهِ بَعْدُ وَنَوَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا كَانَ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا قَالَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْكَ فَقَدْ حَمَلَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى الْمَاضِي كَأَنَّهُ رَأَى مَعَانِيَ كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ ضَرَبْتنِي مِنْ غَيْرِ مُجَازَاةٍ لِمَا كَانَ مِنِّي مِنْ الضَّرْبِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا فَإِذَا نَوَاهُ حُمِلَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ إنْ كَلَّمْتَنِي وَلَمْ أُجِبْكَ فَهَذَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَقَدَّمُ الْكَلَامَ فَحُمِلَ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْفَوْرِ عَادَةً .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ كُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَلَا يَطَؤُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ قَالَ هَذَا يَطَؤُهَا سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ وَلَوْ قَالَ مَكَانَ هَذَا إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَهَذَا عَلَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ فَمَتَى وَطِئَهَا بَرَّ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ فَلَا تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ

قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ قَالَ لِغُلَامِهِ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى أَضْرِبَكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَجَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ فَلَمْ يَضْرِبْهُ قَالَ مَتَى مَا ضَرَبَهُ فَإِنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ سَاعَةَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْ لِلشَّرْطِ فَلَا تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْتَرِ الْيَوْمَ عَبْدًا فَأُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ كَذَا فَاشْتَرَى عَبْدًا فَوَهَبَهُ ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ فَأَعْتَقَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ إنَّمَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْأَوَّلِ فَإِذَا أَمْسَى وَلَمْ يُعْتِقْهُ حَنِثَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إنْ اشْتَرَيْتُ عَبْدًا فَعَلَيَّ عِتْقُهُ فَإِنْ لَمْ أُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ وَهَذَا قَدْ اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَدْخُلْ الثَّانِي فِي الْيَمِينِ .
قَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ مِتّ وَلَمْ أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ فَمَاتَ الْحَالِفُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُعْتَقُونَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْحِنْثِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُعْتَقُونَ وَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَخْرُجَ نَفَسُهُ فَيَحْنَثُ قَبْلَ خُرُوجِ نَفَسِهِ يَعْنِي فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيُعْتَقُونَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ تَرْكُ الضَّرْبِ وَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى أَمُوتَ فَغُلَامُهُ حُرٌّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَمُوتَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَاتَ عَتَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ حَنِثَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ لَمْ تُخْبِرْ فُلَانًا بِمَا صَنَعْتَ حَتَّى يَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ فَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ

شَرْطَ الْبِرِّ الْإِخْبَارَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلضَّرْبِ جَزَاءً لَهُ عَلَى صُنْعِهِ وَالْإِخْبَارُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ وَلَا يُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ لِلْغَايَةِ فَجُعِلَ لِلْجَزَاءِ وَقَوْلُهُ حَتَّى يَضْرِبَك بَيَانُ الْغَرَضِ بِمَعْنَى لِيَضْرِبَك فَيَصِيرُ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ أَتَسَبَّبْ لِضَرْبِكَ فَإِذَا أَخْبَرَ بِصَنِيعِهِ فَقَدْ سَبَّبَ لِضَرْبِهِ فَبَرَّ فِي يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ آتِكَ حَتَّى تُغَدِّيَنِي أَوْ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ حَتَّى تَضْرِبَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ أَوْ ضَرَبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ التَّغْدِيَةَ لَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَدْعُو إلَى زِيَادَةِ الضَّرْبِ لَا إلَى تَرْكِهِ وَإِنْهَائِهِ فَلَا يُجْعَلُ غَايَةً وَيُجْعَلُ جَزَاءً لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَلْزَمْك حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ أَوْ حَتَّى تَشْتَكِيَ يَدِي أَوْ حَتَّى تَصِيحَ أَوْ حَتَّى يَشْفَعَ لَك فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَنْهَانِي فُلَانٌ فَتَرَكَ الْمُلَازَمَةَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى حَقُّهُ أَوْ تَرَكَ الضَّرْبَ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى هَهُنَا لِلْغَايَةِ إذْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالضَّرْبُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي إنْهَاءِ الْمُلَازَمَةِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ ، وَالشَّفَاعَةُ وَالصِّيَاحُ وَالنَّهْيُ وَغَيْرُهَا مُؤَثِّرٌ فِي تَرْكِ الضَّرْبِ وَإِنْهَائِهِ فَصَارَتْ لِلْغَايَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا .
وَلَوْ نَوَى بِهِ الْجَزَاءَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا ، وَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ آتِكَ الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك أَوْ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ

لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى هَهُنَا لِلْعَطْفِ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَالِفُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ فَأَضْرِبَكَ أَوْ فَأَتَغَدَّى عِنْدَكَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَبَرُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ عِوَضَ فِعْلِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِعَدَمِهِ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِالْيَوْمِ فَأَتَاهُ وَلَمْ يَتَغَدَّ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبِرَّ مَوْجُودٌ بِأَنْ يَأْتِيَهُ وَيَتَغَدَّى أَوْ يَتَغَدَّى مِنْ غَيْرِ إتْيَانٍ وَوَقْتُ الْبِرِّ مُتَّسِعٌ فَلَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ .
وَقَالَ إنْ لَمْ آتِكَ فَأَتَغَدَّى عِنْدَك وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ مَا دَامَ حَيًّا كَذَلِكَ هَذَا وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ حَتَّى أُجَامِعَكِ مَرَّتَيْنِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَتْهُ فَجَامَعَهَا مَرَّةً وَأَصْبَحَ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ فَأُجَامِعْك مَرَّتَيْنِ سَوَاءٌ فَيَصِيرُ الْمَجِيءُ وَالْمُجَامَعَةُ مَرَّتَيْنِ شَرْطًا لِلْبِرِّ فَإِذَا انْعَدَمَ يَحْنَثُ فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِاللَّيْلِ لَا يَحْنَثُ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَتَّسِعُ عِنْدَ عَدَمِ التَّوْقِيتِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ إنْ رَكِبْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ أُعْطِكَ دَابَّتِي فَعَبْدِي حُرٌّ قَالَ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ إذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّةَ نَفْسِهِ سَاعَتَئِذٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت دَارَكَ فَلَمْ أَجْلِسْ فِيهَا لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَقِيبَ الشَّرْطِ قَالَ وَلَوْ قَالَ إنْ رَأَيْتُ فُلَانًا فَلَمْ آتِكَ بِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ إنْ رَأَيْتُهُ فَلَمْ آتِكَ بِهِ فَإِنَّ الْحَالِفَ حَانِثٌ السَّاعَةَ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى أَوَّلِ رُؤْيَةٍ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَنْ هُوَ مَعَهُ قَالَ الْقُدُورِيُّ وَقَدْ كَانَ يَجِبُ

أَنْ لَا يَحْنَثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِيمَنْ قَالَ لَهُ إنْ رَأَيْت فُلَانًا فَلَمْ أُعْلِمْكَ بِذَلِكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَنْ قَدْ عَلِمَهُ مُحَالٌ .
وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِمَنْ مَعَهُ فَيَصِيرُ كَمَنْ قَالَ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ إنْ لَقِيتُكَ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ سَاعَةَ يَلْقَاهُ وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ اسْتَعَرْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ تُعِرْنِي لِأَنَّ هَذَا عَلَى الْمُجَازَاةِ يَدًا بِيَدٍ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَإِنْ لَمْ أُكَلِّمْ فُلَانًا فَهَذَا مَتَى مَا كَلَّمَهُ بَرَّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَجِيءَ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورٌ تَشْتَبِهُ فَإِنْ لَمْ فِي مَعْنَى فَلَمْ يُحْمَلُ عَلَى مُعْظَمِ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ قَالَ إنْ أَتَيْتَنِي فَلَمْ آتِكِ أَوْ إنْ زُرْتنِي فَلَمْ أَزُرْكَ أَوْ إنْ أَكْرَمْتَنِي فَلَمْ أُكْرِمْكَ فَهَذَا عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِثْلُ فَإِنْ لَمْ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَقَّبُ الزِّيَارَةَ عَادَةً فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْفِعْلَ فَإِنْ قِيلَ أَتَيْتَنِي فَلَمْ آتِكِ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مُشْتَبِهٌ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ لَمْ آتِكَ قَبْلَ إتْيَانِكَ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ لَمْ آتِكَ بَعْدَ إتْيَانِك فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى أَيَّ ذَلِكَ نَوَى مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ حَمْلًا عَلَى مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُلْحَقُ بِالْمُشْتَبِهِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ مَعْنًى .
فَأَمَّا الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى الَّذِي يُعْرَفُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنْ نَوَى خِلَافَ مَا يُعْرَفُ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا

بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَلَّذِي الظَّاهِرُ مِنْهُ قَبْلُ كَقَوْلِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ بَابِ الدَّارِ وَلَمْ أَضْرِبْكَ وَاَلَّذِي ظَاهِرُهُ بَعْدُ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا وَلَمْ أُكَافِئْكَ بِمِثْلِهِ وَالْمُحْتَمِلُ كَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ وَلَمْ تُكَلِّمْنِي فَهَذَا يَحْتَمِلُ قَبْلُ وَبَعْدُ فَأَيَّهُمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَوَى أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَطَقَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا لَهُ فَهُوَ عَلَى الْجَوَابِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ هَذَا أَوْ إلَّا أَنْ أُحِبَّ غَيْرَ هَذَا أَوْ قَالَ إنْ أَعَانَنِي اللَّهُ أَوْ يَسَّرَ اللَّهُ أَوْ قَالَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ أَوْ بِتَيْسِيرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَوْصُولًا لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا انْعَقَدَتْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَشَرَائِطِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ أَسْتَطِيعَ فَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُ فَلَا يَحْنَثُ أَبَدًا لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَنَا فَلَا تُوجَدُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ ، وَإِنْ عَنَى بِهِ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِطَاعَةِ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ } .
وَقَالَ { إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْفِعْلِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ الْعَوَارِضِ وَالِاشْتِغَالِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ، .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَمِينِ أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى قَالَ : الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ يَكْفُرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى جُعِلَتْ لِلتَّعْظِيمِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْحَالِفُ بِالْغَمُوسِ مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مُسْتَخِفٌّ بِهِ وَلِهَذَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالطَّوَاغِيتِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَتَبْجِيلًا فَالْوِزْرُ لَهُ فِي الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّعَمُّدَ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَسْمَعُ اسْتِشْهَادَهُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا - مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمُسْتَخِفٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ أَهْلِ النِّفَاقِ أَنَّ إظْهَارَهُمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اسْتِخْفَافٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ تَعْظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَصِدْقًا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْزَمُهُمْ الْعُقُوبَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَكَذَا هَذَا وَلَكِنْ نَقُولُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ الْوُصُولُ إلَى مُنَاهُ وَشَهْوَتِهِ لَا الْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُؤَالِ السَّائِلِ إنَّ الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ كَيْفَ لَا يَكْفُرُ الْعَاصِي ؟ فَقَالَ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الطَّاعَةِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنْ مَا فَعَلَهُ قَصْدًا إلَى طَاعَتِهِ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْقَصْدِ إذْ الْكُفْرُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57