كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

يُسَمِّ إحْدَاهُمَا ، إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَجْهُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ فِي الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَبَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَمَنْ يَرْكَبُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَحْمُولِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَحَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمَلًا فِيهِ رَجُلَانِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا مِنْ الْوِطَاءِ وَالدُّثُرِ وَقَدْ رَأَى الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يَرَ الْوِطَاءَ وَالدُّثُرَ ، وَأَحَدُهُمَا زَامِلَةٌ يَحْمِلُ عَلَيْهَا كَذَا كَذَا مَحْتُومًا مِنْ السَّوِيقِ ، وَالدَّقِيقِ وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ الزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْمَعَالِيقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَا يَكْتَفِي بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ، ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ بِالْقِيَاسِ ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عَمَلًا مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِسْوَةِ وَالدِّثَارِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إنَّ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ ذَلِكَ إسْقَاطًا مِنْهُمْ اعْتِبَارَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ مِنْ صَالِحِ مَا يَحْمِل النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْهَدَايَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ وَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَإِنْ بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَوَصَفَ ذَلِكَ ، وَالْهَدَايَا أَحَبُّ إلَيْنَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْخُصُومَةِ لِذَلِكَ قَالَ : أَحَبُّ إلَيْنَا ، وَلِكُلِّ مَحَلٍّ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَإِدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ

مَا يَكُونُ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ ، وَكَذَا الْخَيْمَةُ وَالْقُبَّةُ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ لِمَا قُلْنَا ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ ، وَالثَّوْبِ لِلُّبْسِ ، وَالْقِدْرِ لِلطَّبْخِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَيَانُ نَوْعِ الْخِدْمَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَخْتَلِفُ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَلْبَسُ وَمَا يَطْبُخُ فِي الْقِدْرِ ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ ، وَالْقِدْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطْبُوخِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَإِنْ اخْتَصَمَا حِينَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ يَرْكَبَهَا أَوْ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ أَوْ يَطْبُخَ فِي الْقِدْرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، فَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وَحَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ وَلَبِسَ الثَّوْبَ ، وَطَبَخَ فِي الْقِدْرِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ مَا سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ بِالزِّرَاعَةِ ، وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ وَالطَّبْخِ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ ، فَقَدْ اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ فَيَجِبُ كَمَالُ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ فَسَخَ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ ثُمَّ زَرَعَ أَوْ حَمَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا نَقَضَ

الْعَقْدَ فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَصَارَ غَاصِبًا ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَمِنْهَا : بَيَانُ الْعَمَلِ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَمَلِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ ، الْعَقْدُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَامِلًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الْعَمَلَ مِنْ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّعْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ ، وَكَذَا بَيَانُ الْمَعْمُولِ فِيهِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، إمَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ ، أَوْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فِي ثَوْبِ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَبَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فِي إجَارَةِ الرَّاعِي مِنْ الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ وَعَدَدِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْمُولِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْحَفْرِ وَعُمْقِ الْبِئْرِ وَعَرْضِهَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُمْقِ الْمَحْفُورِ وَعَرْضِهِ وَمَكَانِ الْحَفْرِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْمُدَّةِ ؟ أَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ فَيُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ .
وَأَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخَيَّاطِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ أَثْوَابًا مَعْلُومَةً لِيَخِيطَهَا أَوْ لِيُقَصِّرَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ .
وَأَمَّا فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِ الْمَعْمُولِ فِيهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فَقَطْ وَبَيَانُ

الْمُدَّةِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ شَرْطُ جَوَازِهِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْخِدْمَةُ ، فَمَا جَازَ فِيهِ جَازَ فِي الظِّئْرِ وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ فِيهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِي الظِّئْرِ أَنْ تُسْتَأْجَرَ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَلَوْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ { : كُنَّا نَبِيعُ فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ } وَالسِّمْسَارُ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً ، وَكَذَا إذَا قَالَ : بِعْ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَلَكَ دِرْهَمٌ وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، قَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ : سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَاضِي رَجُلًا مُشَاهَرَةً عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْحُدُودَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَاهَرَةٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُشَاهَرَةً كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِيهَا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ بَقِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْحُدُودِ الَّتِي سَمَّاهَا

غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ مَجْهُولٌ .

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا لِيَقْتُلَ الْمُرْتَدِّينَ وَالْأُسَارَى لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ جَازَ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي ، وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِيهِمَا .
هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَصْحَابِنَا " أَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَمَحَلُّهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعُنُقُ إذْ لَا يُبَاحُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ وَذَبْحِ الشَّاةِ ، وَلَهُمَا أَنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْعُنُقِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمَفْصِلُ ، وَكَذَا مَحَلُّ الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ وَالْوَدَجَانِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ، وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ اُقْتُلْ هَذَا الذِّئْبَ أَوْ هَذَا الْأَسَدَ وَلَك دِرْهَمٌ وَهُمَا صَيْدٌ لَيْسَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَتَلَهُ : فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا أُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي يَدِهِ فَيُحْتَاجَ فِي قَتْلِهِمَا إلَى الْمُعَالَجَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهِ وَعَمَلُ الْأَجِيرِ يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ ، أَوْ لِتُقَصِّرَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَفِيزَ دَقِيقٍ الْيَوْمَ ، أَوْ قَالَ : اسْتَأْجَرْتُك هَذَا الْيَوْمَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ ، أَوْ لِتُقَصِّرَ ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَدَّمَ الْيَوْمَ أَوْ أَخَّرَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ ،

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ أَيَّامًا مُسَمَّاةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْعَمَلُ مَعْلُومٌ ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تَكُنْ الْمُدَّةُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا ، فَذِكْرُهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ أَيْ الْيَوْمَ فَلَهُ كَمَالُ الْأَجْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ ، كَمَا إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيُقَطِّعَهُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا ، أَوْ اكْتَرَى مِنْ رَجُلٍ إبِلًا إلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ إلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ كُلُّ بَعِيرٍ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ، ثُمَّ إنْ وَفَى بِالشَّرْطِ أَخَذَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَهُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، أَعْنِي الْعَمَلَ وَالْمُدَّةَ أَمَّا الْعَمَلُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِبَازَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ مَا يَخْبِزُ جَازَ وَكَانَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ ، وَالْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجِيرًا خَالِصًا ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا ، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ

مَجْهُولًا ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِي هَذَا لَيْسَ جَعْلُ الْوَقْتِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ صِفَةِ الْعَمَلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْيَوْمِ وَعَمِلَ فِي الْغَدِ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَلَوْ قَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى مَكَّةَ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً لَمْ يَجُزْ وَعَلَى هَذَا أَنْوَاعُ الْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَقَوَّمَيْنِ بِبَدَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ رَدَدْت الْآبِقَ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا ، وَإِنْ رَدَدْتَهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ خِطْتَ هَذَا الْآخَرَ فَبِدِرْهَمٍ ، وَعَمَلُهُمَا سَوَاءٌ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : إنْ سِرْت عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ سِرْت إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ ، وَالْمَسَافَةُ سَوَاءٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ عَيْنٍ فَنَعَمْ لَكِنْ فُوِّضَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ

قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فَالْإِجَارَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقْبَلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْبَيْعُ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْبَيْعَ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ لَهُ : إنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمَانِ ، أَوْ قَالَ لِصَبَّاغٍ : إنْ صَبَغْت هَذَا الثَّوْبَ بِعُصْفُرٍ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ صَبَغْته بِزَعْفَرَانٍ فَلَكَ دِرْهَمَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ إيفَاءِ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ ؛ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمَلِ ، وَحِينَ يَأْخُذُ فِي أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْأَجْرُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، فَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ قَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا عَلَى أَنَّك إنْ قَعَدْت فِيهَا حَدَّادًا فَأَجْرُهَا عَشْرَةٌ ، وَإِنْ بِعْت فِيهَا الْخَزَّ فَخَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخِيرِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِالسُّكْنَى وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ ، وَحَالَةُ التَّخْلِيَةِ لَا يَدْرِي مَا يَسْكُنُ فَكَانَ الْبَدَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الرُّومِيِّ ، وَالْفَارِسِيِّ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَجِبُ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْبَدَلُ وَيَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي خِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السُّكْنَى وَعَمَلَ الْحِدَادَةِ مُخْتَلِفَانِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عَلَى الِانْفِرَادِ

فَكَذَا عَلَى الْجَمْعِ ، وَقَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ هَهُنَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ عِنْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ الْغَالِبِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، عَلَى أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ ، وَلَمْ تُوجَدْ زِيَادَةُ الضَّرَرِ وَأَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ مَعْلُومٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ ، وَهَذَا جَوَابُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا كَانَ أَجْرُهُ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ بِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ جَائِزٌ ، وَأَيُّ التَّعْيِينِ اُسْتُوْفِيَ وَجَبَ أَجْرُ ذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ وَإِنْ أَمْسَكَ الدَّارَ وَلَمْ يَسْكُنْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْمُسَمَّيَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ إلَّا أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَعِيرًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْقَصْرِ بِخَمْسَةٍ وَإِلَى الْكُوفَةِ بِعَشْرَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ النِّصْفَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَتْ النِّصْفَ فَحَالَ مَا يَسِيرُ

يَصِيرُ الْبَدَلُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ خَمْسَةٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ ( 1 ) أَوْ أَكْثَرَ فَالْأُجْرَةُ حَالَ مَا يَسِيرُ مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ فَالْأُجْرَةُ خَمْسَةٌ وَإِنْ سَارَ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ أَعْطَى خَيَّاطًا ثَوْبًا فَقَالَ : إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الشَّرْطُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرُهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ ، وَقَالَ زُفَرُ : الشَّرْطَانِ بَاطِلَانِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، فَنَتَكَلَّمُ مَعَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا أَصْحَابَنَا الثَّلَاثَةَ فِيهِ ، وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا ، وَفَسَادُ الشَّرْطِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَمَنْ عَقَدَ إجَارَةً صَحِيحَةً وَإِجَارَةً فَاسِدَةً .
وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ ، كَمَا لَا يَفْسُدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلَانِ مُتَفَاوِتَانِ فِي الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جُعِلَ

مَشْرُوطًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِلْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلًا آخَرَ وَعَمِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْأَوَّلِ ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْبَدَلِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا فِي الثَّانِي لَمَا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى ، وَإِذَا اجْتَمَعَ بَدَلَانِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَكَ دِرْهَمٍ أَوْ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْأَجْرُ مَجْهُولًا فَوَجَبَ فَسَادُ الْعَقْدِ ، فَإِذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ ، وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ الصَّحِيحَةُ ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى ، وَالْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا دِرْهَمٌ إنَّمَا الدِّرْهَمُ مُسَمًّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ عَقْدٌ آخَرُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ قَائِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيُعْمَلُ بِهِمَا فَتُعْتَبَرُ الْأُولَى لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ ، وَالثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ، فَإِنْ خَاطَ نِصْفَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنِصْفَهُ فِي الْغَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْيَوْمِ وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْغَدِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ

مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْغَدِ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ، فَبِتَأْخِيرِهِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْلَى ، فَإِنْ قَالَ : إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي إمْلَائِهِ أَنَّهُ إنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدٌ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ قَالَ : إنْ خِطْته أَنْتَ فَأَجْرُكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خَاطَهُ تِلْمِيذُكَ فَأَجْرُك نِصْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَالْخِيَاطَةُ الرُّومِيَّةُ ، وَالْفَارِسِيَّةُ سَوَاءٌ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهَا يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَهُوَ سُكْنَى شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَعْقُودِ بِدُونِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآبِقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهَا جَائِزَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمَشَاعِ ، كَذَا هَذَا ، فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ بِسَبَبِ الشِّيَاعِ ، وَالْمَشَاعُ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِالْمُهَايَأَةِ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ ، وَكَذَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرِيكِ أَوْ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فَكَذَا الْمُقَارِنُ ؛ لِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُقَارِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ يَحْدُثُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مُبْتَدَأً .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بِتَسْلِيمِ الْمَشَاعِ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورٍ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِسَهْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ الْبَاقِي ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَشَاعِ بِالتَّهَايُؤِ فَنَقُولُ لَا يُمْكِنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالنِّصْفِ

فِي كُلِّ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ بِالزَّمَنِ انْتِفَاعٌ بِالْكُلِّ فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالتَّهَايُؤُ بِالْمَكَانِ انْتِفَاعٌ بِرَفْعِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ هَذَا النِّصْفِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَنِصْفَهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَيْضًا فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا الْعَقْدِ بِالْمُهَايَأَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُهَايَأَةَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ ، وَلَا عَقْدَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فَإِنَّ بَيْعَ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا وَلِهَذَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَأْجِرِ مُنْتَفِعًا بِهِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ مِنْ الشَّرِيكِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ بِدُونِ الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ الدَّارِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَعْضُهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَبَعْضُهَا بِسَبَبِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا الشُّيُوعُ الطَّارِئُ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ كَالْمُقَارِنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَفْسُدُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ

الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ ، وَوَجْهُهَا أَنَّ عَدَمَ الشُّيُوعِ عِنْدَهُ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْتَرَطُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ كَالْخُلُوِّ عَنْ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ كُلُّهَا لِرَجُلٍ فَأَجَرَ نِصْفَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبُهُ مِنْ رَجُلٍ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ذَكَرَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَجَرَ الرَّجُلُ بَعْضَ مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى تَقَعُ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَبَيْنَ الْمُؤَاجِرِ مُدَّةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُؤَاجِرُ الْأَجْرَ مَعَ كَوْنِ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُؤَاجِرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَأُجْرَتُهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعَارَهَا ثُمَّ أَجَرَهَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَانِعِ يَعُمُّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْمَانِعَ ثَمَّةَ خَصَّ الْمُحْتَمِلَ لِلْقِسْمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَلَوْ آجَرَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقُسِّمَ وَسَلِمَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْجِذْعَ فِي السَّقْفِ ثُمَّ نَزَعَ وَسَلِمَ وَكَمَا لَوْ وَهَبَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ

يَجُزْ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَدْخُلُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَيَسْتَوْفِيهَا مِنْ غَيْرِ مُهَايَأَةٍ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ حَتَّى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ لَا تُنْقَضُ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ وَإِنْ صَارَتْ مُشَاعَةً ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشُّيُوعِ الطَّارِئِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا يَجُوزُ رَهْنُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ وَهِبَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لِعَدَمِ الشُّيُوعِ عِنْدَ الْقَبْضِ ، وَكَذَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَاحِدِ مِنْ الِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْآجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شِيَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ الشِّيَاعُ لِضَرُورَةِ تَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ قِسْمَةَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّهَايُؤِ فَيَنْعَدِمُ الشُّيُوعُ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ حَتَّى اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ بَقِيَتْ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ كَمَا كَانَتْ ، وَيَجُوزُ رَهْنُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ فَجَمِيعُ الرَّهْنِ يَكُونُ وَثِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِينَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الرَّهْنِ .
وَأَمَّا هِبَةُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يَقَعُ بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْآجِرِ أَوْ شَجَرٌ أَوْ قَصَبٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَمْ تَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ ،

وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا رُطَبَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَلْعُ الرُّطَبَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ فَإِنْ قَلَعَ رَبُّ الْأَرْضِ الرُّطَبَةَ فَقَالَ لِلْمُسْتَأْجِرِ : اقْبِضْ الْأَرْضَ فَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ إذَا نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَإِنْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا عَلَى تِلْكَ الْإِجَارَةِ وَطَرَحَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْ فَرْقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُؤَاجِرُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَار التَّرْك ، وَوَجْه الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعَةُ ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تُمْكِنُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ ، وَالتَّأْخِيرِ فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا يَقِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونُ الْكُلُّ كَمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا مَضَى بَعْضُهَا فَقَدْ تُغَيَّرُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْعَقْدِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِخِلَافِ إجَارَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا السُّكْنَى وَسُكْنَى كُلِّ يَوْمٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِيَوْمٍ آخَرَ فَلَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُدَّةِ فِيهَا عَلَى بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَاقِي فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى أَطْرَافَ رُطَبَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرُّطَبَةِ

مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَتْ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِمِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَاسْتِئْجَارُ بُقْعَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ فَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ فِيهَا زَرْعُ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ اشْتَرَى الرُّطَبَةَ بِأَصْلِهَا لِيَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِتَبْقِيَتِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَهُنَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مَا هُوَ فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً فِيهَا ثَمَرٌ بِثَمَرِهَا عَلَى أَنْ يَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ فَبَقَّاهَا فِيهَا جَازَ لِمَا قُلْنَا قَالَ مُحَمَّدٌ : وَإِنْ اسْتَعَارَ الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ بِالْإِعَارَةِ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ فَيَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ لِلْإِنْزَاءِ وَاسْتِئْجَارِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ لِلِاصْطِيَادِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ الْفَحْلِ عَلَى الضِّرَابِ وَالْإِنْزَالِ وَلَا إجْبَارُ الْكَلْبِ وَالْبَازِي عَلَى الصَّيْدِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ تَجُزْ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ ، وَالشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِوَاحِدٍ بَلْ بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَشَبَةً بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مُدَّةً بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ لِمَا مَرَّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالصَّنَائِعِ

أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَإِنْ شِئْتَ أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ وَخُرِّجَتْ الْمَسَائِلُ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ فَافْهَمْ .

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا كَاسْتِئْجَارِ الْإِنْسَانِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ ، وَكَاسْتِئْجَارِ الْمُغَنِّيَةِ ، وَالنَّائِحَةِ لِلْغِنَاءِ ، وَالنَّوْحِ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِكِتَابَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ أَنَّهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ نَفْسُ الْغِنَاءِ ، وَالنَّوْحِ لَا كِتَابَتُهُمَا وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ لِيَسْجُنَهُ أَوْ لِيَضْرِبَهُ ظُلْمًا وَكَذَا كُلُّ إجَارَةٍ وَقَعَتْ لِمَظْلَمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِقَطْعِ عُضْوٍ جَازَ .
لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ السِّكِّينَ عَلَيْهِ فَيَقْطَعَهُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقِصَاصٍ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَتَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ يَقُولُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ هُوَ حَزُّ الرَّقَبَةِ وَالرَّقَبَةُ مَعْلُومَةٌ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقَتْلَ بِضَرْبِ الْعُنُقِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي عَنْ الْمَضْرُوبِ فَرُبَّمَا يُصِيبُ الْعُنُقَ وَرُبَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَصَابَ كَانَ مَشْرُوعًا وَإِنْ عَدَلَ كَانَ مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُثْلَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَشْقِيقِ الْحَطَبِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي فَكُلُّهُ مُبَاحٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالذَّبْحُ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ بِوَضْعِ السِّكِّينِ عَلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْيَدِ وَهُوَ الْمِفْصَلُ وَإِمْرَارِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الذَّبْحُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ

اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيِّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ أَوْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا لِيَخْدُمَهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةَ الذِّمِّيِّ أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ اسْتِذْلَالٌ فَكَأَنَّ إجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إذْلَالًا لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ خُصُوصًا بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ .
وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا الْخَلْوَةُ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ .
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِنَقْلِ الْمَيْتَاتِ وَالْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ أَذِيَّتِهَا عَنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ لَتَضَرَّرَ بِهَا النَّاسُ وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِأُجْرَةِ الْكَنَّاسِ أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُخْرِجَ لَهُ حِمَارًا مَيِّتًا ، أَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِ الْمَيِّتِ الْكَافِرِ إلَى الْمَقْبَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ جِيفَةٌ فَيَدْفَعُ أَذِيَّتَهَا عَنْ النَّاسِ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ .
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ : اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةِ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَحْمِلُهُ إلَى مَوْضِعٍ فَيَدْفِنُهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَرَادَ بِذَلِكَ : إذَا اسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى

بَلَدٍ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا أَجْرَ لَهُ وَقُلْت أَنَا : إنْ كَانَ الْحَمَّالُ الَّذِي حَمَلَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ جِيفَةٌ ؛ فَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْأَجِيرَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جِيفَةٌ فَقَدْ نَقَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهُ ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ غَرُّوهُ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَالْغَرُورُ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ نَقْلُ الْجِيفَةِ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي نَقْلِهَا لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ رَفْعِ أَذِيَّتِهَا ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ كَنَقْلِ الْمَيْتَةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا يَحْمِلُ لَهُ الْخَمْرَ فَلَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ لَا أَجْرَ لَهُ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَلِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَشْرَةً : مِنْهُمْ حَامِلُهَا وَالْمَحْمُولُ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ نَفْسَ الْحَمْلِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ حَمْلَهَا لِلْإِرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ مُبَاحٌ وَكَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الشُّرْبُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا حُكْمَ لَهُ كَعَصْرِ الْعِنَبِ وَقَطْفِهِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، وَيُكْرَهُ أَكْلُ أُجْرَتِهِ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْإِمَاءِ لِلزِّنَا ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ : فِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { - : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ

تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، } .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ } وَهُوَ أَجْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزِّنَا وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِلْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مُبَاحٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ } ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِدَنَاءَةِ الْفِعْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : إنَّ لِي حَجَّامًا وَنَاضِحًا فَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ دِينَارًا } وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ أَبَاهُ لِيَخْدُمَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ أَبِيهِ وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا اسْتَأْجَرَهُ ابْنُهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْأَبِ وَاجِبٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الدِّينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : - عَزَّ وَجَلَّ { - وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } ، وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا وَخَرَّجْتَهَا عَلَيْهِ فَقُلْت : وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ لَكِنَّ فِي هَذَا شُبْهَةَ التَّدَاخُلِ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّنَاعَةُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكُهُ نَحْوُ مَا إذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ طَعَامٌ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَالطَّعَامُ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَ صَاحِبِهِ أَوْ دَابَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى ذَلِكَ ؛ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِذَا حَمَلَ لَا أَجْرَ لَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : هَذِهِ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْأَجْرَ تَابِعٌ نِصْفَ مَنْفَعَةِ الْحَمْلِ الشَّائِعَةِ مِنْ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَتَصِحُّ فِي الشَّائِعِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ - وَهُوَ الْحَمْلُ - وَإِنْ صَادَفَ مَحَلًّا مُشْتَرَكًا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَيَسْتَحِقُّهَا بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الشَّائِعِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ نِصْفِ الطَّعَامِ تَبَايُعًا وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ يَقِفُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا لَهُ لِيَضَعَ فِيهِ طَعَامًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَوْ سَفِينَةً أَوْ جُوَالِقًا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ ثَمَّةَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْوَضْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ السَّفِينَةَ وَالْبَيْتَ وَالْجُوَالِقَ وَلَمْ يَضَعْ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْحَمْلِ بِنَفْسِهِ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي طَعَامٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا سَفِينَةٌ وَأَرَادَا أَنْ يُخْرِجَا الطَّعَامَ مِنْ بَلَدِهِمَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ

السَّفِينَةِ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَطْحَنَا الطَّعَامَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الرَّحَى الَّذِي لِشَرِيكِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ أَنْصَافَ جُوَالِقِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ الطَّعَامَ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ إجَارَةَ الْمَشَاعِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ إلَّا بِالْعَمَلِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْحَمْلِ مُشْتَرَكَةً وَمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ لِوَضْعِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَفِقْهُ هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِيهِ إلَّا بِالْعَمَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ إيفَاءِ الْعَمَلِ ، وَلَا تَمْكِينَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ وَمَا لَا يَقِفُ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِدُونِهِ ؛ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ .

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ إلَى مَكَان مَخْصُوصٍ بِقَفِيزٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ فَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا حَمَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ قَفِيزًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَى الْأَجِيرِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَفْضَالٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ وَلِحَقِّ الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ السَّابِقَةِ .
لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَنْ قَضَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ قِبَلَهُ الْأَجْرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ .
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ فَلَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَأَ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ قَوْسًا فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ قَالَ : لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَرُدَّهُ } ، وَلَا عَلَى الْجِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ عُمُومِ النَّفِيرِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ وَإِذَا شَهِدَ

الْوَقْعَةَ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَثَلُ مَنْ يَغْزُو فِي أُمَّتِي وَيَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَيْهِ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعَ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا } ، وَلَا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ { : آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا وَلِأَنَّ } الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْأَذَانِ ، وَالْإِقَامَةِ ، وَالْإِمَامَةِ ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَعَنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الرَّبُّ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } فَيُؤَدِّي إلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَقَالَ - تَعَالَى { - : وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أَيْ عَلَى مَا تُبَلِّغُ إلَيْهِمْ أَجْرًا وَهُوَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } فَكَانَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُبَلِّغًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا ؛ فَكَذَا لِمَنْ يُبَلِّغُ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ مِنْهُ مَعْنًى وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ وَكَذَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَيَجُوزُ عَلَى حَفْرِ الْقُبُورِ .
وَأَمَّا عَلَى حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ

جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ يُوجَدُ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ لِيَخْدُمَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا وَالْأَبُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَ ابْنَهُ مِنْ مَوْلَاهُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ ، وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَعَلَ مَا كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَجِيرُ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْجَارٌ عَلَى خِدْمَةِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا اللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى أَمْرٍ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَاسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ جَازَ كَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتَيْنِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِوَلَدِهِ مِنْ

ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اللَّاتِي لَهُنَّ حَضَانَتُهُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَلَا نَفَقَةَ لَهُنَّ عَلَى أَبُ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ لِتُرْضِعَ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا خِدْمَةُ وَلَدِ غَيْرِهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ خَادِمَ أُمِّهِ فَخَادِمُهَا بِمَنْزِلَتِهَا فَمَا جَازَ فِيهَا جَازَ فِي خَادِمِهَا وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهَا لَمْ يَجُزْ فِي خَادِمِهَا ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِمَنْفَعَةِ خَادِمِهَا فَصَارَ كَنَفَقَتِهَا وَكَذَا مُدَبَّرَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبَتَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ الْمُكَاتَبَةِ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الْأَجِيرِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ لِرَعْيِ غَنَمِهَا ؛ لِأَنَّ رَعْيَ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقُلْت : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَنْتَفِعَ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْإِفْضَالِ لَا الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِيمَا يَعْمَلُهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ ، وَالطَّاعَاتِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً أَوْ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ مَوْعُودٌ لِلْمُطِيعِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَنْتَفِعُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَطْحَنَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ بِرُبُعٍ مِنْ دَقِيقِهَا أَوْ لِيَعْصِرَ

لَهُ قَفِيزًا مِنْ سِمْسِمٍ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ دُهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ } وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَائِكَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ الْحِيَاكَةُ وَكَذَا هُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مَنْهِيًّا وَإِذَا حَاكَهُ فَلِلْحَائِكِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِاسْتِيفَائِهِ الْمَنْفَعَةَ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ جَوَّزَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَنَصْرُ بْنُ يَحْيَى .

وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَقْصُودَةً يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَجْرِي بِهَا التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِظْلَالِ بِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْ الشَّجَرِ وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَةَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ الشَّجَرِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَبْقِيَةُ الثَّمَرِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا ذَلِكَ الشَّجَرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجَرًا بِاسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا لِيَبْسُطَهَا بِبَيْتٍ لِيُزَيِّنَ بِهَا وَلَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ بَسْطَ الثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ لَيْسَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَجْنُبَهَا يَتَزَيَّنُ بِهَا : فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْدَ الدَّابَّةِ لِلتَّزَيُّنِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُزَيَّنَ الْحَانُوتُ ، وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمِسْكِ ، وَالْعُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَشْمُومَاتِ لِلشَّمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُؤَاجِرِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَبْضِهِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ } وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَتَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ } وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَمَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَمَا لَا فَلَا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَالْأَصْلُ فِي شَرْطِ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } وَالْعِلْمُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ أَوْ بِالْبَيَانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَيَكُونُ تَعْيِينُهَا كِنَايَةً عَنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ ، وَالْقَدْرِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ؛ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَالثَّبَاتُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ ، وَالنَّوْعِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ إلَّا أَنَّ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا نَقْدٌ وَاحِدٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى ذِكْرِ النَّوْعِ ، وَالْوَزْنِ وَيُكْتَفَى بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَيَقَعُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَوَزْنِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ يَقَعُ عَلَى النَّقْدِ

الْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ ؟ فَفِي الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجَلَانِ فَإِنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ جَازَ وَثَبَتَ الْأَجَلُ كَالسَّلَمِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَازَ كَالْقَرْضِ .
وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا مُؤَجَّلًا فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ السَّلَمُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ كَالسَّلَمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِأَنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّعْجِيلُ فَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيهَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّمَنِ إذَا كَانَ عَيْنًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْقُولًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ،

وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِطَعَامِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِعَلْفِهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ أَوْ الْعَلَفَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَالْقِيَاسُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَهِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْوَالِدَةُ مَنْكُوحَةً أَوْ مُطَلَّقَةً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أَيْ : الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلُودِ ، وقَوْله تَعَالَى { - : وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } نَفَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْجُنَاحَ عَنْ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُمَا : الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةٌ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مَعَ الْأَظْآرِ ، وَالتَّوْسِيعُ عَلَيْهِنَّ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ الْآجِرُ تَطْيِينَ الدَّارِ وَمَرَمَّتَهَا أَوْ تَعْلِيقَ بَابٍ عَلَيْهَا أَوْ إدْخَالَ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَتَصِيرُ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَكَذَا إذَا آجَرَ أَرْضًا وَشَرَطَ كَرْيَ نَهْرِهَا أَوْ حَفْرَ بِئْرِهَا أَوْ ضَرْبَ مُسَنَّاةٍ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَإِذَا شُرِطَ عَلَى

الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ جَعَلَهُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى ، وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ ، وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ بِالزِّرَاعَةِ حَتَّى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةِ بِالرُّكُوبِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَكُنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفَعَتَيْنِ مُعَيَّنَةً بَلْ هِيَ مَعْدُومَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ أَحَدِ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَيَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ ، وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا كَإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ : إنَّك أَطَلْتَ الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْكَ الْحَيْرَةُ وَجَالَسْتَ الْجُبَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةً أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَيْعَ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي جِنْسَيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى النِّسْبَةِ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَهُ وَتَعْلِيلُ مَنْ عَلَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعْدُومَتَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَكَانَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ غَيْرَ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ فِي الذِّمَّةِ أُخِّرَ بِالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ بِتَغْيِيرِ مُقْتَضَى

مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَأَمَّا مَا لَا وُجُودَ لَهُ وَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ إلَى وَقْتٍ فَلَا يُسَمَّى دَيْنًا وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ هِيَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ تَقَعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ شَهْرًا بِخِدْمَةِ أَمَةٍ كَانَ فَاسِدًا لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ثُمَّ فِي إجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ إذَا خَدَمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ : الظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْمَنْفَعَةَ بِجِنْسِهَا وَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فَقَدْ جَعَلَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَكَانَ رَاضِيًا بِبَذْلِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا بَدَلٍ ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِمَا نَذْكُرُ تَحْقِيقَهُ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ بَدَلٌ رَأْسًا بِأَنْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَلَمْ يُسَمِّ عِوَضًا أَصْلًا فَإِذَا سَمَّى الْعِوَضَ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ أَوْلَى وَقَالُوا فِي عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ تَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ فِيهِ فَخَدَمَ أَحَدَهُمَا يَوْمًا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ بَلْ هُوَ إفْرَازٌ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْعَبْدَيْنِ لِعَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْخِيَاطَةِ ، وَالصِّيَاغَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَخِيطُ مَعَهُ شَهْرًا عَلَى أَنْ يَصُوغَ نَصِيبَهُ مَعَهُ فِي الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ

اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إذَا كَانَا فِي عَبْدَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُهَايَأَةٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ وَالْمُهَايَأَةُ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُطْلَقَةِ فَأَمَّا أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَخُلُوُّهُ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ حَتَّى لَوْ أَجَرَهُ دَارِهِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ ، وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ .
يَكُونُ رِبًا أَوْ فِيهَا شُبْهَةُ الرِّبَا وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا شَرْطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَإِصْلَاحِ مِيزَابِهَا وَمَا وَهَى مِنْهَا وَإِصْلَاحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَفِي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَطَعَامِ الْعَبْدِ وَعَلْفِ الدَّابَّةِ فِي إجَارَةِ الْعَبْدِ ، وَالدَّابَّةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُلَائِمُهُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِمَّا سُمِّيَ أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَسْكُنَ نَفَى مُوجَبَ الْعَقْدِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا .
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْأَجْرِ رَأْسًا إنْ لَمْ يَسْكُنْ وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ إنْ سَكَنَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ

هِيَ التَّمْكِينُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا فَأَشْبَهَ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ الْغَصْبُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ هُنَاكَ فَتَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ فَلَئِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُنْتَقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى فَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ إذَا كَانَ الْأَجْرُ مُسَمًّى وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى ، مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلُهَا : إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الرِّوَايَةَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَالَ : إنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ يَجْعَلَا الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ حَيْثُ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَسْكُنَ ، وَلَا بِمُقَابَلَةِ التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةً أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ : لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِدُونِ الِانْتِفَاعِ فَعِنْدَ الِانْتِفَاعِ أَوْلَى وَلَوْ آجَرَهُ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ دَابَّتَهُ وَشَرَطَ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ جَازَ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا مُخَالِفًا لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ عَلَى

أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَوْ آجَرَ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا جَازَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ مَعْلُومًا وَالْكَفِيلُ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ .

وَأَمَّا شَرْطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ لَازِمًا مِنْ الْأَصْلِ ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى اللُّزُومِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ .
وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ الْقَبْضِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ كَانَ ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْعَقْدُ حَتَّى قَالُوا فِي الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ دَلَالَةً فَتَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجَرُ مَرْئِيَّ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَمْ يَرَهَا ثُمَّ رَآهَا فَلَمْ يَرْضَ بِهَا أَنَّهُ يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا بَطَلَ خِيَارُهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ .

وَأَمَّا الثَّانِي : فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : سَلَامَةُ الْمُسْتَأْجَرِ عَنْ حُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ لَازِمًا حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ أَوْ دَابَّةً يَرْكَبُهَا أَوْ دَارًا يَسْكُنُهَا فَمَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ عَرَجَتْ الدَّابَّةُ أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ .
لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنَافِعِ مَعْقُودًا مُبْتَدَأً فَإِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ بِالْمُسْتَأْجَرِ كَانَ هَذَا عَيْبًا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ بِأَنْ صَحَّ الْعَبْدُ ، وَزَالَ الْعَرَجُ عَنْ الدَّابَّةِ ، وَبَنَى الْمُؤَاجِرُ مَا سَقَطَ مِنْ الدَّارِ بَطَلَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخِيَارِ قَدْ زَالَ وَالْعَقْدُ قَائِمٌ فَيَزُولُ الْخِيَارُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ بَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْخِدْمَةِ أَوْ سَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ حَائِطٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي سُكْنَاهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ إذْ

الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلَا نُقْصَانَ فِي الْمَنْفَعَةِ بَلْ فِي الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ وَتَغَيُّرُ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ فَالنُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الْخِيَارَ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ثُمَّ إنَّمَا يَلِي الْفَسْخَ إذَا كَانَ الْمُؤَاجِرُ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَحَدَثَ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَا يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً يَزْرَعُهَا شَيْئًا ذَكَرَهُ فَزَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَهَبَ بِهِ وَتَأَخَّرَ وَقْتُ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَزْرَعَ قَالَ : إنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ شَيْئًا غَيْرَهُ مِمَّا ضَرَرُهُ عَلَى الْأَرْضِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ مِثْلُ ضَرَرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَسَخْت عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ وَأَلْزَمْتَهُ أَجْرَ مَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْإِجَارَةِ إضْرَارًا بِهِ قَالَ : وَإِذَا نَقَصَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى حَتَّى صَارَ يَطْحَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ طِحْنِهِ فَذَلِكَ عَيْبٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ نُقْصَانُ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ كُلُّهَا أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى أَوْ انْقَطَعَ الشُّرْبُ عَنْ الْأَرْضِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الرِّوَايَاتِ فِيهِ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي إجَارَةِ الْأَصْلِ إذَا سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا فَهَذَا دَلِيلُ الِانْفِسَاخِ حَيْثُ جُوِّزَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ

لَمْ تَنْفَسِخْ تَوَقَّفَ جَوَازُ الْفَسْخِ عَلَى حُضُورِهِ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ بِالسُّقُوطِ إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَنْفَسِخْ الصُّلْحُ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْآجِرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مَا بَنَاهُ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : آخُذُهُ ، وَأَبَى الْآجِرُ لَيْسَ لِلْآجِرِ ذَلِكَ وَهَذَا يُجْرَى مَجْرَى النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّارَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ بَقِيَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا مَنْفَعَةَ السُّكْنَى فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَضْرِبَ فِيهَا خَيْمَةً فَلَمْ يَفُتْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ إنْ فَاتَ كُلُّهُ لَكِنْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَهَذَا يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يُثْبَتُ بِالشَّكِّ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ وَضَرْبُ الْخَيْمَةِ فِي الدَّارِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَطْلُوبَةٍ مِنْ الدَّارِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَقَالَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْبَيْتِ إذَا بَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ : إنَّهُ لَمَّا بَنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً وَإِنْ حُكِمَ بِفَسْخِهِ ظَاهِرًا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَيْسَ

يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي الْحَقِيقَةِ اشْتَرَى شَاةً فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَدَبَغَ جِلْدَهَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْفِسَاخِهِ ظَاهِرًا بِمَوْتِ الشَّاةِ كَذَا هَهُنَا وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السَّفِينَةِ إذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا ثُمَّ بَنَاهَا الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ فِي السَّفِينَةِ قَدْ انْفَسَخَ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّنَاعَةُ وَهِيَ التَّرْكِيبُ وَالْأَلْوَاحُ تَابِعَةٌ لِلصِّنَاعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَشَبَةً فَعَمِلَهَا سَفِينَةً مَلَكَهَا فَكَانَ تَرْكِيبُ الْأَلْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ اتِّخَاذِ سَفِينَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِخِلَافِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ عَرْصَةَ الدَّارِ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْبِنَاءِ بَلْ الْعَرْصَةُ فِيهَا أَصْلٌ فَإِذَا بَنَاهَا فَقَدْ بَنَى تِلْكَ الدَّارَ بِعَيْنِهَا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَحَى مَاءٍ سَنَةً فَانْقَطَعَ الْمَاءُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمْسَكَ الرَّحَى حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ لِلسِّتَّةِ أَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّحَى قَدْ بَطَلَتْ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ حِصَّةٌ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَى لَزِمَهُ حِصَّتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا ثُمَّ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ

فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الدَّارِ بِغَيْرِ الْبَيْتِ وَأَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَتَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فَلَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ الدَّارُ حَتَّى مَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الدَّارَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ طَلَبَهَا مِنْ الْمُؤَاجِرِ فَمَنَعَهُ إيَّاهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُدُوثِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا مُجْتَمِعَةً وَالصَّفْقَةُ هَهُنَا حِينَمَا وَقَعَتْ وَقَعَتْ مُتَفَرِّقَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَكَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ وَالثَّانِي مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ آخَرَ وَمَا مُلِكَ بِعَقْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ إحْدَاهُمَا أَوْ حَدَثَ فِي إحْدَاهُمَا عَيْبٌ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي عَدَمُ حُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِالْمُسْتَأْجِرِ عُذْرٌ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لَازِمًا كَالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا وَلَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْفَسْخِ عِنْدَ الْعُذْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ ؛ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ لِمَا يُذْكَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْذَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسْخِ فَكَانَ الْفَسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ امْتِنَاعًا مِنْ الْتِزَامِ الضَّرَرِ وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّ هَذَا بَيْعٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِهِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ وَكَمَا لَوْ حَدَثَ عَيْبٌ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَكَذَا عَنْ قَوْلِهِ : الْعَقْدُ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا إنَّ هَذَا هَكَذَا إذَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وَقَدْ عَجَزَ هَهُنَا فَلَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ثُمَّ إنْكَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ خُرُوجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْلَعَهُ فَسَكَنَ الْوَجَعُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ وَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَهَا فَسَكَنَ

الْوَجَعُ ثُمَّ بَرِئَتْ يَدُهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ وَهَذَا قَبِيحٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَعْذَارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْفَسْخِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

: إنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ أَمَّا الَّذِي فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ : فَنَحْوُ أَنْ يُفْلِسَ فَيَقُومَ مِنْ السُّوقِ أَوْ يُرِيدَ سَفَرًا أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْحِرْفَةِ إلَى الزِّرَاعَةِ أَوْ مِنْ الزِّرَاعَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحَانُوتِ فَكَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إضْرَارٌ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْعَقْدُ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى عَمَلِهِ .
وَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ فَفِي تَرْكِ السَّفَرِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مَعَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ ضَرَرٌ بِهِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ وَرَغْبَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ عَنْ الِانْتِقَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ وَإِنْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ لَأَلْزَمْنَاهُ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ حَانُوتٍ إلَى حَانُوتٍ لِيَعْمَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِعَيْنِهِ فِي الثَّانِي لَمَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَرْخَصُ وَأَوْسَعُ عَلَيْهِ ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ زِيَادَةُ الْمَنْفَعَةِ - وَقَدْ رَضِيَ بِالْقَدْرِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا - فِي الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِمَا لَا يَصِلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ أَوْ بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُقَصِّرَ لَهُ ثِيَابًا أَوْ لِيُقَطِّعَهَا أَوْ يَخِيطَهَا أَوْ يَهْدِمَ دَارًا لَهُ أَوْ يَقْطَعَ شَجَرًا لَهُ أَوْ لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ أَوْ لِيَحْجُمَ أَوْ لِيَفْصِدَ أَوْ لِيَزْرَعَ أَرْضًا أَوْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَفْرٍ ثُمَّ بَدَا

لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ وَالْقَطْعَ نُقْصَانٌ عَاجِلٌ فِي الْمَالِ بِالْغُسْلِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ ، وَهَدْمُ الدَّارِ وَقَطْعُ الشَّجَرِ إتْلَافُ الْمَالِ ، وَالزِّرَاعَةُ إتْلَافُ الْبُذُورِ وَفِي الْبِنَاءِ إتْلَافُ الْآلَةِ ، وَقَلْعُ الضِّرْسِ وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا لِمَصْلَحَةٍ تَأَمَّلَهَا تَرْبُو عَلَى الْمَضَرَّةِ فَإِذَا بَدَا لَهُ ؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ فَبَقِيَ الْفِعْلُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى السَّفَرِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لِمَا بَدَا لَهُ عَلِمَ أَنَّ السَّفَرَ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ السَّفَرِ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الْجَمَّالَ إذَا قَالَ لِلْحَاكِمِ : إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ السَّفَرَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَالَ لَهُ الْحَاكِم : انْتَظِرْهُ فَإِنْ خَرَجَ ثُمَّ قَفَلَ الْجَمَّالُ مَعَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ ؛ فَلَكَ الْأَجْرُ فَإِنْ قَالَ صَاحِبَ الدَّارِ لِلْحَاكِمِ : إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ سَفَرًا وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الْفَسْخِ وَهُوَ إرَادَةُ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا مَعَ يَمِينِهِ ، وَقَالُوا : لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ : إنَّمَا أَظْهَرَ الْخُرُوجَ لِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ عَادَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَقَدْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ

؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي أَنَّ الْفَسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ عَزْمُ السَّفَرِ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَزْمَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَأَمَّا الْجَمَّالُ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْجَمَّالِ مَعَ الْجِمَالِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ غَيْرَهُ مَعَ الْجِمَالِ فَلَا يَكُونُ قُعُودُهُ عُذْرًا بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قُعُودُهُ عُذْرًا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرَ بَعْضَهَا فَوَجَدَهَا صُلْبَةً أَوْ خَرَجَ حَجَرًا أَوْ وَجَدَهَا رَخْوَةً بِحَيْثُ يُخَافُ التَّلَفُ كَانَ عُذْرًا ؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ فَأَبَى الْجَمَّالُ أَنْ يُقِيمَ قَالَ : هَذَا عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الْجَمَّالِ لِلْإِقَامَةِ مُدَّةَ النِّفَاسِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ إذْ هِيَ مُدَّةُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِقَامَةِ الْقَافِلَةِ قَدْرَهَا فَيُجْعَلُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ نِفَاسِهَا كَمُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ أَقَلَّ أُجْبِرَ الْجَمَّالُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمَقَامِ الْحَاجِّ فِيهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ .

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ فَنَحْوُ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا يَجِدُ قَضَاءَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَبَتَ قَبْلَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا وَهَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَاجِرِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ جُعِلَ الدَّيْنُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْإِجَارَةِ مَعَ لُحُوقِ الدَّيْنِ الْفَادِحِ الْعَاجِلِ إضْرَارٌ بِالْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى تَحَمُّلِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمُؤَاجَرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْبِسَهُ الْقَاضِي فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ سِوَى الْمُؤَاجَرِ فَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ ، وَفِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُؤَاجَرِ لَكِنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالْعَيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ مِنْ بَدَلِ الْعَيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَبِيعَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَجَرَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ - وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَيْبِ - وَيُجْعَلُ حَقُّ الرَّدِّ

بِالْعَيْبِ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُؤَاجِرُ السَّفَرَ أَوْ النُّقْلَةَ عَنْ الْبَلَدِ وَقَدْ أَجَرَ عَقَارًا لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَقَارِ مَعَ غَيْبَتِهِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ أَوْ أَصَابَ إبِلَهُ دَاءٌ ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا ، أَمَّا إذَا أَصَابَ الْإِبِلَ دَاءٌ فَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدَّابَّةِ مَعَ مَا بِهَا مِنْ الدَّاءِ إجْحَافٌ بِهَا وَفِيهِ ضَرَرٌ بِصَاحِبِهَا ، وَالضَّرَرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَنْقُصُ بِمَرَضِ الْإِبِلِ ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا فِيهَا .
وَأَمَّا مَرَضُ الْجَمَّالِ فَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمَرَضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ ، وَخُرُوجُ الْجَمَّالِ بِنَفْسِهِ مَعَ الْجِمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَرَضِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ قُعُودِهِ أَنَّ الْجَمَّالَ يَقُومُ عَلَى جِمَالِهِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا مَرِضَ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِضَرَرٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ ، وَلَوْ أَجَرَ صَانِعٌ مِنْ الصُّنَّاعِ أَوْ عَامِلٌ مِنْ الْعُمَّالِ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ أَوْ صِنَاعَةٍ ثُمَّ قَالَ : " بَدَا لِي أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْعَمَلَ وَأَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ " قَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ بِأَنْ كَانَ حَجَّامًا فَقَالَ : " قَدْ أَنِفْتُ مِنْ عَمَلِي وَأُرِيدُ تَرْكَهُ " لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُقَالُ : أَوْفِ الْعَمَلَ ثُمَّ انْتَقِلْ إلَى مَا شِئْتَ مِنْ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهُ ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْحِرْفَةِ ، فَهُوَ بِقَوْلِهِ : " أُرِيدُ

أَنْ أَتْرُكَهُ " يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ فِي الْحَالِ ، وَيَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَصَنْعَتِهِ بَلْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ فِيهَا ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعَابُ بِهِ ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً أَجَرَتْ نَفْسَهَا ظِئْرًا وَهِيَ مِمَّنْ تُعَابُ بِذَلِكَ فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَتْ هِيَ أَنْ تُرْضِعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ إذَا دَخَلَ فِيهَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ ، فَإِذَا أَرَادَ التَّرْكَ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِضَرَرٍ ، وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلِأَهْلِهَا الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ ( تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا ) .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إيفَاءُ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِضَرَرٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ ، وَيَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِالْعُذْرِ فَقَدْ لَزِمَهَا الْعَقْدُ ، وَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ وَإِنْ وَقَعَتْ لَازِمَةً .
وَلَوْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ آخَرُ سِوَى الْمَنْزِلِ الْمُؤَاجَرِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ وَيَسْكُنَهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْزِلًا آخَرَ أَوْ يَشْتَرِيَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَةِ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ هَذَا الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْزِلِ فِي الْإِجَارَةِ وَيَخْرُجَ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ مَنْزِلًا فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَ نَفْسِهِ ، فَشِرَاؤُهُ دَارًا أُخْرَى أَوْ وُجُودُ دَارٍ أُخْرَى لَا يُوجِبُ عُذْرًا فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ، حَتَّى لَوْ أَجَرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ سَنَةً فَلَمَّا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَعْتَقَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ .
أَمَّا الْعِتْقُ فَلَا شَكَّ فِي نَفَاذِهِ لِصُدُورِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ الْمَمْلُوكِ الْمَرْقُوقِ ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّسْلِيمِ ، وَنَفَاذُ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ عَلَى إمْكَانِ التَّسْلِيمِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَ الْآبِقِ نَافِذٌ .
وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا ، فَيَصِيرُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْإِجَارَةِ وَالْفَسْخِ ، فَإِنْ فَسَخَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَسَقَطَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ أَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى بِعَقْدِهِ ، وَإِنْ أَجَازَ وَمَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأُجْرَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ تَكُونُ لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ لَهُ ، كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْإِجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ ، وَقَبْضُ الْأُجْرَةِ كُلِّهَا لِلْمَوْلَى ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْمَوْلَى ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ ، وَلَا شَرَطَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ التَّعْجِيلَ ، فَإِنْ كَانَ عَجَّلَ أَوْ

شَرَطَ عَلَيْهِ التَّعْجِيلَ فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ ؛ فَالْأُجْرَةُ كُلُّهَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ ؛ يَرُدُّ النِّصْفَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا مَنْفَعَةُ نِصْفِ الْمُدَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى أَجَرَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ سَنَةً فَأَجَرَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَعَقْدِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ ، إلَّا إنْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْمَحْجُورِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً ، وَخِيَارُ الْإِمْضَاءِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ، وَمِنْهَا : بُلُوغُ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجَرِ آجَرَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ فَبَلَغَ فِي الْمُدَّةِ فَهُوَ عُذْرٌ ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ضَرَرًا بِالصَّبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَكَانَ عُذْرًا ، وَلَوْ أَجَرَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَبَلَغَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا خِيَارَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ إجَارَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنَّ إجَارَةَ مَالِهِ تَصَرُّفٌ نُظِرَ فِي حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالْبُلُوغِ ، فَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَهُوَ فِي وَضْعِهَا إضْرَارٌ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَأْدِيبٌ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ بِالْبُلُوغِ ، فَأَمَّا غَلَاءُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ إلَّا فِي إجَارَةِ الْوَقْفِ ، حَتَّى لَوْ آجَرَ دَارًا هِيَ مِلْكُهُ ثُمَّ غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ

يَفْسَخَ الْعَقْدَ ، إلَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَيُجَدَّدُ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَفِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ وَقِيلَ : هَذَا إذَا ازْدَادَ أَجْرُ مِثْلِ الدُّورِ ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ وَاحِدٌ وَزَادَ فِي الْأُجْرَةِ تَعَنُّتًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ ، إنَّمَا تُفْسَخُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخُ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ فَلَا تُفْسَخُ بِأَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تُفْسَخُ بَلْ تُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ ، فَإِلَى وَقْتِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، هَذَا إذَا غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الْوَقْفِ .
فَأَمَّا إذَا رَخُصَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تُفْسَخُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَزِيَادَةٍ ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْوَقْفِ عِنْدَ الْغَلَاءِ لِمَعْنًى النَّظَرِ لِلْوَقْفِ ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ فَلَا تُفْسَخُ .
وَأَمَّا الْعُذْرُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَنَحْوُ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ مِنْ لَبَنِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْضُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَقِيَ مِنْ لَبَنِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، أَوْ تَحْبَلَ الظِّئْرُ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ ، أَوْ تَكُونَ سَارِقَةً ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ ، أَوْ تَكُونَ فَاجِرَةً بَيِّنَةَ الْفُجُورِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَشَاغَلُ بِالْفُجُورِ عَنْ حِفْظِ الصَّبِيِّ ، أَوْ أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا بِصَبِيِّهِمْ وَأَبَتْ الظِّئْرُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِمْ تَرْكَ الْمُسَافَرَةِ إضْرَارًا بِهِمْ ، وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ السَّفَرِ إضْرَارًا أَيْضًا ، أَوْ تَمْرَضَ الظِّئْرُ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِ الْمَرِيضَةِ ، وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِالْإِرْضَاعِ فِي الْمَرَضِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَإِنْ كَانُوا يُؤْذُونَهَا

بِأَلْسِنَتِهِمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُفُّوا عَنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُفُّوا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ الْأَذِيَّةَ مَحْظُورَةٌ ، فَعَلَيْهِمْ تَرْكُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهَا كَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ بِالْعَقْدِ فَكَانَ عُذْرًا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ الرَّضَاعِ إنْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ بِرِضَاهُ ، وَقِيلَ : هُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَشِينُهُ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ فَلَهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ يُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ بِالنِّكَاحِ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لَا مَنَافِعُ ثَدْيِهَا ، فَكَانَتْ هِيَ بِالْإِجَارَةِ مُتَصَرِّفَةً فِي حَقِّهَا ، وَقِيلَ : لَهُ الْفَسْخُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ فِي بَيْتِهِمْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ الصَّبِيِّ إلَى بَيْتِهِ ، ثُمَّ إذَا اعْتَرَضَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا أَوْ تَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَنْفَسِخُ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْعُذْرِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ شَرْعًا بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِيهِ حَرَامًا فَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِنَفْسِهَا ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ إذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ ، وَعَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ إذَا بَرِئَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ ضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ ، وَهَلْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهَا ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي ،

وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ هَذَا خِيَارٌ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ وَالرِّضَا ، كَذَا هَذَا ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ : إنْ كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا كَالدَّيْنِ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ لِيَظْهَرَ الْعُذْرُ فِيهِ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ ، وَهَذَا حَسَنٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَأْجَرَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ إذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً عَرِيَّةً عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، فَلَا تُفْسَخُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَقَالَ شُرَيْحٌ : إنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَتُفْسَخُ بِلَا عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَتْ الْإِعَارَةَ ، وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْفَسْخُ لَيْسَ مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَقْدِ وَقَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ " جَعَلَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارٌ ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَوْعَيْنِ ، نَوْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ ؛ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَحَمُّلِ ضَرَرٍ كَالْبَيْعِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ لَا تَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ بَاطِلَةً .
أَمَّا الصَّحِيحَةُ : فَلَهَا أَحْكَامٌ ، بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ .
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ عُقِدَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ أَوْ تَأْجِيلُهَا .
فَإِنْ عُقِدَ مُطْلَقًا ؛ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُؤَاجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا : يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ مَحَلِّهِ ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ الْمُدَّةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا فِي الْحَالِ ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تُمْلَكُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ مُطْلَقَةً ، وَالْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ تَثْبُتُ فِيهِ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي

الْحَالِ حَقِيقَةً ، فَتُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ ، وَقَدْ يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ ، إذْ لَوْ ثَبَتَ لَا يَكُونُ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ، وَهُوَ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَثْبُتُ فِي الْأُجْرَةِ فِي الْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَثْبُتُ ؟ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ : إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِثْلُ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ سَنَةً أَوْ عَشْرَ سِنِينَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، ثُمَّ رَجَعَ هُنَا فَقَالَ : تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ مِثْلَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ : إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ حَتَّى يَعُودَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يُسَلِّمُ حَالًا فَحَالًا ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أُجْرَةَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَسَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْقُودٌ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا كُلَّهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِهَا ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فَخَاطَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ، وَكَذَا الْقَصَّارُ ، وَالصَّبَّاغُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - أَنَّهُ مِلْكُ الْبَدَلِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَمْلِكُهَا شَيْئًا

فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا ، فَكَذَا مَا يُقَابِلُهَا ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَاسْتُحْسِنَ ، فَقَالَ : يَوْمًا فَيَوْمًا وَمَرْحَلَةً فَمَرْحَلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفَهُ أَعْطَى مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّيْرَ إلَى ثُلُثِ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ بَدَلِهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَبْرَأَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ عَيْنًا كَانَ الْأَجْرُ أَوْ دَيْنًا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ دَيْنًا جَازَ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ خَارِجٌ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُؤَاجِرُ فِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ ، وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ الْمُبْرِئِ لَا يَصِحُّ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَإِنَّمَا التَّأْجِيلُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءِ عَنْهُ ، وَهِبَةُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِحُّ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ ، فَيُثْبِتُ الْمِلْكُ مُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : أَعْتَقْت ، وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ

يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ وَهَبَ مِنْهُ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْكُلِّ فَكَذَا فِي الْبَعْضِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَطُّ بَعْضِ الْأُجْرَةِ فَيُلْحَقُ الْحَطُّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي حَالِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ بَعْضِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَحَطُّ الْكُلِّ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ فَوَهَبَهَا الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِجَارَةِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ رَدَّهَا لَمْ تَبْطُلْ ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ رَأْسًا ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ هُنَاكَ قَدْ صَحَّتْ لِصُدُورِهَا مِنْ الْمَالِكِ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الْأُجْرَةُ إذَا كَانَتْ عَيْنًا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهَا هُوَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ ؛ يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، كَذَا هَذَا ، وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ ، فَإِذَا رَدَّ بَطَلَتْ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَارَفَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ

بِالْأُجْرَةِ فَأَخَذَ بِهَا دِينَارًا بِأَنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ ، وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ : إنَّهُ جَائِزٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ فَقَالَ : الْأُجْرَةُ لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَمَا وَجَبَ بِعَقْدِ الصَّرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَنْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ فَلَمْ يَتَقَابَضَا ؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي الدِّينَارَ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا قِصَاصًا بِالْأُجْرَةِ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، فَيَبْقَى ثَمَنُ الصَّرْفِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصَّرْفُ ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : إذَا لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ - وَلَا وُجُوبَ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ - ثَبَتَ الشَّرْطُ مُقْتَضٍ إقْدَامَهُمَا عَلَى الصَّرْفِ ، وَلَوْ شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ تَصَارَفَا جَازَ ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُؤَاجِرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِالْأُجْرَةِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْهِبَةِ جَائِزَانِ ، فَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ أَوْلَى .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِأَنَّ جَوَازَهَا لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ لِلْحَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ جَازَتْ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِدَيْنٍ لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ ، كَالرَّهْنِ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ شُرِعَا لِلتَّوَثُّقِ ، وَالتَّوَثُّقُ مُلَائِمٌ لِلْأَجْرِ .
هَذَا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ ، فَأَمَّا إذَا شُرِطَ فِي تَعْجِيلِهَا مُلِكَتْ بِالشَّرْطِ وَجَبَ تَعْجِيلُهَا ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : شَرْطُ التَّعْجِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَالثَّانِي : التَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ : وَالثَّالِثُ :

اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمَّا مِلْكُهَا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تُوجَدْ الْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْعِوَضِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُعَوَّضِ ؛ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْجِيلُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْحُلُولَ ، كَذَا هَذَا وَلِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ ، وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، فَكَذَا لِلْمُؤَاجِرِ حَبْسُ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ ، فَإِنْ قِيلَ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ فَإِذَا حُبِسَ الْمُسْتَأْجَرُ مُدَّةً بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ الْأُجْرَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مُفِيدًا ، فَالْجَوَابُ : إنَّ الْحَبْسَ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ وَيُطَالَبُ بِالْأُجْرَةِ ، فَإِنْ عَجَّلَ وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ فَكَانَ فِي الْحَبْسِ فَائِدَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ بِأَنْ أَجَّرَ دَابَّةً مَسَافَةً مَعْلُومَةً ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَا يَبْطُلُ بِالْحَبْسِ ، وَكَذَا هَذَا ، وَيَبْطُلُ بِبَيْعِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكِ الطَّرِيِّ وَنَحْوِهِ إذْ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى

إبْطَالِ الْبَيْعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجْرَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا شُرِطَ كَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ جَائِزًا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَالْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَقَدْ شُرِطَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ ، وَالْأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ فَتَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ كَالثَّمَنِ .
وَأَمَّا إذَا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ غَيَّرَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ حَقًّا لَهُ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالتَّعْجِيلِ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَعَجَّلَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ فَالِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ ، وَتَعْجِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ ، كَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا إذَا اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَوَّضَ فَيَمْلِكُ الْمُؤَاجِرُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْنَى الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قَالَ : أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّارَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا ، أَوْ قَالَ : أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً أَوَّلُهَا غُرَّةُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ ، وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَطَرِيقُ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا عَقِيبَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا لَهُ إذْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ

مَوْجُودًا لِيُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ فِيهِ ، فَجُعِلَتْ الْمَنَافِعُ مَوْجُودَةً حُكْمًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ، وَإِضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى عَيْنٍ سَتُوجَدُ لَا تَصِحُّ كَمَا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَكَانَ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْإِضَافَةِ يَكُونُ مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْإِضَافَةَ فِي الْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ لِلضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَالَ وُجُودِهَا لَا يُمْكِنُ إنْشَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِضَافَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لِإِمْكَانِ إيقَاعِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ؛ لِكَوْنِهَا مُحْتَمِلَةً لِلْبَقَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِضَافَةِ ، وَطَرِيقُنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا تَقْدِيرٌ لِلْمُحَالِ ، وَتَقْدِيرُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا إحَالَةَ فِي الْإِضَافَةِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ تَصِحُّ مُضَافَةً إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا ، فَكَانَ الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا .

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ فَكَثِيرَةٌ ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مِمَّا عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ أَوْ تَأْجِيلُهُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلُهَا وَالِابْتِدَاءُ بِتَسْلِيمِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ ، أَوْ كَانَ صَانِعًا أَوْ عَامِلًا يُنْتَفَعُ بِصَنْعَتِهِ أَوْ عَمَلِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّيَّاغِ وَالْإِسْكَافِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْبَدَلِ لَزِمَ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
وَمَلَكَ الْآجِرُ الْبَدَلَ حَتَّى تَجُوزَ لَهُ هِبَتُهُ ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ ، وَالشِّرَاءُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْكَفَالَةُ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ ، وَكَذَا لِلْأَجِيرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ ، وَلِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ إيفَاءِ الْعَمَلِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَجَّلًا ، كَذَا هَهُنَا ، وَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِيفَاءِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ

يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَعَلَى الْأَجِيرِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ أَوْ إيفَاءُ الْعَمَلِ أَوَّلًا عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ، وَعِنْدَهُ تَجِبُ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ ، غَيْرَ أَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا إذَا سَلِمَ الْمُسْتَأْجَرُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ كُلِّهِ لِلْحَالِّ ، بَلْ عَلَى حَسَبِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ يَوْمًا فَيَوْمًا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ ، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمُكَارِي عَلَى الْحَمْلِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ ، إذْ لَوْ لَمْ يُخَيَّرْ لَتَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ ، أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ ، وَالْعُمَّالِ فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ بِلَا خِلَافٍ ، حَتَّى قَالُوا فِي الْحَمَّالِ مَا لَمْ يَحُطَّ الْمَتَاعَ مِنْ رَأْسِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْحَمَّالِ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ بَعْدَ مَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهُ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ؛ لِأَنَّهُ

لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَانَ الْكُلُّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَابِلُهُ الْبَدَلُ بِلَا خِلَافٍ ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ السُّكْنَى وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ مَقْصُودٌ فَيُقَابَلُ بِالْأُجْرَةِ

ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ إذَا .
أَرَادَ الْأَجِيرُ حَبْسَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّوْبِ مَخِيطًا مَقْصُورًا .
وَإِنَّمَا الْعَمَلُ يُحَصِّلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ عَادَةً ، وَالْبَدَلُ يُقَابِلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ ، كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ ؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْحَبْسِ عِنْدَهُمَا ، فَبَعْدَ الْحَبْسِ أَوْلَى .
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَيْنِ فَالْبَدَلُ إنَّمَا يُقَابِلُ نَفْسَ الْعَمَلِ ، إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَمَا فَرَغَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ عَنْهُ بَعْدَ طَلَبِهِ كَالْيَدِ الْمُودَعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَمَا وَقَعَ فِي الْعَمَلِ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ ، فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْهَلَاكِ ، وَيَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الْغَصْبِ فَقَالَ : فَإِنْ حَبَسَ الْحَمَّالُ الْمَتَاعَ فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ .
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَيْنَ

كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، فَإِذَا حَبَسَهَا بِدَيْنِهِ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا ، كَمَا لَوْ حَبَسَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّيْنِ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَجِيرُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ إذَا كَانَ الْمَعْمُولُ فِيهِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ .

، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْرُ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ ؛ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمُدَّةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي مِلْكِهِ ، أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ ، بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي دَارِهِ ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ سَابَاطًا أَوْ جَنَاحًا ، أَوْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَوْ قَنَاةً أَوْ نَهْرًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ ، فَعَمِلَ بَعْضَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ .
لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَاقِي ، حَتَّى لَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ ، أَوْ انْهَارَتْ الْبِئْرُ ، أَوْ وَقَعَ فِيهَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَسَوَّاهَا مَعَ الْأَرْضِ ، أَوْ سَقَطَ السَّابَاطُ فَلَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَهُ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ فِي يَدِهِ فَكَمَا عَمِلَ شَيْئًا حَصَلَ فِي يَدِهِ قَبْلَ هَلَاكِهِ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بَدَلُهُ بِالْهَلَاكِ .
وَلَوْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِهِ ، وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا فِي يَدِهِ ، تَوَقَّفَ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْفَرَاغِ وَالتَّمَامِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إذَا أَرَاهُ مَوْضِعًا مِنْ الصَّحْرَاءِ يَحْفِرُ فِيهِ بِئْرًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ : وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ قَابِضًا إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالتَّعْيِينِ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ فَلَا يَصِيرُ عَمَلُ الْأَجِيرِ فِيهِ مُسَلَّمًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدِهِ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ بَعْضَهُ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ قَرِيبٌ مِنْ الْعَامِلِ ، فَخَلَّى الْأَجِيرُ

بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : لَا أَقْبِضُهُ مِنْكَ حَتَّى يَفْرُغَ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا عَمِلَ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِ عَمَلِهِ دُونَ بَعْضٍ ، فَكَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى يُتِمَّهُ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لَبَّانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَجِفَّ اللَّبِنُ وَيَنْصِبَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : حَتَّى يَجِفَّ أَوْ يَنْصِبَهُ وَيَشْرُجَهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا ضَرَبَهُ وَلَمْ يُقِمْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقْلِبْهُ عَنْ مَكَانِهِ فَهُوَ أَرْضٌ .
فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللَّبِنِ ، وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ : هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِالْإِقَامَةِ أَوْ لَا يَصِيرُ إلَّا بِالتَّشْرِيجِ ؟ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الْإِقَامَةِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِقَامَةِ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَمَلِ فَيَصِيرُ اللَّبِنُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِهَا ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا لَمْ يَشْرُجْ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ النَّصْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَبْلَ التَّشْرِيجِ فِي قَوْلِهِمَا فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ فَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي يَدِهِ ، فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْبَدَلَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْنَ عَنْ الْفَسَادِ يَقَعُ بِالتَّشْرِيحِ ؛ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ اللَّبَّانَ هُوَ الَّذِي يَشْرُجُ لِيُؤَمِّنَ عَلَيْهِ الْفَسَادَ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ، وَلَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ ضَرْبُ اللَّبِنِ ، وَلَمَّا جَفَّ وَنَصَبَهُ فَقَدْ وُجِدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّبِنِ وَهُوَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ ، فَأَمَّا التَّشْرِيجُ فَعَمَلٌ زَائِدٌ لَمْ يُلْزَمْهُ الْعَامِلُ ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ ، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ

الْأَجِيرُ بَيْنَ اللَّبِنِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَا نَصَبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا بَعْدَ مَا شَرَجَهُ .

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ ، فَخَبَزَ ، فَاحْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ ، أَوْ أَلْزَقَهُ فِي التَّنُّورِ ثُمَّ أَخَذَهُ لِيُخْرِجَهُ فَوَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي التَّنُّورِ فَاحْتَرَقَ ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلَ الْخُبْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ ، فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ خُبْزٌ فَصَارَ كَهَلَاكِ اللَّبِنِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ ، قَالَ : وَلَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ التَّنُّورِ وَوَضَعَهُ وَهُوَ يَخْبِزُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاحْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ، وَحَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ .
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الْهَلَاكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ دَقِيقًا مِثْلَ الدَّقِيقِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَجِيرِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِوَضْعِهِ فِي مَنْزِلِ مَالِكِهِ ، وَإِنَّمَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ كَالْغَاصِبِ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ، فَصَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَأَسْقَطَ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ الْعَمَلَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُبْزًا فَصَارَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ ، فَوَجَبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ قَالَ : وَلَا أُضَمِّنُهُ الْقَصَبَ وَلَا الْمِلْحَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَحِينَ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا قِيمَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ صَارَ رَمَادًا وَالْمِلْحَ صَارَ مَاءً

وَكَذَلِكَ الْخَيَّاطُ الَّذِي يَخِيطُ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ قَمِيصًا ، فَإِنْ خَاطَ لَهُ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ فَلَا تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ إلَّا بِتَمَامِهِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ هَلَكَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعَيْنُ مَضْمُونَةٌ فَلَا يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهَا إلَّا بِتَسْلِيمِهَا إلَى مَالِكِهَا ، فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخِيطًا وَلَهُ الْأَجْرُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ دَنًّا مِنْ السُّوقِ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ بَابَ دَرْبِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ كَسَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَامِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَمَا وَقَعَ يَحْصُلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ ، فَمَضَى ، فَخَاطَهُ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَفَتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَقَطَ بَدَلُهَا قَالَ : وَلَا أُجْبِرُ الْخَيَّاطَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ ثَانِيًا ، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الَّذِي فَتَقَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ فَقَدْ فَسَخَ الْمَنَافِعَ الَّتِي عَمِلَهَا ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ رَأْسًا ، وَإِذَا فَتَقَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ أَتْلَفَ الْمَنَافِعَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ .

وَقَالُوا فِي الْمَلَّاحِ إذَا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ فَرَدَّ السَّفِينَةَ إنْسَانٌ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ السَّفِينَةَ ، فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ هُوَ الَّذِي رَدَّهَا لَزِمَهُ إعَادَةُ الْحَمْلِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَجَعَتْ إلَيْهِ السَّفِينَةُ لَا يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ فَعَلَى الْمَلَّاحِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ ، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا سَارَ فِي هَذَا الْمَسِير ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا لِلْمَلَّاحِ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَتَلِفَ الْمَالُ عَلَى صَاحِبِهِ .
وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ حَمْلَهُ بِالْأَجْرِ إلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقَبْضُ فِيهِ فَقَدْ رَاعَيْنَا الْحَقَّيْنِ .
قَالُوا وَلَوْ اكْتَرَى بَغْلًا إلَى مَوْضِعٍ يَرْكَبُهُ فَلَمَّا سَارَ إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ جَمَحَ بِهِ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ بِقَدْرِ مَا سَارَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَنَافِعِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ قَالَ : لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ بِكِتَابِهِ إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ وَيَجِيءُ بِجَوَابِهِ ، فَذَهَبَ ، فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ ، فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ ، أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَمْلُ الْعِيَالِ ، فَإِذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا بِحَمْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ ، وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي

الذَّهَابِ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ ، وَفِي الْعَوْدِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَمْلِ الْكِتَابِ إيصَالُهُ إلَى فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كَانَ نَقْلَ الْكِتَابِ لَكِنَّهُ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ نَقَصَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ فَبَطَلَ الْأَجْرُ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ فَحَمَلَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ فَرَدَّهُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا .

، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَقَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شَاءَ بِالسُّكْنَى ، وَوَضْعِ الْمَتَاعِ ، وَأَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ ، وَبِغَيْرِهِ ، وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ ، وَالْإِعَارَةِ .
إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا حَدَّادًا ، وَلَا قَصَّارًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ أَجَّرَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ الْأُولَى فَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْأُولَى طَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى لَا تَطِيبُ لَهُ حَتَّى يَزِيدَ فِي الدَّارِ زِيَادَةً مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ تَطْيِينٍ أَوْ تَجْصِيصٍ .
فَإِنْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا فَلَا خَيْرَ فِي الْفَضْلِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ ، لَكِنْ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ ، أَمَّا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي عَقْدٍ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ ، وَهَهُنَا كَذَلِكَ ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ .
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُسْتَأْجَرُ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ ، وَكَذَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ زِيَادَةٌ كَانَ الرِّبْحُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبْحًا ، وَلَوْ كَنَسَ الْبَيْتَ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ ، فَلَا تَطِيبُ بِهِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ ، وَكَذَا فِي إجَارَةِ الدَّابَّةِ إذَا زَادَ فِي الدَّابَّةِ جُوَالِقَ أَوْ لِجَامًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ عَلَفَهَا لَا يَطِيبُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا يَصِيرُ شَيْءٌ

مِنْهَا مُقَابَلًا بِالْعَلَفِ ، فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ ، ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِلُبْسِهِ ، فَمَا يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْيَدَ .
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ غَصَبَ مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ فَلَبِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَلْبَسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسِ كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ ، قُلْنَا تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، فَإِذَا وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ ، فَأَمَّا إذَا أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَامِنٌ ، وَإِنْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ اللُّبْسِ فَإِنَّ يَدَ اللَّابِسِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَكُونَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَ اللَّابِسِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُلْزِمُهُ الْأُجْرَةَ وَإِنْ سَلِمَ ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ ، وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ فِي الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ تَرْكُ

تَعْيِينِ اللَّابِسِ ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ أَرْفَقِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ ، وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَحْسَنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ، وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ اخْتَصَمَا فِيهِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ لَبِسَهُ هُوَ وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ : عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا ، أَوْ لِلْعَمَلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا ، فَعَمِلَ عَلَيْهَا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ : عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قَدْ زَالَ ، وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ ضَاعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَ غَيْرَهُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ مِنْ

اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَالْإِذْنِ فِي اللُّبْسِ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ لِلرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ بَاعَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْدَ مَا أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : " لَا يَجُوزُ " أَيْ لَا يَنْفُذُ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّوَقُّفَ .
وَقَوْلُهُ : " بَاطِلٌ " أَيْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ لِلْحَالِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، حَتَّى إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَخْذِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْبَيْعِ ، فَإِنْ أَجَازَ ؛ جَازَ ، وَإِنْ أَبَى ؛ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ، وَمَتَى فُسِخَ لَا يَعُودُ جَائِزًا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ .
وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ فَسْخَ هَذَا الْبَيْعِ ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ ، حَتَّى لَوْ فَسَخَ لَا يَنْفَسِخُ حَتَّى إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ ، وَإِذَا نَقَضَهُ لَا يَعُودُ جَائِزًا ، .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ نَقْضُ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةُ كَالْعَيْبِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمَضَاهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْبَيْعُ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْبَيْعَ صَادَفَ مَحِلَّهُ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَمَحَلُّ

الْبَيْعِ الْعَيْنُ ، وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّهِ ، فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَبِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ وَمُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِإِنْسَانٍ إنَّ إقْرَارَهُ يَنْفُذُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ، فَإِذَا مَضَتْ نَفَذَ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ، فَيُقْضَى بِالدَّارِ لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَجَّرَ مِنْ غَيْرِهِ إنَّ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ ، وَإِنْ أَبْطَلَهَا بَطَلَتْ ، وَهَهُنَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقَعُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذْ هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ، فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ ، وَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِ ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعَيْنِ ، وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا حَقٌّ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ بِتَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ حَتَّى نَفَذَتْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ لَا لِصَاحِبِ الدَّارِ ، وَفِي الْبَيْعِ يَكُونُ الثَّمَنُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَرَدَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا أَجَازَ كَانَ بَدَلُهَا لَهُ ، فَأَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُ بَدَلُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَ بَدَلُهَا لَهُ ، وَبِالْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ ،

فَإِذَا مَضَتْ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهُمَا وَاحِدَةً تَنْقَضِي الْمُدَّتَانِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَسْكُنَ حَتَّى تَتِمَّ الْمُدَّةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهَا الْمُؤَاجِرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ ، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْمَرْهُونِ مِنْ الرَّاهِنِ أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالَهُ ، فَإِذَا افْتَكَّهَا الرَّاهِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى جَاءَ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ قَائِمًا مَقَامَ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ حَبْسِ الْعَيْنِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ ، وَبَدَلُ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَيْنِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ حَبْسِهِ ، وَفَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَقَالَ فِي الرَّهْنِ : لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَمْلِكُهُ .
وَأَمَّا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ ؟ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَعْمَلُ بِغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ يَقَعُ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ ، إلَّا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِنَفْسِهِ ؛

لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ، وَالتَّعْيِينُ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمَّالَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْعَمَلِ فَيَتَعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا بِعَيْنِهِ لِلْحَمْلِ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَمْلِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جَمَلًا كَانَ لِلْمُكَارِي أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ أَيَّ جَمَلٍ شَاءَ ، كَذَا هَهُنَا .

وَتَطْيِينُ الدَّارِ ، وَإِصْلَاحُ مِيزَابِهَا ، وَمَا وَهَى مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ وَإِصْلَاحُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ ، لَكِنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ إنْ لَمْ يَعْمَلْ الْمُؤَاجِرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَالِكُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ الْعَيْبِ عَنْ مِلْكِهِ ، لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ حَتَّى لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ وَرَآهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ ، وَإِصْلَاحُ دَلْوِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا قُلْنَا ، وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الدَّارِ تُرَابٌ مِنْ كَنْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَتُرَابٍ وَضَعَهُ فِيهَا ، وَإِنْ امْتَلَأَ خَلَاهَا وَمَجْرَاهَا مِنْ فِعْلِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ نَقْلُهُ ، كَالْكُنَاسَةِ ، وَالرَّمَادِ ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَجَعَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ مَا كَانَ مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ فَنَقْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فَإِنْ أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا .

وَقَبْضُ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِأَنْ يَمْضِيَ بِهَا إلَيْهِ ، وَعَلَى الَّذِي أَجَّرَهَا أَنْ يَقْبِضَ مِنْ مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ انْتَفَعَ بِالْمُسْتَأْجَرِ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُؤْجِرِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ ، حَتَّى لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا سَوَاءٌ طَلَبَ مِنْهُ الْمُؤَاجِرُ أَمْ لَمْ يَطْلُبْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ إلَى بَيْتِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِمْسَاكِ فَلَا يَضْمَنُ .
كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى بَيْتِ الْمُودِعِ حَتَّى هَلَكَتْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ أَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، فَكَذَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ .
فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ مَوْضِعٍ مُسَمًّى فِي الْمِصْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَإِنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَبَضَهَا فِيهِ ، لَا لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِرَدِّهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ حَمَلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَأَمْسَكَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي حَمْلِهَا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : " ارْكَبْهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَارْجِعْ إلَى مَنْزِلِي " فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ

الْإِجَارَةِ ، فَبَقِيَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَتَبَرَّعْ الْمَالِكُ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يَلْزَمُ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ .

وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَأْخُذَ صَبِيًّا آخَرَ فَتُرْضِعَهُ مَعَ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَخَذَتْ صَبِيًّا آخَرَ فَأَرْضَعَتْهُ مَعَ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَسَاءَتْ وَأَثِمَتْ إنْ كَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ بِالصَّبِيِّ ، وَلَهَا الْأَجْرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ ، ( أَمَّا ) الْإِثْمُ فَلِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهَا كَمَالُ الرَّضَاعِ ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ صَبِيَّيْنِ فَقَدْ أَضَرَّتْ بِأَحَدِهِمَا لِنُقْصَانِ اللَّبَنِ ، .
( وَأَمَّا ) اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الْإِرْضَاعُ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ .
وَلِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ظِئْرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } .
نَفَى الْجُنَاحَ عَنْ الْمُسْتَرْضِعِ مُطْلَقًا ، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ الْأُخْرَى فَلَهَا الْأُجْرَةُ أَيْضًا ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الظِّئْرُ ظِئْرًا أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ أَوْ دَفَعَتْ الصَّبِيَّ إلَى جَارِيَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ فَلَهَا الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْأَجْرُ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهَا ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَمِلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ ، فَكَذَا هَذَا ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إرْضَاعَهَا قَدْ يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَارَةً يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا عَمِلَتْ بِأَمْرِ الْأُولَى وَقَعَ عَمَلُهَا لِلْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهَا عَمِلَتْ بِنَفْسِهَا .
هَذَا إذَا أُطْلِقَ ، فَأَمَّا إذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْإِرْضَاعَ بِنَفْسِهَا ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَحْبِسَ الظِّئْرَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَلَهَا أَنْ

تَأْخُذَ الصَّبِيَّ إلَى مَنْزِلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ عَلَى الظِّئْرِ طَعَامُ الصَّبِيِّ وَدَوَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى الظِّئْرِ مَا يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ مِنْ الرَّيْحَانِ وَالدُّهْنِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ .

وَقَدْ قَالُوا فِي تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْعُقُودِ : إنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ ، حَتَّى قَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا : إنَّ الزِّنْبِيلَ وَالْمِلْبَنَ عَلَى صَاحِبِ اللَّبِنِ ، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِمْ .
وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَفْرِ قَبْرٍ : إنَّ حَثْيَ التُّرَابِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ ، وَتَشْرِيجُ اللَّبِنِ عَلَى اللَّبَّانِ ، وَإِخْرَاجُ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ عَلَى الْخَبَّازِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ .
وَقَالُوا فِي الْخَيَّاط : إنَّ السُّلُوكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِذَلِكَ ، وَقَالُوا فِي الدَّقِيقِ الَّذِي يُصْلِحُ بِهِ الْحَائِكُ الثَّوْبَ : إنَّهُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ تَعَامَلُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَامَلُونَ ، وَقَالُوا فِي الطَّبَّاخِ إذَا اسْتَأْجَرَ فِي عُرْسٍ : إنَّ إخْرَاجَ الْمَرَقِ عَلَيْهِ وَلَوْ طَبَخَ قِدْرًا خَاصَّةً فَفَرَغَ مِنْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ إخْرَاجِ الْمَرَقِ شَيْءٌ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا حِنْطَةً إلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِ أَرَادَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُكَارِي ذَلِكَ فَيُدْخِلَهُ مَنْزِلَهُ وَأَبَى الْمُكَارِي ، قَالُوا : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَيَتَعَامَلُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بِهَا إلَى السَّطْحِ وَالْغُرْفَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَهُ ، وَلَوْ كَانَ حَمَّالًا عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ إدْخَالُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ إلَى عُلُوِّ الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ ، وَإِذَا تَكَارَى دَابَّةً فَالْإِكَافُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ ، فَأَمَّا الْحِبَالُ وَالْجُوَالِقُ فَعَلَى مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ ، وَكَذَلِكَ اللِّجَامُ .
وَأَمَّا السَّرْجُ فَعَلَى رَبِّ الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى

سُنَّتِهِمْ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ ، وَلَوْ الْتَقَطَ رَجُلٌ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا فَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ ، أَمَّا لُزُومُ الْأُجْرَةِ إيَّاهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى اللَّقِيطِ فَلَا يَمْلِكُ إيجَابَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَرَضَاعُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ .

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُغَيِّرُ تِلْكَ الصِّفَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَالدَّارِ ، وَالدَّابَّةِ ، وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ كَثَوْبِ الْقِصَارَةِ ، وَالصِّبَاغَةِ ، وَالْخِيَاطَةِ ، وَالْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فِي السَّفِينَةِ ، أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ ، أَوْ عَلَى الْجِمَالِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَالْأَجِيرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا وَهُوَ الْمُسَمَّى أَجِيرُ الْوَحْدِ ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزُفَرَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إلَّا حَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ غَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ لُصُوصٌ مُكَابِرِينَ ، وَلَوْ احْتَرَقَ بَيْتُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِسِرَاجٍ ؛ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لَأَطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، ثُمَّ إنْ هَلَكَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ ؛ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْحَرْقِ الْغَالِبِ ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي مِنْ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودِعِ ، وَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعَارَةُ وَالْغَصْبُ ، وَفِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأُجَرَاءِ ، وَهُوَ الْمُتَّهَمُ بِالْخِيَانَةِ ، وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَهُمَا بِالْقَبْضِ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَهُ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ أَوْ رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْحِمْلُ فَعَطِبَ الْحِمْلُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ ، وَالْمُكَارِي رَاكِبَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ سَائِقَيْنِ أَوْ قَائِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ

الْمَتَاعَ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ الْأَجِيرُ بِالْيَدِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْيَدِ ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ سُرِقَ الْمَتَاعُ مِنْ رَأْسِ الْحَمَّالِ ، وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَمْشِي مَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ ، حَيْثُ لَمْ يُخْلِ صَاحِبُ الْمَتَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ ، وَقَالُوا فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ فِي سَفِينَتَيْنِ وَصَاحِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا ، وَهُمَا مَقْرُونَتَانِ أَوْ غَيْرُ مَقْرُونَتَيْنِ إلَّا أَنَّ سَيْرَهُمَا جَمِيعًا وَحَبْسَهُمَا جَمِيعًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ الْقِطَارُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُمُولَةٌ ، وَرَبُّ الْحُمُولَةِ عَلَى بَعِيرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ زِقًّا مِنْ سَمْنٍ فَحَمَلَهُ صَاحِبُ الزِّقِّ وَالْحَمَّالُ جَمِيعًا لِيَضَعَاهُ عَلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَانْخَرَقَ الزِّقُّ ، وَذَهَبَ مَا فِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ الْحَمَّالُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الْحَمَّالِ بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ قَالَ : وَإِنْ حَمَلَهُ إلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ الْحَمَّالُ مِنْ رَأْسِهِ وَصَاحِبُ الزِّقِّ فَوَقَعَ مِنْ أَيْدِيهِمَا فَالْحَمَّالُ ضَامِنٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْمُولَ دَاخِلٌ فِي ضَمَانِ الْحِمَالَةِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ ، فَإِذَا أَخْطَئُوا جَمِيعًا فَيَدُ الْحَمَّالِ لَمْ تَزُلْ فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ وَصَلَ إلَى صَاحِبِهِ بِإِنْزَالِهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا ، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ ابْتِدَاءً إلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَهَلَكَ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مُصْحَفًا يَعْمَلُ فِيهِ ، وَدَفَعَ الْغِلَافَ مَعَهُ ، أَوْ دَفَعَ سَيْفًا

إلَى صَيْقَلٍ يَصْقُلُهُ بِأَجْرٍ ، وَدَفَعَ الْجَفْنَ مَعَهُ فَضَاعَا ، قَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُ الْمُصْحَفَ ، وَالْغِلَافَ ، وَالسَّيْفَ وَالْجَفْنَ ؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْغِلَافِ ، وَالسَّيْفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْجَفْنِ ، فَصَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، قَالَ : فَإِنْ أَعْطَاهُ مُصْحَفًا يَعْمَلُ لَهُ غِلَافًا أَوْ سِكِّينًا يَعْمَلُ لَهُ نِصَالًا فَضَاعَ الْمُصْحَفُ أَوْ ضَاعَ السِّكِّينُ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بَلْ فِي غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ فَقَالَ الْأَجِيرُ : رَدَدْت ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ فِي الْقَبْضِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْأَجْرِ ، وَعِنْدَهُمَا : الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ عِنْدَهُمَا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا فَمَا فِي يَدِهِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْخَالِصِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ ، وَلَا يَتَسَلَّمُ الْمَالَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخِيَانَةُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ صِفَةِ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ فَالْمُغَيِّرُ لَهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا : تَرْكُ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فِيهِ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ ، وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ حَتَّى ضَاعَتْ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ وَالْإِفْسَادُ إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَوْ عَنُفَ فِي الدَّقِّ ، سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ خَطَأً بِعَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَالْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي النُّورَةِ فَاحْتَرَقَ ، أَوْ الْمَلَّاحِ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ عَمَلِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَضْمَنُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ ، وَالْمُعَيَّنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالدَّقِّ ، وَالدَّقُّ مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ فَأَشْبَهَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ ، وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ إلَّا بِحَرَجٍ ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ لَا الْمُفْسِدُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِإِفْسَادِ مَالِهِ ، وَلَا يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِالْمُصْلِحِ دَلَالَةً ، وَقَوْلُهُ : لَا يُمْكِنُهُ " التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ "

مَمْنُوعٌ ، بَلْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي النَّظَرِ فِي آلَةِ الدَّقِّ وَمَحَلِّهِ ، وَإِرْسَالِ الْمِدَقَّةِ عَلَى الْمَحَلِّ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ الْحَذَاقَةِ فِي الْعَمَلِ ، وَالْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ ، وَعِنْدَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ ، فَلَمَّا حَصَلَ دَلَّ أَنَّهُ قَصَّرَ كَمَا نَقُولُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، إلَّا أَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ حَتَّى يُؤَاخَذَ الْخَاطِئُ وَالنَّاسِي بِالضَّمَانِ ، وَقَوْلُهُ : " لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا بِحَرَجٍ " مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْإِسْقَاطِ لَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ وَالسِّرَايَةَ هُنَاكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قُوَّةِ الطَّبِيعَةِ ، وَضَعْفِهَا ، وَلَا يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ .
وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَهُنَاكَ وَإِنْ وَقَعَ عَمَلُهُ إفْسَادًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَمَّالُ إذَا زَلِقَتْ رَجُلُهُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ فَسَقَطَ وَفَسَدَ حِمْلُهُ ، وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ حَتَّى فَسَدَ لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَعْنَى الْحَرْقِ الْغَالِبِ ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَمَّالُ هُوَ الَّذِي زَاحَمَ النَّاسَ حَتَّى انْكَسَرَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَكَذَلِكَ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ إذَا سَاقَ الدَّوَابَّ عَلَى السُّرْعَةِ فَازْدَحَمْنَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ أَوْ عَلَى الشَّطِّ فَدَفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَعَطِبَ فَعَلَى هَذَا الْخِلَاف ، وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّةٌ بِسَوْقِهِ

أَوْ ضَرْبِهِ إيَّاهَا فَإِنْ سَاقَ سَوْقًا مُعْتَادًا أَوْ ضَرَبَ ضَرْبًا مُعْتَادًا فَعَطِبَتْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَإِنْ سَاقَ أَوْ ضَرَبَ سَوْقًا ، وَضَرْبًا بِخِلَافِ الْعَادَةِ يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافٌ عَلَى طَرِيقِ التَّعَدِّي ، ثُمَّ إذَا تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بَلْ الْمَضَرَّةَ ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ دُونَ الْمُفْسِدِ ، وَفِي الْحَمَّالِ إذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ ، أَمَّا التَّخْيِيرُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ جِهَتَا الضَّمَانِ : الْقَبْضُ وَالْإِتْلَافُ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقَبْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْإِتْلَافِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّمَانُ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ سَبَبٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْإِتْلَافُ ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وُجِدَ هَهُنَا سَبَبَانِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِتْلَافُ ، وَالثَّانِي : الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْتَزَمَ الْوَفَاءَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ وَقَدْ خَالَفَ ، وَالْخِلَافُ مِنْ أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ شَاءَ بِالْإِتْلَافِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْقَدْرِ التَّالِفِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ

عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ فِي الْمَنَافِعِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ : إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَفْرِيقِهَا ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَارِي فِيمَا عَطِبَ مِنْ سَوْقِهِ ، وَلَا قَوْدِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ بَنُو آدَمَ مِنْ وَجْهِ الْإِجَارَةِ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَتَاعَ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ ، دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مَا يَضْمَنُهُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَضْمَنُهُ بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِفْسَادِ ، وَالْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَتَاعُ وَالْآدَمِيُّ ، وَأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِتْلَافِ ، وَذَكَرَ بِشْرٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْقَصَّارِ إذَا اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِيَدُقَّ مَعَهُ فَتَخَرَّقَ ، وَلَا يُدْرَى مِنْ أَيِّ الدَّقِّ تَخَرَّقَ وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَدُقَّاهُ ، قَالَ : عَلَى الْقَصَّارِ نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : إنَّ الضَّمَانَ كُلَّهُ عَلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ مِنْ دَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ مِنْ دَقِّهِمَا ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الثَّوْبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْقَصَّارِ بِالْقَبْضِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَرُّقَ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَسَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْقَصَّارِ ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ فِي حَالٍ ، وَلَا يَجِبُ فِي حَالٍ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِيهِ ، فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَقَالُوا فِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا ، وَطِئَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَخَرَقَهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّوْبِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَلَوْ ، وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ فَأَحْرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ ، وَلَا

ضَمَانَ عَلَى التِّلْمِيذِ ؛ لِأَنَّ الذَّهَابَ ، وَالْمَجِيءَ بِالسِّرَاجِ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَيَنْتَقِلُ عَمَلُهُ إلَى الْأُسْتَاذِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ دَقَّ الْغُلَامُ فَانْقَلَبَ الكودين مِنْ غَيْرِ يَدِهِ فَخَرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقِصَارَةِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْأُسْتَاذِ ، فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا وَدِيعَةً عِنْدَ الْأُسْتَاذِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْأُسْتَاذِ فِيمَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالَهُ فِيهِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي ثِيَابِ الْقِصَارَةِ لَا فِي ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ ، فَبَقِيَ مُضَافًا إلَيْهِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ عَلَى ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ فَأَحْرَقَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ لِمَا قُلْنَا ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا عَلَى بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنُوا ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَلَسُوا عَلَى وِسَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْمَشْيِ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْوِسَادَةِ ، فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا ، وَلَوْ وَطِئُوا آنِيَةً مِنْ الْأَوَانِي ضَمِنُوا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُؤْذَنُ فِي وَطْئِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئُوا ثَوْبًا لَا يُبْسَطُ مِثْلُهُ ، وَلَوْ قَلَبُوا إنَاءً بِأَيْدِيهِمْ فَانْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنُوا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقَلَّدًا سَيْفًا فَخَرَقَ السَّيْفُ الْوِسَادَةَ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْجُلُوسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَلَوْ جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ فِي الطَّرِيقِ فَمَرَّتْ عَلَيْهِ حَمُولَةٌ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَصَّارِ ، وَالضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ الْحَمُولَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ السَّائِقِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَامَةِ ، فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .

وَلَوْ تَكَارَى رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَعَطَبَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : نَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا نُضَمِّنَهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادَ ، وَالْكَبْحِ الْمُعْتَادَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ ضَرْبَ الدَّابَّةِ وَكَبْحَهَا مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ ، وَالْمُعْتَادُ كَالْمَشْرُوطِ ، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ ، كَذَا هَذَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ مَأْذُونٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ الْإِذْنَ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِدُونِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخَيَّرًا فِيهِ فَأَشْبَهَ ضَرْبَهُ لِزَوْجَتِهِ ، وَدَعْوَى الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الدَّابَّةِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْنُوعَةٌ ، عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَأْذُونًا فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ إذَا كَانَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا الْخِلَافُ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إذَا وَقَعَ غَصْبًا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخِلَافَ قَدْ يَكُونُ فِي الْجِنْسِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصِّفَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الزَّمَانِ .
وَالْخِلَافُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ كَالْحَائِكِ ، وَالصَّبَّاغِ ، وَالْخَيَّاطِ خَلَا الْمَكَانِ .
أَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ ، وَالصِّفَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ ضَرَرُ الدَّابَّةِ ، فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي الْجِنْسِ يُنْظَرُ : إنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ ، فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا لِكُلِّهَا ، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي مِثْلَ الضَّرَرِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالشَّيْءِ إذْنٌ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ دَلَالَةً ، فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ بَلْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ ، وَالثِّقَلُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ ، وَالضَّرَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْجِهَةُ فِي الضَّمَانِ لَا الْخِفَّةُ ، وَالثِّقَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ ، وَضَرَرُ الدَّابَّةِ يَنْشَأُ مِنْهَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا ، وَيُبْنَى

الضَّمَانُ عَلَيْهَا .

وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ مِنْ الشَّعِيرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ أَصْلًا ، فَصَارَ غَاصِبًا كُلَّ الدَّابَّةِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهَا فَيَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِصَيْرُورَتِهِ غَاصِبًا ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، وَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا مَكِيلًا آخَرَ ثِقَلُهُ كَثِقَلِ الْحِنْطَةِ وَضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا فَعَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا سَمَّاهُ فَزَرَعَ غَيْرَهُ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ .
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا آخَرَ ضَرَرُهُ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُسَمَّى ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَدْ تَحَقَّقَ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ ، وَلَنَا أَنَّ الْخِلَافَ إلَى مِثْلِهِ أَوْ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى ؛ لِأَنَّ رِضَا الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الضَّرَرِ كَانَ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي ، وَإِذَا كَانَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَوَّلِ كَانَ بِالثَّانِي أَرْضَى فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ غَيْرِهِ ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْكَيْلِ ، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا تِسْعَةً أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا ، كَذَا هَذَا .

، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ فَإِنْ سَلِمَتْ فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى مِنْ الْأُجْرَةِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ عَطِبَتْ ضَمِنَ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ زُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عِلَّةَ التَّلَفِ ، وَلَنَا أَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ حَصَلَ بِالثِّقَلِ ، وَالثِّقَلُ بَعْضُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَيُقَسَّمُ التَّلَفُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ ثِقَلِ الْحَائِطِ ، وَثِقَلُ الْحَائِطِ أَثْلَاثٌ ، كَذَا هَذَا ، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَمْلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الزِّيَادَةِ ، وَأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً لِيَطْرَحَ فِيهَا عَشَرَةَ أَكْرَارٍ فَطَرَحَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ فَغَرِقَتْ السَّفِينَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ السَّفِينَةِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فَهِيَ عِلَّةُ التَّلَفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَزِدْ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ التَّلَفُ حَصَلَ بِالْكُلِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُرَّ الزَّائِدَ لَوْ انْفَرَدَ لَمَا حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالْكُلِّ ، وَالْبَعْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَالْبَعْضُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ غَيْرُ

مَأْذُونٍ فِيهِ فَفِيهِ الضَّمَانُ ، وَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ قُطْنٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ هَهُنَا لَيْسَ لِلثِّقَلِ بَلْ لِلِانْبِسَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ ، وَأَعْقَرَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُحَمِّلَهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ خَشَبًا أَوْ آجُرًّا أَوْ حَدِيدًا أَوْ حِجَارَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوْ أَعْقَرَ لَهُ حَتَّى عَطِبَتْ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا ، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَرَكِبَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْكَبَهَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الثِّقَلِ أَوْ أَخَفُّ مِنْهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْحَزْقُ وَالْعِلْمُ ، فَإِنَّ خَفِيفَ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الرُّكُوبَ يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ ، وَالثَّقِيلَ الَّذِي يُحْسِنُ الرُّكُوبَ لَا يَضُرُّ بِهَا ، فَإِذَا عَطِبَتْ عُلِمَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ حَزْقِهِ بِالرُّكُوبِ فَضَمِنَ ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ الثِّقَلُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ لَيْسَ مِنْ ثِقَلِ الرَّاكِبِ بَلْ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِالرُّكُوبِ ، فَصَارَ تَلَفُهَا بِرُكُوبِهَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهَا بِجِرَاحَتِهَا ، وَرُكُوبُ أَحَدِهِمَا مَأْذُونٌ فِيهِ ، وَرُكُوبُ الْآخَرِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ، وَصَارَ كَحَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا أُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَوَقَعَتْ مِنْهُ آجُرَّةٌ فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْحَائِطِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ مَا حَصَلَ بِالثِّقَلِ بَلْ بِالْجُرْحِ ، وَالْجِرَاحَةُ الْيَسِيرَةُ كَالْكَثِيرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا جِرَاحَةً ، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، كَذَا هَهُنَا ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ إرْكَابُ الْغَيْرِ ، غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا الْأَجْرُ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تَطِيقُ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَطِيقُهُمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِإِرْكَابِ غَيْرِهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِإِكَافٍ فَنَزَعَهُ مِنْهُ وَأَسْرَجَهُ فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ السَّرْجِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْإِكَافِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُ الْإِكَافُ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ مِنْهُ السَّرْجَ ، وَأَوْكَفَهُ فَعَطِبَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ مَا زَادَ الْإِكَافُ عَلَى السَّرْجِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِحِسَابِ الزِّيَادَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِكَافَ وَالسَّرْجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرْكَبُ بِهِ عَادَةً ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالثِّقَلِ ، وَالْخِفَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِكَافَ أَثْقَلُ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الثِّقَلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِسَرْجٍ فَنَزَعَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ أَثْقَلُ مِنْ الْأَوَّلِ فَعَطِبَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ ، كَذَا هَذَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَا يُخَالِفُ السَّرْجَ فِي الثِّقَلِ ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ السَّرْجُ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي لَمْ تَأْلَفْ الْإِكَافَ يَضُرُّ بِهَا الْإِكَافُ ، وَالْخِلَافُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلثِّقَلِ يَجِبُ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ كَمَا إذَا حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ الْحَدِيدَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَّلَ السَّرْجَ بِسَرْجٍ أَثْقَلَ مِنْهُ ، وَالْإِكَافُ بِإِكَافٍ أَثْقَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ هُنَاكَ مِنْ نَاحِيَةِ الثِّقَلِ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا عَارِيًّا فَأَسْرَجَهُ ثُمَّ رَكِبَ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ السَّرْجَ أَثْقَلُ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَقِيلَ : هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ فِي الْمِصْرِ ، وَهُوَ مِنْ غَرْضِ النَّاسِ مِمَّنْ يَرْكَبُ فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَرْجٍ ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ

هُوَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ ، وَلَا إكَافٍ ، وَكَذَا ذُو الْهَيْئَةِ فَكَانَ الْإِسْرَاجُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَأَسْرَجَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ سَرْجًا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِمَّا يُسْرَجُ بِهِ الْحُمُرُ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الضَّرَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً ، وَإِذَا كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ بِأَنْ كَانَ سَرْجًا كَبِيرًا كَسُرُوجِ الْبَرَاذِينِ كَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ ، فَكَانَ إتْلَافًا لِلدَّابَّةِ فَيَضْمَنُ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِجَامٌ فَأَلْجَمَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُلْجَمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ اللِّجَامِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَهُ ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَتْلَفُ بِأَصْلِ اللِّجَامِ فَإِذَا كَانَ الْحِمَارُ قَدْ يُلْجَمُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَبْدَلَهُ بِمِثْلِهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ ، وَلَا الْخِلَافُ فَلَا يَضْمَنُ .

وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْمَكَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلْحَمْلِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ كَمَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَعْلُومَ دَخَلَ الْمُسْتَأْجَرُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى لَوْ عَطِبَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ .
وَلَوْ عَادَ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ هَلْ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ : يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ : لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا سَلِيمَةً وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّيْءَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْخِلَافِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْدَ الْهَلَاكِ ، وَضَمِنَهُ الْمُسْتَحِقُّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ كَالْمُودِعِ سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الشَّيْءَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ لَا يَدَ الْمُؤَاجِرِ ، وَكَذَا يَدُ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ فَإِذَا ضَمِنَ بِالتَّعَدِّي لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ الْإِعَادَةُ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ لَا يَدُ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ الْوَدِيعَةِ فَكَانَ الْعَوْدُ إلَى الْوِفَاقِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَكَانَ رَدًّا إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالضَّمَانِ فَلَيْسَ

ذَلِكَ لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ الْمُؤَاجِرِ ، بَلْ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ مِنْ يَدِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْغَرُورِ ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان عَيَّنَهُ فَرَكِبَهَا إلَى مَكَان آخَرَ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ إلَى الْأَمَاكِنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ رَكِبَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَكِنْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ يُنْظَرُ : إنْ كَانَ النَّاسُ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْلُكُونَهُ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ لِصَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا بِسُلُوكِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ ، وَبَلَغَ الْمَوْضِعَ الْمَعْلُومَ ثُمَّ رَجَعَ ، وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ إلَى صَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَذَهَبَ بِهَا ، وَلَمْ يَرْكَبْهَا ، وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَنَافِعَ إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ فَلَمْ يَسْكُنْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْأُجْرَةُ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ أَمْسَكَ الدَّابَّةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا عَلَى قَدْرِ مَا يُمْسِكُ النَّاسُ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الدَّابَّةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مُسْتَثْنًى عَادَةً فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً ، وَإِنْ حَبَسَ مِقْدَارَ مَا لَا يَحْبِسُ النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَعَطِبَ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِي الْمَكَانِ بِالْإِمْسَاكِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ ، وَلَا

أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ فَأَمْسَكَهَا فِي بَيْتِهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يُوجَدْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَرْكَبَهَا فَحَبَسَهَا ، وَلَمْ يَرْكَبْهَا حَتَّى رَدَّهَا يَوْمَ الْعَاشِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ ، وَيَسَعُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْوَقْتِ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْوَقْتِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كَمَا فِي إجَارَةِ الدَّارِ ، وَنَحْوِهَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ بِالتَّسْلِيمِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ .

وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الزَّمَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا ، أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْتَفَعَ بِهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُدَّةِ فَعَطِبَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ .

وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ مِنْ الْحَائِكِ ، وَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ ، وَنَحْوِهِمْ .
فَالْخِلَافُ إنْ كَانَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ لِيَصْبُغَهُ لَوْنًا فَصَبَغَهُ لَوْنًا آخَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ لِلْأَجِيرِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ .
أَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِفَوَاتِ غَرَضِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ لِتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً ، فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لَهُ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ ، وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ رَأْسًا حَيْثُ لَمْ يُوَفِّ الْعَمَلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ أَصْلًا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ كَالْحُمْرَةِ ، وَالصُّفْرَةِ وَنَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ فَيَأْخُذُهُ ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَنَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْغَاصِبِ ، وَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا لَا يَزِيدُ كَالسَّوَادِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا بَلْ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الثَّوْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُ فَلَا يَزِيدُ بَلْ يَنْقُصُ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ قِيمَةٌ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رَطْبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَةَ مَعَ الزَّرْعِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ إذْ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ لَهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ ، وَكَذَا الرَّطْبَةُ تَضُرُّ

بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّهَا الزَّرْعُ ، فَصَارَ بِالِاشْتِغَالِ بِزِرَاعَةِ الرَّطْبَةِ غَاصِبًا إيَّاهَا بَلْ مُتْلِفًا ، وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَنْقُشَ فِي فِضَّةٍ اسْمَهُ ، فَنَقْشَ اسْمَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْخَاتَمَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْخَاتَمِ ، وَهُوَ الْخَتْمُ بِهِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ إيَّاهُ قَالَ : وَإِذَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُحَمِّرَ لَهُ بَيْتًا فَخَضَّرَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ : أُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الْخُضْرَةُ فِيهِ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الصِّبْغِ الَّذِي زَادَ فِي الْبَيْتِ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ ، وَالْقَمِيصَ مُخْتَلِفَانِ فِي الِانْتِفَاعِ فَصَارَ مُفَوِّتًا مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا .

، وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ نَحْوَ أَنْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مُسَمًّى فَصَبَغَهُ بِصَبْغٍ آخَرَ لَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ اللَّوْنِ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ أَبْيَضَ ، وَيُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ .
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الْجِنْسِ ، وَإِنَّمَا ، وَجَبَ الْأَجْرُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِالْأَصْلِ ، وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَشْتًا مَوْصُوفًا مَعْرُوفًا فَضَرَبَ لَهُ كُوزًا قَالَ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ وَيَصِيرُ الْكُوزُ لِلْعَامِلِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخْذَهُ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ صِفَةً ، فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِأَصْلِهِ ، وَخَالَفَ فِي ، وَصْفِهِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا صَفِيقًا فَحَاكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا فَحَاكَهُ صَفِيقًا إنَّ صَاحِبَ الْغَزْلِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ غَزْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ مَا سُمِّيَ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا دَفَعَ خُفَّهُ إلَى خَفَّافٍ لِيُنَعِّلَهُ فَأَنْعَلَهُ بِنَعْلٍ لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ ، فَصَاحِبُ الْخُفِّ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُفَّهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ

مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ ، وَقِيمَةَ النَّعْلِ ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ ، وَإِنْ كَانَ يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا .
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ إذَا أَنَعْلَهُ بِمَا لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ رَأْسًا بَلْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ ابْتِدَاءً فَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا أَنْعَلَ الْخُفَّ الْمَغْصُوبَ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَالْغَاصِبِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُفَّ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ تَثْبُتُ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَخْذِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِذَا أَخَذَ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْعَمَلِ ، وَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهُ وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَلَا يُعْطِيَهُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَوْصُوفٍ وَلَمْ يَأْتِ بِالصِّفَةِ ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ النَّعْلَ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْخَفَّافِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِيَارُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى صَاحِبِ الْخُفِّ ، وَالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبٌ مَتْبُوعٌ وَالنَّعْلُ ، وَالصِّبْغُ تَبَعٌ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَقَدْ وُجِدَ ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ جَيِّدًا فَأَنْعَلَهُ بِغَيْرِ جَيِّدٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُفِّ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخُفَّ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ ؛ لِأَنَّ الرَّدِيءَ مِنْ جِنْسِ الْجَيِّدِ ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ .

وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ نَحْوَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ لَهُ سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ فَخَالَفَ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ ، فَإِنْ خَالَفَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الرَّجُلَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى .
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي قَدْرِ الذِّرَاعِ تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصِّفَةِ ، وَهِيَ الصَّفَاقَةُ ، فَيَفُوتُ غَرَضُهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الَّذِي سَمَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ ، وَالْخِلَافُ فِي صِفَةِ الْعَمَلِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْعَيْبِ .
وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي النُّقْصَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ فِي الْقَدْرِ فَقَدْ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَجْرٌ مُسَمًّى ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُقَدَّرٍ ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمُقَدَّرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى نَقْلِ كُرٍّ مِنْ طَعَامٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ فَنَقَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ ، فَكَذَا هَهُنَا ، وَإِنْ أَوْفَاهُ الْوَصْفَ ، وَهُوَ الصَّفَاقَةُ وَالذِّرَاعُ ، وَزَادَ فِيهِ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ ، وَصَارَ الثَّوْبُ

لِلصَّانِعِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى ، وَلَا يَزِيدُ لِلذِّرَاعِ الزَّائِدِ شَيْئًا ، أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الثَّوْبِ الْقَصِيرِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّوِيلِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَادَ فِي طُولِهِ فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْغَزْلِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ فِيهَا حَيْثُ عَمِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرِ رُبُعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ ، وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ رَبَّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مَعَ الْأَجْرِ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوا تَفْصِيلًا فَقَالُوا : إنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَ صَبَغَهُ أَوَّلًا بِرُبُعِ الْهَاشِمِيِّ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى ، وَمَا زَادَ لِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فِي الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالصِّبْغِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوَّلًا وَهُوَ رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ فَقَدْ أَوْفَاهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالصِّبْغِ الثَّانِي كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالرُّبُعِ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ : إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الصِّبْغَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ الثَّانِي فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمَةٌ لِلصَّبَّاغِ فِي الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِرُبُعِ الْقَفِيزِ ، وَوَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ مِنْ وَجْهٍ

لِحُصُولِهِ فِي ثَوْبِهِ لَكِنْ يُكْمِلُ الْقَبْضَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ فَكَانَ مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْقَبْضِ لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ ، وَيَضْمَنَ الْأَجْرَ ، وَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ ابْتِدَاءً بِقَفِيزٍ فَلَهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوفِ بِالْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَمْ يَعْمَلْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا ، وَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ خِلَافَ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ ، وَيَغْرَمَ الْأَجْرَ ، وَمَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مُجْتَمِعًا كَانَ أَوْ مُتَفَرِّقًا ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ لَا يَتَشَرَّبُ فِي الثَّوْبِ دُفْعَةً ، وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَسْتَوِي فِيهِ الِاجْتِمَاعُ ، وَالِافْتِرَاقُ .

وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُؤَاجِرِ فِي أَجْرِ الْمِثْلِ لَا فِي الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لَمْ يَرْضَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِبَدَلٍ .
وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَلِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْعَدْلُ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ ، فَيُعْدَلُ مِنْهَا إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى فِي عَقْدٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُزَادُ ، وَيَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ شَرْعًا بِأَنْفُسِهَا ، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِتَقْوِيمِ الْعَاقِدَيْنِ ، وَالْعَاقِدَانِ مَا قَوَّمَاهَا إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَوْ وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى لَوَجَبَتْ بِلَا عَقْدٍ وَإِنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ بِلَا عَقْدٍ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ ، وَالْأَعْيَانُ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَوَجَبَ كُلُّ قِيمَتِهَا ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا كَالْأَعْيَانِ .
هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ بِالْإِجْمَاعِ ؛

لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْأَجْرِ لَا يُرْضَى بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ دَلَالَةً ، فَكَانَ تَقْوِيمًا لِلْمَنَافِعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إذْ هُوَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ فِيهِ ، وَهِيَ كَوْنُهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ الْهَلَاكِ فِي قَبْضٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمُؤَاجِرِ .

وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْبَاطِلَةُ ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا حُكْمَ لَهَا رَأْسًا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ فَوُجُودُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْبَاطِلِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ ، وَنَحْوِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ ، وَالْإِجَارَةُ وَقَعَتْ صَحِيحَةً يُنْظَرُ : إنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ تَحَالَفَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ، } وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَيَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ : " وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا " يَتَنَاوَلُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ .
وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَيْنًا بِمَنْفَعَةٍ ، وَاخْتَلَفَا فِيهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّحَالُفُ فِي نَوْعٍ بِالْحَدِيثِ ثَبَتَ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِنَتِيجَةِ الْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ التَّحَالُفَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مُوَافِقٌ الْأُصُولَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ عَلَى الْمُنْكِرِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُدَّعٍ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي عَلَى الْمُؤَاجِرِ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ بِمَا يَدَّعِي مِنْ الْأُجْرَةِ ، وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا مِنْ وَجْهٍ ، وَالْيَمِينُ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ .
وَلِهَذَا جَرَى التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَبَيْعُ الْعَيْنِ وَالتَّحَالُفُ هَهُنَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي قَدْرِ الْمُبْدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ تَسْلِيمِ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِذَا تَحَالَفَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ، لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ ، وَالْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ

وَالْإِقْرَارَ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُقَابِلُ الْحُجَّةَ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُبْدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُؤَاجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأَجْرِ وَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ قَالَ : الْمُؤَاجِرُ أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةٍ ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ ، أَوْ قَالَ الْمُؤَاجِرُ : أَجَّرْتُكَ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : لِشَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ فَالْأَمْرُ فِي التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، فَيَكُونُ إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةٍ ، وَشَهْرَيْنِ بِعَشَرَةٍ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُؤَاجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأَجْرِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ فَتُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي تُثْبِتُهَا .

، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمُدَّةِ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا مَضَى مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مُبْتَدَأً ، فَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ مُنْفَرِدًا فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ لِلْحَالِ ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ مُبْتَدَأً إنَّمَا الْجُمْلَةُ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي قَدْرِ الْهَالِكِ يَسْقُطُ فِي الْبَاقِي .

، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَسَافَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَ إلَيْهَا لَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ يُثْبِتُ الْفَسْخَ ، وَالْمَنَافِعُ الْمُنْعَدِمَةُ لَا تَحْتَمِلُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ شَرْطُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي الْمَبِيعِ الْهَالِكِ ، وَالْمَنَافِعُ هَهُنَا هَالِكَةٌ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا التَّحَالُفُ .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَبِيعِ الْهَالِكِ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ الْهَالِكَةِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عَلَى أَصْلِنَا ، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ فَإِذَا فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ بِالتَّحَالُفِ تَبْقَى الْمَنَافِعُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا تَتَقَوَّمُ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا ، فَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ يَبْقَى الْعَقْدُ مُتَقَوِّمًا بِنَفْسِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ، وَالْخِلَافُ مَتَى وَقَعَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَحِقِّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الْأَجْرِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : بِدِينَارٍ ، فَالْحُكْمُ فِي التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ مَا وَصَفْنَا .
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا لَهُ ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا لَهُ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُؤَاجِرُ : أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ إلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ ، وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إلَى الْقَصْرِ ، وَقَعَ فِي الْبَدَلِ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا ، وَتَثْبُتُ الْإِجَارَةُ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي مِنْ الْقَصْرِ إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ نِصْفُ الطَّرِيقِ ، وَالْمُؤَاجِرُ يَجْحَدُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِجَارَةِ أَوْلَى مِنْ النَّافِيَةِ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا سَنَةً فَاخْتَلَفَا فَأَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ ، وَشَهْرًا بِتِسْعَةٍ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا بِعَشَرَةٍ قَالَ : فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَضْلَ أُجْرَةٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَقَدْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، فَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي عَشَرَ فَقَدْ أَقَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُؤَاجِرِ فِيهِ بِفَضْلِ الْأُجْرَةِ فِيمَا ادَّعَى ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ الْفَضْلُ بِتَكْذِيبِهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ ، وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَبَاءً ، وَقَالَ الْخَيَّاطُ : أَمَرْتَنِي أَنْ

أَقْطَعَهُ قَمِيصًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا ، وَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : يَتَحَالَفَانِ فَإِذَا حَلَفَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْخَيَّاطِ ، وَسَقَطَ الْأَجْرُ ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ أَقَرَّ بِالْإِذْنِ بِالْقَطْعِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ صِفَةٍ تُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَتُسْقِطُ الْأَجْرَ ، وَالْخَيَّاطُ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْإِذْنِ قَوْلَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ بِالْقَطْعِ فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ : لَمْ آذَنْ بِالْقَطْعِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : لَمْ آذَنْ بِقَطْعِهِ قَمِيصًا ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ قَطْعُ الْقَبَاءِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ ، وَلَا مَعْنَى لِأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ وَضْعٌ لِلْفَسْخِ ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ هَهُنَا فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي عَلَى الْخَيَّاطِ الْغَصْبَ ، وَالْخَيَّاطَ يَدَّعِي الْأَجْرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّحَالُفُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَضْمِينُ الْخَيَّاطِ قِيمَةَ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَمَّا حَلَفَ عَلَى دَعْوَى الْخَيَّاطِ فَقَدْ صَارَ الْخَيَّاطُ بِقَطْعِهِ الثَّوْبَ لَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، أَمَّا اخْتِيَارُ أَخْذِ الثَّوْبِ فَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ تَغَيُّرِ الصِّفَةِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ الرِّضَا بِهِ ،

وَإِعْطَاؤُهُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ ، وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْقَبَاءِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ بِأَنْ يَسُدَّ وَسَطَهُ وَأَزْرَارَهُ ، وَإِنَّمَا يُفَوِّتُ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ ، فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعَ الْعَيْبِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ لَمْ تَجِبْ لَهُ الْأُجْرَةُ لِاخْتِلَافِ مَنْفَعَةِ الْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ ، فَلَمْ يَأْتِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ رَأْسًا قَالَ الْقُدُورِيُّ : وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ هِشَامًا رَوَى أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَشْتًا مَوْصُوفًا فَضَرَبَهُ كُوزًا : إنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ ، وَالْكُوزُ لِلْعَامِلِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ مَا سُمِّيَ ، فَفِي السَّرَاوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، وَوَجْهُهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الضَّرْبِ ، وَالصِّنَاعَةُ صِفَةٌ لَهُ فَقَدْ وَافَقَ فِي أَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَخَالَفَ فِي الصِّفَةِ ، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ ، وَبِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَنْزِعَ لَهُ ضِرْسًا مُتَآكِلًا فَنَزَعَ ضِرْسًا مُتَآكِلًا فَقَالَ الْآمِرُ : أَمَرْتُك بِغَيْرِ هَذَا بِهَذَا الْأَجْرِ ، وَقَالَ الْمَأْمُورُ : أَمَرْتنِي بِاَلَّذِي نَزَعْتُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي ذَلِكَ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ خَاصَّةً ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَهُ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ عَلَى مَا وَصَفَ لَهُ بِالْعُصْفُرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ ، فَقَالَ الصَّبَّاغُ : عَمِلْته بِدِرْهَمٍ ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : بِدَانَقَيْنِ ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا

بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الصَّبَّاغِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ أَعْطَيْته دِرْهَمًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الصَّبَّاغُ مَا صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَا زَادَ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْعُصْفُرِ أَقَلَّ مِنْ دَانَقَيْنِ أَعْطَيْته دَانَقَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مَا صَبَغْته إلَّا بِدَانَقَيْنِ ، أَمَّا إذَا قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الصَّبَّاغِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ إذَا كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلصَّبَّاغِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ دَانَقَيْنِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِرَبِّ الثَّوْبِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ دَانَقَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي الثَّوْبِ نِصْفَ دِرْهَمٍ قَالَ : أَعْطَيْت الصَّبَّاغَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى إذَا سَقَطَتْ لِلتَّعَارُضِ بِحُكْمِ الصَّبْغِ فَوَجَبَ قِيمَةُ الصِّبْغِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصَّارِ مَعَ رَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّوْبِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْقَصَّارِ ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَصْلُحُ حُكْمًا فَيُرْجَعَ إلَى قَوْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ يُنْقِصُ الثَّوْبَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالدَّعْوَى لِلتَّعَارُضِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى

الرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ الصِّبْغِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الصَّبَّاغُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : أَمَرْتُك بِالْعُصْفُرِ ، وَقَالَ الصَّبَّاغُ : بِالزَّعْفَرَانِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا أَمَرَ الْمُسْتَعْمِلُ الصَّانِعَ بِالزِّيَادَةِ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْغَزْلِ رِطْلًا مِنْ عِنْدِهِ مِثْلَ غَزْلِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَ الْغَزْلِ وَأُجْرَةَ الثَّوْبِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً ، فَاخْتَلَفَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الثَّوْبِ ، فَقَالَ الْحَائِكُ : قَدْ زِدْت ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : لَمْ تَزِدْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ مِثْلُ الْغَزْلِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ يُقْضَى بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنْ أَقَامَ الصَّانِعُ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَلَوْ اتَّفَقَا أَنَّ غَزْلَ الْمُسْتَعْمَلِ كَانَ مَنًّا ، وَقَالَ الصَّانِعُ : قَدْ زِدْت فِيهِ رِطْلًا فَوُزِنَ الثَّوْبُ فَوُجِدَ زَائِدًا عَلَى مَا دُفِعَ إلَيْهِ زِيَادَةً لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مِثْلَهَا يَكُونُ مِنْ الدَّقِيقِ ، وَادَّعَى رَبُّ الثَّوْبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الدَّقِيقِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ وَزْنُهُ ، وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْتَعْمِلُ أَنَّ فِيهِ مَا قَالَ الصَّانِعُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ ، وَلَا ظَاهِرَ هَهُنَا يَشْهَدُ لَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57