كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ فَمَكَانُ الْإِحْرَامِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمِيقَاتِ فَنَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ : وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ .
وَالنَّاسُ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ صِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْآفَاقِ ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَمْسَةٌ ، كَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عَرْقٍ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ } .
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحِلِّ ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَأَهْلِ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحَرَمِ ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ ، أَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فَمِيقَاتُهُمْ مَا وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُجَاوِزَ مِيقَاتَهُ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُقِّتَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَيَّدًا ، وَذَلِكَ إمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ ، وَقَالَ : إنِّي أَحْرَمْتُ بَعْدَ الْمِيقَاتِ ، فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَك

فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا } ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِمُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ دُخُولَ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا مُحْرِمًا ، سَوَاءٌ أَرَادَ بِدُخُولِ مَكَّةَ النُّسُكَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ حَاجَةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ دَخَلَهَا لِلنُّسُكِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ ، وَإِنْ دَخَلَهَا لِحَاجَةٍ جَازَ دُخُولُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ تَجُوزُ السُّكْنَى بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَالدُّخُولُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ دُونَ السُّكْنَى ، .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } الْحَدِيثَ .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا بِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ ، وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ : لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَالثَّالِثُ بِقَوْلِهِ : ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } ، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ شَرِيفَةٌ لَهَا قَدْرٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالدُّخُولُ فِيهَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ عِبَادَةٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ ، وَأَهْلُ مَكَّةَ بِسُكْنَاهُمْ فِيهَا جُعِلُوا مُعَظِّمِينَ لَهَا بِقِيَامِهِمْ بِعِمَارَتِهَا وَسَدَانَتِهَا وَحِفْظِهَا وَحِمَايَتِهَا ؛ لِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ السُّكْنَى ، وَكُلَّمَا قُدِّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ هُوَ أَفْضَلُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ

الْإِحْرَامُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَوْقَاتِهَا ، وَتَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ دُونَ الْجَوَازِ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ ، وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَا تَأَخَّرَ ، وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، } هَذَا إذَا قَصَدَ مَكَّةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَهَا مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ إذَا بَلَغَ مَوْضِعًا يُحَاذِي مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَاذَى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ صَارَ فِي حُكْمِ الَّذِي يُحَاذِيهِ فِي الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَحْرِ فَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْبَحْرِ بَرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إلَّا بِإِحْرَامٍ ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ .
كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَلَوْ حَصَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ ، وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَّتْنَا لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ

وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ } ، وَلِأَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْمُجَاوَزَةِ حُكْمَهُمْ ، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ جَازَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : إذَا مَرُّوا عَلَى الْمَدِينَةِ فَجَاوَزُوهَا إلَى الْجُحْفَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَصَلُوا فِي الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُمْ مُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهَا ، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَجَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَجَاوَزَهُ مُحْرِمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَأَحْرَمَ الْتَحَقَتْ تِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ بِالْعَدَمِ ، وَصَارَ هَذَا ابْتِدَاءَ إحْرَامٍ مِنْهُ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ ، وَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ ، وَجِنَايَتُهُ لَا تَنْعَدِمُ بِعَوْدِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ الَّذِي وَجَبَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا ، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، وَلَمْ

يُلَبِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا ، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ ، وَبَعْدَ مَا عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَقَدْ جَاوَزَهُ مُحْرِمًا ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ : ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ أَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا ، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْمُجَاوَزَةِ هُوَ التَّلْبِيَةُ ، فَلَا يَقَعُ تَدَارُكُ الْفَائِتِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، ثُمَّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَارَ ذَلِكَ مِيقَاتًا لَهُ .
وَقَدْ لَبَّى مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَلْبِيَةٌ ، وَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ مِيقَاتُهُ الْمَكَانَ الَّذِي تَجِبُ التَّلْبِيَةُ مِنْهُ ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ إنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَمَا جَنَى عَلَيْهِ ، بَلْ تَرَكَ حَقَّهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ .
وَقَدْ تَدَارَكَهُ بِالْعَوْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ ، أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ، أَوْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْإِحْرَامُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ الدَّمُ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ ، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي جَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ ، وَعَوْدُهُ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ وَإِلَى مِيقَاتٍ آخَرَ سَوَاءٌ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ :

إنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ الْحَرَمِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ ، وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا عَنْ اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَكِنَّهُ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَانْجَبَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْقَضَاءِ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ ، وَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ وَإِمَّا عُمْرَةٌ ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَتْ الْمُجَاوَزَةُ الْتِزَامًا لِلْإِحْرَامِ دَلَالَةً ، كَأَنَّهُ قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ إحْرَامٌ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، كَذَا إذَا فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ ، كَمَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ قَضَاءً لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْمِيقَاتِ لِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ ، وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ جَبْرًا ، فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ

مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُجْزِئُهُ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَادَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ عُمْرَةِ نَذْرٍ ، سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ عَاد إلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَمَا لَوْ نَذَرَ بِحَجَّةٍ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَكَذَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لُزُومَ الْحَجَّةِ أَوْ الْعُمْرَةِ ثَبَتَ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُهَا بِمُطْلَقِ الْإِحْرَامِ لَا بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا ابْتِدَاءً بِإِحْرَامِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَعَنْ حُرْمَةِ الْمِيقَاتِ ، وَصَارَ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ ، قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ .
وَكَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ مُعْتَكِفًا جَازَ ، وَقَامَ صَوْمُ رَمَضَانَ مَقَامَ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْضِ حَقَّ الْبُقْعَةِ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّهَا فَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ ،

وَصَارَ أَصْلًا ، وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصُمْ ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى قَضَى شَهْرَ رَمَضَانَ مَعَ الِاعْتِكَافِ جَازَ ، فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ حَتَّى دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ فِيهِ قَضَاءً عَمَّا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ صَارَ أَصْلًا وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَإِذَا صَارَ إلَى وَقْتٍ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَيْهِ صَارَ تَأْخِيرُهَا كَتَفْوِيتِهَا ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ فَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ سَبَبُ الْوُجُوبِ .
فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ جَازَ عَنْ الدُّخُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ فِي سَنَتِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ الثَّانِي صَارَ دَيْنًا ، فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ ، هَذَا إذَا جَاوَزَ أَحَدَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ لِحَاجَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ لِحُرْمَةِ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ وَتَمْيِيزًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ ، فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ الْبَيْتَ لَمْ يَصِرْ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ أَوْ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ

، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِوُصُولِهِ إلَى أَهْلِ الْبُسْتَانِ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبُسْتَانِ ، وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لَهُ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذَا هُوَ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِحْرَامُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ بِنِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَلِبْسَتَانِ حُكْمُ الْوَطَنِ فِي حَقِّهِ إلَّا بِنِيَّةِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .

وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ أَوْ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا حِينَ سُئِلَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُجَاوِزُوا مِيقَاتَهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمِينَ ، وَالْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَيَجُوزُ إحْرَامُهُمْ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ الْحِلِّ كَمَا يَجُوزُ إحْرَامُ الْآفَاقِيِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ مِيقَاتِهِ ، فَلَوْ جَاوَزَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِيقَاتَهُ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ أَوْ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ ، فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ .
وَكَذَلِكَ الْآفَاقِيُّ إذَا حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ ، أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبُسْتَانِ ، وَكَذَلِكَ الْبُسْتَانِيُّ أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ مِيقَاتَ أَهْلِ الْآفَاقِ .
وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ ، وَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِيقَاتِ وَمَا بَعْدَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الثَّالِثِ : إذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً ، وَالصَّحِيحُ : قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { رَخَّصَ

لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } ، وَعَادَةُ الْحَطَّابِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمِيقَاتَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قَدِيدٍ ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ فِتْنَةٍ بِالْمَدِينَةِ ، فَرَجَعَ وَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَرَمِ فَيَلْحَقُ بِهِ ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ الدُّخُولِ إلَّا بِإِحْرَامٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا .

وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ : الْحَرَمُ ، وَلِلْعُمْرَةِ : الْحِلُّ فَيُحْرِمُ الْمَكِّيُّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِلْحَجِّ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ ، وَيُحْرِمُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ .
أَمَّا الْحَجُّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجُّ مُرَادًا فِي حَقِّهِمْ .
وَرُوِيَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَمَرَهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ } ، وَإِنْ نُسِخَ فَالْإِحْرَامُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُنْسَخْ .
وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ لَكِنْ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ ، وَإِتْيَانُ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى كَالصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ مَكَّةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَتْ : أَكُلُّ نِسَائِكَ يَرْجِعْنَ بِنُسُكَيْنِ ، وَأَنَا أَرْجِعُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَعْتَمِرَ بِهَا مِنْ التَّنْعِيمِ } ، وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي أَفْعَالِهِ الْحِلُّ وَالْحُرُمُ ، فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ، وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِمَكَّةَ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي أَفْعَالِهَا الْحِلُّ وَالْحَرَمِ ، بَلْ يَجْتَمِعُ كُلُّ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ ، وَهَذَا خِلَافُ عَمَلِ الْإِحْرَامِ فِي الشَّرْعِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ التَّنْعِيمِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْهُ .
وَكَذَا أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُحْرِمُونَ لِعُمْرَتِهِمْ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَصَلَ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ لِلْحَجِّ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ ، وَيُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحِلِّ ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَكِّيُّ مِيقَاتَهُ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ مِنْ الْحِلِّ وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ، إلَّا إذَا عَادَ ، وَجَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ ، لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ لِلِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالْعَوْدِ إلَيْهَا ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُحْرَمُ بِهِ ، فَمَا يُحْرَمُ بِهِ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : الْحَجُّ وَحْدَهُ ، وَالْعُمْرَةُ وَحْدَهَا ، وَالْعُمْرَةُ مَعَ الْحَجِّ ، وَعَلَى حَسَبِ تَنَوُّعِ الْمُحْرَمِ بِهِ يَتَنَوَّعُ الْمُحْرِمُونَ ، وَهْم فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ ، وَمُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ ، وَجَامِعٌ بَيْنَهُمَا ، فَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ هُوَ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَا غَيْرُ ، وَالْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ هُوَ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ .
وَأَمَّا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَنَوْعَانِ : قَارِنٌ ، وَمُتَمَتِّعٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، وَبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ ، وَبَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُحْرَمُ بِهِ : أَنَّهُ الْإِفْرَادُ أَوْ الْقِرَانُ أَوْ التَّمَتُّعُ .
أَمَّا الْقَارِنُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يَجْمَعُ بَيْنَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ ، فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ ، سَوَاءٌ جَمَعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ أَوْ مَفْصُولٍ ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِ كَانَ قَارِنًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِرَانِ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ وَشَرْطِهِ ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْحَجِّ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِ لَا يَكُونُ قَارِنًا ، بَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُجُودِ مَعْنَى التَّمَتُّعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ كُلِّهِ وَهُوَ الطَّوَافُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ ، أَوْ أَكْثَرِهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَمَتِّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ يَكُونُ قَارِنًا

لِإِتْيَانِهِ بِمَعْنَى الْقِرَانِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ ؛ إذْ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجَّةِ فِي الْفِعْلِ فَكَذَا فِي الْقَوْلِ ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُنْظَرُ ، إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا ثُمَّ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ وَيَسْعَى لَهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ ، فَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ ، وَمَضَى إلَى عَرَفَاتٍ ، وَوَقَفَ بِهَا صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاضَ لِأَجْلِ الْحَجَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا قَدِمَتْ مَكَّةَ مُعْتَمِرَةً فَحَاضَتْ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ ، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ ، وَاصْنَعِي فِي حَجَّتِكِ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ } ، وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ الِارْتِفَاضِ ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ لِلْحَجِّ فَيَتَضَمَّنُ ارْتِفَاضَ الْعُمْرَةِ ضَرُورَةً ، لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ ، وَهَلْ يَرْتَفِضُ بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ ؟ ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِضُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ ، فَقَالَ : الْقِيَاسُ أَنْ يَرْتَفِضَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَرْتَفِضُ ، عَنَى بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَهُ ، كَذَا هَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ تَرْتَفِضَ عُمْرَتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ : لَا يَرْتَفِضَ مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَاتٍ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، وَأَدَاءُ الْجُمُعَةِ يُنَافِي بَقَاءَ

الظُّهْرِ فَكَذَا مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ إذْ الثَّابِتُ ضَرُورَةً شَيْءٌ مُلْحَقٌ بِهِ ، وَهَهُنَا التَّوَجُّهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُقُوفِ بِهَا ، لَكِنَّ الْوُقُوفَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْعُمْرَةِ صَحِيحَةً ، فَإِنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ تَبْقَى صَحِيحَةً مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْعَالِ ، فَمَا لَمْ تُوجَدْ أَرْكَانُ الْحَجِّ قَبْلَ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ لَا يُوجَدُ فَوَاتُ التَّرْتِيبِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، فَأَمَّا التَّوَجُّهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، فَلَا يُوجِبُ فَوَاتَ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ فِي الْفِعْلِ ، إذْ السُّنَّةُ هِيَ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَإِذَا تَرَكَ التَّقْدِيمَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْبِدْعَةُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ لَكِنْ لَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَتْمًا ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَهُوَ طَوَافُ اللِّقَاءِ لَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النُّسُكِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ السُّنَّةَ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ دُونَ الْفَسَادِ ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ ، وَالْقِرَانُ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ ، وَلَوْ رَفَضَهَا يَقْضِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا ؛ لِأَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ فَسْخٌ لِلْإِحْرَامِ بِهَا ، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ إدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَذَا يُوجِبُ الدَّمَ فَهَذَا أَوْلَى ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ : فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ، وَيَأْتِي بِأَفْعَالِهَا مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، أَوْ يَأْتِي بِأَكْثَرِ رُكْنِهَا .
وَهُوَ الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلْمَامًا صَحِيحًا ، فَيَحْصُلَ لَهُ النُّسُكَانِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، سَوَاءٌ حَلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ ، أَوْ لَمْ يَحِلَّ ، إذَا كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ لِمُتْعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بَيْنَهُمَا .
وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَصَارَ الْمُتَمَتِّعُ نَوْعَيْنِ : مُتَمَتِّعٌ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ، وَمُتَمَتِّعٌ سَاقَ الْهَدْيَ فَاَلَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا تَحَلَّلَ صَارَ حَلَالًا كَسَائِرِ الْمُتَحَلِّلِينَ إلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَحَلَّلَ مِنْ الْعُمْرَةِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا أَيْ لَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ بِالْأَهْلِ يُفْسِدُ التَّمَتُّعَ .
وَأَمَّا الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ التَّحَلُّلُ ، وَسَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَلُّلِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ } ، وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرَامِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِقْ } .
وَرُوِيَ {

أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا قَالُوا لَهُ : إنَّكَ لَمْ تَحِلَّ ، فَقَالَ : إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ مِنْ إحْرَامِي إلَى يَوْمِ النَّحْرِ } .
وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَتَحَلَّلْتُ كَمَا أَحَلُّوا } فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ الْحِلِّ سَوْقُ الْهَدْيِ ، وَلِأَنَّ لِسَوْقِ الْهَدْيِ أَثَرًا فِي الْإِحْرَامِ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِحْرَامِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي حَالِ الْبَقَاءِ حَتَّى يَمْنَعَ مِنْ التَّحَلُّلِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهَا عِنْدَنَا ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ رُكْنِهَا أَوْ بِأَكْثَرِ الرُّكْنِ فِي الْأَشْهُرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا : الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي الْأَشْهُرِ ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْأَشْهُرِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ أَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي الْأَشْهُرِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَكَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ بَلْ وُجِدَ بَعْضُهَا فِي الْأَشْهُرِ .
وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِرُكْنٍ ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فَتُوجَدُ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْأَشْهُرِ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَلَا لِأَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ : قِرَانٌ وَلَا تَمَتُّعٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ قِرَانُهُمْ وَتَمَتُّعُهُمْ .
وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } جَعَلَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ ثُمَّ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْحِلِّ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحُضُورِ لَهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ .
وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مَنَازِلُهُمْ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ ، وَلَا قِرَانٌ ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثَبَتَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالْحَجِّ ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِيهَا رُخْصَةٌ لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ نَظَرًا لَهُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ .
وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ فَلَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثُمَّ رُخِّصَ ، وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَبَقِيَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ أَنْ تَحْصُلَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ

لِلْمُتَمَتِّعِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا .
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُلِمُّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ التَّمَتُّعِ فِي حَقِّهِ .
وَلَوْ جَمَعَ الْمَكِّيُّ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، لَكِنْ دَمُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ لَا دَمُ نُسُكٍ ، شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَلَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا ، وَعِنْدَهُ هُوَ دَمُ نُسُكٍ ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَيَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَدَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ، وَهُوَ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ مُحْرِمًا حَتَّى تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا ، فَإِنْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَا دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُمْ مِيقَاتَهُ ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَتُّعُ إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا : إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَلَوْ أَحْرَمَ مَنْ لَا تَمَتُّعَ لَهُ مِنْ الْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَلْزَمُهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ ، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ ثُمَّ يُنْظَرُ : إنْ

أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ رَأْسًا فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا ، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنْ الْحَجَّةِ فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ ، وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ ، وَيَمْضِي عَلَى حَجَّتِهِ ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ دَمٌ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِمَا نَذْكُرُ ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ جَمِيعَ الطَّوَافِ أَوْ أَكْثَرَهُ لَا يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ ، بَلْ يَرْفُضُ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مُؤَدَّاةٌ ، وَالْحَجَّ غَيْرُ مُؤَدًّى فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ امْتِنَاعًا عَنْ الْأَدَاءِ ، وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ دُونَ إبْطَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لَهَا شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً يَرْفُضُ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَدْنَى ، وَأَخَفُّ مُؤْنَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ الْحَجَّةَ الصُّغْرَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ، وَالْأَكْثَرُ غَيْرُ مُؤَدًّى ، وَالْأَقَلُّ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْضَ الْحَجَّةِ امْتِنَاعٌ مِنْ الْعَمَلِ ، وَرَفْضَ الْعُمْرَةِ إبْطَالٌ لِلْعَمَلِ ، وَالِامْتِنَاعُ دُونَ الْإِبْطَالِ فَكَانَ أَوْلَى ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَجِّ عَمَلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلَّا الْإِحْرَامُ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَدَاءِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا يَكُونُ رَفْضُ الْحَجِّ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ بَلْ يَكُونُ امْتِنَاعًا ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَدْ أَدَّى مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ ، وَكَانَ رَفْضُهَا إبْطَالًا

لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَمَلِ ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا ، وَإِذَا رَفَضَ الْحَجَّةَ عَنْهُ فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ ، وَقَضَاءُ حَجَّةٍ ، وَعُمْرَةٍ ، وَإِذَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ عُمْرَةٍ فَرَفَضَهَا ، فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ ، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانُهَا قَضَاءً ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا يَقْضِيهَا .
وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ حَجَّةٍ فَرَفَضَهَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا لُزُومُ الدَّمِ لِرَفْضِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعُمْرَةِ .
وَأَمَّا لُزُومُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ ، فَأَمَّا الْحَجَّةُ فَلِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِعَدَمِ إتْيَانِهِ بِأَفْعَالِ الْحَجَّةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَحْرَمَ فِيهَا فَصَارَ كَفَائِتِ الْحَجِّ ، فَيَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ كَمَا يَلْزَمُ فَائِتُ الْحَجِّ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ مِنْ سَنَتِهِ فَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا فَمَضَى فِيهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ فَقَدْ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي أَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، لَكِنَّهُ يَكُونُ دَمَ كَفَّارَةٍ لَا دَمَ مُتْعَةٍ ، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا .
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَزِمَتَاهُ جَمِيعًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا إحْدَاهُمَا ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِعِبَادَتَيْنِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا جَمِيعًا ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ أَوْ صَوْمَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ

الْمُضِيَّ فِيهِمَا مُمْكِنٌ فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهِمَا كَمَا لَوْ نَوَى صَوْمًا وَصَلَاةً ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي وَقْتَيْنِ ، فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا ، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ ، إذَا قَتَلَ صَيْدًا عِنْدَهُمَا يَجِبُ جَزَاءَانِ لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِهِمَا جَمِيعًا .
وَعِنْدَهُ يَجِبُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي وَقْتِ ارْتِفَاضِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْتَفِضُ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بِلَا فَصْلٍ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ : فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يَرْتَفِضُ إذَا قَصَدَ مَكَّةَ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْتَفِضُ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِالطَّوَافِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ فَأَدَّاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَرَغَ مِنْهَا ، وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْله حَلَالًا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ بَلْ يَكُونُ مُفْرِدًا بِعُمْرَةٍ ، وَمُفْرَدًا بِحَجَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَعْرِفُ الْإِلْمَامَ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ مَعْنَاهُ لُغَةً فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْقُرْبُ ، يُقَالُ : أَلَمَّ بِهِ أَيْ قَرُبَ مِنْهُ .
وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ حُكْمَهُ شَرْعًا ، فَحُكْمُهُ أَنْ يَمْنَعَ التَّمَتُّعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَحَّ تَمَتُّعُهُ ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ ، وَطَاوُسٍ ، وَعَطَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا كَذَلِكَ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ رَأْيًا

وَاجْتِهَادًا ، فَالظَّاهِرُ سَمَاعُهُمْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ثَبَتَ رُخْصَةً لِيَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ ، وَيَصِلَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُنَافِي النُّسُكَ ، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ ، وَلَمَّا أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مُرَافِقُ الْوَطَنِ فَبَطَلَ الِاتِّصَالُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَلَوْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى ، وَحَجَّ كَانَ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعُمْرَةِ الْأُولَى قَدْ سَقَطَ بِإِلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالثَّانِيَةِ ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجَّةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا .
وَلَوْ كَانَ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ فِي أَهْلِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَلْقِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْحَرَمَ شَرْطًا لِجَوَازِ الْحَلْقِ - وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - لَا بُدَّ مِنْ الْعَوْدِ ، وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا ، وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ كَانَ الْعَوْدُ مُسْتَحَبًّا إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا .

وَأَمَّا الْإِلْمَامُ الْفَاسِدُ الَّذِي لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ فَهُوَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، حَتَّى لَوْ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ حَتَّى لَوْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِلْمَامُ بِالْأَهْلِ قَدْ وُجِدَ ، وَالْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ جَازَ لَهُ ذَبْحُ الْهَدْيِ هَهُنَا ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَوْدُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ .
وَلَوْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ كَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِلْمَامِ ، فَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ كَالْقَارِنِ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ التَّمَتُّعِ بِالْإِلْمَامِ الصَّحِيحِ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ ، فَأَمَّا إذَا عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ بِأَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ كَالْبَصْرَةِ مَثَلًا أَوْ نَحْوِهَا ، وَاِتَّخَذَ هُنَاكَ دَارًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْ ، تَوَطَّنَ بِهَا أَوْ لَمْ يَتَوَطَّنْ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا وَمَا إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا سَوَاءٌ .
وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَلُحُوقُهُ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ ، وَلُحُوقُهُ بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا

جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، وَوَصَلَ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِوُجُودِ إنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ لَا يُبْطِلُ السَّفَرَ الْأَوَّلَ ، مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْزِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ فِي سَفَرِهِ يُعَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ سَفَرًا وَاحِدًا مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْزِلِهِ ، وَلَمْ يَعُدْ هَهُنَا فَكَانَ السَّفَرُ الْأَوَّلُ قَائِمًا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَّةَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَيَلْزَمُهُ هَدْيُ الْمُتْعَةِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ وَحَلَّ مِنْهَا ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهَا : لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا إلَّا بِحُصُولِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ ، وَلَمَّا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْعُمْرَةُ وَالْحَجَّةُ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَلَوْ قَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فَإِنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ وَحَلَّ مِنْهَا وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِأَهْلِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ ، وَحَلَّ مِنْهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْحَرَمِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ ،

وَإِنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ ، وَحَلَّ مِنْهَا ، وَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ ، وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَّةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَأَنَّهُ لَحِقَ بِأَهْلِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ صَارَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَبَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ السَّفَرِ ، ثُمَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ كَانَ هَذَا إنْشَاءَ سَفَرٍ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ نُسُكَانِ فِي هَذَا السَّفَرِ ، وَهُوَ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ مُسَافِرًا فَهُوَ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقِيًا ، فَلَا عِبْرَةَ بِقُدُومِهِ الْبَصْرَةَ ، وَاِتِّخَاذِهِ دَارًا بِهَا ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ مَكَّةَ ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ ، وَذَلِكَ دَلِيلُ إلْحَاقِهِ بِأَهْلِ مَكَّةَ ، فَصَارَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّتَيْنِ لِصَيْرُورَةِ مِيقَاتِهِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا

لِوُجُودِ الْإِلْمَامِ بِمَكَّةَ كَمَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ، وَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى أَقْرَبِ الْآفَاقِ ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ ، وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ فَقَدْ قَطَعَ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بِابْتِدَاءِ سَفَرٍ آخَرَ فَانْقَطَعَ حُكْمُ كَوْنِهِ بِمَكَّةَ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَى مَكَّةَ وَقَضَى الْعُمْرَةَ ، وَحَجَّ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ النُّسُكَانِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا ، هَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ .
فَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَحُكْمُهُ كَمَكِّيٍّ تَمَتَّعَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَكُونُ مُسِيئًا ، وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ .
وَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ .
فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ خَارِجَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ،

وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، لَهُمَا أَنَّ لُحُوقَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ لُحُوقِهِ بِأَهْلِهِ .
وَلَوْ لَحِقَ بِأَهْلِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هَذَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَتْهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ ؛ لِأَنَّهَا أَدْرَكَتْهُ خَارِجَ الْمِيقَاتِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَدْرَكَتْهُ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا شَرْعًا عَنْ التَّمَتُّعِ ، وَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ حَتَّى يَلْحَقَ بِأَهْلِهِ .
وَلَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ، وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، فَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ اعْتَمَرَ ، وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ حَلَالًا ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحٌ ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَ مَا طَافَ أَكْثَرَ طَوَافِ عُمْرَتِهِ أَوْ كُلَّهُ ، وَلَمْ يَحِلَّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ ، وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ عُمْرَتِهِ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّهُ أَدَّى الْعُمْرَةَ بِسَفَرَيْنِ ، وَأَكْثَرُهَا حَصَلَ فِي السَّفَرِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ ، وَلَهُمَا أَنَّ

إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يَصِحَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْعَوْدُ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَذَا لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَمِنْ نِيَّتِهِ التَّمَتُّعُ ، وَسَاقَ الْهَدْيَ لِأَجْلِ تَمَتُّعِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يَصِحَّ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَأَحْرَمَ بِهَا لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهَا لِلْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْإِلْمَامُ بِأَهْلِهِ بَيْنَ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ ، فَمَنَعَ التَّمَتُّعَ كَالْكُوفِيِّ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَسَوَاءٌ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ لَمْ يَسُقْ ، يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ ، وَسَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَسَوْقُهُ الْهَدْيَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِخِلَافِ الْكُوفِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ إنَّمَا يَمْنَعُ سَوْقُ الْهَدْيِ صِحَّةَ إلْمَامِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعَوْدُ ، فَصَحَّ إلْمَامُهُ مَعَ السَّوْقِ كَمَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِهِ .
وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ صَحَّ قِرَانُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِلْمَامُ فَصَارَ بِعَوْدِهِ إلَى مَكَّةَ كَالْكُوفِيِّ إذَا قَرَنَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْكُوفَةِ .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قِرَانَ الْمَكِّيِّ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْكُوفَةِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
فَأَمَّا إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، وَهُوَ بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ لَمْ يَصِحَّ قِرَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَصِحُّ لَهُ

التَّمَتُّعُ ، وَلَا الْقِرَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَهْلِهِ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ ، وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى شَوَّالٍ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ حَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَقَدْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ .
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا كَذَا هَذَا ، وَبِمِثْلِهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ فَأَخَّرَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فِي شَوَّالٍ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهَا ، بَلْ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ ، فَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُعْتَدًّا بِهَا عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِسَبَبِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ، أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْهَدْيِ فِي مَوَاضِعَ : فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ ، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ إقَامَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِ الْإِقَامَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ شَاةٌ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ ، وَالْحَاصِلُ : أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ لَكِنَّ الشَّاةَ هَهُنَا مُرَادَةٌ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا : مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْنَاهُ شَاةٌ } إلَّا أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ : أَدْنَاهُ شَاةٌ ، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَعْلَاهُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً } .
وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْبُدْنَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا ، وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الْبَقَرَةِ ، وَالْبَقَرَةُ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الشَّاةِ ، فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ .

وَأَمَّا وُجُوبُهُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أَيْ : فَعَلَيْهِ ذَبْحُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } الْآيَةَ أَيْ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .

وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ، وَلَا وُجُوبَ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
مَعْنَاهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ سَوَاءٌ طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَوْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ، كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخِلَافَ .
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِيَاسَ : أَنْ لَا يَجُوزَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ دَمُ الْمُتْعَةِ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ ، وَمَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لَا يَظْهَرُ النَّقْصُ ، وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجَّةِ فَكَانَ الصَّوْمُ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْعُمْرَةِ لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فَلَمْ يَجُزْ ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ .
كَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ

الْأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ قَدْ نُهِيَ عَنْ الصِّيَامِ فِيهَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّوْمِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا : إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا وَقْتُ الْحَجِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ إذْ الْحَجُّ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ ، وَالْوَقْتُ يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ، وَعَلَى هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ ، وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ، وَقَدْ صَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ بِأَنْ يَصُومَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ ، وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْبَدَلِ وَقْتُ الْيَأْسِ عَنْ الْأَصْلِ لِمَا يَحْتَمِلُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَهُ ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَهُ ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ آخِرُ وَقْتِ هَذَا الصَّوْمِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا مَضَتْ وَلَمْ يَصُمْ فِيهَا فَقَدْ فَاتَ الصَّوْمُ وَسَقَطَ عَنْهُ ، وَعَادَ الْهَدْيُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ يَتَحَلَّلُ ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ : دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، ثُمَّ لَهُ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ يَصُومُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَفِي قَوْلٍ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أَيْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا عَيْنَ وَقْتِ الْحَجِّ لِصَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، إلَّا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِهَذَا الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا رَوَاهُ لَيْسَ وَقْتَ الْحَجِّ ، فَلَا يَكُونُ مَحِلًّا لِهَذَا الصَّوْمِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا يَصُومُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ لَمْ يَصُمْ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اذْبَحْ شَاةً ، فَقَالَ الرَّجُلُ مَا أَجِدُهَا ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ سَلْ قَوْمَكَ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَهُنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا مُغِيثُ أَعْطِهِ عَنِّي ثَمَنَ شَاةٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا .
وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ إلَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَيَصُومُهَا بِمَكَّةَ فَيَجُوزُ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَهْلِيكُمْ ، وَلَنَا هَذِهِ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا رَجَعْتُمْ } مُطْلَقًا ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ ، وَصَامَهَا يَجُوزُ ، وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : إذَا رَجَعْتُمْ مِنْ مِنًى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا فَرَغْتُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَقِيلَ : إذَا أَتَى وَقْتُ الرُّجُوعِ .
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَ مَا صَامَ فَوَجَدَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ

يُقَصِّرَ : يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ ، وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَبَطَل حُكْمُ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ التَّيَمُّمِ .
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ صَحَّ صَوْمُهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَدَلِ ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ قَدْ حَصَلَ ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ ، وَاخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ : إنَّهُ لَيْسَ بِبَدَلٍ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْهَدْيِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا جَوَازَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الرَّازِيّ : إنَّهُ بَدَلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا حَالَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ ، وَجَوَازُهُ حَالَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ بَدَلًا .
وَلَوْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَصَوْمُهُ مَاضٍ ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ الذَّبْحِ عِنْدَنَا ، فَإِذَا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ فَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ .

وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا ، قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وُفِّقَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَيُطْعِمَ مِنْ شَاءَ ، غَنِيًّا كَانَ الْمُطْعَمُ أَوْ فَقِيرًا وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ ، وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ ، وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ لِأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ ، سَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِتَرْكِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ .
وَأَمَّا الْقَارِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ فِي وُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ إنْ وَجَدَ ، وَالصَّوْمُ إنْ لَمْ يَجِدْ ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِهِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتَمَتِّعِ فِيمَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ الدَّمُ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجَّةِ ، وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فَنَحَرَ الْبُدْنَ ، وَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةً فَطَبَخَهَا ، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمِهَا ، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا } .

وَأَمَّا مَكَانُ هَذَا الدَّمِ فَالْحَرَمُ ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَدْيُ الْمُتْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَيْ يُبْعَثُ ، وَيُنْقَلُ إلَيْهِ .

وَأَمَّا زَمَانُهُ فَأَيَّامُ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ ذَبَحَ قَبْلَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ عِنْدَنَا فَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ .

وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ مَا يُحْرِمُ بِهِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ ، ثُمَّ التَّمَتُّعَ ، ثُمَّ الْإِفْرَادَ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ حَجَّةً كُوفِيَّةً ، وَعُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ } فَدَلَّ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ ؛ إذْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ } رَوَاهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي ، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ ، فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقُلْ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ } حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْرُخُ بِهَا صُرَاخًا ، وَيَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، وَتَنْفِي الْفَقْرَ } ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ، وَالتَّمَتُّعَ جَمْعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بِإِحْرَامَيْنِ ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ إتْيَانِ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ ، حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ آفَاقِيَّتَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ الْآفَاقِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتُهُ آفَاقِيَّةٌ ، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةٌ ؛

لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْآفَاقِ ، وَبِالْحَجَّةِ مِنْ مَكَّةَ .
وَالْحَجَّةُ الْآفَاقِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الْمَكِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ ، وَمَا كَانَ أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا ، وَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ .
وَالزِّيَادَةُ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، فَنَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِهِمَا مَرَّةً ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِهِمَا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي بِإِحْدَاهُمَا مَرَّةً ، إذْ تَسْمِيَةُ مَا يُحْرِمُ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّلْبِيَةِ فَرَاوِي الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُسَمِّي الْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ ، فَظَنَّهُ مُفْرِدًا فَرَوَى الْإِفْرَادَ ، وَرَاوِي الْقِرَانِ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَرَوَى الْقِرَانَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ : فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا هُوَ ، وَمِمَّ يَكُونُ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَمْنُوعُ ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْكَسْرِ أَوْ الْعَرَجِ ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ مِنْ إتْمَامِ مَا أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إحْصَارَ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُحْصِرُوا مِنْ الْعَدُوِّ ، وَفِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } وَالْأَمَانُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ ، وَالْمَنْعُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ؛ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ ، وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ الْمَرَضِ ، وَالْحَصْرَ مِنْ الْعَدُوِّ .
فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً فِي الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَمْنَ كَمَا

يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ مِنْهُ أَوْ أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ .
وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قَدْ تَكُونُ أَمَانًا مِنْ الْبَعْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ } ، وَالثَّانِي - أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ مِنْ الْعَدُوِّ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ مِنْ الْمَرَضِ مُرَادًا مِنْهَا ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكِتَابِ ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يُرَى نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } ، وَقَوْلُهُ حَلَّ ، أَيْ : جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ شَرْعًا ، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } ، وَمَعْنَاهُ : أَيْ حَلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ فَكَذَا هَهُنَا مَعْنَاهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا مِنْ الْعَدُوِّ ، وَمِنْ خِصَالِهِ التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ ، وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً .
وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ ، وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ شَرِّ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعُ الْإِحْصَارَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ عُذْرًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ هَذَا عُذْرًا أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ الْمَانِعُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا

لِتَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ .
وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ ، وَغَيْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَمِنْ الْكَافِرِ .
وَلَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ هَلَكَتْ رَاحِلَتُهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ، فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا زَادَ لَهُ وَلَا رَاحِلَةَ ، شَرَعَ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ الشُّرُوعِ كَذَا هَذَا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فِي الْحَالِ ، وَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي لَا يُوصِلُهُ إلَى الْمَنَاسِكِ ، وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مُحْصَرًا فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ أَصْلًا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ مَحْرَمُهَا ، أَوْ أَحْرَمَتْ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا ، وَلَكِنْ مَعَهَا زَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ ، وَلَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا : أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ صَوْمِ

التَّطَوُّعِ فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِمَنْعِ الزَّوْجِ فَصَارَتْ مُحْصَرَةً كَالْمَمْنُوعِ حَقِيقَةً بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ ، وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً ، وَشَرْعًا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَحْرَمَتْ بِإِذْنِ الزَّوْجِ : أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً ، وَتَمْضِي فِي إحْرَامِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا مَحْرَمَ لَهَا ، وَلَا زَوْجَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْمَنْعُ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ الْعِبَادِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ ، وَلَهَا اسْتِطَاعَةٌ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهَا فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ .
وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهَا ، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ .
وَلَوْ أَذِنَ لَا يَعْمَلُ إذْنُهُ فَكَانَتْ مُحْصَرَةً ، وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مُحْصَرَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْمُضِيِّ بِمَنْعِ الزَّوْجِ ، صَارَ هَذَا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ ، وَهُنَاكَ لِلزَّوْجِ

أَنْ يُحَلِّلَهَا ، فَكَذَا هَذَا .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحْصَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ ، وَلَا يَكُونُ الْحَاجُّ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أَيْ : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ بِالْوُقُوفِ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ اسْمٌ لِفَائِتِ الْحَجِّ ، وَبَعْدَ وُجُودِ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ الْوُقُوفُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ عَنْ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، فَإِنْ مُنِعَ حَتَّى مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَالتَّشْرِيقِ ، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ : يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَدَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، وَطَوَافَ الصَّدْرِ ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي مَوْضِعِهَا ، وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا قَدِمَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ إنْ كَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّوَافِ ، وَلَمْ

يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّوَافِ ، مَاذَا حُكْمُهُ ؟ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جَمِيعًا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كَمَا حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْصَرٌ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ ، هَلْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقُلْتُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ : كَانَتْ مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا ، وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا إحْصَارٌ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ أَوْ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ ، بَدَلًا عَنْهُ ، بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، ثُمَّ الْإِحْصَارُ كَمَا يَكُونُ عَنْ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْعُمْرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا إحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَوْتَ ؛

لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهَا ، فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنْهُ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } عَقِيبَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِهِمَا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا هَدْيَهُمْ ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَتَّى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ فِي الْحَجِّ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّضَرُّرِ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا : جَوَازُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْصَارِ وَالثَّانِي : وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ .
أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ ، وَفِي بَيَانِ جَوَازِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ : هُوَ فَسْخُ الْإِحْرَامِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَفِيهِ إضْمَارٌ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْهَدْيِ ، إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } مَعْنَاهُ : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ ، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ .
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مَعْنَاهُ : فَأَفْطَرَ ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
وَكَذَا قَوْلُهُ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } مَعْنَاهُ : فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الِاضْطِرَارِ لَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَذَا هَهُنَا ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ

التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ : .
نَوْعٌ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ ، وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ .
أَمَّا الَّذِي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ : فَكُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً ، أَوْ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ وَهُوَ : أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أَوْ بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَيُذْبَحَ عَنْهُ ، وَمَا لَمْ يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِغَيْرِ ذَبْحٍ عِنْدَ الْإِحْصَارِ ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَيَذْبَحُهُ .
وَيَحِلُّ وَقِيلَ : إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ .
وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا رُوِيَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ } ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرَهُ كَانَ هَدْيًا سَاقَهُ لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ عَلَى النِّيَّةِ الْأُولَى ، وَحَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا : إنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ نَحَرَ دَمَيْنِ ، وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا .
وَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } مَعْنَاهُ : حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ ، نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي

مَحِلِّهِ ، وَهُوَ الْحَرَمُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا ، شَرَطَ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ ، فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ ، إذْ لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ حَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
وَلَكِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ - أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانَ سَاقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ ، فَلَمَّا مُنِعَ عَنْ الْبَيْتِ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قُلْتُمْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَفَ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِهِ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاعَهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصْرِفْ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَصْلًا وَرَأْسًا ، بَلْ صَرَفَهُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ : وَهُوَ الْوَاجِبُ ، وَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ مَا

رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ .
وَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ انْحَرُوا وَحِلُّوا } وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَإِذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ ، أَوْ ثَمَنَهُ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عَنْهُ وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فِيهِ ؛ فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَلَا يَحِلُّ قَبْلَهُ ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ ، فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَكُونَ الْيَوْمُ الَّذِي وَاعَدَهُمْ فِيهِ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قَدْ ذُبِحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ ؛ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَوْ لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ، } أَيْ : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ نُسُكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ : فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : { فِي نَزَلَتْ الْآيَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْلِقْ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ ، وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّاةُ

لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ فِي الْفِدْيَةِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : اُنْسُكْ شَاةً } وَإِذَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ النَّصِّ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَمَّا وَجَبَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ؛ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى .

وَلَا يُجْزِئُ دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ ، وَدَمِ الْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ : فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ ، فَكَذَا الصَّدَقَةُ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ ، إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ " فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ " .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ : هَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ : أَنَّ مَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً ، لَهُ أَنْ يُطْعِمَ ، وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا .

وَلَوْ حَلَّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عَنْهُ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كَمَا كَانَ ، لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يُذْبَحْ عَنْهُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وَهُوَ : ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ ، ثُمَّ الْهَدْيُ : بَدَنَةٌ ، أَوْ بَقَرَةٌ ، أَوْ شَاةٌ ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا .
وَلِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى أَيْ : يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ .
وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْبَدَنَةُ ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ الْبُدْنَ ، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا } وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ : إنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ ، وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ .

وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ ، وَأَيُّهُمَا لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ .
وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْقَارِنِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ مِنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عَنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ الطَّوَافَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ ، فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ .
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، وَالْقِيَاسُ : أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا : تَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ .
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا الْحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ ؛ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّهُ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِدَمٍ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ ، وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا ، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ

بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ ، كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَارِنِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ .

وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ : الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحَرَمِ ؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا .
وَذَلِكَ فِي الذَّبْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا لَهُ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ فَائِدَةٌ ، وَلِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَيْ : إلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ .
بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْسُ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحَرَمِ ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَعْرِضُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ شَاءَ ، فَصَالَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ فِي الْحِلِّ مَعَ إمْكَانِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هُوَ فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا : { نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ ، } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ ، وَلَا يُحْتَمَلُ

أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جَمِيعًا ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحِلِّ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ إلَّا بِذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ ، وَهُوَ : الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ ، فَبَقِيَ مُحْرِمًا كَمَا كَانَ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ فِي تَنَاوُلِهِ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِيهِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وَهُوَ مُفْرِدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، وَيَكُونُ الْآخَرُ تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ فِي حَقِّهِ الزَّمَانُ ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَحِلُّ .

وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَلَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ ، وَلَا ثَمَنَهُ هَلْ يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْهُ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَيُقِيمُ حَرَامًا حَتَّى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ، أَوْ يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ كَمَا يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَهُوَ : أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ : قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِ : إنَّ الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فَقَالَ فِي قَوْلِ : الْبَدَلُ هُوَ الصَّوْمُ مِثْلَ صَوْمِ الْمُتْعَةِ ، وَفِي قَوْلِ : الْبَدَلُ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ لَهُ بَدَلًا أَنَّ هَذَا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ كَدَمِ الْمُتْعَةِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } أَيْ : حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ ، نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ .
وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مَا لَمْ يَذْبَحْ الْهَدْيَ ، سَوَاءٌ صَامَ ، أَوْ أَطْعَمَ ، أَوْ لَا .
وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قَبْلَ إتْمَامِ مَوَاجِبِ الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ .

وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ " وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ " .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " أَرَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " هُوَ وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ " .
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ وَقَالَ : " إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ .
فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ : يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا " ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ } فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ : لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ : مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ ، وَالِاسْتِحْبَابِ .

وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إنَّ الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عَنْهُ إلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَنْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ هَذَا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، فَكَذَا بِالْهَدْيِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا ، فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ ، إذْ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا حُكْمُ التَّحَلُّلِ فَصَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ جَمِيعِ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ لِارْتِفَاعِ الْحَاظِرِ ، فَيَعُودُ حَلَالًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ بِغَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَكُلُّ مُحْصَرٍ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ شَرْعًا لَحِقَ الْعَبْدَ ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الزَّوْجِ ، وَالْمَوْلَى بِأَنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا ، أَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ، فَلِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُمَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّحَلُّلِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ أَمَّا الْجَوَازُ ؛ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ وَمِلْكُهُ عَلَيْهَا فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَوْقِيفِهِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ لِلْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْحَالِ .
وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ الْهَدْيَ ، أَوْ ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ لِيُذْبَحَ عَنْهَا ، لِأَنَّهَا تَحَلَّلَتْ بِغَيْرِ طَوَافٍ ، وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا زَوْجَ لَهَا ، وَلَا مَحْرَمَ ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ فَمَاتَ أَنَّهَا لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ ، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا جَائِزًا لَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا لِأَحَدٍ ، أَلَا تَرَى لَهَا أَنْ تَبْقَى عَلَى إحْرَامِهَا مَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا ، أَوْ زَوْجًا ، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا بِمَا هُوَ الْمَوْضُوعُ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ : ذَبْحُ الْهَدْيِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَكَذَا الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَيَحْتَاجُ إلَى تَصْرِيفِهِ فِي وُجُوهِ مَصَالِحِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ فِي الْحَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي

الْحَرَمِ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيُحَلِّلُهُ الْمَوْلَى لِلْحَالِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ ، وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا أَهْلًا ، إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِحَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ حَقُّهُ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا وَعَدَ وَخُلْفٌ فِي الْوَعْدِ ، فَيُكْرَهُ .
وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ وَهُوَ الْمِلْكُ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَإِذَا حَلَّلَهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَبْدِهِ شَيْءٌ .
وَلَوْ أُحْصِرَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إنْفَاذُ هَدْيٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَلَزِمَهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ حَقٌّ ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ صَارَ مِمَّنْ يُثْبَتُ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، فَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَأُحْصِرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ : أَنَّ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ هَدْيًا فِي الْحَرَمِ فَيَحِلَّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّمَ وَجَبَ لِبَلِيَّةٍ اُبْتُلِيَ بِهَا الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَوْلَى .
وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ ، وَلِهَذَا كَانَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي

مَالِ الْمَيِّتِ إذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ، أَوْ الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ بَاعَهُمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُمَا وَيُحَلِّلَهُمَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَفِي قَوْلِ زُفَرَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِالْعَيْبِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا .
وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، كَذَا حَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ ، وَزُفَرَ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ الَّذِي انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهُ عِنْدَهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ كَذَا الْمُشْتَرِي .
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ فِي مِلْكِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ ، كَذَا هَذَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي الْحَجِّ ثُمَّ بَاعَهُ لَا أَكْرَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُحَلِّلَهَا ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ بِمَنْعِهَا مِنْ السَّفَرِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا .
وَمَنْعُ الْأَمَةِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا ، فَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ ، فَالتَّحَلُّلُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِحْصَارِ يَقَعُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَدْنَى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ

قَصِّ ظُفْرِهِمَا أَوْ تَطْيِيبِهِمَا ، أَوْ بِفِعْلِهِمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، أَوْ بِامْتِشَاطِ الزَّوْجَةِ رَأْسَهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ ، أَوْ تَقْبِيلِهَا ، أَوْ مُعَانَقَتِهَا فَتَحِلُّ بِذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ فِي الْعُمْرَةِ : امْتَشِطِي وَارْفُضِي عَنْك الْعُمْرَةَ } وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِمَا لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، فَجَازَ بِمُبَاشَرَتِهِمَا أَدْنَى مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ ، وَلَا يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِقَوْلِهِ : حَلَلْتُكِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْلِيلٌ مِنْ الْإِحْرَامِ فَلَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ ، كَالرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا أُحْصِرَ فَقَالَ : حَلَلْت نَفْسِي .

وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ لَا غَيْرُ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِهِمَا ، بِأَنْ كَانَ قَارِنًا ، فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحِجَّةِ لَا غَيْرُ ، فَإِنْ بَقِيَ وَقْتُ الْحَجِّ عِنْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، أَحْرَمَ وَحَجَّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ ، وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا فَحَلَّلَهَا ، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ فِي عَامِهَا ذَلِكَ ، أَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَأَحْرَمَتْ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مَا تَحُجُّهُ فِي هَذَا الْعَامِ دَخَلَ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ ؛ لِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالتَّحَلُّلِ فَيَكُونُ قَضَاءً ، فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِلْفَائِتِ عَنْ الْوَقْتِ ، وَوَقْتُ الْحَجِّ بَاقٍ فَكَانَ الْحَجُّ فِيهِ أَدَاءً لَا قَضَاءً ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَفُتْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ

وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ " وَهُوَ الْمَعْنِيُّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ ، إنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ مِثْلَ الْفَائِتِ ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ ، فَمِثْلُهَا الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ ، وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا .
وَلَنَا الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ أَمَّا الْأَثَرُ : فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ : " يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ " وَأَمَّا النَّظَرُ : فَلِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ ، بَلْ فَاتَهُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ قِيلَ : فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ لَا بِالدَّمِ وَالْمُحْصَرُ قَدْ حَلَّ بِالدَّمِ وَقَامَ الدَّمُ مَقَامَ الطَّوَافِ مِنْ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ طَوَافٌ آخَرُ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الدَّمَ الَّذِي حَلَّ بِهِ الْمُحْصَرُ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ لِيُقَالَ : إنَّهُ قَامَ مَقَامَ الطَّوَافِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ هَدْيًا ؛ لَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً ، وَفِيهِ حَرَجٌ وَضَرَرٌ ، فَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْخُرُوجَ مِنْ إحْرَامِهِ ، وَيُؤَخِّرَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُهَرِيقهُ فَحَلَّ بِالدَّمِ وَلَمْ يَبْطُلْ الطَّوَافُ ، وَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الدَّمُ عَنْهُ الطَّوَافَ ، وَلَمْ يُجْعَلْ بَدَلًا عَنْهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ عُمْرَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتٌ لِحَجٍّ ، أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُرِيقُهُ بَدَلًا عَنْهُ ،

لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، فَثَبَتَ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِهِ ، لَا بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ ، فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنْ ثَبَتَ فَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْمَسْكُوتِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ " يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ ، وَالْعُمْرَةِ بِالْعُمْرَةِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا ، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } أَنَّهُ لَا يَنْفِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا ، وَيُحْمَلُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ قَضَاهَا لِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ .

وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ إنْ كَانَ قَارِنًا ؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَتَيْنِ ، أَمَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِوُجُوبِهِمَا بِالشُّرُوعِ .
وَأَمَّا عُمْرَةٌ أُخْرَى فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِنَا .
فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةٌ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ ، وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ إذَا أُحْصِرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ عِنْدَهُ ، فَكَذَا الْقَارِنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا حُكْمُ زَوَالِ الْإِحْصَارِ : فَالْإِحْصَارُ إذَا زَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ زَالَ قَبْلَ بَعْثِ الْهَدْيِ أَوْ بَعْدَ مَا بَعَثَ ، فَإِنْ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ مَضَى عَلَى مُوجِبِ إحْرَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعَثَ الْهَدْيَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ .
إمَّا أَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ ، وَالْحَجِّ ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِهِمَا جَمِيعًا ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ الْحَجِّ ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فَإِنَّ إبَاحَةَ التَّحَلُّلِ لِعُذْرِ الْإِحْصَارِ ، وَالْعُذْرُ قَدْ زَالَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ ، وَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُضِيِّ ، فَتَقَرَّرَ الْإِحْصَارُ فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ إدْرَاكِ الْحَجِّ ، إذْ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْحَجِّ ، فَإِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الذَّهَابِ ، فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ قِيلَ : إنَّ هَذَا الْوَجْهَ الرَّابِعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ، بَلْ يَجُوزُ قَبْلَهَا فَيُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ إدْرَاكِ الْهَدْيِ .
فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْوَجْهُ إلَّا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْحَجَّ فَقَدْ أَدْرَكَ الْهَدْيَ ضَرُورَةً ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ

عِنْدَهُمَا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْهَا لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ ، فَلَمْ يُوجَدْ عُذْرُ الْإِحْصَارِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى فِي سَبِيلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ عَلَى مَنْ بَعَثَ عَلَى يَدِهِ بَدَنَةً ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ مَا ذُبِحَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وَمَا لَا يَحْظُرُهُ ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ .
نَوْعٌ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ ، وَنَوْعٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ ، أَمَّا الَّذِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَأَنْوَاعٌ : .
بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى اللِّبَاسِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ ، وَقَضَاءِ التَّفَثِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْمُحْرِمُ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ جُمْلَةً ، وَلَا قَمِيصًا وَلَا قُبَاءَ ، وَلَا جُبَّةً ، وَلَا سَرَاوِيلَ ، وَلَا عِمَامَةً ، وَلَا قَلَنْسُوَةً ، وَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسُهُمَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : { لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ ، وَلَا الْعَمَائِمَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ ، وَلَا الْبَرَانِسَ ، وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ ، وَلَا الْوَرْسُ ، وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرْبُ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ؟ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَخِيطِ ، فَسُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَعَدَلَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ ، وَأَجَابَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ ، وَهَذَا مَحِيدٌ عَنْ الْجَوَابِ ، أَوْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَذْكُورٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ

يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ ، وَأَضْمَرَ .
( لَا ) فِي مَحِلِّ السُّؤَالِ ؛ لِأَنَّ لَا تَارَةً تُزَادُ فِي الْكَلَامِ ، وَتَارَةً تُحْذَفُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } أَيْ : لَا تَضِلُّوا فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا فَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ .
وَالثَّانِي : يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ غَرَضَ السَّائِلِ وَمُرَادَهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ بَيَانَ مَا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ إحْرَامِهِ ، إمَّا بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ ، أَوْ بِالْوَحْيِ فَأَجَابَ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فَأَجَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } سَأَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَرْزُقَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ الثَّمَرَاتِ .
فَأَجَابَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا ، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مُرَادَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يَرْزُقَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ دُونَ الْكَافِرِ ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ فِي ضَمِيرِهِ كَذَا هَذَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمَخِيطَ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُهُ دَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَيْدٌ عَنْ الْجَوَابِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَيْدُ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ عَنْ الْحَيْدِ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ .
وَالثَّانِي : مِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ حُكْمِ الْمَذْكُورِ ، وَهَهُنَا لَا يُحْتَمَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ أَصْلًا ، وَفِيهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ بِالْحَرِّ ، أَوْ الْبَرْدِ ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي مِثْلِهِ إطْلَاقًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ .
وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } إنَّ جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ النَّهَارِ لِلْكَسْبِ ، وَطَلَبِ الْمَعَاشِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ الْقُوتِ لِلْبَقَاءِ ، وَكَانَ جَعْلُ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ تَعْيِينًا لِلنَّهَارِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، فَأَمَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ .
وَالتَّنْصِيصُ هَهُنَا فِي مَحِلِّ النَّهْيِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ ، وَالتَّرَفُّهِ فِي اللُّبْسِ ، وَحَالُ الْمُحْرِمِ يُنَافِيهِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِسُوءِ حَالِهِ إلَى مَوْلَاهُ يَسْتَعْطِفُ نَظَرَهُ وَمَرْحَمَتَهُ ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ سَيِّدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ } وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ .
فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، بِأَنْ اتَّشَحَ بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ ، وَالتَّرَفُّهِ فِي

اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ .
وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الِارْتِدَاءِ ، وَالِاتِّزَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ فِي حِفْظِ الرِّدَاءِ ، وَالْإِزَارِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ .

وَلَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا لُبْسُ الْمَخِيطِ ، إذْ اللُّبْسُ هُوَ التَّغْطِيَةُ وَفِيهِ تَغْطِيَةُ أَعْضَاءٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَخِيطِ مِنْ الْمَنْكِبَيْنِ ، وَالظَّهْرِ وَغَيْرِهَا فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، كَإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ هُوَ : اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَذَلِكَ فِي الْقَبَاءِ ، الْإِلْقَاءُ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ مَعَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهَ فِي اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ إلْقَاءَ الْقَبَاءِ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ يُشْبِهُ الِارْتِدَاءَ وَالِاتِّزَارَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ إلَى تَكَلُّفٍ ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَهُوَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ مُعْتَادٌ يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ وَالتَّرَفُّهُ فِي اللُّبْسِ ، وَيَقَعُ بِهِ الْأَمْنُ عَنْ السُّقُوطِ .
وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَزَرَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ فَقَدْ تَرَفَّهَ فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ .
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ رِدَاءً وَلَهُ قَمِيصٌ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ وَيَرْتَدِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ .
وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَلَهُ سَرَاوِيلُ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ سَرَاوِيلَهُ خَلَا مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَأْتَزِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ .
وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَهُ خُفَّانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسَهُمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرُونَ لُبْسَ الصَّنْدَلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا لُبْسُ الْمِيثَمِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْخُفَّيْنِ ، وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِالْعِمَامَةِ ، وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَاقِيقِ جُرْذَانَ فَمَاتَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } .

وَلَوْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَاللُّبْسِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَإِجَّانَةٍ ، أَوْ عِدْلِ بَزٍّ وَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ لُبْسًا ، وَلَا تَغْطِيَةً .
وَكَذَا لَا يُغَطِّي الرَّجُلُ وَجْهَهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ " .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا .
وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا بِثَوْبٍ وَتُجَافِيَهُ عَنْ وَجْهِهَا ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } جَعَلَ إحْرَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ ، وَلَا خُصُوصَ مَعَ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا لَمَّا خَصَّ الْوَجْهَ فِي الْمَرْأَةِ بِأَنَّ إحْرَامَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهَا ، فَكَذَا فِي الرَّجُلِ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَحْوَالِ الْمُحْرِمِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا ، لِأَنَّ الْعَادَةَ هُوَ الْكَشْفُ فِي الرِّجَالِ فَكَانَ السَّتْرُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ ، ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِيهِنَّ السَّتْرُ فَكَانَ الْكَشْفُ خِلَافَ الْعَادَةِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ } وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رَوَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي وَجْهِهِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا ، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ إحْرَامَهَا لَيْسَ فِي رَأْسِهَا إلَّا بِقَوْلِهِ " وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا " بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا أُصْبِغَ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ طِيبٌ ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَلَا يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَهُوَ : الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَبِسَتْ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا أَرَى أَنَّ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ " وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ ، فَقَالَ طَلْحَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّمَا هُوَ مُمَشَّقٌ بِمَغْرَةٍ " فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إنَّ كَمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " فَدَلَّ إنْكَارُ عُمَرَ وَاعْتِذَارُ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُمَشَّقَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : " إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " أَيْ : مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الْمَغْرَةِ فَيَعْتَقِدُ الْجَوَازَ ، فَكَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ عَسَى فَيُكْرَهُ ، وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ طِيبٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَرِهَتْ الْمُعَصْفَرَ فِي الْإِحْرَامِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَصْبُوغِ بِمِثْلِ الْعُصْفُرِ كَالْمَغْرَةِ وَنَحْوِهَا ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ : إنْكَارُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلتَّعَارُضِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْسُولًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى صَارَ لَا يَنْفُضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ،

لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا بَأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ بِوَرْسٍ ، أَوْ زَعْفَرَانٍ قَدْ غُسِلَ وَلَيْسَ لَهُ نَفْضٌ وَلَا رَدْغٌ } وَقَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَنْفُضُ " لَهُ تَفْسِيرَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ : رُوِيَ عَنْهُ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ .
وَرُوِيَ لَا يَفُوحُ رِيحُهُ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى زَوَالِ الرَّائِحَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ ، وَلَكِنْ يَفُوحُ رِيحُهُ يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ بَقَاءِ الطِّيبِ ، إذْ الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَذَا مَا صُبِغَ بِلَوْنِ الْهَرَوِيِّ ؛ لِأَنَّهُ صِبْغٌ خَفِيفٌ فِيهِ أَدْنَى صُفْرَةٍ لَا تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ : " لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ ، وَلَا الْوَرْسِ ، وَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فَكَانَ كَاللُّبْسِ " .

وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ وَالصُّوفِ وَالْقَصَبِ وَالْبُرْدِ وَإِنْ كَانَ مُلَوَّنًا كَالْعَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الزِّينَةِ .
وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الطَّيْلَسَانَ ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ ، وَلَا يَزُرُّهُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ الزِّرَةَ مَخِيطٌ فِي نَفْسِهَا ، فَإِذَا زَرَّهُ فَقَدْ اشْتَمَلَ الْمَخِيطُ عَلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفِ فَأَشْبَهَ لُبْسَ الْمَخِيطِ ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ ، وَالْإِزَارِ .

وَيُكْرَهُ أَنْ يُخَلِّلَ الْإِزَارَ بِالْخِلَالِ ، وَأَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مُحْرِمًا قَدْ عَقَدَ ثَوْبَهُ بِحَبْلٍ فَقَالَ لَهُ : انْزِعْ الْحَبْلَ وَيْلَكَ } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ فِي عَدَمِ الْحَاجَةِ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَخِيطٍ .

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَزَّمَ بِعِمَامَةٍ يَشْتَمِلُ بِهَا وَلَا يَعْقِدُهَا ؛ لِأَنَّ اشْتِمَالَ الْعِمَامَةِ عَلَيْهِ اشْتِمَالُ غَيْرِ الْمَخِيطِ فَأَشْبَهَ الِاتِّشَاحَ بِقَمِيصٍ ، فَإِنْ عَقَدَهَا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَلَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ .
سَوَاءٌ كَانَ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ شَدَّ الْمِنْطَقَةَ بِالْإِبْزِيمِ ، أَوْ بِالسُّيُورِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمِنْطَقَةِ : " إنْ شَدَّهُ بِالْإِبْزِيمِ يُكْرَهُ ، وَإِنْ شَدَّهُ بِالسُّيُورِ لَا يُكْرَهُ " وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْهِمْيَانِ : " إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ لَا يُكْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ يُكْرَهُ " وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَهِيَ اسْتِيثَاقُ النَّفَقَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي نَفَقَةِ غَيْرِهِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْإِبْزِيمَ مَخِيطٌ فَالشَّدُّ بِهِ يَكُونُ كَزِرِّ الْإِزَارِ بِخِلَافِ السَّيْرِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْهِمْيَانِ فَقَالَتْ : " أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك " أَطْلَقَتْ الْقَضِيَّةَ وَلَمْ تَسْتَفْسِرْ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ فِي وَسَطِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ } وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ " وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِمَالَ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ عَلَيْهِ كَاشْتِمَالِ الْإِزَارِ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ .

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ الْمُحْرِمُ بِالْفُسْطَاطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : " يُكْرَهُ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْقِي عَلَى شَجَرَةٍ ثَوْبًا ، أَوْ نِطْعًا فَيَسْتَظِلُّ بِهِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فُسْطَاطٌ بِمِنًى فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِمَا لَا يُمَاسُّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ ، وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ كَذَا هَذَا ، فَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ ، فَإِنْ كَانَ السِّتْرُ يُصِيبُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَتْرَ وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بِثَوْبٍ ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا فَلَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ ظُلَّةٍ .

وَلَا بَأْسَ أَنْ تُغَطِّيَ الْمَرْأَةُ سَائِرَ جَسَدِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِمَا شَاءَتْ مِنْ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَغَيْرِهَا ، وَأَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا ، أَمَّا سَتْرُ سَائِرِ بَدَنِهَا ؛ فَلِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ ؛ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِمَا لَيْسَ بِمَخِيطٍ مُتَعَذَّرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَأَمَّا كَشْفُ وَجْهِهَا فَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَاذَوْنَا أَسْدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُونَا رَفَعْنَا } فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَأَنَّهَا لَوْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا وَجَافَتْهُ عَنْهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا جَافَتْهُ عَنْ وَجْهِهَا صَارَ كَمَا لَوْ جَلَسَتْ فِي قُبَّةٍ ، أَوْ اسْتَتَرَتْ بِفُسْطَاطٍ .

وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ ، وَتَتَحَلَّى بِأَيِّ حِلْيَةٍ شَاءَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ فِي الْإِحْرَامِ ؛ وَلِأَنَّ لُبْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ بَابِ التَّزَيُّنِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الزِّينَةِ ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مَا فِيهِ مِنْ الصَّبْغِ مِنْ الطِّيبِ لَا مِنْ الزِّينَةِ ، وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الطِّيبِ .
وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يَجُوزُ " وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ " وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ " ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِي بَدَنِهَا السَّتْرُ فَيَجِبُ مُخَالَفَتُهَا بِالْكَشْفِ كَوَجْهِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ لَيْسَ إلَّا تَغْطِيَةَ يَدَيْهَا بِالْمَخِيطِ ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَهُمَا بِقَمِيصِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَخِيطًا فَكَذَا بِمِخْيَطٍ آخَرَ ، بِخِلَافِ وَجْهِهَا .
وَقَوْلُهُ " وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ " نَهْيُ نَدْبٍ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ هَذَا الْمَحْظُورِ وَهُوَ : لُبْسُ الْمَخِيطِ فَالْوَاجِبُ بِهِ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ : يَجِبُ الدَّمُ عَيْنًا ، وَفِي بَعْضِهَا : تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَيْنًا ، وَفِي بَعْضِهَا يَجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ عَيْنِ الصِّيَامِ ، أَوْ الصَّدَقَةِ ، أَوْ الدَّمِ ، وَجِهَاتُ التَّعْيِينِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ بِاللُّبْسِ يُوجِبُ فِدَاءً كَامِلًا فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الدَّمُ ، لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إنْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَالِارْتِفَاقُ الْقَاصِرُ يُوجِبُ فِدَاءً قَاصِرًا وَهُوَ : الصَّدَقَةُ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ : مِنْ قَمِيصٍ ، أَوْ جُبَّةٍ ، أَوْ سَرَاوِيلَ ، أَوْ عِمَامَةٍ ، أَوْ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ ، أَوْ جَوْرَبَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يَوْمًا كَامِلًا .
فَعَلَيْهِ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمًا كَامِلًا ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَهِيَ : الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا : إنْ لَبِسَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْبَسَ يَوْمًا كَامِلًا ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ ، إنْ لَبِسَ نِصْفَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَلْقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ، وَإِنْ لَبِسَ سَاعَةً وَاحِدَةً " .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللُّبْسَ وَلَوْ سَاعَةً ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِوُجُودِ اشْتِمَالِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ ، فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ .
وَجْهُ رِوَايَةِ

مُحَمَّدٍ : اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ : بِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِاللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِفَاقِ فِي كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ دُخُولِ اللَّيْلِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ : أَنَّ اللُّبْسَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاقٍ نَاقِصٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَذَلِكَ بِاللُّبْسِ فِي كُلِّ الْيَوْمِ ، وَلِهَذَا اتَّخَذَ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ لِلنَّهَارِ لِبَاسًا وَلِلَّيْلِ لِبَاسًا ، وَلَا يَنْزِعُونَ لِبَاسَ النَّهَارِ إلَّا فِي اللَّيْلِ فَكَانَ اللُّبْسُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا قَاصِرًا ، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَاحِدٍ ، وَمِقْدَارُ الصَّدَقَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ .
وَكُلُّ صَدَقَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَوْمًا إلَّا سَاعَةً فَعَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ أَيْ : مِنْ قِيمَةِ الدَّمِ لِمَا قُلْنَا .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُقَدَّرَةَ لِلْمِسْكِينِ فِي الشَّرْعِ لَا تَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَالْفِطْرِ ، وَالظِّهَارِ .
وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ لَكِنَّهُ زَرَّهُ عَلَيْهِ أَوْ زَرَّ عَلَيْهِ طَيْلَسَانًا يَوْمًا كَامِلًا ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ ، إذْ الْمُزَرَّرُ مَخِيطٌ .
وَكَذَا لَوْ غَطَّى رُبْعَ رَأْسِهِ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى

يُغَطِّيَ الْأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِهِ ، وَلَا أَقُولُ : حَتَّى يُغَطِّيَ رَأْسَهُ كُلَّهُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّ تَغْطِيَةَ الْأَقَلِّ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ ، كَحَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ وَعَلَى هَذَا إذَا غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبْعَ وَجْهِهَا وَكَذَا لَوْ غَطَّى الرَّجُلُ رُبْعَ وَجْهِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَلَوْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ ، أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّغْطِيَةِ .
وَلَوْ عَصَبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ لِعِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ بَدَنِهِ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ الشَّدَّ عَلَيْهِ يُشْبِهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ ، هَذَا إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ يَوْمًا كَامِلًا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ .

فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيْ : الْكَفَّارَاتُ شَاءَ الصِّيَامَ ، أَوْ الصَّدَقَةَ ، أَوْ الدَّمَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : احْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْحَلْقِ ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا ، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً .
وَقِيلَ : إنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ ، وَيَجُوزُ فِي الطَّعَامِ التَّمْلِيكُ ، وَالتَّمْكِينُ وَهُوَ : طَعَامُ الْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي الصِّيَامِ التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّوْمِ فِي النَّصِّ ، وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَذَبْحِ الْمُتْعَةِ إلَّا إذَا ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرُ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ؛ فَيَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ الطَّعَامِ " وَيَجُوزُ الصَّوْمُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَا الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيه ، إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ

يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ ، وَلَنَا أَنَّ نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِحْصَارِ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { : حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ ، فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا وَلَمْ يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ إلَّا بِالْفَتْقِ ، وَفِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ ، وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ ، وَيُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفَتْقُ ، وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَقَوْلُهُ : " فِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ ، وَالسَّهْوُ ، وَالطَّوْعُ ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ " وَيَسْتَوِي أَيْضًا مَا إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً ، وَلَا حَظْرَ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَلِهَذَا جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْإِكْرَاهُ عِنْدِي وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ .
وَقَوْلُهُ : " فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ ، وَفِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فِي ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ { دُعَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ، وَقَوْلُهُ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ النُّدْرَةِ ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هَذَا .

وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ : الْقَمِيصَ ، وَالْعِمَامَةَ ، وَالْخُفَّيْنِ ، لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ .

وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ ، بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ ، أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً ، أَوْ اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً ، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ ، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أَوْ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَهُمَا مَعَ الْقَمِيصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ : كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لِلُبْسِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ .

وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ زَالَتْ الضَّرُورَةُ ، فَدَامَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ : كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ .
وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ : كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ ، وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ ، فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ ، فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، وَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ ، فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً أُخْرَى .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا كَانَ بِهِ قَرْحٌ أَوْ جُرْحٌ ، اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ بِالطِّيبِ أَنَّهُ مَا دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ .
وَلَوْ بَرَأَ ذَلِكَ الْقَرْحُ أَوْ الْجُرْحُ ، وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ أَوْ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَهَا بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أَوْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ فِي وَقْتٍ ، وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحُمَّى ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْحُمَّى وَأَصَابَتْهُ حُمَّى أُخْرَى عَرَفَ ذَلِكَ ، أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَجَاءَهُ مَرَضٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ ،

فَإِنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ وَهُوَ الْجِمَاعُ ، بِأَنْ جَامَعَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ جُرِحَ لَهُ قَرْحٌ ، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ وَهُوَ يُدَاوِيهِ بِالطِّيبِ ، فَخَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى ، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ آخَرُ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَبْرَأْ فَدَاوَى الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْرَأْ فَالضَّرُورَةُ بَاقِيَةٌ ، فَالْمُدَاوَاةُ الثَّانِيَةُ حَصَلَتْ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَيْهَا الْأُولَى ، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .

وَلَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ فَلَبِسَ ، ثُمَّ ذَهَبَ فَنَزَعَ ثُمَّ عَادَ فَعَادَ أَوْ كَانَ الْعَدُوُّ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ فَكَانَ يَلْبَسُ السِّلَاحَ ، فَيُقَاتِلُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، مَا لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ وَيَجِيءُ عَدُوٌّ آخَرُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ وَاحِدٌ ، وَالْعُذْرُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ لَهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا ، لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ ، فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَيَّامًا فَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَلْبَسُهُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى التَّرْكِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا فَأَرَاقَ دَمًا ، ثُمَّ دَامَ عَلَى لُبْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ مُبْتَدَأٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَخِيطِ فَدَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا كَامِلًا يَلْزَمُهُ دَمٌ .
وَلَوْ لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ الْتَحَقَ اللُّبْسُ الْأَوَّلُ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا آخَرَ مُبْتَدَأً إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى حَالِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ الثَّانِي فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا كَفَّرَ

لِلْأَوَّلِ بَطَلَ الْأَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا ثَانِيًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى ، كَمَا إذَا جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ ، فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً فَيَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النَّزْعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ ، تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ أَوْ لَا وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ إلَّا إذَا تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْوَرْسِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَكَذَا إذَا لَبِسَ الْمُعَصْفَرَ عِنْدَنَا ، لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ عِنْدنَا ، إذْ الْمُعَصْفَرُ طِيبٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَعَلَى الْقَارِنِ فِي جَمِيعِ مَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا مَا عَلَى الْمُفْرِدِ مِنْ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ ، فَأَدْخَلَ النَّقْصَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ أَمَّا الطِّيبُ فَنَقُولُ : لَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ } وَالطِّيبُ يُنَافِي الشَّعَثَ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مَقْطَعَانِ مُضَمَّخَانِ بِالْخَلُوقِ فَقَالَ : مَا أَصْنَعُ فِي حَجَّتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ ، فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ السَّائِلُ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا فَقَالَ : اغْسِلْ هَذَا الطِّيبَ عَنْك ، وَاصْنَعْ فِي حَجَّتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي عُمْرَتِك } وَرَوَيْنَا { أَنَّ مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } جَعْلُ كَوْنِهِ مُحْرِمًا عِلَّةُ حُرْمَةِ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ ، وَالتَّطَيُّبِ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا : كَالرَّأْسِ ، وَالْفَخِذِ ، وَالسَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُقَوَّمُ مَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، حَتَّى لَوْ طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ ، فَعَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ قَدْرُ قِيمَةِ رُبْعِ شَاةٍ ، وَإِنْ طَيَّبَ نِصْفَ عُضْوٍ تَصَدَّقَ بِقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ هَكَذَا وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى فِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِثْلَ الشَّارِبِ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ اللِّحْيَةِ ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَفِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِقْدَارَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، أَعْطَى الرُّبْعَ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي قَلِيلِ الطِّيبِ وَكَثِيرِهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ

ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ ، فَكَانَ جِنَايَةً كَامِلَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً ، وَتَطْيِيبَ مَا دُونِهِ ارْتِفَاقٌ قَاصِرٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ فَإِنْ طَيَّبَ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةً مِنْ كُلِّ عُضْوٍ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَإِذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِمَا قُلْنَا .

وَإِنْ طَيَّبَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوَّمَةٍ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ طَيَّبَ كُلَّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِمَاعِ بِأَنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ يَكْفِي دَمٌ وَاحِدٌ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَوْ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيِّبًا كَدُهْنِ : الْبَنَفْسَجِ ، وَالْوَرْدِ ، وَالزِّئْبَقِ ، وَالْبَانِ ، وَالْحَرَى ، وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الَّتِي فِيهَا الطِّيبُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ دُهْنٌ مُطَيِّبٌ فَأَشْبَهَ الْبَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيِّبٍ بِأَنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِشَيْرَجٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَعْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَدَنِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلدَّمِ لَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُطَيِّبِ مِنْ الْأَدْهَانِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْغِذَاءِ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِكَوْنِهِ طِيبًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ لَمَّا نُعِيَ إلَيْهَا وَفَاةُ أَخِيهَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَدْعَتْ بِزِنَةِ زَيْتٍ وَقَالَتْ : " مَا لِي إلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ لَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } سَمَّتْ الزَّيْتَ طِيبًا ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطَّيِّبِ فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطَّيِّبِ كَانَ كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْإِحْرَامِ وَشِعَارُهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ،

فَصَارَ جَارِحًا إحْرَامَهُ بِإِزَالَةِ عَلَمِهِ ، فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الدَّمُ .
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَةَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ ، ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ وَكَفَّرَ ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .

وَلَوْ دَاوَى بِالزَّيْتِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلَ الطِّيبِ لَكِنَّهُ مَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالطِّيبِ لَا لِلتَّطَيُّبِ أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ فِي نَفْسِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّطَيُّبِ أَوْ لِغَيْرِهِ ؛ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلَيْهِ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ : " الصَّحِيحُ شُقُوقُ رِجْلَيْهِ " وَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ : ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِنَا الِاقْتِدَاءُ بِأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

وَإِنْ ادَّهَنَ بِشَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا أَصْلَ لِلطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطِّيبِ فِيهِ ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَدَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ هُوَ طِيبٌ مَحْضٌ مُعَدٌّ لِلتَّطَيُّبِ بِهِ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ ، وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اُسْتُعْمِلَ حَتَّى قَالُوا : لَوْ دَاوَى عَيْنَهُ بِطِيبٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عُضْوٌ كَامِلٌ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الطِّيبَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ كَالشَّحْمِ فَسَوَاءٌ أُكِلَ أَوْ اُدُّهِنَ بِهِ أَوْ جُعِلَ فِي شُقَاقِ الرِّجْلِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ .
وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ ، يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِدَامِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَدْهَانِ فِي الْبَدَنِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ ، وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ شُقَاقِ رِجْلٍ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ كَالشَّحْمِ .

، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي طَعَامٍ طُبِخَ وَتَغَيَّرَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي أَكْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ يُوجَدُ رِيحُهُ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِي الطَّعَامِ بِالطَّبْخِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطْبَخْ يُكْرَهُ إذَا كَانَ رِيحُهُ يُوجَدُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ غَالِبٌ عَلَيْهِ ، فَكَانَ الطِّيبُ مَغْمُورًا مُسْتَهْلَكًا فِيهِ ، وَإِنْ أَكَلَ عَيْنَ الطِّيبِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالطَّعَامِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ إذَا كَانَ كَثِيرًا .

وَقَالُوا فِي الْمِلْحِ يُجْعَلُ فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ ، فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الطِّيبِ ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ غَالِبًا ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الخشكنابخ الْأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَيَقُولُ : لَا بَأْسَ بِالْخَبِيصِ الْأَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ .

فَإِنْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الطِّيبِ لِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ ، أَوْ اكْتَحَلَ بِطِيبٍ لِعِلَّةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَعَلَيْهِ إحْدَى الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ .

، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالرَّيْحَانَ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَوْ شَمَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ " وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ ، وَالرَّيْحَانُ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا ، وَإِنَّا نَقُولُ : نَعَمْ إنَّهُ طِيبٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَلَا بِثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا شَمَّ رَائِحَتَهُ فَقَطْ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، كَمَا لَوْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ فَشَمَّ رَائِحَةَ الْعِطْرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِارْتِفَاقِ .
وَكَذَا كُلُّ نَبَاتٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَكُلُّ ثَمَرَةٍ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالرَّائِحَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِرَفْعِ الْعَطَّارِينَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَذَلِكَ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ .

فَإِنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَائِحَةَ طِيبٍ تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ حَصَلَ فِي وَقْتٍ مُبَاحٍ ، فَبَقِيَ شَمُّ نَفْسِ الرَّائِحَةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ مَرَّ بِالْعَطَّارِينَ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أَجْمَرَ وَطَالَ مُكْثُهُ بِالْبَيْتِ فَعَلِقَ فِي ثَوْبِهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِعَيْنٍ ، وَبِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا ، فَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِثَوْبٍ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هَهُنَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا فِي بَدَنِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ .

وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ قَدْ طَيَّبَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ إذَا غَلَبَ الْكُحْلَ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَاوِي أَوْ التَّطَيُّبِ .

فَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَلَزِقَ بِيَدِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ بِهِ يَدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ ، لِأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ .

وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَأَصَابَ يَدَهُ مِنْ طِيبِهِ : إنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَصْدِ .

فَإِنْ دَاوَى جُرْحًا أَوْ تَطَيَّبَ لِعِلَّةٍ ، ثُمَّ حَدَثَ جُرْحٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْأَوَّلَ بَاقٍ ، فَكَانَ جِهَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَاحِدَةً فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ .

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ ، وَيَفْتَصِدَ ، وَيَبُطَّ الْقُرْحَةَ ، وَيَعْصِبَ عَلَيْهِ الْخِرْقَةَ ، وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ ، وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ ، وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقُرْحَةِ ، وَالْفَصْدُ وَبَطُّ الْقُرْحَةِ } وَالْجُرْحِ فِي مَعْنَى الْحِجَامَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا شَقُّ الْجِلْدَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدَاوِي ، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّدَاوِي .
وَكَذَا جَبْرُ الْكَسْرِ مِنْ بَابِ الْعِلَاجِ ، وَالْمُحْرِمُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
وَكَذَا قَلْعُ الضِّرْسِ ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ فَيُشْبِهُ قَطْعَ الْيَدِ مِنْ الْأَكَلَةِ ، وَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا الِاغْتِسَالُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ : مَا نَفْعَلُ بِأَوْسَاخِنَا } .

فَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْخِطْمِيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ ، وَإِنَّمَا يُزِيلُ الْوَسَخَ فَأَشْبَهَ الْأُشْنَانَ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ ، وَتَجِبُ الصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِأَنَّهُ طِيبٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخِطْمِيَّ طِيبٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَأَشْبَهَ الْحَلْقَ .

فَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ : الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَلِأَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِلْحِنَّاءِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا .

وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ يَدَيْهَا بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهَا دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهَا صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ ، وَالْقُسْطُ طِيبٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِهَذَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُلْتَذُّ بِرَائِحَتِهِ .

، وَالْوَسْمَةُ لَيْسَ بِطِيبٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بَلْ كَرِيهَةٌ ، وَإِنَّمَا تُغَيِّرُ الشَّعْرَ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ ، بَلْ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ دَوَابَّ الرَّأْسِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ التَّفَثَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لَا لِأَجْلِ الْخِضَابِ بَلْ لِأَجْلِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ .

وَالْكُحْلُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : " هُوَ طِيبٌ وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِهِ " وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، فَلَا يَكُونُ طِيبًا .

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالتَّطَيُّبِ : الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا كَمَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي الْحَظْرِ وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاظِرِ وَالْمُوجِبِ لِلْجَزَاءِ .
وَكَذَا الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ مِثْلَيْ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَأَدْخَلَ نَقْصًا فِي إحْرَامَيْنِ فَيُؤَاخَذُ بِجَزَاءَيْنِ ، وَلَا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ التَّطَيُّبُ مَا لَمْ يَحْلِقَا أَوْ يُقَصِّرَا ، لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ ، فَكَانَ الْحَاظِرُ بَاقِيًا فَيَبْقَى الْحَظْرُ .
وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لِمَا قُلْنَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الطِّيبِ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ : فَحَلْقُ الشَّعْرِ ، وَقَلْمُ الظُّفْرِ .
أَمَّا الْحَلْقُ فَنَقُولُ : " لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ } { وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الْحَاجُّ ؟ فَقَالَ : الشَّعِثُ التَّفِثُ } وَحَلْقُ الرَّأْسِ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَالتَّفَثَ ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ وَهُوَ الشَّجَرُ وَالْخَلَى .
وَكَذَا لَا يُطْلِي رَأْسَهُ بِنُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ ؛ وَكَذَا لَا يُزِيلُ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلَا يُطْلِيهَا بِالنُّورَةِ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ ، فَإِنْ حَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ حَلَقَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ، } وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ فَخُيِّرَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا ، وَإِنْ حَلَقَ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ حَلَقَ دُونَ الرُّبُعِ ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ : " إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ " فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَكْثَرَ

رَأْسِهِ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْحَاكِمِ : إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : إذَا حَلَقَ أَكْثَرَهُ يَجِبُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : إذَا حَلَقَ شَعْرَهُ يَجِبُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ يَجِبُ " وَقَالَ مَالِكٌ : " لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ " وَعَلَى هَذَا إذَا حَلَقَ لِحْيَتَهُ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا ، احْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّ هَذَا الْمَحْدُودِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الثَّلَاثَ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَلِهَذَا قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْخَلَى .
وَأَمَّا الْكَلَامُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْكَثِيرِ يُوجِبُ الدَّمَ ، وَالْقَلِيلِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا دُونَ الرُّبُعِ قَلِيلًا ، وَالرُّبُعَ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرًا ، وَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ جَعَلَا مَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ كَثِيرًا ، وَالْوَجْهُ لَهُمَا : أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ قَلِيلًا فَهُوَ كَثِيرٌ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الرُّبُعُ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ فَكَانَ هُوَ قَلِيلًا ، وَالْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الرُّبُعَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَجْيَالِ مِنْ الْعَرَبِ ، وَالتُّرْكِ ، وَالْكُرْدِ الِاقْتِصَارَ عَلَى حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ ، وَلِذَا يَقُولُ الْقَائِلُ : رَأَيْت فُلَانًا يَكُونُ صَادِقًا فِي

مَقَالَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ إلَّا أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ ، وَلِهَذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْمَسْحِ ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِأَنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ لِلتَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ ، فَكَانَ حَلْقُ رُبُعِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَكَانَتْ جِنَايَةً كَامِلَةً ، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً .
وَكَذَا حَلْقُ رُبُعِ اللِّحْيَةِ لِأَهْلِ بَعْضِ الْبِلَادِ مُعْتَادٌ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا ، فَكَانَ حَلْقُ الرُّبُعِ مِنْهَا كَحَلْقِ الْكُلِّ ، وَلَا حُجَّةَ لِمَالِكٍ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا نَهْيًا عَنْ حَلْقِ الْكُلِّ ، وَذَا لَا يَنْفِي النَّهْيَ عَنْ حَلْقِ الْبَعْضِ ، فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ ، فَلَا يَصِحُّ .
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ آخِذَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى حَالِقًا فِي الْعُرْفِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْحَلْقِ ، كَمَا لَا يُسَمَّى مَاسِحُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ ، حَتَّى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ نَصُّ الْمَسْحِ ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ مُتَعَلِّقٌ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، وَحَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ ، وَذَا يَقِفُ عَلَى ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا : إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُعْرَفُ بِالْمُقَابَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّبُعَ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ .

وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ ، أَوْ لَمَسَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَانْتَثَرَ مِنْهُ شَعْرَةٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ ، هَذَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ نَفْسِهِ .
فَأَمَّا إذَا حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : " لَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ " .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَالِقِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَالْإِنْسَانُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ، لِعَدَمِ الِارْتِفَاقِ فِي حَقِّهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْلُوقُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِمَا قُلْنَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ حَلَالًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ لَهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَلْقُ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكِنَّهُ سَكَتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَسْلُبُ الْحَظْرَ ، وَكَمَالُ الِارْتِفَاقِ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْجَزَاءِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْحَالِقِ ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَالِقَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي عُهْدَةِ الضَّمَانِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ ، وَلَنَا أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ حَصَلَ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، إذْ لَوْ رَجَعَ لَسَلِمَ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ .
وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْمَغْرُورِ إذَا وَطِئَ

الْجَارِيَةَ وَغَرِمَ الْعُقْرَ ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَحُكْمُ الْمَحْلُوقِ مَا ذَكَرنَا .

وَإِنْ حَلَقَ شَارِبَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْبُتُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ وَيُؤْخَذُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ أَيْضًا ، وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ ، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : مُحْرِمٌ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَهِيَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ تَكُونُ مَقَادِيرُ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِي اللِّحْيَةِ مِنْ الدَّمِ ؟ وَهُوَ الرُّبُعُ ، فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِثْلَ رُبُعِ اللِّحْيَةِ ، يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ ، وَقَوْلُهُ " أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ " إشَارَةً إلَى الْقَصِّ ، وَهُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّارِبِ لَا الْحَلْقُ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ : أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْحَلْقُ ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْقَصُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَبَعُ اللِّحْيَةِ ، وَالسُّنَّةُ فِي اللِّحْيَةِ الْقَصُّ لَا الْحَلْقُ ، كَذَا فِي الشَّارِبِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يَشِينُهُ وَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ سُنَّةً فِي اللِّحْيَةِ ، بَلْ كَانَ بِدْعَةً ، فَكَذَا فِي الشَّارِبِ .

وَلَوْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ بِالِارْتِفَاقِ بِحَلْقِ شَعْرِهِ ، فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ .

وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ نَتَفَ الْإِبْطَيْنِ جَمِيعًا تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ ، وَالْحَاظِرُ وَاحِدٌ ، وَالْجِهَةُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ فَتَكْفِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ أَكْثَرَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَدَنِ لَا يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ ، بِخِلَافِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالرَّقَبَةِ وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْإِبْطِ النَّتْفَ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ النَّتْفُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحَلْقُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ .

وَلَوْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : " فِيهِ صَدَقَةٌ " .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ : مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ دَمٌ كَحَلْقِ الشَّارِبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِهِ ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ لِلْحِجَامَةِ لَا لِنَفْسِهِ ، وَالْحِجَامَةُ لَا تُوجِبُ الدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَكَذَا مَا يَفْعَلُ لَهَا ؛ وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الصَّدْرَ وَالسَّاعِدَ وَالسَّاقَ ، وَلَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَلْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا ؛ لِاسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الدَّمَوِيَّةِ ، وَلِهَذَا لَا يُحْلَقُ تَبَعًا لِلرَّأْسِ وَلَا لِلرَّقَبَةِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْحَلْقِ : الْعَمْدُ ، وَالسَّهْوُ ، وَالطَّوْعُ ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وَالرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ ، وَالْمُفْرِدُ ، وَالْقَارِنُ غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

وَأَمَّا قَلْمُ الظُّفْرِ فَنَقُولُ : لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ ، رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } ، فَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ ؛ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، فَإِنْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ .
وَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : " إذَا قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْيَدِ أَكْثَرُهَا ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ ، وَلِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ : أَنَّ قَلْمَ مَا دُونَ الْيَدِ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ " فَنَقُولُ : إنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ كُلِّ الْأَطْرَافِ فِي وُجُوبِ الدَّمِ ، وَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ لَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ ، كَمَا فِي الرَّأْسِ أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ الرُّبُعُ فِيهِ مَقَامَ الْكُلِّ ، لَا يُقَامُ أَكْثَرُ الرُّبُعِ مَقَامَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ أَكْثَرُ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ مَقَامَهُ ؛ لَأُقِيمَ أَكْثَرُ أَكْثَرِهِ مَقَامَهُ فَيُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ

التَّقْدِيرِ أَصْلًا وَرَأْسًا .
وَهَذَا لَا يَجُوزُ .

فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُتَفَرِّقَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ " دَمٌ " ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَمَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ أَظَافِيرَ ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، إلَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصَ مِنْهُ مَا شَاءَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْخَمْسَةِ لَا غَيْرُ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ التَّفَرُّقَ وَالِاجْتِمَاعَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَا مَعَ عَدَدِ الْخَمْسَةِ صِفَةَ الِاجْتِمَاعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحِلٍّ وَاحِدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ قَلْمَ أَظَافِيرِ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَوْجَبَ الدَّمَ لِكَوْنِهَا رُبُعَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْأَرْشِ بِأَنْ قَطَعَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ فَكَذَا هَذَا ، وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقَلْمِ مُتَفَرِّقًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ وَيَصِيرُ مُثْلَةً ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةَ الطَّعَامِ دَمًا يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّمَ لِعَدَمِ تَنَاهِي الْجِنَايَةِ لِعَدَمِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ الدَّمِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّمَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ ، ثُمَّ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدِهِ الْأُخْرَى ، أَوْ رِجْلِهِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ : أَنْ يَجِبُ لِكُلِّ

وَاحِدٍ دَمٌ لِمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : " عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ، وَحَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ ، وَطَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنْسٍ دَمًا عَلَى حِدَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ ، وَأَجْمَعُوا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَأَكَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَشَرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَا اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاتِّحَادِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أَظَافِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ : أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَتَتَكَامَلُ الْكَفَّارَةُ ، وَقَلْمُ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ ارْتِفَاقٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ ، فَلَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا ، كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ أَنَّهُ إذَا حَلَقَ الرُّبُعَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ .
وَلَوْ حَلَقَ الْكُلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا ،

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ ، وَقَدْ انْهَتَكَ حُرْمَتُهُ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ ، وَهَتْكُ الْمَهْتُوكِ لَا يُتَصَوَّرُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَلِهَذَا لَا يَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ جَبْرًا لَهَا ، وَقَدْ انْهَتَكَ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ هَتْكًا بِالْإِفْسَادِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ انْجَبَرَ الْهَتْكُ بِالْكَفَّارَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَادَتْ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ ، فَإِذَا هَتَكَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى جَبْرًا لَهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ ، وَلَهُمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَالْإِحْرَامُ قَائِمٌ فَكَانَ كُلُّ فِعْلٍ جِنَايَةً عَلَى حِدَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ جَامِعًا لِلْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ أَعْطَى لِكُلِّ جِنَايَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا ، فَيُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ .
وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ وَاحِدَةٌ لَا تَتَجَزَّأُ ، وَقَدْ انْهَتَكَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِفْطَارِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يُحْتَمَلُ الْهَتْكُ ثَانِيًا .
وَلَوْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ لِأَذًى فِي كَفِّهِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ عَنْ ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَكَفَّارَتُهُ أَحَدُ

الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَلَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَتْ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهَا كَالزَّائِدَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَتْ شَجَرَ الْحَرَمِ إذَا يَبِسَ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ قَلَمَ الْمُحْرِمُ أَظَافِيرَ حَلَالٍ أَوْ مُحْرِمٍ أَوْ قَلَمَ الْحَلَالُ أَظَافِيرَ مُحْرِمٍ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلْقِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالذِّكْرُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِالْقَلْمِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ ، إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ ضِعْفَ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الدَّوَاعِيَ مِنْ التَّقْبِيلِ ، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ ، وَالْمُبَاشَرَةِ ، وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : إنَّ الرَّفَثَ جَمِيعُ حَاجَاتِ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ .
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَمَّا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ ؟ فَقَالَتْ : " يَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلَامَ " فَإِنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ، أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ ، أَوْ بَاشَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، لَكِنْ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ ، أَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِحُصُولِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ مَقْصُودٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا بَاشَرَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَمْ يَرَوْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَاكِرًا أَوْ نَاسِيًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ عَنْ شَهْوَةٍ فَأَمْنَى ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ أَنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ ، أَمْنَى أَوْ لَمْ يُمْنِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ اللَّمْسَ اسْتِمْتَاعٌ بِالْمَرْأَةِ وَقَضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ فَكَانَ ارْتِفَاقًا كَامِلًا .
فَأَمَّا النَّظَرُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا قَضَاءِ الشَّهْوَةِ ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزَرْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْقَلْبِ ، وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَمَّا يَزْرَعُ الشَّهْوَةِ كَالْأَكْلِ ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَقَوْلُهُ : " أَمْنَى " لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى .
الصَّيْدِ فَنَقُولُ : لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عِنْدَنَا إلَّا الْمُؤْذِيَ الْمُبْتَدِئَ بِالْأَذِي غَالِبًا .
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الصَّيْدِ أَنَّهُ مَا هُوَ ؟ وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ مِنْ النَّاسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ إمَّا بِقَوَائِمِهِ ، أَوْ بِجَنَاحِهِ ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ذَبْحُ الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالتَّوَحُّشِ مِنْ النَّاسِ .
وَكَذَا الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَطِّ الْكَسْكَرِيِّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِمَا ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ .
فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ وَيَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِ ، وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ صَيْدٌ وَفِيهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِصَيْدٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ ، وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلِ مُسْتَأْنَسٌ ، فَلَا يَكُونُ صَيْدًا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ ، وَلَنَا أَنَّ جِنْسَ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ مِنْهُ بِالتَّوَلُّدِ وَالتَّأْنِيسِ مَعَ بَقَائِهِ صَيْدًا كَالظَّبْيَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ ، وَالنَّعَامَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالطُّوطِيُّ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَجِبَ فِيهِ الْجَزَاءُ .
وَكَذَا الْمُسْتَأْنَسُ فِي الْخِلْقَةِ قَدْ يَصِيرُ مُسْتَوْحِشًا كَالْإِبِلِ ، إذَا تَوَحَّشَتْ وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ حَتَّى لَا يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّوَحُّشِ ، وَالِاسْتِئْنَاسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ .
وَجِنْسُ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ

الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ مِنْهُ لِعَارِضٍ ، فَكَانَ صَيْدًا بِخِلَافِ الْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْمَنَازِلِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ ، وَالْكَلْبُ لَيْسَ بِصَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَحِّشٍ بَلْ هُوَ مُسْتَأْنَسٌ ، سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحْشِيًّا ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ فِي الْأَصْلِ ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَوَحَّشُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْإِبِلَ إذَا تَوَحَّشَتْ .
وَكَذَا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ لَيْسَ بِصَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ .
وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْأَهْلِيِّ .
وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ : أَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فَأَشْبَهَ الثَّعْلَبَ وَنَحْوَهُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ : أَنَّ جِنْسَ السِّنَّوْرِ مُسْتَأْنَسٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَوَحَّشُ الْبَعْضُ مِنْهُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْبَعِيرَ إذَا تَوَحَّشَ ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْبُرْغُوثِ ، وَالْبَعُوضِ ، وَالنَّمْلَةِ ، وَالذِّئَابِ وَالْحَلَمِ ، وَالْقُرَادِ ، وَالزُّنْبُورِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِانْعِدَامِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَطْلُبُ الْإِنْسَانَ مَعَ امْتِنَاعِهِ مِنْهَا ؟ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى غَالِبًا ، فَالْتَحَقَتْ بِالْمُؤْذِيَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ الْحَيَّةِ ، وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَةَ لَا لِأَنَّهَا صَيْدٌ بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ إزَالَةِ التَّفَثِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ ، وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ إزَالَةِ التَّفَثِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ أَزَالَ شَعْرَةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارَ الصَّدَقَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ قَمْلَةً أَوْ

أَلْقَاهَا أَطْعَمَ كِسْرَةً ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَطْعَمَ قَبْضَةً مِنْ الطَّعَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً أَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ .
وَكَذَا لَا يَقْتُلُ الْجَرَادَةَ ؛ لِأَنَّهَا صَيْدُ الْبَرِّ أَمَّا كَوْنُهُ صَيْدًا فَلِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَيْدَ الْبَرِّ ؛ فَلِأَنَّ تَوَالُدَهُ فِي الْبَرِّ ، وَلِذَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ يَمُوتُ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " ثَمَرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ " وَلَا بَأْسَ لَهُ بِقَتْلِ هَوَامِّ الْأَرْضِ مِنْ : الْفَأْرَةِ ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ ، وَالْخَنَافِسِ ، وَالْجِعْلَانِ ، وَأُمِّ حُبَيْنٍ ، وَصَيَّاحِ اللَّيْلِ ، وَالصَّرْصَرِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ ، بَلْ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ .
وَكَذَا الْقُنْفُذُ وَابْنُ عِرْسٍ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " ابْنُ عِرْسٍ مِنْ سِبَاعِ الْهَوَامِّ " ، وَالْهَوَامُّ لَيْسَتْ بِصَيْدٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَحَّشُ مِنْ النَّاسِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " فِي الْقُنْفُذِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهِ وَبَيَانُ مَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الصَّيْدُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : بَرِّيٌّ ، وَبَحْرِيٌّ فَالْبَحْرِيُّ هُوَ الَّذِي تَوَالُدُهُ فِي الْبَحْرِ ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَحْرِ ، أَوْ يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ ، وَالْبَرِّيُّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْبَرِّ ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ أَوْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّوَالُدِ أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ جَمِيعًا مَأْكُولًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } وَالْمُرَادُ مِنْهُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ يُقَالُ : صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَصِيدِ مَجَازٌ ، وَالْكَلَامُ بِحَقِيقَتِهِ إبَاحَةُ اصْطِيَادِ مَا فِي الْبَحْرِ عَامًّا ، وَأَمَّا صَيْدُ الْبَرِّ فَنَوْعَانِ : مَأْكُولٌ ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ ، أَمَّا الْمَأْكُولُ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ نَحْوَ : الظَّبْيِ ، وَالْأَرْنَبِ ، وَحِمَارِ الْوَحْشِ ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ ، وَالطُّيُورِ الَّتِي يُؤْكَلُ لُحُومُهَا بَرِّيَّةً كَانَتْ ، أَوْ بَحْرِيَّةً ؛ لِأَنَّ الطُّيُورَ كُلَّهَا بَرِّيَّةٌ ؛ لِأَنَّ تَوَالُدَهَا فِي الْبَرِّ إنَّمَا يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وقَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ : يَقْتَضِي تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ عَامًّا ، أَوْ مُطْلَقًا إلَّا مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ .
وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } وَالْمُرَادُ مِنْهُ : الِابْتِلَاءُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ

أَلِيمٌ } أَيْ : اعْتَدَى بِالِاصْطِيَادِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ صَيْدُ الْبَرِّ ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ ، وَالدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ } وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ سَبَبٌ إلَى الْقَتْلِ ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِأَسْبَابِهِ .
وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ فَوْقَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ ، وَتَحْرِيمُ الْأَدْنَى تَحْرِيمُ الْأَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالتَّأْفِيفِ مَعَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَكُونُ مُؤْذِيًا طَبْعًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى غَالِبًا ، وَنَوْعٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا ، أَمَّا الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ نَحْوَ : الْأَسَدِ ، وَالذِّئْبِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْأَذَى وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ ، وَلِهَذَا أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْغُرَابُ وَرُوِيَ وَالْحِدَأَةُ } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ ، وَالْغُرَابُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ ، وَالْفَأْرَةُ ،

وَالْغُرَابُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَعِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا هِيَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى وَالْعَدْوُ عَلَى النَّاسِ غَالِبًا فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْحِدَأَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَى اللَّحْمِ وَالْكَرِشِ ، وَالْعَقْرَبُ تَقْصِدُ مَنْ تَلْدَغُهُ وَتَتْبَعُ حِسَّهُ وَكَذَا الْحَيَّةُ ، وَالْغُرَابُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الْبَعِيرِ وَصَاحِبُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ ، وَالْفَأْرَةُ تَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ مِنْ شَأْنِهِ الْعَدْوُ عَلَى النَّاسِ وَعَقْرِهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْغَالِبِ ، وَلَا يَكَادُ يَهْرَبُ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْأَسَدِ ، وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ ، وَالنَّمِرِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وُرُودًا فِي هَذِهِ دَلَالَةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " الْغُرَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ ، أَوْ يَخْلِطُ مَعَ الْجِيَفِ إذْ هَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى " وَالْعَقْعَقُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى .
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا كَالضَّبُعِ ، وَالثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ عَدَا عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ : " يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ " وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَتْلِ قَائِمٌ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَلَوْ سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهِ .
وَفِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَبَقِيَ مُحَرِّمُ الْقَتْلِ كَمَا كَانَ ، كَالْجَمَلِ الصَّئُولِ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا عَدَا عَلَيْهِ وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ قَتْلَ ضَبُعٍ فَأَدَّى جَزَاءَهَا وَقَالَ : " إنَّا ابْتَدَأْنَاهَا " فَتَعْلِيلُهُ بِابْتِدَائِهِ قَتْلَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَوْ ابْتَدَأَتْ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَقَوْلُهُ " الْإِحْرَامُ قَائِمٌ " مُسَلَّمٌ

لَكِنَّ أَثَرَهُ فِي أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ لَا فِي وُجُوبِ تَحَمُّلِ الْأَذَى بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَذَى ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ فِي حَالِ الْأَذَى ، فَلَمْ يَجِبْ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ثَبَتَتْ حَقًّا لِمَالِكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ فَيَضْمَنُ الْقَاتِلُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْدُ عَلَيْهِ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ " يُبَاحُ لَهُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ " وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ خَمْسٍ مِنْ الدَّوَابِّ ، وَهِيَ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَالضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلُهُ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ ، وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ عَلَى الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ لِوُجُودِ حَدِّ الصَّيْدِ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ : صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَثَعَالِبُ وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ أَطْلَقَ اسْمَ الصَّيْدِ عَلَى الثَّعْلَبِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهَا الصَّيْدَ الْعَادِيَ الْمُبْتَدِئَ بِالْأَذَى غَالِبًا ، أَوْ قُيِّدَتْ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ غَيْرِهِ ، أَوْ التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ } ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي قَتْلِ

الْمُحْرِمِ الضَّبُعَ جَزَاءً " وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الضَّبُعِ إذَا عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ : فَلْيَقْتُلْهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْدُوَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُسِنَّةٌ وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِيثِ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ، بَلْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى غَالِبًا ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ ، بَلْ مِنْ عَادَتِهِمَا الْهَرَبُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا يُؤْذِيَانِ أَحَدًا حَتَّى يَبْتَدِئَهُمَا بِالْأَذَى ، فَلَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فِيهِمَا فَلَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ : الضَّبُّ ، وَالْيَرْبُوعُ ، وَالسَّمُّورُ ، وَالدُّلَّف ، وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ ، وَالْخِنْزِيرُ ؛ لِأَنَّهَا صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهَا ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ وَلَا تَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَتَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : فِي الْخِنْزِيرِ " أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ " لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَعَازِفِ ، وَقَتْلِ الْخَنَازِيرِ } نَدَبَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَتْلِهِ .
وَالنَّدْبُ فَوْقَ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ أَوْ عَلَى حَالِ الْعَدْوِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى ، حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ سِبَاعُ الطَّيْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ ، وَإِمَّا أَنْ جَرَحَهُ ، وَإِمَّا أَنْ أَخَذَهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَالْقَتْلُ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً ، أَوْ تَسَيُّبًا ، فَإِنْ كَانَ مُبَاشَرَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ لَهُمَا بَصَارَةٌ بِقِيمَةِ الصَّيُودِ فَيُقَوِّمَانِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا تُبَاعُ فِيهِ الصَّيُودُ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ يُقَوِّمَانِهِ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْعُمْرَانِ إلَيْهِ ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ ، فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَهْدَى ، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ ، أَوْ كَانَ مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْخِيَارَ لِلْحَكَمَيْنِ إنْ شَاءَا حَكَمَا عَلَيْهِ هَدْيًا ، وَإِنْ شَاءَا طَعَامًا ، وَإِنْ شَاءَا صِيَامًا ، فَإِنْ حَكَمَا عَلَيْهِ هَدْيًا نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ إنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ ، سَوَاءٌ كَانَ قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ ، بَلْ إلَى الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ ، فَيَجِبُ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ ، وَفِي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ مِمَّا فِي ذَبْحِهِ قُرْبَةٌ كَالْحَمَامِ ، وَالْعُصْفُورِ ، وَسَائِرِ الطُّيُورِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ، وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ : إنَّ الْخِيَارَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَهُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا

إخْرَاجُ النَّظِيرِ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَا لَهُ نَظِيرُ النَّظِيرِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ ، وَيَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا عَنْ النَّظِيرِ لَا عَنْ الصَّيْدِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مُوجِبِ قَتْلِ صَيْدٍ لَهُ نَظِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } أَيْ : فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءً مِثْلَ مَا قَتَلَ ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : " الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ " وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : " الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ " وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءً مِنْ النَّعَمِ ، وَهُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمِثْلَ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالنَّعَمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ النَّعَمِ ، وَمِنْ هَهُنَا لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِنْ النَّعَمِ ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَقْتُولِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْجَبُوا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً ، وَفِي الظَّبْيَةِ شَاةً ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا ، ، وَهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ وُجُوهٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا : أَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى الْمُحْرِمِينَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَامًّا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الصَّيْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ

بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، } وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الصَّيْدِ الْمُوجَدِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ مِثْلًا يَعُمُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي صَيْدٍ لَا نَظِيرَ لَهُ ، بَلْ الْوَاجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ ، فَكَانَ صَرْفُ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْعُمُومِ إلَيْهِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ ، وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَالثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمِثْلِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا عُرِفَ مِثْلًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ، وَالْمِثْلُ الْمُتَعَارَفُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ، هُوَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ حِنْطَةً يَلْزَمُهُ حِنْطَةٌ .
وَمَنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عَرْضًا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ .
فَأَمَّا الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ فَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ لَا إلَى غَيْرِهِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمِثْلَ مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ وَاحِدًا ، وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَيَقَعُ عَلَى الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، فَالْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يُرَادُ مِنْ الْآيَةِ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ ، فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ مُرَادًا إذْ الْمُشْتَرَكُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ لَا عُمُومَ لَهُ ،

وَالرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَالَةَ الْحَكَمَيْنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ ، وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ بِهَا تَتَحَقَّقُ الصِّيَانَةُ عَنْ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ ، وَتَقْرِيرِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَسَطِ .
فَأَمَّا الصُّورَةُ فَمُشَابَهَةٌ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْعَدَالَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { مِنْ النَّعَمِ } فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { مِنْ النَّعَمِ } خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا ، وَقَوْلُهُ { مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُرْجَعُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْهَدْيِ الَّذِي يُوجَدُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْقِيمَةِ ، فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ : { مِثْلُ مَا قَتَلَ } مَرْبُوطًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { مِنْ النَّعَمِ } مَعَ اسْتِغْنَاءِ الْكَلَامِ عَنْهُ .
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ زَائِدٌ يُوجِبُ الرَّبْطَ بِغَيْرِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَصَلَ قَوْلَهُ { مِنْ النَّعَمِ } بِقَوْلِهِ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } جَعَلَ الْجَزَاءَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ ، وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ { مِنْ النَّعَمِ } تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ ، لَكَانَ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِدُخُولِ حَرْفِ أَوْ بَيْنَهُمَا ، وَبَيْنَ النَّعَمِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الذِّكْرِ ، بِأَنْ قَالَ تَعَالَى :

فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ طَعَامًا ، أَوْ صِيَامًا أَوْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي التِّلَاوَةِ ، لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الْمَعْنَى ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِلْمَقْتُولِ دَلَّ أَنَّ ذِكْرَ النَّعَمِ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مَوْصُولِ الْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ ، وَقَوْلُ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيجَابِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ مَعَ مَا ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي اعْتِبَارُ مَكَانِ الْإِصَابَةِ فِي التَّقْوِيمِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَالشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ : هُوَ النَّظِيرُ إمَّا بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ أَوْ ابْتِدَاءً ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَكَانُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ الِاسْتِهْلَاكِ ، كَمَا فِي اسْتِهْلَاكِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَمِنْهَا أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عَنْ الصَّيْدِ عِنْدَنَا ، فَيُقَوِّمُ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُقَوِّمُ الْهَدْيَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ جَزَاءَ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } إلَى قَوْلِهِ { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فَلَمَّا كَانَ الْهَدْيُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ جَزَاءً مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ إمَّا

فِي قِيمَتِهِ أَوْ نَظِيرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ، كَانَ الطَّعَامُ مِثْلَهُ ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ اعْتِبَارَ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ بِلَا خِلَافٍ ، فَكَذَا فِيمَا لَهُ مِثْلٌ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .

وَمِنْهَا أَنَّ كَفَّارَةَ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ : عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْهَدْيِ ، ثُمَّ الْإِطْعَامِ ، ثُمَّ الصِّيَامِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ لَا يَجُوزُ الطَّعَامُ .
وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ ، أَوْ الطَّعَامُ لَا يَجُوزُ الصِّيَامُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ التَّرْتِيبَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَكَمُوا فِي الضَّبُعِ بِشَاةٍ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَرْفَ أَوْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ ، وَحَرْفُ أَوْ إذَا ذُكِرَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ يُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرُ لَا التَّرْتِيبُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وقَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَغَيْرُ ذَلِكَ ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ ، إلَّا فِي مَوْضِعٍ قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا أَوْ عَلَى إرَادَةِ الْوَاوِ ، مَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الْهَدْيَ فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَدَنَةً نَحَرَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَتْ بَقَرَةً ذَبَحَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَقَرَةً وَبَلَغَتْ شَاةً ذَبَحَهَا ، وَإِنْ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ إذَا بَلَغَتْ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً سَبْعَ شِيَاهٍ وَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ شِرَاءَ الْهَدْيِ وَفَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الصَّيْدِ ، فَإِنْ بَلَغَ هَدْيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اشْتَرَى ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ هَدْيًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57