كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

أُضْحِيَّتُهُ .
وَلَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي مِصْرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إمَامٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا ، وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ نَحْرِهِمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ أَدَاؤُهَا الْعَارِضُ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْأَصْلِ ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا فَلَمْ يُصَلِّ لِعَارِضِ أَسْبَابٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُنَاكَ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَذَا هَهُنَا .
وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ حَصَلَ فِي وَقْتِهِ فَيُجْزِيهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الرُّسْتَاقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ وَقَدْ كَانَ أَمَرَ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُجْزِيهِ ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوْ كَانَ هُوَ فِي الرُّسْتَاقِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ وَقَدْ أَمَرَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِيهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا مَكَانُ الشَّاةِ لَا مَكَانُ مَنْ عَلَيْهِ ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي النَّوَادِرِ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الذَّبْحُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَذْبُوحُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛

لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ فِعْلِهَا لَا مَكَانُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مِصْرٍ وَأَهْلُهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مَكَانَ الذَّبِيحَةِ فَقَالَ : يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يُضَحُّوا عَنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ ، وَإِنْ ضَحَّوْا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَمْ يُجْزِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : انْتَظَرْتُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ شَكُّوا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ انْتَظَرْتُ بِهِ الزَّوَالَ فَعِنْدَهُ لَا يَذْبَحُونَ عَنْهُ حَتَّى يُصَلُّوا فِي الْمِصْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ الشَّكُّ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ لَمْ يَذْبَحُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فَإِذَا زَالَتْ ذَبَحُوا عَنْهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ فِيمَا قُلْنَا اعْتِبَارَ الْحَالَيْنِ حَالَ الذَّبْحِ وَحَالَ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ فَكَانَ أَوْلَى وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ ، وَالْقُرُبَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ يُعْتَبَرُ وَقْتُهَا فِي حَقِّ فَاعِلِهَا لَا فِي حَقِّ الْمَفْعُولِ عَنْهُ ، وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ نُهُرِهَا وَلَيَالِيهَا ؛ وَهُمَا لَيْلَتَانِ : لَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّانِي وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ ، وَلَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي عَشَرَ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا لَيْلَةُ الْأَضْحَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ، وَذِكْرُ الْأَيَّامِ يَكُونُ ذِكْرَ اللَّيَالِي لُغَةً ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَتْبَعَهَا النَّهَارُ

الْمَاضِي وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ النَّهَارَ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِذَا جُعِلَتْ تَابِعَةً لِلنَّهَارِ الْمَاضِي لَا تَتْبَعُ النَّهَارَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَا تَدْخُلُ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَتَدْخُلُ اللَّيْلَتَانِ بَعْدَهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِاللَّيْلِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ لِلتَّضْحِيَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : سَلَامَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَهِيَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ تَمْشِي بِرِجْلِهَا إلَى الْمَنْسَكِ ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا نِقْيَ لَهَا وَهُوَ الْمُخُّ ، وَمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَاَلَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فِي الْخِلْقَةِ .
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَيَكُونُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِي وَيُجْزِي السَّكَّاءُ وَهِيَ صَغِيرَةُ الْأُذُنِ ، وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعَةُ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ بِكَمَالِهَا ، وَاَلَّتِي لَهَا أُذُنٌ وَاحِدَةٌ خِلْقَةً .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تُجْزِي مِنْ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهُمَا عَنْ الْآفَاتِ .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ } ، وَلَوْ ذَهَبَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ وَالْعَيْنِ ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَخْلُو عَنْهُ عَادَةً ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ

أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ ، رَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ جَازَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : قَوْلِي مِثْلُ قَوْلِك ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ .
وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الرُّبُعُ لَمْ يُجْزِهِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فَمَا كَانَ مُضَافُهُ أَقَلَّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إذَا كَانَا سَوَاءً احْتِيَاطًا لِاجْتِمَاعِ جِهَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقَاءَ الْأَكْثَرِ لِلْجَوَازِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَرُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَضْبَاءِ } قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : الْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا ، فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَكْثَرَ ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ كَثِيرًا فَلِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْكَثِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَفِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى .
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ كَثِيرًا فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ { الثُّلُثُ

وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثُّلُثَ كَثِيرًا مُطْلَقًا ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ قَلِيلًا فَاعْتِبَارُهُ بِالْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَدَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَرْعَى وَتَعْتَلِفُ جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ تُجْزِيهِ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ إلَّا أَنْ يَصُبَّ فِي جَوْفِهَا صَبًّا لَمْ تُجْزِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَا تُجْزِي سَوَاءٌ اعْتَلَفَتْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفْ ، وَفِي قَوْلٍ إنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَسْنَانِهَا لَا تُجْزِي كَمَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ ، وَفِي قَوْلٍ إنْ بَقِيَ مِنْ أَسْنَانِهَا قَدْرُ مَا تَعْتَلِفُ تُجْزِي وَإِلَّا فَلَا .
وَتَجُوزُ الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُهَا عَنْ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ فَلَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى هَلَاكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا وَتَجُوزُ الْجَرْبَاءُ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا تَجُوزُ وَتُجْزِي الْجَمَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً ، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ تُجْزِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا { عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ الْقَرْنِ فَقَالَ : لَا يَضُرُّك أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ هَمَذَانَ جَاءَ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَقَرَةُ عَنْ كَمْ ؟ قَالَ : عَنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ قَالَ : مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ ؟ قَالَ : لَا ضَيْرَ ثُمَّ قَالَ : عَرْجَاءُ ؟ فَقَالَ : إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ ، ثُمَّ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ

الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } .
فَإِنْ بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ لَا تَجْزِيهِ ، وَالْمُشَاشُ : رُءُوسُ الْعِظَامِ مِثْلُ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَتُجْزِي الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ طُولًا ؛ وَمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ } فَالْخَرْقَاءُ هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ وَالْمُقَابَلَةُ هِيَ الَّتِي يُقْطَعُ مِنْ مَقْدَمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَا يُبَانُ بَلْ يُتْرَكُ مُعَلَّقًا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِمُؤَخَّرِ الْأُذُنِ مِنْ الشَّاةِ ، فَالنَّهْيُ فِي الشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ ، وَفِي الْخَرْقَاءِ عَلَى الْكَثِيرِ ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا بَأْسَ بِمَا فِيهِ سِمَةٌ فِي أُذُنِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي الشَّاةِ ، وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَوْ لِأَنَّ السِّمَةَ لَا يَخْلُو عَنْهَا الْحَيَوَانُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا .
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ أُضْحِيَّةً وَهِيَ سَمِينَةٌ فَعَجِفَتْ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تُجْزِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَى لَهَا مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا نَقَصَتْ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَبَقِيَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ .
وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَا أُضْحِيَّةَ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لِلْقُرْبَةِ فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَّةً لَا تَجُوزُ هَذِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالْغَنِيِّ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - .
وَلَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ أَعْوَرَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهَا كُلُّهَا أَوْ أَلْيَتُهَا أَوْ

ذَنَبُهَا أَوْ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْشِيَ لَا تُجْزِي عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهَا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ .
وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ أَوْ سُرِقَتْ ، وَلَوْ قَدَّمَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا أَجْزَأَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا انْقَلَبَتْ مِنْهُ الشَّفْرَةُ فَأَصَابَتْ عَيْنَهَا فَذَهَبَتْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ دَخَلَهَا قَبْلَ تَعْيِينِ الْقُرْبَةِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ حَالِ الذَّبْحِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنْ اضْطِرَابِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ عَالَجَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَكُسِرَتْ أَوْ أَعْوَرَتْ فَذَبَحَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مِنْ الْغَدِ فَإِنَّهَا تُجْزِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمَّا لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحَالِ لَوْ ذَبَحَهَا فَكَذَا فِي الثَّانِي كَالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

وَالثَّانِي مِلْكُ الْمَحَلِّ ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَحَّى مِلْكَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَلَا قُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَا عَنْ صَاحِبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ عَنْ التَّضْحِيَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ ضَمَّنَهُ صَاحِبُهَا قِيمَتَهَا حَيَّةً فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ فَصَارَ ذَابِحًا شَاةً هِيَ مِلْكُهُ فَتُجْزِيهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُمْلَكُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ كَانَ اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَحَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الشَّاةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا فَضَحَّى بِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ مَذْبُوحَةً لَا تُجْزِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى مَا دَامَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَإِنْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ تِلْكَ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالْعَدَمَ بِمَنْزِلَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ بَاعَهَا حَيْثُ

يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ قَدْ صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا جَازَ الذَّبْحُ عِنْدَنَا كَمَا فِي الْغَصْبِ .
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً يُضَحِّي بِهَا الْمُسْتَوْدَعُ عَنْ نَفْسِهِ يَوْمَ النَّحْرِ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ وَرَضِيَ بِهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْزِي الْمُسْتَوْدَعَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هَهُنَا هُوَ الذَّبْحُ وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ - وَهُوَ الذَّبْحُ - فَكَانَ الذَّبْحُ مُصَادِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِيهِ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا قَبْلَ الذَّبْحِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ السَّابِقُ ، فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ أَوْ أَدَائِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَالذَّبْحُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَجَازَ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةِ بِأَنْ اسْتَعَارَ نَاقَةً أَوْ ثَوْرًا أَوْ بَعِيرًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ فَضَحَّى بِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ سَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمَالِكُ أَوْ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ ، وَلَوْ كَانَ مَرْهُونًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَّلَ فِي الرَّهْنِ تَفْصِيلًا لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ : إنْ كَانَ قَدْرُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجُوزُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً ، فَفِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالذَّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بَيْعًا فَاسِدًا فَقَبَضَهَا فَضَحَّى

بِهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً ، إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ ؛ فَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَحِّي وَإِنْ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لَهُ شَاةٌ هِبَةً فَاسِدَةً فَضَحَّى بِهَا فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَاسْتَرَدَّ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قِيمَتَهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهَا إذَا كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ .
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَوْ وُهِبَ شَاةً مِنْ رَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اسْتَرَدُّوا عَيْنَهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهَا فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَإِذَا رَدَّهَا فَقَدْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بِثَوْبٍ فَضَحَّى بِهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الشَّاةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُضَحِّي وَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا نَاقِصَةً مَذْبُوحَةً ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِالثَّوْبِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِالثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَيَرُدُّ مَا أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِثَمَنِ ذَلِكَ الْقَعَد مِنْ قِيمَتِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا ، وَلَوْ وَجَدَ بِالشَّاةِ عَيْبًا فَالْبَائِعُ

بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَرَدَّ الثَّمَنَ وَيَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ حِصَّةَ النُّقْصَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْقُرْبَةِ مَا ذُبِحَ وَقَدْ ذُبِحَ نَاقِصًا إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ عَدْلًا لِلصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِمَا نَذْكُرُ .
وَلَوْ وُهِبَ لِرَجُلٍ شَاةٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ ، فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَهُ فَإِذَا ذَبَحَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ أَوْ أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا ؛ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَبْدَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ عَنْ الرُّجُوعِ ، كَذَا هَهُنَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّاةَ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ ، وَلَوْ وَهَبَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
هَذَا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا

اسْتَهْلَكَهَا وَلِأَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ ، وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَفْتَرِقُ الْجَوَابُ بَيْنَ مَا يَجِبُ صَدَقَةً وَبَيْنَ مَا لَا يَجِبُ وَفِي الْفُصُولِ الْأُوَلِ يَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ شَاةً لِإِنْسَانٍ وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَضَحَّاهَا ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَإِنْ ضَمَّنُوهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً فَضُمِّنَ قِيمَتَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَدْ ضَمِنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ ثُلُثُ قِيمَتِهَا حَيَّةً يَأْخُذُ الْوَرَثَةُ مِنْهُ ثُلُثَيْ الشَّاةِ مَذْبُوحَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِذَلِكَ وَقَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ الشَّاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَقَدْ أَبْرَءُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ فَضْلِ مَا بَيْنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً إلَى ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَّا ثُلُثَا قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً .
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الضَّحَايَا عَنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمِنُوا ثُلُثَيْ قِيمَةِ الشَّاةِ وَسَلَّمُوا لَهُ لَحْمَهَا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا وَكَانُوا شُرَكَاءَهُ فِيهَا ، فَإِنْ ضَمِنُوا ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ

شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً وَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْبِطَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقُرْبَةِ وَإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَأَنْ يُقَلِّدَهَا وَيُجَلِّلَهَا اعْتِبَارًا بِالْهَدَايَا ، وَالْجَامِعُ أَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا قَالَ اللَّه تَعَالَى { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } وَأَنْ يَسُوقَهَا إلَى الْمَنْسَكِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا عَنِيفًا وَأَنْ لَا يَجُرَّ بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ .

وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا أَوْ يَجُزَّ صُوفَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ فِيهَا ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الْحَلْبَ وَالْجَزَّ يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ إدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْأُضْحِيَّةَ ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الشَّاةِ الْمَنْذُورِ بِهَا بِعَيْنِهَا مِنْ الْمُعْسِرِ أَوْ الْمُوسِرِ أَوْ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْمُعْسِرِ فَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مِنْ الْمُوسِرِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَجُزَّ صُوفَهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَقُومُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مَقَامَهَا وَإِذَا تَعَيَّنَتْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِتَعْيِينِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا ، وَفِي الثَّانِي لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهَا مَا فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَكَانَتْ جَائِزَةَ الذَّبْحِ لَا وَاجِبَةَ الذَّبْحِ ، وَالْجَوَابُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْقُرْبَةِ إلَى أَنْ يُقَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَا دَامَتْ مُتَعَيَّنَةٌ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَحْمُهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا ، فَإِنْ كَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ - وَهُوَ يَخَافُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَحْلُبْهَا - نَضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْحَلْبِ وَلَا وَجْهَ لِإِبْقَائِهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَعَيَّنَ نَضْحُ الضَّرْعِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ لِيَنْقَطِعَ اللَّبَنُ فَيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ فَإِنْ حَلَبَ تَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَاةٍ مُتَعَيِّنَةٍ لِلْقُرْبَةِ مَا أُقِيمَتْ فِيهَا الْقُرْبَةُ فَكَانَ

الْوَاجِبُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِهِ ، كَمَا لَوْ ذُبِحَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ .

وَيُكْرَهُ لَهُ بَيْعُهَا لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ بَاعَ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِطِ فَيَجُوزُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُهَا عَلَى أَصْلِهِمَا فَعَلَيْهِ مَكَانَهَا مِثْلُهَا أَوْ أَرْفَعُ مِنْهَا فَيُضَحِّي بِهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَإِنْ اشْتَرَى دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الْأُولَى بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا وَاشْتَرَى الثَّانِيَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنُ الثَّانِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْأُولَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْأُولَى ، فَإِنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَلَدًا يُذْبَحُ وَلَدُهَا مَعَ الْأُمِّ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ .
وَقَالَ أَيْضًا : وَإِنْ بَاعَهُ يَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعَيَّنَتْ لِلْأُضْحِيَّةِ ، وَالْوَلَدُ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ فِي الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الْأُضْحِيَّةَ الْمُوجَبَةِ بِالنَّذْرِ كَالْفَقِيرِ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ، فَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَوَلَدَتْ لَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا فَكَذَا وَلَدُهَا .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يَجِبُ ذَبْحُ الْوَلَدُ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَسْرِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ كَجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا فَإِنْ ذَبَحَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ ، وَلَا يَبِيعُهُ وَلَا

يَأْكُلُهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ذَبَحَهُ أَيَّامَ النَّحْرِ وَأَكَلَ مِنْهُ كَالْأُمِّ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَ الْوَلَدَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ ذَبْحُهُ فَصَارَ كَالشَّاةِ الْمَنْذُورَةِ .
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى : إذَا وَضَعَتْ الْأُضْحِيَّةُ فَذَبَحَ الْوَلَدَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْأُمِّ أَجْزَأَهُ ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ ، قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الصِّغَارَ تَدْخُلُ فِي الْهَدَايَا وَيَجِبُ ذَبْحُهَا ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ تَعَلَّقَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْحُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ فَاتَ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ .

وَيُكْرَهُ لَهُ رُكُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَاسْتِعْمَالُهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَصَهَا ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنُقْصَانِهَا ، وَلَوْ آجَرَهَا صَاحِبُهَا لِيُحْمَلَ عَلَيْهَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي رَجُلٍ أَهْدَى نَاقَةً ثُمَّ آجَرَهَا ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَغْرَمُ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ بِالْكِرَاءِ كَذَا هَهُنَا .

( وَأَمَّا ) الَّذِي هُوَ فِي حَالِ التَّضْحِيَةِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ : أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الذَّبْحُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالنَّحْرُ فِي الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا وَالتَّذْفِيفُ فِي ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مِنْ الْحُلْقُومِ لَا مِنْ الْقَفَا .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَمُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ تَوْلِيَتِهَا غَيْرَهُ كَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ أَعْطَى الْمُدْيَةَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَحَرَ الْبَاقِينَ } وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يُحْسِنُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُحْسِنْ فَتَوْلِيَتُهُ غَيْرَهُ فِيهِ أَوْلَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَحَرْتُ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَلَمْ أَشُقَّ عَلَيْهَا فَكِدْتُ أُهْلِكُ نَاسًا لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَهَا إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً وَأُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي .
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ قَالَ أَنَسٌ : فَرَأَيْت النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا أَيْ عَلَى جَوَانِبِ عُنُقِهِمَا وَهُوَ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَذَبَحَ الْأَوَّلَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ذَبَحَ الْآخَرَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اللَّهُمَّ هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ حَالَ الذَّبْحِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَإِذَا لَمْ يَذْبَحْ بِنَفْسِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ مُسْلِمًا فَإِنْ أَمَرَ كِتَابِيًّا يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الذَّبْحَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِسَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهَا { يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ قُومِي فَاشْهَدِي ضَحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضِعْفًا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَصْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَقَالَ : هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } .
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ وَقُولِي إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ } وَأَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ : اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَيْنَا ، وَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا : وَجَّهَتْ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْمُعَتِّمِ الْكِنَانِيِّ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى عِيدٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ يَا قَنْبَرٌ أَدْنِ مِنِّي أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ قَالَ : وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ

الْمُسْلِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ عَلِيٍّ فَذَبَحَهُ ثُمَّ دَعَا بِالثَّانِي فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَرِّدَ التَّسْمِيَةَ عَنْ الدُّعَاءِ فَلَا يَخْلِطَ مَعَهَا دُعَاءً وَإِنَّمَا يَدْعُو قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، وَيُكْرَهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَعْظَمَهَا لِأَنَّهَا مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ } وَمَهْمَا كَانَتْ الْمَطِيَّةُ أَعْظَمَ وَأَسْمَنَ كَانَتْ عَلَى الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ أَقْدَرَ ، وَأَفْضَلُ الشَّاءِ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا أَمْلَحَ أَقْرَنَ مَوْجُوءًا ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ } وَالْأَقْرَنُ : الْعَظِيمُ الْقَرْنِ ، وَالْأَمْلَحُ : الْأَبْيَضُ .
وَرُوِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { دَمُ الْعَفْرَاءِ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَ دَمِ السَّوْدَاوَيْنِ وَإِنَّ أَحْسَنَ اللَّوْنِ عِنْدَ اللَّهِ الْبَيَاضُ ، وَاَللَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ } وَالْمَوْجُوءُ : قِيلَ هُوَ مَدْقُوقُ الْخُصْيَتَيْنِ ، وَقِيلَ : هُوَ الْخَصِيُّ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْخَصِيِّ فَقَالَ : مَا زَادَ فِي لَحْمِهِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَهَبَ مِنْ خُصْيَتَيْهِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ؛ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى الْخَيْرِ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْمُسَارِعِينَ إلَى الْخَيْرَاتِ السَّابِقِينَ لَهَا بِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } وَقَالَ - عَزَّ شَأْنُهُ - { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أَيْ إلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - أَضَافَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ إلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ بِاللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ ، وَأَفْضَلُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ لِأَهْلِ السَّوَادِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَكَامَلُ آثَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الذَّبْحِ حَادَّةً مِنْ الْحَدِيدِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي هُوَ بَعْدَ الذَّبْحِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَدْرَ مَا يَبْرُدُ وَيَسْكُنُ مِنْ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَتَزُولُ الْحَيَاةُ عَنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ وَيَسْلُخَ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَلِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا } وَلِأَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : .
نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَنَوْعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، الْأَوَّلُ دَمُ الْأُضْحِيَّةَ نَفْلًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مَنْذُورًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مُبْتَدَأً ، وَالثَّانِي دَمُ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَدَمُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِنَايَاتِ ، وَدَمُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ ، وَالثَّالِثُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، فَعِنْدَنَا يُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْكَلُ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ كُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ ؛ إذْ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ إذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَأَدَّى إلَى التَّسْيِيبِ .
وَلَوْ هَلَكَ اللَّحْمُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ هَلَكَ عَنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ إنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَعَيِّنًا

لِلتَّصَدُّقِ بِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ مِنْهُ غَيْرَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ - حِينَ ضَحَّى بِالْكَبْشَيْنِ يَا قَنْبَرٌ خُذْ لِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضْعَةً وَتَصَدَّقْ بِهِمَا بِجُلِّ وَدِهِمَا وَبِرُءُوسِهِمَا وَبِأَكَارِعِهِمَا ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا } فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَيُنْدَبُ إشْرَاكُ الْكُلِّ فِيهَا وَيُطْعِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْكُلِّ أَضْيَافَ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ جَازَ وَلَوْ حَبَسَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْإِرَاقَةِ .

( وَأَمَّا ) التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَتَطَوُّعٌ وَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَلَا فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ دُونَ حَضْرَةِ الْأَضْحَى } أَلَّا إنَّ إطْعَامَهَا وَالتَّصَدُّقَ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا عِيَالٍ وَغَيْرَ مُوَسَّعِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدَعَهُ لِعِيَالِهِ وَيُوسِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِغَيْرِك } .

وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِهَا وَشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَأَطْرَافِهَا وَرَأْسِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَلَبَنِهَا الَّذِي يَحْلُبُهُ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ أَجْرَ الْجَزَّارِ وَالذَّابِحِ مِنْهَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا ، وَلَا تُعْطِي أَجْرًا لِجَزَّارٍ مِنْهَا " وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ : إذَا ضَحَّيْتُمْ فَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ ضَحَايَاكُمْ وَلَا جُلُودَهَا وَكُلُوا مِنْهَا وَتَمَتَّعُوا وَلِأَنَّهَا مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - الَّتِي أَضَافَ بِهَا عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ شَيْئًا فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ الذَّبْحِ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عَنْهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يَخْلُو عَنْ خُبْثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سِقَاءً أَوْ فَرْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اتَّخَذَتْ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا فَكَذَا بِجِلْدِهَا ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ

الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ النَّذْرِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النَّذْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَرُكْنُ النَّذْرِ هُوَ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : " لِلَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيَّ كَذَا ، أَوْ عَلَيَّ كَذَا ، أَوْ هَذَا هَدْيٌ ، أَوْ صَدَقَةٌ ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ ، أَوْ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الرُّكْنِ .
أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ فَشَرَائِطُ الْأَهْلِيَّةِ : .
( مِنْهَا ) الْعَقْلُ .
( وَمِنْهَا ) الْبُلُوغُ ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، لِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً ؟ فَكَذَا بِالنَّذْرِ ، إذْ الْوُجُوبُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّيغَةِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ ، إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَاب ، وَإِنَّمَا الصِّيغَةُ عَلَمٌ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - .
( وَمِنْهَا ) الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْكَافِرِ ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ قُرْبَةً شَرْطُ صِحَّةِ النَّذْرِ ، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً .
( وَأَمَّا ) حُرِّيَّةُ النَّاذِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ ؛ فَيَصِحُّ نَذْرُ الْمَمْلُوكِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ مِنْ الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَنَحْوِ

ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ ، فَعَتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُضِيفَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ .
( وَأَمَّا ) الطَّوَاعِيَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي الْيَمِينِ ، وَكَذَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَنْذُورِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ : .
( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا كَمَنْ قَالَ : لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَكَلَ فِيهِ ، وَكَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلَّ الصَّوْمِ ، وَالْأَكْلَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حَقِيقَةً وَالْحَيْضَ مُنَافٍ لَهُ شَرْعًا ؛ إذْ الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطُ وُجُودِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَوْ قَالَتْ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ فِي غَدٍ ، أَوْ قَالَتْ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ حَاضَتْ فِيهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الصَّوْمِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ ، فَقَدِمَ فِي النَّهَارِ - أَنَّهُ إنْ قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ يَلْزَمُهُ صَوْمُهُ ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ قُدُومُ فُلَانٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الْقُدُومِ وَلَا دَلِيلَ الْعِلْمِ ، وَلَا وُجُوبَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِدُونِ الْعِلْمِ ؛ أَوْ دَلِيلِهِ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ أَدَاؤُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُؤَدِّي فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلْمِ ، فَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَوْمُ الْمَوْصُوفُ ، وَلَا وُجُودَ إلَّا بِالْقُدُومِ ، فَصَارَ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِالْقُدُومِ ، وَوُجُوبُ صَوْمِ يَوْمٍ لَمْ تَزُلْ فِيهِ الشَّمْسُ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ مُتَصَوَّرٌ ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ فَوَجَبَ

عَلَيْهِ لِلْحَالِ ، وَلَا تَصَوُّرَ لَهُ بَعْد التَّنَاوُلِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ ، أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ - حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ النَّذْرِ يَجِبُ الْفِعْلُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - عِنْدَ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ فَصَارَ هَذَا وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى السَّوَاءِ .
( وَأَمَّا ) فِي بَابِ الْيَمِينِ : فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّه - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْبِرِّ ، وَحُصُولُ الْبِرِّ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْهَتْكِ فَوُجُوبُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمُ ، فَكَانَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْبِرِّ وَالِامْتِنَاعِ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْقُدُومُ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبِرُّ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ أَنْ يَصُومَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ، فَإِذَا لَمْ يَصُمْ : بِأَنْ أَكَلَ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ النَّذْرِ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِفَوَاتِ الْبِرِّ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ رَأْسًا كَالنَّذْرِ بِالْمَعَاصِي بِأَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَضْرِبَهُ أَوْ أَشْتُمَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } ، وَقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلَا يَعْصِهِ } ، وَلِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ ، وَوُجُوبُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ وَكَذَا النَّذْرُ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ وَصْفِ

الْقُرْبَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِعْلًا وَتَرْكًا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ ، وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ ؟ فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْأَذَانِ وَبِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ قُرَبًا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبٍ مَقْصُودَةً وَيَصِحُّ النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْإِحْرَامِ بِهِمَا وَالْعِتْقِ وَالْبَدَنَةِ وَالْهَدْيِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قُرَبٌ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلْيُطِعْهُ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ بِمَا سَمَّى } ؛ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْمُسَمَّى الَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا ، وَاَلَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَصَّلَ فِي هَذَا أَصْلًا فَقَالَ : مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا سِوَى الِاعْتِكَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ ، وَالِاعْتِكَافُ لَهُ أَصْلٌ أَيْضًا فِي الْفُرُوضِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ، وَمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَة وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهَا وَعُلِّلَ بِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ ، أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ ؛ لِكَوْنِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ، وَلَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ نَذْرٌ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَصِحُّ النَّذْرُ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ بِالصَّوْمِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ .
( أَمَّا ) النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - { الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّقْوَى وَالشُّكْرِ وَمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ فِي زَمَانِ الصَّوْمِ يَتَّقِي الْحَلَالَ ، فَالْحَرَامُ أَوْلَى ، وَيَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - عَلَيْهِ بِمَا تَجَشَّمَ مِنْ مَرَارَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ؛ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْفُقَرَاءِ ؛ لَمَّا عَرَفَ قَدْرَ مُقَاسَاةِ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ وَالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَإِنَّهَا مَعَانٍ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا ، وَالنَّهْيُ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ مُجَاوِرٍ لَهُ صِيَانَةً لِحُجَجِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَنْ التَّنَاقُضِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( وَأَمَّا ) فَصْلُ الشُّرُوعِ وَالْقَضَاءِ فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إنَّمَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْطَارِ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْإِتْمَامِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْإِبْطَالِ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْعَمَلِ حَرَامٌ ، وَهَهُنَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ - تَعَالَى جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ ، فَلَا يَحْرُمُ الْإِبْطَالُ فَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ لَا يَجِبُ .

وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ لِرُكُوبِهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ نَوْعَانِ : مَكَانٌ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحَرَمِ : كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ وَمَكَانٌ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَهُوَ ، الْحَرَمُ وَالْحَرَمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَكَّةَ ، وَمَكَّةُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَى الْكَعْبَةِ ، فَالنَّاذِرُ إمَّا أَنْ يُسَمَّى فِي النَّذْرِ الْكَعْبَةَ ، أَوْ بَيْتَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي يُوجِبُهَا عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ أَلْفَاظِ الْمَشْيِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَأَضَافَهُ إلَى مَكَان يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ، وَذَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ لَك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ مِائَتَيْ رَكْعَةٍ فِي مِائَةِ مَسْجِدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صَلِّي فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ } ، فَلَمْ يُصَحِّحْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذْرَهَا بِالصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَالنَّذْرُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، بِأَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا ، أَوْ لَأُسَافِرَنَّ ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَقِفُ

انْعِقَادُهَا عَلَى كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قُرْبَةً ، بَلْ يَنْعَقِدُ عَلَى الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا ، بِخِلَافِ النَّذْرِ .
وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ يُنْظَرُ : فَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ مَا سِوَى الْمَشْيِ إلَيْهِ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ الْمَشْيِ إلَيْهِ فَإِنْ ذَكَر سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ مِنْ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ ، بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الْحَرَمِ لَا يَصِحّ نَذْرُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ذَكَر الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ ، يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً ، وَلَا قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ سِوَى لَفْظِ الْمَشْيِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ ، يَسْتَعْمِلُونَهُ لِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ وَجْهُ الْكِنَايَةِ ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ بِاصْطِلَاحِهِمْ ، وَالْإِحْرَامُ يَكُونُ بِالْحِجَّةِ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَيَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ ، فَإِنَّهَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِهَا ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ ،

وَلَا عُرْفَ هُنَاكَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَاشِيًا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ قِيلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ } ، فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَصِفَةِ التَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ ، فَيَمْشِي حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً لِمَا رُوِيَ : { أَنَّ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ : مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا } .
وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْبَيْتَ مَاشِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَافِيَةً حَاسِرَةً ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - غَنِيٌّ عَنْ عَنَاءِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَتُحْرِمْ إنْ شَاءَتْ بِحَجَّةٍ وَإِنْ شَاءَتْ بِعُمْرَةٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ وَرَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً رَوَاهُ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ لَفْظُ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْأُخَرِ ،

يُقَالُ : فُلَانٌ مَشَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى الْكَعْبَةِ وَإِلَى مَكَّةَ ، وَإِلَى بَكَّةَ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَإِنْ ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ الْحَرَمِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرَمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى مَكَّةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَّةَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إلَى مَكَان مَا ، لِمَا ذَكَر أَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ ، إذْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ، فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةً ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ فِي لَفْظِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّه أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ لِلْعُرْفِ ، حَيْثُ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ ، وَلَمْ يَتَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَشَى إلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ كَمَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالْكِنَايَةُ يُتْبَعُ فِيهَا عَيْنُ اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى اللَّازِمُ الْمَشْهُورُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالِاصْطِلَاحِ كَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ ، فَيُتَّبَعُ فِيهَا الْعُرْفُ ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بَيْتُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ كَانَتْ إرَادَةُ

الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ لَا غَيْرَ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنِهِ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَكْتَفِي فِيهِ بِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنَا أُحْرِمُ أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا ؛ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيجَابُ ، كَقَوْلِنَا : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنَّهُ يَكُونُ تَوْحِيدًا ، وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْقَاضِي : أَشْهَدُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهَادَةً ، فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَعِدَ مِنْ نَفْسِهِ عِدَةً وَلَا يُوجِبَ شَيْئًا كَانَ عِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعِدَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِدَاتِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الْوَعْدِ ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ، هَذَا إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ إنْ فَعَلَتْ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا ، وَإِنْ نَوَى الْوَعْدَ يَكُونُ وَعْدًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ ، وَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَعَلَّقُ بِهَا ، فَالْمَعْرِفَةُ إلَى الْإِيجَابِ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَلَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَعْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْإِيجَابَ ، وَفِي الْمُعَلَّقِ يَقَعُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْوَعْدَ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَهُوَ نَحْرُ الْبَدَنَةِ أَوْ ذَبْحُ الشَّاةِ ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الشَّاةُ ، وَإِنَّمَا يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ لَا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَذْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ النَّذْرُ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَقَدْ نَذَرَ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ ، فَيَصِحُّ النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْوُجُوبِ فِي الشَّاةِ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْهُ ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ ، وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ وَضَرْبٌ مِنْ الْمَعْقُولِ .
( أَمَّا ) الْحَدِيثُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ } أَرَادَ أَوَّلَ آبَائِهِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَآخِرَ آبَائِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، سَمَّاهُمَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَبِيحَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَا كَانَا ذَبِيحَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَا ذَبِيحَيْنِ تَقْدِيرًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِقِيَامِ الْخَلَفِ مَقَامَ الْأَصْلِ .
(

وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَذْرِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّقَرُّبِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَحْقِيقًا ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادًا مِنْ النَّذْرِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ الْخَلَفِ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ فَكَانَ هَذَا نَذْرًا بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ حَقِيقَةً ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالنَّذْرِ وَقَعَ لِلْوَاجِبِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ بِالْإِيجَابِ الْمُضَافِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِالشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ لَا بِلَفْظِ الْقَتْلِ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقَتْلِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي تَفْوِيتِ الْحَيَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ ، وَالذَّبْحُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ بِقَتْلِ شَاةٍ لَا يَلْزَمُهُ ، وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِهَا لَزِمَهُ .
وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ نَفْسِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَلَدِ وَلَدِهِ ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ .

وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَالِدَيْهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ - يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ .
وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ : عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْوَلَدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِذَبْحِ مَا هُوَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْوَالِدَيْنِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ أَنَّ النَّذْرَ بِذَبْحِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ مِنْ مَكَاسِبِهِ ، وَالْوَلَدُ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ شَرْعًا ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ } وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ ، فَعَدَّى الْحُكْمَ إلَى الْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْعَبْدُ وَإِلَى النَّفْسِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ ، وَلَمْ يُعَدِّ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَذْرُ الْجَدِّ بِذَبْحِ الْحَافِدِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ .

وَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ : إنْ شَاءَ أَهْدَيْ شَاةً ، وَإِنْ شَاءَ بَقَرَةً ، وَإِنْ شَاءَ إبِلًا وَأَفْضَلُهَا أَعْظَمُهَا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ ، وَالْإِبِلُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَانَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَعَلَيْهِ الْإِبِلُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ يَقَعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ ضَخْمًا ، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ الَّذِي أَوْجَبَ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْبَيْتِ بَلْ الْبُقْعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا ، وَهِيَ الْحَرَمُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } نَفْسُ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا أَضَافَهُ إلَى الْبَيْتِ ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا ، وَمَكَانُ الْهَدَايَا هُوَ الْحَرَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا ، وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ رُكُوبُهُ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ .
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الذَّبْحَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ، أَوْ بِقِيمَتِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْبَحُ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ .
وَلَوْ أَوْجَبَ بَدَنَةً فَذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ،

وَلَوْ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ عَنْ نَذْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَجِّ .

وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ هَدْيٌ أَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ يُمْسِكُ بَعْضَ مَالِهِ وَيُمْضِي الْبَاقِيَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهَدْيَ وَالصَّدَقَةَ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ بَعْضَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِقْدَارَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَكْتَسِبَ ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ لِجِهَةِ الصَّدَقَةِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ ، كَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَهَذَا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَا يَقْصِدُ بِهَا التِّجَارَةَ وَالْعَوَامِلَ وَأَرْضَ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْجِنْسُ لَا الْقَدْرُ ؟ وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، فَإِنْ قَضَى دِينَهُ بِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ لِمَا ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرنَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي فَصْلِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ كَالْمِلْكِ .
( وَجْهُ

) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ الدَّالِ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ الْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى الْمَالِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الزَّكَاةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وَنَحْوُ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَذَا فِي النَّذْرِ وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إذَا حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا ، وَلَا نِيَّةَ ، لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ - دَارُهُ تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا دُونَ النِّصَابِ وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا .
وَإِذَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ عُشْرِيَّةٌ أَوْ غَلَّةٌ عُشْرِيَّةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْعُشْرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي النَّذْرِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَتَصَدَّقُ بِهَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهَا فَتَدْخُلُ فِي النَّذْرِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ .

قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْإِيجَابِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِعَدَدٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى بَعْضِهِمْ إلَّا عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأَيَّامِ فَكَذَا النَّذْرُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهَا جَمِيعَ الْمَسَاكِينُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } ، كَذَلِكَ النَّذْرُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ هَذَا الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ فَأَعْطَى ذَلِكَ الطَّعَامَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَالٍ مُتَعَيَّنٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمِسْكِينُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ الْمَالَ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي عَيَّنَهُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكَيْنِ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ الَّذِي سَمَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَنْذُورَ صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ، إنَّمَا نَوَى أَنْ يُطْعِمَ وَاحِدًا مَا يَكْفِي عَشْرَةً أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ عَشْرَةً ، فَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ ، ثُمَّ قَالَ : إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، فَكَلَّمَ فُلَانًا وَقَدِمَ فُلَانٌ - أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ

بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا سَمَّى يَوْمًا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ مَعًا وَجَبَتْ بِالْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ سَبَبَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ ، فَإِنْ وُجِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَجَبَ بِالْأَوَّلِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ .
نَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ دَخَلَ زَيْدٌ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ قَالَ إنْ دَخَلَهَا عَمْرٌو فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنْ دَخَلَا مَعًا عَتَقَ الْعَبْدُ بِالْإِيجَابَيْنِ ، وَإِنْ دَخَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ عَتَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ قَالَ : إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَكَلَّمَ فُلَانًا - وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَوْ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَعَلَيْهِ لِنَذْرِهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى تَعَيَّنَ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ النَّذْرِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ الزَّكَاةِ ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مِثَالَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنْ النَّذْرَيْنِ فَجَازَ عَنْهُمَا .

وَلَوْ قَالَ : إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ صَامَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدِمَ فُلَانٌ يَوْمئِذٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ - فَعَلَيْهِ يَوْمٌ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ جِهَةِ النَّذْرِ ، لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وَهُوَ قُدُومُ فُلَانٍ فِيهِ ؛ فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَنَعَ وُقُوعَهُ عَنْ النَّذْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدِمَ بَعْدَمَا أَكَلَ ، فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخِرَ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْيَمِينَ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى صَوْمِهِ ، وَجِهَاتُ الصَّوْمِ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ ، وَلَوْ كَانَ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ عَنْ النَّذْر ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ ؛ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَصَلَ فِي زَمَانٍ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الصَّوْمُ لِوُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النَّذْرِ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ ثُمَّ أَكَلَ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الشَّهْرَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ ، فَقَدِمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَهُ فِي رَمَضَانَ - أَجْزَأَ عَنْ رَمَضَانَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ بِالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا النَّذْرِ حُكْمٌ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ لِتَحَقُّقِ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ ، وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى الصَّوْمِ دُونَ غَيْره وَقَدْ صَامَ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَطَوَّعَا لِقُدُومِهِ ، وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَصَامَهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ - فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَالْكَفَّارَةُ : .
( أَمَّا ) الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ نَذْر أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلْقُدُومِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ ، فَإِذَا صَامَ عَنْ جِهَةٍ يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ لَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ .
( وَأَمَّا ) الْكَفَّارَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى مُطْلَقِ الصَّوْمِ ، بَلْ عَلَى أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقُدُومِ ، فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ فَيَحْنَثُ ، وَلَوْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
( أَمَّا ) عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ ، فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الصَّوْمِ فِيهِ لِغَيْرِهِ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ وَإِنْ صَامَهُ يَنْوِي الشُّكْرَ عَلَى قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يَنْوِي رَمَضَانَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ .
( أَمَّا ) الْجَوَازُ عَنْ رَمَضَانَ ؛ فَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ ، لِكَوْنِ الزَّمَانِ مُتَعَيِّنًا لَهُ فَوَقَعَ عَنْهُ .
( وَأَمَّا ) بِرُّهُ فِي يَمِينِهِ فَلِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الصَّوْمِ بِجِهَةٍ ، وَقَدْ قَصْد تِلْكَ الْجِهَةَ إلَّا أَنَّهُ

وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ شَهْرًا فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، إذْ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يُوجَدُ شَهْرًا ، لِأَنَّهُ إذَا مَضَى لَا يَعُودُ ثَانِيًا ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْتِزَامِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَوْ الْخَمِيسِ كُلَّمَا تَجَدَّدَ إلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ شَهْرًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ يَوْمًا نُظِرَ إلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ أَنَّهُ رَجَبٌ أَوْ شَعْبَانُ أَوْ غَيْرُهُ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا أَوْ شَعْبَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، إذْ الشَّهْرُ لَا يُوجَدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ قَصَدَ تَصْحِيحَ نَذْرِهِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَهُوَ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى الْوَقْتِ .
وَقَدْ يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَيُرَادُ بِهِ مُطَلَّقُ الْوَقْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ } ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ : يَوْمًا لَنَا وَيَوْمًا عَلَيْنَا عَلَى إرَادَةِ مُطْلَقِ الْوَقْتِ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ ؛ إنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا يَنْقُضُ صَوْمَهُ ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ غَدًا ؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَ اسْمًا عَلَى اسْمٍ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ ، فَبَطَلَ التَّرْكِيبُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيجَابَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ غَدًا ، وَهَذَا الْيَوْمُ لَا يُوجَدُ فِي غَدٍ ، فَلَا يَكُونُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ ، بَطَلَ قَوْلُهُ غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، فَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْإِيجَابِ صَحَّ ، وَإِلَّا بَطَل بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ .
( وَأَمَّا ) الْغَدُ فَلَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ ، وَلَا يُعَبَّر بِهِ إلَّا عَنْ عَيْنِ الْغَدِ وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا الْيَوْمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ غَدًا وَقَوْلُهُ : الْيَوْمَ حَشْوٌ مِنْ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ الْغَدِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَهُ عَلَى الْغَدِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَبَطَلَ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ غَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي الْيَوْمِ ، فَلُغِيَ قَوْلُهُ : الْيَوْمَ ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ غَدًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ أَمْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَامَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَبَطَلَ الِالْتِزَامُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ : غَدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ صَوْمَ غَدٍ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَدَ ظَرْفًا لِلْأَمْسِ ؛ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ ، فَلَغِيَتْ تَسْمِيَةُ الْغَدِ أَيْضًا ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ يَبْطُلُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِمَا ذَكَرنَا ؛ وَإِذَا بَطَلَ هَذَا يُنْظَرُ إلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَإِنْ صَلَحَ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا كَذَا يَوْمًا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ - فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ ، فَانْصَرَفَ إلَى أَقَلِّ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، وَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكْرَارِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ ؛ يُقَالُ : صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَعَمِلَتْ نِيَّتُهُ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ عَلَى الْإِكْمَالِ بِحَرْفِ النَّسَقِ ، فَحُمِلَ عَلَى أَقَلِّ ذَلِكَ ، وَأَقَلُّهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ، وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ ، يُقَالُ : صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوِمًا ؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَى تَمَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَشْرَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صُرِفَ إلَى أَقَلِّهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ؛ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ .

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةُ هَذَا الِاسْمِ بِيَقِينٍ ، وَلَوْ قَالَ : السِّنِينَ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْأَبَدِ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ صَوْمُ الشُّهُورِ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا .
وَلَوْ قَالَ صَوْمُ شُهُورٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَا هَذَا فِي الْأَيَّامِ ، وَأَيَّامًا مُنَكَّرًا وَمُعَرَّفًا ، وَعِنْدَهُمَا الْمُعَرَّفُ يَقَعُ عَلَى الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ .
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمَعِ هَذَا الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْعَادَةِ عَيْنُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ .
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ سَبْعَةٌ فِي تَعَارُفِ النَّاسِ .
وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى إنْ نَوَى عَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، أَوْ نَوَى أَيَّامَهَا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَحْتَمِلُ كِلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَيَّامِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي أَغْلِبْ الْعَادَاتِ أَيَّامُهَا وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

وَلَوْ نَذَرَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إذَا دَخَلْتُ الدَّارَ ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ، ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ ، ثُمَّ : قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : الطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ .
قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَكَانَ أَصْحَابُنَا بِالْعِرَاقِ يَقُولُونَ فِيمَنْ قَالَ : الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعُرْفِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ : إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : إذَا قَالَ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ أَوْ عَلَيَّ وَاجِبٌ - لَمْ يَقَعْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَقَعُ فِي قَوْلِهِ لَازِمٌ وَلَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ : أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي عِتْقَ عَبْدِي هَذَا قَالَ : إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ فَهُوَ وَاقِعٌ ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ أَوْ عِتْقَ عَبْدِي هَذَا ؛ فَدَخَلَ الدَّارَ - وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إنْ نَوَى ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْوُقُوعَ لِلْعَادَةِ ، وَالْعَادَةُ فِي اللُّزُومِ ؛

لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ عَلَى إرَادَةِ الْإِيقَاعِ ، وَلَا عَادَةَ فِي الْإِيجَابِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ لِلنَّذْرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْتِزَامُ حُكْمِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَبَطَلَ .

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ رَجُلٌ : امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَرَقِيقُهُ أَحْرَارٌ ، وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ ؛ فَقَالَ زَيْدٌ : نَعَمْ - كَانَ كَأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ نَعَمْ جَوَابٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ، فَيَتَضَمَّنُ إضْمَارَ مَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } ، تَقْدِيرُهُ : نَعَمْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، وَكَالشُّهُودِ إذَا قَرَءُوا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كِتَابَ الْوَثِيقَةِ ، فَقَالُوا : نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ نَعَمْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَجَزْتُ ذَلِكَ ، فَهَذَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَجَزْتُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَالْتِزَامٍ ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ، أَوْ قَالَ : قَدْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ ، كَانَ لَازِمًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا قَالَهُ ، فَلَزِمَهُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ ، فَقَالَ زَيْدٌ : قَدْ أَجَزْت لَزِمَهُ الطَّلَاقُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَدْ رَضِيت مَا قَالَ أَوْ أَلْزَمْتُهُ نَفْسِي ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ ، بَلْ هُوَ إيقَاعٌ ، فَيَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَحْتَاجُ إلَى الِالْتِزَامِ ، لِيَجُوزَ عَلَى الْحَالِفِ وَيَنْفُذَ عَلَيْهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الِالْتِزَامِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : إنْ بِعْتُ هَذَا الْمَمْلُوكَ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ ؛ فَقَالَ زَيْدٌ قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ أَوْ رَضِيت ذَلِكَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ - لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطٍ ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَقِّتْ الْيَمِينَ ، وَإِنَّمَا حَلَفَ فِي مِلْكِ

نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَالَ : إنْ اشْتَرَى زَيْدٌ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ ، فَقَالَ : نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَعْقِدْ الْيَمِينَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى مُلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَصَارَ عَاقِدًا لِيَمِينٍ مَوْقُوفَةٍ ، وَقَدْ أَجَازَهَا مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا .

وَقَالَ ابْن سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، فَقَالَ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ ، إيجَابُ الطَّلَاقِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ .
وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَالَ آخَر : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُهَا - فَإِنْ دَخَلَهَا الثَّانِي ، لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الطَّلَاقَ إنْ دَخَلَ الدَّارَ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِيجَابِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ حَتَّى تَطْلُقَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إذَا أُرِيد بِهِ الْيَمِينُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : لَأُطَلِّقَنَّهَا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا كَذَا هَذَا .

وَلَوْ قَالَ : عَبْدِي هَذَا حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَقَالَ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَدَخَلَ الثَّانِي - لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ عِتْقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ يَعْتِقُهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِعَبِيدِهِ الْمَوْجُودِينَ لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْحَالِفُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ نَسَمَةٌ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ ، فَقَالَ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ - فَهَذَا لَازِمُ لِلْأَوَّلِ وَلَازِمٌ لِلثَّانِي ؛ أَيُّهُمَا دَخَلَ لَزِمَهُ نَسَمَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ عِتْقًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ بِالنَّذْرِ ، وَإِذَا أَوْجَبَ آخَر مِثْلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَا أَوْجَبَ الْعِتْقَ بَلْ عَلَّقَ ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الثَّانِي إيجَابٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلٍ .

وَلَوْ قَالَ : كُلُّ مَا لِي هَدْيٌ وَقَالَ : آخَرُ وَعَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ ؛ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مِثْلَ قَدْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ ، إنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَكْثَرَ ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَقَلَّ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ تَمَامُ مَالِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِيجَابِ يُضَافُ إلَى هَدْيِ جَمِيعِ مَالِهِ كَمَا أَوْجَبَ الْأَوَّلُ ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَدْرَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ رَجُلٌ : كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ هَدْيٌ ، فَقَالَ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُضِفْ الْهَدْيَ إلَى الْمِلْكِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ بِالْإِضْمَارِ .
وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ إذَا كَانَ مَالًا مَمْلُوكَ النَّاذِرِ وَقْتَ النَّذْرِ ، أَوْ كَانَ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهَدْيِ مَا لَا يَمْلِكُهُ ، أَوْ بِصَدَقَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ لِلْحَالِ - لَا يَصِحُّ ، لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } إلَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمِلْكِ ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ : كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ هَدْيٌ ، أَوْ قَالَ فَهُوَ صَدَقَةٌ ، أَوْ قَالَ : كُلَّمَا اشْتَرَيْته أَوْ أَرِثُهُ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالصَّحِيحُ : قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .
دَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ الْمُضَافِ ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِنَذْرِهِ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ ، وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَى تَرْك الْوَفَاءِ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي النَّذْرِ الصَّحِيحِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ مَفْرُوضًا وَلَا وَاجِبًا ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا كَالْوِتْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُمْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْوَاجِبِ لَا يُتَصَوَّرُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ دَخَلَهُ أَبْطَلَهُ .

( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا ) حُكْمُ النَّذْرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ .
- أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَالنَّاذِرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ وَسَمَّى ، أَوْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ ، فَإِنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى ، بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ .
( أَمَّا ) الْكِتَابُ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، وقَوْله تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } ، وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } ، وَالنَّذْرُ نَوْعُ عَهْدٍ مِنْ النَّاذِرُ مَعَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ ، وَقَوْلُهُ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ الْعُهُودِ ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } أَلْزَمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ حَيْثُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ .
( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى } ، وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } ، وَالنَّاذِرُ شَرَطَ الْوَفَاءَ بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِنَوْعٍ مِنْ الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ الَّتِي لَهُ رُخْصَةُ تَرْكِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمُعَاقَبَةِ الْحَمِيدَةِ ، وَهِيَ نَيْلُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى ، وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ ، وَطَبْعُهُ لَا

يُطَاوِعُهُ عَلَى تَحْصِيلِهِ ، بَلْ يَمْنَعُهُ عَنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْكِ فَيَحْتَاجُ إلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عَنْ رُخْصَةِ التَّرْكِ ، وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحْصِيلِ ؛ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ التَّرْكِ فَيُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّذْر الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلَّهِ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَمْ يُجْزِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، كَمَا إذَا قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي - فَعَلَيَّ كَذَا ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِأَنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا ، أَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا - يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ وَفَّى بِالنَّذْرِ ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينَ الْغَصْبِ .
وَرَوَى عَامِرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَد عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ يُجْزِئُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - رَجَعَ إلَى الْكَفَّارَةِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ : قَرَأْت عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ الْأَيْمَانِ ، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

قَالَ : قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكَفَّارَةِ ، قَالَ : فَخَرَجْت حَاجًّا فَلَمَّا رَجَعْتُ وَجَدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - قَدْ مَاتَ ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِمَا سَمَّى ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ وَسَيِّدَتِنَا حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَقَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - شَرْطٌ وَجَزَاءٌ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، أَوْ تَحْصِيلُهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ ، فَقَدْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ قَالَ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ ، فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } الْآيَةَ ، وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ

الْمُطْلَقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْلُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ لَا الْكَفَّارَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ ؛ وَالْمُتَصَرِّف أَوْقَعَهُ نَذْرًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ إيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا إيجَابُ الْكَفَّارَةِ ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ : الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ يُؤَدِّي إلَى وُجُوبِ الْقَلِيلِ بِإِيجَابِ الْكَثِيرِ ، وَوُجُوبِ الْكَثِيرِ بِإِيجَابِ الْقَلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ ، أَوْ إطْعَامُ أَلْفِ مِسْكِينٍ - لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ ، أَوْ إطْعَامُ مِسْكَيْنِ - لَزِمَهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَثْبَتَ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مَا نَفَاهُ بِيَمِينِ اللَّغْوِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى جَلَّتْ كِبْرِيَاؤُهُ - : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّفْيِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - كَذَا فِي الْإِثْبَاتِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّذْرِ الْمُبْهَمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَمْنُوعٌ بِأَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ صَرِيحٌ فِي الْإِيجَابِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي الْإِيجَابِ ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - تَجِبُ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ - عَزّ اسْمُهُ - الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ ، وَلَيْسَ فِي الْحِنْثِ هَهُنَا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا

فِيهِ إيجَابُ الطَّاعَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - ، ثُمَّ الْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً ، إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ ، كَأَنَّهُ هُوَ ، كَالتُّرَابِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَالْأَشْهُرُ حَالَ عَدَمِ الْإِقْرَاءِ ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ الشَّيْخُ الْفَانِي بِالصَّوْمِ ، يَصِحُّ نَذْرُهُ ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَامَ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ، أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجِبُ ذَبْحُ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الْقُرْبَةِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لَمْ يَعْجِزْ عَنْ تَحْقِيقِهَا بِذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ خَلَفَهُ وَهُوَ الشَّاةُ ، كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَنْذُورِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا ، بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ أَفْطَرَ فَهَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ النَّذْرِ ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ النَّاذِرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا ، أَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا - يَكُونُ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ .
وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ ،

وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا - كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا ، بَلْ إذَا بَقِيَ نَذْرًا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَإِذَا صَارَ يَمِينًا لَمْ يَبْقَ نَذْرًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَتَحْتَمِلُ الْيَمِينَ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ ، أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَثْبُتْ الْمَجَازُ ، وَإِذَا انْقَلَبَ مَجَازًا لَمْ تَبْقَ الْحَقِيقَةُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي ، إذْ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْأَسَامِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي وُضِعَ لَهُ ، وَالْمَجَازُ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ وَضْعِهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرْبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَرِّرًا فِي مَحَلِّهِ ، وَمُنْتَقِلًا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِإِيجَابِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الْيَمِينِ وُجُوبُ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ ، بَلْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَوُجُوبُ الْفِعْلِ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ ، لِأَنَّهَا مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْفِعْلِ فِيهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَحْظُورَةً أَوْ

مُبَاحَةً .
وَلَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إلَّا فِيمَا لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جِنْسِهِ إيجَابٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ لِتَغَايُرِ الْوَاجِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَتْ بِنَذْرِهِ ، فَتَتَغَايَرُ الْوَاجِبَاتُ ، وَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ ، وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجَبًا فِي نَفْسِهِ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا كَأَنْ اقْتَدَى الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالْمَحْلُوفَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاجِبًا ، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ - وَهُوَ الْوُجُوبُ لِغَيْرِهِ - مَوْجُودًا فِي النَّذْرِ ، فَكَانَ كُلُّ نَذْرٍ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عَنْ وُجُوبِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ اعْتَبَرَهُ فَصَارَ نَذْرًا وَيَمِينًا .
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ مَعَ وُجُودِهِ وَتَقَرُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالنِّسْبَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِمَالُ لَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ كَالْكِتَابَةِ ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمَكَاتِبِ .

( وَأَمَّا ) النَّذْرُ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ مَا نَوَى إنْ كَانَ النَّاذِرُ نَوَى شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ ، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ ، وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَا تُجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُطْلَقًا يَحْنَثُ لِلْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّرْطِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ الَّذِي لَا نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فِيهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ هَذَا النَّذْرَ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً ، بِأَنْ قَالَ : إنْ صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ - وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } .
وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا ؛ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ ، وَفِي الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَإِنْ نَوَى طَعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا ؛ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ؛ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ ، فَلَمَّا نَوَى بِهِ الصِّيَامَ انْصَرَفَ إلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَانْصَرَفَ الْإِطْعَامُ إلَى طَعَامِ الْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ

وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ ، وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ ؛ وَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ ، فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ ، وَالنَّذْرُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَنْصَرِفُ إلَى أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ .

( وَأَمَّا ) وَقْتُ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ ، وَالْمَنْذُورُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ قُرْبَةً بَدَنِيَّةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَالِيَّةً كَالصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، فَوَقْتُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مُطْلَقًا ، فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الشَّرْطِ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ نَفْلًا ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ هُوَ إثْبَاتُ النَّذْرِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالشَّرْطِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، لِانْعِدَامِ السَّبَبِ قَبْلَهُ وَهُوَ النَّذْرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا ، أَوْ أَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدِ كَذَا - يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ

رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْأَدَاءَ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنْ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَذْرِهِ إلَّا مَا هُوَ قُرْبَةٌ ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ أَدَاءِ الْقُرْبَةِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً فَلَا يَدْخُلُ الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا ، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فِي يَوْمِ كَذَا - فَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَقْتُ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ نَفْلًا وَفِي وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ ، كَصَوْمِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ ؟ وَالنَّاذِرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الصَّوْمَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ

مَجِيئِهِ ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوَقْتِ ؛ بَلْ بِالْمَالِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِيهِ لَغْوًا ، بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النَّذْرُ ، فَكَانَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ : - أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ بِالنُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ .
( أَمَّا ) النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا خِدْمَةَ الْمَوْلَى ؛ وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ ، وَالتَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى مُحَالٌ ، وَالْعُبُودِيَّةُ دَائِمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ دَائِمًا ؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ ، وَالنِّعْمَةُ دَائِمَةٌ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا دَائِمًا حَسْبَ دَوَامِ النِّعْمَةِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا نَذَرَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ إذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَصَامَ ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ ، إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُهُ لِعُذْرِ السَّفَرِ ، فَإِذَا صَامَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَةَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ ، لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الشُّرُوعُ فِي نَفْلِ الْعِبَادَةِ اللُّزُومَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا ذَكَرنَا مِنْ الدَّلَائِلِ بِالشُّرُوعِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَ ، فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَذَا فِي النَّذْر .

وَالثَّانِي أَنَّهُ وُجِدَ سَبَب الْوُجُوب لِلْحَالِ وَهُوَ النَّذْر ، وَإِنَّمَا الْأَجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ فِي التَّأْخِيرِ ، فَإِذَا عَجَّلَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ إيجَابٍ ، أَعْنِي قَوْلَهُ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ وَالْأَصْلُ فِي كُلّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ فِيمَا يَقْتَضِيه فِي وَضْعِ اللُّغَةِ ، وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ إلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ إلَّا بِدَلِيلِ قَاطِعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ ، وَلَا إلَى تَغْيِيرِهَا ، وَلَا دَلِيلَ سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ ، وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ ، كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كَمَا فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ ، وَالْحَوْلِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ صِيغَةِ الْإِيجَابِ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، فَبَقِيَتْ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ ؛ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابِ صَوْمِ رَجَبٍ عَيْنًا ؛ بَلْ هُوَ إيجَابُ صَوْمٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّهْرِ ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ ، فَكَانَ ذِكْرُ رَجَبٍ لِتَقْرِيرِ الْوَاجِبِ لَا لِلتَّعْيِينِ ، فَأَيُّ شَهْرٍ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الشَّهْرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ إلَى رَجَبٍ تَعَيَّنَ رَجَبٌ ، لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهِ ، فَكَانَ تَعْيِينُ كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ رَجَبٍ بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ ، وَتَعْيِينُ رَجَبٍ بِمَجِيئِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِشَهْرٍ قَبْلَهُ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ إنْ

شَرَعَ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَكَمَا فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ ، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا ، أَنَّهَا تَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ إمَّا بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ ، وَإِمَّا بِآخِرِ الْعُمُرِ إذَا صَارَ إلَى حَالٍ لَوْ لَمْ يُؤَدَّ لَفَاتَ بِالْمَوْتِ .

( وَأَمَّا ) كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ أُضِيفُ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ ، وَإِمَّا إنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، فَحُكْمُهُ هُوَ حُكْمُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي ، حَكَى الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا ، فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْحَجِّ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى التَّرَاخِي .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي ، وَتَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ عُمُرِهِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَإِلَيْهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقْ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ إذَا بَقِيَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، فَكَذَلِكَ النَّذْرُ ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ الْوَقْتِ ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَكَذَا سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّذْرُ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مِنْ عُمُرِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ لَوْ لَمْ يَصُمْ فَيَضِيقُ الْوَقْتُ حِينَئِذٍ .
وَكَذَا حُكْمُ الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ

مُبْهَمٍ ، بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالْكَلَامِ ، بِأَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا ؛ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْيَمِينَ ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِأَنْ أَجَّرَ دَارِهِ ، أَوْ عَبْدَهُ شَهْرًا ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى شَهْرٍ مُنْكَرٍ ، وَالصَّرْفُ إلَى الشَّهْرِ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ يُعَيِّنُ الْمُنْكَرَ ، وَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُنْكَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ هُوَ الْأَصْلُ ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّعْيِينِ فِي بَابِ الْيَمِينِ وَالْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ الْكَلَامِ ، وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِإِهَانَتِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ الْحَالِ ، وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ لِلْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ، وَالْحَاجَةُ قَائِمَةٌ عَقِيبَ الْعَقْدِ ، فَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْعِقْدِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ ، وَيَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُبْهَمِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَيِّنِ .
وَلَوْ نَوَى شَهْرًا مُعَيَّنًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ ، ثُمَّ فِي النَّذْرِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ إنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلِاعْتِكَافِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي النَّوْعَيْنِ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ ، إلَّا أَنَّ فِي ذَات الِاعْتِكَافِ مَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَبْثًا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الِاتِّصَالِ ، وَاللَّيَالِي وَالنُّهُرُ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ وَمَبْنَى الصَّوْمِ لَيْسَ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ لِمَا بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ ،

فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ .
وَإِنْ أُضِيف إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا ، لَيْسَ لَهُ رُخْصَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَلَمْ يَصُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشُّهُورِ عَلَى رَجَبٍ حَتَّى هَجَمَ رَجَبٌ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ حَتَّى جَاءَ رَجَبٌ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى التَّضْيِيقِ ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّأْخِيرُ ، وَلَوْ صَامَ رَجَبًا وَأَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ شَهْرٍ آخَرَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا ، أَوْ قَالَ : أَصُومَ شَهْرًا وَنَوَى التَّتَابُعَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا - أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ ، وَصَحَّ الْإِيجَابُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ لِمَا يَلْحَقُهُ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ ، وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْإِفْطَارِ ، وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ ، فَيَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ ، فَإِذَا تَرَكَ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمُلْتَزَمِ ؛ فَيَسْتَقْبِلُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ .
فَأَمَّا هَهُنَا فَمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةٌ ، فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ مَا أَفْطَرَ ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّذْرُ ، وَلَوْ أَتَمَّ وَقَضَى يَوْمًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ

فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى ، وَلَوْ أَفْطَرَ رَجَبًا كُلَّهُ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ النَّذْرِ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَيُعْتَبَرُ بِالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ ) الْكَلَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي مَوَاضِعَ : فِي .
بَيَانِ أَنْوَاعِهَا ، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِهِ ، ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْكَفَّارَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ ، وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ ، وَالْكُلُّ وَاجِبَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَوَاحِدَةٌ مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ ، ( أَمَّا ) الْأَرْبَعَةُ الَّتِي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } .
وَالْكَفَّارَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ ، وَقَالَ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ، أَيِّ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ { : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ } أَيْ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ

شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْخَبَرِ لَكِنْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ لَأَدَّى إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ ، وَالْأَمْرُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي الْقُرْآنِ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } أَيْ لِيُرْضِعْنَ ، وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } ، أَيْ فَعَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا ( وَأَمَّا ) كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَلَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسَّنَةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَاذَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي مَا أَعْتِقُ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ : لَا أَجِدُ مَا أُطْعِمُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ : خُذْهَا وَفَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَقَالَ : أَعَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجَ مِنِّي ، وَاَللَّهِ مَا بَيْن لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :

كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَك } فَقَدْ أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْتَاقِ ثُمَّ بِالصَّوْمِ ثُمَّ بِالْإِطْعَامِ ، وَمُطَلَّقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلِوُجُوبِهَا كَيْفِيَّتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ مُطْلَقًا ، وَبَعْضَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا ، وَبَعْضَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي حَالٍ وَالتَّعْيِينِ فِي حَالٍ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ التَّحْرِيرُ عَلَى التَّعْيِينِ ، لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَالْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةُ الْإِطْعَامِ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ ، لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } ، وَكَذَا الْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي فَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا غَيْرَ عَيْنٍ ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْحَالِفِ يُعَيِّنُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ ، وَلِلْمَأْمُورِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ .
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَعْرُوفٍ يُذْكَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ، لِأَنَّ كَلِمَةَ " أَوْ " إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ أَفْعَالٍ - يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهَا لَا الْكُلُّ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِيجَابِ جَمِيعًا ، يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَيُرَادُ بِهِ مَجِيءُ أَحَدِهِمَا ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ بِعْ هَذَا أَوْ

هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيلًا بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا ، فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ مُقْتَضَى اللُّغَةِ ، وَلِدَلَائِلَ أُخَرَ عُرِفَتْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } .

وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا .
وَمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى التَّرَاخِي هُوَ أَنْ يَجِبَ فِي جُزْءٍ مِنْ عُمُرِهِ غَيْرِ عَيْنٍ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا ، أَوْ فِي آخِرِ عُمُرِهِ ؛ بِأَنْ أَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ لَفَاتَ ، فَإِذَا أَدَّى فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ لِتَضْيِيقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَمْ يُوصِ لَا يُؤْخَذُ وَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ وَرَثَتُهُ جَازَ عَنْهُ فِي الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، وَأَطْعَمُوا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ، وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أَطْعَمُوا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْإِعْتَاقِ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ ، وَلَا أَنْ يَصُومُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ } ، وَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَيُطْعِمُ الْوَصِيُّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى فَقَدْ بَقِيَ مِلْكُهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ ، وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إنْ بَلَغَ ثُلُثُ مَالِهِ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ، وَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ فِيهَا وَإِنْ أَوْصَى لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ ، وَلَا

يَجُوزُ الْفِدَاءُ عَنْهُ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ ، وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ثُمَّ مَاتَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يَسْتَأْنِفُ فَيُغَدِّي وَيُعَشِّي غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَفْرِيقِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَلَى شَخْصَيْنِ لِمَا نَذْكُرُ ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ ، وَلَوْ قَالَ أَطْعِمُوا عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً وَلَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةً فَغَدَّوْا عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يُعَشُّوا عَشَرَةً غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْكَفَّارَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةً فَكَانَ سَبَبُهُ النَّذْرَ فَجَازَ التَّفْرِيقُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْعِلَلِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ وَالصَّوْمِ وَالْجِنَايَاتِ ، وَمِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ ، وَهَذَا شَرْطٌ مَعْقُولٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ فِعْلٍ بِدُونِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهِ عَيْنًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ، فَلَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى كِفَايَتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ شَرْطًا لِوُجُوبِ التَّحْرِيرِ وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَجَدَ أَوْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ عَدَمِ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ مَعْنًى ، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُودِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَإِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْرِيرُهَا سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ حَقِيقَةً ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَيْنُ رَقَبَةٍ وَلَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى كِفَايَتِهِ يَجِبُ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى قَدْرِ كِفَايَةِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الرَّقَبَةِ وَلَا فِي مِلْكِهِ عَيْنُ الرَّقَبَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ لِأَنَّ قَدْرَ الْكَفَّارَةِ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ ، وَالْمُسْتَحِقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، كَالْمَاءِ الْمُحْتَاجِ

إلَيْهِ لِلشُّرْبِ فِي السَّفَرِ حَتَّى يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَحِقَّ الصَّرْفِ إلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْإِبْهَامِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ فَضْلٌ عَلَى كِفَايَةِ مَا يَجِدُ بِهِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا مَعْنًى ، أَوْ يَكُونُ فِي مِلْكِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلتَّكْفِيرِ ، أَوْ كِسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا حَقِيقَةً ، وَكَذَا لَا يَجِبُ الصِّيَامُ وَلَا الْإِطْعَامُ فِيمَا لِلطَّعَامِ فِيهِ مُدْخَلٌ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُمْتَنِعٌ وَلِقَوْلِهِ - عَزَّ اسْمُهُ - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ { : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فَدَلَّ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الصَّوْمِ شَرْطٌ لِوُجُوبِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إلَّا الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَكَذَا الْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ .

( وَمِنْهَا ) : الْعَجْزُ عَنْ التَّحْرِيرِ عَيْنًا فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهَا ، لِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابَعَيْنِ } أَيْ مَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً ، شَرَطَ - سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى - عَدَمَ وُجُودِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْرِيرِ .
( وَأَمَّا ) فِي كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَالْعَجْزُ عَنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } أَيْ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَاحِدًا مِنْهَا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا ، ( وَأَمَّا ) الْعَجْزُ عَنْ الصِّيَامِ فَشَرْطٌ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِيمَا لِلْإِطْعَامِ فِيهِ مَدْخَلٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَجِبُ الْإِطْعَام مَعَ اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْعَجْزُ وَقْتَ الْوُجُوبِ أَمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ ، قَالَ : أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : وَقْتَ الْأَدَاءِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقْتَ الْوُجُوبِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ ثُمَّ أُعْسِرَ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً فَيُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالْحَدِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا زَنَى ثُمَّ أُعْتِقَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ .
( وَالدَّلِيلُ ) عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الْجِنَايَةُ مِنْ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ وَالْحِنْثِ ، وَتَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْجِنَايَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ مُؤَثِّرٍ فَيُحَالُ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا قَالُوا هَذَا ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ

وَالْإِعْسَارِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْوُجُوبِ كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالصَّلَاةِ بِأَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَضَاهَا فِي الْمَرَضِ قَاعِدًا أَوْ بِالْإِيمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ ( وَالدَّلِيلُ ) عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَأَنَّ لَهَا بَدَلًا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ، وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ ، وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَإِنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ إلَّا فِي الْعِبَادَاتِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ أَوْ قَبْلَ تَمَامِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيَبْطُلُ الْبَدَلُ ، وَيَنْتَقِلُ الْأَمْرُ إلَى الْمُبْدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا عِنْدَنَا ، وَكَالصَّغِيرَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِشَهْرٍ ثُمَّ حَاضَتْ إنَّهُ يَبْطُلُ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَيَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى الْحَيْضِ ، وَإِذَا أُعْسِرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالْبَدَلِ كَوَاجِدِ الْمَاءِ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بَلْ هُوَ عُقُوبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ، وَكَذَا لَا بَدَلَ لَهُ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبِيدِ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَدُّ الْعَبِيدُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى حَدِّ الْأَحْرَارِ ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَالتُّرَابِ

مَعَ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ ، أَوْ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَقَامَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ ، وَلَا صَلَاةَ الْمُقِيمِ بَدَلٌ عَنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ، بَلْ صَلَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَاهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأُخْرَى ؟ وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ ، وَكَذَا السِّعَايَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُخَيَّرٌ عِنْدَهُمْ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي الشَّرِيعَةِ ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْجِنَايَةُ فَمَمْنُوعٌ ، بَلْ سَبَبُ وُجُوبِهَا مَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ ، إذْ هِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْبَةِ ، وَإِنَّمَا الْجِنَايَةُ شَرْطٌ كَمَا فِي التَّوْبَةِ ، هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ ، أَوْ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ كَانَ مُوسِرًا ثُمَّ أُعْسِرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْأَوَّلِ وَيُجْزِئُهُ فِي الثَّانِي ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِوَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْأَدَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّوْمِ وَوُجُوبِهِ وَهُوَ عَدَمُ الرَّقَبَةِ فَجَازَ بَلْ وَجَبَ ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَمْ يَجُزْ ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الشَّرْطِ لِلْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَوَّلِ وَوُجِدَ فِي الثَّانِي ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ ، ذَكَرَ هَذَا فِي الْأَصْلِ ، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْبَدَلُ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَوْ أَفْطَرَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْضِي ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَهُوَ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّوْمَ ، وَلَوْ أَفْطَرَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْضِي عَلَى صَوْمِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ لِوَقْتِ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ ، وَوَقْتُ الْوُجُوبِ كَانَ مُعْسِرًا ، وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ الْإِتْمَامِ جَازَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَدَلَ ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ إنَّهُ تَبْطُلُ الْفِدْيَةُ وَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هُوَ الَّذِي لَا تُرْجَى لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الصَّوْمِ ، فَإِذَا قَدَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْخًا فَانِيًا ، وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِثْلٍ لِلصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَتْ بَدَلًا ضَرُورِيًّا ، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَبَطَلَتْ الْقُدْرَةُ ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَبَدَلٌ مُطَلَّقٌ فَلَا يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ كُلِّ نَوْعٍ فَلِجَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ شَرَائِطُ ، بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، ( أَمَّا ) الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ فَنِيَّةُ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدِهِمَا فِي بَيَانِ أَنَّ نِيَّةَ الْكَفَّارَةِ شَرْطُ جَوَازِهَا وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ النِّيَّةِ ، ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْفِيرَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ ، وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى صَوْمُ الْكَفَّارَةِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْ كَفَّارَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَنْ كُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَهَلْ يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا ؟ فَالْكَفَّارَتَانِ الْوَاجِبَتَانِ لَا يَخْلُو .
( أَمَّا ) إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ ( فَإِنْ ) وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً يَنْوِي عَنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ ، ( وَإِنْ ) وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَظِهَارَيْنِ أَوْ قَتْلَيْنِ يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَالتَّوْزِيعِ هَلْ تَقَعُ مُعْتَبَرَةً أَمْ تَقَعُ لَغْوًا ، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجِنْسَيْنِ

الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَغْوٌ فِيهِمَا جَمِيعًا ، ( وَأَمَّا ) فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فَهِيَ لَغْوٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ مُعْتَبَرَةٌ قِيَاسًا .
( أَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْكَفَّارَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَنِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِمَا ذَكَر .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ مُحْتَاجًا إلَيْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ ، وَمَتَى صَحَّتْ أَوْجَبَتْ انْقِسَامَ عَيْنِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى كَفَّارَتَيْنِ فَيَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَا عَنْ هَذِهِ وَلَا عَنْ تِلْكَ ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ الْكَفَّارَتَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَنَعَمْ مِنْ حَيْثُ هُمَا كَفَّارَةٌ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَقَدْرًا وَصِفَةً ، ( أَمَّا ) السَّبَبُ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، ( وَأَمَّا ) الْقَدْرُ فَإِنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُل فِي الْأُخْرَى وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ ، ( وَأَمَّا ) الصِّفَةُ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقَةٌ عَنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِهَا ، وَإِذَا اخْتَلَفَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ فَانْقَسَمَ عِتْقُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَجُزْ عَنْ إحْدَاهُمَا ؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ كَافِرَةً وَتَعَذَّرَ صَرْفُهَا إلَى الْكَفَّارَةِ لِلْقَتْلِ انْصَرَفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى الظِّهَارِ وَجَازَتْ عَنْهُ ، كَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ( وَنَظِيرُهُ ) مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا وَتَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كَانَتَا فَارِغَتَيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةً وَالْأُخْرَى

فَارِغَةً يَجُوزُ نِكَاحُ الْفَارِغَةِ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْقَعَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ وَالِانْقِسَامِ فَيَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَبِهَذَا لَمْ يَجُزْ عَنْ إحْدَاهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ إذْ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ فَتَقَعُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، كَمَا فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ فَصَامَ يَوْمًا يَنْوِي قَضَاءَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ مَا عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ فَلَا تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ بَلْ تُعْتَبَرُ وَمَتَى اُعْتُبِرَتْ يَقَعْ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ نِصْفُ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْهُ .
كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ يَوْمٍ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَنَوَى مِنْ اللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا عَنْهُمَا كَانَتْ نِيَّةُ التَّوْزِيعِ مُعْتَبَرَةً حَتَّى لَا يَصِيرَ صَائِمًا عَنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الِانْقِسَامَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ عَنْ ظِهَارَيْنِ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ

صَاعًا عَنْ يَمِينَيْنِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ فِيهِمَا بِالْإِجْمَاعِ .
( وَأَمَّا ) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْكَفَّارَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ بَلْ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ هَهُنَا وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ يَدْفَعُ سِتِّينَ صَاعًا إلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ أَنَّ نِصْفَهُ عَنْ هَذَا وَنِصْفَهُ عَنْ ذَاكَ ، وَلَوْ لَمْ يُعَيَّنْ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا كَذَا هَذَا ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ : إنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ إنَّمَا تَبْطُلُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا ، وَهَهُنَا فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ وَهِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا ، وَيَقُولُ : إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا يَكُونُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ ، وَلِهَذَا قَالَ إذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْهُمَا لَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَقَعَ الْمُؤَدَّى عَنْهُمَا فَجَازَ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) شَرْطُ جَوَازِ النِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ التَّكْفِيرِ ، فَإِنْ لَمْ تُقَارِنْ الْفِعْلَ رَأْسًا ، أَوْ لَمْ تُقَارِنْ فِعْلَ التَّكْفِيرِ بِأَنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ وَإِيقَاعِهِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ ، وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ ، وَالْإِرَادَةُ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ كَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّ بِهَا يَصِيرُ الْفِعْلُ اخْتِيَارِيًّا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَوْ ظِهَارِهِ أَوْ إفْطَارِهِ أَوْ قَتْلِهِ أَجُزْأَهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِيَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَنَا ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَارَنَتْ النِّيَّةُ الْإِعْتَاقَ فَجَازَ ، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ وَالشِّرَاءُ شَرْطٌ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَجُوزُ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الشِّرَاءَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِفَائِهَا لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ مَا وَضَعَ الشِّرَاءَ لِلْإِعْتَاقِ ، ( وَأَمَّا ) الْمَجَازُ فَلِأَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ فِي الْمَعْنَى اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَلَا مُشَابَهَةَ هَهُنَا أَصْلًا ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ تَمَلُّكٌ وَالْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ ، وَبَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدًا إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } سَمَّاهُ مُعْتَقًا عَقِيبَ الشِّرَاءِ وَلَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ وَقَعَ إعْتَاقًا مِنْهُ

عَقَلْنَا وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ نَعْقِلْ ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَجَازَ ، وَقَوْلُهُمَا " الشِّرَاءُ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً " مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ إعْتَاقٌ حَقِيقَةً لَكِنْ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ ، وَالْحَقَائِقُ أَنْوَاعٌ : وَضْعِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَقَبِلَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ فَقَارَنَتْ النِّيَّةُ فِعْلَ الْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ وَرِثَهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا فَلَمْ يُوجَدْ قِرَانُ النِّيَّةِ الْفِعْلَ فَلَا يَجُوزُ .
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ : إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ الشِّرَاءِ يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَمْ تُقَارِنْهُ النِّيَّةُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي أَوْ ظِهَارِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُجْزِيهِ لِقِرَانِ النِّيَّةِ كَلَامَ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : مَا اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ قَتْلِي ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ قَتْلِي فَقَدْ أَرَادَ فَسْخَ الْأَوَّلِ ، وَالْيَمِينُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ تَطَوُّعًا ، ثُمَّ قَالَ : إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ كَانَ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ بِالْأَوَّلِ عَلَّقَ عِتْقَهُ تَطَوُّعًا بِالشِّرَاءِ ، ثُمَّ أَرَادَ بِالثَّانِي فَسْخَ الْأَوَّلِ ، وَالْيَمِينُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَيَبْدَأُ بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ بِالْكِسْوَةِ ثُمَّ بِالتَّحْرِيرِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } فَنَقُولُ : لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّمْلِيكُ وَهُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَالَ الْحَكَمُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمْلِيكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّمْلِيكُ شَرْطُ الْجَوَازِ ، لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ التَّكْفِيرَ مَفْرُوضٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ ، وَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمِسْكَيْنِ مِنْ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمُقَدَّرُ ، إذْ الْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ ، يُقَالُ : فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أَيْ قَدَّرْتُمْ فَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ

بِمُقَدَّرٍ ، وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَهْلَكُ الْمَأْكُولُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا كَفَّارَةَ بِمَا يَهْلَكُ فِي مِلْكِ الْمُكَفِّرِ ، وَبِهَذَا شَرَطَ التَّمْلِيكَ فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } ، وَالْإِطْعَامُ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الْمَطْعَمِ لَا التَّمْلِيكِ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ، وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ لَا التَّمْلِيكُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ } وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ أَيْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، بَلْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ التَّمْلِيكُ ؛ فَدَلَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ التَّطَعُّمِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَلَكَ جَازَ لِأَنَّ تَحْتَ التَّمْلِيكِ تَمْكِينًا لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ فَقَدْ مَكَّنَّهُ مِنْ التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ فَيَجُوزُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ ، وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ : " إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ " وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ ، وَاخْتِصَاصُ الْمِسْكِينِ لِلْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ الطَّعَامِ دُونَ تَمَلُّكِهِ تَعُمُّ الْمِسْكِينَ وَغَيْرَهُ ، فَكَانَ فِي إضَافَةِ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّطَعُّمِ لَا التَّمْلِيكِ ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ هُنَاكَ

لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَالْأَدَاءِ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الزَّكَاةِ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وَقَالَ - تَعَالَى - فِي الْعُشْرِ : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ : { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } الْحَدِيثَ ، وَالْإِيتَاءُ وَالْأَدَاءُ يُشْعِرَانِ بِالتَّمْلِيكِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ إنْ كَانَ هُوَ التَّمْلِيكَ كَانَ النَّصُّ مَعْلُولًا بِدَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّمْكِينِ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ ، بَلْ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ مِنْ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الدَّفْعِ وَالسَّدِّ بِتَمْلِيكِ الْحِنْطَةِ إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ ، وَإِلَّا بَعْدَ تَحَمُّلِ مُؤَنٍ ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّمْلِيكِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلسَّيِّئَةِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ الَّتِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهَا ، حَيْثُ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَهِدَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فَخَرَجَ فِعْلُهُ مَخْرَجَ نَاقِضِ الْعَهْدِ وَمُخْلِفِ الْوَعْدِ ؛ فَجُعِلَتْ كَفَّارَتُهُ بِمَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَتَتَأَلَّمُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهَا لِيَذُوقَ أَلَمَ إخْرَاجِ مَالِهِ الْمَحْبُوبِ عَنْ مِلْكِهِ فَيُكَفِّرُ مَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ ، لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ أُذِنَ لَهُ فِيهَا ، وَمَعْنَى تَأَلُّمِ الطَّبْعِ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسَاكِينِ وَجَمْعَهُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَخِدْمَتَهُمْ وَالْقِيَامَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ أَشَدُّ عَلَى الطَّبْعِ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ لِمَا جُبِلَ طَبْعُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى النُّفْرَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَمِنْ الِاخْتِلَاطِ مَعَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّكْفِيرِ فَكَانَ تَجْوِيزُ

التَّمْلِيكِ تَكْفِيرًا تَجْوِيزٌ لِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ تَكْفِيرًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : " إنَّ الْكَفَّارَةَ مَفْرُوضَةٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ " فَنَقُولُ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَرَضَ هَذَا الْإِطْعَامَ وَعُرِفَ الْمَفْرُوضُ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَهْلُ مَعْلُومًا ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ طَعَامِ الْأَهْلِ هُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَقَدْرُهُ الْكَفَّارَةُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا كَطَعَامِ الْأَهْلِ فَيُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ الطَّعَامَ يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِ الْمُكَفِّرِ فَلَا يَقَعُ عَنْ التَّكْفِيرِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ كَمَا صَارَ مَأْكُولًا فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا يَكْفِي لِصَيْرُورَتِهِ كَفَّارَةً كَالْإِعْتَاقِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ فَالْمِقْدَارُ فِي التَّمْلِيكِ هُوَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِيَرْفَأَ مَوْلَاهُ : إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ لَا أُعْطِيهِمْ ثُمَّ يَبْدُو لِي فَأُعْطِيهِمْ ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأُطَّ عَمْ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، وَبَلَغَنَا عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمِنْ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ : لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ - : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَالْمُدُّ لَيْسَ مِنْ الْأَوْسَطِ بَلْ أَوْسَطُ طَعَامِ الْأَهْلِ يَزِيدُ عَلَى الْمُدِّ فِي الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِقُوتِ مِسْكِينٍ لِيَوْمٍ فَلَا تَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأَذَى ، فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مُدًّا مُدًّا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فِي التَّمْلِيكِ مُدًّا فَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ فِي التَّمْلِيكِ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ ،

وَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَالْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ حِنْطَةٌ إلَّا أَنَّهُ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا بِالطَّحْنِ .
وَهَذَا التَّفْرِيقُ تَقْرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ ، وَيُعْتَبَرُ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يَقُومُ الْبَعْضُ مَقَامَ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ كَيْلِهِ حَتَّى لَوْ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ فَأَمَّا الْأَرُزُّ وَالذُّرَةُ وَالْجَارُوسُ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا عُيِّنَّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ .

وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
( وَلَنَا ) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إطْعَامَ الْمِسْكِينِ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَتَمَكَّنُ الْمِسْكِينُ بِهِ مِنْ التَّطَعُّمِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَمْلِيكِ الْقِيمَةِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْقِيمَةِ مِنْ الْفَقِيرِ إطْعَامًا لَهُ ؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّصُّ جَوَازَ التَّمْلِيكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ إنْ كَانَ اسْمًا لِلتَّمْلِيكِ فَجَوَازُهُ مَعْلُولٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ ، عَرَفَنَا ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْقِيمَةُ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ مِثْلُ الطَّعَامِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ الطَّعَامِ يَكُونُ وُرُودًا بِجَوَازِ الْقِيمَةِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ أَقْرَبُ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى مَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْغِذَاءِ الَّذِي اعْتَادَ الِاغْتِذَاءَ بِهِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يَحْمِلُ مَكْرُوهَ الطَّبْعِ بِإِزَاءِ مَا نَالَ مِنْ الشَّهْوَةِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ حَقًّا لِلْمِسْكِينِ ، فَمَتَى أَخْرَجَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَدَلَهُ وَقَبِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ عَنْ طَوْعٍ فَقَدْ اسْتَبْدَلَ حَقَّهُ بِهِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هَذَا الِاسْتِبْدَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّنَاوُلِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ .

( وَأَمَّا ) الْمِقْدَارُ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ فَأَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يُطْعِمُهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجْبَةً وَاحِدَةً ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - عَرَّفَ هَذَا الْإِطْعَامَ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَذَلِكَ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً كَذَا هَذَا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - ذَكَرَ الْأَوْسَطَ .
وَالْأَوْسَطُ مَا لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ ، وَأَقَلُّ عَدَدٍ لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ ثَلَاثَةٌ ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً : أَحَدُهَا الْوَسَطُ فِي صِفَاتِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ .
وَالثَّانِي الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ مِنْ السَّرَفِ وَالْقَتْرِ .
وَالثَّالِثُ الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ أَحْوَالُ الْأَكْلِ مِنْ مَرَّةٍ وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثِ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا بِسَمْعِيٍّ تَعْيِينُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ الْكُلِّ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وَهُوَ أَكْلَتَانِ فِي يَوْمٍ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ ، وَالسَّرَفِ وَالْقَتْرِ ، وَلِأَنَّ أَقَلَّ الْأَكْلِ فِي يَوْمٍ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَجْبَةِ ، وَهُوَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى زَوَالِ يَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ .
وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَفِي نِصْفِ الْيَوْمِ ، وَالْوَسَطَ مَرَّتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً وَهُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَكَذَلِكَ إذَا غَدَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ ، أَوْ عَشَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ ، أَوْ غَدَّاهُمْ غَدَاءَيْنِ ، أَوْ عَشَّاهُمْ عَشَاءَيْنِ ، أَوْ سَحَّرَهُمْ

سَحُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَكْلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ ، فَإِذَا غَدَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ عَشَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ كَانَ كَأَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْنًى إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى لَوْ غَدَّى عَدَدًا وَعَشَّى عَدَدًا آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ أَكْلَتَانِ .
وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي التَّمْلِيكِ بِأَنْ فَرَّقَ حِصَّةَ مِسْكِينٍ عَلَى مِسْكِينَيْنِ فَكَذَا فِي التَّمْكِينِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّعَامُ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ ، حَتَّى لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا بِلَا إدَامٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْدُومِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَطْعَمَ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَرَّفَ الْإِطْعَامَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ .
وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَأْدُومًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَأْدُومٍ فَكَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْعَمَ خُبْزَ الشَّعِيرِ أَوْ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ فِي طَعَامِ الْأَهْلِ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ : قَالَ إذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا غَدَاءً وَعَشَاءً أَجْزَأَهُ مِنْ إطْعَامِ مَسَاكِينَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ إلَّا رَغِيفًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْكِفَايَةُ وَالْكِفَايَةُ قَدْ تَحْصُلُ بِرَغِيفٍ وَاحِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ ، فَإِنْ مَلَّكَهُ الْخُبْزَ بِأَنْ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ فَإِنْ كَانَ يَعْدِلُ ذَلِكَ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَكَانَ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مُدًّا مُدًّا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ حَالَ الِانْفِرَادِ كَذَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ ، وَلِأَنَّ الْغَدَاءَ مُقَدَّرٌ

بِنِصْفِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ وَالْمُدَّ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَتِهِ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كِفَايَةُ يَوْمٍ فَيَجُوزُ ، فَإِنْ أَعْطَى غَيْرَهُمْ مُدًّا مُدًّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فَرَّقَ طَعَامَ الْعَشَرَةِ عَلَى عِشْرِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ كِفَايَتِهِ ، وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَى قِيمَةَ الْعَشَاءِ فُلُوسًا وَدَرَاهِمَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْكَفَّارَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَقُومُ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا ، فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْغَنِيِّ عَنْ الْكَفَّارَةِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ يَجُوزُ إطْعَامُهُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ إيَّاهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ ، وَهَذَا فِي إطْعَامِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُرَاهِقًا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فَيَحْصُلُ الْإِطْعَامُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكَهُ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِ صَرْفٌ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُهُمْ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ لِمَا اقْتَرَفَ مِنْ الذَّنْبِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مُنَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى هَوَاهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الْآذِنِ وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِمَا تَتَأَلَّمُ بِهِ النَّفْسُ وَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ لِيُذِيقَ نَفْسَهُ الْمَرَارَةَ بِمُقَابَلَةِ إعْطَائِهَا مِنْ الشَّهْوَةِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِإِطْعَامِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَأَلَّمُ بِهِ بَلْ تَمِيلُ إلَيْهِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ

- سُبْحَانَهُ - الطَّبَائِعَ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ نُزُولَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ بِهِمْ ، وَبِحَيْثُ يَجْتَهِدُ كُلٌّ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْهُمْ مِثْلَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَوْ أَطْعَمَ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ وَهُوَ فَقِيرٌ جَازَ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَدَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } ، وَلَوْ أَطْعَمَ وَلَدَهُ أَوْ غَنِيًّا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَرِهَ لَهُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَعَوَّضَهُمْ بِخُمْسِ الْخُمْسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً لَهُ لِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ تَأَلُّمُ الطَّبْعِ وَنِفَارُهُ بِالْبَذْلِ وَالْإِخْرَاجِ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِمَا يُوجَدُ الْبَذْلُ بَيْنَهُمَا شَهْوَةً وَطَبِيعَةً وَيَكُونُ التَّنَاكُحُ لِمِثْلِهِ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ عَلَى مَا رُوِيَ { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا } ، وَعَلَى مَا وُضِعَ النِّكَاحُ لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَذْلِ وَدَفْعِ الشُّحِّ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخِرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ فَتَتَمَكَّنُ الْتَهَمَهُ فِي الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - نَهَانَا عَنْ الْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } وَلِأَنَّ فِي الدَّفْعِ إلَى الْحَرْبِيِّ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْحِرَابِ مَعَ

الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَيَجُوزُ إعْطَاءُ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا الزَّكَاةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا النُّذُورُ وَالتَّطَوُّعُ وَدَمُ الْمُتْعَةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْكَافِرِ كَالزَّكَاةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ ، وَالتَّطَوُّعُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا ، وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِ الْمُتْعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْإِرَاقَةِ .
( وَلَهُمَا ) عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِمَا تَلَوْنَا فَبَقِيَ الذِّمِّيُّ عَلَى عُمُومِ النَّصِّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ خُصَّتْ { بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } ، أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَدِّ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فَكَذَا الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } .
( وَوَجْهُ ) الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ الْمَسْكَنَةِ وَالْمَسْكَنَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَرَةِ فَيَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كَمَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْمُسْلِمِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا يُرَغِّبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ بِمَا اخْتَارَ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا فِيمَا لَا

يَحِلُّ لَهُ فَتَكُونُ كَفَّارَتُهَا بِكَفِّ النَّفْسِ عَنْ شَهْوَتِهَا فِيمَا يَحِلُّ لَهُ وَبَذْلِ مَا كَانَ فِي طَبْعِهِ مَنْعُهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ بَلْ بِحَقِّ الشُّكْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ بِلَا كَسْبٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ ؟ وَحَقُّ الشُّكْرِ الْإِنْفَاقُ فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ ، وَالصَّرْفُ إلَى الْمُؤْمِنِ إنْفَاقٌ عَلَى مَنْ يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - فَيَخْرُجُ مَخْرَجَ الْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الشُّكْرِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْكَافِرُ لَا يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّكْرِ عَلَى التَّمَامِ ، فَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا بَلْ تَكْفِيرًا لِإِعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا بِإِخْرَاجِ مَا فِي شَهْوَتِهَا الْمَنْعُ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ مَوْجُودٌ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا .

وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ صُورَةً فِي الْإِطْعَامِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَرْطٌ ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَصْوُعٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلُّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ ، أَوْ غَدَّى مِسْكِينًا وَاحِدًا أَوْ عَشَّاهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَجْزَأَ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } نَصَّ عَلَى عَدَدِ الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ فِي النَّصِّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَكْفِيَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ سَوَاءٌ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ لَا ، فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ قَدْرَ مَا يَكْفِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَقَدْ وُجِدَ إطْعَامَ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى إطْعَامِ مَسَاكِينَ إنْ كَانَ هُوَ بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، لَكِنَّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ يَكُونُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةً مِنْ الْمَسَاكِينِ عَدَدًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنًى لَا صُورَةً وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ لِدَفْعِ الْجَوْعَةِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ ، وَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ جَوْعَةٌ وَمَسْكَنَةٌ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ الْجُوعَ يَتَجَدَّدُ ، وَالْمَسْكَنَةُ تَحْدُثُ فِي

كُلِّ يَوْمٍ ، وَدَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عَنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي مَعْنَى دَفْعِ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عَنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، فَكَانَ هَذَا إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مَعْنًى فَيَجُوزُ .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا رُوِيَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ثُمَّ لَوْ اسْتَنْجَى بِالْمَدَرِ أَوْ بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ التَّطْهِيرُ كَذَا هَذَا ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ يَقْتَضِي سُقُوطَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ الدَّفْعِ وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِتَكْفِيرِ مَا أَتْبَعَهَا هَوَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى مُنَاهَا ، كَمَا خَالَفَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي فِعْلِهِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى فِي بَذْلِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لَا فِي مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ صُورَةً بِخِلَافِ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الْحَدِّ وَالْعِدَّةِ ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ وَهَهُنَا مَعْقُولٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَبِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ إقَامَةُ الْوَاحِدِ فِيهَا فِي يَوْمَيْنِ أَوْ فِي دَفْعَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ لَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَهُوَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ وَمَنْفَعَةُ التَّصْدِيقِ وَنَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَهُنَا مَعْنَى التَّكْفِيرِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ وَسَدُّ الْمَسْكَنَةِ لَا يَخْتَلِفُ لِمَا بَيَّنَّا .
( وَأَمَّا ) إذَا دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ دَفَعَاتٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا : قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ .
وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا : لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ

ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِدَلِيلٍ كَمَا صَارَ مَخْصُوصًا فِي حَقِّ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ مِنْ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ وَنَحْوِهِمْ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ ، وَلَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ هُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ إذْ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ لِدَفْعِ الْجُوعِ وَإِزَالَةِ الْمَسْكَنَةِ وَفِي الْحَاصِلِ دَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ وَهَذَا فِي وَاحِدٍ فِي حَقِّ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِيقِ الدَّفْعِ عَلَى الْأَيَّامِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ كَمَا فِي رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّهُ إذَا رَمَى بِالْحَصَى مُتَفَرِّقًا جَازَ ، وَلَوْ رَمَى مُجْتَمِعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ وَوُجِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا فَجَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّى رَجُلًا وَاحِدًا عِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ عَشَّى رَجُلًا وَاحِدًا فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الْكِسْوَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ قَدْرِهَا ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَصْرِفِهَا ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَأَدْنَى الْكِسْوَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَمِيصٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ أَوْ مِلْحَفَةٌ أَوْ جُبَّةٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ إزَارٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الْبَدَنَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكِسْوَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّقْدِيرَ فَكُلَّ مَا يُسَمَّى لَابِسُهُ مُكْتَسِيًا يُجْزِي وَمَا لَا فَلَا وَلَابِسُ مَا ذَكَرْنَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا تُجْزِي الْقَلَنْسُوَةُ وَالْخُفَّانِ وَالنَّعْلَانِ لِأَنَّ لَابِسَهُمَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَلَا هِيَ تُسَمَّى كِسْوَةً فِي الْعُرْفِ .
وَأَمَّا السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا ، رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَعْطَى مِسْكِينًا قَبَاءً أَوْ كِسَاءً أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ عِمَامَةً سَابِغَةً يَجُوزُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ .
وَرَوَى هِشَامٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِيهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي الْعِمَامَةِ ، لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ شَرَطَ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ سَابِغَةً ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ فِيهَا عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ سَابِغَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكْفِيَ تَقْمِيصَ وَاحِدٍ ( وَأَمَّا ) السَّرَاوِيلُ ( فَوَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ كَالْقَمِيصِ ( وَوَجْهُ ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ وَهِيَ الَّتِي صَحَّحَهَا الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا عُرْفًا وَعَادَةً بَلْ يُسَمَّى عُرْيَانًا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْكِسْوَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إذَا كَسَا امْرَأَةً فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِيهِ الْخِمَارَ وَهَذَا اعْتِبَارُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكِسْوَةِ عَلَى

مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ رَأْسَهَا عَوْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا مَعَ انْكِشَافِهَا وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ وَلَكِنَّهُ يُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ( أَمَّا ) عَدَمُ جَوَازِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْكِسْوَةُ وَنِصْفُ ثَوْبٍ لَا يُسَمَّى كِسْوَةً ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ عَنْ كِسْوَةٍ رَدِيئَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ .
( وَأَمَّا ) جَوَازُهُ عَنْ الطَّعَامِ إذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجُوزُ بَدَلًا عَنْ الْكِسْوَةِ عِنْدَنَا كَمَا تَجُوزُ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ وَالْوَجْهُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّعَامِ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْبَدَلِيَّةِ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُشْتَرَطُ وَلَا تُجْزِي الْكِسْوَةُ عَنْ الطَّعَامِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُشْتَرَطُ ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ كَافِيَةٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا التَّكْفِيرُ فَيَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّكْفِيرِ وَقَدْ وُجِدَتْ فَيُجْزِيهِ ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ دَرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ جَازَتْ عَنْ الطَّعَامِ ، وَلَوْ كَانَتْ لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ جَازَتْ عَنْ الْكِسْوَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمُؤَدَّى يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ بِضَمِّ الْبَاقِي إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ بَدَلًا إلَّا بِجَعْلِهِ بَدَلًا وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهَا عَنْ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِلْبَدَلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا

قُلْنَا ، وَكَذَا لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا بَيْنَهُمْ كَثِيرَ الْقِيمَةِ ، نَصِيبُ كُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ فِي الطَّعَامِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِسْوَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهَا وَتَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهَا كَمَا لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِي عَنْ الطَّعَامِ .
وَإِنْ كَانَ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي ثَوْبًا يُجْزِي عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الطَّعَامَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عَنْ الثَّوْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عَنْ الطَّعَامِ ، لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ الطَّعَامِ مَعَ الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ ذَاتًا وَمَقْصُودًا فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَكَذَا لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ دَابَّةً أَوْ عَبْدًا وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ جَازَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ عَنْهُ عِنْدَنَا لِأَنَّ دَفْعَ الْبَدَلِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَأَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَمِسْكِينًا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَمِسْكِينًا ثَوْبًا وَغَدَّى مِسْكِينًا وَعَشَّاهُ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُكْمِلَ عَشَرَةً مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَعَلَ الْكَفَّارَةَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ أَوْ التَّحْرِيرِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وَأَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهَا فَلَا تُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ نَوْعًا رَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، لَكِنَّهُ إذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِسْكِينًا حِنْطَةً

وَمِسْكِينًا شَعِيرًا وَمِسْكِينًا تَمْرًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ، وَلَوْ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ نَفْسِهِ بِقَدْرِهِ لِأَنَّ التَّمْرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ كَالْبُرِّ فَلَا يُجْزِي أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ الثَّمَنُ عَنْ التَّمْرِ ، وَيُجْزِي التَّمْرُ عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَجَازَ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْكِسْوَةِ فَهِيَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَدَفْعِ حَاجَةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَمْلِيكٍ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ إلَّا بِهِ ، فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلِدَفْعِ حَاجَةِ الْجُوعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطَّعْمِ لِأَنَّ حَقَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ ، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْقِيمَةِ عَنْ الْكِسْوَةِ كَمَا يَجُوزُ عَنْ الطَّعَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ دَفَعَ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْإِطْعَامِ ، وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَوْجَبَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَخْرَجَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يَجْزِهِ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّعَامَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَغْلَى فَقَدْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَزِيَادَةً فَجَازَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ ، وَأَدَّى قِيمَةَ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ ، وَأَدَاءُ قِيمَةِ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ أَوْ أَكْثَرَ جَائِزٌ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ أَرْخَصَ مِنْ قِيمَةِ الطَّعَامِ ، لَا يَكُونُ الطَّعَامُ بَدَلًا عَنْهُ لِأَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ التَّمْلِيكِ ، وَهُوَ الْكِسْوَةُ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَلَوْ أَعْطَى خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةً جَازَ ، وَجَعَلَ أَغْلَاهُمَا

ثَمَنًا بَدَلًا عَنْ أَرْخَصِهِمَا ثَمَنًا أَيُّهُمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا عَنْ الْآخَرِ ( وَأَمَّا ) مَصْرِفُ الْكِسْوَةِ فَمَصْرِفُهَا هُوَ مَصْرِفُ الطَّعَامِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

( وَأَمَّا ) التَّحْرِيرُ فَلِجَوَازِهِ عَنْ التَّكْفِيرِ شَرَائِطُ تَخْتَصُّ بِهِ ، ( فَمِنْهَا ) : مِلْكُ الرَّقَبَةِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ إنْسَانٌ عَبْدَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْغَيْرُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَقَعَ عَنْهُ فَلَا تُوقَفُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدُك عَنْ كَفَّارَتِي ، فَأَعْتَقَ لَمْ يَجُزْ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ ، وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ، فَأَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْآخَرِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْ الْمَأْمُورِ وَلَوْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ .
وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ ، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ : أَنَّ هُنَاكَ يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ ، وَعَنْ الْإِعْتَاقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ هِبَةٌ ، وَلَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ فِي الْإِعْتَاقِ ، وَوُجِدَ فِي الْإِطْعَامِ ، وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْفَقِيرِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُكَفِّرِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةً لِلْمُعْتِقِ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِلْكَ الْمُعْتِقِ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ : وَمِنْهَا حُصُولُ كَمَالِ الْعِتْقِ لِلرَّقَبَةِ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ الْمُطْلَقَ مُضَافًا إلَى الرَّقَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ إعْتَاقَ عَبْدَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الْعِتْقِ فِي شَخْصَيْنِ ، فَلَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقٌ كَامِلٌ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُ عِتْقٍ كَامِلٍ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا فَرَّقَهُ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ أَعْطَى طَعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ إلَى مِسْكِينَيْنِ ، بِخِلَافِ شَاتَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ذَكَّيَاهُمَا عَنْ نُسُكَيْهِمَا أَجْزَأَهُمَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي النُّسُكِ جَائِزَةٌ إذَا صَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ شَاةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِسَبْعَةٍ فَكَانَ الشَّرْطُ فِي بَابِ النُّسُكِ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ شَاةٍ وَقَدْ وُجِدَ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مُوسِرًا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ ، وَإِذَا كَانَ مُوسِرًا ، لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةَ الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُطْلَقًا ، وَالتَّحْرِيرُ تَخْلِيصٌ عَنْ الرِّقِّ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الرَّقَبَةِ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً ، وَنُقْصَانُ الرِّقِّ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْهُ ، فَلَا تَكُونُ الرَّقَبَةُ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَكُونُ تَحْرِيرُهَا مُطْلَقًا ، فَلَا يَكُونُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ تَحْرِيرُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِنُقْصَانِ رِقِّهِمَا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ ، أَوْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ ، حَتَّى امْتَنَعَ تَمْلِيكُهَا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا .
( وَأَمَّا ) تَحْرِيرُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، إذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ بِلَا خِلَافٍ ، سَوَاءٌ كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يُؤَدِّ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُكَاتَبِ زَائِلٌ إذْ الْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ ، وَالِاسْتِفْرَاشِ ، وَالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَنَحْوِهَا ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ زَائِلَةٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ ، وَكَذَا لَوْ وُطِئَتْ الْمُكَاتَبَةُ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى وَإِذَا جَنَى عَلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ الْأَرْشُ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى فَدَلَّ أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ ،

فَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَلِهَذَا تُسَلَّمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْإِكْسَابُ ، وَلَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ ( وَلَنَا ) لِبَيَانِ أَنَّ الْمِلْكَ مِلْكُ الْمَوْلَى النَّصُّ ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ ، وَالْمَعْقُولِ .
( أَمَّا ) النَّصُّ فَقَوْلُ النَّبِيِّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَالْعَبْدُ الْمُضَافُ إلَى الْعِبَادِ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : كُلُّ عَبْدٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْمُكَاتَبُ ، وَاَللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَوْ أَبْرَأهُ الْمَوْلَى عَنْ الْبَدَلِ يَعْتِقُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ : فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَالْعَارِضُ لَيْسَ إلَّا لَفْظُ الْكِتَابَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَبِّئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُسْتَعْمَل فِي الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ ، وَفِي الْكِتَابَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُنَبِّئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَيَبْقَى الْمِلْكُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : إنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ ، وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَلْمَوْلَى فَمَمْنُوعٌ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ ، بَلْ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالْمَمْلُوكِ فَمِلْكُ الْعَيْنِ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالْعَيْنِ ، وَكَوْنُهُ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ قَدْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ مَعَ قِيَامِهِ فِي نَفْسِهِ لِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ حَقًّا مُحْتَرَمًا كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ ، وَإِنَّمَا لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ قَوْلِهِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ لَا لِخَلَلٍ فِي الْمِلْكِ

؛ لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا بَلْ لِخَلَلٍ فِي الْإِضَافَةِ ؛ لِكَوْنِهِ حُرًّا يَدًا ، فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ حَتَّى لَوْ نَوَى يَدْخُلُ .
وَسَلَامَةُ الْأَوْلَادِ ، وَالْإِكْسَابُ مَمْنُوعَةٌ فِي الْفَرْعِ ، وَالرِّوَايَةُ فِيمَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهَا ، كَذَا قَالَ أُسْتَاذُ أُسْتَاذِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا سَلَامَةَ الْإِكْسَابِ ، وَالْأَوْلَادِ ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ : إنَّ السَّلَامَةَ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ ، بَلْ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ الْمَوْجُودِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَسْقُطُ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِهِ ( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَمَمْنُوعٌ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَأَمَّا ) التَّخْرِيجُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَدْ حَصَلَ لِلْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ بَعْضِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ ، وَذَا لَا يُجْزِئُ عَنْ التَّكْفِيرِ ، كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَةٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ عَنْهَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ( أَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَى الرِّقِّ نُقْصَانٌ ( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ مُتَجَزِّئًا وَحَصَلَ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ نُقْصَانٌ لَكِنْ النُّقْصَانُ حَصَلَ مَصْرُوفًا إلَى الْكَفَّارَةِ فِي رِقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ لِاسْتِحْقَاقِهِ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِتَخْرِيجِهِ إلَى

الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَا أَعْتَقَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى مِلْكِهِ ، فَأَمْكَنَ صَرْفُ النُّقْصَانِ إلَى الْكَفَّارَةِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ النِّصْفَ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْكَامِلِ وَهُوَ مَا اُنْتُقِصَ مِنْهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَقِيَّةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَضَمَّنَهُ صَاحِبُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ صَرَفَ ذَلِكَ النُّقْصَانَ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ ، وَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، ثُمَّ بَعْدَ أَدَاءِ النِّصْفِ الْبَاقِي صَرَفَهُ إلَى الْكَفَّارَةِ ، وَهُوَ نَاقِصٌ فَيَصِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتِقًا عَنْ الْكَفَّارَةِ عَبْدًا إلَّا قَدْرَ النُّقْصَانِ ( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَجُوزُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانُ الرِّقِّ فِي الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ جَازَ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ فَكَانَ كَامِلَ الرِّقِّ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الذَّاتِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ جِنْسٌ مِنْ أَجْنَاسِ مَنَافِعِ أَعْضَائِهَا فَائِتًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الذَّاتُ هَالِكَةً مِنْ وَجْهٍ ، فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أُعْتِقَ عَبْدًا مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ، أَوْ يَابِسَ الشِّقِّ مَفْلُوجًا أَوْ مُقْعَدًا ، أَوْ زَمِنًا أَوْ أَشَلَّ الْيَدَيْنِ ، أَوْ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامَيْنِ مِنْ الْيَدَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ ، أَوْ أَعْمَى أَوْ مَفْقُودَ الْعَيْنَيْنِ ، أَوْ مَعْتُوهًا مَغْلُوبًا ، أَوْ أَخْرَسَ ، أَنْ لَا يَجُوزَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَشَلَلِهِمَا ، وَقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامَيْنِ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْيَدِ فَكَانَ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ تَفُوتُ بِهِ ، وَمَنْفَعَةَ الْمَشْي بِقَطْعِ الرِّجْلَيْنِ وَبِقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْ جَانِبٍ ، وَالزَّمَانَةِ وَالْفَلِجِ وَمَنَعَهُ النَّظَرَ بِالْعَمَى وَفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ ، وَمَنْفَعَةَ الْكَلَامِ بِالْخَرَسِ وَمَنْفَعَةَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ .
وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْأَعْوَرِ ، وَمَفْقُودِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ ، وَالْأَعْشَى وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَرَجُلٍ مِنْ خِلَافٍ وَأَشَلَّ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَمَقْطُوعِ الْأُصْبُعَيْنِ مِنْ كُلِّ يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ ، وَالْعَيْنَيْنِ ، وَالْخَصِيِّ ، وَالْمَجْبُوبِ وَالْخُنْثَى ، وَالْأَمَةِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ ، وَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ قَائِمَةٌ ، وَيَجُوزُ مَقْطُوعِ الْأُذُنَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّمْعِ قَائِمَةٌ ، وَإِنَّمَا الْأُذُنُ الشَّاخِصَةُ لِلزِّينَةِ ، وَكَذَا مَقْطُوعِ الْأَنْفِ ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ

هُوَ الْجَمَالُ ، ( وَأَمَّا ) مَنْفَعَةُ الشَّمِّ فَقَائِمَةٌ ، وَكَذَا ذَاهِبِ شَعْرِ الرَّأْسِ ، وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ لِلزِّينَةِ ، وَكَذَا مَقْطُوعِ الشَّفَتَيْنِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ قَائِمَةٌ ، وَإِنَّمَا عُدِمَتْ الزِّينَةُ ، وَلَا يُجْزِئُ سَاقِطُ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ فَفَاتَتْ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ .
( وَأَمَّا ) الْأَصَمُّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِفَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى ، وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ أَصَمًّ إلَّا وَيَسْمَعُ إذَا بُولِغَ فِي الصِّيَاحِ إلَّا إذَا كَانَ أَخْرَسَ كَذَا قِيلَ ، فَلَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ أَصْلُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ يُنْتَقَصُ ، وَنُقْصَانُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُهِرَ بِالصَّوْتِ فِي أُذُنِهِ لَا يَسْمَعُ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ جَنِينًا لَمْ يَجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ وُلِدَ بَعْدَ يَوْمِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، وَالْجَنِينُ لَا يُسَمَّى رَقَبَةً وَلِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى .

( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ ، فَإِذَا قَابَلَهُ عِوَضٌ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إنَّمَا تَجِبُ لِإِذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِمُقَابِلَةِ مَا اسْتَوْفَتْ مِنْ الشَّهَوَاتِ فِي غَيْرِ حِلِّهَا .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ ؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ إلَى عِوَضٍ قَائِمٌ مَعْنًى ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَا وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَبْرَأهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْعِوَضِ ، لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ لَا عَنْ جِهَةِ التَّكْفِيرِ ، وَمَضَى عَلَى وَجْهٍ ، فَلَا يَنْقَلِبُ كَفَّارَةً بَعْدَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا - وَهُوَ مُعْسِرٌ - عَنْ كَفَّارَتِهِ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نَفْسِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ ، وَلَوْ كَانَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ دَيْنٌ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى عَنْ كَفَّارَتِهِ ، فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ ، أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الرِّقِّ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَ الْعَبْدَ قَبْلَ الْحُرِّيَّةِ ، فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا رَهْنًا فَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى ، وَيَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بَدَلَ الرِّقِّ ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْإِعْتَاقِ لِحُصُولِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَهُ عَنْ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنُقْصَانِ

الْمِلْكِ وَالرِّقِّ أَيْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا نِصْفُهُ عِنْدَهُ لِتَجْزِيَ الْعِتْقَ عِنْدَهُ ؟ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَكَامَلُ ، وَلَا يَتَكَامَلُ الْمِلْكُ ، فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ ، وَيَسَارُ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا فَعَرِيَ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْعِوَضِ فَجَازَ ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ لَمْ يَجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُعْتِقُ ثُلُثَهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ ، فَيَصِيرُ بَعْضُهُ بِبَدَلٍ وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، فَلَمْ يَجُزْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) الْحِنْثُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ ( وَأَمَّا ) التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ( وَأَمَّا ) الْمَوْتُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ حَتَّى يَجُوزَ التَّكْفِيرُ فِيهَا بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَفَّارَتَيْنِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيرِ الرَّقَبَةُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِإِطْلَاقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ فِي النُّصُوصِ فَإِنْ قِيلَ : الصَّغِيرُ لَا مَنَافِعَ لِأَعْضَائِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَالذِّمِّيِّ ، وَكَذَا لَا يَجْزِي إطْعَامُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا إعْتَاقُهُ ، فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ أَعْضَاءَ الصَّغِيرِ سَلِيمَةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ ، وَهِيَ بِغَرَضِ أَنْ تَصِيرَ قَوِيَّةً فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ ، وَهَذَا لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَعْضَاءِ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُ فَائِتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ، وَذَا جَائِزٌ فَهَذَا أَوْلَى ( وَأَمَّا ) إطْعَامُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ عَلَى طَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ أَكْلًا مُعْتَادًا وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ ، وَالْكَافِرَةُ ، وَكَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عِنْدَنَا .

( وَأَمَّا ) فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا الْمُؤْمِنَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا إلَّا الْمُؤْمِنَةَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ أَيْمَانِ الرَّقَبَةِ ، وَالنَّصَّ الْوَارِدَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الْأَيْمَانِ فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَنَحْنُ أَجْرَيْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : إنَّ الْمُطْلَقَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ وَالْمُقَيَّدَ فِي مَعْنَى الْمُفَسَّرِ ، وَالْمُجْمَلُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ ، وَيَصِيرُ النَّصَّانِ فِي مَعْنًى ؛ كَنَصِّ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ ، وَلِهَذَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، حَتَّى شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِوُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْإِسَامَةُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَشُرِطَ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : طَرِيقُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ ، وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، ضَرْبُ النُّصُوصِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَجَعْلُ النَّصَّيْنِ كَنَصٍّ وَاحِدٍ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ .
وَالثَّانِي طَرِيقُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَهُوَ : أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ ، بَلْ يُنْسَخُ حُكْمُهُ ، وَلَيْسَ النَّسْخُ إلَّا بَيَانَ مُنْتَهَى مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَقَوْلُهُ : الْمُطْلَقُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ ، وَالْمُطْلَقُ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ ، إذْ هُوَ اسْمٌ لِمَا

يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ ، فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حُمِلَ إنَّمَا حُمِلَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا ، فَيَخْرُجُ عَلَى الْبَيَانِ وَعَلَى النَّاسِخِ ، وَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ مَشَايِخِنَا أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بَيَانٌ أَوْ نَسْخٌ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ لَا ضَرُورَةَ فَلَا يُحْمَلُ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الْأَيْمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الْقَتْلِ مَا وَجَبَ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذُّنُوبِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَضَعَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْخَطَأِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ أَشْرَفُ التَّحِيَّةِ { رَبّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَالَ النَّبِيُّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ لِسَلَامَةِ نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَفِي الْآخِرَةِ عَنْ الْعِقَابِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ ، مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالْجَهْدِ وَالْجَدِّ وَالتَّكَلُّفِ ، فَجَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ ، وَالتَّحْرِيرُ فِي الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ ، إذَا لَمْ يُعْرَفْ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ الثَّابِتَةِ هَهُنَا ، فَوَجَبَ التَّحْرِيرُ فِيهِمَا تَكْفِيرًا فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ ، فَإِنْ قِيلَ : إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ خَطَأً كَانَ

التَّحْرِيرُ شُكْرًا عَلَى مَا قُلْتُمْ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْقَتْلِ فِي إيجَابِ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَحْرِيرَ الْمُؤْمِنِ جُعِلَ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ خَاصَّةٍ ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَفِي بَابِ الْيَمِينِ النِّعْمَةُ هِيَ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ فَحَسْبُ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُوجِبٌ دُنْيَوِيٌّ يُسْقِطُ عَنْهُ ، فَكَانَتْ النِّعْمَةُ فِي بَابِ الْقَتْلِ فَوْقَ النِّعْمَةِ فِي بَابِ الْيَمِينِ ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَلَى قَدْرِ النِّعْمَةِ ؛ كَالْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الشُّكْرِ إلَّا مَنْ عَلِمَ مِقْدَارَ النِّعْمَةِ ، وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَا تُمْكِنُ الْمُقَايَسَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ ، فَأَمَّا التَّحْرِيرُ ، فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَالْإِفْطَارِ ، وَالْقَتْلِ وَمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّحْرِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ الْكَفَّارَاتِ ، إلَّا أَيْمَانَ الرَّقَبَةِ خَاصَّةً ، فَإِنَّهُ شَرْطُ الْجَوَازِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا كَمَالُ الْعِتْقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاصَّةً ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ وَطِئَ ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَلَمْ يُوجَدْ تَحْرِيرٌ كَامِلٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ .
( وَأَمَّا ) الصَّوْمُ فَقَدْرُ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ : - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَكَذَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ ؛ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ ، وَفِي الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْإِفْطَارِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِهِ ( وَأَمَّا ) شَرْطُ جَوَازِ هَذِهِ الصِّيَامَات فَلِجَوَازِ صِيَامِ الْكَفَّارَةِ شَرَائِطُ مَخْصُوصَةٌ مِنْهَا : النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ عَيْنٍ ، فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ .
( وَمِنْهَا ) التَّتَابُعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي كَفَّارَتَيْ الْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ : {

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } { وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْرَابِيِّ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } بِخِلَافِ صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
( وَأَمَّا ) صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ أَيْضًا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ .
( وَلَنَا ) قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ، وَقِرَاءَتُهُ كَانَتْ مَشْهُورَةً فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ لِقَبُولِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إيَّاهَا تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، إنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا ، فَكَانَتْ مَشْهُورَةً فِي حَقِّ حُكْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إيَّاهَا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَيَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَكَذَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَفْطَرَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّوْمَ ، سَوَاءٌ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِعُذْرِ مَرَضٍ ، أَوْ سَفَرٍ ؛ لِفَوْتِ شَرْطِ التَّتَابُعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصِّيَامَ سَوَاءٌ أَفْطَرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ لَمْ يُفْطِرْ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57