كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ عَلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ ، وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَتِمَّ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ ، وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ ثَمَنَهَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُزَكَّى الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ ، أَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ فَأَدَّى عُشْرَهُ ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ بَاعَهَا يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ ،

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ ، وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ ، وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ ، وَالْأَرْضُ الَّتِي أَدَّى خَرَاجَهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ الَّذِي لَيْسَ بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ثِنَى فِي الصَّدَقَةِ } أَيْ : لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ ، وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا ، وَهَهُنَا لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فِيهِ .
وَكَذَا الْمَالُ لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى وَمَا ذُكِرَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ الْبِنَاءِ يُحَرِّمُ الضَّمَّ ، وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا .
وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضَمُّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ .
وَكَذَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ لَيْسَ بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ

أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ وَالْآخَرَ غَيْرُ ثَمَنِ الْإِبِلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أَقْرَبِهَا حَوْلًا أَيُّهُمَا كَانَ ، وَلَوْ لَمْ يُوهَبْ لَهُ وَلَا وَرِثَ شَيْئًا وَلَا أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا وَلَمْ يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ حَوْلًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ .
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الِاسْتِتْبَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةً ؛ لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا مِنْهُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ الْأَصْلِ .

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ فَهَلَاكُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ اسْتَفَادَ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ .
لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } ، وَالْهَالِكُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ .
وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكْمِلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ .
وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْمَالِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لَمْ يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ .
وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ : لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْهُمْ سَاعَةً فَسَاعَةً .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى إحْدَاهُمَا كَمَا إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا .
وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ

بِالْعَيْنِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا .
وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أَوْ الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمَ بِالْغَنَمِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَنْقَطِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كَمَا إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ لَهُ الْحَوْلُ .
وَكَذَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعُرُوضٍ يَنْوِي بِهَا التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ فِي الْمَالَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ فِي أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ ، وَفِي الْآخَرِ الْمَعْنَى .
وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ : يُكْرَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُكْرَهُ .
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا .

وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي النِّصَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرَ النِّعْمَةِ الْمَالِ .
وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَفِي آخِرِهِ لَا فِي خِلَالِهِ حَتَّى لَوْ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ مَالِ التِّجَارَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِر الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَلَا نِصَابَ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً

فِي وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : تَرَكْتُ هَذَا الْقِيَاسَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ وَتَنْتَقِصُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ آخِرُ الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ .
وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ فِي السَّائِمَةِ ؛ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر وُجُودُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لِيَضُمَّ الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً فِي خِلَالِ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ .
وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا ، لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ ، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا : الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَالثَّانِي : أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ ، وَالثَّالِثُ : السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ ، وَمَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ .
( فَصْلٌ ) : أَمَّا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَمَّا قَدْرُ النِّصَابِ فِيهِمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ أَوْ اجْتَمَعَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنَ سَبْعَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ذَكَرَ فِيهِ الْفِضَّةَ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ شَيْءٌ ، وَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ } وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ مِنْ الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ مِنْ الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ ، وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ ، أَوْ قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا

اعْتَبَرْنَا وَزْنَ سَبْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، وَالْمِائَتَانِ مِمَّا يُوزَنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا ؛ لِأَنَّهُ الْوَزْنُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْإِسْلَامِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ بَعْضُهَا ثَقِيلًا مِثْقَالًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا طَيْرِيًّا فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ فِي الْإِسْلَامِ جَمَعُوا الدِّرْهَمَ الثَّقِيلَ وَالدِّرْهَمَ الْخَفِيفَ فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ فَكَانَا دِرْهَمَيْنِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ نَقَصَ النِّصَابُ عَنْ الْمِائَتَيْنِ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَمَالِ النِّصَابِ فَلَا نَحْكُمُ بِكَمَالِهِ مَعَ الشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَتْ الْفِضَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ النِّصَابِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا .
وَيُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَنَقُولُ : لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا النِّصَابِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً ، أَوْ نُقْرَةً ، أَوْ تِبْرًا ، أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا ، أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ ، أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي ، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ لِلنَّفَقَةِ ، أَوْ لِلتَّجَمُّلِ ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا .
وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أَوْ لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ } ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مَحْظُورٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الِابْتِذَالَ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَانَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا وَإِذَا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ .
نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مَعَ ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هَذَا .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ إنْفَاقِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ

الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْهَا لِلْفُقَرَاءِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ فِي بَابِ الْحُلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ ، مَعَ مَا أَنَّ تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ .
قَالَ : لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا تَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا .
وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فِيهَا مَغْلُوبَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً

لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ ، وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ كَمَعْرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ .
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ أَوْ دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أَوْ نُحَاسٌ أَوْ مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فِيهَا الْفِضَّةُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا ، فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ .
وَعَلَى هَذَا كَانَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي دِيَارِنَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً فَإِنْ كَانَتْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ، أَوْ بِالضَّمِّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ .
وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتَى بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْهَا عَدَدًا .
وَكَانَ يَقُولُ : " هُوَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا " وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ ، وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا

ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ .
وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : وَعَلَى هَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَلَا خِلَافَ فِي السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزَّوَائِدِ مِنْهَا عَلَى النِّصَابِ حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ .
وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي السَّوَائِمِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ { : لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا

فَإِذَا كَانَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ مِنْهَا دِرْهَمًا } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كُلِّ نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْكُسُورِ حَرْجًا وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بَلْ شَكُّوا فِي قَوْلِهِ : " وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَوْلُ عَلِيٍّ فَإِنْ كَانَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ حُجَّةً ، وَإِنْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ .
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هُوَ التَّنَعُّمُ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهَا فَرُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَا إذْ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا تَوْقِيفًا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ } وَخَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { وَالذَّهَبُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فِيهِ فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ } وَكَانَ الدِّينَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَوَّمًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ { : لَيْسَ عَلَيْك فِي الذَّهَبِ زَكَاةٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ } وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ لِوَاحِدٍ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَبْلُغْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي نِصَابِ السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ الذَّهَبِ فَنَقُولُ : لَا يُعْتَبَرُ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ أَيْضًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ ذَهَبًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَضْرُوبِ وَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ وَالْحُلِيِّ إلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي مُطْلَقِ الذَّهَبِ .
وَكَذَا حُكْمُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ كَالْمَحْمُودِيَّةِ وَالصُّورِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا .
وَحُكْمُ الذَّهَبِ الْخَالِصِ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْهَرَوِيَّةُ وَالْمَرْوِيَّةُ وَمَا لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ لِلتِّجَارَةِ ، وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزْنًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَخْلُصُ بِالْإِذَابَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الذَّهَبِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ فَيَجِبُ فِيهَا قِيرَاطَانِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِحِسَابِ ذَلِكَ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهِ فَرُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّ نِصْفَ مِثْقَالٍ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا رُبُعُ عُشْرِهِ .
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ لَهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا صُورَةً وَمَعْنًى .
أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَصَارَ كَالْإِبِلِ مَعَ الْغَنَمِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَكْمُلُ النِّصَابُ مِنْ قِيمَتَهَا وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ مَالُ الزَّكَاةِ جِنْسًا وَاحِدًا وَهُوَ الذَّهَبُ أَوْ الْفِضَّةُ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا دُونَ الْقِيمَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُكْمَلُ بِهِ الْقِيمَةُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ ، وَإِنَّمَا يُكْمَلُ بِالْوَزْنِ كَثُرَتْ الْقِيَامَةُ أَوْ قَلَّتْ بِأَنْ كَانَتْ رَدِيئَةً .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ إلَى الذَّهَبِ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ .
وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ

الْخِلْقَةِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَكَانَا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْوَاجِبُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِ .
وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وَإِذَا اتَّحَدَ الْمَالَانِ مَعْنًى فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يُكْمَلُ نِصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَأَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْدُ الْبَلَدِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ فَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الْفِضَّةِ وَصَارَ كَالسُّودِ مَعَ الْبِيضِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَعَذَّرَ تَكْمِيلُ نِصَابِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُؤَدَّى رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَدَّى مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ ، وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبْعُ مِثْقَالٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ وَالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَاةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ .
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ

دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَوِّمُ الدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا دَرَاهِمَ وَتُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُكَمَّلُ نِصَابُ الدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ ؛ لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النِّصَابِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَجِبُ فِيهَا سِتَّةُ دَرَاهِمَ ، وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ نِصْفَ نِصَابِ الذَّهَبِ وَنِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ فَيَكُونُ نِصَابًا تَامًّا فَيَجِبُ فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ عُشْرِهِ أَمَّا إذَا كَانَ وَزْنُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ أَوْ خَمْسَةُ عَشْرَ مِثْقَالًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَلْ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ .
وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكْمُلْ بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِصِنَاعَةٍ مِائَتَانِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ آنِيَةُ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهَا

لِصِنَاعَتِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ ؟ .
وَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ آنِيَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ لَوَجَبَتْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا اتِّحَادَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِأَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ وَالْآنِيَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتَظْهَرُ لِلْجُودَةِ قِيمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ تَقُومُ بِخِلَافِ جِنْسِهَا ؟ فَإِنْ اغْتَصَبَ قَلْبًا فَهَشَّمَهُ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ فِي التَّكْمِيلِ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ضَرْبَ احْتِيَاطٍ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَوْلَى ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

يُعْتَبَرُ فِي التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كُلَّ خَمْسَةٍ مِنْهَا بِدِينَارٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلُّهُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمِّ إذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا تَامًّا وَلَمْ يَكُنْ زَائِدًا عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الضَّمُّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ .
وَلَوْ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدَّى كُلُّهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ رَوَاجًا وَإِلَّا فَيُؤَدَّى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ عُشْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصَابَيْنِ زِيَادَةٌ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ بِحِسَابِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُنْظَرُ إنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِيَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْكُسُورِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا أَمْوَالُ التِّجَارَةِ فَتَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ : وَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَصْلًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا نَضَّتْ زَكَّاهَا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِوُجُوبِهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالسَّوَائِمِ فَلَوْ وَجَبَتْ فِي غَيْرِهَا لَوَجَبَتْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ خُصُوصًا فِي بَابِ الْمَقَادِيرِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِي كُنَّا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي الْبُرِّ صَدَقَةٌ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ } فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي نِصَابِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ : " مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ " .
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِهِ يُوجِبُ سَلْبَ عُمُومِ أَوَّلِهِ أَوْ نَحْمِلُ قَوْلَهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ عَلَى الْقِيمَةِ أَيْ : مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ قِيمَتِهَا دِرْهَمٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ كَالسَّوَائِمِ .
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ ؛ لِأَنَّا قَدْ رَوَيْنَا النَّصَّ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ شُكْرٌ

لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ بِإِعَانَةِ الْعَاجِزِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عُرِفَ بِالسَّمْعِ .
وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشَرْطُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْوُجُوبِ فِيهِ كَالسَّوَائِمِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ .
وَكَذَا يُضَمُّ بَعْضُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِمَا قُلْنَا .
وَإِذَا كَانَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِقِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ نِصَابٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوِيمِ حَتَّى يُعْرَفَ مِقْدَارُ النِّصَابِ ثُمَّ بِمَاذَا تُقَوَّمُ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِأَوْفَى الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى إنَّهَا إذَا بَلَغَتْ بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَلَمْ تَبْلُغْ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَتْ بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّصَابَ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّنَانِيرِ قَوَّمَهَا بِالدَّنَانِيرِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ اشْتَرَاهَا بِأَنْ كَانَ وُهِبَ لَهُ فَقَبِلَهُ يَنْوِي بِهِ التِّجَارَةَ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا يَوْمَ حَالَ الْحَوْلُ إنْ شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ .
وَجْهُ

قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلْدَةِ كَذَا هَذَا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرَى بَدَلٌ وَحُكْمُ الْبَدَلِ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ مُشْتَرًى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هُوَ أَصْلُهُ أَوْلَى .
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا ، وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ فِي ذَلِكَ سِيَّانِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَهِيَ مَا إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ الْخِيَارَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ ؟ فَكَذَا هَذَا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَا فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ بِهِمَا سَوَاءٌ ، لَكِنَّا رَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا بِمُرَجِّحٍ وَهُوَ النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالتَّقْوِيمِ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَاحْتِيَاطًا ؟ كَذَا هَذَا .
وَمَشَايِخُنَا حَمَلُوا رِوَايَةَ كِتَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ النَّفْعُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالتَّقْوِيمِ بِأَيِّهِمَا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَعَ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فَإِنَّهُ يَضُمُّهَا إلَى الْعُرُوضِ وَيُقَوِّمُهُ جُمْلَةً ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ يَشْمَلُ الْكُلَّ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ قَوَّمَ الْعُرُوضَ وَضَمَّهَا إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَضَمَّ قِيمَتَهُمَا إلَى قِيمَةِ أَعْيَانِ التِّجَارَةِ .
وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتُقَوَّمُ الْعُرُوض فَيَضُمُّ قِيمَتَهَا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا .
وَلَا يُقَوَّمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارَنَةً لِعَمَلِ التِّجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْدَادِ الْعَبْدِ وَيُوجَدُ الْإِعْدَادُ مِنْهُ دَلَالَةً عَلَى مَا مَرَّ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا النِّصَابِ فَمَا هُوَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ نِصَابَ مَالِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَاجِبُ فِيهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
أَمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْقِيمَةُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ ، وَبَنَوْا عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى تَغَيَّرَ سِعْرُهَا إلَى النُّقْصَانِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ إلَى الزِّيَادَةِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : وَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ يَوْمَ الْحَوْلِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ يُؤَدِّي فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَهُمَا هُوَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ .
وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ

عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ .
وَكَذَا لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ أَصْلًا سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ فِي النِّصَابِ عَيْنًا لَمَا سَقَطَتْ كَمَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ غَيْرَ النِّصَابِ .
وَكَذَا إذَا بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ مِنْ السَّوَائِمِ وَالسَّاعِي حَاضِرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ لَمَا مَلَكَ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي ، فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ ، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَكِنْ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقُّ النَّقْلِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَمَسَائِلُ الْجَامِعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَاجِبُ مِنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي النِّصَابِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَا إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ وَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ لَا تَجِبُ أَصْلًا ، وَفِي قَوْلٍ تَجِبُ ثُمَّ تَسْقُطُ لَا إلَى ضَمَانٍ وَلَا خِلَافٍ فِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ وَتَقَرَّرَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كَمَا فِي دُيُونِ الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَكَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَ

مَالُهُ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالٍ لَا بِعَيْنِهِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ } أَوْجَبَ خَمْسَةً وَشَاةً لَا بِعَيْنِهَا .
وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا ، وَلِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَمَنْ مَنَعَ الْحَقَّ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ يُضْمَنُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَلَبَهُ الْفَقِيرُ أَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِالْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ النِّصَابُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَالِكَ إمَّا أَنْ يُؤَاخَذَ بِأَصْلِ الْوَاجِبِ أَوْ بِضَمَانِهِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْد فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي ، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا هَلَكَ ، وَالشِّقْصُ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ أَصْلِ الْوَاجِبِ هُوَ النِّصَابُ قَوْله تَعَالَى { : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خُذْ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ ، وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ } الْحَدِيثَ .
وَكَلِمَةُ مِنْ تَبْعِيضٌ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْضَ النِّصَابِ .
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ } جَعَلَ الْوَاجِبَ مَظْرُوفًا فِي النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ فِي لِلظَّرْفِ ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا عَلَى طَرِيقِ الْيُسْرِ وَطِيبَةِ النَّفْسِ بِأَدَائِهَا وَلِهَذَا اُخْتُصَّ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشُرِطَ لَهَا الْحَوْلُ وَكَمَالُ النِّصَابِ .
وَمَعْنَى الْيُسْرِ فِي كَوْنِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ

بِهَلَاكِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ كَمَا فِي سَائِرِ الضَّمَانَاتِ ، وَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ مَنَعَ حَقَّ الْفَقِيرِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَنَقُولُ : إنَّ هَذَا الْفَقِيرَ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْحَقِّ فَإِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ ، وَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي فَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَيَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ مُفَوِّتًا فَيُضَمَّنُ .
وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءِ النَّهْرِ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَضْمَنُ .
وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إذَا حَبَسَ السَّائِمَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى تَوِيَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا الْحَبْسِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاتِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَبْسَهَا بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي لَهَا .
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ مِلْكًا وَلَا يَدًا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا ، وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا ، هَذَا إذَا هَلَكَ كُلُّ النِّصَابِ فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ عَلَى النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، ثُمَّ إذَا هَلَكَ الْكُلُّ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بِقَدْرِ

هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ عَفْوٌ ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ النِّصَابُ وَالْعَفْوُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَعْضُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ : يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا النِّصَابُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْكُلِّ شَائِعًا حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ تِسْعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ } أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي ، وَالْعَفْوُ مَالٌ نَامٍ .
وَمَعَ هَذَا لَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ نَظِيرُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانَ قَضَاؤُهُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ ، وَإِنْ كَانَ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ إلَى الثَّالِثِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ فَمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا } وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ أَيْضًا { : فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ } وَهَذَا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ وَالْعَفْوَ تَبَعٌ لَلنِّصَاب ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْوَقْصِ

وَالْوَقْصُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ النِّصَابِ .
وَالْمَالُ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَإِذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ كَذَا هَذَا .
وَعَلَى هَذَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى ثَمَانِينَ شَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ مِنْهَا وَبَقِيَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا عِنْدَهُمَا فَجُعِلَ كَأَنَّ الْغَنَمَ أَرْبَعُونَ مِنْ الِابْتِدَاءِ .
وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ : عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي نِصْفُ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وَقَدْ هَلَكَ النِّصْفُ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ ، وَلَوْ هَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ وَبَقِيَ سِتُّونَ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ فِي الْجَامِعِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا فِي زَكَاةِ السَّوَائِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْوَاجِبُ هُنَاكَ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ النِّصَاب لِلتَّقْدِيرِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ

عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى ، لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ الْجَامِعِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ رُبُعُ عُشْرِ النِّصَابِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْحَوْلِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةً هُمَا يَقُولَانِ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ وَغَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ وِلَايَةَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ إمَّا تَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَإِمَّا نَقْلًا لِلْحَقِّ .
وَالتَّيْسِيرُ لَهُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْوَاجِبِ .
وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَجُزْءُ النِّصَابِ ، ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُنْقَلُ ذَلِكَ إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ النَّقْلِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْمَغْرُورُ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ يَوْمَ التَّضْمِينِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ عُلِّقَ حُرُّ الْأَصْلِ فَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ جُعِلَ مَمْلُوكًا لَهُ لِحُصُولِهِ عَنْ مَمْلُوكَتِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَكَذَا هَهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَاب ، غَيْرَ أَنَّ وُجُوبَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقُ الْمَالِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ

الشَّاةِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنْهَا ، وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِهِ جُزْءٌ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلتَّحْقِيقِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُ أَيْسَرُ فِي الْأَغْلَبِ حَتَّى أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجُزْءِ لَوْ كَانَ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ وَعِنْدَ مَيْلِهِ إلَيْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ مُطْلَقُ الْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ ، وَالتَّعَلُّقُ بِهِ لِلتَّيْسِيرِ بِدَلِيلِ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاحِدِ مِنْ الْخَمْسِ ، وَالنَّاقَةِ الْكَوْمَاءِ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِسَبَبِ نُقْصَانِ السِّعْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ .
وَأَمَّا فِي السَّوَائِمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ : يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ كَمَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَ الْأَدَاءِ كَمَا قَالَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ثَمَّةَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مَالِ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغَيُّرِ السِّعْرِ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْجَامِعِ هَذَا إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ .

فَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ؟ عِنْدَنَا يَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ عِنْدَنَا .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَلَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ .
وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا يَقُولُ أَوْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَلَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا حَقَّ فِي الْمَالِ حَتَّى يَمْنَعَ نَفَاذَ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَنْفُذُ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ فَكَانَ الْمَحَلُّ خَالِيًا عَنْ الْحَقِّ قَبْلَ الْفِعْلِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ كَذَا هَذَا .
وَإِذَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَنَا فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فِيهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِمِثْلِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ .
بَيَانُ ذَلِكَ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَخْرَجَهُ الْمَالِكُ عَنْ مِلْكِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ الْوَاجِبَ بَلْ نَقَلَهُ مِنْ مَحَلِّ إلَى مَحَلِّ مِثْلِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا مَعْنًى فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ .
وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ وَحَابَى بِمَا

يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا وَلِهَذَا جُعِلَ عَفْوًا فِي بَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَإِنْ حَابَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ يَضْمَنُ قَدْرَ زَكَاةِ الْمُحَابَاةِ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَزَكَاةُ مَا بَقِيَ يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَيْنِ يَبْقَى بِبَقَائِهَا وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا .
وَلَوْ أَخْرَجَ مَالَ الزَّكَاةِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِ الْفَقِيرِ وَالْوَصِيَّةِ ، أَوْ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً ، أَوْ صَالَحَ بِهِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ ، أَوْ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ يَضْمَنُ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إتْلَافٌ لَهُ .
وَكَذَا بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِأَنْ بَاعَهُ بِعَبْدِ الْخِدْمَةِ أَوْ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْعِوَضُ فِي يَدِهِ أَوْ هَلَكَ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْمَالُ بِهِ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكُهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ .
وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ بِهِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ ، وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا وَكَذَا لَوْ صَرَفَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَوَائِجِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً يَضْمَنُ الزَّكَاةَ ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا .
وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أَوْ بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الْعِوَضِ ؛ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهَا لَا

اسْتِبْدَالًا ، وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا قُلْنَا وَقَالُوا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى مِنْ الدَّمِ عَلَى عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا : إنَّهُ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ هُوَ التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ التَّخَمُّرِ فِي زَوَالِ صِفَةِ التَّقَوُّمِ وَلَا غَيْرَ ، وَقَدْ عَادَتْ الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا أَنَّ جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا اسْتِهْلَاكٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْهُ لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ إذْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ .
وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي كَمَا قُبِلَ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ مِنْ مَوْضِعِهَا مَعَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا ؟ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قَبْلَ النَّقْلِ فَلَهُ الْخِيَارُ .
وَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ مِنْ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَالِكُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ؟ وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ قَبْلَ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ .
وَالْمَعْنَى مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، وَالْعُشْرِ ، وَالْخَرَاجِ ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَالنُّذُورِ ، وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا

يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْخَمْسِ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } ، وَقَوْلُهُ : { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } .
وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الزَّكَاةِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ " وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ " فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ .
وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهِ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا ، وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا .
وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ } إلَّا أَنَّ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ بَعِيرٍ مِنْ الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ .
وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مِثْلُ أَدَاءِ الْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ .
وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَدَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّفْرِيطِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ النِّصَابِ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَنَّ تَعَلُّقَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ لِلتَّيْسِيرِ لِيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ .

وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ تَعَيَّنَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ ، إذْ لَوْ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِغَيْرِ الْجُزْءِ لَبَقِيَتْ الشَّرِكَةُ فِي النِّصَابِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا لَا يَخْفَى خُصُوصًا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ نَحْوَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْأَفْرَاسِ الْفَارِهَةِ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعَلُّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ الِاخْتِيَارُ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ رَأَى الْجُزْءَ إلَيْهِ أَيْسَرَ أَدَّى الْجُزْءَ ، وَإِنْ رَأَى أَدَاءَ غَيْرِهِ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيُسْرِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الشَّاةِ فِي الْحَدِيثِ لِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ لَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى الْمُصْدِقِ وَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ { ارْتَجَعْتُهَا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا .
وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ أَدَاءُ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ وَأَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي السَّوَائِمِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ حَتَّى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ أَمَرَنَا بِإِتْلَافِهِ حَقًّا لَهُ أَوْ سَبْيِهِ لَفَعَلْنَا وَلَمْ نَعْدِلْ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُحْتَاجِينَ كِفَايَةً لَهُمْ وَكِفَايَتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ صَارَ وُجُوبُ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْكِفَايَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ

فَصَارَ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ ، وَكَانَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ إعْلَامًا لَهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ بِنَقْلِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ ، كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةٌ وَلِرَجُلِ آخَرَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ مَنْ لَهُ الْحِنْطَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحِنْطَةُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ إيَّاهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِأَنْ يَسْتَبْدِلَ الْحِنْطَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْأَدَاءِ كَأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْحَقِّ إلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ ثُمَّ اسْتَبْدَلَ ذَلِكَ وَصَرَفَ إلَى الْآخَرِ مَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَصَارَ مَا وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ أَوْ غَيْرِهِ .
وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ أَدَاءُ مَالٍ مُطْلَقٍ مُقَدَّرٍ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيُجْزِئُهُ ، كَمَا لَوْ أَدَّى وَاحِدًا مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بِخِلَافِ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَاتَتْ أَصْلًا ، وَلِهَذَا لَا يُنْتَقَلُ بِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ وَبِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَقُومُ الْمَالُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا السَّوَائِمُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَمَّا نِصَابُ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ زَكَاةٌ ، وَفِي الْخَمْسِ شَاةٌ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ ، وَفِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ ، وَهِيَ أَقْصَى سِنٍّ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الزَّكَاةِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسٍ وَكَانَ فِيهِ وَفِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ فَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ } .
وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا مَا رَوَيْنَا مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ ، وَلِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ فِي السَّوَائِمِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مِنْ مُوَالَاةٍ بَيْنَ وَاجِبَيْنِ لَا وَقَصَ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ

بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ وَقَصٌ وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ .
قَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْقَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا هُوَ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ وَيُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَانِ فِي النِّصَابِ وَعَلَى الْحِقَاقِ فِي الْوَاجِبِ ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوْقَاصِ بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَحِقَّتَانِ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَحِقَّتَانِ ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَحِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ .
فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ إلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ

أَبَدًا فِي كُلِّ خَمْسِينَ كَمَا اُسْتُؤْنِفَتْ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى مِائَتَيْنِ فَيَدْخُلُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ مَعَ الشِّيَاهِ .
هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى تِسْعَةٍ بَلْ يُجْعَلُ تِسْعَةً عَفْوًا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ .
وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيُجْعَلُ كُلُّ تِسْعَةٍ عَفْوًا وَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَيُدَارُ النِّصَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ لَبُونٍ فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ؛ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ وَمَرَّتَيْنِ أَرْبَعُونَ ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ : إنَّهُ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ ، وَعَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ فِي الْوَاجِبِ .
وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَقَرَنَهُ بِقِرَابِ سَيْفِهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتَّى قُبِضَا وَكَانَ فِيهِ { إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ

أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَفْظُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ زِيَادَةً يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ هَذَا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ .
وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا حَظٌّ مِنْ الْوَاجِبِ ، ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ لَبُونٍ وَالْحِقَّةُ ، فَإِنَّ أَدْنَاهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ فَالْأَعْدَلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : قُلْت لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرِجْ إلَيَّ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ { فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ } .
وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَيَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقْرَأُهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ نُخَا لِفَهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ أَنْفَذَهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ : مُرْ سُعَاتُكَ فَلْيَعْمَلُوا بِهَا ، فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا مَعَنَا مِثْلُهَا ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَقَدْ وَافَقَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحِقَّتَيْنِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا

يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ .
وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُعْمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ فَنَعَمْ إذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ مِنْ الْجِنْسِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِالْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لِبَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا كَمَا كَانَتْ ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا عَلَى حَالِهِمَا لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدُ مُحْتَمِلَةً لِلْإِيجَابِ مِنْ جِنْسِهِ ، فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْقِيمَةِ فِيهَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقْلنَا مِنْ بَنَاتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلِأَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسِينَ فَيُوجِبُ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْبَقَرِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرًا زَكَاةٌ ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ { : فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ } .
فَأَمَّا إذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَسَّرْ هَذَا الْكَلَامُ ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا كَانَ لَهُ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ بَقَرَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ ، وَأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ .
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ سِتِّينَ فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ ، فَإِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الثَّلَاثِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ وَعَلَى الْأَتْبِعَةِ وَالْمُسِنَّاتِ فِي الْوَاجِبِ ، وَيُجْعَلُ تِسْعَةٌ بَيْنَهُمَا عَفْوًا بِلَا خِلَافٍ فَيَجِبُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ

أَتْبِعَةٍ ، وَفِي مِائَةٍ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ ، وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرَةَ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ وَأَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثِينَ .
وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يُدَارُ الْحِسَابِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَقَصِ وَالنِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَا نَصَّ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْلَاءِ مَالِ الزَّكَاةِ عَنْ الزَّكَاةِ ، فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِ مَا سَبَقَ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَمَا بَعْدَ السِّتِّينَ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ فَتُجْعَلُ التِّسْعَةُ عَفْوًا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثٌ وَثَلَاثِينَ وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو وَهِيَ أَعْدَلُ الرِّوَايَاتِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ { : لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا } وَفَسَّرَ مُعَاذٌ الْوَقَصَ بِمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ حَتَّى قِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ ؟ فَقَالَ : تِلْكَ الْأَوْقَاصُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْأَشْقَاصُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الْإِبِلِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عَنْ إيجَابِ الشِّقْصِ ، فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الشِّقْصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ زَكَاةٌ ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ { وَفِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ ، وَفِي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ } .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ التَّوْقِيفُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ السَّوَائِمُ لِوَاحِدٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهُوَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا كَانَتْ أَسْبَابُ الْإِسَامَةِ مُتَّحِدَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْمَاءُ وَالْمُرَاحُ وَالْكَلْبُ وَاحِدًا ، وَالشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا يُجْعَلُ مَالُهُمَا كَمَالٍ وَاحِدٍ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ .
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ

وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، وَمَا كَانَ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ } فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ حَيْثُ نَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ ، وَفِي اعْتِبَارِ حَالِ الْجَمْعِ بِحَالِ الِانْفِرَادِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ إبْطَالُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمَعِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ فِي سَائِمَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } نَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عَنْ حَالِ الشَّرِكَةِ وَالِانْفِرَادِ ، فَدَلَّ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْمَكَانِ ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ فِي مَكَانَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْمِلْكُ مُتَفَرِّقًا لَا يُجْمَعُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لِوَاحِدٍ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ كَخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ وَأَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا كَمِلْكٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَكَثَمَانِينَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا شَاتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ .
وَلَوْ أَرَادَا أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ فَيَجْعَلَاهُمَا مِلْكًا وَاحِدًا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيُعْطِيَا الْمُصْدِقَ شَاةً وَاحِدَةً لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ .
وَقَوْلُهُ " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ

مُجْتَمِعٍ " أَيْ فِي الْمِلْكِ كَرَجُلٍ لَهُ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يُفَرِّقَ الْمُجْتَمِعَ فَيَجْعَلَهَا كَأَنَّهَا لِرَجُلَيْنِ فَيَأْخُذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَهُ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَفَرِّقِينَ فِي الْمِلْكِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، أَوْ يَحْتَمِلُ مَا قُلْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ .
وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ عَشْرًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ لِكَمَالِ نِصَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَكَذَا لَوْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، وَلَوْ كَانَتْ عِشْرِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ ؛ لِأَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ ، وَلَوْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِيهَا تَبِيعٌ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِيعٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَكَذَلِكَ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ كَانَتْ ثَمَانِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَاةٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ تَمَامُ ثَمَانِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ شَاةً ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي

يُوسُفَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ ، وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يَجِبُ أَنَّهُ لَوْ قَسَمَ لَا يُصِيبُهُ نِصَابٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ شَاةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا نِصْفَهَا فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ ، وَكَذَلِكَ الزُّرُوعُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْمُصْدِقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْهُ إذَا وَجَدَ فِيهِ وَاجِبًا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا عَلَى عِلْمِهِمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ .
وَإِنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الْمَالُ فَيَكُونُ إذْنٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ دَلَالَةً ، ثُمَّ إذَا أَخَذَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ حِصَّةَ

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا غَيْرَ بِأَنْ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَأَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا زِيَادَةً لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَلَا تَرَاجُعَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَهُوَ شَاةٌ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَتْ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِكَمَالِ نِصَابِهِ وَزِيَادَةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ لِنُقْصَانِ نِصَابِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَانَتْ الشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَقَدْ أَخَذَ الْمُصْدِقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الثُّلُثِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ فَجَاءَ الْمُصْدِقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاتَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ .
وَالثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الشَّاتَانِ الْمَأْخُوذَتَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثُ شَاةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةً وَثُلُثَ شَاةٍ

وَمِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَيْ شَاةٍ فَقَدْ صَارَ آخِذًا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ زَكَاةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ } .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلْإِسَامَةِ وَهُوَ أَنْ يُسِيمَهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَهُوَ الْمُعَدُّ لِلِاسْتِنْمَاءِ ، وَالنَّمَاءُ فِي الْحَيَوَانِ بِالْإِسَامَةِ إذْ بِهَا يَحْصُلُ النَّسْلُ فَيَزْدَادُ الْمَالُ فَإِنْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ أَوْ اللَّحْمِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ فَفِيهَا زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ ، ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الرَّاعِيَةُ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ عَنْ الْعَلَفِ وَيُمَوِّنُهَا ذَلِكَ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْلَفَ ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَتُعْلَفُ وَتُمَانُ فِي الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا تُعْلَفُ زَمَانًا قَلِيلًا مِنْ السَّنَةِ ؟ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِحُصُولِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَيَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ إذَا أُسْيِمَتْ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّوْعُ وَالصِّفَةُ أَوْ اخْتَلَفَا ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ السَّوَائِمِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْعِرَابِ وَالْبَخَاتَى فِي الْإِبِلِ ، وَالْجَوَامِيسِ فِي الْبَقَرِ ، وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فِي الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِنِصَابِهَا بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعَ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ كَاسْمِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْأَهْلِيِّ أَوْ مِنْ أَهْلِيٍّ وَوَحْشِيٍّ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَهْلِيًّا

كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الشَّاةِ وَالظَّبْيِ إذَا كَانَ أُمُّهُ شَاةً وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ إذَا كَانَ أُمُّهُ أَهْلِيَّةً فَتَجِب فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ بِقَوْلِهِ { : فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ فَلَيْسَ بِشَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَحْلِ فَلَا يَكُونُ شَاةً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَلِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا السِّنُّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَسَانَّ أَوْ بَعْضُهَا فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلَانًا أَوْ حُمْلَانًا أَوْ عَجَاجِيلَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا : يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَمَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي زَكَاةِ الْفُصْلَانِ ، فِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا تَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسُ فَصِيلٍ ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : فِي الْخَمْسِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي الْعَشْرِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسَيْ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي خَمْسَةِ عَشْرَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ

وَإِلَى قِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي عِشْرِينَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، وَعَلَى رِوَايَاتِهِ كُلِّهَا قَالَ : لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا اثْنَانِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا ثَلَاثَةٌ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ .
وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ } ، وَقَوْلِهِ { : فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ .
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ : { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } ، وَفِي قَوْلِهِ { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } هُوَ الْكَبِيرَةُ لَا الصَّغِيرَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ فِي الصِّغَارِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْمُسِنَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسُّعَاةِ : { إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ } ، وَقَوْلُهُ : { لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ الْأَمْوَالِ وَلَكِنْ خُذُوا مِنْ حَوَاشِيهَا } وَأَخْذُ الْكِبَارِ مِنْ الصِّغَارِ أَخْذٌ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ وَحَزَرَاتِهَا وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُلَّاكِ وَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ ؟ وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مُرَاعَاتِهِ الْجَانِبَيْنِ ، وَفِي إيجَابِ الْمُسِنَّةِ إضْرَارٌ بِالْمُلَّاكِ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قَدْ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ النِّصَابِ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسًا

إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي إيجَابِ وَاحِدَةٍ ، مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ ، وَالْعَنَاقُ هِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ ، فَدَلَّ أَنَّ أَخْذَ الصِّغَارِ زَكَاةً كَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَنْصِيبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَهَذِهِ الْأَسَامِي لَا تَتَنَاوَلُ الْفُصْلَانَ وَالْحُمْلَانَ وَالْعَجَاجِيلَ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نِصَابًا وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ وَكَانَ مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنِ شَيْئًا .
وَأَمَّا قَوْلُ الصِّدِّيقِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا " فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا وَهُوَ صَدَقَةُ عَامٍ أَوْ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الصَّدَقَةُ .
فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ كَلَامُ تَمْثِيلٍ لَا تَحْقِيقٍ أَيْ : لَوْ وَجَبَتْ هَذِهِ وَمَنَعُوهَا لَقَاتَلْتُهُمْ .
وَأَمَّا صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مُشْكِلَةٌ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَبْقَى اسْمُ الْفَصِيلِ وَالْحَمَلِ وَالْعُجُولِ بَلْ تَصِيرُ مُسِنَّةً .
قَالَ بَعْضُهُمْ : الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْحَوْلَ هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا وَهِيَ صِغَارًا ؟ وَيُعْتَبَرُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَيْهَا إذَا كَبِرَتْ وَزَالَتْ صِفَةُ الصِّغَرِ عَنْهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ النُّوقِ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَهِيَ

صِغَارٌ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْأَوْلَادِ أَمْ لَا ؟ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّاتٌ فَاسْتَفَادَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ صِغَارًا ثُمَّ هَلَكَتْ الْمُسِنَّاتُ وَبَقِيَ الْمُسْتَفَادُ أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُسْتَفَادِ ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ فِيمَنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ حَمَلًا وَوَاحِدَةٌ مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْحُمْلَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَبِيرًا فَإِنَّ الصِّغَارَ تُعَدُّ وَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَهُوَ الْمُسِنَّةُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَتُعَدُّ صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا } .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إلَى عُمَرَ عَامِلَهُ وَقَالُوا : إنَّهُ يَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَةَ وَلَا يَأْخُذُهَا مِنَّا ، فَقَالَ عُمَرُ : أَلَيْسَ يَتْرُكُ لَكُمْ الرُّبَّى وَالْمَاخِضَ وَالْأَكِيلَةَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ ؟ ثُمَّ قَالَ : عُدَّهَا وَلَوْ رَاحَ بِهَا الرَّاعِي عَلَى كَفِّهِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ أَوْ كَانَ فِيهَا كَبِيرٌ دَخَلَتْ تَحْتَ اسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ النُّصُوصِ فَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا مُسِنَّةٌ كَانَتْ تَبَعًا لِلْمُسِنَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ فِي الصِّغَارِ وَزَكَاتُهَا بِقَدْرِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ حُمْلَانًا يَجِبُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْحَمَلِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا وُجُوبُ

الزَّكَاةِ فِي الصِّغَارِ لِأَجْلِ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الزَّكَاةِ فَهَلَاكُهَا كَهَلَاكِ الْجَمِيعِ ، وَعِنْدَهُ الصِّغَارُ أَصْلٌ فِي النِّصَابِ .
وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الْفَصْلُ عَلَى الْحَمَلِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ الْمُسِنَّةِ فَهَلَاكُهَا يُسْقِطُ الْفَصْلَ لَا أَصْلَ الْوَاجِبِ .
وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا مِنْ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْمُسِنَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسِنَّةَ كَانَتْ سَبَبَ زَكَاةِ نَفْسِهَا وَزَكَاةُ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سِوَاهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ فِيهَا لَكِنْ أَعْطَى الصِّغَارَ حُكْمَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَصَارَتْ الصِّغَارُ كَأَنَّهَا كِبَارٌ فَإِذَا هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ هَلَكَتْ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ الْأَصْلُ حَالُ اخْتِلَاطِ الصِّغَارِ بِالْكِبَارِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصِّغَارِ تَبَعًا لِلْكِبَارِ إذَا كَانَ الْعَدَدُ الْوَاجِبُ فِي الْكِبَارِ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الْوَاجِبِ فِي الْكِبَارِ كُلُّهُ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشْرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْوَاجِبِ مَوْجُودٌ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا أُخِذَتْ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ لَا غَيْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ الْمُسِنَّةُ وَحَمَلٌ وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْعَجَاجِيلُ فِيهَا تَبِيعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ لَا غَيْرَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ وَعُجُولٌ وَكَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ مِنْ الْفُصْلَانِ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أَنَّهَا تُؤْخَذُ فَحَسْبُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ بِنْتُ لَبُونٍ وَفَصِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا

يَتَعَلَّقُ بِالصِّغَارِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُوَ الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ ، وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ ، وَالتَّبِيعُ ، وَالْمُسِنَّةُ ، وَالشَّاةُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا ، وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ مِنْ النُّوقِ وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ .
وَالْحِقَّةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ .
وَالْجَذَعَةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا ، وَالذُّكُورُ مِنْهَا ابْنُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ وَحِقٌّ وَجَذَعٌ وَوَرَاءَ هَذِهِ أَسْنَانٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّبِيعُ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِي وَالْأُنْثَى مِنْهُ التَّبِيعَةُ .
وَالْمُسِنَّةُ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ مِنْهُ الْمُسِنُّ .
وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ

مِنْ الْمَعْزِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ .
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْغَنَمِ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ ؛ } وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَكْثَرُ شُرُوطًا مِنْ الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا مَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا صِفَاتٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْهَا الْأُنُوثَةُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ مِنْهَا وَهُوَ ابْنُ الْمَخَاضِ وَابْنُ اللَّبُونِ وَالْحِقُّ وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِيهَا بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا .
وَأَمَّا فِي الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ } .
وَكَذَا فِي الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
وَكَذَا فِي الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِيهَا بِاسْمِ الشَّاةِ .
قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي اللُّغَةِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلسُّعَاةِ { : إيَّاكُمْ وَحَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَخُذُوا مِنْ أَوْسَاطِهَا } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّاعِي { : إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَخُذْ مِنْ حَوَاشِيهَا ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } وَفِي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ { أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى السَّاعِي وَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ

كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ ؟ حَتَّى قَالَ السَّاعِي : أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ } .
وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ لِمَا فِي أَخْذِ الْخِيَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي أَخْذِ الْأَرْذَالِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْ الْأَرْفَعِ ، وَأَرْفَعَ مِنْ الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى .
وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الرُّبَّى بِضَمِّ الرَّاءِ ، وَلَا الْمَاخِضُ ، وَلَا الْأَكِيلَةُ ، وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ : الرُّبَّى الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا ، وَالْأَكِيلَةُ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ ، وَالْمَاخِضُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الرُّبَّى وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الرُّبَّى الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هُوَ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فِيهَا كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَالْأَصْمَعِيِّ ، وَالْخَلِيلِ ، وَالْكِسَائِيِّ ، وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَلَّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ ، وَسَأَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عَنْ الْغَزَالَةِ فَقَالَ : هِيَ عَيْنُ الشَّمْسِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِغُلَامِهِ يَوْمًا : اُنْظُرْ هَلْ دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ ؟ ، وَكَانَ ثَعْلَبُ يَقُولُ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عِنْدَنَا مِنْ أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ ، وَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَكَانَ عَلَى الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا ، كَيْفَ ؟ وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي الرُّبَّى قَالَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ : الرُّبَّى الَّتِي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ : هِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ : الرُّبَّى

الشَّاةُ الَّتِي تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ لِلَّبَنِ فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ .
وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ يُقَالُ : امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ مِنْ غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَلَوْ كَانَتْ الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فِيهَا الْهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ الْمَأْكُولَةِ بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كَالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَاحِدَةً وَسَطًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَأْخُذُ مِنْ الْغَالِبِ وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ قِيمَةِ شَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ وَشَاةٍ مِنْ الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ فِي نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ كَانَتْ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحَزَرَاتِهَا } وَأَمَرَ بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ نَوْعَيْنِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أَوْ كُلُّهَا بَنَاتُ لَبُونٍ أَوْ حِقَاقٌ أَوْ جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } وَإِنْ كَانَتْ عِجَافًا فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَوْ أَعْلَى سِنًّا مِنْهَا فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا بِنْتُ

مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ } وَإِنْ كَانَتْ جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا مَا يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا فِي الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا مِنْ النِّصَابِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى قَدْرِهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَادَاتِ تُعْرَفُ هُنَاكَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ فِي النِّصَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : إنَّ الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُصَّدِّقِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ ، أَوْ كَانَ الْوَاجِبُ

حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخَيْلَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أَوْ سَائِمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ عَلُوفَةً بِأَنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ ، أَوْ لِلْحَمْلِ ، أَوْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أَوْ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ .
وَإِنْ كَانَتْ إنَاثًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ أَيْضًا ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ فِي الْآثَارِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا زَكَاةَ فِيهَا كَيْفَمَا كَانَتْ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ } ، وَكُلُّ ذَلِكَ نُصَّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِتَقْدِيرِ

النِّصَابِ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ ، وَلَيْسَ فِي الرَّابِطَةِ شَيْءٌ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شَاءُوا أَدَّوْا مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ .
وَرُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا عَبِيدُ الْخِدْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ ؟ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكُلُّ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّهَا إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا كَذَا هَهُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فِيهَا بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ بِخِلَافِ

الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فِيهَا بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قَدْ تُسَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ الْعَلَفِ .
وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْآخِذِ ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالْمَالُ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ مِنْ السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ ، وَالسَّاعِي هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ صَدَقَةَ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا ، وَالْعَاشِرُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ ، وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ فِي الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الزَّكَاةِ ، عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَانَ أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا } وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ

الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ : وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَارَبْتُهُمْ عَلَيْهِ وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ ، فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّبَ الْعَشَارَ وَقَالَ لَهُمْ : خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ وَقَالَ : أَخْبَرَنِي بِهَذَا مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الْمَالُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا : إنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالَبَ بِزَكَاتِهِ ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ طَالَبَا ، وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَرَأَى أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا حَرَجًا عَلَى الْأُمَّةِ وَفِي تَفْتِيشِهَا ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا .
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو

مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ فِي مُطَالَبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا عَنْ مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ تَوْجِيهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَشَارَ إلَى الْأَطْرَافِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ وَشُقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ ، وَقَدْ جَعَلَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنْ الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى غَيْرِهِ .
وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا أُسْقِطُ الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ

يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ : إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا .
وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ ؟ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ : تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ هَامَانَ وَكَانَ وَالِيَ خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لَك شَيْءٌ ، وَقِيلَ : إنَّ السُّلْطَانَ لَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا وُجُودُ الْحِمَايَةِ مِنْ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ وَغَلَبُوا عَلَيْهَا فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ سَوَائِمِهِمْ وَعُشُورِ أَرَاضِيهمْ وَخَرَاجِهَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ الْعَدْلِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَانِيًا : لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَالْعُشُورَ ثَانِيًا ، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذِكْرِ الْخَرَاجِ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ : عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْخَرَاجَ كَالزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ .
وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْوُجُوبِ فَتُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَكَمَالِ النِّصَابِ وَكَوْنِهِ مُعَدًّا لِلنَّمَاءِ ، وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ ، وَعَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ ، وَأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْمَالِ وَحُضُورُ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَلَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حِمَايَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَالُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَلَا الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَنَحْوِهِ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا جَاءَ السَّاعِي إلَى صَاحِبِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا يُرِيدُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَيْسَتْ هِيَ مَالِي أَوْ قَالَ : لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ أَوْ قَالَ : عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ

يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ ، وَيُسْتَحْلَفُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ السَّاعِي فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ قَالَ : أَدَّيْتُ إلَى مُصْدِقٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصْدِقٌ آخَرُ لَا يُصَدَّقُ ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِيَقِينٍ .
وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ سَوَاءٌ أَتَى بِخَطٍّ وَبَرَاءَةٍ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَرَاءَةِ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ وَالْبَرَاءَةُ أَمَارَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّجْحَانَ ثَابِتٌ بِدُونِ الْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ إذْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُصْدِقِ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ جُعِلَ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ دَفَعْتُ الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ ، وَالْبَرَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ صَادِقَةٍ ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَعَلَى هَذَا إذَا أَتَى بِالْبَرَاءَةِ عَلَى خِلَافِ اسْمِ ذَلِكَ الْمُصْدِقِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَلَى رِوَايَة الْحَسَنِ لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ شَرْطٌ فَلَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا .
وَلَوْ قَالَ : أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يُصَدَّقُ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْخَذُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَهُوَ الْفَقِيرُ وَقَدْ أَوْصَلَ بِنَفْسِهِ ، وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ : أَدَّيْتُ بِنَفْسِي أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ السُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالسَّوَائِمِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ

أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا فِي قَوْلِهِ : أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِيمَا سِوَى السَّوَائِمِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُؤْخَذُ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضٌ إلَى أَرْبَابِهَا إذَا كَانُوا يَتَّجِرُونَ بِهَا فِي الْمِصْرِ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الدَّفْعُ بِنَفْسِهِ إبْطَالَ حَقِّ أَحَدٍ .
وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَ الْعَاشِرُ أَنَّ لَهُ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ يَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاةَ هَذِهِ الْمِائَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ وَالْقَدْرُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْحِمَايَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ .
وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِ بِالْعُرُوضِ فَقَالَ : هَذِهِ لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ قَالَ : هَذِهِ بِضَاعَةٌ ، أَوْ قَالَ : أَنَا أَجِيرٌ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُ .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ يُصَدَّقُ فِيهِ الذِّمِّيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَهُوَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَبِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقِيَّةً .
وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ إلَّا فِي جَوَارٍ يَقُولُ : هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي ، أَوْ فِي غِلْمَانٍ يَقُولُ : هُمْ أَوْلَادِي ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَالْعِصْمَةِ لِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ فَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي

الِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : الْحَرْبِيُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ صَارَتْ بِإِقْرَارِهِ فِي الْحَالِ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا عُشْرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ .
وَلَوْ قَالَ : هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمَالٍ وَقَالَ : هُوَ عِنْدِي بِضَاعَةً ، أَوْ قَالَ : أَنَا أَجِيرٌ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَعْشُرُهُ وَلَوْ قَالَ : هُوَ عِنْدِي مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهَلْ يَعْشُرُهُ ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ : يَعْشُرُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا يَعْشُرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَلَوْ مَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَالٍ مِنْ كَسْبِهِ وَتِجَارَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ عَشَرَهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَعْشُرُهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ أَمْ لَا ، وَقِيلَ : إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمُضَارِبِ أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَأْمُرهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنْ فِي وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا فِي أَدَاءِ

الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَبْضِعِ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الرُّجُوعُ .
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقَةً كَالتَّغْلِبِيِّ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الْحَوْلِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إلَّا إذَا عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِمَكَانِ حِمَايَةِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَلِأَمْوَالِ ، وَمَا دَامَ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْحِمَايَةُ مُتَّحِدَةٌ مَا دَامَ الْحَوْلُ بَاقِيًا فَيَتَّحِدُ حَقُّ الْأَخْذِ .
وَعِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَتَجَدَّدُ الْحِمَايَةُ فَيَتَجَدَّدُ حَقُّ الْأَخْذِ وَإِذَا مَرَّ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ لِمَا مَضَى ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى سَقَطَ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلَايَةِ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ اجْتَازَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا الْعَاشِرُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِمَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ ثَبَتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ .
وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَضْرَاوَاتِ وَبِمَا لَا يَبْقَى حَوْلًا كَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَعْشُرُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا مَالُ التِّجَارَةِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ

مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ إذَا كَانَ يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْمِصْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَالصَّدَقَةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّ مَا يُتَّجَرُ بِهَا فِي الْمِصْرِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَلْ صَاحِبُهَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى حَوْلًا وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ ؛ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحِمَايَةِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُهَا ؛ وَلِأَنَّهَا تَهْلِكُ فِي يَدِ الْعَاشِرِ فِي الْمَفَازَةِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهَا مُفِيدًا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ لِلْعَاشِرِ حَقُّ الْأَخْذِ ؟ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَا يُعْشَرُ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا .
وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الصَّدَقَاتِ لَا يُفَارِقُهَا إلَّا فِي التَّضْعِيفِ .
وَالصَّدَقَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّبِيِّ وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ .
وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَرَاجِ فِي أَرْضٍ غُلِبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْمُرُورِ عَلَى عَاشِرِهِمْ ضَيَّعَ حَقَّ سُلْطَانِ

أَهْلِ الْعَدْلِ وَحَقَّ فُقَرَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ حِمَايَةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُضْمَنُ .
وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ خَنَازِيرَ يَأْخُذُ عُشْرَ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَلَا يَعْشُرُ الْخَنَازِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْشُرُهُمَا .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعُشْرُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَالِ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَقَوِّمَانِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا كَانَا مَضْمُونَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْإِتْلَافِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ قِيمَةِ الْخَمْرِ كَأَخْذِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ حَقٌّ لِلْعَاشِرِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَلِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ الْخَمْرَ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَتِهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْغَصْبِ ؟ وَلَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ وَيَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ لِلتَّخْلِيلِ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خَمْرِ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ .
وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ رَأْسًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَلَهُ خَنَازِيرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهَا بَلْ يُسَيِّبَهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرٍ غَيْرَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ فَالْمَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَأْخُذُ مِنْهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ فَيُؤْخَذُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الزَّكَاةِ وَيُسْقَطُ عَنْ مَالِهِ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ لَكِنْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ جِزْيَةُ رَأْسِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ غَيْرَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ فَإِذَا أَخَذَ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبُعَ الْعُشْرِ أُخِذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَنِصْفٌ وَإِنْ كَانَ عُشْرًا فَعُشْرٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ ، وَأَصْلُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْعَشَارِ فِي الْأَطْرَافِ أَنْ خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : خُذُوا مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا فَقِيلَ لَهُ : إنْ لَمْ نَعْلَمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا ؟ فَقَالَ : خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَالْمُؤْنَةُ تُوضَعُ مَوَاضِعَ الْجِزْيَةِ وَتُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِهَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الزَّكَاةِ فَرُكْنُ الزَّكَاةِ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَسْلِيمُ ذَلِكَ إلَيْهِ يَقْطَعُ الْمَالِكُ يَدَهُ عَنْهُ بِتَمْلِيكِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ وَهُوَ الْمُصْدِقُ وَالْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ يَثْبُتُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْفَقِيرِ } وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُلَّاكَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عَزْو جَلَّ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ ؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُخْرِجًا قَدْرَ الزَّكَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُقْتَضَى التَّمْلِيكِ سَابِقًا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عَلَى أَصْلِنَا وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا : إنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ لَا فِي التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ بَلْ التَّمْلِيكِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّكْنُ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ وَعِنْدَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ،

وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي السَّوَائِمِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالسِّقَايَاتِ ، وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ أَصْلًا .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالزَّكَاةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْفُقَرَاءَ غَدَاءً وَعَشَاءً وَلَمْ يَدْفَعْ عَيْنَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ .
وَكَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ مَيِّتٍ فَقِيرٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ ، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ فَقِيرٍ إنْ قَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهِ صَارَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّ الْفَقِيرَ قَبَضَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ وَمِلْكِهِ مِنْ الْغَرِيمِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِعْتَاقُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ .
وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بِقَدْرِ الزَّكَاةِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ وَبِهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى { : وَفِي الرِّقَابِ } وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالزَّكَاةِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ ، وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّمْلِيكُ ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { : وَفِي الرِّقَابِ } إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ بِالزَّكَاةِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَلَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ إلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْفَقِيرِ فِي الْقَبْضِ فَكَانَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْفَقِيرِ .
وَكَذَا لَوْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى صَبِيٍّ فَقِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَقِيرٍ وَقَبَضَ لَهُ وَلِيُّهُ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّهُمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ

الْوَلِيَّ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَقَةِ عَنْهُ .
وَكَذَا لَوْ قَبَضَ عَنْهُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ أَقْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ يَجُوزُ ، وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ لَهُ ؟ ، وَكَذَا الْمُلْتَقِطُ إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ عَنْ اللَّقِيطِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ لَهُ فَقَدْ وَجَدَ تَمْلِيكَ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَنْوِي بِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مَا كَانَ مِنْ كِسْوَةٍ يَجُوزُ وَفِي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَا دُفِعَ إلَيْهِ ، وَقِيلَ : لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ مُرَادَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ هُوَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَاقِلًا يُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا يُقْبَضُ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ كَقَبْضِهِ لَوْ كَانَ عَاقِلًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْفَقِيرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ كَمَا فِي قَبْضِ الْهِبَةِ .
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ الدَّفْعُ إلَى عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ إذْ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِمَوْلَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَقَعُ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا ؛ لِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ أَحَدُ

الزَّوْجَيْنِ زَكَاتَهُ إلَى الْآخَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَدْفَعُ الزَّوْجَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ نَفْسِهِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ كَذَا الزَّوْجَةُ وَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ سَنَذْكُرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ أَمَّا .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَنِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ } وَقَوْلُهُ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ النِّيَّةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيَغْفُلُ عَنْ نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ شَيْئًا فَشَيْئًا أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ضَمِنَ الزَّكَاة ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْبَاقِي .
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ حَتَّى لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ الْقَدْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْجَمِيعَ ، وَقَالَ : مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى خَمْسَةً مِنْ

مِائَتَيْنِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْكُلِّ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ وَهُوَ ثُمُنُ دِرْهَمٍ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي .
وَكَذَا لَوْ أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ وَنَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ وَهُوَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَجَازَ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عَنْ زَكَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ النِّصَابِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سُقُوطَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْبَعْضِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ يَنْوِي بِجَمِيعِهَا الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَتْ مِنْ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هِيَ مِنْ التَّطَوُّعِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ لِلتَّعَارُضِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ التَّصَدُّقُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ يُعْمَلُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الْفَرْضُ كَمَا فِي تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِأَقْوَاهُمَا ، وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ يُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ فَلَغَا تَعْيِينُهُ وَبَقِيَتْ

الزَّكَاةُ مُتَعَيِّنَةً ؟ فَيَقَعُ عَنْ الزَّكَاةِ .
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ نِيَّةُ الْآمِرِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ خَمْسَةً إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَدَفَعَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الدَّفْعِ جَازَ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَدِّي وَالْمُؤَدِّي هُوَ الْآمِرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُسْلِمُ ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَ عَنْ زَكَاةِ مَالِ الْآمِرِ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ : تَصَدَّقْ بِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ جَازَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الْمُؤَدِّي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ نَوَى وَقْتَ الدُّخُولِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ لَا تَكُونُ زَكَاةً ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِالنَّذْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ غَيْرِهِ فَلِعَدَمِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُؤَدَّى وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِجَازَةِ فَلَا تَقَعُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ وَتَقَعُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وُجِدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ الْمُتَصَدَّقِ عَنْهُ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ وَالْمَالُ قَائِمٌ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا جَازَ عَنْ التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ

الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَلَكَ الْمَالُ صَارَ بَدَلُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ عَنْ الزَّكَاةِ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ أَخْرَجَهَا إلَّا بِنِيَّةٍ مُخَالِطَةٍ لِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا كَمَا قَالَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ وَقْتَ التَّصَدُّقِ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاذَا يَتَصَدَّقُ ؟ أَمْكَنَهُ الْجَوَابُ مِنْ غَيْرِ فِكْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نِيَّةً مِنْهُ وَتُجْزِئُهُ كَمَا قَالَ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ إمَّا عِنْدَ الدَّفْعِ وَإِمَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ نَوَى أَنَّ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ فَهُوَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ : لَا تُجْزِئُهُ وَإِنْ مَيَّزَ زَكَاةَ مَالِهِ فَصَرَّهَا فِي كُمِّهِ وَقَالَ : هَذِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ عَنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ فِي الْوَقْتَيْنِ وَفِي الثَّانِي وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ وَقْتُ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي وَقْتِ الدَّفْعِ عَيْنًا ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ قَدْ يَقَعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَقَعُ مُتَفَرِّقًا ، وَفِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ مَعَ تَفْرِيقِ الدَّفْعِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَتْ الْمَسْأَلَةُ غَيْرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَفِي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وَفِي بَعْضِهَا الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا ، وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً .
وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ الرَّدِيءِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ .
وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ ؟ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عَنْ شَاةٍ أُخْرَى

وَإِنْ كَانَ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ النِّصَابُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ مِنْ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ وَلَوْ أَدَّى الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهَا مُتَقَوِّمَةً ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عَنْ ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ قِيمَةُ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِأَنْ أَدَّى الذَّهَبَ عَنْ الْفِضَّةِ أَوْ الْحِنْطَةَ عَنْ الشَّعِيرِ يُرَاعَى قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْمِيلُ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : إنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَدْرُ لَا الْقِيمَةُ ، وَقَالَ زُفَرُ : الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَدْرُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ

كَمَا قَالَ زُفَرُ .
وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ ، إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ قَفِيزٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ : إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا ، وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَهُوَ النَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَفِيزًا آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ وَالْأَنْفَعِ ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ

عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ هَهُنَا أَنْفَعُ لَهُمْ ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٌ مَصْنُوعٍ مِنْ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ دِرْهَمٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ جِنْسَةِ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ ، وَلَوْ أَدَّى عَنْهَا خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ جَازَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَهَذَا وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً

بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا فِي التَّمْلِيكِ ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ .
وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ ثَمَّةَ لَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ بَلْ فِي إزَالَةِ الرِّقِّ ، وَإِزَالَةُ رِقٍّ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ سَمِينَةً إلَّا عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ .
وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عَنْ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَأَدَّى خَمْسَةً عَيْنًا عَنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ النَّاقِصِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِهِ فِي الْعَاقِبَةِ .
وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الْفَقِيرِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ

عَمَّا عَلَيْهِ ، وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ يَنْوِي عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَوَهَبَ مِنْهُ الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عَنْ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَيَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَوَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا دَيْنًا عَلَيْهِ ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا فِي الْعَاقِبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا

وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ مَعَ غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ .
أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَفِي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْحَسَنُ : الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ .
وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ وَقَالَ قَتَادَةَ : الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ وَقِيلَ : الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عَنْ التَّحَرُّكِ فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عَنْ مَكَانِهِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ

الْأَقَاوِيلِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : أَيْ اسْتَتَرَ بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ سَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً هِيَ وَفْقُ الْعِيَالِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ مَا كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِ .
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ : فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ } فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْ هَذَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا مَكْسَبَ لَهُ أَيْ : الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ لَهُ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ : الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ .
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا

الْخِلَافُ بَعْدُ فِي كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ فِي الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ ، وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ مَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فِيهَا وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ .
وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ قَالَ أَصْحَابُنَا : يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ مِنْهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنْهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا الثَّمَنُ ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا شَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا فِي يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ أَنَّهَا

تَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هَذَا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ .
وَكَذَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ ، وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا أَوْلَى ، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فِيهَا مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ لَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ لَهُ } وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَحِلُّ لَكُمْ الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ النَّاسِ } ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ وَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِهَا وَإِذَا حُصِّلَتْ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ

الْخَبَثُ فِي الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ تَنَاوُلِ الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عَنْ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَنِيِّ وَقَدْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْغِنَى لَا يَمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مِلْكًا فَكَذَا هَذَا ، وَقَوْلُهُ إنَّ الَّذِي يُعْطِي لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ فَرْضٌ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مَرَادِس السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَأَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُمْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً .
وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ مِنْ الْمُسَالِمِينَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيضًا لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِمَنْ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ ، وَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُ عَامَّتِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَجَمِيلِ سِيرَتِهِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ .
وَاخْتُلِفَ فِي سِهَامِهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ اُنْتُسِخَ سَهْمُهُمْ وَذَهَبَ وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْطَى الْآنَ لِمِثْلِ حَالِهِمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حَقَّهُمْ بَقِيَ وَقَدْ أُعْطِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآنَ يُعْطَى لِمَنْ حَدَثَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَتَقْرِيرًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَتُعْطِي الرُّؤَسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ لَهُمْ غَلَبَةٌ يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى

الَّذِي لَهُ كَانَ يُعْطِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا أَعْطَيَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ مِنْهُ لِسِهَامِهِمْ فَبَدَّلَ لَهُمْ الْخَطَّ ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ الْخَطَّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيكُمْ لِيُؤَلِّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزّ اللَّهُ دِينَهُ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا السَّيْفُ فَانْصَرَفُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالُوا : أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ هُوَ ؟ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو بَكْرٍ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَبَلَغَ ذَلِكَ الصَّحَابَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمئِذٍ فِي ضَعْفٍ وَأَهْلُهُ فِي قِلَّةٍ وَأُولَئِكَ كَثِيرٌ ذُو قُوَّةٍ وَعَدَدٍ وَالْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ وَاشْتَدَّتْ دَعَائِمُهُ وَرَسَخَ بُنْيَانُهُ وَصَارَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَذِلَّاءَ ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنًى خَاصٍّ يَنْتَهِي بِذَهَابِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ عَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِحَاجَتِهِ إلَى مُعَاهَدَتِهِمْ وَمُدَارَاتِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ

وَضَعْفِهِمْ فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَهْلِ الْعُهُودِ عُهُودَهُمْ وَأَنْ يُحَارِبَ الْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ } فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : مَعْنَاهُ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : الرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ قَوْله تَعَالَى { : وَفِي الرِّقَابِ } أَيْ : وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ وَهُوَ أَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يَدْخُلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَوَلَيْسَا سَوَاءً ؟ قَالَ : لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا } وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ كِتَابَتِهِ فَيُعْتِقُ .
وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً الْإِعْتَاقُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ : لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ فَكَانَ حَقُّهُ فِيهِ بَاقِيًا وَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَأَمَّا الَّذِي

يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْمُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْعٌ فَيَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَالْغَارِمِينَ } قِيلَ : الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ لَكِنْ مَا وَرَاءَهُ لَيْسَ بِنِصَابٍ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ } ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ ، وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا لَهُ } ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسٍ الْعَامِلِ عَلَيْهَا ، وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا ، وَغَارِمٍ ، وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفَقِيرٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى غَنِيٍّ } نَفَى حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتَثْنَى الْغَازِيَ مِنْهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَقْتَضِي حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ

الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ } جَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ قِسْمًا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَقِسْمًا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْغَنِيِّ لَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْغَازِي فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَسَمَّاهُ غَنِيًّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ثُمَّ تَحْدُثُ لَهُ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَمَتَاعٌ يَمْتَهِنُهُ وَثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَفَرِ غَزْوٍ فَيَحْتَاجُ إلَى آلَاتِ سَفَرِهِ وَسِلَاحٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِي غَزْوِهِ وَمَرْكَبٍ يَغْزُو عَلَيْهِ وَخَادِمٍ يَسْتَعِينُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ فِي مَقَامِهِ غَنِيٌّ بِمَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَحْتَاجُ فِي حَالِ سَفَرِهِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } عَلَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي حَالِ مُقَامِهِ فَيُعْطَى بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَفَرِهِ لِمَا أَحْدَثَ السَّفَرُ لَهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْطَى حِينَ يُعْطَى وَهُوَ غَنِيٌّ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْغَارِمِ غَنِيًّا فِي الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْغُرْمِ بِهِ وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْغُرْمِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ اسْمٌ لِمَنْ يُسْتَغْنَى عَمَّا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا .

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { : وَابْنِ السَّبِيلِ } فَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي وَطَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الْحَدِيثَ ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيَجِبُ إيصَالُ كُلِّ صَدَقَةٍ إلَى كُلِّ صِنْفٍ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إذْ الثَّلَاثَةُ أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ وَلَنَا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ { فَإِنْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْنَافَ الْأُخَرَ ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذْهَبَةً فِي تُرَابِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا : تُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ } وَلَوْ كَانَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَقْسُومَةً عَلَى الثَّمَانِيَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا دَفَعَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُذْهَبَةَ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قَلُوبُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا إجْمَاع الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي أَوْ كَلَامٌ نَحْوَ هَذَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى بِصَدَقَةٍ فَبَعَثَهَا إلَى أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْلُهَا فَفِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا عَمَلُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ تَكَلَّفَ طَلَبَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ الْإِمَامُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ فَرَّقَ صَدَقَةً وَاحِدَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ .
وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِسْمَةُ عَلَى السَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمُوهَا كَذَلِكَ وَيُضَيِّعُوا حُقُوقَهُمْ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ الصَّدَقَاتِ إلَى هَؤُلَاءِ بِأَسَامِيَ مُنْبِئَةٍ عَنْ الْحَاجَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ وَالْحَاجَةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا بَيَانُ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا لِلتَّسْوِيَةِ لُغَةً إنَّمَا الصِّيغَةُ لِلشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةُ لُغَةً حَرْفٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ : الْخِلَافَةُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ

وَالسِّدَانَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ ؟ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ بِالسَّوِيَّةِ .
وَلَوْ قِيلَ الْخِلَافَةُ بَيْنَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ كَانَ خَطَأً ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْتَى أَنَّهُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ ، وَلَوْ قَالَ : مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ الْمَوْتَى كَانَ لِفُلَانٍ نِصْفُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ لَقَالَ : إنَّمَا الصَّدَقَاتُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْآيَةَ ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ قَالَ : ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ : ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ هُنَاكَ لَيْسَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ إذْ الصِّيغَةُ لَا تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَلْ مُوجَبُ الصِّيغَةِ مَا قِلْنَا ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا جُعِلَ الثُّلُثُ حَقًّا لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَهُوَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُتَوَهَّمُ لَهُ عَدَدٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَقَسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَعَيِّنَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالْمَدَدَ حَتَّى يُحَرَّمَ الْبَعْضُ بِصَرْفِهَا إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُرْدِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِذَا فَنِيَ مَالٌ يَجِيءُ مَالٌ آخَرُ وَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ تَجِيءُ سَنَةٌ أُخْرَى بِمَالٍ جَدِيدٍ وَلَا انْقِطَاعَ لِلصَّدَقَاتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ صَدَقَةً يَأْخُذُهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ الْحِرْمَانُ لِلْبَاقِينَ بَلْ يُحْمَلُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَصْرِفُ إلَى فَرِيقٍ آخَرَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ مَالٍ يُحْمَلُ إلَى الْإِمَامِ

مِنْ الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ لَا يَجُوزُ صَرْفُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ إلَيْهِ كَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَالٌ تَمَكَّنَ فِيهِ الْخَبَثُ لِكَوْنِهِ غُسَالَةُ النَّاسِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لَهُمْ بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْخَبِيثِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ لِلْفَقِيرِ لَا لِلْغَنِيِّ .
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْغَنِيِّ ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَدْفُوعِ نَفْعٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَانَ دَفْعًا إلَى الْغَنِيِّ ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَالدَّفْعُ يَقَعُ إلَى الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ فَكَانَ كَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَدَيْنِ التِّجَارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا ظَاهِرًا فِي حَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا .
وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ ؛ لِأَنَّ كَسْب الْمَالِكِ الْمُكَاتَبِ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَأَمَّا وَلَدُ الْغَنِيِّ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُعَدُّ غَنِيًّا

بِغِنَى أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ دُفِعَ إلَى امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَزَوْجُهَا غَنِيٌّ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْطِي إذَا قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا فَتَصِيرُ غَنِيَّةً بِغِنَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ ، وَإِنَّمَا شَرْطُ الْقَضَاءِ لَهَا بِالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَقِيرَةَ لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِغِنَى زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا إلَّا مِقْدَارَ النَّفَقَةِ فَلَا تُعَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ غَنِيَّةً .
وَكَذَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِمَا قُلْنَا : إنْ تُقَدَّرَ النَّفَقَةُ لَا يَصِيرُ غَنِيًّا فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَقْفِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ إنْ سَمَّاهُمْ الْوَاقِفُ فِي الْوَقْفِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ .

ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغِنَى فَنَقُولُ الْغِنَى أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا وَلَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الْأَخْذُ أَمَّا الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نِصَابًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا فَهُوَ الَّذِي تَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَبْلُغُ قِيمَةُ الْفَاضِلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالدَّوَابِّ وَالْخَدَمِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلِابْتِذَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ ، فَإِذَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ، ثُمَّ قَدْرُ الْحَاجَةِ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ فِي مَنْزِلِهِ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ وَثِيَابُ الْبَدَنِ وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يُعْطُونَ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ وَالدَّارِ .
وَقَوْلُهُ : كَانُوا ، كِنَايَةً عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهَا فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ .
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى فِيمَنْ لَهُ حَوَانِيتُ وَدُورُ الْغَلَّةِ لَكِنْ غَلَّتُهَا لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ

وَيَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَكَرْمٌ لَكِنْ غَلَّتُهُ لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لِلْقُوتِ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ شَهْرٍ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ سَنَةٍ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَحِلُّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَحِلُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ } .
وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ شِتَاءٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْفَتَاوَى ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ مَالِكٌ : مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا يُبَاحُ أَنْ يُعْطَى ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
وَلَنَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } قَسَّمَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ : الْأَغْنِيَاءُ ، وَالْفُقَرَاءُ فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءَ يُرَدُّ فِيهِمْ فَكُلُّ مَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ يَكُونُ مَرْدُودًا فِيهِ ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهُمَا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ الْعَيْشِ فَالتَّعَفُّفُ أَوْلَى ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ لَهُ مَالٌ

كَثِيرٌ وَلَا كَسْبَ لَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْحَاجَةَ وَيَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَخَوْفُ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فِي الثَّانِي لَا يَجْعَلُهُ فَقِيرًا فِي الْحَالِ أَلَا تَرَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَذَا فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ { : حُمِلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا كُلُّهُمْ زَمْنَى بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعْطِيَهُمَا الْحَرَامَ ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ كَذَا هَذَا .

وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ أَعْطَى جَازَ وَسَقَطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نِصَابٌ كَامِلٌ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِهَذَا الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ غَنِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ فَقِيرًا فَالصَّدَقَةُ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَجَازَتْ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغِنَى يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَيَقْبِضُ ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ ثُمَّ يَصِيرُ غَنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ يَصِيرُ هُوَ الْغَنِيُّ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ يُغْنِي بِهِ إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ .
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِغْنَاءَ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ أَنَّهُ يُغْنِيهِ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وُضِعَتْ لِمِثْلِ هَذَا الْإِغْنَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ { أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ } هَذَا إذَا أُعْطِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ عِيَالٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَصَدَّق عَلَيْهِ قَدْرَ دَيْنِهِ وَزِيَادَةً مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ .

وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَدَادُ عَيْشٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى ؟ قَالَ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ } فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَا مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ، وَتَرْكُ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } أَمْرٌ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا فِي غَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ صَرْفَهَا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ يَقَعُ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ قَوْلِهِمْ الِاعْتِبَارُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصَّرْفِ إلَى الْحَرْبِيِّ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { : إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَوْله تَعَالَى فِي الْكَفَّارَاتِ { : فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مِسْكِينٍ وَمِسْكِينٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ بِرٌّ بِهِمْ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى

الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الذِّمِّيِّ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، } وَرُوِيَ { أَنَّهُ رَأَى فِي الطَّرِيقِ تَمْرَةً فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ } وَالْمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَنَّهَا مِنْ غُسَالَةِ النَّاسِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهَا الْخَبَثُ فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِيهمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْقَمَ بْنَ أَبِي أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أَيْ : فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ ؟ .
وَكَذَا مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ كَافِرًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيَّ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ خَاصَّةً وَبَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ آلُ الْعَبَّاسِ ، وَآلُ عَلِيٍّ ، وَآلُ جَعْفَرٍ ، وَآلُ عَقِيلٍ ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ .

وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُتَّصِلَةً بَيْنَ الْمُؤَدِّي وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْأَدَاءِ تَمْلِيكًا مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ يَكُونُ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الدَّفْعُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي دَفْعِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى هَؤُلَاءِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِمْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْرَيْنِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ وَكَوْنُهُ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَمْنَعُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ .
قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ الْأَقَارِبِ وَمِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِانْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا دَفَعَ الصَّدَقَةَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِحَالِهِ أَنَّهُ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ .

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ صَوَابُهُ وَفِي وَجْهٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ أَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى رَجُلٍ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ وَقْتَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ بَعْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَيْثُ نَوَى الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالْيَقِينِ فَإِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلِّ الصَّدَقَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دُفِعَ إلَيْهِ وَيَقَعُ تَطَوُّعًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَطَر بِبَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ جَوَازُهُ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَا طَلَبَ الدَّلِيلَ أَوْ تَحَرَّى بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الدَّلِيلَ فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ بِيَقِينٍ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالصَّرْفُ إلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ تَحَرِّيهِ ، فَإِذَا تُرِكَ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَيَجُوزُ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَهُوَ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ وَتَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الصَّدَقَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَدَفَعَ أَوَرَآهُ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ

عَلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحِلًّا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ مَوْلَى لِهَاشِمِيٍّ كَافِرٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ مَوْلُودٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَسْعَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُجْتَهِدٌ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَبَطَلَ اجْتِهَادُهُ وَكَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ أَوْ أَوَانِيَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ فِيهَا وَكَمَا لَوْ صَرَفَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا إذَا صَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ بِخِلَافِهِ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ هُوَ مَحَلٌّ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ صَرَفَ إلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْمَاءِ الطَّاهِرِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى

ذَلِكَ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى صَرْفِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ : ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ مَحِلَّ الصَّدَقَةِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا نَقُولُ كَذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ الْمَأْمُورُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ شَرْعًا حَالَةُ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ خَطَؤُهُ وَلَهُمَا فِي الصَّرْفِ إلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مَعْنٍ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ لَيْلًا فَيَتَصَدَّقَ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا فِي يَدِهِ فَقَالَ لَهُ : لَمْ أُرِدْك بِهَا فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مَعْنٌ لَك مَا أَخَذْتَ وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْتَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حَوَلَانُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي التَّعْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْجَوَازِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } ، وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ زَكَاةَ سَنَتَيْنِ } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بَلْ الْوُجُوبُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ كَامِلٍ نَامٍ أَوْ فَاضِلٍ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِحُصُولِ الْغِنَى بِهِ وَلِوُجُوبِ شُكْرِ نِعْمَةِ الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ تَوَسُّعًا وَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إلَى مُدَّةِ الْحَوْلِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِذَا عُجِّلَ فَلَمْ يَتَرَفَّهْ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَهُوَ أَنْ يَجِبْ أَوَّلًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِهِ لِاسْتِنَادِ سَبَبِهِ

وَهُوَ كَوْنُ النِّصَابِ حَوْلِيًّا فَيَكُونُ التَّعْجِيلُ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ لَكِنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَيَقَعُ زَكَاةً الثَّانِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَكِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَسَوَاءٌ عَجَّلَ عَنْ نِصَابٍ وَاحِدٍ ، أَوْ اثْنَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ النِّصَابِ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْأَلْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا ، أَوْ رَبِحَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى صَارَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ جَازَ عَنْ الْكُلِّ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ الْمِائَتَيْنِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّعْجِيلَ عَمَّا سِوَى الْمِائَتَيْنِ تَعْجِيلٌ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ مِلْكِ الْمِائَتَيْنِ ، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَالْمُسْتَفَادُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَتْ الْأَلْفُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَصِيرَ مُؤَدِّيًا بَعْدَ وُجُودِ الْأَلْفِ تَقْدِيرًا فَجَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَثَلَاثَةٌ : أَحَدُهُمَا كَمَالُ النِّصَابِ فِي أَوَّلَ الْحَوْلِ ، وَالثَّانِي كَمَالُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ النِّصَابُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ عُجِّلَ وَلَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَقَلُّ مِنْ النِّصَابِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ لَمْ يَكُنْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا .
وَكَذَا لَوْ عُجِّلَ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ مَثَلًا فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ غَيْرُ كَامِلٍ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ النِّصَابُ فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ حَالَ الْوُجُوبِ ، أَوْ حَالَ تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَالِ الِانْعِقَادِ وَلَا حَالِ الْوُجُوبِ إذْ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ عِنْدَهُ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَرَجًا ؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا حَرَجَ فِي مُرَاعَاةِ الْكَمَالِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَكَذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِتَعَرُّفِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ كُلُّهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً فَيَقَعُ تَطَوُّعًا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَانْتَقَصَ النِّصَابُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَيَقَعُ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُعَجَّلُ فِي تَمَامِ النِّصَابِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57