كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

( وَأَمَّا ) رِبَا النَّسَاءِ ، وَفُرُوعُهُ ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ ، وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ ، وَلَا تُسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ ، وَلَا مَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَتَفْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى التَّفْصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْرَى الْقَضِيَّةَ فِيهَا عَامَّةً ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ عَلَى الْعُمُومِ ، سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الْحِنْطَةِ ، أَوْ فِي الشَّعِيرِ ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْجَصِّ ، أَوْ فِي النُّورَةِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ حَالًّا لَا سَلَمًا ، لَكِنْ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مَطْعُومَيْنِ كَانَا ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ جَمَعَهُمَا ، وَهُوَ الْكَيْلُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَا مَطْعُومَيْنِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَطْعُومَيْنِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ الطَّعْمُ .

( وَأَمَّا ) إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ إنْ كَانَا جَمِيعًا مِمَّا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالسُّكَّرِ فِي الزَّعْفَرَانِ ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْحَدِيدِ فِي النُّحَاسِ لِوُجُودِ أَحَدِ ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِرِبَا النَّسَاءِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ ، أَوْ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّنَانِيرِ ، أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُسَلَّمُ فِيهِ كَالْحَدِيدِ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَبِيعٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ؛ لِأَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَعْضِ مَا دَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ .
وَالدَّاخِلُ تَحْتَ النَّهْيِ هُوَ الْبَيْعُ دَلَّ أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ لِيَسْتَقِيمَ إثْبَاتُ الرُّخْصَةِ فِيهِ فَكَانَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا ، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّعْيِينَ شَرْعًا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ يَكُونَا مُتَعَيِّنَيْنِ فَلَا يَصْلُحَانِ مُسَلَّمًا فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ ، وَالْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي الزَّعْفَرَانِ ، أَوْ فِي الْقُطْنِ ، أَوْ الْحَدِيدِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ ، وَهِيَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ ، أَوْ الْجِنْسُ .
أَمَّا الْمُجَانَسَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ .
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ ؛ فَلِأَنَّ وَزْنَ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ

الدَّرَاهِمَ تُوزَنُ بِالْمَثَاقِيلِ ؟ ، وَالْقُطْنَ ، وَالْحَدِيدَ يُوزَنَانِ بِالْقَبَّانِ فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَذَا إذَا أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ ، أَوْ تِبْرَ ذَهَبٍ ، أَوْ الْمَصُوغَ فِيهَا فَهَلْ يَجُوزُ ؟ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ ، وَزُفَرَ ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّهُ وُجِدَ عِلَّةً رِبَا النَّسَاءِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، وَهُوَ الْوَزْنُ فِي الْمَالَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْقَدْرِ الْمُتَّفِقِ لَا مُطْلَقَ الْقَدْرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ النَّقْرَةَ ، أَوْ التِّبْرَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، وَأَصْلِ الْأَثْمَانِ ، وَوَزْنُ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِيهَا الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْفُلُوسَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ ، وَالْعَدَدُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ لَيْسَ مِنْ ، أَوْصَافِ الْعِلَّةِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِوُجُودِ الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدِيَّةً جَازَ ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ .

وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْزُونُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الزَّيْتِ ، أَوْ الزَّعْفَرَانِ ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْحَدِيدِ عِنْدَنَا ؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومَيْنِ ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا ، وَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا الْعَقْدُ سَلَمًا هَلْ يَجُوزُ بَيْعًا يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ وَيَكُونُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْبَيْعِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَالشَّرَائِطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ سَلَمًا بَطَلَ رَأْسًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمَّاهُ بَيْعًا حِينَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّهُ أَخْتَصَّ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا هُوَ سَلَمٌ يُصَحَّحُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ .

وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ فَجَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْزُونُ الَّذِي جَعَلَهُ رَأْسَ الْمَالِ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، أَوْ ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ ، أَوْ الْجِنْسُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ ، وَلَوْ أَسْلَمَ جِنْسًا فِي جِنْسِهِ ، وَغَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ مَكِيلًا فِي مَكِيلٍ ، وَمَوْزُونٍ لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ الْمَوْزُونُ ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .

( وَأَمَّا ) إسْلَامُ غَيْرِ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ فِي جِنْسِهِ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ ، وَالْعَدَدِيَّاتِ كَالْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ ، وَالْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ ، وَالْحَيَوَانِ فِي الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَلَقَبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ .
فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ فِي الْبِيضِ ، وَالتُّفَّاحِ فِي التُّفَّاحِ ، وَالْحَفْنَةِ فِي الْحَفْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا ، وَلِوُجُودِ الطَّعْمِ عِنْدَهُ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْهَرَوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ ؛ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ ؛ لِانْعِدَامِ الطَّعْمِ ، وَالثَّمَنِيَّةِ .
وَيَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْبَيْضِ ، وَالتُّفَّاحِ فِي السَّفَرْجَلِ ، وَالْحَيَوَانِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَنَا ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ .
وَلَوْ أَسْلَمَ الْفُلُوسَ فِي الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ ، وَعِنْدَهُ ؛ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ .
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ فِي جِنْسِهَا ، وَهِيَ تُبَاعُ عَدَدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ؛ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ ، وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ ، وَالْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا ، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ ، وَحُرْمَةَ بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا هِيَ الْأَصْلُ ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَهُ ، وَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ ، وَالثَّمَنِيَّةِ فِي الْأَثْمَانِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَالْكَلَامُ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عِلَّةِ رِبَا

الْفَضْلِ .
وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ ، وَالْأَثْمَانِ إنَّمَا كَانَ رِبًا ؛ لِكَوْنِهِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَا نَقْدَيْنِ يَجُوزُ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّقْدِ ، وَالنَّسِيئَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنْ الدَّيْنِ ، وَالْمُعَجَّلَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الْمُؤَجَّلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَضْلٍ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ إلَّا مَالًا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَفَضْلُ التَّعْيِينِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَبِيعَ عَيْنًا بِعَيْنٍ ، وَحَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ وَالْأَثْمَانِ ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً ، وَابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } .
وَرُوِيَ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } حَقَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ ، وَالْأَثْمَانِ ، وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْقِيقِ الرِّبَا فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ ، أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ، وَالرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .

وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، وَعِلَّةِ رِبَا النَّسِيئَةِ عِنْدَنَا ، وَشَرْطُ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ عِنْدَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ مِنْ كُلِّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : الْحِنْطَةُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا ، وَأَوْصَافِهَا ، وَبُلْدَانِهَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ ، وَكَذَلِكَ دَقِيقُهُمَا ، وَكَذَا سَوِيقُهُمَا ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ ، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَكِيلٍ مِنْ ذَلِكَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي النَّوْعِ ، وَالصِّفَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ السَّقِيَّةُ بِالسَّقِيَّةِ وَالنَّحْسِيَّةُ بِالنَّحْسِيَّةِ ، وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَالْجَيِّدَةُ بِالْجَيِّدَةِ ، وَالرَّدِيئَةُ بِالرَّدِيئَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَالْجَدِيدَةُ بِالْجَدِيدَةِ ، وَالْعَتِيقَةُ بِالْعَتِيقَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَالْمَقْلُوَّةُ بِالْمَقْلُوَّةِ .
وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ عَلَى هَذَا ، وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الْحِنْطَةِ ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ ، وَسَوِيقِ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ ، وَكَذَا دَقِيقُ الشَّعِيرِ ، وَسَوِيقُهُ ، وَكَذَا التَّمْرُ بِالتَّمْرِ الْبَرْنِيُّ بِالْمَعْقِلِيِّ ، وَالْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ ، وَالْجَدِيدُ بِالْجَدِيدِ ، وَالْعَتِيقِ بِالْعَتِيقِ ، وَأَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ ، وَالزَّبِيبُ الْيَابِسُ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ حِنْطَةٍ مَقْلِيَّةٍ بِحِنْطَةٍ غَيْرِ مَقْلِيَّةٍ ، وَالْمَطْبُوخَةِ بِغَيْرِ مَطْبُوخَةٍ .
وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ ، وَبِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ ، وَبَيْعُ تَمْرٍ مَطْبُوخٍ بِتَمْرٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ ، أَوْ

مُتَسَاوِيًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ يَنْضَمُّ بَعْضُ أَجْزَائِهَا إلَى بَعْضٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ فِي الْكَيْلِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَكَذَا الْمَطْبُوخَةُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَطْبُوخَ يَنْتَفِخُ بِالطَّبْخِ فَكَانَ غَيْرُ الْمَطْبُوخَةِ أَكْثَرَ قَدْرًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْحِنْطَةِ دَقِيقًا إلَّا أَنَّهُ مُجْتَمِعٌ ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ التَّفَرُّقِ ، وَهُوَ التَّرْكِيبُ ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الدَّقِيقِ الْمُتَفَرِّقِ عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ إلَّا أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا طُحِنَتْ ازْدَادَ دَقِيقُهَا عَلَى الْمُتَفَرِّقِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّحْنَ لَا أَثَّرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ أَزْيَدَ فِي الْحِنْطَةِ ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ بِالتَّجْرِبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا .
وَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ ، أَوْ النَّدِيَّةِ بِالنَّدِيَّةِ ، أَوْ الرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ ، أَوْ الْمَبْلُولَةِ ، أَوْ الْيَابِسَةِ بِالْيَابِسَةِ ، وَبَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ ، وَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ ، أَوْ بِالتَّمْرِ ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ ، وَالْيَابِسِ بِالْمُنْقَعِ ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ فَهَلْ يَجُوزُ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّهُ جَائِزٌ إلَّا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّهُ فَاسِدٌ إلَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّهُ بَاطِلٌ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ ، وَالرُّطَبِ بِالْبُسْرِ مُتَسَاوِيًا ، وَمُتَفَاضِلًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِعَدَمِ الْجِنْسِ ، وَالْكَيْلِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِوِعَاءِ الطَّلْعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلَا

يَلْتَفِتُ إلَى النُّقْصَانِ فِي الْمَآلِ ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُهَا حَالًا وَمَآلًا ، وَاعْتِبَارُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ اعْتِبَارِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا فِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ بِالنَّصِّ ، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ عِلَّةِ الرِّبَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هِيَ الْأَصْلُ ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّسَاوِيَ هَهُنَا فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ ، وَهِيَ حَالَةُ الْجَفَافِ ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ، وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهُ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ } بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ ، وَعِلَّتَهُ ، وَهِيَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَمُحَمَّدٌ عَدَّى هَذَا الْحُكْمَ إلَى حَيْثُ تَعَدَّتْ الْعِلَّةُ ، وَأَبُو يُوسُفَ قَصَرَهُ عَلَى مَحِلِّ النَّصِّ ؛ لِكَوْنِهِ حُكْمًا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابُ الْكَرِيمُ ، وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ أَمَّا الْكِتَابُ : فَعُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَظَاهِرُ النُّصُوصِ يَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَقَدْ خُصَّ الْبَيْعُ مُتَفَاضِلًا عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ ؛ فَبَقِيَ الْبَيْعُ مُتَسَاوِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ { جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا

بِمِثْلٍ } عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَتَقْيِيدٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمَا وَأَوْصَافِهِمَا ، وَكَذَلِكَ اسْمُ التَّمْرِ يَقَعُ عَلَى الرُّطَبِ ، وَالْبُسْرِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرِ النَّخْلِ لُغَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ الرُّطَبُ ، وَالْيَابِسُ ، وَالْمُذَنَّبُ وَالْبُسْرُ ، وَالْمُنْقَعُ .
وَرُوِيَ أَنَّ { عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا جَنِيبًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ وَكَانَ أَهْدَى إلَيْهِ رُطَبًا } فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ { نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ أَيْ : يَحْمَرَّ ، أَوْ يَصْفَرَّ ، وَرُوِيَ حَتَّى يَحْمَارَّ ، أَوْ يَصْفَارَّ } ، وَالِاحْمِرَارُ ، وَالِاصْفِرَارُ مِنْ ، أَوْصَافِ الْبُسْرِ فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الْبُسْرِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَدَارُهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الْآحَادِ عَلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاوِيهِ عَدْلًا ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ ، أَوْ بِأَدِلَّةٍ فَيَحْمِلُهُ عَلَى بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً ، أَوْ تَمْرًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْوَزْنِ سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي النَّوْعِ ، وَالصِّفَةِ بِأَنْ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ،

أَوْ مَصُوغَيْنِ ، أَوْ تِبْرَيْنِ جَيِّدَيْنِ ، أَوْ رَدِيئَيْنِ ، أَوْ اخْتَلَفَا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا } .
وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ ، وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ ، وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْجَيِّدِ ، وَالرَّدِيءِ فِي الْقِيمَةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ ، وَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { وَزْنًا بِوَزْنٍ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَيِّدُهَا ، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ .

وَاللُّحُومُ مُعْتَبَرَةٌ بِأُصُولِهَا فَإِنْ تَجَانَسَ الْأَصْلَانِ تَجَانَسَ اللَّحْمَانِ فَتُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ اخْتَلَفَ اللَّحْمَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا ، وَمُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِوُجُودِ أَحَدِ ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، وَهُوَ الْوَزْنُ ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : لُحُومُ الْإِبِلِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ لُحُومِ الْعِرَابِ ، وَالْبَخَاتِيِّ ، وَالْهَجِينِ ، وَذِي السَّنَامَيْنِ ، وَذِي سَنَامٍ وَاحِدٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَذَا لُحُومُهَا ، وَكَذَا لُحُومُ الْبَقَرِ ، وَالْجَوَامِيسِ ، كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَلُحُومُ الْغَنَمِ مِنْ الضَّأْنِ ، وَالنَّعْجَةِ ، وَالْمَعْزِ ، وَالتَّيْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اتَّحَدَتْ أُصُولُهَا ، أَوْ اخْتَلَفَتْ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ لَحْمِ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ ، وَالْبَقَرِ بِالْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ اللَّحْمَيْنِ اسْتَوَيَا اسْمًا ، وَمَنْفَعَةً ، وَهِيَ التَّغَذِّي ، وَالتَّقَوِّي فَاتَّحَدَ الْجِنْسُ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ أُصُولَ هَذِهِ اللُّحُومِ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَذَا اللُّحُومُ ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ تِلْكَ الْأُصُولِ ، وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْفَرْعِ قَوْلُهُ الِاسْمُ شَامِلٌ ، وَالْمَقْصُودُ مُتَّحِدٌ قُلْنَا : الْمُعْتَبَرُ فِي اتِّحَادِ الْجِنْسِ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ لَا الْعَامِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَطْعُومَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ مُتَّحِدَةٌ ، ثُمَّ لَا يُجْعَلُ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى عَامًّا لَمْ يُوجِبْ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَذَا هَذَا

.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً ، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حُكْمُهَا حُكْمُ أُصُولِهَا عِنْدَ الِاتِّحَادِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ مِنْ الْأُصُولِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأُصُولِهَا ، وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ مَعَ خَلِّ الْعِنَبِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِمَا ، وَاللَّحْمُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ ، وَالْمَنَافِعِ ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ ، وَالْأَلْيَةُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَشَحْمُ الْبَطْنِ مَعَ شَحْمِ الظَّهْرِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ ، وَالْأَلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ ، وَصُوفُ الشَّاةِ مَعَ شَعْرِ الْمَعْزِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ ، وَالْمَنْفَعَةِ ، وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ مَعَ غَزْلِ الشَّعْرِ ، وَالْقُطْنِ مَعَ الْكَتَّانِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَكَذَا غَزْلُ الْقُطْنِ مَعَ غَزْلِ الْكَتَّانِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَزْلِ الْقُطْنِ بِالْقُطْنِ مُتَسَاوِيًا ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ .

( وَأَمَّا ) الْحَيَوَانُ مَعَ اللَّحْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ مُجَازَفَةً نَقْدًا ، وَنَسِيئَةً ؛ لِانْعِدَامِ الْوَزْنِ ، وَالْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلًا ، وَإِنْ اتَّفَقَا كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الشَّاةِ ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ مُجَازَفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَّلُوا لَهُمَا بِأَنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ .
( وَمِنْهُمْ ) مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا ، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ ، وَجَرَيَانُ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ : الْجِنْسِ مَعَ الْقَدْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُجَازَفَةً ، وَمُفَاضَلَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى ، وَجْهِ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَزْنُ اللَّحْمِ الْخَالِصِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَكُونُ اللَّحْمُ بِإِزَاءِ اللَّحْمِ ، وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ خِلَافِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ ، وَالسَّقَطِ مِنْ الرَّأْسِ ، وَالْأَكَارِعِ ، وَالْجِلْدِ ، وَالشَّحْمِ فَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ الْخَالِصُ مِثْلَ قَدْرِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ لَا يُدْرَى لَا يَجُوزُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ الشَّاةَ الْحَيَّةَ بِشَحْمِ الشَّاةِ ، أَوْ بِأَلْيَتِهَا ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ كَيْفَ مَا كَانَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَصْلَانِ ، أَوْ اخْتَلَفَا بَاعَ مُجَازَفَةً ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِلَحْمِ الشَّاةِ نَسِيئَةً لِوُجُودِ الْجِنْسِ

الْمُحَرِّمِ لِلنَّسَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الْخَالِصَ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدُّهْنُ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِنْ الدُّهْنِ الَّذِي فِي السِّمْسِمِ حَتَّى يَكُونَ الدُّهْنُ بِإِزَاءِ الدُّهْنِ وَالزَّائِدُ بِإِزَاءِ الزَّائِدِ خِلَافِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْكُسْبُ ، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْجَوْزِ بِلُبِّ الْجَوْزِ .
( وَأَمَّا ) دُهْنُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ مُجَازَفَةً ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَالِ بِالْحَدِيدِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ جَائِزٌ مُجَازَفَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ لَهُ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ مَأْكُولٍ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ ، وَالْجَوَازُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ رُخْصَةٌ ، وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ اللَّحْمِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ الرِّبَا .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا ( فَوَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ الْمُجَازَفَةِ هَهُنَا احْتِمَالُ الرِّبَا ؛ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ بِمُرَاعَاةِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ فَلَزِمَ مُرَاعَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الرِّبَا أَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَنْزُوعُ أَقَلَّ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَزْنًا ، فَيَكُونَ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ مَعَ السَّقَطِ زِيَادَةً ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ السَّقَطُ زِيَادَةً فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ تَحَرُّزًا عَنْ الرِّبَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّهْنِ

بِالسِّمْسِمِ ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَذَا هَذَا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ هَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَيَجُوزُ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً ، اسْتِدْلَالًا بِبَيْعِ الْحَدِيدِ الْغَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِالنِّصَالِ مُجَازَفَةً ، يَدًا بِيَدٍ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ اللَّحْمَ الْمَنْزُوعَ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا - فَاللَّحْمُ الَّذِي فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ مَا لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثِقْلِهِ ، وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ثِقْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِالتَّجْرِبَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ .
( أَمَّا ) الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُوزَنُ بِالْقَبَّانِ عُرْفًا وَلَا عَادَةً ، وَلَوْ صَلَحَ الْوَزْنُ طَرِيقًا لِوَزْنٍ ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الْوَزْنِ ثَابِتٌ ، وَالْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهَا مَاسَّةٌ حَتَّى يَتَعَرَّفَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْجَسِّ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ ، وَالرَّفْعِ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ يَثْقُلُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيَخِفُّ أُخْرَى فَيَخْتَلِفُ وَزْنُهُ ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ .
( وَأَمَّا ) التَّجْرِبَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ ، وَوَزْنُ الْمَذْبُوحِ لِيُعْرَفَ اللَّحْمُ الَّذِي كَانَ فِيهَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ - لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً ، فَلَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقْلِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ بِالتَّجْرِبَةِ .
( وَأَمَّا ) الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَإِنَّهُ لَا حَزْرَ لِمَنْ لَا بَصَارَةَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، بَلْ يُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ ، وَمَنْ لَهُ بَصَارَةٌ يَغْلَطُ أَيْضًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ ،

فَدَلَّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا ، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِرِبَا الْفَضْلِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ بِالتَّجْرِبَةِ ، بِأَنْ يُوزَنَ قَدْرٌ مِنْ السِّمْسِمِ فَيُسْتَخْرَجَ دُهْنُهُ فَيَظْهَرَ وَزْنُ دُهْنِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، أَوْ يَعْصِرَ الْجُمْلَةَ فَيَظْهَرَ قَدْرُ الدُّهْنِ الَّذِي كَانَ فِيهَا حَالَةَ الْعَقْدِ ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ مِنْ الدُّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ ؟ فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مُجَازَفَةً ، فَلَمْ يَجُزْ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً غَيْرَ مَسْلُوخَةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ - لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ مَوْزُونٌ ، فَقَدْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ ، فَيُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْزُونٍ لِمَا قُلْنَا ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا ، فَجَازَتْ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَلَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ مُجَازَفَةً جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِلَحْمِ الشَّاةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ اللَّحْمَ يُقَابِلُ اللَّحْمَ ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقَطِهَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ حَيَّتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرِ

مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ اللَّحْمِ ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ السَّقَطِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ ، وَيُقَابَلُ اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ ، وَمُقَابَلَةُ اللَّحْمِ مِنْ الْمَسْلُوخَتَيْنِ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرَ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّحْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَسْلُوخَتَيْنِ مَعَ السَّقَطِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُفَاضَلَةً وَمُجَازَفَةً ، حَتَّى لَوْ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ يَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ .

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ ، وَدُهْنِ الْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ ، وَالْعَصِيرِ بِالْعِنَبِ ، وَالسَّمْنِ بِلَبَنٍ فِيهِ سَمْنٌ ، وَالصُّوفِ بِشَاةٍ عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ ، وَاللَّبَنِ بِحَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ مِنْ جِنْسِهِ ، وَالتَّمْرِ بِأَرْضٍ وَنَخْلٍ عَلَيْهِ تَمْرٌ ، وَالْحِنْطَةِ بِأَرْضٍ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ أُدْرِكَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَجْمُوعِ لِيَكُونَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ ، وَالزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ خِلَافِ الْجِنْسِ وَسَنَذْكُرُ أَجْنَاسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا قُوبِلَ بَدَلٌ مِنْ جِنْسٍ بِبَدَلٍ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ بِبَدَلَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ .

فَأَمَّا إذَا قُوبِلَ أَبْدَالٌ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَبْدَالٍ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَتُقْسَمُ الْأَبْدَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَيُقَسَّمُ قِسْمَةَ تَصْحِيحٍ لَا قِسْمَةَ إشَاعَةٍ وَتَوْزِيعٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ ، وَيُقْسَمُ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ : إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَتُصْرَفُ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ ، وَالشَّعِيرُ إلَى الْحِنْطَةِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الدِّينَارَيْنِ ، وَالدِّينَارُ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا بَيْعُ رِبًا فَلَا يَجُوزُ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ مُطْلَقًا ، وَمُطْلَقُ مُقَابِلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِجَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ إذَا كَانَتْ الْأَبْدَالُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ ، اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدًا وَجَارِيَةً بِفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَقِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالثَّوْبِ ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ عَيْبًا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ وَاحَدٌّ مِنْهُمَا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ عَلَى

الْبَائِعِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْبَدَلَيْنِ ، فَكَانَ التَّقْسِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا ، وَالِانْقِسَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا يُحَقِّقُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَبِكُرِّ حِنْطَةٍ ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا فَفِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ مُجَازَفَةً .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَطْلَقَا مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ ، وَالْمُطْلَقُ يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ لَا لِلصِّفَاتِ وَالْجِهَاتِ فَلَا يَكُونُ مُقَابَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا ، وَلَا مُقَابَلَةُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَيْنًا ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفَضْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا ، وَلَمْ يُوجَدْ ، أَوْ نَقُولُ : مُطْلَقُ الْمُقَابِلَةِ تَحْتَمِلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا قُلْتُمْ ، وَتُحْتَمَلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ ، إلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي لَصَحَّ ، فَالْحَمْلُ عَلَى مَا فِيهِ الصِّحَّةُ أَوْلَى وَقَوْلُهُ : مُوجَبُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ انْقِسَامُ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ قُلْنَا : مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ فِي مَوْضِعٍ فِي مَسَائِلِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ مُوجَبًا لَهُ ، بَلْ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَبْدَالِ لَأَنَّهُمَا

لَمَّا أَطْلَقَا الْبَيْعَ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مُقَابِلَةِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّعْيِينِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْإِشَاعَةِ وَالتَّقْسِيمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِالْإِشَاعَةِ ، وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ عِنْدَ الْقِيمَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَقَوْلُهُ : فِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا ، قُلْنَا : احْتِمَالُ الرِّبَا هَهُنَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا ، كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ يَلْزَمُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا فَلَا تُوجِبُ الْفَسَادَ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَيَكُونُ الدِّينَارُ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَالدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِأَنْ يُجْعَلَ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِمُقَابَلَةِ الْخَمْسَةِ ، وَالْخَمْسَةُ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ عِنْدَنَا ، وَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا ، وَدِينَارٌ بِدِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَتَكُونُ الْمِائَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ ، وَالتُّسْعُمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ ، وَفِي

أَحَدِهِمَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ ، وَفِي الْجَانِبِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ فُلُوسٌ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ ، فَقِيلَ : كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قَلْبِكَ ؟ قَالَ : أَجِدُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ ، إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ ، أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا قَلِيلَ الْقِيمَةِ كَفَلْسٍ وَجَوْزَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا قِيمَةَ لَهُ أَصْلًا كَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا ( فَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مَعْصُومَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَعْصُومٍ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْلِمُ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ الْحَرْبِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَبَايَعَ أَحَدًا مِنْ الْحَرْبِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَمَا إذَا بَايَعَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ مُنِعَ مِنْ تَمَلُّكِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ ، فَإِذَا بَدَّلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى ، فَكَانَ الْأَخْذُ اسْتِيلَاءً عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ، وَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ كَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَيْسَ بِتَمَلُّكٍ بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الرِّضَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزُولُ بِدُونِهِ ، وَمَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَمَلُّكًا ، لَكِنَّهُ إذَا زَالَ فَالْمِلْكُ لِلْمُسْلِمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لَا بِالْعَقْدِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِفَضْلٍ يُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا بَاعَ حَرْبِيًّا

دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ .
وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَاءِ ، فَتَعَيَّنَ التَّمَلُّكُ فِيهِ بِالْعَقْدِ .
وَشَرْطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَمَا يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِهِمْ إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ، عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مُتَقَوِّمَيْنِ شَرْعًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَضْمُونَيْنِ حَقًّا لِلْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَضْمُونٍ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ ، فَبَايَعَ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فَالتَّقَوُّمُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُ ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ نَفْسَهُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَهُ ، وَكَذَا مَالُهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ، وَعِنْدَهُمَا نَفْسُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومَانِ مُتَقَوِّمَانِ .
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ فَتَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ ، فَكَانَ التَّمَلُّكُ بِالْعَقْدِ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي بَايَعَ الْمُسْلِمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَمَا كَانَ مِنْ رِبًا مَقْبُوضٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ مَقْبُوضٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ يَبْطُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا ، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا نَهْيٌ عَنْ قَبْضِهِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : اُتْرُكُوا قَبْضَهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقَبْضِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي } ، وَالْوَضْعُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطِّ وَالْإِسْقَاطِ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ ،

وَلِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حُرِّمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ فَكَذَا الْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ فَيُشْبِهُ الْعَقْدَ فَيَلْحَقُ بِهِ ، إذْ هُوَ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا ، وَمَتَى حُرِّمَ الْقَبْضُ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الْبَدْلَانِ مِلْكًا لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجْرِي الرِّبَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَاعَ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ ، فَكَانَ الْبَدَلَانِ مِلْكَ الْمَوْلَى ، فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيْعًا ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْبِيَاعَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُتَعَاوَضَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالِهِ ، فَلَا يَكُونُ بَيْعًا وَلَا مُبَادَلَةً حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ تَبَايَعَا مِنْ غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ أَجْنَبِيَّانِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ .
( أَمَّا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ لَكِنْ مِلْكًا مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ ، فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا عَاقَدَ مُكَاتَبَهُ عَقْدَ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حَقِّ الِاكْتِسَابِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عَنْهَا ، فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ .

( وَأَمَّا ) إسْلَامُ الْمُتَبَايِعِينَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَرَيَانِ الرِّبَا ، فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ إنْ لَمْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ : إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا ، أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْوَعِيدِ فَيَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْحُرْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) الْخُلُوُّ عَنْ احْتِمَالِ الرِّبَا ، فَلَا تَجُوزُ الْمُجَازَفَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَاحْتِمَالُ الرِّبَا مُفْسِدٌ لَهُ أَيْضًا ، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَتْ فِيهِ الْمُفَاضَلَةُ جَازَ فِيهِ الْمُجَازَفَةُ ، وَمَا لَا فَلَا ؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَالْخُلُوَّ عَنْ الرِّبَا فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا لَمَّا كَانَ شَرْطَ الصِّحَّةِ فَلَا يُعْلَمُ تَحْقِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُجَازَفَةِ ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ ، فَلَا تَثْبُتُ الصِّحَّةُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ، كَمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ : إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهُمَا ، أَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، أَوْ عَلِمَا كَيْلَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ عُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْكَيْلِ ، فَإِنْ عُلِمَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ زُفَرُ : يَجُوزُ ، عُلِمَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَيْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ عِلْمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ - أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } ، أَيْ : بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، أَمَرَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ مَعْلُومَةً لَهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِتُمَكِّنَهُمَا مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الشَّرْطِ وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ حِنْطَةٌ فَاقْتَسَمَاهَا مُجَازَفَةً لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ ، وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهَا مُجَازَفَةً فَكَذَا الْقِسْمَةُ .
وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ ، وَالتَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْمَكِيلَاتِ ، وَلَا تُعْلَمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ ، فَكَانَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مُجَازَفَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْوَزْنِ فِيهَا تَصِيرُ وَزْنِيَّةً ، وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فِيهَا بِالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ كَيْلِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُزَابَنَةُ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنَّهُمَا لَا يَجُوزَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ التَّمْرِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ ، وَالزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ .
فَكَانَ هَذَا بَيْعَ مَالِ الرِّبَا مُجَازَفَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ } ، وَفَسَّرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُزَابَنَةَ وَالْمُحَاقَلَةَ فِي الْمُوَطَّإِ بِمَا قُلْنَا ، وَهُوَ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَقَالَ : كَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ

خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، فَأَمَّا مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } ، فَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ مَا دُونَ خَمْسَةٍ ، وَالْمُرَخَّصُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حُرِّمَ يَكُونُ مُبَاحًا وَتَفْسِيرُ الْعَرِيَّةِ - عِنْدَنَا - مَا ذَكَرَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّإِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ نَخِيلٌ فَيُعْطِيَ رَجُلًا مِنْهَا ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ يَلْقُطُهُمَا لِعِيَالِهِ ، ثُمَّ يَثْقُلَ عَلَيْهِ دُخُولُهُ حَائِطَهُ ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ إصْرَامِ النَّخْلِ - وَذَلِكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ هُنَاكَ ، بَلْ التَّمْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ ، فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ ثَمَرُ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ بِمَكِيلَتِهَا مِنْ التَّمْرِ ، إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ الرَّاوِي بَيْعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُوَرِ الْبَيْعِ ، لَا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا حَقِيقَةً ، بَلْ هُوَ عَطِيَّةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُعْرَى لَهُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ ؟ فَكَيْفَ يُجْعَلُ بَيْعًا ؟ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ بَيْعًا لَكَانَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَى أَجَلٍ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ ، دَلَّ أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْمُرَخَّصَ فِيهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً ، بَلْ هِيَ عَطِيَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ لُغَةً ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ نَخْلًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ ، وَسَمَّى التَّمْرَ أَوْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الْبَيْعِ يُرَاعَى فِي جَوَازِهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَيْلُ التَّمْرِ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِ الثَّمَرِ ؛ لِيَكُونَ الثَّمَرُ بِمِثْلِهِ

وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ النَّخْلِ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ بِمِثْلِ كَيْلِهِ ، وَزِيَادَةُ التَّمْرِ مَعَ النَّخْلِ تَكُونُ زِيَادَةً لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ ، فَيَكُونُ رِبًا .
وَكَذَا إذَا كَانَ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ إذَا كَانَ التَّمْرُ نَقْدًا ، فَإِنْ كَانَ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ لِتَحَقُّقِ رِبَا النَّسَاءِ هَذَا إذَا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا يَابِسًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ كُفُرَّى جَازَ الْبَيْعُ كَيْفَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَيْفَ مَا كَانَ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْكُرِّ - لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَبَاعَهُ مَعَ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ ، وَكَيْلُ التَّمْرِ مِثْلُ كَيْلِ ثَمَرِ النَّخْلِ ، أَوْ أَقَلُّ - حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَدْخَلَا الرِّبَا فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَابَلَا الثَّمَنَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا ، وَبَعْضُ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا ، فَدَخَلَ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لَهُ ، وَهَهُنَا الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ ، إذْ الْمَبِيعُ هُوَ النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ فَقَدْ صَارَ مَبِيعًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا ، فَبَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا ، وَالزِّيَادَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي ، وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ النَّخْلِ وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ ، لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّخْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ

الْقَبْضِ ، فَيَطِيبُ لَهُ مِنْ التَّمْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ فَضَلَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِبَدَلٍ ، وَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ .
وَلَوْ قَضَى الثَّمَنَ مِنْ التَّمْرِ الْحَادِثِ يُنْظَرُ ، إنْ قَضَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ أَكَلَهُ الْبَائِعُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الثَّمَنَ ، ثُمَّ قَضَى مِنْهُ جَازَ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ - وَإِنَّهُ جَائِزٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا زَادَ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ - وَالْقِيمَةُ فِيهِمَا - مُجَازَفَةٌ وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِشَعِيرٍ ، أَوْ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُجَازَفَةً جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي بَيْعِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُفَاضَلَةُ فِيهِ ، فَالْمُجَازَفَةُ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ ، بِأَنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ ، أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً ، أَوْ لِجَامًا أَوْ سَرْجًا أَوْ سِكِّينًا مُفَضَّضًا ، أَوْ جَارِيَةً فِي عُنُقِهَا طَوْقٌ مِنْ فِضَّةٍ ، أَوْ اشْتَرَى ذَهَبَا وَغَيْرَهُ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ ، أَوْ جَارِيَةً مَعَ حِلْيَتِهَا - وَحُلِيُّهَا ذَهَبٌ - بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُجَازَفَةً عِنْدَنَا ، بَلْ يُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ ، أَوْ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ

أَكْثَرَ مِنْ الْمَجْمُوعِ مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِيَكُونَ قَدْرُ وَزْنِ الْمُفْرَدِ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَجْمُوعِ ، وَالزِّيَادَةُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، فَإِنْ كَانَ وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَجُزْ - لِأَنَّ زِيَادَةَ وَزْنِ الْمَجْمُوعِ مَعَ خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ، فَيَكُونُ رِبًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْفِضَّةُ بِمِثْلِهَا ، وَالذَّهَبُ بِمِثْلِهِ ، فَالْفَضْلُ يَكُونُ رِبًا وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ وَزْنُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ ، أَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ النَّظَرِ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الثَّمَنُ أَكْثَرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِثْلُهُ - لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : إنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ جَوَازُهُ ، وَالْفَسَادُ بِعَارِضِ الرِّبَا ، وَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ ، فَلَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَكْثَرُ مِنْ جِهَةِ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْمُفْرَدِ لَوْ كَانَ أَقَلَّ يُفْسِدُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِثْلَهُ ، وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ يَجُوزُ ، فَجَازَ مِنْ وَجْهٍ وَفَسَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ ، فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِجِهَةِ الْفَسَادِ ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ ، ثُمَّ إذَا كَانَ وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ ، فَيَجْتَمِعُ فِي هَذَا الْعَقْدِ صَرْفٌ - وَهُوَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ - ، وَبَيْعٌ مُطْلَقٌ - وَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا - فَيُرَاعَى فِي الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ وَسَنَذْكُرُ شَرَائِطُ الصَّرْفِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا فَاتَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِطِ حَتَّى فَسَدَ الصَّرْفُ هَلْ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ ، أَوْ ذَهَبًا مَعَ غَيْرِهِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى

ذَهَبًا مَعَ غَيْرِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ ، أَوْ فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْمُفْرَدُ عَلَى قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ وَقِيمَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ ، فَمَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ يَكُونُ صَرْفًا ؛ فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ، وَمَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الصَّرْفِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، أَمَّا تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِغَيْرِهَا ، فَإِنْ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ لَا عَلَى التُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْفِضَّتَيْنِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ ، فَكَانَ هَذَا الْبَيْعُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ - مُجَازَفَةً - فَلَا يَجُوزُ .
وَإِنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ ، أَوْ اشْتَرَى شَاةً مَسْلُوخَةً عَلَى أَنَّهَا مَذْبُوحَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَيِّتَةٌ ، فَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْأَمْرُ مَاضٍ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فِي سَقَطٍ ، أَوْ سَمَكَةً فِي جُبٍّ ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعِوَضٍ جَازَ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخْلُصْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مِثْلِهِ مِنْ الْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ ، وَلَا يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الْوَزْنِ ، فَكَانَ بَيْعَ

الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً ، وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ جَازَ ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ .
وَكَذَا إنْ خَلَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ الْمَالَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنْ خَلَصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْأَمْرُ مَاضٍ ، وَلَهُمَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ مَا لَمْ يَرَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهُ - لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْمُجَازَفَةَ كَالْبَيْعِ وَلَوْ بَاعَ مِنْهُ قَفِيزًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِذَهَبٍ أَوْ بِعَرَضٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ ، وَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ : مِنْهُ قَفِيزٌ يَخْلُصُ مِنْهُ خَمْسَةٌ ، وَمِنْهُ قَفِيزٌ يَخْلُصُ مِنْهُ عَشَرَةٌ ، فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ ؛ لِأَنَّ قُفْزَانَ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ جُمْلَةِ التُّرَابِ ، أَوْ ثُلُثَهَا ، أَوْ رُبُعَهَا شَائِعًا بِذَهَبٍ أَوْ عَرَضٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إلَّا إذَا لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ مَا خَلَصَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ جَازَ ، وَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ مَا خَلَصَ مِنْهُ وَقَبَضَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ وَقَعَ عَلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي قَدْرِ مَا قَبَضَ وَخَلُصَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ هَذَا التُّرَابِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِرُبُعِهِ - يَجُوزُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ

شَيْءٌ ، كَمَا يَجُوزُ لَوْ بِيعَ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ أَجْرُهُ مِمَّا خَلَصَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِتُرَابِ الْمَعْدِنِ بِعَيْنِهِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالِ ، وَالْأَجِيرِ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ آجَرَ نَفْسَهُ بِمَا لَمْ يَرَهُ ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَرَجَعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ تُرَابٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ ، وَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَلَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ لَا يَجُوزُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) تُرَابُ الصَّاغَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ خَالِصٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ مِثْلَهُ - فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَهَبًا وَفِضَّةً بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَيَجُوزُ ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ جَازَ ؛ لِانْعِدَامِ احْتِمَالِ الرِّبَا ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي الْغِشُّ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمَضْرُوبَةَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ : إمَّا أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ : فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ بِأَنْ كَانَ ثُلُثَاهَا فِضَّةً وَثُلُثُهَا صُفْرًا ، أَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فِضَّةً وَرُبُعُهَا صُفْرًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَكَذَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ وَإِلْحَاقُ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا تَنْطَبِعُ بِدُونِهِ عَلَى مَا قِيلَ ، فَكَانَ قَلِيلُ الْغِشِّ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ فِيهَا هُوَ

الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ لَا تَخْلُصُ بِالذَّوْبِ وَالسَّبْكِ بَلْ تَحْتَرِقُ وَيَبْقَى النُّحَاسُ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ النُّحَاسِ الْخَالِصِ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّهُ نُحَاسًا لَا يُبَاعُ بِالنُّحَاسِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ .
وَإِنْ كَانَتْ تَخْلُصُ مِنْ النُّحَاسِ وَلَا تَحْتَرِقُ ، وَيَبْقَى النُّحَاسُ عَلَى حَالِهِ أَيْضًا - فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ ، وَلَا يُجْعَلُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ ، كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ ، مُمْتَازَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الذَّوْبِ وَالسَّبْكِ - لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُسْتَهْلَكًا - فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ ، يُصْرَفُ إلَى الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مِثْلُهَا مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ ، وَالزِّيَادَةُ إلَى الْغِشِّ ، كَمَا لَوْ بَاعَ فِضَّةً وَصُفْرًا مُمْتَازَيْنِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَقَلَّ مِنْ الْمَخْلُوطَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مَعَ الصُّفْرِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا مِنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَيَكُونُ رِبًا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ مِثْلَهَا ، لِأَنَّ الصُّفْرَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى قَدْرُ الْفِضَّتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ - لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُجَجَ فِيمَا قَبْلُ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ ثُلُثَاهَا صُفْرًا وَثُلُثهَا فِضَّةٌ ، وَلَا يُقْدَرُ أَنْ يُخَلَّصَ الْفِضَّةُ مِنْ الصُّفْرِ ، وَلَا يُدْرَى إذَا خُلِّصَتْ أَيَبْقَى الصُّفْرُ أَمْ يَحْتَرِقُ ، أَنَّهُ يُرَاعَى فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ

الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ - يَكُونُ هَذَا صَرْفًا وَبَيْعًا مُطْلَقًا ، فَيُرَاعَى فِي الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ ، وَإِذَا فَسَدَ بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْهُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّفْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ إلَّا بِضَرَرٍ ، وَبَيْعُ مَا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِضَرَرٍ فَاسِدٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بِيعَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ بِذَهَبٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الرِّبَا ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تَحْقِيقَ الرِّبَا ، لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ ، وَإِذَا فَاتَ شَرْطٌ مِنْهُ حَتَّى فَسَدَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّفْرِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَازَ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ .
وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ فِضَّةً مُنْفَصِلَةً وَصُفْرًا مُنْفَصِلًا بِفِضَّةٍ وَصُفْرٍ مُنْفَصِلَيْنِ ، وَقَالُوا فِي السَّتُّوقَةِ إذَا بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا : إنَّهُ يَجُوزُ ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَمَشَايِخُنَا لَمْ يُفْتُوا فِي ذَلِكَ إلَّا بِالتَّحْرِيمِ احْتِرَازًا عَنْ فَتْحِ بَابِ الرِّبَا ، وَقَالُوا فِي الدَّرَاهِمِ الْقَطْرُ يُفْنِيهِ يَجُوزُ بَيْعُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَكُونُ بِمِثْلِ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ ، وَزِيَادَةُ الْفِضَّةِ تَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الصُّفْرِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ سِتَّةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ الَّذِي فِيهَا يَبْقَى فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ رِبًا ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُفْتِي بِجَوَازِ هَذَا .
وَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فِيهَا سَوَاءً فَلَمْ يَقْطَعْ مُحَمَّدٌ الْجَوَابَ فِيهِ فِي الْجَامِعِ ، لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى قَوْلِ الصَّيَارِفَةِ ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْفِضَّةَ وَالصُّفْرَ إذَا

خُلِطَا لَا تَتَمَيَّزُ الْفِضَّةُ مِنْ الصُّفْرِ حَتَّى يَحْتَرِقَ الصُّفْرُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَمَيَّزَانِ إلَّا بِذَهَابِ أَحَدِهِمَا ، وَالصُّفْرُ أَسْرَعُهُمَا ذَهَابًا ، فَقَالَ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ : إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ هِيَ الْغَالِبَةُ ، أَيْ : عَلَى مَا يَقُولُهُ الصَّيَارِفَةُ أَنَّ الصُّفْرَ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ وَالسَّبْكِ - فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ ، وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ كَبَيْعِ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ إذَا كَانَ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ كَانَ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَبَقِيَا عَلَى السَّوَاءِ - يُعْتَبَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ ، وَيُرَاعَى فِي بَيْعِهِمَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ عَدَدًا ؟ .
( أَمَّا ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا كَانَتْ فِضَّتُهُ غَالِبَةً عَلَى غِشِّهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ إلَّا وَزْنًا ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا ؛ لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْعَدَدُ فِيهَا ، فَكَانَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً فَلَمْ يَجُزْ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ حَقِيقَةً ، أَوْ فِيهَا شُبْهَةُ الْمُبَادَلَةِ فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِقْرَاضُ الْكَيْلِيِّ وَزْنًا لِمَا أَنَّ الْوَزْنَ فِي الْكَيْلِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَكَانَ إقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ مُجَازَفَةً ، أَوْ شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ فَلَمْ يَجُزْ ، كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ نِصْفُهُ فِضَّةً وَنِصْفُهُ صُفْرًا ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ بَقَائِهَا وَذَهَابِ الصُّفْرِ فِي الْمَآلِ - عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ - كَانَ مُلْحَقًا بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا .
وَإِنْ كَانَ لَا يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ السَّبْكِ عَلَى حَالِهِمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ ، فَكَانَ اسْتِقْرَاضُ الْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ جُمْلَةً عَدَدًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الصُّفْرَانِ كَانَ يُوجِبُ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ ، فَاعْتِبَارُ الْفِضَّةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ ، فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيْ الْجَوَازِ ، وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي

الْمَوْزُونِ بَاطِلٌ فَكَانَ اسْتِقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً ، أَوْ شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ عَدَدًا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَامَلُوا بِهِ عَدَدًا فَقَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْفُلُوسِ ، وَجَعَلُوا الْفِضَّةَ الَّتِي فِيهِ تَبَعًا لِلصُّفْرِ ، وَإِنَّهُ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْفُلُوسِ فِي الْجُمْلَةِ قَلِيلُ فِضَّةٍ فَثَبَتَتْ التَّبَعِيَّةُ بِدَلَالَةِ التَّعَامُلِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ تُوجَدْ فِيمَا إذَا تَعَامَلُوا بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا ، فَبَقِيَتْ وَزْنِيَّةً ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا ، وَإِنْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا عَدَدًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْفِضَّةِ تَبَعًا لِلْغِشِّ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ ، وَالْكَثِيرُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْقَلِيلِ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا أَيْضًا ، فَبَقِيَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا شَرْعًا ، وَهِيَ كَوْنُهَا وَزْنِيَّةً ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا مُجَازَفَةً ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً وَكَذَا الشِّرَاءُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا حُكْمُهُ حُكْمُ الِاسْتِقْرَاضِ سَوَاءٌ ، فَلَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ إلَّا وَزْنًا ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْجِيَادِ ، وَأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ - فَلَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ بِهَا إلَّا وَزْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ بِالنَّوْعِ الثَّالِثِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَنَّ النَّاسَ إنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا عَدَدًا ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ لِلدَّرَاهِمِ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ النَّاسِ ، فَإِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الصِّفَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَبَقِيَتْ وَزْنِيَّةً ،

فَإِذَا اشْتَرَى بِهَا عَدَدًا عَلَى غَيْرِ وَزْنٍ - وَالْعَدَدُ هَدْرٌ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِشَارَةُ - فَقَدْ بَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى مَا وَزْنُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْعَدَدِ الْمُسَمَّى فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِهَا عَدَدًا عَلَى غَيْرِ وَزْنٍ وَلَكِنْ أَشَارَ إلَيْهَا فِيمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِشَارَةِ حَيْثُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ وَزْنِهَا .
وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْوَزْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا ، فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا عَدَدًا جَازَ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ النَّاسِ ، وَصَارَتْ كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ ، هَذَا إذَا اشْتَرَى بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا عَلَى وَزْنٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا فَأَمَّا إذَا عَيَّنَهَا وَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا بِأَنْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَرَضَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، وَأَشَارَ إلَيْهَا - فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِهَا ، وَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَيُعْطَى مَكَانَهَا مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَقَدْرِهَا وَصِفَتِهَا .
( أَمَّا ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ ، وَأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا فَكَذَا هَذِهِ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الصِّفَةَ فِيهَا إنْ كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةُ عَلَى مَا يَقُولُهُ السَّبَّاكُونَ - فَهِيَ فِي حُكْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ ، فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِضَّةِ لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ ، وَاعْتِبَارَ الصُّفْرِ يُوجِبُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ

فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّالِثُ فَلِأَنَّ النَّاسَ إنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا وَزْنًا فَهِيَ وَسَائِرُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِمِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ لَا بِعَيْنِهَا ، فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ ، وَإِنَّهَا إذَا قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِمِثْلِهَا عَدَدًا ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا ، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَسَدَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَصَارَتْ لَا تَرُوجُ بَيْنَ النَّاسِ - فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ وَالسَّتُّوقِ وَالرَّصَاصِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا حَتَّى يَبْطُلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ سِلْعَةً ، لَكِنْ قَالُوا : هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ عَالِمَيْنِ بِحَالِ هَذِهِ ، وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَا لَا يَعْلَمَانِ ، أَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ ، أَوْ يَعْلَمَانِ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ - فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَا بِجِنْسِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ الَّتِي عَلَيْهَا تَعَامُلُ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ هَذَا إذَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ أَصْلًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ ، فَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بِهَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَيِّدِ مِنْ نَقْدِ تِلْكَ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ إذَا

كَانَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
ثُمَّ إنَّمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا إذَا كَانَ عَلِمَ عَدَدَهَا أَوْ وَزْنَهَا قَبْلَ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلِمَ ذَلِكَ يُمْكِنُ إعْطَاءُ مِثْلِهَا بَعْدَ هَلَاكِهَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَمْ يَعْلَمْ لَا عَدَدَهَا وَلَا وَزْنَهَا حَتَّى هَلَكَتْ - يَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ صَارَ مَجْهُولًا ، إذْ الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ إعْطَاءُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ الْمُشَارِ إلَيْهَا .

( وَمِنْهَا ) الْخُلُوُّ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً ، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِبَائِعِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ جَوَازِهِ ، وَخَلَا عَنْ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ إيَّاهُ ، فَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِفَسَادِهِ ، كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَالَتْ : إنِّي ابْتَعْتُ خَادِمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةٍ ، ثُمَّ بِعْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ ، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ لَمْ يَتُبْ .
( وَوَجْهُ ) الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا أَلْحَقَتْ بِزَيْدٍ وَعِيدًا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ ، وَهُوَ بُطْلَانُ الطَّاعَةِ بِمَا سِوَى الرِّدَّةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَلْتَحِقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَعْصِيَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمَّتْ ذَلِكَ بَيْعَ سُوءٍ وَشِرَاءَ سُوءٍ ، وَالْفَاسِدُ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ لَا الصَّحِيحُ ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ شُبْهَةَ

الرِّبَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِي يَصِيرُ قِصَاصًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَبَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا ، إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِأَحَدِهِمَا شُبْهَةَ الرِّبَا ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الثَّمَنِ فَلَا تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ نَقَدَا الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَوْ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِانْعِدَامِ الشُّبْهَةِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ ، وَالْأَثَرُ جَاءَ فِي الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
هَذَا إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إلَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ ، فَكَانَ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي شُبْهَةُ الرِّبَا ، وَهِيَ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَبَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ - جَازَ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ ، فَيَلْتَحِقُ النُّقْصَانُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ ، فَلَا تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الرِّبَا وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمَالِكِ الثَّانِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ

قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - جَازَ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ فَيَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا .
وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ وَارِثِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لَمْ يَخْتَلِفْ ، وَإِنَّمَا قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ ، أَوْ كَانَ دَارًا فَبَنَى عَلَيْهَا ، ثُمَّ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ فَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ - كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِ الْمُوَرَّثِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ حَيًّا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي ، فَكَانَ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَاشْتَرَى وَارِثُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلْبَائِعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا وَرِثَهُ ، وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي وَرِثَ عَيْنَ الْمَبِيعِ فَقَامَ مَقَامَهُ فِي عَيْنِهِ ، فَكَانَ الشِّرَاءُ مِنْهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ ، وَوَارِثُ الْبَائِعِ وُرِّثَ الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَمَا عُيِّنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْنَ مَا وَرِثَهُ عَنْ الْبَائِعِ ، فَلَمْ يَكُنْ وَارِثُ الْبَائِعِ مُقَامَةَ فِيمَا وَرِثَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ وَارِثِ الْبَائِعِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ وَارِثِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ ، فَالْمُشْتَرِي قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ فَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِهِ فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ -

فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ ، وَإِمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ تَجْدِيدِ الْمِلْكِ - جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ .
وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ، بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكُونُ فَسْخًا ، وَالْفَسْخُ يَكُونُ رَفْعًا مِنْ الْأَصْلِ وَإِعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ أَصْلًا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ ، فَكَذَا هَذَا .
وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ الْبَائِعُ لَكِنْ اشْتَرَاهُ بَعْضُ مِنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ لِانْفِصَالِ مِلْكِهِ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ فَيَقَعُ عَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ لَا لِصَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ ، ثُمَّ شِرَاءُ الْأَجْنَبِيِّ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ فَكَذَا شِرَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ مَعْنَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ عَقْدُهُ

وَاقِعًا لِصَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ فَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الرِّبَا وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُدَبَّرُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ أَوْ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَوْلَى .
وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُدَبَّرُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ هَؤُلَاءِ يَقَعُ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ ، وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا فَبَاعَ وَاشْتَرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى الْمُوَكِّلُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ تَمَكُّنُ شُبْهَةِ الرِّبَا وَأَنْ لَا يُفْصَلَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ وَلِذَا سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَسْتَفْسِرْ السَّائِلَةَ أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَوْ وَكِيلَةٌ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَتْ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لَهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُوَكِّلِ لَهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ بَاعَ ، ثُمَّ وَكَّلَ بِنَفْسِهِ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْوَكِيلِ ، وَالثَّمَنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَا تَطِيبُ لِلْبَائِعِ وَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْبَائِعِ شِرَاءً فَاسِدًا وَيَمْلِكُهُ الْبَائِعُ مِلْكًا فَاسِدًا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ لَهُمْ

فَأَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَاقِدِ وَيَعْتَبِرُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يَعْتَبِرُ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَقَعُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْخَمْرِ أَوْ بَيْعِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا وَكَّلَ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ لَهُ أَوْ بِشِرَاءِ صَيْدٍ جَازَ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ ، وَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ .
وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ لِلْعَقْدِ وَالْمَعْقُودِ لَهُ جَمِيعًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَرَكَ أَصْلَهُ حَيْثُ قَالَ بِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ عَبْدَهُ بِخَمْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ الْعَبْدِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ صَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِلْمُوَكِّلِ وَعَلَى الْوَكِيلِ لِلْبَائِعِ الْخَمْرُ ، وَهُوَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَى مُوَكِّلِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ شِرَاءً فَاسِدًا وَلَوْ بَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْحَالَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلَةِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ وَعَبْدًا آخَرَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتَيْهِمَا ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ الشِّرَاءُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، أَمَّا فِي

الَّذِي لَمْ يَبِعْهُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا فِي الَّذِي بَاعَهُ ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ أَوْ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْآخَرِ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِكَوْنِهِ شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ فِيهِمَا ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الصَّفْقَةَ مَتَى اشْتَمَلَتْ عَلَى إبْدَالٍ وَفَسَدَتْ فِي بَعْضِهَا أَنْ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً .
وَإِنَّمَا لَمْ يَفْسُدْ فِيهِمَا ، لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ ، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ بِيَقِينٍ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا وَالْفَسَادُ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَذَلِكَ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَيَفْسُدُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِصَارُ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ ، وَلِهَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْن عَبْدَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا إلَى الْحَصَادِ أَوْ الدِّيَاسِ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ فِيمَا فِي بَيْعِهِ أَجَلٌ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْآخَرِ ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ وَيَفْسُدُ فِي الْمُدَبَّرِ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَا هَذَا .

( وَمِنْهَا ) قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ .
وَهُوَ السَّلَمُ ، وَالْكَلَامُ فِي السَّلَمِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ .
أَحَدُهَا : فِي بَيَانِ رُكْنِهِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ .

أَمَّا رُكْنُ السَّلَمِ فَهُوَ لَفْظُ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ وَالْبَيْعِ بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ : أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي كَذَا أَوْ أَسْلَفْتُ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَالسَّلَفَ مُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، يُقَالُ : سَلَّفْتُ وَأَسْلَفْتُ وَأَسْلَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ : قَبِلْتُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ : بِعْتُ مِنْكَ كَذَا وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ ، فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ : قَبِلْتُ ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ السَّلَمَ ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ أَصْلًا ، لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ : وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَامًّا ، وَرُخِّصَ السَّلَمُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِيَسْتَقِيمَ تَخْصِيصُهُ عَنْ عُمُومِ النَّهْيِ بِالتَّرَخُّصِ فِيهِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًّا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَالِ ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ ، وَالسِّلْمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ ، وَلِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إلَّا فِي الْمِلْكِ .
وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ الْمُسْتَحِقُّ صِحَّةَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ السَّلَمَ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ الْقَبْضِ وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَكَذَا الْقَبْضُ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا .
وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ

يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَالسَّلَمُ لَا يَنْعَقِدُ بِرَأْسِ مَالِ دَيْنٍ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ خَاصَّةً ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا ( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ .
فَأَنْوَاعٌ .
( مِنْهَا ) بَيَانُ جِنْسِهِ كَقَوْلِنَا : دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ أَوْ تَمْرٌ .
( وَمِنْهَا ) بَيَانُ نَوْعِهِ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَقَوْلِنَا : دَرَاهِمُ فَتْحِيَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ نَيْسَابُورِيَّةٌ أَوْ حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ تَمْرٌ بَرْنِيُّ .
( وَمِنْهَا ) بَيَانُ صِفَتِهِ كَقَوْلِنَا : جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَمِنْهَا ) بَيَانُ قَدْرِهِ .
إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَلَا يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالتَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ كَافٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الذَّرْعِ يات وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ .
لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ قَدْرِهِ وَيُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ : أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُهَا أَوْ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَلَمْ يُعْرَفْ كَيْلُهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ، وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَرْعُهُ أَوْ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ عَدَدُهُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ قَدْرِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا فِي السَّلَمِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَيَلْزَمُ إعْلَامُ قَدْرِهِ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي الْمَكِيلِ بِمِكْيَالِ نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ ، وَدَلَالَةً أَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا : إنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ ، وَقَدْ يَرِدُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى بَعْضِهَا فَإِذَا رَدَّ الزَّائِفَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِس الرَّدِّ وَلَمْ يَتَجَوَّزْ الْمُسْتَحَقُّ يَنْفَسِخُ السَّلَمُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَالْمُسْتَحَقِّ وَيَبْقَى فِي الْبَاقِي ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ بِقَفِيزٍ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ هَلَاكَ الْقَفِيزِ ، فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَلَمْ يَصِحَّ ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ

بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الزَّيْفَ وَالِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، وَبِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا مُلْحَقٌ بِالصِّفَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ سُلِّمَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ ، وَإِعْلَامُ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ فَأَسْلَمَهُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ .

وَلَوْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ فَأَسْلَمَهُ فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ثَمَنِ رَأْسِ الْمَالِ ، فَالثَّمَنُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَأَسْلَمَهُمَا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ .
( وَوَجْهُ ) الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ إعْلَامَ الْقَدْرِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ وَاحِدًا وَقُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ انْقِسَامُهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ ، وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَبْقَى قَدْرُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَجْهُولًا ، وَجَهَالَةُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مُفْسِدَةٌ لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إعْلَامُ قَدْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَجَهَالَتُهُ لَا تَكُونُ ضَارَّةً .

وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ وَنَوْعُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَطُولُهُمَا وَاحِدٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ .
( أَمَّا عِنْدَهُمَا ) فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ حَزْرٍ وَظَنٍّ فَكَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلَوْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ ثَوْبٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ مُرَابَحَةً بِلَا خِلَافٍ ، وَنَذْكُرُ دَلَائِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

؛ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي مَجْلِسِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ ، وَالِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا لُغَةً وَشَرْعًا ، تَقُولُ الْعَرَبُ : أَسْلَمْتُ وَأَسْلَفْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ } وَرُوِيَ { مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ } وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَدُّمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَإِنْ قِيلَ : شَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ ، وَالْقَبْضُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضٍ ، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ الْعَقْدَ وَلَا يَتَقَدَّمُهُ فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَيْنًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَهَذَا افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ جَائِزٌ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يَكُونُ دَيْنًا عَادَةً وَلَا تُجْعَلُ الْعَيْنُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ إلَّا نَادِرًا ، وَالنَّادِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ فَيَلْحَقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ فِي إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْجُمْلَةِ ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الْعَقْدِ فِي الدَّلَالَةِ

عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَسَوَاءٌ قَبَضَ فِي أَوَّلِ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى قَامَا يَمْشِيَانِ فَقَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا .
جَازَ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا لَهُ حُكْمُ الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبُولِ رَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ فَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَفِيهِ إسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ أَصْلًا لَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَسْخًا مَعْنًى ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ عَقْدُ السَّلَمِ عَلَى حَالِهِ ، وَإِذَا قَبِلَ جَازَ الْإِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَرَاضِيهِمَا وَإِنَّهُ جَائِزٌ .
وَإِذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ وَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهُ إسْقَاطُ شَرْطٍ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي ، إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ .
وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ

لَمَّا كَانَ شَرْطًا فَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ أُعْطِيَ رَبُّ السَّلَمِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ ، وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْأَرْدَإِ : جَازَ ، لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفُ ، فَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ وَأَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ أَيْضًا ، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأَجْوَدِ ، وَالْأَرْدَإِ اسْتِبْدَالًا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْأَرْدَإِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ إذَا أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ زُفَرُ لَا : يُجْبَرُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : إنَّ رَبَّ السَّلَمِ فِي إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ مُتَبَرِّعٌ ، وَالْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ التَّبَرُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْمِنَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ إعْطَاءَ الْأَجْوَدِ مَكَانَ الْجَيِّدِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يُعَدُّ فَضْلًا وَزِيَادَةً فِي الْعَادَاتِ ، بَلْ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ فِي الْقَضَاءِ وَلَوَاحِقِ الْإِيفَاءِ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَجْمَلَ فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ .

( وَأَمَّا ) الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بِجِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ مَنْقُولٌ ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( وَأَمَّا ) اسْتِبْدَالُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِجِنْسٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَ انْفِسَاخِ السَّلَمِ الْعَارِضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَيَجُوزُ اسْتِبْدَالُ بَدَلِ الصَّرْفِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لِوُجُودِ رُكْنِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَعَ شَرَائِطِهِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْجَوَازُ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ الْخَلَلِ فِي شَرْطِ عَقْدِ السَّلَمِ وَهُوَ الْقَبْضُ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ ، بَلْ تُحَقِّقُهُ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ فَلَا يَصِحُّ .
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّوْثِيقِ يَحْصُلُ فِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَوِيلُ وَالْكَفِيلُ أَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ افْتَرَقَا الْعَاقِدَانِ بِأَنْفُسِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ السَّلَمُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ ، وَإِنْ بَقِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لَا لِبَقَاءِ الْحَوِيلِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِمَا قُلْنَا ، لَكِنَّ

التَّقَابُضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا شَرْطٌ ، وَافْتِرَاقُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ لَا يَضُرُّ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ كَمَا فِي السَّلَمِ .

( وَأَمَّا ) الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَكْثَرُ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ وَعَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَقَاصَّانِ فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَتَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تَمَّ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِقَدْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ الرَّهْنُ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ السَّلَمُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الرَّهْنِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ إذَا أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا تَمَّ عَقْدُ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا فِي السَّلَمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَأَسْلَمَهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً فَيَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ .
فَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هَهُنَا لَيْسَ إلَّا انْعِدَامَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً ، وَقَدْ زَالَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ لَكِنْ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْعَدِمٌ فِي

الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي يَدِهِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْقَبْضِ وَإِذَا وُجِدَ جَازَ ، وَلَوْ أَسْلَمَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَافْتَرَقَا جَازَ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ وَبَطَلَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ .
وَالْمُفْسِدُ عَدَمُ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ فَيَفْسُدُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ وَيَبْقَى فِي الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ ثُمَّ انْتَقَصَ الْقَبْضَ فِيهِ بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاصَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْلَةَ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا وَهُوَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَيْنًا وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالْعَيْنُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا ، وَالدَّيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ ، وُجِدَ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وُجِدَ بَدَلُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا .
فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ يَبْطُلُ السَّلَمُ ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ أَوْ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ .
وَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ

بِالْعَيْبِ جَازَ السَّلَمُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ وَقَعَ صَحِيحًا فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ فَقَدْ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِالتَّسْلِيمِ ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَانَ الْبَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ الْمَعِيبُ عَيْنًا كَالتِّبْرِ ، وَالْمَصُوغِ مِنْ الْفِضَّةِ وَلَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ ، وَلَا رَضِيَ الْقَابِضُ بِالْمَعِيبِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ يُرْجَعُ عَلَى قَابِضِ الدِّينَارِ بِعَيْنِ الدِّينَارِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِمِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ وَأَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ .
وَلَوْ كَانَ قَابِضُ الدِّينَارِ تَصَرَّفَ فِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ .
هَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ مَاضٍ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْقَبْضَ كَانَ صَحِيحًا ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمَقْبُوضِ وَيَرْجِعُ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتُبْدِلَ فِي الْمَجْلِسِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ دَيْنًا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَيْنَهُ ، فَقَبْضُ الْمُسْتَحَقِّ إنْ لَمْ يَصِحَّ أَوْ انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ ، يَقُومُ قَبْضُ مِثْلِهِ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الَّذِي

كَانَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَأَخَّرَ الْقَبْضَ فِيهِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ قَبْضُ الْعَيْنِ .
وَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَعَذَّرَ إقَامَةُ قَبْضِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَجُعِلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَبْطُلُ السَّلَمُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ .
هَذَا إذَا وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا ، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً ، فَإِنْ تَجَوَّزَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِالزِّيَافَةِ وَفَوَاتِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ ، فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مَعَ النُّقْصَانِ ، بِخِلَافِ السَّتُّوقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهِ وَرَدَّهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتَبْدَلَهُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَالْعَقْدُ مَاضٍ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ، سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ قَبْضَ الزُّيُوفِ وَقَعَ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ الْحَقِّ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ كَالسَّتُّوقِ ، إلَّا أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا لَا وَصْفًا فَكَانَتْ الزِّيَافَةُ فِيهَا عَيْبًا ، وَالْمَعِيبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَبِالرَّدِّ

يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الرَّدِّ وَلَا يَسْتَنِدُ الِانْتِقَاضُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ ؛ لِأَنَّ لِلرَّدِّ شِبْهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ ، إلَّا بِالرَّدِّ كَمَا لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ ، إلَّا بِالْعَقْدِ فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَكِنْ أَصْلًا لَا وَصْفًا ، وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنْ الْوَصْفِ فَكَانَ حَقُّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ لَا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ لِإِبْرَائِهِ إيَّاهُ عَنْ الْوَصْفِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُلُ الْمُسْتَحَقُّ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ .
هَذَا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً ، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا ، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَانَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ ، وَسَوَاءٌ تَجَوَّزَ بِهِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ التَّجَوُّزُ بِهِ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ

حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَاسْتَبْدَلَ فَالسَّلَمُ مَاضٍ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ هِيَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالْتَحَقَ قَبْضُ السَّتُّوقِ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ أَصْلًا وَأَخَّرَ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ فَقَابِضُ الدِّينَارِ يَسْتَرِدُّ دَرَاهِمَهُ السَّتُّوقَةَ وَقَابِضُ الدَّرَاهِمِ يَسْتَرِدُّ مِنْ قَابِضِ الدِّينَارِ عَيْنَ دِينَارِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَمِثْلَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَبَقِيَ الدِّينَارُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَأَشْبَهَ يَدَ الْغَصْبِ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِدُّ عَيْنَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا كَذَا هَهُنَا وَطَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ رَدَّ عَيْنَ الدِّينَارِ .
وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مِثْلَهُ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ الدِّينَارِ ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا فِي الْعَقْدِ ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا فِي الْفَسْخِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ وَقَعَ صَحِيحًا وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعَارِضٍ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ فَلَا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عِيسَى

وَنَصَرُوهُ وَحَمَلُوا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى مَا إذَا اخْتَارَ قَابِضُ الدِّينَارِ رَدَّ عَيْنِ الدِّينَارِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا وُجِدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَفِي الِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ يُنْقَصُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَصَ فِيهِ بِقَدْرِهِ ، وَكَذَا فِي السَّتُّوقِ ، وَالرَّصَاصِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ قَابِضَ السَّتُّوقَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي الدِّينَارِ الَّذِي دَفَعَهُ بَدَلًا عَنْ الدَّرَاهِمِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى : قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا فِي الزُّيُوفِ ، وَالنَّبَهْرَجَةِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُنْقَصَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ إذَا لَمْ يَتَجَوَّزْ ، وَرَدَّهُ - اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا - وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْدُودِ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْقَلِيلِ ، وَقَالَ : إنْ كَانَ قَلِيلًا فَرَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْعَقْدُ مَاضٍ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَعَ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ

يَكُونُ كَثِيرًا ، وَفِي رِوَايَةٍ النِّصْفِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ ، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَثُرَتْ الزُّيُوفُ فَرَدَّ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ عَيْنَهُ .
وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى : قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي عَقْدٍ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِمَّا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ ، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ مَكِيلٌ ، أَوْ مَوْزُونٌ مَوْصُوفٌ فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ مِمَّا يَكُونُ قَبْضُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ ، ثُمَّ وَجَدَهَا مُسْتَحَقَّةً ، أَوْ زُيُوفًا ، أَوْ نَبَهْرَجَةً ، أَوْ سَتُّوقَةً ، أَوْ رَصَاصًا كُلَّهَا ، أَوْ بَعْضَهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مُقَاصَّةُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِدَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِأَنْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَبَ دَيْنٌ آخَرُ بِالْعَقْدِ .
وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ ، وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ ، فَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى السَّلَمِ بِأَنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ بَاعَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ

دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ، فَإِنْ جَعَلَا الدَّيْنَيْنِ قِصَاصًا ، أَوْ تَرَاضَيَا بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قِصَاصًا ، وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قِصَاصًا كَيْفَ مَا كَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ ، وَالْحَاصِلُ بِالْمُقَاصَّةِ لَيْسَ بِقَبْضٍ حَقِيقَةً فَكَانَ الِافْتِرَاقُ حَاصِلًا لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَبَطَلَ السَّلَمُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً لَوْلَا الْمُقَاصَّةُ ، فَإِذَا تَقَاصَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ ، وَقَدْ وُجِدَ .
وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ جَمِيعًا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ السَّلَمِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا ، إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ شَاذَّةً ؛ لِأَنَّ بِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَسْتَدْعِي قِيَامَ دَيْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَقْدِ السَّلَمِ ، إلَّا دَيْنٌ وَاحِدٌ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاصَّةِ .
هَذَا إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِالْعَقْدِ ، فَأَمَّا إذَا وَجَبَ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا ، سَوَاءٌ جَعَلَاهُ قِصَاصًا ، أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنْ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا حَقِيقَةً فَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لَكِنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً فَيُجْعَلُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَقَبْضُ الْغَصْبِ مَحْظُورٌ وَقَبْضُ الْقَرْضِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكَانَ إيقَاعُهُ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ

لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ حَقِيقَةً ، وَالْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ يُمْكِنُ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ ، فَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ ، وَالْآخَرُ أَدْوَنَ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْقِصَاصِ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَفْضَلِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَدْوَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَفْضَلِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْفَضْلِ كَأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الْمُقَاصَّةُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ تَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ، فَافْهَمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَهُوَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَبْضُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ ، بِخِلَافِ الْقَبْضِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَقَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَقَبْضِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي الْبَابَيْنِ مَا هُوَ شَرْطٌ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْبَدَلُ مُعَيَّنًا بِالْقَبْضِ صِيَانَةً عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ فَيَعُودُ إلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نَفْسَ الْقَبْضِ فَلَا يُرَاعَى لَهُ الْمَجْلِسُ ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا

يَحْصُلُ ، إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَهُ جَائِزٌ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَتَعَيَّنَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا .
( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَقَوْلِنَا : حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ .
كَقَوْلِنَا : حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ نَحِسِيَّةٌ ، تَمْرٌ بَرْنِيُّ أَوْ فَارِسِيٌّ هَذَا إذَا كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ نَوْعُهُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ النَّوْعِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ .
كَقَوْلِنَا : جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الْعَدِّ أَوْ الذَّرْعِ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ النَّوْعِ ، وَالْجِنْسِ ، وَالصِّفَةِ ، وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ ، أَوْ وَزْنٍ ، أَوْ ذَرْعٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فَقْدُهُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ بِأَنْ أَعْلَمَ قَدْرَهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ : بِهَذَا الْإِنَاءِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَسَعُ فِيهِ ، أَوْ بِحَجَرٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ : بِهَذَا الْحَجَرِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ وَزْنُهُ ، أَوْ بِخَشَبَةٍ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا بِأَنْ قَالَ : بِهَذِهِ الْخَشَبَةِ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا ، أَوْ بِذِرَاعِ يَدِهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ مِلْءَ هَذَا الْإِنَاءِ بِدِرْهَمٍ ، أَوْ مِنْ هَذَا الزَّيْتِ وَزْنَ هَذَا الْحَجَرِ بِدِرْهَمٍ : يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي السَّلَمِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ : يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُكَايَلَةٌ ، وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَيَفْسُدُ كَمَا لَوْ بَاعَ قُفْزَانًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَمِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْعَيْنِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا يَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ الْإِنَاءَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ إنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَلَيْسَ بِنَادِرٍ أَيْضًا وَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ ، وَهَلَاكُ الْقَفِيزِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَا يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ ، وَالثَّانِي - أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادِ

الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَائِتَةٌ فِي بَابِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ ، قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ لَا تَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ الْمِكْيَالُ وَالْحَجَرُ وَالْخَشَبَةُ تَثْبُتُ .
وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَا يَقْدِرُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَفِي فَوَاتِهَا بِالْهَلَاكِ شَكٌّ فَلَا تَفُوتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ أَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَنَقُولُ : الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ بِالْكَيْلِ لِلْحَالِ ، بِخِلَافِ بَيْعِ قُفْزَانٍ مِنْ الصُّبْرَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِزِيَادَةٍ ، وَالْبَائِعُ لَا يُعْطِيهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِثْلَ الزِّنْبِيلِ ، وَالْجُوَالِقِ ، وَالْغِرَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أَوْ كَانَ

مَوْزُونًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ : جَازَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ فَقْدُهُ ، وَقَدْ وُجِدَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ ، أَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِالْوَزْنِ .
فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ثَبَتَ نَصًّا فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مُجَازَفَةً فَلَا يَجُوزُ ، أَمَّا فِي بَابِ السَّلَمِ فَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ بِالْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ الْوَصْفِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، أَمَّا الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ ؛ فَلِأَنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وَصِفَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا يَسِيرَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَصَغِيرُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَكَبِيرُهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا وَكَذَلِكَ كَيْلًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : إنَّ الْجَوْزَ وَالْبَيْضَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ حَتَّى يُشْتَرَى الْكَبِيرُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُشْتَرَى الصَّغِيرُ فَأَشْبَهَ الْبِطِّيخَ ، وَالرُّمَّانَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ يَسِيرٌ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ اعْتِبَارِهِ فَكَانَ سَاقِطَ الْعِبْرَةِ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ ، بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ آحَادِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ .

( وَأَمَّا ) السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَعِنْدَهُمَا ثَمَنِيَّتُهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاصْطِلَاحِ فَتَزُولُ بِالِاصْطِلَاحِ ، وَإِقْدَامُ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ فِي الْأَثْمَانِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فَتَبْطُلُ ثَمَنِيَّتُهَا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ وَتَصِيرُ سِلَعًا عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا فِي سَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنِّصَالِ وَنَحْوِهَا .

( وَأَمَّا ) الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ ، وَالْبُسُطِ ، وَالْحَصِيرِ ، وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ ، وَلِهَذَا لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَلْ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ الدَّيْنِ : { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ لَا يُقَالُ : فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الذَّرْعِيَّاتِ ، وَالْعَدَدِيَّاتِ ، وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابِلَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَنَوْعَهُ وَرِفْعَتَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَلْحَقُ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ السَّلَمِ شَرْعًا لِحَاجَةِ النَّاسِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ الِاسْتِهْلَاكِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فِي الْإِتْلَافَاتِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ وَلَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ يَضْمَنُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِبْدَالُ .
هَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْكِرْبَاسِ أَوْ الْكَتَّانِ ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْحَرِيرِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْوَزْنِ بَعْدَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ ؟ إنْ كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ وَزْنِهِ مِنْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَبْقَى جَهَالَتُهُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَإِنْ

كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَزْنِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَالْجَوَاهِرِ ، وَاللَّآلِئِ ، وَالْجَوْزِ ، وَالْجُلُودِ ، وَالْأُدُمِ ، وَالرُّءُوسِ ، وَالْأَكَارِعِ ، وَالْبِطِّيخِ ، وَالْقِثَّاءِ ، وَالرُّمَّانِ ، وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالْوَصْفِ إذْ يَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ ، وَلُؤْلُؤٍ وَلُؤْلُؤٍ ، وَحَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ ، وَكَذَا بَيْنَ جِلْدٍ وَجِلْدٍ ، وَرَأْسٍ وَرَأْسٍ فِي الصِّغَرِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالسِّمَنِ ، وَالْهُزَالِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُنَا جَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ ، وَالنَّوْعِ ، وَالصِّفَةِ ، وَالسِّنِّ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَعْلُومُ الْجِنْسَ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ ، وَالتَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ ، وَلِهَذَا وَجَبَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَبْقَى بَيْنَ فَرَسٍ وَفَرَسٍ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا قَبْلُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ } ، وَالسَّلَفُ وَالسَّلَمُ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا الْبَيْعُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْبَدَلِ وَبِبَدَلٍ مَجْهُولٍ ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ، إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَلَا

يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْنِ أَحْمَالًا أَوْ أَوْقَارًا ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحِمْل وَالْحِمْلِ ، وَالْوِقْرِ وَالْوِقْرِ مِمَّا يَفْحُشُ ، إلَّا إذَا أَسْلَمَ فِيهِ بِقَبَّانٍ مَعْلُومٍ مِنْ قَبَابِينَ التُّجَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا أَوْقَارًا لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ حُزْمَةٍ وَحُزْمَةٍ ، وَوِقْرٍ وَوِقْرٍ ، وَكَذَا فِي الْقَصَبِ ، وَالْحَشِيشِ ، وَالْعِيدَانِ ، إلَّا إذَا وَصَفَهُ بِوَصْفٍ يُعْرَفُ وَيَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَجُوزُ ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبِنِ ، وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا .
وَكَذَا فِي الطَّوَابِيقِ إذَا وَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُعْرَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِلْجَهَالَةِ ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ جَازَ ، وَكَذَا فِي طَشْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إنْ كَانَ يُعْرَفُ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً ، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ تَمَامُ مَعْرِفَتِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ اسْتَصْنَعَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا .

وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ جَوَازِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالسَّلَمِ بَلْ هُوَ أَبْعَدُ جَوَازًا مِنْ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ تَحْتَمِلُهُ الذِّمَّةُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً ، وَالْمُسْتَصْنَعُ عَيْنٌ تُوجَدُ فِي الثَّانِي ، وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُهَا الذِّمَّةُ فَكَانَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ أَبْعَدَ عَنْ الْقِيَاسِ عَنْ السَّلَمِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ ، ثُمَّ هُوَ بَيْعٌ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جَوَازِهِ ، وَذِكْرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا يَلِيقُ بِالْعِدَّاتِ ، وَكَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْتَصْنِعِ وَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْبُيُوعِ ، وَكَذَا مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ ، وَالْعِدَّاتُ لَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَدَلَّ أَنَّ جَوَازَهُ جَوَازُ الْبِيَاعَاتِ لَا جَوَازُ الْعِدَّاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ جَوَازِهِ .
( فَمِنْهَا ) بَيَانُ جِنْسِ الْمُسْتَصْنَعِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَشْيَاءَ .
( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ كَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْخُفِّ وَالْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ لَهُمْ فِيهِ كَمَا إذَا أَمَرَ حَائِكًا أَنْ يَحِيكَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَاتُ النَّاسِ بِالتَّعَامُلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِتَعَامُلِ النَّاسِ فَيَخْتَصُّ بِمَا لَهُمْ فِيهِ تَعَامُلٌ ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى الْقِيَاسِ .

( وَأَمَّا ) كَيْفِيَّةُ جَوَازِهِ فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ حَتَّى كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الصُّنْعِ وَأَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ يَرْجِعَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَصْلًا ، إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ ، وَحَاجَتُهُمْ قَبْلَ الصُّنْعِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ دُونِ اللُّزُومِ فَيَبْقَى اللُّزُومُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .

( وَأَمَّا ) حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ فَحُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَصْنِعِ - إذَا أَتَى الصَّانِعُ بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ - ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا رَآهُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، وَفِي حَقِّ الصَّانِعِ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَازِمٍ إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَرَضِيَ بِهِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّهِمَا حَتَّى لَا خِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِلصَّانِعِ وَلَا لِلْمُسْتَصْنِعِ أَيْضًا ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وَفَرَى جِلْدَهُ وَأَتَى بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الصَّانِعُ فَيَلْزَمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ فِي اللُّزُومِ إضْرَارًا بِهِمَا جَمِيعًا ، أَمَّا إضْرَارُ الصَّانِعِ فَلِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَأَمَّا ضَرَرُ الْمُسْتَصْنِعِ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ مَتَى لَمْ يَصْنَعْهُ ، وَاتَّفَقَ لَهُ مُشْتَرٍ يَبِيعُهُ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لَهُمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ لَا لِلصَّانِعِ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مُشْتَرٍ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُسْتَصْنِعُ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جُعِلَ مَوْجُودًا شَرْعًا حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ ، وَالصَّانِعُ بَائِعٌ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَلِأَنَّ إلْزَامَ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يُلَائِمَهُ

الْمَصْنُوعُ وَلَا يَرْضَى بِهِ فَلَوْ لَزِمَهُ ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِثَمَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ فِي جَانِبِ الصَّانِعِ ضَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَذَلِكَ مُيَسَّرٌ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ ، هَذَا إذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا ، فَأَمَّا إذَا ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي السَّلَمِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ اسْتِصْنَاعٌ وَذِكْرُهُ الْأَجَلَ لِلتَّعْجِيلِ ، وَلَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَنْقَلِبُ سَلَمًا بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ هَذَا اسْتِصْنَاعٌ حَقِيقَةً فَلَوْ صَارَ سَلَمًا إنَّمَا يَصِيرُ بِذِكْرِهِ الْمُدَّةَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْبَيْعِ مِنْ الْخَصَائِصِ اللَّازِمَةِ لِلسَّلَمِ فَذِكْرُهُ يَكُونُ ذِكْرًا لِلسَّلَمِ مَعْنًى ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ ، وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ الْوَقْتِ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ ، قُلْنَا : لَوْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّأْجِيلِ لَكَانَ مُفِيدًا ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى .

وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَقَدْرَهُ وَسِنَّهُ وَمَوْضِعَهُ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانَ الْعُدْوَانِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) - مِنْ جِهَةِ الْهُزَالِ وَالسِّمَنِ .
( وَالثَّانِي - ) مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بَقِيَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ جَهَالَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِثْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِيهِ شَرْعًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ مِنْ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ فِي الْأَعْيَانِ مَا لَيْسَ فِي قِيمَتِهَا ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَلْيَةِ وَالشَّحْمِ وَزْنًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ غَيْرِ السَّمِينِ وَالسَّمِينِ ، وَالْمَهْزُولِ وَغَيْرِ الْمَهْزُولِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ .

( وَأَمَّا ) السَّلَمُ فِي السَّمَكِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الصِّغَارِ مِنْهُ كَيْلًا وَوَزْنًا ، مَالِحًا كَانَ أَوَطَرِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِ ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَلَا اخْتِلَافُ الْعَظْمِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي الْكِبَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ طَرِيًّا كَانَ أَوْ مَالِحًا كَالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِاخْتِلَافِهَا بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ كَاللَّحْمِ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ وَزْنًا ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ سَمِينِهِ وَمَهْزُولِهِ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً لِقِلَّتِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَهُمَا ، وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ بَيَانَ الْمَوْضِعِ مِنْ اللَّحْمِ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّمَكِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي الْمَسَالِيخِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ عَدَدًا فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ .
( وَأَمَّا ) وَزْنًا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْخُبْزِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الْخَبْزِ وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الْخُبْزِ ، وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْأَجَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَكِنَّهُ انْقَطَعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَاللَّبَنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الشَّرْطُ وُجُودُهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَا غَيْرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : إنَّ اعْتِبَارَ هَذَا الشَّرْطِ - وَهُوَ الْوُجُودُ - لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْوُجُودُ فِيهِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ مَا قُلْنَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ أَنَّهَا مَعَ الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُهُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا لِلْفِعْلِ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ لَا سَابِقًا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ ، وَفِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْمَحَلِّ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ ، فَإِنْ بَقِيَ حَيًّا إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ ، وَالْقُدْرَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ فَحَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يَنْفَسِخُ السَّلَمُ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَقَعَ صَحِيحًا لِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ ، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ لِعَارِضِ الِانْقِطَاعِ مَعَ عَرَضِيَّةِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ ظَاهِرًا بِالْوُجُودِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ ، وَالْعَقْدُ إذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ كَبَيْعِ

الْآبِقِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَبْقَى لِفَائِدَةِ عَوْدِ الْقُدْرَةِ فِي الثَّانِي ظَاهِرًا أَوْلَى ، لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِرَبِّ السَّلَمِ ، إنْ شَاءَ فَسَخ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ .
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْمُنْقَطِعِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ أَوْ فَرْغَانَةَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ لِوِلَايَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهَا ، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ كَسَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى أَوْ كَاشَانَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَدُ طَعَامُ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ إلَّا فِي طَعَامِ وِلَايَةٍ ؛ لِأَنَّ وَهْمَ الِانْقِطَاعِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ثَابِتٌ .
وَالسَّلَمُ عَقْدٌ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ غَرَرِ الِانْقِطَاعِ مَا أَمْكَنَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُضَافَ إلَيْهِ الطَّعَامُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَدُ طَعَامُهُ غَالِبًا : يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ وِلَايَةً أَوْ بَلْدَةً كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَعَامُهُ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَأَرْضٍ بِعَيْنِهَا أَوْ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ الِانْقِطَاعُ لَا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فَلَا تَثْبُتُ

الْقُدْرَةُ مَعَ الشَّكِّ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ { لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُسْلِمُ إلَيْكَ فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَمَّا فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَا } وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ وَأَرَادَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْفُرَاتِ الْمُسَمَّاةِ بِهَرَاةَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ يَجُوزُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ ذِكْرُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِهِ ، وَهُوَ بَيَانُ النَّوْعِ لَا تَخْصِيصُ الثَّوْبِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَتَى بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ هَرَاةَ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ ثَوْبِ هَرَاةَ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ ، فَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ وَذَكَرَ الشَّرَائِطَ الْأُخَرَ كَانَ هَذَا عَقْدًا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ فَيَجُوزُ ، فَأَمَّا إضَافَةُ الطَّعَامِ إلَى هَرَاةَ فَلَيْسَ يُفِيدُ شَرْطًا - لَا جَوَازَ لِلسَّلَمِ بِدُونِهِ - ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِضَافَةَ أَصْلًا جَازَ السَّلَمُ فَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الطَّعَامِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجُزْ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ بَيْعٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ ، سَمَّى السَّلَمَ بَيْعًا فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا ، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا ، وَهَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ وَالْمَصُوغِ ؟ فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُضَارَبَةَ بِهَا فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ مِمَّا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا حَتَّى جُوِّزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسٍ بِأَعْيَانِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ عِنْدَهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَمَاقِمِ وَالْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ الَّتِي تُبَاعُ عَدَدًا ، لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ وَزْنُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الْحَالِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَسَلَمُ الْحَالِ جَائِزٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ نَظَرًا لَلْمُسْلَمِ إلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُرَاعَاةَ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ كَمَا أَوْجَبَ مُرَاعَاةَ الْقَدْرِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِيهِ كَالْقَدْرِ ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ حَالًا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَنَازَعَانِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْفَسْخِ ، وَفِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَشُرِطَ الْأَجَلُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إلَّا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْفَسْخِ وَالْإِضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً وَأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَالرُّخْصَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ بِعَارِضِ عُذْرٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ كَرُخْصَةِ

تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالتَّرَخُّصُ فِي السَّلَمِ هُوَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ حُرْمَةُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَى الْحَلِّ بِعَارِضٍ عُذْرًا لِعَدَمِ ضَرُورَةِ الْإِفْلَاسِ ، فَحَالَةُ الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ لَا يَلْحَقُهَا اسْمُ قُدْرَةِ الرُّخْصَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السَّلَمِ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مُسْتَفَادَةً مِنْ النَّصِّ ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ مِنْ الْقَادِرِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِلْحَالِ ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّهْيِ الْعَامِّ فَأُلْحِقَ بِالْعَاجِزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْحَاقِ النَّادِرِ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ .
فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ ، وَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَأَمَّا ) مِقْدَارُ الْأَجَلِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَوْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٌ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْمُدَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا شُرِطَ فِي السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ ، وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يُمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ ، فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْحُلُولِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ حَلَّ الدَّيْنُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ سِوَاهُ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ وَمَوْتَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَا يُبْطِلُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدْيُونِ لَا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَتُعْتَبَرُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ فِي الْأَجَلِ وَبُطْلَانِهِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) بَيَانُ مَكَانِ إيفَائِهِ إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيَانُ مَكَانِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ الْمَوْصُوفُ أَوْ الْمَوْزُونُ الْمَوْصُوفُ ثَمَنًا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقُوا فَقَالُوا إذَا كَانَ حَالًا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ ، هَلْ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ ؟ عِنْدَهُ لَا يَتَعَيَّنُ ، وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا صَارَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَعْلُومًا فَيَصِحُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ هُوَ الْعَقْدُ ، وَالْعَقْدُ وُجِدَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ شَيْئًا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) أَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ مَكَان فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إطْلَاقِ الْعَقْدِ عَنْ تَعْيِينِ مَكَان الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ .
( أَمَّا ) الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ الْمَكَانِ فِي الْعَقْدِ نَصًّا فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ مَكَانِ الْعَقْدِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَاقِدَيْنِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
( وَأَمَّا )

الْحُكْمُ فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَوْ عَيَّنَا مَكَانًا آخَرَ جَازَ ، وَلَوْ كَانَ تَعْيِينُ مَكَانِ الْعَقْدِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ شَرْعًا لَكَانَ تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْمُؤْنَةِ فَيَتَنَازَعَانِ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُمَا : سَبَبُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هُوَ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَكَانِ فَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ ، وَإِنَّمَا هَذَا مَكَانُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَكَانُ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِمُتَّحِدٍ بَلْ مُخْتَلِفٍ فَيَتَنَازَعَانِ .
( وَأَمَّا ) الْمُسْلَمُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ هُنَاكَ أَيْضًا ، وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَاب الْإِجَارَاتِ وَيُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فَلَمْ تَكُنْ جَهَالَةُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَرِوَايَةُ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصَلِ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَوَّلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَقَالَ : هِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ : يُوَفِّيهِ فِي

الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ إذَا لَمْ يَتَنَازَعَا فَإِذَا تَنَازَعَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ السَّلَمِ التَّسْلِيمَ فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَحَيْثُ سَلَّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَتَخَيَّرَ مَكَانًا ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَان مِنْهُ مُطْلَقًا ، وَقَدْ وُجِدَ ، وَإِنْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } ، فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ عَلَى نَقْلِ مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ فَيَرُدُّ الْأَجْرَ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسْلِمَ فِي الْمَكَان الْمَشْرُوطِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَلَمْ يُسْلِمْ لَهُ فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ ، وَإِذَا رَدَّهُ لَا يَعُودُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاعْتِيَاضَ وَبَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا ، وَلِرَبِّ السَّلَمِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ الْتَحَقَ الِاعْتِيَاضُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ الْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي الشُّفْعَةِ يَسْقُطُ ، وَلَوْ قَالَ : أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي

التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَسْقُطُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمَا أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ ، وَذَلِكَ إمَّا الْكَيْلُ ، وَإِمَّا الْوَزْنُ ، وَإِمَّا الْجِنْسُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ هُوَ عِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ يَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ ، وَالْعَقْدُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ ، أَوْ الْمَوْزُونِ فِي الْمَوْزُونِ ، وَالْمَكِيلِ فِي الْمَوْزُونِ ، وَالْمَوْزُونِ فِي الْمَكِيلِ ، وَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِمَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ رِبَا النَّسَاءِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ .
فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَيَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ هُوَ بِالْإِبْرَاءِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ بِالْإِسْقَاطِ فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْقَبْضِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِنَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ .
لِمَا قُلْنَا ، إلَّا أَنَّ فِي الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَفِي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ ، وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةً وَالْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ إلَّا إذَا كَانَتْ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ مَعَ الْكَفِيلِ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَا بِدَيْنٍ آخَرَ ؛ إذْ الدَّيْنُ وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ ، وَيَجُوزُ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ فَيَأْخُذُ بَدَلَ مَا أَدَّى إلَى رَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ كَانَتْ إقْرَاضًا وَاسْتِقْرَاضًا ، كَأَنَّ الْكَفِيلَ أَقْرَضَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُ الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ ، وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ

حَقِيقَةً ، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ أَيِّ دَيْنٍ كَانَ جَائِزٌ .

وَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَمَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إنَّمَا شُرِعَتْ نَظَرًا لِلْعَاقِدَيْنِ دَفْعًا لِحَاجَةِ النَّدَمِ ، وَاعْتِرَاضُ النَّدَمِ فِي السَّلَمِ هَهُنَا أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْإِقَالَةِ فِيهِ ، ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي كُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَإِمَّا إنْ تَقَايَلَا فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنْ تَقَايَلَا فِي كُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ لِمَا قُلْنَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ أَوْ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْإِقَالَةِ مُطْلَقٌ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ .
وَكَذَا جَوَازُ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ هَالِكًا ، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَالِكًا ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ ثَمَنٌ وَالْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، وَقِيَامُ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إنَّمَا الشَّرْطُ قِيَامُ الْمَبِيعِ ، وَقَدْ وُجِدَ ، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ قَائِمٌ فَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ هَالِكًا كَانَ أَوْ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْمَقْبُوضُ

قَائِمٌ فِي يَدِهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ ، وَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ مَا قَبَضَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِهِ بَعْدَ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَبِيعَ الْمَقْبُوضَ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ؟ وَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِيهِ بِقَدْرِهِ إذَا كَانَ الْبَاقِي جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ شُرِعَتْ نَظَرًا وَفِي إقَالَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ هَهُنَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ لِهَذَا سَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَسَنًا جَمِيلًا فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ ، وَالسَّلَمُ فِي الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وُجِدَتْ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ فَلَا تُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْإِقَالَةِ تَعْجِيلُ الْبَاقِي مِنْ الْمُسْلَمِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ أَيْضًا وَالسَّلَمُ فِي الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ فِيهَا تَعْجِيلُ الْبَاقِي لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ ، وَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ .
( أَمَّا ) فَسَادُ الشَّرْطِ ؛ فَلِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ .
( وَأَمَّا ) صِحَّةُ الْإِقَالَةِ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ .
( وَأَمَّا ) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ

وَالسَّلَمُ عَلَى حَالِهِ إلَى أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالْكَلَامُ فِي الصَّرْفِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي تَفْسِيرِ الصَّرْفِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالصَّرْفُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ " اسْمٌ لِبَيْعِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ " فَاحْتُمِلَ تَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ صَرْفًا لِمَعْنَى الرَّدِّ وَالنَّقْلِ ، يُقَالُ : صَرَفْتُهُ عَنْ كَذَا إلَى كَذَا ، سُمِّيَ صَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ بِرَدِّ الْبَدَلِ وَنَقْلِهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ لِمَعْنَى الْفَضْلِ ، إذْ الصَّرْفُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْفَضْلِ ، كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ فَعَلَ كَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } فَالصَّرْفُ الْفَضْلُ وَهُوَ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرْضُ ، سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ صَرْفًا لِطَلَبِ التَّاجِرِ الْفَضْلَ مِنْهُ عَادَةً لِمَا يُرْغَبُ فِي عَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ ( فَمِنْهَا ) قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدَهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرَ نَاجِزٌ ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ أَيْ : الرِّبَا ، فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَتَفْسِيرُ الِافْتِرَاقِ هُوَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا فَيَأْخُذَ هَذَا فِي جِهَةٍ وَهَذَا فِي جِهَةٍ أَوْ يَذْهَبَ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ حَتَّى لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسِهِمَا لَمْ يَبْرَحَا عَنْهُ لَمْ يَكُونَا مُفْتَرِقَيْنِ وَإِنْ طَالَ مَجْلِسُهُمَا ؛ لِانْعِدَامِ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا وَكَذَا إذَا نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا قَامَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا فَذَهَبَا مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقٍ وَاحِدَةٍ وَمَشَيَا مِيلًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يُفَارِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَيْسَا بِمُفْتَرِقَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَفَرُّقِ الْأَبَدَانِ وَلَمْ يُوجَدْ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَالْقِيَامُ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ

الِاشْتِغَالُ بِعَمَلٍ آخِرُ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ ، وَهَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِالْإِعْرَاضِ إنَّمَا الْعِبْرَةُ لِلِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَلْحَقَ هَذَا بِخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ، حَتَّى لَوْ نَامَ طَوِيلًا أَوْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ يَبْطُلُ الصَّرْفُ كَالْخِيَارِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِينَارًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَقَالَ بِعْتُكَ الدَّنَانِيرَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لَك عَلَيَّ ، وَقَالَ : قَبِلْتُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ بَلْ بِالْمُرْسِلِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إلَى إنْسَانٍ فَقَالَ : بِعْتُ عَبْدِي الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا مِنْكَ بِكَذَا فَقَبِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَا يَكُونُ الِافْتِرَاقُ مُفْسِدًا لَهُ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ افْتِرَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَا مَالِكَيْنِ أَوْ نَائِبَيْنِ عَنْهُمَا كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ افْتِرَاقُهُمَا ، ثُمَّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهُ يُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ دُونَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ بِأَنْ قَالَ الْأَبُ : اشْهَدُوا أَنِّي اشْتَرَيْتُ هَذَا الدِّينَارَ مِنْ ابْنِي الصَّغِيرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَزِنَ الْعَشَرَةَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْعَاقِدُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَيُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتُعَالَى أَعْلَمُ .

ثُمَّ بَيْعُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَبِخِلَافِ الْجِنْسِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَرْفٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَكِنْ يَجِبُ التَّقَابُضُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ .

وَلَوْ تَصَارَفَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَتَقَابَضَا وَتَفَرَّقَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا أَوْ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْحَطُّ بَاطِلَانِ ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ فِي الذِّكْرِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ ، هَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاضُلُ ، وَالْجِنْسُ مُتَّحِدٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُلْتَحِقٍ بِالْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَيُوجِبُ فَسَادَهُ .
وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ لَا يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ فَطَرَدَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْأَصْلَ ، وَقَالَ : تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ جَمِيعًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ ، وَقَالَ : الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ صَحَّتْ لَالْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ فَبَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ صَحَّ وَلَا يَلْتَحِقُ ؟ إذْ لَوْ الْتَحَقَ لَكَانَ الْبَيْعُ وَاقِعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيُجْعَلُ حَطًّا لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ .

وَلَوْ تَبَايَعَا الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِأَنْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دِرْهَمًا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَوْ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا مِنْ الدِّينَارِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ وَالِالْتِحَاقِ تَحَقُّقُ الرِّبَا ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا إلَّا أَنَّ فِي الزِّيَادَةِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ جَازَ التَّفَاضُلُ ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهَا .
( وَأَمَّا ) الْحَطُّ فَجَائِزٌ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ وَإِنْ كَانَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ ، لَكِنَّ التَّفَاضُلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ جَائِزٌ وَلَا زِيَادَةَ هَهُنَا حَتَّى يُشْتَرَطَ قَبْضُهَا فَصَحَّ الْحَطُّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَحْطُوطِ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَمَّا الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى قَدْرِ الْمَحْطُوطِ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ رَدُّهُ ، وَلَوْ حَطَّ مُشْتَرِي الدِّينَارِ قِيرَاطًا مِنْهُ فَبَائِعُ الدِّينَارِ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَا سِوَى الْقِيرَاطِ ، وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ زَادَهُ دِينَارًا فِي الثَّمَنِ دَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ أَوْ بَعْدَ مَا فَارَقَهُ يَجُوزُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَتُصْرَفُ الزِّيَادَةُ إلَى النَّصْلِ وَالْجِفْنِ وَالْحَمَائِلِ ؛ لِأَنَّهَا تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَا هَذَا

بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَوْ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَهُوَ التِّبْرُ وَالْمَصُوغُ أَوْ دَيْنًا بِعَيْنٍ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ كَمَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ عَلَى الذَّهَبِ وَالثَّوْبِ فَمَا قَابَلَ الذَّهَبَ يَكُونُ صَرْفًا فَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْقَبْضُ وَمَا يُقَابِلُ الثَّوْبَ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِذَهَبٍ وَالذَّهَبُ أَكْثَرُ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ فِي حِصَّةِ الذَّهَبِ يَكُونُ صَرْفًا وَفِي حِصَّةِ الثَّوْبِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا ، وَكَذَا إذَا بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ مُفْرَدَةً ، أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً ، أَوْ لِجَامًا ، أَوْ سَرْجًا ، أَوْ سِكِّينًا مُفَضَّضَةً ، أَوْ جَارِيَةً عَلَى عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ وَالْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَكْثَرُ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ كَانَ بِحِصَّةِ الْفِضَّةِ صَرْفًا .
وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَبِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّرْفِ ، فَإِنْ وُجِدَ التَّقَابُضُ وَهُوَ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ وُجِدَ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بَطَلَ الصَّرْفُ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمَجْمُوعَةُ مَعَ غَيْرِهَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ كَالْجَارِيَةِ مَعَ الطَّوْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَفَسَادُ الصَّرْفِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا

أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُنْفَصِلَانِ ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى جَائِزًا انْتِهَاءً أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ بَطَلَ الْبَيْعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الصَّرْفِ يَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ ثُمَّ فَسَدَ فِي قَدْرِ الصَّرْفِ بِطَرَيَانِ الْمُفْسِدِ عَلَيْهِ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ .

فَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِأَنْ شَرَطَا الْخِيَارَ أَوْ أَدْخَلَا الْأَجَلَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَوْ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ، إنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَصِحُّ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَسِيئَةً ثُمَّ نَقَدَ بَعْضَ الْعَشَرَةِ دُونَ الْبَعْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَسَدَ الصَّرْفُ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ بَيْنَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَعَدَّى فَهُمَا سَوِيًّا بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مُقَارِنًا يَصِيرُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْفَاسِدِ شَرْطَ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ، فَيُؤَثِّرُ فِي الْكُلِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّارِئِ فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ أَكْثَرَ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ وَلَا الْأَجَلِ حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ ، ثُمَّ نَقَدَ قَدْرَ الْفِضَّةِ الْمَجْمُوعَةِ مِنْ الْمُفْرَدَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَتَفَرَّقَا عَنْ قَبْضٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَنَقَدَهُ الْمُشْتَرِي خَمْسِينَ فَالْقَدْرُ الْمَنْقُودُ مِنْ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ يَقَعُ عَنْ الصَّرْفِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالِافْتِرَاقِ ، أَوْ عَنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَبْطُلَ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ ،

إمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْقُودَ مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ ، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ ، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ ، وَإِمَّا إنْ سَكَتَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ يَقَعُ عَنْهَا وَيَجُوزُ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِهِمَا فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْحِلْيَةِ أَيْضًا وَجَازَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ التَّصَرُّفِ مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَقَبْضَ الْبَيْعِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَيُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيُمْكِنُ إيقَاعُ الْمَنْقُودِ كُلِّهِ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَالِحُ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا يَقَعُ عَنْ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا ؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُسْتَحَقٌّ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ يَقَعُ عَنْ الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تَدْخُلُ فِي اسْمِ السَّيْفِ .
وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُ الْفِضَّةِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَقَعُ عَنْ ثَمَنِ الْمَذْكُورِ ، وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَصُرِفَ بِفَسَادِ الصَّرْفِ وَإِذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرٍ ضَرَرٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ فَسَادِ الصَّرْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ السَّيْفِ بِانْفِرَادِهِ ؟ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ فَالْمَنْقُودُ يَقَعُ عَنْ ثَمَنِ الصَّرْفِ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ جَمِيعًا ؛

لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِجَوَازِ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّيْفِ بِدُونِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَيَجُوزَانِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَكَذَلِكَ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ فَإِنْ كَانَتْ حِلْيَةُ السَّيْفِ ذَهَبًا اشْتَرَاهُ مَعَ حِلْيَتِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْقَبْضِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا يَخْتَلِفَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ .

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَهِبَتِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ قَبُولِهِ وَإِنْ قَبِلَ انْتَقَضَ الصَّرْفُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَصِحَّ وَيَبْقَى الصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ مُسْتَحَقٌّ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ إسْقَاطُهُ ، وَالدَّيْنُ بَعْدَمَا سَقَطَ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَدَلِ جَعْلُ الْبَدَلِ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا كَصَرِيحِ الْفَسْخِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَقِيَ عَقْدُ الصَّرْفِ عَلَى حَالِهِ فَيَتِمُّ بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا ، وَلَوْ أَبَى الْمُبْرِئُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَبْرَأَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَبْضِ يُرِيدُ فَسْخَ الْعَقْدِ ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ .

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَالصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ يُقْبَضُ الْبَدَلُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَيَتِمُّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُهُ غَيْرُهُ ، وَقَالَ زُفَرُ : إنَّ الِاسْتِبْدَالَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِعَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِمِثْلِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْبَدَلِ بِالِاسْتِبْدَالِ بَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ .
( وَالْجَوَابُ ) عَنْهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَقَبْضُهَا وَاجِبٌ ، وَبِالْمُقَاصَّةِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُقَاصَّةُ فَبَقِيَ الشِّرَاءُ بِهَا إسْقَاطًا لِلْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَبَقِيَ الصَّرْفُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا بَقَاؤُهُ عَلَى الصِّحَّةِ عَلَى الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ دَرَاهِمَ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ مِنْ حَقِّهِ فَرَضِيَ بِهِ ، وَالْمَقْبُوضُ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الدَّرَاهِمِ الْوَاجِبَةِ بِالْعَقْدِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ بَيْنَ النَّاسِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ جِنْسِهِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي الْوَصْفُ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَكَانَ اسْتِيفَاءً لَا اسْتِبْدَالًا .

وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَاضِرًا وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِهِ وَالصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَجْلِسِ فَالصَّرْفُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَإِنْ افْتَرَقَ الْمُتَصَارِفَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَلَكَ الرَّهْنُ بَطَلَ الصَّرْفُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي السَّلَمِ .
وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَافْتِرَاقِهِمَا عَنْهُ لَا لِبَقَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ رَجُلًا أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْمُوَكِّلَيْنِ بَقَاءً وَافْتِرَاقًا لَا مَجْلِسُ الْوَكِيلِ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُقَاصَّةُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ فِي السَّلَمِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَبَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فِيهِ بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاضَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فِي السَّلَمِ .

ثُمَّ قَبْضُ الصَّرْفِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا هُوَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ فَقَبْضُهُمَا فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِقَالَةِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مَضَتْ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِهِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ مُصَارَفَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا إنْ كَانَتْ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ .
وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ ، هَهُنَا ثَالِثٌ فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّ قَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَيْبًا وَهُوَ عَيْنٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى قُلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّدُّ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَارِقَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَإِعَادَةُ الْمَالِكِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبْضِ ، وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ ثَالِثٍ ، وَحَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَبْضُ يُعْتَبَرُ ثَالِثًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ .

وَأَمَّا التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَعَيَّنَا الْبَدَلَيْنِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا ، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَرْطٌ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، عِنْدَنَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ ، وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ } ، وَبِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ } ؛ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ؛ لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَأَشْبَهَ فَضْلَ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِوُجُوبِ التَّقَابُضِ وَلِهَذَا صَارَ شَرْطًا فِي الصَّرْفِ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَغَيْرِ ذَلِكَ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ بِدُونِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ ، وَاسْتَثْنَى التِّجَارَةَ عَنْ تَرَاضٍ فَيَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِي التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّقَابُضِ ؛ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَدًا بِيَدٍ } غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَإِنْ حَمْلَهَا عَلَى الْقَبْضِ

؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقَبْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى التَّعْيِينِ ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ التَّعْيِينِ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ سَبَبُ التَّعْيِينِ .
وَعِنْدَنَا التَّعْيِينُ شَرْطٌ فَسَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الصَّرْفِ : إنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هُوَ التَّعْيِينُ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَشَرَطْنَا التَّقَابُضَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلْقَبْضِ ، وَهَهُنَا التَّعْيِينُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَقَوْلُهُ : الْمَقْبُوضُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا قُلْنَا : هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ .
فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِيهِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَخِيَارُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَتَّى افْتَرَقَا تَقَدَّرَ الْفَسَادُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِدَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ الْأَجَلِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا .
فَإِنْ شَرَطَاهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَالْأَجَلُ يُعْدِمُ الْقَبْضَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْأَجَلِ أَجَلَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَنَقَدَ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهَاتَانِ الشَّرِيطَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَرْعِيَّتَانِ لِشَرِيطَةِ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْقَبْضِ وَالْأُخْرَى فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ التِّبْرُ وَالنُّقْرَةُ وَالْمَصُوغُ .
وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ عَلَى عَيْنِ الْمَرْدُودِ ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ فَيُطَالِبُهُ بِآخَرَ هَكَذَا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، وَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الصَّرْفِ

عَيْنًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنٍ أُخْرَى فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَيَثْبُتُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ إلَّا أَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ ، سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ كَاسِدَةً أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التُّجَّارِ فَرَدُّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ حَتَّى لَوْ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ .
وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ إذَا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّلَمِ ، وَخِيَارُ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُبْطِلُ الصَّرْفَ أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ ، وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ قَائِمٌ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ ، ثُمَّ إذَا اسْتَحَقَّ أَحَدَ بَدَلَيْ الصَّرْفِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، فَإِنْ كَانَ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَالْبَدَلُ قَائِمٌ ، أَوْ ضَمِنَ النَّاقِدُ وَهُوَ هَالِكٌ جَازَ الصَّرْفُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا كَانَ بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ ، وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ ، وَإِذَا كَانَ هَالِكًا ضَمِنَ النَّاقِدُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهُ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ ضَمِنَ الْقَابِضُ قِيمَتَهُ وَهُوَ هَالِكٌ بَطَلَ الصَّرْفُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ قَبْضَهُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْقَبْضَ فَجَازَ

الصَّرْفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَالْوَضِيعَةِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ بَيْعٍ وَبَيْعٍ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَالْمُرَابَحَةُ ابْتِغَاءٌ لِلْفَضْلِ مِنْ الْبَيْعِ نَصًّا وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ اشْتَرَى سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَ أَحَدُهُمَا ؟ فَقَالَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا } فَدَلَّ طَلَبُ التَّوْلِيَةِ عَلَى جَوَازِهَا .
وَرُوِيَ { أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشَّرِكَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَعْتَقْتُهُ } لَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يَكُنْ لِيَطْلُبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ عَلَى جَوَازِهَا .

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْمُرَابَحَةِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي تَفْسِيرِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ ، وَفِي بَيَانِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ مَا هُوَ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَمَا لَا يَلْحَقُ بِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْمُرَابَحَةِ مِمَّا تُرِكَ بَيَانُهُ يَكُونُ خِيَانَةً ، وَمَا لَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَتُرِكَ بَيَانُهُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ .

وَأَمَّا شَرَائِطُهُ ( فَمِنْهَا ) مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَى أَنْ يَعْلَمَ فِي الْمَجْلِسِ فَيَخْتَارَ إنْ شَاءَ فَيَجُوزَ أَوْ يَتْرُكَ فَيَبْطُلَ أَمَّا الْفَسَادُ لِلْحَالِ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ .
وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِلْخَلَلِ فِي الرِّضَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرْضَى بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِثَمَنٍ يَسِيرٍ وَلَا يَرْضَى بِشِرَائِهِ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ فَلَا يَتَكَامَلُ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ اخْتَلَّ رِضَاهُ ، وَاخْتِلَالُ الرِّضَا يُوجِبُ الْخِيَارَ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ عِبَارَاتِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ فَاسِدٌ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا عُلِمَ ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ ، وَالْإِشْرَاكُ ، وَالْوَضِيعَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَالْمُرَابَحَةُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالْإِشْرَاكُ تَوْلِيَةٌ لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِيُعْلَمَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مِنْهُ .

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جُمْلَةً مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَاقْتَسَمَاهَا ثُمَّ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مُرَابَحَةً أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً لَكِنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْمُتَمَاثِلَاتِ سَاقِطٌ شَرْعًا بَلْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيهَا تَمْيِيزًا لِلنَّصِيبِ وَإِفْرَازًا مَحْضًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا يَصِلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَذَا بَعْدَهَا ، وَإِنْ اشْتَرَيَا جُمْلَةً مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مُرَابَحَةً ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ هَذَا النَّوْعِ مُعْتَبَرَةٌ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ نِصْفَهُ مِلْكُهُ وَنِصْفَهُ بَدَلُ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً كَمَا إذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَنَوْعٍ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَطُولٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَازَ السَّلَمُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَحَلَّ الْأَجَلُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ بِلَا خِلَافٍ ، فَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لَهُمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ السَّلَمِ ، وَعَقْدُ السَّلَمِ أَوْجَبَ انْقِسَامَ الثَّمَنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ عَلَى الثَّوْبَيْنِ الْمَقْبُوضَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَةً فَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ عَلَيْهِمَا كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ فَحَلَّ السَّلَمُ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ عَيْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً ، وَقَبْضُ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ مَمْلُوكًا بِعَقْدِ السَّلَمِ بَلْ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا ابْتِدَاءً وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَيَجُوزُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَوْلِيَةً مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَحَةِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً وَلَا تَوْلِيَةً مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلَ جِنْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْعَرَضِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ عَلَى قِيمَتِهِ ، وَعَيْنُهُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّقْوِيمِ فِيهَا ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ تَوْلِيَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ .
وَأَمَّا بَيْعُهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ فَيُنْظَرُ إنْ جَعَلَ الرِّبْحَ شَيْئًا مُفْرَدًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ ، وَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُكَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ بِرِبْحِ ده يازده لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ الْعَرَضِ وَالْعَرَضُ لَيْسَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّقَوُّمِ ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ .
وَأَمَّا بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً

مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي يَدِهِ وَمِلْكِهِ ، فَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْوَضِيعَةَ شَيْئًا مُنْفَرِدًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى وَضْعِ ذَلِكَ الْقَدْرِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَإِنْ جَعَلَهَا مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ بَاعَهُ بِوَضْعِ ده يازده جَازَ الْبَيْعُ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مُقَابَلًا بِجِنْسِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَإِنْ كَانَ بِأَنْ اشْتَرَى الْمَكِيلَ أَوْ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ ، وَالزِّيَادَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا تَكُونُ رِبًا لَا رِبْحًا وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً لِمَا قُلْنَا ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ تَوْلِيَةً ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ تَحَقُّقُ الرِّبَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي التَّوْلِيَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَكَذَا الْإِشْرَاكُ ؛ لِأَنَّهُ تَوْلِيَةٌ لَكِنْ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ ، وَلَوْ بَاعَ دِينَارًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا أَوْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَثَوْبٍ كَانَ جَائِزًا كَذَا هَذَا ، وَلَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِرِبْحِ ذَهَبٍ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ بِرِبْحِ قِيرَاطَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ كَأَنَّهُ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطَيْنِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ الْقِيرَاطَانِ بِمِثْلِهِمَا مِنْ الدِّينَارِ وَالْعَشَرَةِ بِبَقِيَّةِ الدِّينَارِ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا تَغْيِيرُ الْمُرَابَحَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ جَعَلَا الْعَشَرَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَالدَّرَاهِمَ رِبْحًا فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ لَصَارَ الْقِيرَاطُ رَأْسَ مَالٍ وَبَعْضُ الْعَشَرَةِ رِبْحًا وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُقَابَلَةِ وَإِخْرَاجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مُرَابَحَةً فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِرِبْحِ دِينَارٍ أَوْ بِرِبْحِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ ، وَالرِّبْحُ يَنْقَسِمُ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ رِبْحَ كُلِّ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمَ عَلَى كُلِّهِ لِيَكُونَ مُرَابَحَةً عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ ، وَمَتَى انْقَسَمَ عَلَى الْكُلِّ كَانَ لِلْحِلْيَةِ حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ لَا مَحَالَةَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ لَا بِالثَّمَنِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ رَأْسِ الْمَالِ فَرَأْسُ الْمَالِ مَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِالْعَقْدِ لَا مَا نَقَدَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا وَجَبَ بِالْبَيْعِ فَأَمَّا مَا نَقَدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَذَلِكَ وَجَبَ بِعَقْدٍ آخَرَ ، وَهُوَ الِاسْتِبْدَالُ فَيَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ لَا الْمَنْقُودَ بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنَقَدَ مَكَانَهَا دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا فَرَأْسُ الْمَالِ هُوَ الْعَشَرَةُ لَا الدِّينَارُ وَالثَّوْبُ ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الَّتِي وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا الدِّينَارُ أَوْ الثَّوْبُ بَدَلُ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ وَنَقَدَ مَكَانهَا الزُّيُوفَ وَتَجَوَّزَ بِهَا الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي نَقْدُ الْجِيَادِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ هِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ ذَكَرَ الرِّبْحَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ : أَبِيعُكَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَشَرَةٌ مِنْ جِنْسِ مَا نَقَدَ ، وَالرِّبْحُ مِنْ دَرَاهِمِ نَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ .
وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ عَشَرَةٌ ، وَهِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مِثْلُهَا ، وَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الرِّبْحَ وَمَا أَضَافَهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ نَقْدُ الْبَلَدِ ، وَإِنْ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى الْعَشَرَةِ بِأَنْ قَالَ : أَبِيعُكَ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَوْ بِرِبْحِ ده يازده فَالْعَشَرَةُ وَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَمَّا إذَا قَالَ : بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ فَلِأَنَّهُ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى تِلْكَ الْعَشَرَةِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : بِرِبْحِ ده يازده فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا

مِنْ الْعَشَرَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِهَا ضَرُورَةً وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْأَوَّلَ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَقَبِلَ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا فَكَانَ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ لِوُجُوبِهِمَا بِالْعَقْدِ تَقْدِيرًا فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِمَا .
وَكَذَا لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّانِي بَعْدَ الْحَطِّ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ أَيْضًا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ رَأْسَ الْمَالِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي حَطَّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ .
وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ فَيَحُطُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيَحُطُّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الرِّبْحِ يَنْقَسِمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا حَطَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لَا بُدَّ مِنْ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُسَاوَمَةً ثُمَّ حَطَّ عَنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ أَنَّهُ لَا يَحُطُّ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُسَاوَمَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى الْقِيمَةِ نِصْفَيْنِ ؟ وَلَوْ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57