كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

مِنْ الْغَدِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا نَوَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ دُونَ الْعَشَرَةِ ، وَالنِّفَاسُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلِاغْتِسَالِ وَمِقْدَارُ مَا يَسَعُ النِّيَّةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ دُونَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ ، وَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا لَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ ، وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحَيْضِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُهُ النِّيَّةَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ : فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْجِمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ ، وَالشُّرْبَ ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } إلَى قَوْله { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } أَيْ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي النَّهَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ مَا قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ .

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ، وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى ، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَوْ بِعُذْرٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا ، أَوْ خَطَأً طَوْعًا ، أَوْ كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا فِي مَعْنَى النَّاسِي ، ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ : لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ : يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ } حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ فِعْلِهِ عَنْهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا ، وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَطْعَنٌ .
وَكَذَا انْتَقَدَهُ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ : وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نَجْتَرِئُ عَلَى رَدِّهِ ، وَكَانَ مِنْ صَيَارِفَةَ الْحَدِيثِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا ، فَقَالَا : يَفْسُدُ صَوْمُهُ

فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ فِي الْكُلِّ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ الْجِمَاعُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّا نَقُولُ : نَعَمْ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ ، وَهُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمْحِيصِ بِقَوْلِهِ " فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " قَطَعَ إضَافَتَهُ عَنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ ، ، وَالْعِلَّةُ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِمَعْمُومِ الْعِلَّةِ وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ يُوجَدُ فِي الْكُلِّ .

وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّك صَائِمٌ وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ زُفَرَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ .

وَلَوْ دَخَلَ الذُّبَابُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَمَا لَوْ أَكَلَ التُّرَابَ .

وَلَوْ دَخَلَ الْغُبَارُ أَوْ الدُّخَانُ أَوْ الرَّائِحَةُ فِي حَلْقَةِ لَمْ يُفْطِرْهُ ، لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَا لَوْ ابْتَلَعَ الْبَلَلَ الَّذِي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي فَمِهِ مَعَ الْبُزَاقِ أَوْ ابْتَلَعَ الْبُزَاقَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ فَقَالَ : إنْ كَانَ مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ ، أَوْ أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَالْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً ، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ ، فَيُشْبِهُ النَّاسِي وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ أَكَلَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ وَلَا الدَّوَاءُ .

فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أَوْ مَاءٌ صُبَّ فِي مِيزَابٍ فَطَّرَهُ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ .
وَقَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ .

وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ : لَا يَفْسُدُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُ عَنْهُ شَرْعًا بِالنَّصِّ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ أَصْلًا ، فَكَانَ أَعْذَرَ مِنْ النَّاسِي ، ثُمَّ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُ النَّاسِي فَهَذَا أَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ بِسَبَبٍ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَبْقَى الصَّوْمُ ، كَمَا لَوْ أَكَلَ ، أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّوْمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الشُّكْرِ ، وَالتَّقْوَى وَقَهْرِ الطَّبْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْغِذَاءُ إلَى جَوْفِهِ .

وَكَذَا النَّائِمَةُ الصَّائِمَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْتَبِهْ أَوْ الْمَجْنُونَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا فَسَدَ صَوْمُهَا عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .

وَلَوْ تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْسُدْ ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنْ كَانَ وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ كَانَ لِلتَّطَوُّعِ فَسَدَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُفْسِدُ أَيُّهُمَا كَانَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ تَمَضْمَضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَسَدَ ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضٌ ، فَكَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ ، وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ ضَرُورَاتِ إكْمَالِ الْفَرْضِ ، فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا عُذْرًا بِخِلَافِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِمَا ، وَالثَّلَاثُ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا مِنْ ضَرُورَاتِ إقَامَةِ السُّنَّةِ فَكَانَ عَفْوًا .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَمِنْ بَابِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ زَادَ ، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ } فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْبِقُ الْحَلْقَ فِي الْمَضْمَضَةِ ، وَالِاسْتِنْشَاقِ عَادَةً إلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا ، وَالْمُبَالَغَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ الصَّائِمِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ { : بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } فَكَانَ فِي الْمُبَالَغَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يُعْذَرْ بِخِلَافِ النَّاسِي .

وَلَوْ احْتَلَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْقَيْءُ ، وَالْحِجَامَةُ ، وَالِاحْتِلَامُ } وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالنَّاسِي .

وَلَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ وَتَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ تَتَابَعَ نَظَرُهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي النَّظَرِ كَالْمُبَاشَرَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ .

وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ أَوْ قَطَعَ الْمَاءَ ، أَوْ كَانَ يَتَسَحَّرُ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَقَطَعَهُ ، أَوْ يَأْكُلُ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِعَدَمِ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ ، وَالطُّلُوعِ .

وَلَوْ كَانَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَتَذَكَّرَ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ ، أَوْ كَانَ يُجَامِعُ فِي اللَّيْلِ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُخَالِطٌ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ .
وَقَالَ زُفَرُ : فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ جُزْءًا مِنْ الْجِمَاعِ حَصَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالتَّذَكُّرِ ، وَإِنَّهُ يَكْفِي لِفَسَادِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ الْمُضَادَّةِ لَهُ ، وَإِنْ قَلَّ وَلَنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ بَعْدَ الطُّلُوعِ ، وَالتَّذَكُّرِ هُوَ النَّزْعُ ، وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ اشْتِغَالًا بِضِدِّهِ ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجِمَاعُ بَعْدَ الطُّلُوعِ ، وَالتَّذَكُّرِ رَأْسًا ، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْسُدْ فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ كَذَا فِي الْجِمَاعِ ، وَهَذَا إذَا نَزَعَ بَعْدَ مَا تَذَكَّرَ ، أَوْ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْزِعْ وَبَقِيَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الطُّلُوعِ ، وَالتَّذَكُّرِ فَقَالَ : فِي الطُّلُوعِ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَفِي التَّذَكُّرِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا لِوُجُودِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالتَّذَكُّرِ فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ ، وَالْكَفَّارَةَ ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطُّلُوعِ ، وَالتَّذَكُّرِ أَنَّ فِي الطُّلُوعِ ابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ عَمْدًا ، وَالْجِمَاعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ ، وَالْجِمَاعُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .
وَأَمَّا فِي التَّذَكُّرِ : فَابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ نَاسِيًا وَجِمَاعُ النَّاسِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ ،

وَبَقَاؤُهُ فِي الْجِمَاعِ يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّوْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ اسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ صَوْمِهِ الْيَوْمَ لَا لِإِفْسَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا جِمَاعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِابْتِدَائِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَلَهُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ .

وَلَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا صَوْمَ لَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ } قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ ، وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَإِذَا كَانَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُبْقِي الرَّجُلَ جُنُبًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ فَدَلَّ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَضُرُّ الصَّوْمَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ } وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ } أَيْ : جِمَاعٍ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ .

وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا آخَرَ سِوَى النِّيَّةِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَطَلَ صَوْمُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الصَّوْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ وَقَدْ نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ فَبَطَلَ صَوْمُهُ لِبُطْلَانِ شَرْطِهِ ، وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْفِعْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا ، أَوْ يَفْعَلُوا } وَنِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ نِيَّةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِنِيَّةٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لَا شَرْطُ بَقَائِهِ مُنْعَقِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ النَّوْمِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَالْغَفْلَةِ ؟ .

وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلُّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ ، أَوْ كَانَ مِلْءُ الْفَمِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْقَيْءُ ، وَالْحِجَامَةُ ، وَالِاحْتِلَامُ } وَقَوْلُهُ { : مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ ذَرْعَ الْقَيْءِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بَلْ يَأْتِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِالْقَيْءِ سَوَاءٌ ذَرَعَهُ ، أَوْ تَقَيَّأَ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّخُولِ شَرْعًا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ } عَلَّقَ كُلَّ جِنْسِ الْفِطْرِ بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ ، وَلَوْ حَصَلَ لَا بِالدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْفِطْرِ مُعَلَّقًا بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ لِأَنَّ الْفِطْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا يَخْرُجُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِطْرُ حَاصِلًا بِمَا يَدْخُلُ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْفَسَادَ بِالِاسْتِقَاءِ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ } فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الذَّرْعِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الذَّرْعِ وَهُوَ سَبْقُ الْقَيْءِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ ، فَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ النَّاسِي بِفَسَادِ الصَّوْمِ ، فَكَذَا هَذَا لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا بِخِلَافِ النَّاسِي عَلَى مَا مَرَّ ، فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْسِدُ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُفْسِدُ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ

مُحَمَّدِ يُفْسِدُ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يُفْسِدُ أَنَّهُ وُجِدَ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْجَوْفِ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ ، وَالطَّهَارَةُ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ } .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يُفْسِدُ أَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ صُنْعَهُ بَلْ هُوَ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمَحُّضِ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ رَأْسًا ، فَأَشْبَهَ ذَرْعَ الْقَيْءِ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا عَوْدُ الْقَيْءِ فَإِنْ أَعَادَهُ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ مُتَعَمَّدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيْءِ مِلْءِ الْفَمِ حُكْمَ الْخُرُوجِ حَتَّى يُوجِبَ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ ، فَإِذَا أَعَادَهُ فَقَدْ أَدْخَلَهُ فِي الْجَوْفِ عَنْ قَصْدٍ ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ إلَى الْجَوْفِ بِصُنْعِهِ فَيُفْسِدُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدُّخُولَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ ، وَقَلِيلُ الْقَيْءِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ عَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ فَلَا يُفْسِدُ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَأَمَّا إذَا اسْتَقَاءَ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، } وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا

يَفْسُدَ الصَّوْمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَلَا يُفْسَدُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، ثُمَّ كَثِيرُ الْمُسْتَقَاءِ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ ، وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَسَدَ بِالِاسْتِقَاءِ وَكَذَا قَلِيلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَسَدَ الصَّوْمُ بِنَفْسِ الِاسْتِقَاءِ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ لَا يُفْسِدُ ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ : يُفْسِدُ ، وَفِي رِوَايَةٍ : لَا يُفْسِدُ .

وَمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالدُّبُرِ بِأَنْ اسْتَعَطَ أَوْ احْتَقَنَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ فَسَدَ صَوْمُهُ ، أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ .
وَكَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهُ لَهُ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْجَوْفِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ : بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ حَالَةَ الصَّوْمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ فَسَادِ الصَّوْمِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى ، وَلَوْ وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُفْسِدُ بِأَنْ اسْتَعَطَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ ، أَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ .

وَأَمَّا مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ دَاوَى الْجَائِفَةَ ، وَالْآمَةَ ، فَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَا يُفْسِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُفْسِدُ هُمَا اعْتَبَرَا الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الدَّوَاءَ إذَا كَانَ رَطْبًا فَالظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُولُ لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إلَى الْجَوْفِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ .

وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ فَلَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ ، قِيلَ : إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ مَنْفَذًا فَإِذَا قَطَرَ فِيهِ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَشُّحِ كَتَرَشُّحِ الْمَاءِ مِنْ الْخَزَفِ الْجَدِيدِ فَلَا يَصِلُ بِالْإِقْطَارِ فِيهِ إلَى الْجَوْفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجَ الشَّيْءِ مِنْ مَنْفَذِهِ كَمَا قَالَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَمَدَ أُسْتَاذِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا : إنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ لِمَثَانَتِهَا مَنْفَذًا فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ .

وَلَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ إلَى دِمَاغِهِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ النَّصْلِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ بَقِيَ النَّصْلُ فِيهِ يُفْسِدُ .
وَكَذَا قَالُوا فِيمَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا عَلَى خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الصَّائِمِ إذَا أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي الْمَقْعَدَةِ ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ إلَّا إذَا غَابَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ فِي الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ ، وَلَوْ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يُفْسِدُ صَوْمَهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُفْسِدُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْجِمَاعِ فَصَارَتْ كَالْخَشَبِ .

وَلَوْ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَفْسُدُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَمَّا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ } وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَذَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَمَا وَجَدَ مِنْ طَعْمِهِ فَذَاكَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ كَالْغُبَارِ ، وَالدُّخَانِ .
وَكَذَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ أَعْضَاءَهُ فَتَشَرَّبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْأَثَرُ لَا الْعَيْنُ .

وَلَوْ أَكَلَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ خَشَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ يَفْسُدُ صَوْمَهُ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً .

وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَأَنْزَلَ يَفْسُدُ صَوْمَهُ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ الْمَرْأَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَسُّ بِخِلَافِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِمَاعٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِلشَّهْوَةِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ { إيَّاكُمْ ، وَالنَّظْرَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ } .

وَلَوْ عَالَجَ ذَكَرَهُ فَأَمْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَفْسُدُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِوُجُودِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ جِمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .

وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي امْرَأَتِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ ثُمَّ خَشِيَ الصُّبْحَ فَانْتَزَعَ مِنْهَا فَأَمْنَى بَعْدَ الصُّبْحِ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِلَامِ .

وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْقُصُورِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ ، وَلَوْ جَامَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ .

وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَنَفِسَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَدَ صَوْمُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ ، وَالنِّفَاسَ مُنَافِيَانِ لِلصَّوْمِ لِمُنَافَاتِهِمَا أَهْلِيَّةَ الصَّوْمِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ إنْسَانٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ كَانَ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ إنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجُنُونَ ، وَالْإِغْمَاءَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يُنَافِيَانِ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ : فَفَسَادُ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ : فَالْإِثْمُ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كَذَلِكَ إلَّا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ ، ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْعُذْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ .
الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْإِثْمِ ، وَالْمُؤَاخِذَةِ فَنُبَيِّنُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ : هِيَ الْمَرَضُ ، وَالسَّفَرُ ، وَالْإِكْرَاهُ ، وَالْحَبَلُ ، وَالرَّضَاعُ ، وَالْجُوعُ ، وَالْعَطَشُ ، وَكِبَرُ السِّنِّ ، لَكِنْ بَعْضُهَا مُرَخِّصٌ ، وَبَعْضُهَا مُبِيحٌ مُطْلَقٌ لَا مُوجِبٌ ، كَمَا فِيهِ خَوْفُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ دُونَ خَوْفِ الْهَلَاكِ ، فَهُوَ مُرَخِّصٌ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ فَهُوَ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ بَلْ مُوجِبٌ فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فَنَقُولُ : أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ خَافَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنَاهُ وَجَعًا ، أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ هُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ ، أَوْ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ كَائِنًا مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُبَاحُ لَهُ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ ، وَالْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ

تَعَالَى وَهُوَ الْوُجُوبُ ، وَالْوُجُوبُ لَا يَبْقَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْإِفْطَارُ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا وَأَمَّا السَّفَرُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ مُطْلَقُ السَّفَرِ الْمُقَدَّرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ ، وَالسَّفَرِ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، دَلَّ أَنَّ الْمَرَضَ ، وَالسَّفَرَ سَبَبَا الرُّخْصَةِ ثُمَّ السَّفَرُ ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَهُمَا فِي الْآيَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ السَّفَرِ لَيْسَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّفَرِ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ ، أَوْ الظُّهُورِ ، وَذَا يَحْصُلُ بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَخِّصَ سَفَرٌ مُقَدَّرٌ بِتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَقْدِيرِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا مُطْلَقُ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ، وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لَهُمَا وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَمِنْ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيُخِفُّهُ وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَلَ مِنْ الْأَكْلِ ، بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ ، وَمِنْ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَرِيضِ ، وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْعُذْرِ أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ كَانَ

السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ ، أَوْ مُبَاحًا ، أَوْ مَعْصِيَةٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ ، ، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَوْ بَعْدَهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فَيُفْطِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ ، وَعَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا ، كَذَا هَذَا وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } جَعَلَ اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا .
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ ، فَنَقُولُ : نَعَمْ إذَا أَقَامَ ، أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ السَّفَرِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْآيَتَيْنِ .
فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا .
فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي ، وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ ، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهُوَ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ

الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ .
وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ صَامَ فِي رَمَضَانَ ، أَوْ لَمْ يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وَإِذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْقَضَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } ، وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ } فَقَدْ حَقَّقَ لَهُ حُكْمَ الْإِفْطَارِ ( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ } كَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ

صَائِمًا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ ، وَالسَّفَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا عَلَى أَرْبَابِهَا وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } فَلَوْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِيهِ تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ مَا هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَيَتَنَاقَضُ ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي ، بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
وَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ عَلَى أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } أَيْ : مَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وَقَالَ تَعَالَى { : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أَيْ : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ

مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى النُّسُكِ مِنْ الْحَجِّ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْلَالُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } أَيْ : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عَنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيُضْعِفُهُ فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي أَفْطَرَ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَا فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ ، ثُمَّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا ، إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ ، وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامًّا أَيْ : مَفْرُوضٌ إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ

عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ فِي الْآدَابِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَرَائِضِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } أَيْ : يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ فِي صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ ، وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَ { : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } شَرَطَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ } أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ ، فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسَافِرُ إنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى

حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ .
وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ ، وَالسُّهُولَةُ فِي الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَظْرِ ، وَالْمُؤَاخَذَةِ جَمِيعًا ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ ، لَكِنْ مَعَ هَذَا ؛ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ مِنْ السَّفَرِ فَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ ، وَالْإِفْطَارُ فِي مِثْلِهِ وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَضِ .

وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا ، وَالتَّرْكُ حَرَامًا وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ، وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا ، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ ، وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ يَأْثَمُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فَإِذَا جَاءَ بِالْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ ، وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا حَبَلُ الْمَرْأَةِ وَإِرْضَاعُهَا : إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ بِوَلَدِهِمَا فَمُرَخَّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْمَرَضِ ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ .
وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُفْطِرُ الْمَرِيضُ ، وَالْحُبْلَى إذَا خَافَتْ أَنْ تَضَعَ وَلَدَهَا ، وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتْ الْفَسَادَ عَلَى وَلَدِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحُبْلَى ، وَالْمُرْضِعِ الصِّيَامَ } وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ ، وَالْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْحَسَنِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَلَا يَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَاهِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، وَالْحَامِلُ ، وَالْمُرْضِعُ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَدَخَلَتَا تَحْتَ الْآيَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } الْآيَةُ ، أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ فَمَنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْفِدْيَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ غَيْرَهُ دَلَّ أَنَّهُ كُلُّ حُكْمٍ لِحَادِثَةٍ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَرَضِ

الْمَذْكُورِ لَيْسَ صُورَةَ الْمَرَضِ بَلْ مَعْنَاهُ .
وَقَدْ وُجِدَ فِي الْحَامِلِ ، وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْآيَةِ ، فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِهِ مَعْنًى يَضُرُّهُ الصَّوْمُ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ لَا مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ " وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } أَيْ : لَا تَضِلُّوا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ فِيهَا شَرْعُ الْفِدَاءِ مَعَ الصَّوْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ دُونَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَعِنْدَهُ يَجِبُ الصَّوْمُ ، وَالْفِدَاءُ جَمِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرِيضِ ، وَالْمُسَافِرِ .

وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ : فَمُبِيحٌ مُطْلَقٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ حَتَّى يُبَاحَ لِلشَّيْخِ الْفَانِي أَنْ يُفْطِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُطِيقِ لِلصَّوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } وَهُوَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الشَّيْخُ الْفَانِي إمَّا عَلَى إضْمَارِ حَرْفِ لَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ كَانُوا أَيْ : وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ " أَيْ : الصَّوْمَ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا فَاتَهُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ ، وَتُجْعَلُ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ كَالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ مِقْدَارُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ .
ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْذَارُ كَمَا تُرَخِّصُ ، أَوْ تُبِيحُ الْفِطْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُرَخِّصُ ، أَوْ تُبِيحُ فِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، حَتَّى لَوْ جَاءَ وَقْتُ الصَّوْمِ وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ ، أَوْ يَسْتَطِيعُ مَعَ ضَرَرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى .

وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ .
فَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَسَادِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْقَضَاءِ ، وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ، أَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ : فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى ، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا ، أَوْ خَطَأً ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرَ ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ ، لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ مَعْنًى .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ ، وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهُمَا : إيصَالَ مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْفَمِ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ .
وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَاهُ : إيلَاجَ الْفَرْجِ فِي الْقُبُلِ لِأَنَّ كَمَالَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ : { أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه ، هَلَكْتُ ، وَأَهْلَكْتُ ، فَقَالَ : مَاذَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ : وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَهُ : مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً } .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ : لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَصْلًا ، وَفِي

قَوْلٍ : يَجِبُ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عُرِفَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا نَذْكُرُ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ .
وَكَذَا وَرَدَ بِالْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِسَبَبِ فِعْلِ الرَّجُلِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَمُّلُ كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ ، وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِيهِمَا ، وَهُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ ، وَيَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ : إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوْمَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ يَجِبُ تَكْفِيرًا زَجْرًا عَنْ جِنَايَةٍ الْإِفْسَادِ ، أَوْ رَفْعًا لِذَنْبِ الْإِفْسَادِ ، وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْآخَرُ ، فَلَا يَسْقُطُ صَوْمُ الْقَضَاءِ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْتَاقِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا } .

وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَأَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَوْلَى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ : رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ إذَا تَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ، ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا يَنْدُرُ ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَكْرُوهٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيْتَةِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَعْتَمِدُ إفْسَادَ الصَّوْمِ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى .

وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْبَدَنُ ، أَمَّا عَلَى وَجْهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ ، وَالتَّوْبَةُ كَافِيَةٌ لِرَفْعِ الذَّنْبِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ ، وَالْقِيَاسُ لَا يَهْتَدِي إلَى تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ ، وَالْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ لَيْسَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ دُونَهُمَا ، فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْجِمَاعِ لَا يَكُونُ وَارِدًا فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ } ، وَعَلَى الْمُظَاهِرِ الْكَفَّارَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ ، فَكَذَا عَلَى الْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا .
وَلَنَا أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِالْمُوَاقَعَةِ ، ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا ، أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهَا فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْمُوَاقَعَةِ وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا إفْسَادًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، وَالْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ إفْسَادٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ فَكَانَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ إيجَابًا هَهُنَا دَلَالَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمُوَاقَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : مُجْمَلٌ ، وَالْآخَرُ : مُفَسَّرٌ ، أَمَّا الْمُجْمَلُ : فَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .
وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ : فَلِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ رَمَضَانَ ذَنْبٌ وَرَفْعُ الذَّنْبِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا لِكَوْنِهِ قَبِيحًا ، وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ رَافِعَةً لَهُ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ .
وَقَدْ جَاءَ

الشَّرْعُ بِكَوْنِ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْبَةِ ، وَالْإِيمَانُ ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ ، إلَّا أَنَّ الذُّنُوبَ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ .
وَكَذَا الرَّوَافِعَ لَهَا لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَتَى وَرَدَ الشَّرْعُ فِي ذَنْبٍ خَاصٍّ بِإِيجَابِ رَافِعٍ خَاصٍّ وَوُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ إيجَابًا لِذَلِكَ الرَّافِعِ فِيهِ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ ، وَالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ هُنَاكَ وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ عَنْ إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ صِيَانَةً لَهُ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ ، لِأَنَّهَا تَصْلُحُ زَاجِرَةً ، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الزَّاجِرِ .
أَمَّا الصَّلَاحِيَّةُ فَلِأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ .
وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَلِوُجُودِ الدَّاعِي الطَّبِيعِيِّ إلَى الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْجِمَاعِ ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْجِمَاعِ ، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْجُوعَ ، وَالْعَطَشَ يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرَ ، فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ هُنَاكَ شَرْعًا هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْنَعُ عَدَمُ جَوَازِ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُقْتَضِيَةَ لِكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا .

وَلَوْ أَكَلَ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى : كَالْحَصَاةِ ، وَالنَّوَاةِ ، وَالتُّرَابِ ، وَغَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إفْطَارٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ وَهُوَ : الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ قَائِمٌ ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صُورَةُ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّا أَلْحَقْنَا الصُّورَةَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا ، وَلَوْ بَلَعَ جَوْزَةً صَحِيحَةً يَابِسَةً ، أَوْ لَوْزَةً يَابِسَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً لَا مَعْنًى ، لِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْحَصَا .

وَلَوْ مَضَغَ الْجَوْزَةَ أَوْ اللَّوْزَةَ الْيَابِسَةَ حَتَّى يَصِلَ الْمَضْغُ إلَى جَوْفِهَا حَتَّى ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَكَلَ لُبَّهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ : أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ لَوْزَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ .
وَقَوْلُهُ فِي اللَّوْزَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ كُلُّهَا كَالْخَوْخَةِ ، وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَةً رَطْبَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي ، وَالتَّدَاوِي .

وَلَوْ أَكَلَ عَجِينًا أَوْ دَقِيقًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا التَّغَذِّي وَلَا التَّدَاوِي ، فَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الصَّوْمِ ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّقِيقِ ، وَالْعَجِينِ فَقَالَ : فِي الدَّقِيقِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ وَفِي الْعَجِينِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ .

وَلَوْ قَضَمَ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ .

وَلَوْ ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً ، رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَرَوَى هِشَام عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ : وَهَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي ، لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .

وَلَوْ أَكَلَ طِينًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِمَا قُلْنَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْمَنِيًّا ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ .
وَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ : لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِيقُونَ أَيْ : يُتَدَاوَى بِهِ ، قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ : فَقُلْتُ لَهُ هَذَا الطِّينُ الَّذِي يُقْلَى يَأْكُلُهُ النَّاسُ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هَذَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ ، أَوْ لَا .

وَلَوْ أَكَلَ وَرَقَ الشَّجَرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .

وَلَوْ أَكَلَ مِسْكًا أَوْ غَالِيَةً أَوْ زَعْفَرَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ، لِأَنَّ هَذَا يُؤْكَلُ وَيُتَدَاوَى بِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً ؟ قَالَ : فَطَّرَتْهُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، أَوْ لَا ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السِّمْسِمَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ امْتَصَّ سُكَّرَةً بِفِيهِ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى دَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السُّكَّرَ هَكَذَا يُؤْكَلُ .

وَلَوْ مَصَّ إهْلِيلَجَةً فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ ؟ قَالَ : لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى .

وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ دَمٌ فَدَخَلَ حَلْقَهُ أَوْ ابْتَلَعَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسُدَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا ، وَلَوْ أَخْرَجَ الْبُزَاقَ مِنْ فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعَافُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ لُعَابَ حَبِيبِهِ ، أَوْ صَدِيقِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ، وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَعَافُ رِيقَ حَبِيبِهِ ، أَوْ صَدِيقِهِ .

وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا قَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ .

وَلَوْ أَكَلَ شَحْمًا قَدِيدًا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ .
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : إنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ، وَالْكَفَّارَةَ كَمَا فِي اللَّحْمِ ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّحْمِ الْقَدِيدِ .

وَلَوْ أَكَلَ مَيْتَةً فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَنْتَنَتْ وَدَوَّدَتْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَالْكَفَّارَةُ .

وَلَوْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى ، إذْ الْجِمَاعُ : هُوَ الْإِيلَاجُ ، فَأَمَّا الْإِنْزَالُ : فَفَرَاغٌ مِنْ الْجِمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ أَنْزَلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورٍ فِي الْجِمَاعِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ لِقُصُورٍ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ وَنَبْوَةِ الطَّمَعِ .

وَلَوْ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْ الْخُبْزِ لِيَأْكُلَهَا وَهُوَ نَاسٍ فَلَمَّا مَضَغَهَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَابْتَلَعَهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ ذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَابْتَلَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا صَارَ بِحَالٍ يُعَافُ مِنْهَا وَمَا دَامَتْ فِي فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِهَا .

وَلَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ خَاطِئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ .

وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ قَائِمٌ وَهُوَ السَّفَرُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا اسْتَنَدَتْ إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ اُعْتُبِرَتْ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَدْ وُجِدَتْ هَهُنَا ، وَهِيَ صُورَةُ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مُرَخِّصٌ أَوْ مُبِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ .

وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هَهُنَا اسْتَنَدَتْ إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ لِوُجُودِ الْمُضَادِّ لِلصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ لَهُ يَقْضِي .
وَكَذَا الْقَيْءُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ عَوْدِ بَعْضِهِ مِنْ الْفَمِ إلَى الْجَوْفِ ، فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَاعْتُبِرَتْ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ ، أَيْ : بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي وَالْقَيْءَ لَا يُفْطِرَانِ ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَنَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَعَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ .
فَإِنْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا ، إنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ ، وَإِنْ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحِجَامَةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاسْتِفْتَاءُ مِنْ الْمُفْتِي لَا الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا ، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ

الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى دَلِيلٍ أَصْلًا .

وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ ، فَكَانَ ظَنُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْطَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى يَصِيرُ شُبْهَةً .

وَلَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هَهُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ { الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ } حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً .

وَكَذَا لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَلَوْ مَرِضَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مَرَضًا يُرَخِّصُ الْإِفْطَارَ أَوْ يُبِيحُهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمَرَضِ مَعْنًى يُوجِبُ تَغْيِيرَ الطَّبِيعَةِ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْدُثُ فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ ، فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ ، فَمَنَعَ انْعِقَادَ الْإِفْطَارِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ، أَوْ وُجُودُ أَصْلِهِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ، وَإِنَّهُ يُوجَدُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ وُجُودِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ نَفِسَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ مُجْتَمِعٌ فِي الرَّحِمِ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْرُزْ فَمَنَعَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ .
وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْقُطُ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَخِّصَ أَوْ الْمُبِيحَ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي .

وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا مُرَخِّصًا لِلْإِفْطَارِ أَوْ مُبِيحًا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَسْقُطُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَسْقُطُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَرَضَ هُنَا حَدَثَ مِنْ الْجُرْحِ وَإِنَّهَا وُجِدَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَكَانَ الْمَرَضُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ حُدُوثِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَوُجِدَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِشَرَائِطِهِ ، وَعِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فَلَمْ يُوجَدْ الصَّوْمُ فَاسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا قَبْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الْفَرْضِيَّةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا فَكَانَ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ مَعْنًى بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَقَعْ إبْطَالًا لِلْفَرْضِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا قَبْلَ الْأَكْلِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي صَوْمًا ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ؟ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ سَوَاءً ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، فَكَذَا إذَا جَامَعَ فِي آخِرِهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّا لِلصَّوْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ أَوْ يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ

الشُّبْهَةِ ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَالْكَلَامُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .

وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِرَارًا بِأَنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِثِ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ ، وَلَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ جِمَاعٍ كَفَّارَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِمَاعُ عِنْدَهُ ، وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا ، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِيهِ ضَرُورَةٌ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْحُدُودُ لِمَا فِي التَّكَرُّرِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ ، وَالْيَمِينِ ، وَالظِّهَارِ .
وَلَنَا حَدِيثُ { الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : وَاقَعْتُ امْرَأَتِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً } وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ وَاقَعْتُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ لَازِمٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْجِنَايَةِ الْخَالِصَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَامَعَ بَعْدَ مَا كَفَّرَ عُلِمَ أَنَّ

الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ .

وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُجْزِئُ عَنْ الْأُولَى .
وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا تَأَخَّرَ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْ الْأُولَى ، وَالْأَصْلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ الثَّانِي يُجْزِئُ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَلَا يُجْزِئُ عَمَّا بَعْدَهُ .

وَأَمَّا صِيَامُ غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْهُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ ، وَأَنَّهُ صَوْمٌ شَرِيفٌ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يُوَازِيهِمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصِّيَامِ وَالْأَوْقَاتِ فِي الشَّرَفِ وَالْحُرْمَةِ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الصِّيَامُ الْمَفْرُوضُ : فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِفَوَاتِ الشَّرَائِطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ وَالنَّذْرِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ ، وَعَلَيْهِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَفِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَسَدَ .
وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ : فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ } وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي وُجُوبِ الْمُضِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّوْمِ الْمَظْنُونِ إذَا أَفْسَدَهُ بِأَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي النَّفْلِ وَلِهَذَا نُدِبَ إلَى الْمُضِيِّ فِيهِ ، وَالشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ مُلْزَمٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَ ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا كَانَ الشُّرُوعُ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ مُلْزَمًا كَذَا الصَّوْمُ وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ مُسْقِطًا لَا مُوجِبًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالشُّرُوعِ إسْقَاطَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَصْدًا ، وَالشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعِبَادَةِ فِي زَعْمِهِ وَتَشَبُّهِهِ بِالشَّارِعِ فِي الْعِبَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ كَمَا يُثَابُ الْمُتَشَبِّهُ بِالصَّائِمِينَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إذَا أَفْطَرَ بِعُذْرٍ ، وَالِاشْتِبَاهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ فِي بَابِ الْحَجِّ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ فَالصَّوْمُ الْمُؤَقَّتُ نَوْعَانِ : صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ .
أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ : وُجُوبُ إمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْفِدَاءِ فِي حَالٍ .
أَمَّا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَصَارَ بِحَالٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَقَدِمَ الْمُسَافِرُ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ .
وَكَذَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ طَلَعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ .
وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا ، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ ، وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ ، وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ ، وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ ، وَالصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ فَلَمْ

يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ النَّاذِرُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ : إلَّا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ } وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا يَوْمئِذٍ ، وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فِيهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ ، وَفِي حَقِّ هَذَا الْمَعْنَى الْوُجُوبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حَتَّى يَجِبَ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ .

وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ ، وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ ، أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَسَوَاءٌ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُقَصِّرِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَشَدُّ .

وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ وَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَيُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا هَذَا فَإِنْ بَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا أَدْرَكَ ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا يُقْضَى عَنْهُ ، وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَدْ أَطَاقَ الصِّيَامَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ } .
وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } وَلِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسَّرًا أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى أَوْ عَلَى النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَمْ يَلْزَمْهُمْ ، وَتَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ .
وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عَنْهَا ، وَالْأَصْلُ لَا يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ هَذَا إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ ، فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي فِيهِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عَلَيْهِ رَأْسًا .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَإِنْ صَامَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا ، وَمَا أَثْبَتَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي

الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا .
فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ .
وَإِنْ كَانَ مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ الْقَدْرَ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ أَيَّامِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ .
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ يَصْلُحُ لَهُ الْأَيَّامَ كُلَّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَمْ يَصُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ ، وَإِذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ وَصَارَ قَدْرُ مَا صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ

بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَهَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجْنَا مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا فِيهِ اتِّفَاقٌ ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ .

وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ سَائِرُ الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ .

وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ أَصْلًا ، كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَنَحْوِهَا ، وَذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا ، وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيِّنٍ ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ .
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ : إنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ .
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ .
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ لَكُرِهَ لَهُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَضِيقِ ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ مَعَ رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْأَمْرِ عَلَى تَعْيِينِ

الْوَقْتِ ، فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَادَةً كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَثْنَاةَ ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِدَاءِ : فَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنْ الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي ، وَلَا فِدَاءَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ مَنْ يُفْطِرُ لِعُذْرٍ تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ خَلَفٌ عَنْ الْقَضَاءِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ بَطَلَ الْفِدَاءُ .

وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ : فَهُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ ، وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ لَا غَيْرُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مَمَرِّ الْوَقْتِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُضَافٌ إلَى زَمَانٍ مُتَعَيَّنٍ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ الْوَقْتَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ بَرِئَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ صَحِيحٌ وَصَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقَدْرِ مَا صَحَّ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَنَقُولُ : يُسَنُّ لِلصَّائِمِ السُّحُورُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ } وَلِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّدْبِ إلَى السُّحُورِ فَقَالَ : { اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلِ السُّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ } وَالسُّنَّةُ فِيهَا هُوَ التَّأْخِيرُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ فِيهِ أَبْلَغُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : تَأْخِيرُ السُّحُورِ ، وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ } .
وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَكُونُ الْأَكْلُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ .
وَهَلْ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مَعَ الشَّكِّ ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فَلَا يَأْكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
وَاَلَّذِي يَأْكُلُ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَكَانَ بِالْأَكْلِ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ .
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَى أَمَارَةِ الطُّلُوعِ مِنْ ضَرْبِ الدِّبْدَابِ وَالْأَذَانِ يُكْرَهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هَذَا إذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَأَمَّا إذَا تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ : إنَّ الْأَحَبَّ إلَيْنَا أَنْ يَقْضِيَ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ دَلِيلٌ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هُوَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ .
وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا لِلْإِفْطَارِ طُلُوعَ النُّجُومِ } وَلِتَأْخِيرٍ يُؤَدِّي إلَيْهِ ، وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ لِجَوَازِ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ فَكَانَ الْإِفْطَارُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا غَرَبَتْ أَمْ لَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَلَا الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَحُّرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ اللَّيْلَ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ فَلَا يَبْطُلُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ ، وَهَهُنَا النَّهَارُ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ اللَّيْلُ بِالشَّكِّ ، فَكَانَ الْإِفْطَارُ حَاصِلًا فِيمَا لَهُ حُكْمُ النَّهَارِ ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ احْتِيَاطًا .
فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الْمَارِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ حُكْمٌ حَادِثٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَحُّرِ بِأَنْ تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ وَلَوْ أَفْطَرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ ، وَأَنَّهُ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ ، وَإِنْ

كَانَ غَالِبُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ فَوَقَعَ إفْطَارُهُ فِي النَّهَارِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ : تَجِبُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ ، كَيْفَ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَجِبُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغُرُوبِ قَائِمٌ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ فَعَلَ لَا يُفْطِرُهُ ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ } وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَيْنِ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ ، وَإِنْ وَجَدَ فِي حَلْقِهِ فَهْوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْهُنَ لِمَا قُلْنَا ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَمْضُغَ الصَّائِمُ الْعِلْكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَدْخُلُ حَلْقَهُ ، فَكَانَ الْمَضْغُ تَعْرِيضًا لِصَوْمِهِ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْجَوْفِ ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَعْجُونًا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُفْطِرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ فَيَصِلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهِ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا ، وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيَّتِهَا طَعَامًا وَهِيَ صَائِمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهَا إلَّا إذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ ، وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ الْعَسَلَ أَوْ السَّمْنَ أَوْ الزَّيْتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لِيَعْرِفَ أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ ذَلِكَ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ لِتَعْرِفَ طَعْمَهَا لِأَنَّهُ يُخَافُ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ فَتُفْطِرُ .

وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ سَوَاءٌ كَانَ السِّوَاكُ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا كَانَ مَبْلُولًا يُكْرَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ السِّوَاكُ فِي آخِرِ النَّهَارِ كَيْفَمَا كَانَ .
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } وَالِاسْتِيَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ فَيُكْرَهُ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِيَاكَ بِالْمَبْلُولِ مِنْ السِّوَاكِ إدْخَالُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ } وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَ الِاسْتِيَاكَ بِالْخَيْرِيَّةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَبْلُولِ وَغَيْرِ الْمَبْلُولِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَطْهِيرُ الْفَمِ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَبْلُولُ وَغَيْرُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ ، كَالْمَضْمَضَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ : فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الصَّائِمِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الصَّوْمِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُرْضِيهِ ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ الصَّائِمِ لِتَغَيُّرِ فَمِهِ بِالصَّوْمِ فَمَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْكَلَامِ .

وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ وَيُبَاشِرَ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ .
أَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَصُمْ إذًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هَشَشْتُ إلَى أَهْلِي ثُمَّ أُتِيتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : إنِّي عَمِلْتُ الْيَوْمَ عَمَلًا عَظِيمًا إنِّي قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ أَكَانَ يَضُرُّكَ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَصُمْ إذًا } .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ شَابًّا وَشَيْخًا سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ، فَنَهَى الشَّابَّ وَرَخَّصَ لِلشَّيْخِ وَقَالَ : الشَّيْخُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وَأَنَا أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِي } وَفِي رِوَايَةٍ { الشَّيْخُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ } وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ } وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ ظَاهِرًا وَغَالِبًا بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ وَفِي حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ .

قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ لِلْوُضُوءِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ .
وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ وَالِاغْتِسَالُ وَصَبُّ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفُ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يُكْرَهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُكْرَهُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً مِنْ شِدَّةٍ الْحَرِّ وَهُوَ صَائِمٌ ، } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَبُلُّ الثَّوْبَ وَيَتَلَفَّفُ بِهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا دَفْعُ أَذَى الْحَرِّ فَلَا يُكْرَهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَظَلَّ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الضَّجَرِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهَا ، وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ حَالُ خَوْفِ الْإِفْطَارِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ .
وَكَذَا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ .

وَلَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ } وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ } .
وَلَوْ احْتَجَمَ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُفْطِرهُ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ ، } وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَامُ يُفْطِرُ لَمَا فَعَلَهُ .
وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ : الْقَيْءُ ، وَالْحِجَامَةُ ، وَالِاحْتِلَامُ ، } وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رُخِّصَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إثْبَاتُ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الْفِطْرَ وَهُوَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْجِمُ رَجُلًا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ : { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَيْ : بِسَبَبِ الْغِيبَةِ مِنْهُمَا عَلَى مَا رُوِيَ { الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ } وَلِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَيْسَتْ إلَّا إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ كَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا } وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّوْمِ ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا إنْ كَانَ يَضُرُّهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مَعَ الصَّوْمِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا .
فَإِنْ كَانَ صِيَامُهَا لَا يَضُرُّهُ بِأَنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ، لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَلَيْسَ لِعَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا مُدَبَّرَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْفَرَائِضُ فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى التَّطَوُّعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ الْمَوْلَى أَوْ لَا يَضُرُّهُ ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْمِلْكِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الضَّرَرِ .
وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُفَطِّرَ الْمَرْأَةَ إذَا صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَكَذَا لِلْمَوْلَى ، وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ إذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا أَوْ بَانَتْ مِنْهُ ، وَيَقْضِي الْعَبْدُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ أُعْتِقَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ قَدْ صَحَّ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُمَا مُنِعَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، فَإِذَا أَفْطَرَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ .

وَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ الرَّجُلُ لِيَخْدِمَهُ فَلَا يَصُومُ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ ، لِأَنَّ صَوْمَهُ يَضُرُّ الْمُسْتَأْجِرَ أَمَّا لَوْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَنَافِعِهِ بِقَدْرِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ ، وَالْخِدْمَةَ حَاصِلَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ مِلْكُ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ سِوَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى ، وَهَهُنَا الْمَانِعُ مِلْكُ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ .
وَأَمَّا بِنْتُ الرَّجُلِ وَأُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَلَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنَافِعِهَا ، فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ .

وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أَوْ مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فِيهِ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ السَّفَرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ فِيهِ وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا شَيْئًا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : يُكْرَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ } الصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهَا أَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَرِيبٌ فِي حَدِّ الْأَحَادِيثِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَقِّ مَنْ اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( كِتَابُ الِاعْتِكَافِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاعْتِكَافِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وَفِي بَيَان رُكْنِهِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاعْتِكَافُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : قَوْلٌ وَهُوَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ ، بِأَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ ، بِأَنْ يَقُولَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي فِعْلٌ ، وَهُوَ الشُّرُوعُ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ ، مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى } وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ الِاعْتِكَافَ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ } .
وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ مَثَلُ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ : لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي ؛ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ

الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ .
وَالْعَزِيمَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالِاعْتِكَافِ اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ الَّتِي لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ .
أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا : الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَإِنَّهَا شَرْطُ الْجَوَازِ فِي نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ .
وَكَذَا الْمَجْنُونُ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ .
وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ .
وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ ، إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ ، فَإِذَا أُعْتِقَ قَضَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فَإِذَا بَانَتْ قَضَتْ ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا ، وَلِلْوَلِيِّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَمْلُوكِ ، وَفِي الِاعْتِكَافِ تَأْخِيرُ حَقِّهِمَا فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مَا دَامَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَإِذَا بَانَتْ الْمَرْأَةُ وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكُ ؛ لَزِمَهُمَا قَضَاؤُهُ ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ مِنْهُمَا قَدْ صَحَّ لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنَّهُمَا مُنِعَا لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُمَا بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ ؛

لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتَبِهِ ؛ فَكَانَ كَالْحُرِّ فِي حَقِّ مَنَافِعِهِ .
وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ بِالِاعْتِكَافِ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا بِالِاعْتِكَافِ فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا مَلَّكَهُ الْمَوْلَى مَنَافِعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا أَعَارَهُ مَنَافِعَهُ ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ وَغُرُورٌ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : النِّيَّةُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ .

وَمِنْهَا : الصَّوْمُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْإِقَامَةَ ، وَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَفِيهِ جَعْلُ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ .
وَكَذَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَكَمَا رَأَى الْهِلَالَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الِاعْتِكَافِ وَلَا صَوْمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَلَوْ كَانَ شَرْطًا ؛ لَمَا جَازَ بِدُونِهِ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ إذْ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ بِدُونِ شَرْطِهَا لَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالِاعْتِكَافِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ } وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ثُمَّ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ ، فَكَذَا الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِاسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لِلصَّوْمِ .
فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ شَرْطًا كَانَ الْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَا

ذَكَرْنَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَرْكِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الْقِوَامِ وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيَالِي ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجِمَاعِ .
وَقَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْمُقَامَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ ، وَالنِّيَّةُ وَكَذَا كَوْنُ الصَّوْمِ عِبَادَةً مَقْصُودَةً بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ .
أَلَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كَذَا هَهُنَا وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَتَيْنِ : فِي رِوَايَةٍ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَصْلًا ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِيَوْمٍ ؛ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ ؛ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ فِي الِاعْتِكَافِ فِي اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ دَخَلَتْ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ اسْمِ الشَّهْرِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْأَيَّامِ ، وَاللَّيَالِي دَخَلَتْ تَبَعًا لَا أَصْلًا وَمَقْصُودًا ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ ، كَمَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ

أَيَّامٍ ؛ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي وَيَكُونُ أَوَّلُ دُخُولِهِ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا النَّذْرُ بِاعْتِكَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَالصَّوْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ عَيْنًا وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي اعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَلَوْ سَاعَةً .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ ؛ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ إذْ صَوْمُ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ مُقَدَّرًا .
وَلَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَالصَّوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لَهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا بِصَوْمٍ وَالتَّعْيِينِ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ ، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْيَوْمَ فِي النَّذْرِ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً ؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ ، فَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الِاعْتِكَافِ تَبَعًا ؛ فَالنَّذْرُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْأَصْلِ .
فَإِمَّا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَحْمِلَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ .
وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : اعْتِبَارُ الْفَرْدِ بِالْجَمْعِ وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَيَّامِ كَذَا ذِكْرُ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ ذِكْرًا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ فَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا ؛ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّبَعِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ

يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ ؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ ؛ لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِكَافُ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَتَعْيِينُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ ؛ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَمْكُثُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَهَا ، ثُمَّ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لَا تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ .
فَعَلَى قَوْلِهِ يَدْخُلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَوْ دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَيْثُ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ : كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُرِيدُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي ، وَمِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِي التَّثْنِيَةِ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الْعُرْفَ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي الْجَمْعِ ؛ يَقُولُ الرَّجُلُ : كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ يَوْمَيْنِ وَيُرِيدُ بِهِ يَوْمَيْنِ وَمَا بِإِزَائِهِمَا مِنْ اللَّيَالِي .
وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَكِنْ تَعْيِينُ الْيَوْمَيْنِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي النَّذْرِ ، وَلَوْ نَوَى يَوْمَيْنِ خَاصَّةً دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّتَابُعِ وَالْيَوْمَانِ مُتَفَرِّقَانِ

لِتَخَلُّلِ اللَّيْلَةِ بَيْنَهُمَا ؛ فَصَارَ الِاعْتِكَافُ هَهُنَا كَالصَّوْمِ فَيَدْخُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ مَعَ لَيَالِيهِنَّ وَتَعْيِينُهَا إلَيْهِ ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ .
وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِمَا قُلْنَا وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَلَهُ خِيَارُ التَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْأَيَّامِ .
وَالْأَيَّامُ مُتَفَرِّقَةٌ ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَيَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَتَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : ثَلَاثَ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّيَالِي وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَلَوْ نَوَى اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي .
وَكَذَا اللَّيَالِي إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَمَّا عَبَّرَ فِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ الْأَيَّامِ وَفِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ اللَّيَالِي ؛ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : هُوَ وَمَا بِإِزَاءِ صَاحِبِهِ ، حَتَّى أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ فِيهِ عَلَى عَدَدِ اللَّيَالِي أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } وَلِلْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَهُنَا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ فِيهِ كَمَا فِي اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ ؛ فَهُوَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ دُونَ مَا نُقِلَ عَنْهُ بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ .
ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَكَذَا ذَاتُ الْأَيَّامِ لَا تَقْتَضِي

التَّتَابُعَ لِتَخَلُّلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاعْتِكَافِ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ ؛ لَمْ يُعْمَلْ بِنِيَّتِهِ وَلَزِمَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَا نَصَّ عَلَى الْأَيَّامِ ، فَإِذَا قَالَ : نَوَيْت بِهَا اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ ؛ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ ؛ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَقَالَ : عَنَيْت بِهِ اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيَالِي فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الشَّمْسُ فِيهِ غَائِبَةً إلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ بِالْعُرْفِ فَإِذَا عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ ، مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا ، سَوَاءٌ ذَكَرَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا .
وَتَعْيِينُ ذَلِكَ الشَّهْرِ إلَيْهِ ، فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَمْ يُعَيِّنْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّتَابُعَ وَلَا نَوَاهُ ؛ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ التَّتَابُعِ أَوْ بِالنِّيَّةِ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَمْ يُنْوَ التَّتَابُعُ أَيْضًا فَيُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ .
وَلَنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ وَمَبْنَاهَا عَلَى الِاتِّصَالِ ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ ، وَاللَّيَالِيَ قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ .
وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ لَكِنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيهِ وَفِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا غَيْرَ مُعَيِّنٍ ؛ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا ؛ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَيْسَ مَبْنَى حُصُولِهِ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَ كُلِّ عِبَادَتَيْنِ مِنْهُ وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لَهَا وَهُوَ اللَّيْلُ ؛ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَيْدُ التَّتَابُعِ وَلَا اقْتِضَاءُ لَفْظُهُ وَتَعْيِينُهُ ؛ فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ التَّتَابُعُ فِيمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ

بِالتَّتَابُعِ مِنْ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَذَا هَذَا .

وَلَوْ نَوَى فِي قَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ ؛ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ كَالْبَلَقِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدَهُمَا ؛ فَقَدْ أَرَادَ بِالِاسْمِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَلَا احْتَمَلَهُ فَبَطَلَ ، كَمَنْ ذَكَرَ الْبَلَقَ وَعَنَى بِهِ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ .
وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْخَاتَمِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَالْفَصُّ كَالتَّابِعِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِيهَا زِينَةً لَهَا ؛ فَكَانَ كَالْوَصْفِ لَهَا فَجَازَ أَنْ يُذْكَرَ الْخَاتَمُ وَيُرَادَ بِهِ الْحَلْقَةُ .
فَأَمَّا هَهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّمَانَيْنِ أَصْلٌ فَلَمْ يَنْطَلِقْ الِاسْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا حَيْثُ انْصَرَفَ إلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا لَا نَقُولُ : إنَّ اسْمَ الشَّهْرِ تَنَاوَلَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيَالِي ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ ، بَلْ تَنَاوَلَ النَّهَارَ وَاللَّيَالِيَ جَمِيعًا ؛ فَكَانَ مُضِيفًا النَّذْرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيَالِي وَالنَّهَارِ جَمِيعًا مَعًا غَيْرَ أَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَيْهَا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَا ذِكْرُ اللَّيَالِي وَالنَّهَارُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ ؛ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُصَادِفَ لِمَحَلِّهِ يَصِحُّ ، وَالْمُصَادِفَ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ يَلْغُو ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ ، وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ ؛ يَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ .
وَهُوَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ ؛ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ

الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ ، كَمَنْ قَالَ : رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ مِنْهُ دُونَ السَّوَادِ ؛ وَكَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالنَّهَارِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِيِ ؛ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ .
وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا : يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا .
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ ؛ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا ، وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَجَبٍ حَتَّى مَضَى ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ ؛ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا .
وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عَنْ نَذْرِهِ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ ؛ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ .
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ ؛ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ ؛ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ وَاعْتَكَفَ فِيهِ ؛ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الِاعْتِكَافَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، إنَّمَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ مَعَهُ كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ ، وَهُوَ مُحْدِثٌ ؛ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ ، وَلَوْ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الطَّهَارَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ ؛ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ بِصَوْمٍ آخَرَ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا ، كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ ، بَلْ يَسْقُطُ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ .
وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ كَمَا انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ قَدْ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ ؛ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
كَمَا إذَا نَذَرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ نَذْرَهُ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ ؛ فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَقَدْ فَاتَهُ

فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كَمَا إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ ؛ أَنَّهُ يَقْضِيهِ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا ، كَذَا هَذَا .
وَلَوْ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ ؛ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ ؛ جَازَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الِاعْتِكَافُ بَاقٍ فَيَقْضِيهِمَا جَمِيعًا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ الِاعْتِكَافِ فِيهَا صَوْمًا آخَرَ ؛ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الصَّوْمِ كَمَا انْعَقَدَ .
وَلَوْ صَامَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هَذَا الشَّهْرِ ؛ لَمْ يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ؛ فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : اقْضِ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهَا ؛ جَازَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَكَانَ مُسِيئًا وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ لَوَازِمِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الِاعْتِكَافِ كَالْجَوَابِ فِي الصَّوْمِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ : فَالْمَسْجِدُ وَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ : الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِيُنْهَوْا عَنْ الْجِمَاعِ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : إنَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ .
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَفِي رِوَايَةٍ : وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ } وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : إنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى التَّنَاسُخِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ ؛ إذْ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْلُحُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ

أَوْ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } أَوْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَكْرَهُهَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَارَةِ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ .
أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَا خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ؛ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ ، مِنْ كَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَلُزُومِ الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدٌ أَفْضَلُ مِنْهُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا .

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ ، بَلْ يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ ، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ : بَلْ هَذِهِ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا } وَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي بَيْتِهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَهُوَ

الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ بَيْتِهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِيهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَم .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ : هُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ : اعْتَكَفَ وَعَكَفَ أَيْ : أَقَامَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } أَيْ : لَنْ نَزَالَ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ وَيُقَالُ : فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ عَلَى حَرَامٍ أَيْ : مُقِيمٌ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ : مُعْتَكِفًا وَعَاكِفًا .
وَإِذَا عُرِفَ فَنَقُولُ : لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لَيْلًا وَلَا وَنَهَارًا إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ لُبْثًا وَإِقَامَةً ؛ فَالْخُرُوجُ يُضَادُّهُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُضَادُّهُ فَكَانَ إبْطَالًا لَهُ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذْ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَعَذَّرَ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْخُرُوجِ وَلِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ تَحْقِيقَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ إلَّا بِالْبَقَاءِ ، وَلَا بَقَاءَ بِدُونِ الْقُوتِ عَادَةً وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَجْرَى الْعَادَةِ فَكَانَ الْخُرُوجُ لَهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَوَسَائِلِهِ وَمَا كَانَ مِنْ وَسَائِلِ الشَّيْءِ ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي حَالِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } وَكَذَا فِي الْخُرُوجِ فِي الْجُمُعَةِ ضَرُورَةٌ ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا كَمَا يُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ

لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُبْطِلًا لِاعْتِكَافِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ ؛ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي الْأَصْلِ مُضَادٌّ لِلِاعْتِكَافِ وَمُنَافٍ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَرَارٌ وَإِقَامَةٌ وَالْخُرُوجُ انْتِقَالٌ وَزَوَالٌ ؛ فَكَانَ مُبْطِلًا لَهُ إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، وَلَنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمُعْتَكَفِ .
وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُبْطِلًا لِلِاعْتِكَافِ ؛ لَمَا أُمِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ لَيْسَتْ هِيَ عَلَيْهِ فَمَتَى أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ ؛ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي إبْطَالِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ كَانَ نَذْرُهُ عَدَمًا فِي إبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ دُونَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُؤْذَنُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَالْخُرُوجَ يُبْطِلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يُبْطِلُهُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا وَقْتُ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَمِقْدَارُ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا .
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ

الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا أَنَّهَا أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا : سِتَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا يَخْرُجُ حِينَ يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ وَبُعْدِهِ فَيَخْرُجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَرَى أَنَّهُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ إبَاحَةٌ لَهَا بِتَوَابِعِهَا ، وَسُنَنَهَا مِنْ تَوَابِعِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فِيهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا يُنْتَقَضُ اعْتِكَافُهُ ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَلِأَنَّ الْجَامِعَ لَمَّا صَلُحَ لِابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ ؛ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ ؛ فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ ، فَيُكْرَهُ لَهُ التَّحَوُّلُ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْمَامِ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ لَيْسَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ ، بَلْ مِنْ الْفَضَائِلِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَاقِينَ بِهَا ؛ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الِاعْتِكَافِ الَّذِي يَتَطَوَّعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا إذَا كَانَ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِوَجْهٍ مُبَاحٍ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ ،

ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِذَلِكَ قَصْدًا وَذَلِكَ جَائِزٌ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَى مَنْزِلِهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا .

فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ لِعُذْرٍ بِأَنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرُ السُّلْطَانِ فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كَمَا لَوْ خَرَجَ عَنْ اخْتِيَارٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُذْرِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا .
فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَأَنِّيًا ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ ؛ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ ، وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ .
وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَشْيِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ

الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ أَوْ كَثُرَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ .
وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ فَفَعَلَ ذَلِكَ ؛ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ } وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .

وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، أَوْ يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ تَارِكًا مَا خَرَجَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قَالَ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ الصَّوْمِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ ، وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ : اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ .
وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ ، فَكَانَ اعْتِكَافًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جَاءَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا ؛ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ : الشُّرُوعُ فِيهِ مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ بِقَدْرِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فَمَا أَوْجَبَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ

ذَلِكَ .

وَلَوْ جَامَعَ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } قِيلَ : الْمُبَاشَرَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ ؛ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ فِي الِاعْتِكَافِ ؛ فَإِنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ لِمَكَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ الْمَسَاجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَتْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ ؛ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ سَوَاءٌ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالنِّسْيَانُ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرٌ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ .
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْوُقُوعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كَانَ

النِّسْيَانُ جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ عَيْنُ الْجِمَاعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ .
وَالْمُحَرَّمُ فِي بَابِ الصَّوْمِ هُوَ الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ ، أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا ؛ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ ، وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي النَّهَارِ عَامِدًا ؛ فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ ، وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ ، وَهُوَ مَا مُنِعَ عَنْهُ لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ .
وَالْفِقْهُ مَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَكَذَا لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ ؛ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ أَنَّهُ إنْ أَنْزَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ فِي بَابِ الصَّوْمِ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي

إلَيْهِ فَلَوْ لَمْ تَحْرُمْ ؛ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ ، وَأَمَّا فِي بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ لَيْسَ مُحَرَّمًا ، إنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ الْإِفْطَارُ أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا ، وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى ؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كَانَتْ اعْتَكَفَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ عِبَادَتِهَا .

وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : قِيَاسٌ ، وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَكَذَا السُّكْرُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَقْلِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَالْإِغْمَاءِ .
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنْ انْعِقَادِ الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَيَخْرُجَ فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى الْمَسْجِدِ .

وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ مَا بَدَا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ صَائِمًا وَيَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هُوَ كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ } .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ : هَلَّا اشْتَرَيْت خَادِمًا ؟ قَالَ : كُنْت مُعْتَكِفًا قَالَ : وَمَاذَا عَلَيْك لَوْ اشْتَرَيْت .
أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ يُبَاعُ فِيهَا وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وقَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } وقَوْله تَعَالَى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ

وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ ؛ لَمُنِعَ مِنْ الِاعْتِكَافِ إذْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا فُحْشًا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ .
فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فِيهِ مَأْثَمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى .

وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِذَا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَدَعَ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ .
أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى مَعَهُ أَيْضًا ، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامُهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الِاعْتِكَافَ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى وَإِذَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ يَقْضِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الرِّدَّةُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ .
وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعِي فِيهِ صِفَةَ التَّتَابُعِ وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي

الِاعْتِكَافِ .

وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا ؛ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى ؛ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُقْتَضَى عَلَيْهِ الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ .
فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ ؛ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

كِتَابُ الْحَجِّ الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ : فَصْلٌ فِي الْحَجِّ ، وَفَصْلٌ فِي الْعُمْرَةِ أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ : فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِ ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ ، وَفِي بَيَانِ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالْوَاجِبَاتِ ، وَالسُّنَنِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ عُمْرِهِ أَصْلًا ، وَرَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } ، فِي الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } ، وَعَلَى : كَلِمَةُ إيجَابٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ } قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ : وَمَنْ كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا ، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أَيْ : اُدْعُ النَّاسَ وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ ، وَقِيلَ : أَيْ أَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى : { يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أَوْ عَدُوٌّ ظَاهِرٌ ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا ، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ مَجُوسِيًّا } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ : فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ ، وَالِارْتِفَاقِ ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ .
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ ، وَالْمَالِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ ، وَشُكْرُ

النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا ، وَشَرْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا : أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عَنْ الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ عَيْنًا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ ، كَالْجِهَادِ ، وَنَحْوِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَجِّ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ فِي ( أُصُولِ الْفِقْهِ ) ، وَالتَّكْرَارُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لِلْأَبَدِ } ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ ، وَجَبَ فِي كُلِّ عَامٍ ؛ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ ، وَالْعِقَابُ إلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ، وَقَالَ :

أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لِلْأَبَدِ ، وَلَوْ قُلْتُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَ ، وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ } .
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَالتَّرَاخِي ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : عَلَى التَّرَاخِي ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ ، وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ : وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هُوَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا مِنْ الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَرُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ لِسَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ الْعَشْرِ ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ مِنْهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا ، وَلَوْ كَانَ ، وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ .
وَقَدْ فَاتَ الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا كَمَا لَوْ فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهَا ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ ، وَالْحَمْلُ عَلَى

الْفَوْرِ أَحْوَطُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ ؛ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ حَمْلًا عَلَى أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى ، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَوْرُ أَوْ التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَوْرِ ، وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَلَكَ زَادًا ، وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا } أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : مَنْ مَلَكَ كَذَا فَلَمْ يَحُجَّ ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لَمْ يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ ، وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا مِنْ السَّنَةِ يَفُوتُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى .
وَقَدْ يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ .
وَقَدْ لَا يَعِيشُ فَكَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا لَهُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ ، وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَفِي إدْرَاكِهِ

السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ ، وَالتَّفْوِيتُ حَرَامٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عَنْ الْفَوْرِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ لَهُ ، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ هُوَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ } .
وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ ، وَالتَّبَرُّكِ أَوْ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ .
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ عَمَلًا فِي احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ، وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْجِيلِ إنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَوَاتِ فَإِذَا عَاشَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ فِي وَقْتِهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ ، وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الرِّجَالَ ، وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا : الْبُلُوغُ ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ حَتَّى لَوْ حَجَّا ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَمَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ } .

وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ، وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ } يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ .
وَكَذَا لَا حَجَّ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِالتَّرْكِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ : عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ ، وَهَذَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } ، وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ الْحَجَّ ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا ، وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا ، وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي ( كِتَابِ الزَّكَاةِ ) وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ .

وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ } ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا حَجَّ فِي حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا ، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِذْنِ ، وَعَدَمِ الْإِذْنِ ، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ بِالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَيْسَرَ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ، وَانْتِهَاءً ، وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ وَإِنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا بَلَغَ مَكَّةَ ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَشْيِ ، وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، فَإِذَا أَدَّى وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً ، وَانْتِهَاءً مَا دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً ،

وَانْتِهَاءً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ كَامِلٍ كَسَائِرِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ابْتِدَاءً ، وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ لَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ الْحُرِّ بَلْ يُرْضَخُ لَهُ ، وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ الْجُمُعَةَ ، وَصَلَّى أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا ، وَإِنْ كَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى ، وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ نَظَرًا لِلْمَوْلَى إلَّا قَدْرَ مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، فَإِنَّهُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ ، فَيَكُونُ فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى ، فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ ، وَفَاتَتْ الْمَنَافِعُ بِسَبَبِ السَّعْيِ فَيُعَدُّ ذَلِكَ الظُّهْرُ ، وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ ، فَنَظَرُ الْمَالِكِ فِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ ثَانِيًا فَيَزِيدُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ ، وَالْجِهَادِ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤَدَّيَانِ إلَّا بِالْمَالِ ، وَالنَّفْسِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى بِفَوَاتِ مَالِهِ ، وَتَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَنْ الْفَرْضِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ يَتَبَادَرُ الْعَبِيدُ إلَى الْأَدَاءِ لِكَوْنِ الْحَجِّ عِبَادَةً مَرْغُوبَةً .
وَكَذَا الْجِهَادُ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى ، فَالشَّرْعُ حَجَرَ عَلَيْهِمْ ، وَسَدَّ هَذَا الْبَابَ نَظَرًا بِالْمَوْلَى حَتَّى لَا يَجِبَ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَمِلْكِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ

الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ مَضَى عَلَى إحْرَامِهِ ، يَكُونُ حَجُّهُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ، وَهُوَ بَالِغٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَبَّى أَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ .
وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ ، وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالْكَافِرِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إحْرَامَ الْكَافِرِ ، وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَإِحْرَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَقَعَ صَحِيحًا ، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَاطَبٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِانْتِقَاضِ فَإِذَا جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ فَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ وَقَعَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ الثَّانِي إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ .

وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرِيضِ وَالزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَالْمَفْلُوجِ ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِنَفْسِهِ ، وَالْمَحْبُوسِ ، وَالْمَمْنُوعِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ ، وَالْآلَاتِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ سَلَامَةُ الْبَدَنِ عَنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْمَانِعِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } أَنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ ، وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْجَبَ ، وَلِأَنَّ الْقُرَبَ ، وَالْعِبَادَاتِ ، وَجَبَتْ بِحَقِّ الشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَإِذَا مُنِعَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ أَوْ الْمَالِ كَيْفَ يُكَلَّفُ بِالشُّكْرِ ، وَلَا نِعْمَةَ .
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ وَجَدَ زَادًا ، وَرَاحِلَةً ، وَقَائِدًا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَعْمَى ، وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ زَادًا ، وَرَاحِلَةً ، وَمَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ فِي خِدْمَتِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَالْمَقْطُوعِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَقَالَ : هِيَ الزَّادُ ، وَالرَّاحِلَةُ } فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ،

وَلِلْأَعْمَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ ، وَيَهْتَدِي بِالْقَائِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ : أَنَّهُمَا يَقْدِرَانِ بِغَيْرِهِمَا إنْ كَانَا لَا يَقْدِرَانِ بِأَنْفُسِهِمَا ، وَالْقُدْرَةُ بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ .
وَكَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ : بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَقَدْ وُجِدَا ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّكُوبِ ، وَالنُّزُولِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَا الزَّمِنُ ، وَالْمُقْعَدُ فَلَمْ يَكُونَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ ، وَالْقَادِرُ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ ، فَلَمْ تَثْبُتْ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ غَيْرُهُ يُمْسِكُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْحَجِّ لَا لِاقْتِصَارِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِمَا .
( أَلَا تَرَى ) : أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَكَّةَ بَحْرٌ زَاخِرٌ لَا سَفِينَةَ ثَمَّةَ ، أَوْ عَدُوٌّ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ وُجُودِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ

الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ لَيْسَ لِاقْتِصَارِ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ يَدْخُلُ تَحْتَ تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعْنًى ، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَالْمَفْلُوجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِأَنْفُسِهِمْ حَرَجًا بَيِّنًا ، وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .

وَمِنْهَا مِلْكُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ النَّائِي عَنْ مَكَّةَ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ ، كَالْوَالِدِ بَذَلَ الزَّادَ ، وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ ، وَلَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَوْلَانِ ، وَلَوْ ، وَهَبَهُ إنْسَانٌ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : الرَّاحِلَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَصْلًا لَا مِلْكًا وَلَا إبَاحَةً ، وَمِلْكُ الزَّادِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاحِلَةٌ ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ ، وَلَهُ زَادٌ ، فَقَدْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ : بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا فَلَا تَثْبُتُ الِاسْتِطَاعَةُ بِأَحَدِهِمَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ ثُمَّ شَرْطُ الرَّاحِلَةِ إنَّمَا يُرَاعَى لِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ نَأَى عَنْ مَكَّةَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْقَوِيِّ مِنْهُمْ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ رَاحِلَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ يَلْحَقُهُ فِي الْمَشْيِ إلَى

الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ ، وَالْآلَاتِ ، وَالْقُدْرَةُ تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ إذْ الْمِلْكُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ أَكْلًا ، وَرُكُوبًا ، وَلِذَا ثَبَتَتْ بِالْإِبَاحَةِ ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْمِلْكُ ، وَالْإِبَاحَةُ فِي ( بَابِ الطَّهَارَةِ ) فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ ، وَالْآلَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً .
أَلَا تَرَى : أَنَّ لِلْمُبِيحِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُبَاحِ ، وَمَعَ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنْعِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } ، وَالْعَدَمُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْبَذْلِ ، وَالْإِبَاحَةِ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ مِقْدَارَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا ، وَجَائِيًا رَاكِبًا لَا مَاشِيًا بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا ، وَلَا تَقْتِيرَ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ ، وَخَادِمِهِ ، وَفَرَسِهِ ، وَسِلَاحِهِ ، وَثِيَابِهِ ، وَأَثَاثِهِ ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ ، وَخَدَمِهِ ، وَكُسْوَتِهِمْ ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَيْضًا ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ الرَّاحِلَةَ فَقَالَ : إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَمَّا ذَكَرْنَا مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ ، أَوْ زَامِلَةً ، أَوْ رَأْسَ رَاحِلَةٍ ، وَيُنْفِقُ ذَاهِبًا ، وَجَائِيًا ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ

إلَّا أَنْ يَمْشِيَ أَوْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا ، وَلَا رَاكِبًا عُقْبَةً ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْفَضْلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَوَائِجِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْعِيَالِ سَنَةً ، وَالْبَعْضُ شَهْرًا ، فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فِي الْقُرْبِ ، وَالْبُعْدِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يَذْهَبُ ، وَيَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا ، وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ ، وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا ، وَلَا يُؤَاجِرُهَا ، وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ ، وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَيَحُجَّ بِهِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَكَانَ مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ ، وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ قَدْرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَنْزِلِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّكْنَى ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ ، وَلَا خَادِمٌ ، وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ فِي التَّرْكِ ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ

الْمَسْكَنِ ، وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ ، وَالْخَادِمِ ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا ، وَقَوْلُهُ : " وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ " مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ : وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الذَّهَابِ ، وَالرُّجُوعِ .
فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا .

( وَمِنْهَا ) أَمْنُ الطَّرِيقِ ، وَإِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَقُولُ إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ : لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى ، وَهُوَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ لَمْ يَذْكُرْ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ ، وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ لَهُ ، وَلَا رَاحِلَةَ مَعَهُ فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً .

( وَأَمَّا ) .
الَّذِي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ .
وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ ، وَالْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ ، وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ فِي الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَخِطَابُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ ، وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا زَادٌ ، وَرَاحِلَةٌ كَانَتْ مُسْتَطِيعَةً ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عَلَيْهَا ، فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَلَا { لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ } ، وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ } وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ ، وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا .
وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى ، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ ، وَالْمَحْرَمِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ ، وَالنُّزُولِ بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا ، وَيُنْزِلُهَا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ ، وَالْمَحْرَمِ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِإِرَادَةِ زَادٍ ، وَرَاحِلَةٍ هَلْ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ

الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ بِنَفْسِهَا ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أَوْ الزَّوْجَ مِنْ ضَرُورَاتِ حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهَا الزَّادُ ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ الْوُجُوبِ بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ ، وَإِلَّا فَلَا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا ، وَلَا مَحْرَمَ : إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا كَذَا هَذَا ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجَّةِ الْفَرِيضَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا وَهُوَ : الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
( وَلَنَا ) : أَنَّهَا إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَقَدْ اسْتَطَاعَتْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ سَبِيلًا ؛ لِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ ، وَالنُّزُولِ وَأَمِنَتْ الْمَخَاوِفَ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَصُونُهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ يَفُوتُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ " ، فَنَقُولُ : مَنَافِعُهَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْفَرَائِضِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى حَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا كَمَا

فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّابَّةِ ، وَالْعَجُوزِ .
وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا ، وَيُنْزِلُهَا بَلْ حَاجَةُ الْعَجُوزِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّهَا أَعْجَزُ .
وَكَذَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ .
وَكَذَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ حَالَ رُكُوبِهَا ، وَنُزُولِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الْمَحْرَمِ لِيَصُونَهَا عَنْ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ صِفَةُ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ إمَّا بِالْقَرَابَةِ ، أَوْ الرَّضَاعِ ، أَوْ الصِّهْرِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُزِيلُ التُّهْمَةَ فِي الْخَلْوَةِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْمَحْرَمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي الْمَحْرَمِيَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُشْرِكًا ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ ، وَالْمُشْرِكَ يَحْفَظَانِ مَحَارِمَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَقَالُوا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ : إنَّهُمَا لَيْسَا بِمَحْرَمَيْنِ فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا حِفْظُهَا ، وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا : إنَّهَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا فَإِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ثُمَّ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَجَّتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يُشْتَرَطُ لِلسَّفَرِ ، وَمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِسَفَرٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَحِلَةٍ إلَى مَحِلَةٍ ، ثُمَّ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمْ شَرْطُ الْجَوَازِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي : أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ الْجُحْفَةِ .
وَلِأَنَّ الْحَجَّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا إنَّمَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ خَاصَّةً فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَزِمَتْهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ ، وَهِيَ مُسَافِرَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا ، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ ، فَإِنْ كَانَ إلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ ، وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى مَنْزِلِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا ، وَإِنْ كَانَ إلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ ، وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلِّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَوْ لَا ، وَعِنْدَهُمَا : تَخْرُجُ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا ، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ ( كِتَابِ الطَّلَاقِ ) وَنَذْكُرُهَا بِدَلَائِلِهَا فِي فُصُولِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

ثُمَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ ، وَنَحْوِهِ ، وَلَهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْهُ ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ شَرَائِطَ جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَلَوْ تَكَلَّفَ وَاحِدٌ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ فَحَجَّ بِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الْحَرَجَ ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ ، وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، وَالصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ الْعَبْدَ ، وَالصَّبِيَّ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الزَّادِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ ، وُجُودُهَا ، وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الزَّادَ ، وَالرَّاحِلَةَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِ ذَلِكَ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَهُ ، وَمَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ ، وَإِذَا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَأَمَّا إذَا جَاءَ ، وَقْتُ الْخُرُوجِ ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ .
وَقَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْحَجِّ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا .
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ لِلْحَجِّ ، وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ .
أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي .
بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } أَيْ الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذْ الْحَجُّ فِعْلٌ ، وَعَرَفَةُ مَكَانٌ فَلَا يَكُونُ حَجًّا فَكَانَ الْوُقُوفُ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ : الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ .
وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ التَّفْسِيرُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ، وَالْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ .
فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّكْنُ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِدَلِيلٍ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيَاقِ التَّفْسِيرِ : { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اسْمًا لِلْحَجِّ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهِ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ التَّمَامُ لَا الْفَرْضُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : تَمَّ حَجُّهُ لَيْسَ هُوَ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ بَلْ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ فَقَوْلُهُ : " فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ " أَيْ : خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسَادِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ

شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ : بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَصَارَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرْضًا ، وَهُوَ رُكْنٌ فَلَوْ حُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْحَجُّ بِدُونِهِ فَيَتَنَاقَضُ ، فَحُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ لَا نُفِيضُ كَغَيْرِنَا مِمَّنْ قَصَدَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، وَالنَّاسُ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَإِفَاضَتُهُمْ مِنْهَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِمْ فِيهَا فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا أَمْرًا بِالْوُقُوفِ بِهَا ضَرُورَةً .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَلَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } .
وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِ الْوُقُوفِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ .

وَأَمَّا مَكَانُ الْوُقُوفِ فَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ } .
وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } .
فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي الشَّيْطَانِ .

وَأَمَّا زَمَانُهُ فَزَمَانُ الْوُقُوفِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ وُقُوفُهُ ، وَعَدَمُ وُقُوفِهِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَقَّتَةِ إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، وَهِيَ حَالُ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَا الْوُقُوفُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ ، كَذَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ بِنَهَارٍ وَلَا بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَقَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } فَكَانَ بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَقْتَ يَبْقَى بِبَقَاءِ اللَّيْلِ ، وَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : وَقْتُ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْلُ فَمَنْ لَمْ يَقِفْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } عَلَّقَ إدْرَاكَ الْحَجِّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوُقُوفَ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ وَقْتُ الرُّكْنِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ ، وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ، وَكَانَ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ } .
أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ

وَقْتُ الْوُقُوفِ غَيْرُ عَيْنٍ ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَبَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ مُرَادًا ، وَلِأَنَّ هَذَا نَوْعُ نُسُكٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَنَاسِكِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ : مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهَا بِلَيْلٍ مَاذَا حُكْمُهُ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ ، وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ يَوْمَ كَذَا ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ ، وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ : أَنْ لَا يَصِحَّ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ ، وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ، وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّقْدِيمِ ، وَالتَّأْخِيرِ ، وَالِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ } .
وَرُوِيَ : { وَحَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ } .
فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الْوُقُوفِ أَوْ الْحَجِّ ، وَقْتَ تَقِفُ أَوْ تَحُجُّ فِيهِ النَّاسُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ ، وَهِيَ نَفْيُ جَوَازِ الْحَجِّ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ ، وَالثَّانِي أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ

الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِالْجَوَازِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَلِأَنَّهُمْ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَنَوْا عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ الْعَمَلِ بِهِ ، وَهُوَ وُجُوبُ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَعُذِرُوا فِي الْخَطَأِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ رَأْسًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ ، نَظِيرُهُ إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى ، وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَتَحَرَّ ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا ، وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفُ الشُّهُودِ ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ ، وَحَجُّهُمْ أَيْضًا .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ شَاهِدَانِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةَ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ ، وَوَقَفَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ ، وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنْ كَانَ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ عَامَّةُ النَّاسِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ ، جَازَ وُقُوفُهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ فِي وَقْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فَوَقَفَ الْإِمَامُ ، وَالنَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ .
وَقَدْ كَانَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ وُقُوفُهُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57