كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

وَلَوْ خَاصَمَ الْعَبْدَانِ الْمَوْلَى إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَا مِنْهُ الْبَيَانَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ وَلَوْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ لَيُبَيِّنَ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ أَوْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، وَلِكُلِّ صَاحِبِ حَقٍّ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ .

وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الْحُرُّ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَطَلَبَا يَمِينَهُ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ ، وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ لَهُمَا عَتَقَا ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُمَا الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا ، وَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَحُرِّيَّتُهُ لَا تَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّد فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ ذَلِكَ رِوَايَةً فِي الْعَتَاقِ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَحْلَفَا فَحَلَفَ الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ ، يُعْتَقُ الَّذِي لَمْ يَحْلِفْ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لِلْأَوَّلِ : وَاَللَّهِ مَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِرِقِّهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ ، كَمَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا : هَذَا عَبْدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُ عَتَقَ هُوَ ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ .
وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَا أَمَتَيْنِ يُحْجَبُ مِنْهُمَا حَتَّى يُبَيِّنَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرِّيَّةَ إحْدَاهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِالْحَلِفِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فِي الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْحُرِّيَّةِ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي الْمَحَلِّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ .

ثُمَّ الْبَيَانُ فِي هَذِهِ الْجَهَالَةِ نَوْعَانِ : نَصٌّ ، وَدَلَالَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ أَمَّا نَصٌّ : فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا : هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ وَنَسِيتُ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ أَوْ الضَّرُورَةُ : فَهِيَ أَنْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ ، نَحْوُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِهِمَا تَصَرُّفًا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ إذَا كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةَ لَهَا إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ، وَكَذَا إذَا كَانَا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا ، عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ وَطْءُ إحْدَاهُمَا تَعَيُّنًا لَهَا لِلرِّقِّ ، وَالْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ، وَتَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَلَالَ الْوَطْءِ ، وَإِنْ كُنَّ عَشْرًا فَوَطِئَ إحْدَاهُنَّ تَعَيَّنَتْ الْمَوْطُوءَةُ لِلرِّقِّ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ ، وَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ ؛ لِكَوْنِ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً فَيَتَعَيَّنُ الْبَيَانُ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً ، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إلَى التَّاسِعَةِ ، فَتَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ لِلْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ لَهُ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ، الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لَهُنَّ لِلرِّقِّ ، وَالْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ ضَرُورَةً وَإِلَّا حَسُنَ أَنْ لَا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ هِيَ الْحُرَّةُ فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا .

وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ الْبَاقِيَاتِ قَبْلَ الْبَيَانِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِأَنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَذَكَّرَ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ هِيَ الْمَيِّتَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ شَرْطًا لِمَحَلِّيَّةِ الْبَيَانِ ، وَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لِلْمَيِّتَةِ لِلْعِتْقِ ، وَالْبَاقِيَاتِ لِلرِّقِّ دَلَالَةً أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَاتُ لِلرِّقِّ ضَرُورَةً ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا تَتَعَيَّنُ لِلْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي إحْدَاهُنَّ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَالْمَحِلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لَمْ تَتَعَيَّنُ لِلرِّقِّ لِانْعِدَامِ دَلِيلٍ يُوجِبُ التَّعْيِينَ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً ، فَوَقَفَ تَعْيِينُهَا لِلْعِتْقِ عَلَى الْبَيَانِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً ، إذْ الْمَيِّتَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ فِي هَذَا النَّوْعِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .

وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى : هَذَا مَمْلُوكٌ ، وَأَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا ، يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً .

وَلَوْ بَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ حُرًّا وَعَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا عَشْرَةً فَبَاعَهُمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ بَاعَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ الْبَيْعُ فِي التِّسْعَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَاشِرُ لِلْعِتْقِ .
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اخْتِيَارُ إيَّاهُ لِلرِّقِّ وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ يَتَعَيَّنُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ عَشْرَةُ نَفَرٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَارِيَتَهُ وَلَا يُعْرَفُ الْمُعْتَقُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الطَّرَفَيْنِ ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجَوَارِي لِوَاحِدٍ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ نَسِيَهَا ، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَمْ تَقَعْ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الشَّكُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، إذْ الْمُعْتِقُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُرِّيَّةِ إحْدَاهُنَّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ فَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ ، وَلَوْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ ، صَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ كُنَّ فِي مِلْكِهِ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ جَهِلَهَا .

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفُهُ بِالْقِيمَةِ ، فَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ فَالْمُظْهِرُ لَهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا .
الْإِقْرَارُ ، وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَظْهَرُ بِهِ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا فَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، عَتَقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ فِي حَقِّهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ .

وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ : فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تُقْبَلُ عَلَى عِتْقِ الْمَمْلُوكِ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ الْعِتْقَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُنْكِرٌ فَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ جَارِيَةً تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقْبَلُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعَاوِيهِمْ كَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى إعْتَاقِ الْإِنْسَانِ أَمَتَهُ وَتَطْلِيقِهِ امْرَأَتَهُ ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ ، إلَّا السَّرِقَةَ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهَا الدَّعْوَى لِتَحْقِيقِ السَّبَبِ ، إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا بِدُونِ الدَّعْوَى ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً ، أَمَّا الْبِنَاءُ ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمَ الِاسْتِرْقَاقِ وَحُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا رَجُلًا بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ } وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا فِي عِتْقِ

الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَكَمَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى بِاسْتِيلَادِ جَارِيَتِهِ وَهُمَا مُنْكِرَانِ ، وَكَذَا التَّنَاقُضُ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ عَبْدٌ لِإِنْسَانٍ : اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدُ فُلَانٍ ، فَاشْتَرَاهُ ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُ .
وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطًا لَكَانَ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ ، وَالْعِتْقُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ تَنْدَفِعُ بِهَا يَدُ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْهُ ، وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ إذْ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا مَقْصُودًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِانْتِفَائِهَا مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَكَذَا التَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ ، وَالْحُرِّيَّةُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةُ تُنْبِئُ عَنْ خُلُوصِ نَفْسِ الْعَبْدِ لَهُ عَنْ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ وَذَلِكَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إذَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ مَشْهُودًا لَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ إذَا كَذَّبَ شُهُودَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّ إنْكَارَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَقُّهُ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ

لِيَنْتَفِعَ بِهِ يُوجِبُ تُهْمَةً فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَتَبَادَرَ إلَى الدَّعْوَى وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ ، فَنَقُولُ : الْإِعْتَاقُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ وَالْخُلُوصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ حَقُّهُ ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِعْتَاقِ حُرِّمَ الِاسْتِرْقَاقُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِلْعِبَادِ يَحْرُمُ إبْطَالُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ إبْطَالِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ فَدَارَتْ الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَقْذُوفِ ، وَإِنْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ وَحَقَّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ ، كَذَا هَهُنَا .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ ، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَثَمَّةَ هَكَذَا نَقُولُ : إنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ ، وَالشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبُ وَالتَّوَسُّلِ غَيْرٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّاتُ غَيْرٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي كُفْرِ الْمُحَارَبِ : إنَّهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْحِرَابِ لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ بَلْ ذَاتُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرَان ، كَذَا هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ قَدْ لَا

يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى تَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَهُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ ، ثُمَّ مَتَى قُبِلَتْ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ حُرْمَةِ الْفَرْجِ تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ .
وَكَذَا فِي طَلَاقِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهَا ، وَلَيْسَ لِلْعِتْقِ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ سَبَبِيَّةُ تَحْرِيمِ الْفَرْجِ ، فَلَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ عَلَى ذَاتِ الْعِتْقِ وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهُ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ فِي فَصْلِ الْأَمَةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُرْمَةَ الْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمِلْكِ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، وَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَمْنَعُ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ فَقَالُوا : لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ مَسْأَلَةَ الْمَجُوسِيَّةِ وَمَنَعَ مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِخُبْثِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهَا تَضَمَّنَتْ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَقُبِلَتْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، فَأَمَّا الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَحَرَامُ الْوَطْءِ حَقِيقَةً ، حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ تَحْرِيمُ الْفَرْجِ لَا الْأُنُوثَةُ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ قَطُّ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى ، وَفِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ صَغِيرًا فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ مَا لَمْ يُنَصِّبْ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا ؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ .
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَالدَّعَاوَى فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَالْحُرْمَةُ لَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا مَسُّ الْمَوْلَى وَغَسْلُهُ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي الْحَالِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ سَبَبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ثَمَّةَ ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ زَوَالِ الْحِلِّ ، فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا .
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدِ دَلَالَةُ صِدْقِهِ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ؛ فَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ ظَاهِرًا وَالْقَاضِي مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَطْ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهَا فِيمَا وَرَاءَ الْعِتْقِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ .

( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَبِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطْعًا ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَإِنَّهُ اسْمٌ لِلثَّابِتِ قَطْعًا وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ ، وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِهِ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْجَوَازِ ؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ الْقَائِمَةُ بَيْنَهُمَا بِالدَّعْوَى ، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ الزِّنَا كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا وَعِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ السُّكْرِ فِي حَدِّ الشَّارِبِ وَالسُّكْرِ فَأَلْحَقَ الْمُحْتَمَلَ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْ اكْتَفَى بِظَاهِرِ الصِّدْقِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى هَذَا شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَالْعَبْدَانِ يَدَّعِيَانِ الْعِتْقَ أَوْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ شَهِدَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَصِحَّتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي مَنَعَتْهُ صِحَّةَ الدَّعْوَى فَامْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ ، وَعِنْدَهُمَا الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَى فَلَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ ، وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ

مَرِيضٌ فَمَاتَ ، أَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لَا تُقْبَلُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ ، تُقْبَلُ وَيُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا ، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَهُنَا مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ ، وَالْخَصْمُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْمُوصِي ، فَكَانَ الْمَيِّتُ الْمَشْهُودُ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ لَهُ فَكَانَ الْمُدَّعِي مَعْلُومًا فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ ، بِخِلَافِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَجْهُولًا فَلَمْ تُجْزِ الشَّهَادَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، مُتَعَيِّنًا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ .

وَكَذَلِكَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِحُرْمَةِ الْفَرْجِ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْفَرْجِ بِالْعِتْقِ الْمُبْهَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ هَهُنَا عِنْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ ، أَنَّهَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى سَبَبِ حُرْمَةِ الْفَرْجِ ، وَالدَّعْوَى فِيهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ .

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فُلَانًا ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ وَسَمَّاهُ وَنَسِينَاهُ ، أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا نَسِيَ مَا تَحَمَّلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَلَا يَعْرِفَانِ سَالِمًا ، وَلَهُ عَبْدٌ اسْمُهُ سَالِمٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَوْ شَهِدَا بِهِ فِي الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ أَصْلًا وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنْ الْجَهَالَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ .

وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدَيْنِ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْعِتْقِ لَا تُقْبَلُ أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَوِفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ ، نَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( كِتَابُ التَّدْبِيرِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ ، وَهُوَ بَيَانُ رُكْنِ التَّدْبِيرِ ، وَبَيَانُ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَبَيَانُ صِفَةِ التَّدْبِيرِ ، وَبَيَانُ حُكْمِ التَّدْبِيرِ ، وَوَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَبَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ .
( فَصْلٌ ) : أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَرُكْنُ التَّدْبِيرِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى مَعْنَى التَّدْبِيرِ لُغَةً ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ ، ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ نَوْعَانِ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ .
أَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مُطْلَقًا ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ قَدْ تَكُونُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَبَّرْتُك ، وَقَدْ تَكُونُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ حَرَّرْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَنْتَ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَعْتَقْتُك بَعْدَ مَوْتِي ، وَكَذَا إذَا قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ عِنْدَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ مَوْتِي ؛ لِأَنَّ ( عِنْدَ ) كَلِمَةُ حَضْرَةٍ فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْتِ ، فَيَكُونَ مَوْتُهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَجَمْعٌ لِلْمُقَارَنَةِ ، وَمُقَارَنَةُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا ، وَ ( فِي ) لِلظَّرْفِ فَإِذَا دَخَلَ مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا يَجْعَلُ شَرْطًا .
كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ فِي دُخُولِكَ الدَّارَ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَقُولَ : إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ يَقُولَ : إذَا مِتُّ أَوْ مَتَى مِتُّ أَوْ مَتَى مَا مِتُّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ أَوْ مَتَى حَدَثَ بِي ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَكَانَ الْمَوْتِ الْوَفَاةَ أَوْ الْهَلَاكَ ، وَلَوْ قَالَ : إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْلِيقُ عِتْقِ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَدْبِيرًا بَلْ كَانَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ مُطْلَقٍ ، كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ

الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتُّ أَوْ قُتِلْتُ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ مُدَبَّرٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنْ عَلَّقَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ مِتّ أَوْ مَاتَ زَيْدٌ ، وَلَوْ قَالَ : إنْ مِتّ وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ أَوْ قَالَ : بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ وَمَوْتِي لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَهُ ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مُدَبَّرًا وَإِنَّمَا لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَلَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ : بِمَوْتِهِ ، وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِيرَاثًا .
فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْآخَرُ ، فَإِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَمَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا وَيُعْتَقَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى ، فَكَانَ هَذَا كَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ صَارَ مُطْلَقًا وَصَارَ الْعَبْدُ بِحَالِهِ يُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ فِي الْأَصْلِ ، فَقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ كَلَامِك فُلَانًا وَبَعْدَ مَوْتِي .
فَكَلَّمَ فُلَانًا ، كَانَ مُدَبَّرًا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي .
فَكَلَّمَهُ صَارَ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَلَامِ صَارَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا فَكَذَا هَذَا ، وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِعَبْدِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِعِتْقِهِ ، أَوْ يُوصِيَهُ بِوَصِيَّةٍ يَسْتَحِقُّ مِنْ جُمْلَتِهَا رَقَبَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ

لَهُ : أَوْصَيْتُك بِنَفْسِك أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِعِتْقِك ، أَوْ كُلِّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَزِيلُ مِلْكُهُ بِالْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ يَزُولُ الْمِلْكُ إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَيَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ ، وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ ، فَهَذَا الطَّرِيقُ جَعَلَ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ وَهِبَتَهَا لَهُ إعْتَاقًا كَذَا هَذَا ، فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ مَالِي ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَهُ فَصَارَ مُوصًى لَهُ بِثُلُثِهَا ، وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ الثُّلُثِ لَا إلَى أَحَدٍ فَيَكُونُ إعْتَاقًا ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُعْتَقْ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَقَدْ دَخَلَ سُدُسُ رَقَبَتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ .
فَأَمَّا اسْمُ الْجُزْءِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ لَا مَحَالَةَ ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَهُمْ التَّعْيِينُ فِيمَا شَاءَ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أَوْ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٌ آخَرُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ .
أَوْ يَقُولُ : إنْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ غَرِقْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُ ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ مَعَ مَوْتِهِ شَرْطًا آخَرَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ ، وَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إذَا مِتُّ وَدُفِنْتُ أَوْ غُسِّلْتُ أَوْ كُفِّنْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْبِيرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَعْنًى آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ اسْتَحْسَنْت أَنْ يُعْتَقَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْتَقُ كَمَا لَوْ قَالَ : إذَا مِتّ فَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَمَاتَ الْمَوْلَى فَدَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ كَذَا هَذَا ، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ : يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَا هُوَ مِنْ عَلَائِقِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَوْتِ نِصْفِهِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : إذَا مِتُّ فَدَخَلْت الدَّارَ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا بِمَوْتِ نِصْفِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَدْبِيرًا أَصْلًا ، بَلْ كَانَ يَمِينًا مُطْلَقًا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
ثُمَّ التَّدْبِيرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا ، وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ

مُدَبَّرٌ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَا فِي حَقِّ التَّدْبِيرِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت .
فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ فِي سَاعَتِهِ تِلْكَ صَارَ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا ، كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَشِيئَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ حَتَّى يَمُوتَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ يُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا وُجِدَ قَبْلَهُ لَا يُعْتَبَرُ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَشَاءَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ وَبِأَمْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَقَ مَا لَمْ يُعْتَقْ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ لِمَا قُلْنَا ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : إذَا مِتّ فَأَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت .
أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَمْرُ عَبْدِي هَذَا بِيَدِك ثُمَّ مَاتَ فَشَاءَ الرَّجُلُ عِتْقَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ ، وَالْوَصَايَا لَا يَتَقَيَّدُ الْقَبُولُ فِيهَا بِالْمَجْلِسِ ، وَكَذَا إنْ قَالَ : عَبْدِي هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت فَشَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا يَتَقَيَّدُ قَبُولُهَا بِالْمَجْلِسِ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ

الْحَاكِمِ وَالْجَصَّاصِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ ، وَهَهُنَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي فَمَاتَ الْمَوْلَى وَقَامَ الْعَبْدُ مِنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي عَلِمَ فِيهِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ إلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، وَالْوَصِيَّةُ لَا يَقِفُ قَبُولُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ .
وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ صَارَ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا احْتَمَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَذَا الْإِضَافَةُ وَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ .
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُعْتَقَ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى قَبْلَ الشَّهْرِ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِمُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَكَمَا مَاتَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ وَهُوَ الشَّهْرُ ، فَلَا يُحْتَمَلُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِهِ فَيَبْطُلَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَجَعَلُوهُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ .
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا ، بَلْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ مِنْ وَقْتِ

التَّكَلُّمِ ، وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ وَقْت الْكَلَامِ ، فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ ، وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ، وَعَلَّلَ الْقُدُورِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى شَهْرٌ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى ، وَهَهُنَا مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ ، وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ ، أَوْ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَالثَّابِتُ بِالتَّدْبِيرِ يَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْمَوْتِ وَلَا يَسْتَنِدُ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ سَدِيدٍ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى الشَّهْرُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَصَارَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْهُمَا فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ ، بَلْ بِشَهْرٍ وَمُتَّصِلٍ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ ، وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أَمُوتُ : فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَمُوتُ .
فَإِنْ نَوَى بِهِ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، إذْ الْيَوْمُ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ لُغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ بِاللَّيْلِ لَا

بِالنَّهَارِ ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مُدَبَّرًا مُطْلَقًا ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَمَنْ وَلَّى بِاللَّيْلِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ : إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، فَإِنْ قَالَ : إنْ مِتّ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَهُوَ مُدَبَّرٌ السَّاعَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّدْبِيرَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالتَّدْبِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو قَوْلُهُ : بَعْدَ مَوْتِي فَيَبْقَى قَوْلُهُ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبُولَ فِي هَذَا عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ ، لَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَصَارَ مُدَبَّرًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ بِعِوَضٍ ، إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ رَأْسَ الشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا ، فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى

مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى دَيْنٌ ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَوْتُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَقْتُ الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَقْتُ الْعِتْقِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، إذْ الْقَبُولُ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَكُونُ ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَقَبُولُ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ ، أَوْ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوَالْقَاضِي ، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِير ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْمَالُ سَاقِطٌ ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُ الْمَالِ ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ فَسَقَطَ ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ السَّاعَةَ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ .
فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ، فَقَالَ : قَدْ قَبِلْتُ أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ : أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إذَا قَالَ : إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ حَتَّى تُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ

أَوْ الْوَصِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ ، وَكُلُّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيقَاعٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ ، فَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا ثُمَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ يَمْلِكُ الْوَارِثُ الْإِعْتَاقَ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ يُعْتَقُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِالدُّخُولِ فَدَخَلَ لَا يُعْتَقُ ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْإِعْتَاقِ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَالْوَلَاءُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ مَوْتِي .
فَالْقَبُولُ فِي هَذَا فِي الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ وَلَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَمَا فِي مِلْكِهِ صَارَ مُدَبَّرًا ، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ بِغَيْرِ تَدْبِيرٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا

الْكَلَامِ مَا يَسْتَفِيدُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْحَالِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ ، فَلَا يَكُونُ مَا يَسْتَفِيدُهُ مُرَادًا ؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَعَ الِاسْتِقْبَالِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْتَفَادُ فِي هَذَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ ، كَذَا فِي التَّدْبِيرِ وَلَهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، أَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ، فَالْيَمِينُ إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَبِمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمْلُوكُ لِلْحَالِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، وَقَوْلُهُ : اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُلْنَا : قَدْ يَشْتَمِلُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ ، فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ التَّدْبِيرِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ رُكْنِهِ مُطْلَقًا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ سَوَاءً كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِ الْمِلْكِ ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ : إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَإِثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ .
وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا لِلْحَالِ فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَلَا يَحْصُلُ مَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ التَّدْبِيرِ أَيْضًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِ غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ : إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا أَصْلًا .
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ لَا يَكُونُ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مُقَيَّدًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ ، حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا صِفَةُ التَّدْبِيرِ فَالتَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، فَيُعْتَبَرُ بِإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، وَإِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ .
كَذَا إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَانَ إعْتَاقًا .
فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ لَازِمًا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ صَارَ نَصِيبُهُ خَاصَّةً مُدَبَّرًا وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى مِلْكِهِ ؛ لِكَوْنِ التَّدْبِيرِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ سِتُّ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ .
أَمَّا خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ ، فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ .
وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ .
وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ عَلَى حَالِهِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ فَجَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ ، وَإِنَّهُ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ ، فَلَا يُكَلَّفُ بِالتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُدَبِّرُ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ فَأَعْتَقَ ، فَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُمَا لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَبِّرِ

لَا يَحْتَمِل الِانْتِقَالَ إلَى الْمُعْتَقِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْمُعْتِقِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ الْمُدَبِّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ ، فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْمُدَبَّرِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ حَتَّى صَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنهمَا ، وَسَاوَى شَرِيكَهُ فِي التَّصَرُّفِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَاقِي إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتِقَ الْبَعْضِ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرُ إذَا أُعْتِقَ بِمَوْتِ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَلَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَتْ السِّعَايَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونٍ وَجَبَتْ عَلَى الْحُرِّ فَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَعْتِقُ نَصِيب الشَّرِيكِ مَا لَمْ يُؤَدِّ السِّعَايَةَ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَ الشَّرِيكُ فَهَذَا مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ وَكَاتَبَهُ

صَحَّتْ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ مَضَى الْأَمْرُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ فَضَمِنَهُ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ لِانْتِقَالِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَلَمَّا ضَمِنَ الْمُدَبِّرُ قَامَ مَقَامَهُ فِيمَا كَانَ لَهُ .
فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نِصْفُهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ قَدْ صَارَ مُدَبَّرًا فَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ ، لَكِنْ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَيَسْعَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَامِلًا لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ قِنًّا وَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا ذَلِكَ النِّصْفَ وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ سَعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا أَدَّى يُعْتَقُ ذَلِكَ النِّصْفُ ، وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ لِلْمُدَبِّرِ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ اخْتَارَ تَرْكَ نَصِيبِهِ عَلَى حَاله فَمَاتَ يَكُون نَصِيبُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ فَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إلَى الْوَرَثَةِ فِي الْإِعْتَاقِ

وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالتَّرْكِ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ لَهُ هَذِهِ الْخِيَارَاتُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلِغَيْرِ الْمُدَبِّرِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا إلَّا اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ فَقَدْ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَقَدْ فَرَّقَا بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ إنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا ، وَإِنَّمَا يَسْعَى الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ أَوْ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ أَوْ ضَمَانُ حَبْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ ، إلَّا أَنَّ السِّعَايَةَ فِي بَابِ الْإِعْتَاقِ ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ ، وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ قَدْ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِ الْمُعْتِقِ وَصَارَ حُرًّا فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالِاسْتِسْعَاءِ .
هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ دَبَّرَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ ، .

فَإِنْ دَبَّرَاهُ مَعًا يَنْظُرْ إنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : قَدْ دَبَّرْتُك أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ نَصِيبِي مِنْك مُدَبَّرٌ أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي .
وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا صَارَ مُدَبَّرًا لَهُمَا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَصَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ ، فَإِذَا مَاتَ الْبَاقِي مِنْهُمَا قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا : إذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِنَا وَخَرَجَ كَلَامُهُمَا مَعًا ، لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِ صَاحِبِهِ ، فَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ : إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ إلَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَيَصِيرُ نَصِيبُ الْبَاقِي مِنْهُمَا مُدَبَّرًا لِصَيْرُورَةِ عِتْقِهِ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا ، وَصَارَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ ، وَلَهُمْ الْخِيَارَاتُ إنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشَّرِيكَ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِذَا مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ، فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَإِمَّا إنْ خَرَجَا مَعًا .
فَإِنْ خَرَجَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِمَّا إنْ عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمْ .
فَإِنْ عُلِمَ فَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ سَابِقًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ

دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَكَمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ ، وَتَدْبِيرُ الشَّرِيكِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْحُرَّ ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، فَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ، فَلَمْ يُعْتِقْ إلَّا نَصِيبَهُ لِتَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ ، فَلَمَّا دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَقَدْ صَحَّ تَدْبِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ دَبَّرَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ وَصَارَ مِيرَاثًا لِلْمُعْتِقِ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ خِيَارَاتٌ مِنْهَا التَّضْمِينُ وَمِنْهَا التَّدْبِيرُ ، فَإِذَا دَبَّرَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَبَرِئَ الْمُعْتِقُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ بِشَرْطِ نَقْلِ نَصِيبِهِ إلَى الْمُعْتَقِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْلِ بِالتَّدْبِيرِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ ، وَالْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ بِالطُّرُقِ الَّتِي بَيَّنَّا ، وَإِذَا مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا مِنْ الثُّلُثِ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمَا ، النِّصْفُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَالنِّصْفُ بِالتَّدْبِيرِ ، فَعَتَقَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ .
وَإِنْ كَانَ التَّدْبِيرُ سَابِقًا بِأَنْ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ

عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ قِنًّا ، سَوَاءً كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يَصِرْ كُلَّهُ مُدَبَّرًا ، بَلْ نَصِيبُهُ خَاصَّةً لِتَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ فَصَحَّ إعْتَاقُ الشَّرِيكِ فَعَتَقَ نِصْفُهُ ، وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ مُدَبَّرًا إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي هُوَ مُدَبَّرٌ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ ، وَإِنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِضَمَانٍ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفَسِهِ لَا مُتْلِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، فَصَحَّ التَّدْبِيرُ فِي النِّصْفِ ، وَالْإِعْتَاقُ فِي النِّصْفِ .
فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ الْإِعْتَاقُ وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّآنِ ، وَالْإِعْتَاقُ أَقْوَى فَيَدْفَعُ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا مِنْ اللَّاحِقِ ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتِقَ يَضْمَنُ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْمُدَبِّرِ وَيَسْتَسْعِي الْعَبْدَ لَهُ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِيمَا إذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى ، وَلِهَذَا قَالَ

بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ : فِي النَّصِّ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا وَجُهِلَ التَّارِيخُ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا ، وَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ ، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إنْ كَانَ لَاحِقًا كَانَ الْمُدَبَّرُ بِالتَّدْبِيرِ جَبْرِيًّا لِلْمُعْتِقِ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْوُجُوبِ ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لَهُ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَبْرَأَ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ عَنْ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ وَقَدْ سَقَطَ ضَمَانُ التَّدْبِيرِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَهُ .
فَإِذًا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُدَبِّرِ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُعْتِقُ يَضْمَنُ فِي حَالٍ وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالٍ ، وَالْمَضْمُونُ هُوَ النِّصْفُ فَيَنْتَصِفُ فَيَعْتِقُ رُبْعَ الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمُدَبِّرِ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ فِيهِ وَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ ، أُخْرِجَ بِالسِّعَايَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا كَأُمِّهِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ لِمَا نَذَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا لَمَّا دَبَّرَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْوَلَاءِ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ مُدَبَّرَتِهِمَا جَمِيعًا ، وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : حَقُّ الْوَلَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ .
فَنَقُولُ نَحْنُ : يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الشَّرِيكِ الْمُدَّعِي وَيَبْقَى نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ ، وَصَارَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَنِصْفُهَا مُدَبَّرَةً عَلَى حَالِهَا لِلشَّرِيكِ ، فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا قَوْلٌ بِالتَّجْزِئَةِ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفَسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّهُ يَتَكَامَلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ .
عَلَى أَنَّا نَقُولُ : الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ .
فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ ، وَهَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ لِمَا نَذْكُرُ وَيَغْرَمُ الْمُدَّعِي نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا ، وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ

مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لِلشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ ، فَيَجِبُ الْعُقْرُ ، وَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُهُمَا ، فَإِذَا ادَّعَاهُ فَقَدْ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ ، فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَادَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَعْتَمِدُ تَمَلُّكَ نَصِيبِهِ ، وَنَصِيبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ لِشَرِيكِهِ ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مُحْتَمَلُ النَّقْلِ ، فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَمَلُّكِ نَصِيبِهِ بِبَدَلِ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَالتَّمَلُّكُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَهَهُنَا نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَيَقْتَصِرُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَيَنْفَرِدُ الْوَلَدُ بِالضَّمَانِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا تَسْعَى فِي نَصِيبِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ شَيْئًا لِحُصُولِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ ، وَيَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ ، فَإِنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ

يَأْخُذَ السِّعَايَةَ عَتَقَ كُلُّهَا إنْ خَرَجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ عَنْهَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا تَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْبِنَاءِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يَدَّعِ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ لَهُ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَسْعَى لِأَنَّ رِقَّهُ مُتَقَوِّمٌ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَادَّعَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَأَيُّهُمَا مَاتَ يَعْتِقْ كُلُّ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدٍ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَ بَعْضُهَا عَتَقَ كُلُّهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ إلَى خَلَفٍ هُوَ خَيْرٌ ، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الِاسْتِيلَادِ يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَكَانَ خَيْرًا لَهَا مِنْ التَّدْبِيرِ ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ فِي الْقِنِّ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ الْقِنَّةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَوْ دَبَّرَهُ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ ، وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ أَيْضًا إنْ كَانَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ وَهُوَ مَوْتُ الْمَوْلَى .
وَخُرُوجُ الْمُدَبَّرِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ نَافِذَةٌ فَإِذَا خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي الْخِيَارِ ، وَالثَّانِي فِي الْمِقْدَارِ ، وَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ، وَفِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ أَمَّا فَصْلُ الْخِيَارِ فَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ لَمْ يَعْتِقْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى إلَّا ثُلُثُ الْعَبْدِ ، وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ مِنْهُ رَقِيقًا ، وَقَدْ تَوَجَّهَ إلَى الثُّلُثَيْنِ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا الْكِتَابَةُ بِأَدَاءِ بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ ، وَالثَّانِيَةُ التَّدْبِيرُ بِسِعَايَةِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا .
فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى هَذَا وَإِنْ شَاءَ

مَالَ إلَى ذَاكَ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا فَإِذَا عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالْمَوْتِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ ، وَبَطَلَ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَصَارَ الْمَالَانِ جَمِيعًا حَالًا ، وَعَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالَيْنِ : إمَّا الْكِتَابَةَ ، وَإِمَّا السِّعَايَةَ ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَقَلُّ كَانَ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا فَصْلُ الْمِقْدَارِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ قُوبِلَ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ : كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا ، وَقَدْ عَتَقَ ثُلُثُ الرَّقَبَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَدَلِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ ، وَلِأَنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ مِثْلَ كُلِّ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَسَقَطَ عَنْهُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَإِذَا كَانَ مِثْلَ ثُلُثِ قِيمَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ ، فَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ ، وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ فَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْبَدَلُ لَا يُقَابِلُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثُّلُثَيْنِ .
فَإِذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا لَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ ، وَبِمُقَابَلَةِ مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَيَصْرِفُ كُلَّ الْبَدَلِ إلَى مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ ، كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، لَزِمَهَا كُلُّ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا إذَا

جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا ، فَتَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ نِكَاحِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَالثُّلُثُ وَإِنْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَا بَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الثُّلُثَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُسَلَّمُ لَهُ جَمِيعُ رَقَبَتِهِ ، فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ هَذَا إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ .

فَإِنْ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْمِقْدَارِ هَهُنَا حَيْثُ قَالُوا : مِقْدَارُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُلُثَانِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ كَاتَبَهُ ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ رَقَبَتِهِ ، فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ ثُلُثُهُ فَيَسْقُطُ مَا كَانَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْبَدَلِ ، فَبَقِيَ الثُّلُثَانِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخِيَارِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا ، وَبَيْنَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ فَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ إذَا كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا حُكْمَ لَهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ رَأْسًا ، فَلَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَلَا حَقُّهَا ، بَلْ حُكْمُهُ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ .
وَعَلَى هَذَا يُبْنَى بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ جَائِزٌ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِجْمَاعِ .
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : { دَبَّرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ ، فَاحْتَاجَ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَازُ ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ، وَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ ، وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ } وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَهُوَ

قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ شُرَيْحُ وَمَسْرُوقٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّةِ ؛ لَقُلْت بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ ، وَلَنَا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ ، وَدَلَالَةُ غَرَضِ الْمُدَبِّرِ ، أَمَّا ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ هَهُنَا سِوَى الْكَلَامِ السَّابِقِ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِلْحَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا بَعْدَ الشَّرْطِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِهِ .
فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَسْنَا نَعْنِي ثُبُوتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبِّرِ إلَّا هَذَا ، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إبْطَالُ السَّبَبِيَّةِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْبَيْعِ .
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ غَرَضَ الْمُدَبِّرِ مِنْ التَّدْبِيرِ أَنْ يُسَلِّمَ الْحُرِّيَّةَ لَلْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْمَوْتِ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِإِعْتَاقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، وَإِمَّا حَقًّا لِخِدْمَتِهِ الْقَدِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَيَاتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا ، وَلَا طَرِيقَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضَيْنِ إلَّا بِجَعْلِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، إذْ لَوْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحَالِ لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ شَيْءٌ رَأْسًا

لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الْعِتْقِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ لِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
فَكَانَ انْعِقَادُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ ، وَتَأَخُّرُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ طَرِيقُ إحْرَازِ الْغَرَضَيْنِ ، فَثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، فَيَتَقَيَّدُ الْكَلَامُ بِهِ إذْ الْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ ، فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُنَاقِضٌ لِأَصْلِكُمْ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ، وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أَسْبَابًا عِنْدَ وُجُودِ شُرُوطِهَا ، وَعَلَى هَذَا بَنَيْتُمْ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ ، وَهَهُنَا جَعَلْتُمْ التَّدْبِيرَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ ، وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ فِي الْأَصْلِ ، وَالتَّنَاقُضُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلُ فَسَادِ الْفَرْعِ .
فَالْجَوَابُ : إنَّ هَذَا أَصْلُنَا فِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَفِيمَا لَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ كَوْنَهُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ ، وَهَهُنَا أَرَادَ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا ، فَتَعَيَّنَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي الثَّانِي .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا ، وَقَوْلُهُ بَاعَ حِكَايَةُ فِعْلٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بَاعَ أَيْ أَجَّرَ إذْ الْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ خِدْمَةَ مُدَبَّرٍ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ } وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ رَجُلًا بِدَيْنِهِ يُقَالُ

لَهُ سُرَّقٌ } ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ بَيْعِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُدَبَّرِ إلْحَاقًا لِلْحَقِّ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ .

وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ، وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَوْ لَا يَمُوتَ .
فَكَانَ الشَّرْطُ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ سَبَبًا لِلْحَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ ، وَكَذَا لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ ، وَلَا قَضَاءَ حَقِّ الْخِدْمَةِ الْقَدِيمَةِ ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غَرَضُهُ لَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ فِي التَّدْبِيرِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ .
فَنَعَمْ ، لَكِنْ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ أَمْرٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْيَمِينُ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُشْكَلُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ .
فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيلَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْحَالِ مُتَرَدِّدٌ لِتَرَدُّدِ مَوْتِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ، فَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُوصًى لَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ لَا يَجُوزُ ، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوِصَايَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ عِنْدَنَا .
فَكَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَتَمَلُّكِهَا ، وَيَجُوزُ إجَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ بِالتَّمْلِيكِ لَا فِي الْعَيْنِ ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْمُدَبِّرِ ،

وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ ، وَبَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَيَجُوزُ الِاسْتِخْدَامُ ، وَكَذَا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ فِي الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ مُدَبَّرَتَهُ ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ آكَدُ مِنْ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الثُّلُثِ ، ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ فِي الْأَمَةِ ، فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى ، وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُهُ وَالْأَرْشُ لَهُ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَسْعَى فِي دُيُونِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ إيصَالُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ مُعَجَّلًا ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ وُصُولِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ .
فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إيصَالِهِ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَا الْمُدَبَّرُ ، وَيَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ مُكَاتَبَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَتِهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ ، فَقَضَى أَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مُدَبَّرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ فِي السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ ؛ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِنْ أَقْضِيَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَقْتَ الْوِلَادَةِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ الْمَوْلَى : وَلَدْتِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ .
فَهُوَ رَقِيقٌ وَقَالَتْ هِيَ : وَلَدْتُهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَدَّعِي سِرَايَةَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ .
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ فِعْلَهُ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا إثْبَاتُ التَّدْبِيرِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّدْبِيرِ عِتْقٌ فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْمُعْتَقَةِ : وَلَدْتِيهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهُوَ رَقِيقٌ ، وَقَالَتْ : بَلْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ حُرٌّ يَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى

فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَكَذَا وَلَدُهَا ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا : إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ ، وَإِنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ ، وَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْأُمِّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُدَبِّرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ .
إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمُقَيَّدِ الْمَوْتُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ حَقِيقَةً أَمْ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْمَوْلَى عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْأَمْلَاكِ .
وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فِي دَار الْإِسْلَامِ فَدَبَّرَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَ مُدَبَّرُهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ حُكْمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ، وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَذَا فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ ، وَمِنْهَا أَنَّ عِتْقَهُ يُحْسَبُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِتْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَمَّادٍ وَجَعَلُوهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ ، أَوْ فِي الصِّحَّةِ

؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْمُقَيَّدَ فِي حَقِّ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَوْتِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصَايَا هَكَذَا يُعْتَبَرُ ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ عِتْقِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ .
هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ فِي قَضَاءِ دُيُونِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُدَبَّرِ لِلْمُدَبِّرِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلَا يَنْتَقِلُ هَذَا الْوَلَاءُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ كَمُدَبَّرَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا .
ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ وَغَرِمَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الْوَلَدِ ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الْوَلَاءِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَمِنَ عَتَقَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْوَلَاءُ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ ، فَالتَّدْبِيرُ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ الْبَاتُّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ الْحَقُّ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَيُعْتَبَرُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْحَالِ ، وَذَا يَظْهَرُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ فَكَذَا هَذَا ، إذْ عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ التَّدْبِيرَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ .
قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِلَا خِلَافٍ ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ التَّدْبِيرَ مَعَ الْمَوْلَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَالْحِجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ إلَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الصِّحَّة فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَجْهُولٌ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُقْبَلُ عِنْدَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا حُرٌّ وَهَذَا مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا .
لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ : هَذَا حُرٌّ بَعْد مَوْتِي لَا بَلْ هَذَا كَانَا جَمِيعًا مُدَبَّرَيْنِ وَيُعْتَقَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي .
فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا ، فَلَمَّا قَالَ : لَا بَلْ هَذَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ الْأَوَّلِ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي ، وَرُجُوعُهُ لَا

يَصِحُّ وَتَدَارُكُهُ صَحِيحٌ ، كَمَا إذَا قَالَ لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ : هَذِهِ طَالِقٌ ، لَا بَلْ هَذِهِ ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ : هَذَا حُرٌّ أَلْبَتَّةَ لَا بَلْ هَذَا مُدَبَّرٌ .
جَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ ثُمَّ رَجَعَ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي فَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ التَّدَارُكُ ، فَصَارَ الْأَوَّلُ حُرًّا وَالثَّانِي مُدَبَّرًا ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَبَّرَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَلْبَتَّةَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْبَاتَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ .

( كِتَابُ الِاسْتِيلَادِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِيلَادِ لُغَةً وَعُرْفًا ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِهِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ .
أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالِاسْتِيلَادُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ طَلَبُ الْوَلَدِ ، كَالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِئْنَاسِ ، أَنَّهُ طَلَبُ الْهِبَةِ وَالْأُنْسِ ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ يُقَالُ : فُلَانٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إنْ صَيَّرَهَا أُمَّ وَلَدِهِ ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا : إنَّهُ يَسْتَوِي فِي صَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ الْوَلَدُ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ ، وَكَذَا لَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ ، وَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَيِّ الْكَامِلِ الْخَلْقِ فِي تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوِلَادَةِ تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا السَّقْطِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ ، فَأَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ نُطْفَةً فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى ، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا ، وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مُحَالٌ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا جَامِدًا أَوْ لَحْمًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ مَعَ الشَّكِّ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، فِي قَوْلٍ قَالَ : يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ دَمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ ، وَفِي قَوْلٍ قَالَ : يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ ، وَالْقَوْلَانِ فَاسِدَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ .

وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ : حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي .
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْوَلَدِ ، إذْ الْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ : حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي أَوْ قَالَ : هِيَ حُبْلَى مِنِّي أَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَإِنَّمَا كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ الْأَمَةُ ، فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَمْلِهَا وَالْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لَهَا حُرِّيَّةَ الِاسْتِيلَادِ .
فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْحُرِّيَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ قَالَ : مَا فِي بَطْنِهَا مِنِّي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا يَحْتَمِلُ الْوَلَدَ وَالرِّيحَ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ .

وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى : إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ مِنْهُ هَذَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : إنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي أَيْ إنِّي وَطِئْتُهَا ، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْءٍ فَهُوَ مِنِّي .
فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ ، فَشَهِدَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ ، لَزِمَهُ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ وُجُودَ هَذَا الْحَمْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ بِالشَّكِّ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : سَبَبُهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، وَثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّسْبِيبِ أَيْ وَلَدُهَا سَبَبُ عِتْقِهَا .
غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّسْبِيبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : هِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا مُطْلَقًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ بِلَا شَكٍّ وَإِنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ ، وَحُرِّيَّةُ الْجُزْءِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْكُلِّ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ رَقِيقًا وَالْجُزْءُ حُرًّا ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَقَ الْأُمُّ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا تُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ مِنْهَا ، وَحُرِّيَّتُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْأُمِّ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ فَقُلْنَا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَتَأَخُّرِ الْحَقِيقَةِ إلَى بَعْدِ الْمَوْتِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُعَلَّقَ أَوْجَبَ الْجُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ لِاخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ مِنْهُ ، فَكَانَ الْوَلَدُ جُزْءًا لَهُمَا ، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا إنْ لَمْ يَبْقَ جُزْءًا لَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَدْ بَقِيَ حُكْمًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ كُلُّ الْأُمِّ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ : أُمُّ وَلَدِهِ .
فَلَوْ بَقِيَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ فَإِذَا بَقِيَتْ حُكْمًا

ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُ مَأْخَذِ الْحُجَجِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَبَعْدَمَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ تُرِيدُونَ بَيْعَهُنَّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السَّبَبِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ : السَّبَبُ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا ، وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ حَقِيقَةً .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةً إنْسَانٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ فَتَحَقَّقَ السَّبَبُ ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، كَمَا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ فِي غَيْرِهِ فَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ، وَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهُ الَّذِي اسْتَوْلَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَيَعْتِقُ .
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ ، ثُمَّ مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حِينَ مَلَكَهَا عِنْدَنَا لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَعِنْدَهُ لَا ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ ، وَلَوْ مَلَكَ الْوَلَدَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا بِأَنْ قَالَ : زَنَيْتُ بِهَا أَوْ فَجَرْت بِهَا أَوْ قَالَ : هُوَ ابْنِي مِنْ زِنًا أَوْ فُجُورٍ .
وَصَدَّقَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ

أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَمَلَّك الْوَلَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَالسَّبَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ شَرْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ .

وَأَمَّا شَرْطُهُ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا ، وَهُوَ الْفِرَاشُ وَلَا فِرَاشَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، أَوْ شُبْهَةٍ ، أَوْ تَأْوِيلِ الْمِلْكِ أَوْ مِلْكِ النِّكَاحِ ، أَوْ شُبْهَتِهِ .
وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بَلْ بِالْوَطْءِ مَعَ قَرِينَةِ الدَّعْوَى عِنْدَنَا ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى ، فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ ، وَيَسْتَوِي فِي الِاسْتِيلَادِ مِلْكُ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ إذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَ التَّدْبِيرُ ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ أَنْفَعُ لَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ ، وَالْمُدَبَّرَةُ تَسْعَى وَيَسْتَوِي فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ مِلْكُ كُلِّ الْجَارِيَةِ وَبَعْضِهَا ، وَكَذَا فِي الِاسْتِيلَادِ حَتَّى لَوْ أَنَّ جَارِيَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ عُلِّقَتْ فِي مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ، يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالضَّمَانِ ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الضَّمَانِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا .
أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مَحَلٍّ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمِلْكِ أَوْجَبَ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِقَدْرِهِ ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِهِ ثَبَتَ فِي كُلِّهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى .
وَأَمَّا صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَالنِّصْفُ قَضِيَّةٌ لِلتَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وُجِدَ

سَبَبُ التَّكَامُلِ ، وَهُوَ النَّسَبُ عَلَى كَوْنِهِ مُتَجَزِّئًا فِي نَفَسِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَالْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ ، وَفِي نَصِيبِهِ قَضِيَّةٌ لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ فِي الْبَاقِي بِسَبَبِ النَّسَبِ ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ أَوْجَبَ التَّكَامُلَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى التَّكَامُلِ بِدُونِ مِلْكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ، فَيَتَمَلَّكُهُ بِالْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَتِهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِي هَذَا الضَّمَانِ حَالَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مِلْكٍ كَضَمَانِ الْمَبِيعِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِوَطْءِ مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لِمَكَانِ شُبْهَةٍ لِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ وَمِلْكِ شَرِيكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْعُقْرُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ ، وَضَمَانُ الْبِضْعِ ضَمَانُ الْجُزْءِ ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَهَا حُكْمُ الْأَجْزَاءِ ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِهِ .
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَصَارَ الْوَلَدُ جَارِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَالِ الْعُلُوقِ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يُقَابَلُ بِالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ فَلَا يُفْرَدُ بِالضَّمَانِ ، وَيَسْتَوِي فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ مِلْكُ الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ إكْسَابِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْتَوِي فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ حَالَةُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ

النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَخَرَجَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا ، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَةُ صَاحِبِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، وَهِيَ الْعُلُوقُ وَالْعِتْقُ وَقَعَ فِي الْحَالِ فَصَارَتْ الدَّعْوَةُ أَسْبَقَ مِنْ الْإِعْتَاقِ فَكَانَتْ أَوْلَى ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا تَخْدِمُ لِهَذَا يَوْمًا ، وَلِذَاكَ يَوْمًا ، وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا ، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ فَيَكُونُ قِصَاصًا أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا فَمَذْهَبُنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى .
وَأَمَّا صَيْرُورَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَلِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى شَرِيكِهِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا لِلْآخَرِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ فَادَّعُوهُ جَمِيعًا مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَنَذْكُرُ الْحِجَجَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ ، وَالْآخَرِ الرُّبُعُ ، وَالْآخَرِ الثُّلُثُ ، وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ وَيَصِيرُ نَصِيبُ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، لَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ حَتَّى تَكُونَ الْخِدْمَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ اسْتِيلَادُ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَادَّعَيَاهُ ، أَوْ بَيْنَ حُرٍّ وَمُكَاتَبٍ ، أَوْ بَيْنَ مُكَاتَبٍ وَعَبْدٍ ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، أَوْ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ ، أَوْ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ حُرٍّ كَافِرٍ ، أَوْ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ ، فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، هَذَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِيَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَى نَذْكُرهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَيْنِ ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ أَوْ بَطْنَيْنِ وَالدَّعْوَتَانِ خَرَجَتَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ لِإِنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ وَهُمْ وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَحَدَهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَكَذَا دَعْوَةُ الْأَبِ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ ابْنِهِ مَعَ فُرُوعِهَا ، وَدَعْوَةُ اللَّقِيطِ مَعَ فُصُولِهَا تُذْكَرُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ حَقُّ الشَّاهِدِ فِي رَقَبَتِهَا مُوسِرًا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ مُعْسِرًا ، وَتَخْدِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَوْمًا ، وَيَرْفَعُ عَنْهَا يَوْمًا ، فَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ سَعَتْ لِوَرَثَتِهِ ، وَكَانَتْ فِي حَالِ السِّعَايَةِ كَالْمُكَاتَبَةِ ، فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَكَانَ نِصْفُ وَلَائِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالنِّصْفُ لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَسْعَى السَّاعَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَدَّتْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا .
وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ الشَّرِيكُ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ ، فَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُعْتَقًا كَذَا هَهُنَا ، وَإِذَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ صَارَ مُقِرًّا بِالِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِهِ ، وَمَتَى ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَزَّأْ ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ كَذَّبَهُ فِي إقْرَارِهِ ، فَكَانَ لِشَرِيكِهِ السِّعَايَةُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُقِرُّ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، وَإِذَا سَعَتْ فِي نَصِيبِهِ وَعَتَقَ نَصِيبُهُ يَعْتِقُ الْكُلُّ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِسَبَبِ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالْمِلْكَ وَيَجِبُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَدَعْوَى الضَّمَانِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي رَقَبَتِهَا وَبَقِيَ حَقُّ الْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا كَانَ ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ

لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ ، وَإِمَّا إنْ كَانَ فِيهِ كَاذِبًا .
فَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ ، فَيُسَلِّمُ لَهُ كَمَالَ الِاسْتِخْدَامِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِقْرَارِ ، فَنِصْفُ الْخِدْمَةِ ثَابِتَةٌ لِلْمُنْكِرِ بِيَقِينٍ ، وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا أَيْضًا .
فَأَمَّا الْمُقِرُّ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ الْخِدْمَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ كُلَّ الْخِدْمَةِ أَنَّ لِشَرِيكِهِ ، إلَّا شَرِيكَهُ لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ بَطَلَتْ خِدْمَةُ الْيَوْمِ ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مُتَعَذِّرٌ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ ، وَحِينَمَا أَقَرَّ كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِيهَا فِي الظَّاهِرِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدِ أَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ صَاحِبِهِ ، وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ فِي الْإِقْرَارِ ، كَذَلِكَ هَهُنَا وَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَوَقَفَ النِّصْفَ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ إقْرَارَهُ فَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا النِّصْفِ مُسْتَحَقٌّ مَعْلُومٌ فَيَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هُوَ ابْنُ الشَّرِيكِ وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَالْجَوَابُ فِي الْأُمِّ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَعْتِقُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ شَرِيكِهِ ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا شَهِدَ عَلَى الْآخَرِ بِالْعِتْقِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَسْعَى لِلشَّاهِدِ ؛

لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ دَبَّرَهَا وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَبَّرَ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَلَمْ يُدَبِّرْ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فَسَعَتْ لَهُ يَوْمًا وَخَدَمَتْ الْآخَرَ يَوْمًا ، فَإِذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ سَعَتْ لِلْآخَرِ ، وَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا كَأُمِّ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ : تُوقَفُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، إلَّا فِي تَبْعِيضِ التَّدْبِيرِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَسْعَى السَّاعَةَ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِيلَادِ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي إقْرَارِهِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ إقْرَارُهُ وَثَبَتَ التَّدْبِيرُ فِي نَصِيبِهِ ، وَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الْمُنْكِرِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ وَتَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْمُنْكِرِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فَتَسْعَى الْجَارِيَةُ لَهُ ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ فِي نَصِيبِهِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِيرُ نَصِيبُهُ بِإِقْرَارِهِ بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ ، أَنَّهُ يَبْقَى نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ وَلَهُ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِسْعَاءُ وَالتَّرْكُ عَلَى حَالِهِ ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَوْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فَإِنَّمَا يَسْتَسْعَاهَا يَوْمًا وَيَتْرُكُهَا يَوْمًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ إلَّا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ ، فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى لِلْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ نَصِيبُهُ وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ الْمُقِرِّ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا

حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَهُوَ بِدَعْوَى التَّدْبِيرِ عَلَى شَرِيكِهِ ، يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَكَانَ مُبَرِّئًا لِلْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَلَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ فَيَتَوَقَّفَ نَصِيبُهُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالِاسْتِيلَادِ ، فَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي حَقَّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْإِبْرَاءَ لِلْأَمَةِ مِنْ السِّعَايَةِ وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ هَهُنَا أَبْرَأَ الْأَمَةَ مِنْ السِّعَايَةِ وَادَّعَى الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ .

وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : هَذَا ابْنِي وَابْنُك أَوْ ابْنُك وَابْنِي فَقَالَ الْآخَرُ : صَدَقْت .
فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ خَاصَّةً دُونَ الْمُصَدِّقِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : هُوَ ابْنِي وَابْنُك ، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَكَمَا قَالَ ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ مِنْ غَيْرِهِ .
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَوْ قَالَ هَذَا ابْنُك ، وَسَكَتَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى قَالَ هُوَ ابْنِي مَعَك ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ .
فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ : هُوَ ابْنِي دُونَك فَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً وَسَكَتَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ إقْرَارُهُ وَوَقَفَ عَلَى التَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ ابْنِي يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَسْمَعُ فَإِذَا وَجَدَ التَّصْدِيقَ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ قَالَ : فَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَيْسَ بِابْنِي وَلَكِنَّهُ ابْنُك أَوْ قَالَ : لَيْسَ بِابْنِي وَلَا ابْنُك أَوْ قَالَ : لَيْسَ بِابْنِي ، وَسَكَتَ فَلَيْسَ بِابْنٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فِي قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ لَهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ .
فَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَصِحُّ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَقَدْ بَطَلَ إقْرَارُهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ ، فَتَكْذِيبُهُ يَنْفِي ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ

فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ بَلْ بَقِيَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فِي حَقِّهِ .

فَإِذَا ادَّعَى وَلَدًا هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، وَلَوْ قَالَ : هُوَ ابْنِي وَابْنُكَ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَقَدْ صَدَّقَهُ ، فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَابْنُك لَمْ يَصِحَّ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ يَعْقِلُ فَالْمَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا كَانَ فِي يَدِ نَفَسِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى النَّسَبِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَمَةٍ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِمَا ، فَالْجَوَابُ كَالْأَوَّلِ فِي النَّسَبِ إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُقِرِّ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ لِشَرِيكِهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَثْبُتُ قَالَ : وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَتْبَعُ النَّسَبَ ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي مِلْكِهِمَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ بِنْتُهُ وَخَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا .
فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ مَنْ يَدَّعِي الْوَلَدَ ، وَدَعْوَةُ مُدَّعِي الْأُمِّ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْوَلَدِ دَعْوَتُهُ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ ، وَالِاسْتِيلَادُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَمُدَّعِيَ الْأُمِّ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالتَّحْرِيرُ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ وَلَا يَسْتَنِدُ ، فَكَانَتْ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْوَلَدِ سَابِقَةً ، فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَيَنْتَقِلُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِنْهَا إلَيْهِ فَكَانَ دَعْوَى الشَّرِيكِ دَعْوَى فِيمَا لَا يَمْلِكُ فَلَا يُسْمَعْ ، وَهَلْ يَضْمَنُ مُدَّعِي الْوَلَدِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفِ عُقْرِهَا ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا

شَيْءَ عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ وَلَا مِنْ الْعُقْرِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ أَيْضًا عَلَى مُدَّعِي الْأُمِّ ، فَإِنْ أَكَذَبَ مُدَّعِي الْأُمِّ نَفَسَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَنِصْفُ عُقْرِهَا عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْيَسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ مُدَّعِي الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ .
فَكَانَ مُنْكِرًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دَعْوَاهُ وَأَكْذَبَ نَفَسَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الضَّمَانِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ لَهُ شَرِيكُهُ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُدَّعِي ، فَقَدْ صَارَ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَكَذَا نَصِيبُ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْجَارِيَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ ، فَصَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِعِوَضٍ فَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَيَضْمَنَ لَهُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَاقَاهَا ، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ لِلشَّرِيكِ ، فَمَا صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِهِ الْعُقْرُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ .
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا ، فَبَطَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَلْفٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِأَلْفَيْنِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالْأَلْفَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ سَبَقَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ لِمَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ شَرْعًا كَذَا هَذَا ، وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَهُ بِحُرِّيَّتِهَا وُجِدَ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِزَوَالِهَا عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ زَائِلَةً عَنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَصِحَّ

إقْرَارُهُ ، فَلَمْ يَصِرْ إقْرَارُهُ إبْرَاءَ إيَّاهُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّفِيعِ .

وَمِنْ مَسَائِلِ دَعْوَى الْوَلَدِ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ ، وَسَوَاءٌ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ أَوْ لِأَقَلَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ ، وَدَعْوَةُ الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَتِهِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى التَّصْدِيقِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهَا وَعِتْقُ أَوْلَادِهَا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْغَرَضُ فَلَا يَضْمَنُ لَهَا شَيْئًا ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ كَاتَبَهَا فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ تَتَعَجَّلُ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَبِالِاسْتِيلَادِ تَسْقُطُ عَنْهَا السِّعَايَةُ ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَكَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ .

وَإِنْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُكَاتِبِ لَهُ وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتِبِ ، فَإِنْ كَذَّبَ الْمَوْلَى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا مَمْلُوكَيْنِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ : أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَبَلُ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَعْتِقَ الْوَلَدُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتِبُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يُصَدَّقُ بِغَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَكَاتِبِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ ، فَكَذَا مَعَ التَّصْدِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ التَّحْرِيرَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصْدِيقَ بِالْحُرِّيَّةِ أَيْضًا ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الرَّجُلِ فِي مَالِ مُكَاتَبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّهِ فِي مَالِ وَلَدِهِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّزْعَ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مِلْكِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَتَقِفُ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأُمِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ فِي الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى وَمِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ لِلْمُكَاتَبِ كَالْمَغْرُورِ ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأُمِّ ظَاهِرًا وَلِلْمُسْتَحِقِّ حَقِيقَةً ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ

بِالْقِيمَةِ .

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ : إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً حَامِلًا فَادَّعَى مَوْلَاهَا وَلَدَهَا ، أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا فَادَّعَاهُ لَمْ يَجُزْ دَعْوَتُهُ إلَّا بِالتَّصْدِيقِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ وَهَهُنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمَكَاتِبُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِعَدَمِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ فَكَانَتْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ تَحْرِيرَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَا تَصِحُّ ؟ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ ثُبُوتُ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى وَلَدَ أَمَةٍ أَجْنَبِيٍّ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَعْتِقُ فِي الْحَالِ ؟ كَذَا هَهُنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ فَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَالتَّدْبِيرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مُتَجَزِّئٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَامَلُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وَشَرْطِهِ ، وَهُوَ إمْكَانُ التَّكَامُلِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ أَيْضًا لَكِنْ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ .
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ .
وَبَيَانُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ الْخَالِصَةُ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا بِلَا خِلَافٍ ، لَكِنْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ، وَعِنْدَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ فِي الْبَاقِي لَا بِإِعْتَاقِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاق .
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَنُصِيبُ الْآخَرِ بَقِيَ مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي ، وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ .

وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا : كَحُكْمِ التَّدْبِيرِ أَحَدُهُمَا ، يَتَعَلَّقُ بِحَالِ حَيَاةِ الْمُسْتَوْلِدِ ، وَالثَّانِي ، يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّدْبِيرِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ إمَامُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ ، وَعَلَى هَذَا تُبْتَنَى جُمْلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ الْعَامَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ .
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، وَكَذَا تَصِحُّ إجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا ، فَدَلَّ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْقِنَّةِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ فِي أُمِّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدَمٌ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ أَعْتَقَهُنَّ وَلَا

يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ ، وَلَا يَسْتَسْعِينَ فِي دَيْنٍ ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ } وَكَذَا جَمِيعُ التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ ، فَكَانَ قَوْلُ بِشْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ : كَانَ رَأْيِي وَرَأْيِ عُمَرَ أَنْ لَا يُبَعْنَ ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ : رَأْيُك مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك ، .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك فِي الْفُرْقَةِ فَقَوْلُ عُبَيْدَةَ فِي الْجَمَاعَةِ إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ بَدَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُحْمَلُ خِلَافُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى اسْتِقْرَارَ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَنْقَرِضْ الْعَصْرُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرَيَانِ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ ، لَكِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا سَبَبَ سِوَى الِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ

الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي التَّدْبِيرِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيْعِ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى بَيْعًا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّهَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَمَا كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِهِ ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَوْلِدِ .
فَنَعَمْ ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، مُرْتَدًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا ، خَرَجَ إلَى دِيَارِنَا وَمَعَهُ أُمُّ وَلَدِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْتَأْمَنُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَجُوزُ ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ ، وَمَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ كَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ ، وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَالْأُجْرَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ وَالْعُقْرُ وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَكَذَا مِلْكُ الْعَيْنِ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ

الْعَارِضَ وَهُوَ التَّدْبِيرُ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ ، فَكَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ قَائِمًا ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهُ ، وَكَذَا الْأَرْشُ لَهُ بَدَلُ جُزْءٍ هُوَ مِلْكُهُ ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْهُ فَيَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا ، وَيَصِيرَ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ ، فَكَانَ التَّزْوِيجُ تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كَاسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مِنْ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَوَّجَهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ وَلَدُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَهُ فِرَاشٌ ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى لِزَوَالِ فِرَاشِهِ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَقَالَ : هَذَا ابْنِي لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِسَبْقِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الزَّوْجُ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : هَذَا ابْنِي ، وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ ، إلَّا إذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْحُرْمَةِ ، أَوْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا

بِالدَّعْوَةِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا ، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى الْفِرَاشِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ أَوْ الْمُدَبَّرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا ، وَإِنْ حَصَّنَهَا الْمَوْلَى وَطَلَب وَلَدَهَا بِدُونِ الدَّعْوَةِ عِنْدَنَا ، فَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِدُونِ الدَّعْوَةِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ دُونَ وَلَدِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الْإِعْلَاقِ ، إذْ التَّحَرُّزُ لِخَوْفِ فَوَاتِ مَالِيَّتِهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَعْزِلَ عَنْهَا بَلْ يُعَلِّقُهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ ، بِخِلَافِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةُ ، فَإِنَّ هُنَاكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَلِّقُهَا بَلْ يَعْزِلُ عَنْهَا تَحَرُّزًا عَنْ إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
فَإِنْ صَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمَوْلَى عَلَى التَّأْبِيدِ بِأَنْ وَطِئَهَا ابْنُ الْمَوْلَى أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى أُمَّهَا أَوْ بِنْتَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ؛ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي أَتَتْ بِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُرْمَةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْوَطْءِ كَالنَّفْيِ دَلَالَةً ، وَإِنْ ادَّعَى يَثْبُتْ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَصْلًا فَقَالَ : إذَا حُرِّمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا يَقْطَعُ

نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَيُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَوْلَاهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَقْطَعُ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ ، فَلَأَنْ تَقْطَعَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَصِيرَ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ : هَذَا ابْنِي ، وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَلَا يُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَالصَّوْمِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِرَاشِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ أَمَّا النَّفْيُ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ عَنْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ فَكَانَ مُصَدَّقًا .
وَأَمَّا النَّفْيُ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَضْعَفُ مِنْ فِرَاشِ الْحُرَّةِ وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْفُرُشَ ثَلَاثَةٌ : قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ وَوَسَطٌ .
فَالْقَوِيُّ : هُوَ فِرَاشُ النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ ، وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ ، وَيَنْتَفِي مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِالنَّفْيِ بِخِلَافِ فِرَاشِ الزَّوْجِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ إذَا لَمْ يَقْضِ بِهِ الْقَاضِي أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ ، فَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فَلَا يَنْتَفِي ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا

يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَا تَطَاوُلُ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ النَّفْيِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً ، وَالنَّسَبُ الْمُقَرُّ بِهِ لَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ لِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَدَّرَاهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بِأَنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمِّ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ ، ثُمَّ مَلَكَهَا وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ فَارَقَهَا فَزَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْ آخَرَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَوَلَدَهَا ، صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَلَا يَصِيرُ وَلَدُهَا وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : إذَا مَلَكَ مَنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ ، فَهُوَ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأُمِّ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ ، وَالْوَلَدُ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ ، فَإِذَا مَلَكَهُ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ ، وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِي الْأُمِّ وَهُوَ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ شَرْعًا إنَّمَا تَثْبُتُ وَقْتَ مِلْكِ الْأُمِّ ، وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَالسِّرَايَةُ لَا تَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ، وَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ

بِكَسْبِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَيْعَ لِمَا ذَكَرْنَا وَتَسْعَى فِي دُيُونِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهَا لَا فِي رَقَبَتِهَا ، وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا ، وَمِنْ الْأَرْشِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا قَدْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ كَالْمُدَبَّرِ ، وَيَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ مَقْصُودِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا يَعْتِقُ كُلُّهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَتَقَ جَمِيعُهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي السِّعَايَةِ ؛ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا السِّعَايَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْغَصْبُ وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، إنَّهَا لَا تُضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تُضْمَنُ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُدَبَّرَةِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هَلْ هِيَ مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مَالٌ أَمْ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ ؟ عِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَفْسٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، وَرُبَّمَا تُلَقَّبُ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ لَهُ قِيمَةٌ أَمْ لَا ؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ : أَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ إذَا غُصِبَ

يَعْنِي إذَا مَاتَ عَنْ سَبَبٍ حَادِثٍ بِأَنْ عَقَرَهُ سَبْعٌ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَلَا شَكَّ ، وَلِهَذَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَكِتَابَتُهَا ، وَمِلْكُهُ فِيهَا مَعْصُومٌ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَهُ لَمْ يُوجِبْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْمُدَبَّرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رِقَّهَا مُتَقَوِّمٌ : أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ ، فَلَوْلَا أَنَّ مَالِيَّتَهَا مُتَقَوِّمَةٌ لَعَتَقَتْ مَجَّانًا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَخْذُ السِّعَايَةِ بَدَلًا عَنْ مَالِيَّتِهَا ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَهَا ، وَالِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَجُوزُ عَنْ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ وَالِاسْتِخْدَامَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا إجْمَاعَ فِي التَّقْوِيمِ ، فَكَانَتْ حُرَّةً فِي حَقِّ التَّقْوِيمِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَكَذَا سَبَبُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ مَوْجُودٌ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ وَيَجْعَلهُمَا نَفْسًا وَاحِدَةً ، فَقَضِيَّتُهُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ وَهُوَ التَّدْبِيرُ أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِضَرُورَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَيَّدُ

بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ لَا فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ ، وَهَهُنَا الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ لِلْحَالِ ، وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ لَثَبَتَ لِلْغَرِيمِ حَقٌّ فِيهَا وَلِلْوَارِثِ فِي ثُلُثِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ كَالْمُدَبَّرِ ، وَالسِّعَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ يَكُونُ بِقِيمَتِهِ ، وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا قَائِمٌ بَعْد الِاسْتِيلَادِ ، وَالْعِصْمَةُ قَائِمَةٌ .
فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ لَا يَقْتَضِي التَّقَوُّمَ كَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ ، وَأَمَّا أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ ، فَإِذَا دَانُوا تَقْوِيمَهَا يُتْرَكُونَ وَذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ خُمُورُهُمْ مُتَقَوِّمَةً كَذَا هَذَا ، وَالثَّانِي : أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تُجْعَلُ مُكَاتَبَةً لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعِتْقِهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذِّمِّيِّ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ يَسْتَمْتِعُ بِهَا وَيَسْتَخْدِمُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِذْلَالِ بِالْمُسْلِمَةِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى دَفْعِ الْمَذَلَّةِ عَنْهَا بِالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِخُرُوجِهَا بِالِاسْتِيلَادِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ ، فَتُجْعَلَ مُكَاتَبَةً وَضَمَانُ الْكِتَابَةِ ضَمَانُ شَرْطٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى كَوْنِ مَا يُقَابِلُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ثُمَّ إذَا سَعَتْ تَسْعَى وَهِيَ رَقِيقَةٌ عِنْدَ

أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْعَى وَهِيَ حُرَّةٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الِاسْتِسْعَاءَ اسْتِذْلَالٌ بِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْحُكْمِ بِعِتْقِهَا إبْطَالُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ ، وَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ، وَمِلْكُهُ مَعْصُومٌ ، وَالِاسْتِذْلَالُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا فِي نَفْسِ الْمِلْكِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَكَاتَبَهَا الْمَوْلَى لَا تُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ ؟ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْكِتَابَةِ ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتْ بِالْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَالنَّفْسِ ، وَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَذَلِكَ ضَمَانُ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا حَتَّى هَلَكَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ ، فَقَدْ تَسَبَّبَ لِقَتْلِهَا ، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهَا كَمَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْعِتْقِ إلَيْهَا ، وَلَا تُشْكِلُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ ، وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عِوَضًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمُعَوَّضِ مَالًا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَقَدْ مَاتَ مَوْلَاهَا .
وَأَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : الِاسْتِيلَادُ ، وَالْكِتَابَةُ فَإِذَا ثَبَتَ الْعِتْقُ بِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حُكْمُ الْآخَرِ ، وَكَذَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا عَلَى مَالٍ وَبَيْعُهَا نَفْسَهَا حَتَّى إذَا قَبِلَتْ عَتَقَتْ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَمِنْهَا عِتْقُهَا ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ مُعَلَّقًا شَرْعًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ } .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ وَلَدَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَتَعَطَّلَ الْحَدِيثُ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَطَلَ السَّبَبُ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ .
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُدَبَّرِ ، وَكَذَا يَعْتِقُ وَلَدُهَا الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا إذْ سَرَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ .
وَمِنْهَا أَنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ } وَهَذَا نَصٌّ ، وَرَوَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ { : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ ، وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ } وَفِي بَعْضِ

الرِّوَايَاتِ : { وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ فِي دَيْنٍ } ، وَفِي بَعْضِهَا { أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ } وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ لَا تُجَامِعُهُ السِّعَايَةُ ، كَذَا حُرِّيَّةُ الِاسْتِيلَادِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا .

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ .
فَظُهُورُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى ، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ أَيْضًا وَتَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَعَهَا دَلِيلُ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ ، وَلِأَنَّ التَّسَبُّبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَصْلِيَّةٌ نَافِذٌ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ وَهُوَ الْوَلَدُ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّسَبُّبِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ : هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَقَوْلِهِ هَذِهِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ .

( كِتَابُ الْمُكَاتَبِ ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ إيجَابِ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ .
فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ مَنْدُوبًا إلَيْهَا فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أَيْ رَغْبَةً فِي إقَامَةِ الْفَرَائِضِ ، وَقِيلَ : وَفَاءً لِأَمَانَةِ الْكِتَابَةِ ، وَقِيلَ : حِرْفَةً .
وَرُوِيَ هَذَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا أَيْ حِرْفَةً } وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كِلَابًا عَلَى النَّاسِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَرُوِيَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا } وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ

وَاجِبَةٌ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتْرُكُونَ مَمَالِيكَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ إنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ .
فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ لَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْقِنِّ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَكَسْبَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى مِلْكُهُمَا لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ ؛ فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ، فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْمُكَاتَبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمَوْلَى وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُكَاتَبِ أَمَّا الْإِيجَابُ : فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ ، نَحْوَ قَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ : كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا .
سَوَاءٌ ذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ : عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَقَّقُ الرُّكْنُ بِدُونِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ .
بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ ، وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا ثَابِتٌ عِنْدَنَا ، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ الْأَدَاءُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ ، وَعِنْدَهُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا أَصْلٌ أَيْضًا ، وَالْعِتْقُ ثَبَتَ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ فَلَا بُدَّ مِنْ حَرْفِ التَّعْلِيقِ ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَمَا عَتَقَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْأَدَاءُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا فَقَبِلَ أَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْت لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَقَبِلَ أَوْ قَالَ : جَعَلْت عَلَيْك أَلْفَ دِرْهَمٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا كُلَّ نَجْمٍ كَذَا ، فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ ، وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ وَقَبِلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : قَبِلْت أَوْ رَضِيت ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى الرُّكْنِ فِيمَنْ يَثْبُت حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا ؛ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَالْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ؛

لِأَنَّ الِاتِّبَاع كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالشُّرُوطِ لَا يُفْرَدُ بِالْأَرْكَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْحَقِيقَةِ ، وَهُوَ جَعْلُ التَّبَعِ مَتْبُوعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ثُمَّ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ أَمَّا .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَمِنْهَا الْعَقْلُ ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ .
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَهِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَا تَنْفُذُ الْكِتَابَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى أَوْ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِهَا ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ، وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ الْإِذْنَ بِهِ لِلصَّبِيِّ إذَا كَانَ عَاقِلًا .
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ ، وَهَذَا شَرْطُ نَفَاذٍ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، فَلَا تَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ ، وَتَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ ، وَكَذَا مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَنْفُذَ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَصَرُّفٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَا بِبَدَلٍ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ بَابِ

اكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ اكْتِسَابِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ، فَإِنْ أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَة ، فَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةً ظَاهِرَةً بِمَحْضَرِ الشُّهُودِ يُصَدَّقْ وَيَعْتِقْ الْمَكَاتِبُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي قَبْضِ الْكِتَابَةِ ، فَكَانَ مُصَدَّقًا ؛ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالْعِتْقِ ، وَإِقْرَارُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ بِعِتْقِ عَبْدِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ، فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَوْ كَاتَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِالْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ وَلَا لِلْأَبِ أَنْ يَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِوِلَايَتِهِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ يَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْعَاقِدِ ، وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ أَدْرَكَ الْيَتِيمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ وَكُلَّ عَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا ، فَإِنْ كَانُوا كِبَارًا لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَا لِلْأَبِ ؛ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمَا بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ كَانُوا حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْوِلَايَةِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْكَبِيرَ إذَا كَانَ غَائِبًا أَنَّ

لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ حِفْظٌ فَلَا يَمْلِكَانِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ قَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ .
وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَجَائِزٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ لَمْ يَكُنْ فِي جَوَازِهِ فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْعَقْدَ وَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ كِتَابَةِ نَصِيبِهِ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَفْسَخَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ كَذَا هَذَا ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ عَبْدَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَمْ يَجُزْ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهَا ، مِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَالَ : لَا تَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، وَالْمُكَاتَبَةُ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَارَتْ حُقُوقُهُمْ مُنَجَّمَةً مُؤَجَّلَةً ، وَحُقُوقُهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَمْلِكُ تَأْجِيلَهَا بِالْكِتَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ مُطْلَقًا وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَأَجَّلُ تَسْلِيمُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغَرِيمُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ اسْتِيفَاءَهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّ

عَدَمَ الْجَوَازِ لِحَقِّ الْغَرِيمِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُ فَزَالَ الْمَانِعُ بَيْنَ الْجَوَازِ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُ الْعَبْدِ أَوْ غَيْرُ الْقَدْرِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَالٌ آخَرُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِيفَاءِ دِينِهِمْ ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ قَلِيلُ الدَّيْنِ بِجُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَال الْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا وَلِوَصِيِّ الْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْهُ ، فَتَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْمُكَاتَبَةَ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَهُوَ بِالْمُكَاتَبَةِ أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّهِمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ لَكِنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَنْقُضُوا إلَّا إذَا كَانَ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ مِنْ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُضُوا ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا ، وَمَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ

لِلْغُرَمَاءِ النَّقْضُ لِقِيَامِ حَقِّهِمْ فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُمْ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُمْ فَبَقِيَتْ جَائِزَةً ، وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا قَضَى مِنْ الدَّيْنِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَصْلَحَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَكَذَا لَوْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ ، وَأَدَّاهُ الْغُلَامُ عَاجِلًا مَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَخَذَ الْبَدَلَ ثُمَّ عَلِمَ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَوْلَى ، وَالْعِتْقُ وَاقِعٌ إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِسَلَامَةِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ فِي قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ مَنَعَهُمْ عَنْ بَيْعِهِ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ الرَّقَبَةُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ كَاتَبَهُ كَانَتْ رَقَبَتُهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ إيَّاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَحَقُّ مِنْهُ بِكَسْبِهِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِمَا أَخَذَ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا أَوْ مُؤَاجَرًا فَكَاتَبَهُ ، وَقَفَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنْ أَجَازَا جَازَ ، وَإِنْ فَسَخَا هَلْ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِمَا ؟ فَهُوَ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ

الْمَمْلُوكُ قِنًّا أَوْ غَيْرَهُ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ، جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ ، إذْ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُزِيلَانِ الْمِلْكَ وَهُمَا مِنْ بَابِ اسْتِعْجَالِ الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أَدَّيَا وَعَتَقَا فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ عَتَقَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ هَذَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَا لَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَلَا تَسْعَى .
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ ، إذَا كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ ، وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ .

وَمِنْهَا الرِّضَا وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْمُكَاتَبَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيُفْسِدُهَا الْكُرْهُ وَالْهَزْلُ وَالْخَطَأُ ؛ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ .

وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ ، فَتَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُكَاتَبِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إسْلَامُهُ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَاتِبُوا عَبِيدَهُمْ ، فَكَذَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ ، وَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَالذِّمِّيُّ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا فَكَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِنَا فِي شِرَاءِ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الِاسْتِذْلَالِ بِاسْتِخْدَامِ الْكَافِرِ إيَّاهُ ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ لِزَوَالِ وِلَايَةِ الِاسْتِخْدَامِ بِزَوَالِ يَدِهِ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ .

وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ نَافِذَةٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ السِّيَرِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَطَرٌ الْعَدَمِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ ، وَهُوَ شَرْطٌ الِانْعِقَادِ ، حَتَّى لَوْ كَاتَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ وَالْمُكَاتَبَةُ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ لَا تَنْعَقِدُ مُكَاتَبَتُهُ لِأَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ شَطْرَيْ الرُّكْنِ ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْكَسْبُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ .

فَإِنْ كَاتَبَهُ فَأَدَّى الْبَدَلَ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَبِلَهُ الْمَوْلَى لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقَبُولِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَكَانَ أَدَاءُ الْأَجْنَبِيِّ أَدَاءٌ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ وَلَمْ يُسَلَّمْ الْعِتْقَ ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ الرَّجُلُ الْكِتَابَةَ وَرَضِيَ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَبِلَ الْكِتَابَةَ مِنْ غَيْرِهِ ، مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ وَقْتَ التَّصَرُّفِ ، وَهَهُنَا لَا مُجِيزَ لَهُ وَقْتَ وُجُودِهِ إذْ الصَّغِيرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ وَرَضِيَ الْمَوْلَى ، أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ وَقْتَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ عَنْهُ ، فَكَانَ لَهُ مُجِيزًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَتَوَقَّفَ .

فَلَوْ أَدَّى الْقَابِلُ عَنْ الصَّغِيرِ إلَى الْمَوْلَى ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إذَا أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ .
وَقَالَ : وَهَذَا وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الصَّغِيرِ لَمْ تَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْأَدَاءُ بِغَيْرِ مُكَاتَبَةٍ ، فَلَا يَعْتِقُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَالْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَبْدِ الْعِوَضَ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ ، فَيَصِحُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ وَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا ، وَلَيْسَ لِلْقَابِلِ اسْتِرْدَادُ الْمُؤَدَّى ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِمَا قُلْنَا ، هَذَا إذَا أَدَّى الْكُلَّ فَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى لِيُسَلَّمَ الْعِتْقَ ، وَالْعِتْقُ لَا يُسَلَّمُ بِأَدَاءِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَابِلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ اسْتَنَدَ جَوَابُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ وَالْأَدَاءُ حَصَلَ عَنْ عَقْدٍ جَائِزٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَيْضًا ، وَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ فِي الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ بَلْ تَنْتَهِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ قَائِمًا فِي الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ ، بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ

الْوُجُوهِ أَنَّ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ عَنْ الزَّوْجِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهَا النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كُلَّ الْمَهْرِ ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلزَّوْجِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُتَبَرِّعِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى الْقَابِلُ فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَابِلُ عَنْ الْأَدَاءِ لَا يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا ضَمِنَ ، فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ .
فَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَيَكُونُ كَالْكَبِيرِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَإِذْنُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالتِّجَارَةِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا ، وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ ، لَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِهِمَا لَا يَمْلِكُ وَإِنْ قَبَضَ ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِمَا الْمُكَاتَبَةُ حَتَّى لَا يَعْتِقَ ، وَإِنْ أَدَّى لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ : عَلَيَّ أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالشَّرْطِ ، وَإِذَا عَتَقَ بِالشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ إنَّمَا هُوَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا ، وَأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ ، وَلَا مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّهِمْ ، فَانْعَقَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْفَسَادِ ، فَإِنْ أَدَّى يَعْتِقْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ .
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا ، فَإِنْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا لَهُ كَافِرًا عَلَى خَمْرٍ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِكَوْنِ الْخَمْرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ أَوْ التَّسَلُّمُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ مِنْ ذِمِّيٍّ شَيْئًا بِخَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِ الْخَمْرِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ ، وَهَهُنَا لَا تَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ إيصَالًا لَهُمْ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى أَوْ تَسَلُّمِهِ بَلْ يُصَارُ إلَى بَدَلِهِ .
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَقْدُ مُمَاكَسَةٍ وَمُضَايَقَةٍ لَا تَجْرِي فِيهِ مِنْ السُّهُولَةِ مَا يَجْرِي فِي الْمُكَاتَبَةِ فَيَنْفَسِخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْمُسَمَّى وَيَرْتَفِعُ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِ الْوُجُوبِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ أَوْ لَا ، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ مَجْهُولَ النَّوْعِ لَمْ يَنْعَقِدْ .
وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى فَحَشَتْ مَنَعَتْ جَوَازَ الْمُكَاتَبَةِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ ، وَجَهَالَةُ الصِّفَةِ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الْوُصَفَاءِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ .
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ إجْمَاعٌ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ : إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ لَمْ تَنْعَقِدْ حَتَّى لَا يَعْتِقَ ، وَإِنْ أَدَّى ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالدَّارَ وَالْحَيَوَانَ مَجْهُولُ النَّوْعِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ كُلِّ جِنْسٍ وَأَشْخَاصِهِ اخْتِلَافًا مُتَفَاحِشًا ، وَكَذَا الدُّورُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي الْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ وَفِي الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ ، وَلِهَذَا مَنَعَتْ هَذِهِ الْجَهَالَةُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ وَالنِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ فِي أَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ فَأَدَّى طَعَامًا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعْتِقُ ، وَإِنْ أَدَّى أَعْلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةٍ فَأَدَّى الْقِيمَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ لَا يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ فَكَانَتْ

جَهَالَةُ الْقِيمَةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُبْطِلَةً لَهُ ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ فَرَسٍ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هَهُنَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ ، أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ ، فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَالنِّكَاحِ ، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصَيْفٍ يَجُوزُ ، وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ ، وَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِقِيمَةِ الْوَسَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَلَمْ يَصِفْ يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَوْصُوفًا ، وَيَثْبُتُ فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى فَتَجُوزُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَيْهِ ، وَيَجِبُ الْوَسَطُ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى حُكْمِ نَفْسَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هَهُنَا أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ مُسَمًّى ، وَلَا تَسْمِيَةَ لِلْبَدَلِ هَهُنَا رَأْسًا فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ أَكْثَرَ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ حَكَمَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ يَلْزَمُهُ ؟ أَوْ حَكَمَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِفَلْسٍ هَلْ كَانَ يَعْتِقُ ؟ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا فَلَا

يَعْتِقُ بِالْحُكْمِ ، وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْحَصَادِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ الْأَجَلِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَتَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي أَمْرٍ زَائِدٍ ، ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْمُكَاتَبَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، أَنَّهُ يَفْسُدُ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِذَاتِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَالْمُنَازَعَةُ قَلَّمَا تَجْرِي فِي هَذَا الْقَدْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ .
فَإِنْ كَاتَبَهُ إلَى الْعَطَاءِ فَأَخَّرَ الْعَطَاءَ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ الْعَطَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَقْتَ الْعَطَاءِ لَا عَيْنَ الْعَطَاءِ ، وَكَذَا فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الْبَدَلُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ ، وَإِنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً ، وَلِهَذَا مُنِعَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ حَتَّى عُدِّلَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَتُمْنَعُ صِحَّةُ الْمُكَاتَبَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَجُوزُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَلَا جَوَازَ لِلْمُكَاتَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْقِيمَةِ هُنَاكَ

فَلَأَنْ لَا تَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهَا نَصًّا عَلَى الْفَسَادِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَبْدِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ ، أَيْ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ قِيمَةَ الْوَسَطِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا .
فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْقِيمَةِ فَلَيْسَتْ بِمُكَاتَبَةٍ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ .
غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْقِيمَةَ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَهُ حُكْمٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ ، حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ ، وَتَجِبَ الْعِدَّةُ وَالْعُقْرُ وَيَثْبُتَ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ الْفَاسِدَةُ ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَالْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ أَدَّى ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَلَيْسَ لِلدَّرَاهِمِ وَسَطٌ مَعْلُومٌ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَعْتَقْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ وَقَعَ بِالْقَبُولِ ، وَالْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْخِدْمَةَ مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ ، وَجَهَالَةُ الْبَدَلِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْخِدْمَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ فَتَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ ، وَبِحَالِ الْمَوْلَى أَنَّهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ

يَسْتَخْدِمُهُ وَبِحَالِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهَا نَصًّا ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُكَاتَبَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَقْبَلُ لِلْجَهَالَةِ مِنْ الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ رَجُلًا شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ ، إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَقِيَاسِ الْجِمَاعِ نَاسِيًا عَلَى قِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ فِي الْعُقُودِ ، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْمُدَّةِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ أَوْ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا قَدْ سَمَّى لَهُ طُولَهَا وَعُمْقَهَا وَمَكَانَهَا ، أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ لَهُ دَارًا آجُرَّهَا وَجِصَّهَا وَمَا يَبْنِي بِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ ؟ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ .

وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ الْبَدَلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَاتَبَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ ، كَمَا إذَا بَاعَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ بِعَبْدٍ هُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا .
وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مِنْ الْكَسْبِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مُكَاتَبَةً عَلَى مَالِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجُزْ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْبَدَلِ دَيْنًا فَهَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى وَلَا كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّهُ مِلْكُ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ .
ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَرْضٍ لِرَجُلٍ جَاوَزَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَعِنْد الْإِجَازَةِ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَتَيْنِ الْمُبْهَمَتَيْنِ ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ وَرِوَايَةُ كِتَابِ الشُّرْبِ عَلَى حَالِ الْإِجَازَةِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ لَا يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا

يَجُوزُ ، وَبِهِ عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَشَرْحُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ وُضِعَ لِإِكْسَابِ الْمَالِ ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إكْسَابِ هَذَا الْعَيْنِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْعَبْدِ قَدْ يَبِيعُهُ وَقَدْ لَا يَبِيعُهُ ، فَلَا يَحْصُلُ مَا وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ ، وَلِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ لَفَسَدَتْ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَلَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَ مُوجِبُهَا وُجُوبَ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ فَيَفْسُدُ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ ، وَمَا كَانَ فِي تَصْحِيحِهِ إفْسَادُهُ فَيَقْضِي بِفَسَادِهِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ يُقَالُ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ قِيمَةِ نَفْسِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ، ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ جَازَ ، وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْمَبِيعِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَيَّنَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ كَالْعَبْدِ ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفِ فُلَانٍ هَذِهِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى مِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ لَا عَلَى عَيْنِهَا فَيَجُوزُ وَإِنْ أَدَّى غَيْرَهَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَفْصِلُ

بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا ، وَهُوَ عَلَى قَلْبِ الِاخْتِلَافِ فِي السَّلَمِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَغَيْرَ مُؤَجَّلٍ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوز ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا بِنَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا مَالَ لَهُ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ .
فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْعِقَادِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ، وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَالْكِتَابُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْأَجَلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ } أَيْ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَسُمِّيَ هَذَا عَقْدُ كِتَابَةٍ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ مُؤَجَّلًا وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ سُمِّيَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُكْتَبُ فِي الدِّيوَانِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابَةِ لِلْمُؤَجَّلِ لَا لِلْحَالِ ، فَكَانَ الْأَجَلُ فِيهِ شَرْطًا كَالْمُسَلَّمِ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ التَّسْلِيمِ ، كَانَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ شَرْطًا ؛ لِجَوَازِ السَّلَمِ ، وَكَذَا الصَّرْفُ لَمَّا كَانَ يُنْبِئُ عَنْ نَقْلِ الْبَدَلِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْطًا كَذَا هَذَا ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُؤَجَّلِ ، وَلِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ

الْقَبْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَيَحْتَمِلُ حُدُوثَ الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ ، بِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَالًا بِقَبُولِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَيُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ .
وَأَمَّا مَأْخَذُ الِاسْمِ فَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ يُقَالُ : كَتَبَ أَيْ أَوْجَبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَكَتَبَ أَيْ ثَبَّتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ } وَكَتَبَ أَيْ حَكَمَ وَقَضَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنْبِئُ عَنْ التَّأْجِيلِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حَالَّةً فَإِنْ أَدَّى الْبَدَلَ حِينَ طَالَبَهُ الْمَوْلَى بِهَا وَإِلَّا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ بِأَنْ قَالَ لَهُ : إنْ لَمْ تُؤَدِّهَا إلَيَّ حَالَّةً فَأَنْتَ رَقِيقٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ الْحُلُولِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُنَجَّمَةً بِنُجُومٍ مَعْلُومَةٍ فَعَجَزَ عَنْ أَوَّلِ نَجْمٍ مِنْهَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرُدُّ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ .
احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُكَاتَبُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ فَقَدْ شَرَطَ حُلُولَ نَجْمَيْنِ لِلرَّدِّ فِي الرِّقِّ ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حُلُولِ نَجْمَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُقْرِضَهُ إنْسَانٌ ، أَوْ يَحْصُلَ لَهُ مَالٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُؤَدِّيَ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مَالُ نَجْمَيْنِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَعَجَزَ عَنْ نَجْمٍ وَاحِدٍ

فَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ نَجْمٍ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ مُفِيدٌ مِنْ شَرَائِطِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ .
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَغَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالسُّكُوتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ نَجْمًا وَاحِدًا مَاذَا حُكْمُهُ ؟ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ ، وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا يُنْدَبُ مَوْلَاهُ إلَى أَنْ لَا يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ مَا لَمْ يَتَوَالَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ رِفْقًا بِهِ ، وَنَظَرًا ؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَنْ نَجْمٍ عَلَى أَصْلِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ مَرْجُوٌّ حُضُورُهُ بِأَنْ قَالَ : لِي مَالٌ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ حَالٌّ يَجِيءُ فِي الْقَافِلَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْتَظِرُ فِيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَوْلَى وَفِيهِ رَجَاءُ وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَفْعَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ الْوُصُولِ .

وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ ، بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى : كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ أَوْ عَلَى الدَّنَانِيرِ ، وَقَالَ الْعَبْدُ : كَاتَبْتنِي عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى الدَّرَاهِمِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدَّى عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا أَوْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمُكَاتَبَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ جِنْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَخُلُوُّهُ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ الدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الْبَدَلِ فَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ جَازَ الشَّرْطُ وَالْعَقْدُ ، وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِهِ يَبْطُلْ الشَّرْطُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ فِي جَانِبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطِهِ ، وَالْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ ، وَجَانِبُ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى عَقَدَ عَقْدًا يَئُولُ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَكَانَ كَالْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ مِمَّا يُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَيُجْعَلُ مِنْ الشُّرُوطِ الدَّاخِلَةِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ فَيَعْمَلُ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ ، وَفِيمَا لَا يَدْخُلُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الشُّرُوطِ يُجْعَلُ كَالْإِعْتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ عَمَلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا كَاتَبَ جَارِيَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُكَاتَبَةً أَوْ عَلَى أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْوَطْءِ ، وَأَنَّهُ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِدُخُولِهِ فِي الْبَدَلِ ، حَيْثُ جَعَلَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَوَطِئَهَا فَفَسَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ .
وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُسَافِرَ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي انْفِكَاكَ الْحَجْرِ وَانْفِتَاحَ طَرِيقِ الْإِطْلَاقِ لَهُ إلَى أَيِّ بَلَدٍ

وَمَكَانٍ شَاءَ فَيَفْسُدُ الشَّرْطُ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَرْجِعُ إلَى صُلْبِ الْعَقْدِ ، وَمِثْلُهُ مِنْ الشُّرُوطِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْفِقْهِ ، فَلَوْ أَنَّهَا أَدَّتْ الْأَلْفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَتَقَتْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ : لَا تَعْتِقُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْمَوْلَى جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ وَوَطْأَهَا ، وَالْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا ، كَمَا إذَا كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَأَدَّتْ الْأَلْفَ دُونَ الْخَمْرِ وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِهِ فَأُلْحِقَ ذِكْرُهُ بِالْعَدَمِ ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِالْعَدَمِ وَتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِأَدَائِهَا ، ثُمَّ إذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا ، وَلَا لَهَا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ فَيَرُدُّ الْقِيمَةَ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ ، كَذَا هَهُنَا وَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ نَفْسِهَا وَقَدْ عَجَزَتْ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهَا فَتُرَدُّ الْقِيمَةُ وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَصَلَ بِتَمَامِهِ إلَى الْمَوْلَى ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ سَبِيلٌ كَمَا لَوْ بَاعَ رَجُلٌ مِنْ آخَرَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ ، وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لِوُصُولِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَيْهِ فَكَذَا هَهُنَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهَا

بِمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِكَمَالِ قِيمَتِهَا ، وَمَا أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَالَ قِيمَتِهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ بِأَلْفٍ وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ وَقَبَضَ الْأَلْفَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا زَادَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبَةِ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ وَأَدَّتْ الْأَلْفَ وَعَتَقَتْ هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَتِهَا ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : لَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ ، وَقَالَ زُفَرُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى أَخَذَ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ رَدُّهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ يَرْجِعْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِفَضْلِ الثَّمَنِ كَذَا هَهُنَا ، وَلَنَا أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَلَيْهِ لَأَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَلَوْ لَمْ يَسْلَمْ الْمُؤَدَّى لِلْمَوْلَى لَا يَسْلَمُ الْعِتْقُ لِلْمُكَاتَبَةِ ، وَالْعِتْقُ سَالِمٌ لَهَا فَيَسْلَمُ الْمُؤَدَّى لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى التَّعْلِيقِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْمُعَاوَضَةِ يُوجِبُ لَهَا حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ لَا يُوجِبُ لَهَا حَقَّ الرُّجُوعِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إنْ أَدَّيْتِ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَأَدَّتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ عَتَقَتْ وَلَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ .

وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهَا وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَلْفٍ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبَةِ ، أَوْ كَاتَبَ أَمَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُوجِبِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدُهُ يَكُونُ مُكَاتَبًا تَبَعًا لَهَا فَكَانَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَإِنْ أَدَّتْ الْأَلْفَ عَتَقَتْ لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ إذَا عَتَقَتْ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى الْمُؤَدَّى عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

وَكَذَا لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْخِدْمَةِ فَأَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى قِيمَته وَإِلَى الْأَلْف عَلَى مَا وَصَفْنَا .

وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ مُنَجَّمَةٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ مِنْهَا فَمُكَاتَبَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةُ لِتَمَكُّنِ الْعُذْرِ فِي الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَعْجِزُ أَوْ لَا يَعْجِزُ ، وَيُمْكِنُ الْجَهَالَةُ فِيهِ جَهَالَةً فَاحِشَةً فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .

وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ يُؤَدِّيهَا إلَى غَرِيمٍ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ يَضْمَنُهَا لِرَجُلٍ عَنْ سَيِّدِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ وَالضَّمَانُ جَائِزَانِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَى فُلَانٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهَا الْمُشْتَرِي عَنْ الْبَائِعِ لِفُلَانٍ ، إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ لَا يُسَافِرَ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ شَرْطَ الضَّمَانِ بَاطِلٌ وَهَهُنَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُكَاتَبِ عَنْ سَيِّدِهِ وَكَفَالَتَهُ عَنْهُ بِمَا عَلَيْهِ مُقَيَّدًا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الضَّمَانِ ، وَضَمَانُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا وَلَمْ يُوجَدْ .

فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُنَجَّمَةً عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ مَعَ كُلِّ نَجْمٍ ثَوْبًا ، وَسَمَّى نَوْعَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ حَيْثُ سَمَّى نَوْعَ الثَّوْبِ ، فَصَارَ الْأَلْفُ مَعَ الثَّوْبِ بَدَلًا كَامِلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ فِي الْعَقْدِ جَازَ ؟ وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ جَازَ بِأَنْ يَقُولَ : بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مَعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ وَتَصِيرَ الْأَلْفُ وَالْمِائَةُ دِينَارٍ ثَمَنًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مَعَ كُلّ نَجْمٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ مَعَ مُكَاتَبَتِك أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ بَدَلًا فِي الْعَقْدِ .

وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَدَّى وَعَتَقَ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى جَازَ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ ، إذَا أَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَجَازَ وَلَوْ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا بَعْدَ الْعِتْقِ لَجَازَ ، كَذَا إذَا جَعَلَ الْبَعْضَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْبَعْضَ بَعْدَهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .

وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ يَعْنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ رِبًا ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ ، إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مَعَ مَالِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَمَالُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ يُقَابِلُ الْأَلْفَ فَيَبْقَى الْعَبْدُ زِيَادَةً فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونَ رِبًا وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ .
هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ مَالُ الْعَبْدِ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْعَقْدَ بِتِجَارَتِهِ أَوْ بِقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى فِي يَدِ الْعَبْدِ وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ ، وَإِنْ حَصَلَا بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُنْ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ رِبًا ؛ لِأَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَجَرَيَانُ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَاكَ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى : كَانَ هَذَا قَبْلَ عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ : كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .

وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ : كَاتِبْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهَا مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَكَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِالْخِيَارِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْكِتَابَةِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَمَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّأَمُّلِ ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ كَالْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَكُمْ فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى ، وَيَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي مَوْضِعِ الْقِيَاسِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ جَازَ كَالْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَتَمَكَّنْ الْفَسَادُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ قَلَّتْ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْعِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ كَانَ وَبِالنَّقْدِ وَبِالنَّسِيئَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَبِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِالنَّقْدِ لَا بِالنَّسِيئَةِ ؛ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مِنْ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ كَالْحُرِّ فَكَانَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَوْلَاهُ وَشِرَاؤُهُ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى مِنْ مَوْلَاهُ مُرَابَحَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ ، وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى فِيمَا اشْتَرَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ مَا أَمْكَنَ ، وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ مَالَ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ فَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشُّبْهَةُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ وَسِيلَةٌ إلَى الِاكْتِسَابِ ، وَالْمُكَاتَبُ مَأْذُونٌ فِي الِاكْتِسَابِ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ قَدْ صَحَّ فَصَحَّتْ اسْتِدَانَتُهُ فَيُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي عَبْدِ الْحُرِّ ، وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ شَيْئًا بَعْدَ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَوْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ شَيْءٍ قَدْ اشْتَرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا

بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُطَّ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ عَيْبٍ وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا اشْتَرَى بِالْعَيْبِ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ سَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ أَمْلَاكَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ .

وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَلَا إعْتَاقُهُ ، سَوَاءٌ عَجَزَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَتَقَ وَتَرَكَ وَفَاءً ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ : عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ مَوْقُوفَانِ فَإِنْ عَتَقَ يَوْمًا مَضَى ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَجَعَ مَمْلُوكًا بَطَلَ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ حَالَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ فَكَذَا حَالُ عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ ، وَهَهُنَا لَا مُجِيزَ لِعِتْقِهِ حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ، فَإِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ ثُمَّ عَتَقَ رُدَّتْ إلَيْهِ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ كَانَتْ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَا مُجِيزَ لَهُ حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ ، أَمَّا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا بِبَدَلٍ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِبَدَلٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ ، وَيَبْقَى الْبَدَلُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ، وَلَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ كَمَا لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ وَلَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ .

وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَلَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ نَوْعُ اكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَ الْمَالِ ، وَلِهَذَا مَلَكَ الْبَيْعَ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْتَسِبَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لَا يَكُونُ لَهُ بَلْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ ؟ وَإِنَّمَا الْمُكَاتَبُ لَهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ ذَلِكَ إعْتَاقًا بِغَيْرِ بَدَلٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَفِي الْمُكَاتَبَةِ الْمَكْسَبُ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَكُنْ إعْتَاقًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَافْتَرَقَا .

وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ، الْإِعْتَاقَ وَلَوْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَسْبُ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِهِ صَرِيحًا لَا يَعْتِقُ فَبِالشِّرَاءِ أَوْلَى فَإِنْ أَدَّى الْأَعْلَى أَوَّلًا عَتَقَ وَثَبَتَ وَلَاؤُهُ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ مِنْهُ ، فَإِذَا أَدَّى الْأَسْفَلُ بَعْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ وَلَاؤُهُ مِنْ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى الْأَسْفَلُ أَوَّلًا يَعْتِقْ وَيَثْبُتْ وَلَاؤُهُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ ، فَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الْوَلَاءُ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِحَالٍ وَإِنْ أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ وَلَاؤُهُمَا مَعًا مِنْ الْمَوْلَى .

وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ إلَّا أُمَّ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عِتْقُهُمْ عِتْقَهُ ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتَبُوا ثَانِيًا ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ .

وَلَا يَمْلِكُ التَّصَدُّقَ إلَّا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا دِرْهَمًا وَلَا أَنْ يَكْسُوهُ ثَوْبًا ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ إلَّا بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ الْمَأْكُولِ وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلُ التُّجَّارِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُكَاتَبًا فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَكَذَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَجْذِبُ قُلُوبَ النَّاسِ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ فَيُمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ .

وَيَمْلِكُ الْإِجَارَةَ وَالْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ وَضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ .

وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا يَجُوزُ أَيْ لَا يَطِيبُ لِلْمُسْتَقْرِضِ أَكْلُهُ ، لَا أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُسْتَقْرِضُ ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَيَكُونُ الْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي حَقِّ الْإِعْتَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهُ لَكِنَّهُ يَكُون مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ كَذَا قَرْضُ الْمُكَاتَبِ .

وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ .

وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَالِ وَلَا بِالنَّفْسِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلِأَنَّهَا الْتِزَامُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ الْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِهِ فَهِيَ ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَادَلَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَهِيَ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْمَوْلَى فِيهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالتَّبَرُّعِ .

وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب ضَمَانًا عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ وَهُوَ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا : مِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمُوَكَّلِ ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ مِنْهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ : إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُ لَكِنْ الْوَكَالَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُطَالَبُ بِهِ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا كُفِلَ ثُمَّ عَتَقَ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا كُفِلَ ثُمَّ بَلَغَ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ .

وَتَجُوزُ كَفَالَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بِهَا ، وَالْأَدَاءُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ .

وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ ، إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِإِنْسَانٍ وَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَيْنٌ لِآخَرَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى هَذَا أَوْ إلَى غَيْره ، وَإِنْ كَانَ لِإِنْسَانٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَقَبِلَ الْحَوَالَةَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ حُرًّا شَرِكَةَ عِنَانٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْكَفَالَةِ بَلْ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَالْمُكَاتَبُ مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ .

وَلَوْ كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ .
وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَلَمْ يَجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : إنْ أَدَّيَا عَتَقَا ، وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَلَمْ يَكْفُلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَيْضًا إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ ، أَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هَذِهِ الْكِتَابَةُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجُوزُ إذَا قَبِلَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذِهِ كِتَابَةٌ بِشَرْطِ الْكَفَالَةِ ، وَكَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْلَى لَا تَصِحُّ وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَاطِلَةٌ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَفَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ ، وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِمَا بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كَانَ جَائِزًا كَذَلِكَ هَذَا .
وَأَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ عَلَى حِدَةٍ فَأَيُّهُمَا أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ كِتَابَةُ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ كِتَابَةُ غَيْرِهِ ، مَا لَمْ يَشْتَرِطَا وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُمَا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ إنْ دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتُمَا حُرَّانِ ، فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ

يَدْخُلَا جَمِيعًا ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ ، وَإِذَا لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ صَارَ جَمِيعُ الْأَلْفِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا قَالُوا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : إنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ : إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ : إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ أَيُّهُمَا شَاءَ يَعْتِقُ ، وَانْصَرَفَ مَشِيئَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عِتْقِ نَفْسِهِ ، وَطَلَاقِ نَفْسِهَا ، وَفِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَتُهُمَا جَمِيعًا فِي طَلَاقَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ فِي عِتْقَيْهِمَا جَمِيعًا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَلِكَ هَهُنَا .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِث ، وَهُوَ مَا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ فَأَيُّهُمَا أَدَّى حِصَّتَهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ عِتْقَهُمَا بِأَدَائِهِمَا جَمِيعًا فَانْصَرَفَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ خَاصَّةً ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إذَا كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ النِّصْفَ فَإِذَا جَاوَزَ النِّصْفَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالزِّيَادَةِ ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَوْ جَعَلْنَا أَدَاءً عَنْ نَفْسِهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ ، وَمِنْ شَرْطِ الْمَوْلَى عِتْقُهُمَا جَمِيعًا .
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَكَانَ أَدَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغَيُّرِ شَرْطِ الْمَوْلَى ،

وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ أَدَاءَهُ عَنْ نَفَسِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَغَيُّرِ شَرْطِ الْمَوْلَى فَكَانَ أَدَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْكِتَابَةِ وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَيِّ جَمِيعُ الْكِتَابَةِ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا سَقَطَتْ حِصَّتُهُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ يُؤَدَّى كِتَابَتُهُ ؟ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَلَدًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ ؟ فَأَمَّا الْمُعْتَقُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَطَلَتْ عَنْهُ الْكِتَابَةُ ، وَكَذَلِكَ هَهُنَا تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِحِصَّتِهِ الْمُكَاتَبَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُعْتَقَ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُكَاتَبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنَ نَفْسِهِ وَإِنْ أَخَذَ الْمُعْتَقَ وَأَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلُهُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57