كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

إنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَثَرِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ كَمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ ، وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ شَرْطُ الطَّهَارَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الذِّكْرِ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ الْخُطْبَةِ هَهُنَا ، وَذَكَرَ فِي أَذَانِ الْجُنُبِ أَنَّهُ يُعَادُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَذَانَ إنْ تَحَلَّى بِحِلْيَةِ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ الْخَلَلُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الْأَذَانِ أَشَدَّ ، وَكَثِيرُ النَّقْصِ مُسْتَحَقُّ الرَّفْعِ دُونَ قَلِيلِهِ ، كَمَا يُجْبَرُ نَقْصُ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ دُونَ تَرْكِ السُّنَنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ مُسْتَحَبَّةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا ذَكَرَ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّهَا سُنَّةٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَصْلُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ خَطَبَ قَاعِدًا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِظَاهِرِ النَّصِّ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا حِينَ كَبِرَ وَأَسَنَّ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

يَخْطُبُ قَائِمًا .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَقَالَ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } } ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ يَخْطُبُ ، وَكَذَا السُّنَّةُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ لِلْخُطْبَةِ وَذَا لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْمُقَابَلَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ فَإِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ انْحَرَفَ بِوَجْهِهِ إلَيْهِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُطَوِّلَ الْخُطْبَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَقْصِيرِ الْخُطَبِ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ ، وَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَيْ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى فِقْهِ الرَّجُلِ .

وَأَمَّا مَحْظُورَاتُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ ، وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَكَذَا الصَّلَاةُ ، .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { دَخَلَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ أَصَلَّيْتَ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ سُلَيْكًا أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ } فَصَارَ مَنْسُوخًا أَوْ كَانَ سُلَيْكٌ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَذَا كُلُّ مَا شَغَلَ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ وَيَسْكُتَ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي شَأْنِ الْخُطْبَةِ أَمَرَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ } ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالسُّكُوتِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ كَيْفَ يَصْنَعُ اخْتَلَفَ

الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيّ : الْإِنْصَاتُ لَهُ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا : إنَّ أَجْرَ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُنْصِتِ السَّامِعِ ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ قُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ كَانَ مَأْمُورًا بِشَيْئَيْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ ، وَبِالْبُعْدِ إنْ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْإِنْصَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ، وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أَجَازَ لَهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سِرًّا ، وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ زُهَيْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ الْقُرْبِ لِيَشْتَرِكُوا فِي ثَمَرَاتِ الْخُطْبَةِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ فَلْيُحْرِزْ لِنَفْسِهِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بَلْ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاسْتِمَاعِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِنْصَاتُ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ ، وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِمَاعَ الْمَفْرُوضَ وَالْإِنْصَاتَ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِهِ ، وَكَذَا رَدُّ السَّلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ بِسَلَامِهِ مَأْثَمًا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ السَّلَامَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَقَعْ تَحِيَّةً فَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ ؛ وَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ ، أَمَّا سَمَاعُ الْخُطْبَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ

إقَامَتُهُ أَحَقَّ ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا بِمَكَّةَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، وَالصَّلَاةُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدِ سَمَاعِ اسْمِهِ فِي الْخُطْبَةِ لِمَا أَنَّ إحْرَازَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُمْكِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِحْرَازُ ثَوَابِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَفْضَلَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ إحْرَازُ الْفَضِيلَتَيْنِ أَحَقَّ .
وَأَمَّا الْعَاطِسُ فَهَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَكَذَا السَّلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ مَكْرُوهٌ لِمَا قُلْنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَخِيرِ حِينَ خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ حِينَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ هَلْ يُكْرَهُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ جَعَلَ الْقَاطِعَ لِلْكَلَامِ هُوَ الْخُطْبَةُ فَلَا يُكْرَهُ قَبْلَ وُجُودِهَا ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْتَدُّ غَالِبًا فَيَفُوتُ الِاسْتِمَاعُ وَتَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ

ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ } فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ طَيِّ الصُّحُفِ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى النَّاسُ الْكَلَامَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا يَكْتُبُونَهُ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } وَلِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلْخُطْبَةِ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا وَالْمُسْتَعِدُّ لِلشَّيْءِ كَالشَّارِعِ فِيهِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ الِاسْتِعْدَادُ بِالشُّرُوعِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْكَلَامِ يَقْطَعُ الْكَلَامَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا تَفْسُدُ الْخُطْبَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ فَلَا يُفْسِدُهَا كَلَامُ النَّاسِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مَنْظُومَةً كَالْآذَانِ وَالْكَلَامُ يَقْطَعُ النَّظْمَ إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يُكْرَهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ : وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْخُطْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ فِيهَا وَعْظٌ فَلَمْ يَبْقَ مَكْرُوهًا .

وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ أَمَّا إذَا شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّ الثَّانِيَ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَيْئًا مِنْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَوْ وُجِدَ وَحْدَهُ وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَذَا إذَا وُجِدَ مَعَ غَيْرِهِ ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا مَعَ عِلْمِ الْوَالِي أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَانْعَدَمَ الْإِذْنُ نَصًّا وَدَلَالَةً فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّهُ مُنْشِئٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَيْسَ بَيَانُ تَحْرِيمَتِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ إنْشَاءِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدُ ، وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ أَيْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ جَازَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ لِلْجُمُعَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْخُطْبَةُ ، وَالثَّانِي بَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا .

، وَلَوْ تَكَلَّمَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الظُّهْرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الْمُنْشِئِ لِتَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِهِ حُكْمًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْأَوَّلُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي .

وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَحْدَثَ قَبْلَ الشُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ .
وَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الرَّجُلُ مُحْدِثًا آخَرَ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَدَّمَ جُنُبًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَقَدَّمَ هَذَا الْجُنُبُ رَجُلًا طَاهِرًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ الَّذِي شَهِدَ الْخُطْبَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِقَامَةِ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِسَالِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ .
وَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ كَافِرًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ بِخِلَافِ الْجُنُبِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُنُبَ أَهْلٌ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اكْتِسَابِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بِإِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا اسْتِخْلَافًا لِمَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْقِيَامِ بِمَا اُسْتُخْلِفَ عَلَيْهِ فَصَحَّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا ، فَإِذَا قَدَّمَ هُوَ غَيْرَهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ مَا صَارَ خَلِيفَةً فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى اكْتِسَابِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ إذْ الِاسْتِخْلَافُ شُرِعَ إبْقَاءً لِلصَّلَاةِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَاسْتِخْلَافُ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ اسْتِخْلَافُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ لِالْتِحَاقِ تَقَدُّمِهِمْ بِالْعَدَمِ شَرْعًا .
وَلَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ لَا يُحْتَاجُ

فِيهَا إلَى التَّقْدِيمِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامِ وَالْمُتَقَدِّمُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهُ ، فَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَإِقَامَتُهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْإِمَامِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَخْلَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا فَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ وِلَايَةَ السَّلْطَنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَدَّمَ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ أَحَدًا فَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ أَوْ الْقَاضِي جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَقَدْ قَلَّدَهُمَا الْإِمَامُ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ لِدَفْعِ التَّنَازُعِ فِي التَّقَدُّمِ وَذَا يَحْصُلُ بِتَقَدُّمِهِمَا لِوُجُودِ دَلِيلِ اخْتِصَاصِهِمَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبًا لِلسُّلْطَانِ وَعَامِلًا مِنْ عُمَّالِهِ ، وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّقْدِيمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ إقَامَةَ الصَّلَاةِ يَمْلِكُ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَهُ .

وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَالْكَلَامُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْجُمُعَةِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُسَمَّى جُمُعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ ثُمَّ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ ، وَكَذَا لَوْ نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ شَرْطُ حَالِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنْ الصَّلَاةِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَالَ سَمَاعِهَا كَمَا تُشْتَرَط حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، وَقَالَ زُفَرُ : إنَّهَا شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا ، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ مَا قَيَّدَ

الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الظُّهْرَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ الْوَقْتِ وَسِتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِتَسَاوِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ قِرَانُهُ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ كَالنِّيَّةِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا لِانْعِقَادِهَا وَهُنَا لَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ هَذَا الشَّرْطِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ شَرْطَ الْأَدَاءِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ دَوَامَ هَذَا الشَّرْطِ رَكْعَةً كَامِلَةً وَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي شَرْطِ الِانْعِقَادِ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُسْبَقُ بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَجُعِلَ فِي حَقِّهِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا غَيْرُ وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَلَا شَرْطَ الْبَقَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ شَيْئًا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَالْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بُدٌّ مِنْ تَحْصِيلِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا إلَّا

أَنَّا جَعَلْنَاهَا شَرْطًا بِالشَّرْعِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ قَبُولُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ وَصَارَ كَالنِّيَّةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَ النِّيَّةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي اسْتِدَامَتِهَا حَرَجٌ جُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْعِبَادِ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ شَرْطًا لِبَقَاءٍ فَجُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنَّهَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْجَامِعِ أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْجُمُعَةِ إذَا صَحَّتْ صَحَّ بِنَاءُ الْجُمُعَةِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ إنْسَانٌ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ لِمَا يُذْكَرُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَوْ جُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ حِينَئِذٍ لَا تَنْعَقِدُ بِدُونِ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ إيَّاهُ فِيهَا ، وَذَا لَا يَحْصُل إلَّا وَأَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَاتُهُمْ مُقَارِنَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مُرَاعَاتُهُ ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا حُضُورًا

وَكَبَّرَ الْإِمَام ثُمَّ كَبَّرُوا صَحَّ تَكْبِيرُهُ وَصَارَ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَصَحَّتْ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فَلَمْ تُجْعَلْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَجُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ فِي حَقِّهِمْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فِي التَّحْرِيمَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ سَبَقَهُمْ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ ، فَانْعِقَادُ الْأَدَاءِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِعْلٌ وَالْحَاجَةُ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ أَدَاءً لِلصَّلَاةِ ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ هُوَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثْ ، فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَشَرَطَ دَوَامَ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ الْإِمَامَ إلَى الْفَرَاغِ عَنْ الْأَدَاءِ .
وَلَوْ افْتَتَحَ الْجُمُعَةَ وَخَلْفَهُ قَوْمٌ وَنَفَرُوا مِنْهُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَلَوْ جَاءَ قَوْمُ آخَرُونَ فَوَقَفُوا خَلْفَهُ ثُمَّ نَفَرَ الْأَوَّلُونَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا اشْتِرَاطُ الْمُشَارَكَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ .

وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَنَقُولُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ كَافِيَةٌ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا بُدَّ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ الْمُشَارَكَةُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا كَافِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ حَتَّى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى أَوْ الثَّانِيَةِ أَوْ كَانَ فِي رُكُوعِهَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ فِي التَّشَهُّدِ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا فِي رِوَايَةٍ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَيْهِمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا تَكُونُ الْأَرْبَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظُهْرًا مَحْضًا ، حَتَّى قَالَ : يَقْرَأُ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا ، وَعَنْهُ فِي افْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْهُ فَرْضٌ ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْهُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ سَلَكَ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ ، جُمُعَةً كَانَ الْفَرْضُ أَوْ ظُهْرًا ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَرْبَعُ ظُهْرٌ مَحْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى

لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ ، وَاحْتَجُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ عُرِفَ بِنَصِّ الشَّرْعِ بِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ، مِنْهَا الْجُمُعَةُ وَالسُّلْطَانُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ كُلُّ مَسْبُوقٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ وَلَا نَصَّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَسْلُكُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } أَمَرَ الْمَسْبُوقَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَالْحَدِيثُ فِي حَدِّ الشُّهْرَةِ وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ } وَلِأَنَّ سَبَبَ اللُّزُومِ هُوَ التَّحْرِيمَةُ وَقَدْ شَارَكَ الْإِمَامُ فِي التَّحْرِيمَةِ وَبَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ فَيَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْإِمَامَ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ كَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ رَوَوْا أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْجُمُعَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوْ مَنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا رَوَاهُ ضُعَفَاءُ أَصْحَابِهِ هَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَلَئِنْ

ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَتَأْوِيلُهَا وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً ، وَقَوْلُهُمْ هُنَاكَ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ قُلْنَا وَهَهُنَا أَيْضًا يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ كَانَتْ ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُ بِنَاؤُهَا عَلَى تَحْرِيمَةِ عَقْدِهَا لِلْجُمُعَةِ .
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ وَنَوَى الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ جُمُعَةً فَالْجُمُعَةُ كَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ عَلَى أَنَّهُ لَا احْتِيَاطَ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ فَسَادِ أَدِلَّةِ الْخُصُومِ وَصِحَّةِ دَلِيلِنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ .
أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ فَكَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقُلْتُ لَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِي أُمَامَةَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَقُودُهُ فِي جُمُعَةٍ إذْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ فَقُلْتُ : يلَ : إنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ أَسْعَدُ ، فَقُلْت : وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ ؟ فَقَالَ : كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ إلَى الْجُمُعَةِ يَكُونُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِثَلَاثَةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فَانْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِهِمْ } .
وَرُوِيَ أَنْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ تُسَاوِي مَا وَرَاءَهَا فِي كَوْنِهَا جَمْعًا فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ جَمْعِ الْأَرْبَعِينَ بِخِلَافِ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْجَمْعِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِالْأَرْبَعِينَ وَقَعَ اتِّفَاقًا .
أَلَا يَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ أَقَامَهَا بِسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقَامَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضُّوا إلَى

التِّجَارَةِ وَتَرَكُوهُ قَائِمًا } .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ شُرِطَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ وَقَدْ وُجِدَ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ جَمْعٌ مُطْلَقٌ وَلِهَذَا يَتَقَدَّمُهُمَا الْإِمَامُ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَشَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ فَيَحْصُلَ هَذَا الشَّرْطُ ثُمَّ يُصَلِّي ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ إذْ لَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَام ثَلَاثَةٌ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ وَالْمُثَنَّى لَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَحْصِيلُ هَذَا الشَّرْطِ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَصْطَفَّانِ خَلَفَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِي تَابِعٌ لِإِمَامِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ خَلْفَهُ لِإِظْهَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَقُومُ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مُنْتَبَذًا خَلْفَ الصُّفُوفِ فَيَصِيرَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ ، فَإِذَا صَارَ اثْنَيْنِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَامَا خَلْفَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا صِفَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَعِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحْ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لَا غَيْرُ ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ حَتَّى تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِقَوْمٍ عَبِيدٍ أَوْ مُسَافِرِينَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ فِي صِفَةِ الْقَوْمِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ كَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ دَرَجَةَ الْإِمَامِ أَعْلَى ثُمَّ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِقَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْإِمَامِ لِمَا مَرَّ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ فِي الْقَوْمِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا لَا تَجِبْ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَحْضُرُوا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ قَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى زَوَالِ الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ : { إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { كَتَبَ إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَجَهَّزُ فِيهِ الْيَهُودُ لِسَبْتِهَا فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ } وَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحًى يَعْنِي بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَمُرَادُ الرَّاوِي أَنَّهُ مَا أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى لِمَا نَذْكُرُ ، وَقَالَ مَالِكُ : تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الظُّهْرِ بِالنَّصِّ فَيَصِيرُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَقْتًا لِلْجُمُعَةِ ، وَمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ غَيْرِ الظُّهْرِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ مَذْكُورَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .

وَذَكَرَ فِي النَّوَادِر شَرْطًا آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِهَارِ حَتَّى إنَّ أَمِيرًا لَوْ جَمَعَ جَيْشَهُ فِي الْحِصْنِ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا تُجْزِئُهُمْ كَذَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : السُّلْطَانُ إذَا صَلَّى فِي فَهَنْدَرَةٍ وَالْقَوْمُ مَعَ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ : إنْ فَتْحَ بَابَ دَارِهِ وَأَذِنَ لِلْعَامَّةِ بِالدُّخُولِ فِي فَهَنْدَرَةٍ جَازَ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مُوضِعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِلْعَامَّةِ وَصَلَّى مَعَ جَيْشِهِ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ السُّلْطَانِ وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْعَامَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالنِّدَاءُ لِلِاشْتِهَارِ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِهَا فَمِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ تَبَرُّكًا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَنٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأْهُمَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ { قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةَ } فَإِنْ تَبَرَّكَ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَنِعْمَ مَا فَعَلَ وَلَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأْ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَلِئَلَّا تَظُنَّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ } وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سُمِعَ وَكَذَا الْأُمَّةُ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ عَنْ الِاهْتِمَامِ لِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَتَحْصُلُ لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا .
وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا فَنَقُولُ : إنَّهُ يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا عَلَى الْخُصُوصِ أَشْيَاءُ ، مِنْهَا خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُفْسِدُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ الْعَامَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَكَذَا خُرُوجُ الْوَقْتِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَقَدْ مَرَّتْ ، وَمِنْهَا فَوْتُ الْجَمَاعَةِ الْجُمُعَةُ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ بِأَنْ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ .
وَأَمَّا فَوْتُهَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ .

وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِهَا فَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ بِفَوْتِ الْجَمَاعَةِ يَسْتَقْبِلْ الظُّهْرَ وَإِنْ فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ عَامَّةُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلْ الْجُمُعَةَ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطهَا .
وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَتَسْقُطُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ .
فَالْمُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ أَنْ يَدَّهِنَ وَيَمَسَّ طِيبًا ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ ، وَيَغْتَسِلَ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } أَوْ قَالَ : { حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } ؛ وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ } ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَتَأْوِيلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْرَقُونَ فِيهِ وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ لِهَذَا ، ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا حِينَ لَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ ، قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ } ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ بِشَرَائِطَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا فَلَهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْغُسْلِ ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لَهَا ، وَكَذَا إذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ ثُمَّ اغْتَسَلَ

فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ يَنَالُ فَضِيلَةَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ لِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا مَا يُكْرَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَنَقُولُ تُكْرَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمِصْر فِي سِجْنٍ وَغَيْرِ سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَمْصَارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ ؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ جَمْعِ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ وَلِأَنَّ سَاكِنَ الْمِصْرِ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَشُهُودِ الْجُمُعَة ، وَالْمَعْذُورُ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَاتِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّرْكِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا تَقْلِيلَ جَمْعِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ فِي حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَكَذَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ مُبَاشَرَتِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ .
وَلَوْ بَاعَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْبَيْعِ بَلْ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ .

( فَصْلٌ ) .
وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ .
وَنَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلُ ) .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ فَنَوْعَانِ : صَلَاةُ الْوِتْرِ ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ .
( أَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ ) فَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَتْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي فِيهِ وَمِقْدَارِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ ، وَفِي بَيَانِ الْقُنُوتِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ ، وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَرَوَى نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْجَامِعِ عَنْهُ أَنَّهُ سَنَةٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالُوا : إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُؤَقَّتَةِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى } وَفِي رِوَايَةٍ { ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى } ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ : { صَلُّوا خَمْسَكُمْ } وَكَذَا الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ { مُعَاذٍ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ } وَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَصَارَ الْمَفْرُوضُ سِتَّ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ نَسْخٌ لَهَا ؛

لِأَنَّ الْخَمْسَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتْ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ تَصِيرُ بَعْضَ الْوَظِيفَةِ فَيُنْسَخُ وَصْفُ الْكُلِّيَّةِ بِهَا ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَالْمَشَاهِيرِ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْآحَادِ وَلِأَنَّ عَلَامَاتِ السُّنَنِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى تَبَعًا لِلْعِشَاءِ ، وَالْفَرْضُ مَا لَا يَكُونُ تَابِعًا لِفَرْضٍ آخَرَ ، وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ ، وَلِفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ أَوْقَاتٌ وَأَذَانٌ وَإِقَامَةُ جَمَاعَةٍ وَلِذَا يُقْرَأُ فِي الثَّلَاثِ كُلِّهَا ، وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السُّنَنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهَا زِيَادَةً وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قِرَانًا لَا زِيَادَةَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ عَلَى الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْفَرْضُ ، فَأَمَّا النَّفَلُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ لَكِنْ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ ؟ ذَكَرَهَا مَعْرِفَةً بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَهْدِ وَلِذَا لَمْ يَسْتَفْسِرُوهَا .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهَا مَعْهُودًا لَاسْتَفْسَرُوا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْوُجُوبِ لَا فِي الْفِعْلِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى السُّنَنِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ

فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ، وَكَذَا التَّوَعُّدُ عَلَى التَّرْكِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ حَقٌّ وَاجِبٌ ، وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يُقْضَى عِنْدَهُمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَنْ الْفَوَاتِ لَا عَنْ عُذْرٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ ؛ وَلِذَا لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ ، وَبِعَيْنِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ وَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالثَّلَاثِ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ آخِرُ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْوُجُوبِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْخَمْسِ ، وَالْوِتْرُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ، وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْوِتْرِ فَقَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ ، فَقَالَ يُوسُفُ : كَفَرْتَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَتَّلْمَذَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِيُوسُفَ أَيَهُولُنِي إكْفَارُكَ إيَّايَ وَأَنَا أَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ

الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَجَلَسَ عِنْدَهُ لِلتَّعَلُّمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمْ تَصِرْ الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ سِتًّا بِزِيَادَةِ الْوِتْرِ عَلَيْهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ لَيْسَتْ نَسْخًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَرْضًا .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهَا وَقْتٌ وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِشَاءِ عَلَيْهَا شَرْطٌ عِنْدَ التَّذَكُّرِ ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَعِيَّةِ كَتَقْدِيمِ كُلِّ فَرْضٍ عَلَى مَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ ، وَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْعِشَاءِ لَتَبِعَتْهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَلِضَرْبِ احْتِيَاطٍ عِنْدَ تَبَاعُدِ الْأَدِلَّةِ عَنْ إدْخَالِهَا تَحْتَ الْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ .
فَوُجُوبُهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ بَلْ يَعُمُّ النَّاسَ أَجْمَعَ مِنْ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بَعْدَ أَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ .
فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ أَحَدَ عَشْرَ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَفِي غَيْرِهِ رَكْعَةٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِخَمْسٍ } ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ } ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا سَلَامَ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ ، وَمِثْلُهُ لَا يُكَذَّبُ ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ نَفْلٌ عِنْدَهُ وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرًا مِنْ الْأُصُولِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ فَرْضًا وَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْوِتْرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِهِ .
فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ ، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ .
أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقْتُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا كَوَقْتِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وَهُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ لَكِنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقْتُهُ بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ ، سُنَّةٌ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لَا تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فَكَمَا غَابَ الشَّفَقُ دَخَلَ وَقْتُهُ كَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَاجِبٌ حَالَةَ التَّذَكُّرِ فَعِنْدَ النِّسْيَانِ يَسْقُطُ كَمَا فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ الَّتِي لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ يَجِبُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ ، ثُمَّ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ كَذَا هَذَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ مَا ذَكَرْنَا لَا مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُهَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتُهَا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِشَاءِ ،

هَذَا هُوَ تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ كَوَقْتِ رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ : { زَادَكُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهَا لَكُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ } وَوُجُودُ مَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ سَابِقًا عَلَى وُجُودِهِمَا مُحَالٌ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ إطْلَاقَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَا يَنْفِي الْإِطْلَاقَ قَبْلَهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا صَلَّى الْوِتْرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُوتِرْ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَلَوْ تَرَكَ الْوِتْرَ عِنْدَ وَقْتِهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ كَالْفَرْضِ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْكِلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يَقْضِيَ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فِي الْقَضَاءِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ } فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ

احْتِيَاطًا .
وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْوِتْرِ فَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ { تَارَةً كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَارَ وِتْرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ } وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنَامَ إلَّا عَنْ وِتْرٍ { ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَعُمَرُ كَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَخَذْتَ بِالثِّقَةِ وَقَالَ لِعُمَرَ : أَخَذْتَ بِفَضْلِ الْقُوَّةِ } .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ .
فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ فَرْضٌ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنَّ الْوَاجِبَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفْلٌ لَكِنْ يُرَجَّحُ جِهَةُ الْفَرْضِيَّةِ فِيهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُجْعَلُ وَاجِبًا مَعَ احْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا يُكْتَفَى بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَغْرِبِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا يُشْتَرَطُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي النَّوَافِلِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِهَا فِي الْكُلِّ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَدْرَ الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ : وَمَا قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَقِّتَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْوِتْرِ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، وَفِي الثَّانِيَةِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وَفِي الثَّالِثَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ حَتْمًا ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَقْنُتُ .
أَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَقَنَتَ } .
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَرْفَعْ الْيَدَيْنِ إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُنُوتَ .
وَأَمَّا

الْإِرْسَالُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأُمَّا الْقُنُوتُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي صِفَةِ الْقُنُوتِ ، وَمَحَلِّ أَدَائِهِ ، وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ ، وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقُنُوتُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْلِ الْوِتْرِ .
وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَالْوِتْرُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ : يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ ، وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ { يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَكَانَ يَدْعُو عَلَى قَبَائِلَ } ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا كَانَ يَدْعُو فِي قُنُوتِهِ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ مَنْسُوخًا } دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ } وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَخَلْفَ عُمَرَ كَذَلِكَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ بِالْإِمَامَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَمَرَهُ بِالْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا { : رَاعَيْنَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ يَقْنُتُ قَبْلَ

الرُّكُوعِ } وَلَمْ يَذْكُرُوا وَقْتًا فِي السُّنَّةِ ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ طَوَّلَ الْقِيَامَ بِالْقِرَاءَةِ ، وَطُولُ الْقِيَامِ يُسَمَّى قُنُوتًا ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ إمَامَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَتْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ حَالُهُ ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ بِخِلَافِهِ ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ قَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ } فَقَاسَ عَلَيْهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { قُنُوتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ } ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَنْسُوخِ عَلَى مَا مَرَّ .

وَأَمَّا مِقْدَارُ الْقُنُوتِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يَقْرَأُ فِي الْقُنُوتِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ ، وَكِلَاهُمَا عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ السُّورَةِ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَا يُطَوِّلُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ } .

وَأَمَّا دُعَاءُ الْقُنُوتِ فَلَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ مُخْتَلِفَةً فِي حَالِ الْقُنُوتِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَقَّتَ مِنْ الدُّعَاءِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْعُدُ عَنْ الْإِجَابَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخُنَا : الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ مَا سِوَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ .
وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَلَوْ قَرَأَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَ حَسَنًا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ مَا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قُنُوتِهِ { اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ } إلَى آخِرِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَفْضَلُ فِي الْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا يَكُونُ جَاهِلًا فَيَأْتِي بِدُعَاءٍ يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ فَيُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ مَحْمُولٌ عَلَى أَدْعِيَةِ الْمَنَاسِكِ دُونَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا .

وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إلَى قَوْلِهِ إنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ ، وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يُتَابِعُهُ الْقَوْمُ ؟ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُتَابِعُونَهُ وَيَقْرَءُونَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقْرَءُونَ وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ شَاءَ الْقَوْمُ سَكَتُوا .

وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ فَقَدْ قَالَ : أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَفْعَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَهَا ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : يَأْتِي بِهَا ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى هَذَا كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْقَاضِي مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ ، وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْإِخْفَاءَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ } .

وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ فَنَقُولُ : إذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حَتَّى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَعُودُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقُنُوتُ وَإِنْ كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُنُوتِ ؛ لِأَنَّهُ لَهُ شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ .
وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّكُوعَ يَتَكَامَلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَيَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الْقِرَاءَةِ ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ وَاجِبَةٌ فَيُنْتَقَضُ الرُّكُوعُ بِتَرْكِهَا فَكَانَ نَقْضُ الرُّكُوعِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْأَحْسَنِ فَكَانَ مَشْرُوعًا فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَكَامَلُ بِهِ الرُّكُوعُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قُنُوتَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؟ وَالرُّكُوعُ مُعْتَبَرٌ بِدُونِهِ فَلَمْ يَكُنْ النَّقْضُ لِلتَّكْمِيلِ لِكَمَالِهِ فِي نَفْسِهِ .
وَلَوْ نُقِضَ كَانَ النَّقْضُ لِأَدَاءِ الْقُنُوتِ الْوَاجِبِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا تَذَكَّرَهَا فِي حَالِ الرُّكُوعِ حَيْثُ يُكَبِّرُ فِيهِ ، وَالْفَرْقُ أَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْقِيَامِ الْمَحْضِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالِ الِانْحِطَاطِ ؟ وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحْضِ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ أَدَاءُ الْبَاقِي مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا فِي مَحْضِ الْقِيَامِ غَيْرُ

مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الرُّكُوعِ الَّذِي هُوَ قِيَامٌ مِنْ وَجْهٍ .
وَلَوْ أَنَّهُ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ رُكُوعُهُ عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ حَيْثُ يُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ فَإِذَا عَادَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ وَقَعَ الْكُلُّ فَرْضًا ؟ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْضِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ قَدْ فَاتَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ ؟ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ قَصَدَ نَقْضَ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ فَاتَ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
وَلَوْ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فَقَرَأَهَا وَرَكَعَ مَرَّةً أُخْرَى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ .
وَلَوْ كَانَ أَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَرَكَعَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ فَيَقْرَأُ وَيُعِيدُ الْقُنُوتَ وَالرُّكُوعَ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ هَهُنَا حَصَلَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا وَلَوْ حَصَلَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ يَعُودُ وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ فَهَهُنَا أَوْلَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهُ ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ .
أَمَّا مَا يُفْسِدُهُ وَحُكْمُهُ إذَا فَسَدَ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَإِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يَقْضِي عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ) فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ أَدَائِهَا ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ نَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَقَالَ وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَمَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يُصَلَّى التَّطَوُّعُ بِالْجَمَاعَةِ مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَاسْتَثْنَاهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَسَمَّاهُ سُنَّةً فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ فَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السُّنَّةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِهَا ، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الضَّرِيرُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهَا بَدَلُ صَلَاةِ الضُّحَى وَتِلْكَ سُنَّةٌ فَكَذَا هَذِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ، وقَوْله تَعَالَى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }

قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا فَيَفُوتُ مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً صِيَانَةً لِمَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَوْتِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَجَوَازِهَا فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَجَوَازِهَا مِنْ الْإِمَامِ وَالْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ إلَّا الْخُطْبَةَ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
وَلَوْ تَرْكَهَا جَازَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ .
أَمَّا الْإِمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الْأَضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهَا مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّهَا مَا أُدِّيَتْ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ ، وَكَذَا الذُّكُورَةُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ ، وَالْإِقَامَةُ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ لَمَّا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْلَى ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ عَنْ حُضُورِ الْعِيدَيْنِ كَمَا لَهُ مَنْعُهُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ .

وَأَمَّا النِّسْوَةُ فَهَلْ يُرَخَّصُ لَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ ؟ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } وَالْأَمْرُ بِالْقَرَارِ نَهْيٌ عَنْ الِانْتِقَالِ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِلَا شَكٍّ ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ .
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْعِيدَيْنِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَنْعَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ خُرُوجِهِنَّ ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَجَائِزِ وَلِهَذَا أَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ خُرُوجَهُنَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتُ انْتِشَارِ الْفُسَّاقِ فِي الْمَحَالِّ وَالطُّرُقَاتِ فَرُبَّمَا يَقَعُ مَنْ صَدَقَتْ رَغْبَتُهُ فِي النِّسَاءِ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِهِنَّ أَوْ يَقَعْنَ هُنَّ فِي الْفِتْنَةِ لِبَقَاءِ رَغْبَتِهِنَّ فِي الرِّجَالِ وَإِنْ كَبِرْنَ ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَالْهَوَاءُ مُظْلِمٌ وَالظُّلْمَةُ تَحُولُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ نَظَرِ الرِّجَالِ ، وَكَذَا الْفُسَّاقُ لَا يَكُونُونَ فِي الطَّرَقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ ، وَفِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كَانَ تَكْثُرُ الْفُسَّاقُ تَكْثُرُ الصُّلَحَاءُ أَيْضًا فَتَمْنَعُ هَيْبَةُ الصُّلَحَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ إيَّاهُمَا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَأْثَمِ ، وَالْجُمُعَةُ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا تَصْدِمُ أَوْ تُصْدَمُ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَفِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ .
وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى فِي الْجَبَّانَةِ فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَعْتَزِلَ نَاحِيَةً عَنْ الرِّجَالِ كَيْ لَا تُصْدَمَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ الْخُرُوجَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا

الْخِلَافُ فِي الرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ فِي صَلَاةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا ، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا ، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا } ثُمَّ إذَا رُخِّصَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ هَلْ يُصَلِّينَ ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلِّينَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُرُوجِ هُوَ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِيَخْرُجْنَ إذَا خَرَجْنَ تَفِلَاتٍ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ } ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُصَلِّينَ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كُنَّ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ كَانَ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا .

وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةَ لِيَحْفَظَ دَابَّتَهُ هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ لَا يُخِلُّ بِحَقِّ مَوْلَاهُ فِي إمْسَاكِ دَابَّتِهِ .

وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، } وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَبَدَءُوا بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنُوا وَلَمْ يُقِيمُوا } وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِتَعْلِيمِ مَا يَجِبُ إقَامَتُهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّكْبِيرِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِامْتِثَالُ أَقْرَبَ إلَى زَمَانِ التَّعْلِيمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مَا رُوِيَ أَنَّ { مَرْوَانَ لَمَّا خَطَبَ الْعِيدَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ يَا مَرْوَانُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبْتَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَرْوَانُ ذَاكَ شَيْءٌ قَدْ تُرِكَ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَمَا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } أَيْ أَقَلُّ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي خُطْبَتِهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ وَكَانَ النَّاسُ لَا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسَمَاعِهَا فَأَحْدَثُوهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا النَّاسُ ، فَإِنْ خَطَبَ أَوَّلًا ثُمَّ صَلَّى أَجْزَأَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَصْلًا

أَجْزَأَهُمْ فَهَذَا أَوْلَى .

وَكَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَقْرَأُ فِيهَا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَيَسْتَمِعُ لَهَا الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا لِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ الشَّرَائِعَ وَيَعِظُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ إذَا اسْتَمَعُوا ، وَلَيْسَ فِي الْعِيدَيْنِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ قَالَ { : صَلَّيْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ } وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَلِأَنَّهُمَا شَرْعًا عَلَمًا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ : مِنْ حِينِ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ ، أَوْ رُمْحَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ .
وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى ؛ وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ فِي الْأُمَّةِ فَيَجِبُ اتِّبَاعَهُمْ ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ أَصْلًا سَوَاءٌ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ غَيْرَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَا تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي يَوْمِ عِيدٍ ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِالْعِيدِ فَيُقَالُ صَلَاةٌ لِعِيدٍ ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصِّ الَّذِي وَرَدَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ فَبَقِيَ مَا رَوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى اسْتِدْلَالًا بِالْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَكَذَا صَلَاةُ الْعِيدِ ؛ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ ، وَيَمْضِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِلنَّحْرِ خَاصَّةً ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلتَّشْرِيقِ

خَاصَّةً ، وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ جَمِيعًا .

فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فَنَقُولُ : يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ : فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ ، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ كَاسْمِهِ وُضِعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَخِّرُ التَّعَوُّذَ عَنْ التَّكْبِيرَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ ، أَوْ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا ، وَيَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ عِنْدَنَا يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ : سِتَّةٌ مِنْ الزَّوَائِدِ وَثَلَاثَةٌ أَصْلِيَّاتٌ : تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ ، وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَفِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً : سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ ؛ فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ تِسْعًا : خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ ، وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً : سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْأَصْلِيَّاتِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فَقَالَ : فِي الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً : ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَثَمَانٍ زَوَائِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ ، وَفِي الْأَضْحَى يُكَبِّرُ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ : ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ ، وَعِنْدَهُ يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ شَاذٌّ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً : ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَعَشْرَةٌ زَوَائِدُ ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ اثْنَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فَقَالَ غَدًا الْعِيدُ فَكَيْفَ تَأْمُرُونِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقِيلَ : إنَّهُ مُخْتَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرَاتِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَبِقَدْرِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَمْ تَبْقَ بِدْعَةً بِيَقِينٍ ، وَمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاخْتِلَافِ كَانَ تَوَهُّمَ الْبِدْعَةِ ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ ، إلَّا أَنَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ بِلَادِنَا ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ فَيَأْمُرُونَ عُمَّالَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَذْهَبِ جَدِّهِمْ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْأَصْلِ .

مِقْدَارَ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ } .
وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَتَلْتَحِقُ بِجِنْسِهَا وَهُوَ تَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ } ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَصَمِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالرَّفْعِ فَيَرْفَعُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا فِي حَالِ الِانْتِقَالِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَكْتُوبَةِ .

وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَ { هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } } فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَحَسَنٌ ، لَكِنْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَّحِدَ بِهِمَا حَتْمًا لَا يُقْرَأُ فِيهَا غَيْرُهُمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ ، وَبِجَهْرِ الْقِرَاءَةِ كَذَا وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَهْرِ بِهِ ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .

ثُمَّ الْمُقْتَدِي يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرَاتِ عَلَى رَأْيِهِ ، وَإِنْ كَبَّرَ أَكْثَرَ مَنْ تِسْعٍ مَا لَمْ يُكَبِّرْ تَكْبِيرًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَابِعْ إمَامَك عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْته } مَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إذْ لَا مُتَابَعَةَ فِي الْخَطَإِ وَلِهَذَا لَوْ اقْتَدَى بِمَنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ ، أَوْ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ ، أَوْ بِمَنْ يَرَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْسُوخٌ ، ثُمَّ إلَى كَمْ يُتَابِعُهُ ؟ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ : إنَّهُ يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَهَبَ إلَى ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً الزَّوَائِدَ ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ صَارَتْ سِتَّ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَقْرُبُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَاتِ مِنْهُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبْعُدُ مِنْهُ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَأْتِي بِجَمِيعِ مَا يَسْمَعُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَلَطَ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ ، فَلَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا رُبَّمَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ ، وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَا أَخْطَأَ فِيهِ الْمُكَبِّرُونَ

فَيُتَابِعُهُمْ لِيَتَأَدَّى مَا يَأْتِيه الْإِمَامُ بِيَقِينٍ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي يَبْعُدُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِجَوَازِ أَنَّ مَا سَمِعَ قَبْلَ هَذِهِ كَانَ غَلَطًا مِنْ الْمُنَادِي ، وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ .

وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الزَّوَائِدَ وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لَا بِرَأْيِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ ، وَإِنْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ الْمُصَلِّي قَبْلَ الْفَرَاغِ بِمَا أَدْرَكَهُ مَنْسُوخًا ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ النَّسْخُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَ الْإِمَامَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ ، أَوْ لَا يَأْتِي بِهَا ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي بِهَا فَهَذَا تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِهَا فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَحَلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ تَفْوِيتُهُ عَنْ مَحِلِّهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فِيمَا هُوَ مَحِلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهِ رَأْسًا ، وَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ يَرْفَعُ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَرَكَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوْتِهِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ أَيْضًا فَاتَتْهُ فَيَصِيرُ بِتَحْصِيلِ التَّكْبِيرَاتِ مُفَوِّتًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ إذَا رَكَعَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُكَبِّرُ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَنْ مَحِلِّهَا وَهُوَ الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ كَالْقُنُوتِ ، وَلَهُمَا

أَنَّ لِلرُّكُوعِ حُكْمُ الْقِيَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُدْرِكَهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ مَحِلُّهَا قَائِمًا فَيَأْتِي بِهَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ الْقِيَامَ الْمَحْضَ ، وَقَدْ فَاتَ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْبِيرَاتِ دُونَ التَّسْبِيحَاتِ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَالتَّسْبِيحَاتِ سُنَّةٌ ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى ، فَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا رَفَعَ رَأْسَهُ ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحِلُّهَا .
وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيُكَبِّرُ ، وَقَدْ انْتَقَضَ رُكُوعُهُ وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي حَيْثُ أَمَرَ الْإِمَامَ بِالْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَدَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحِلَّ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْأَصْلِ الْقِيَامُ الْمَحْضُ ، وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا حَالَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَبَقِيَ مَحِلُّهَا الْقِيَامُ الْمَحْضُ فَأُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ارْتِفَاضُ الرُّكُوعِ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْفَاتِحَةَ فِي الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَعُودُ وَيَقْرَأُ وَيَرْتَفِضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْفَرَاغِ عَنْهَا ، وَالرُّكْنُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا تَمَّتْ ، هَذَا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ،

فَأَمَّا إنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْهَا بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ دُونَ السُّورَةِ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ وَيَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ أَوَانِهَا فَيَتْرُكُهَا وَيَأْتِي بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ لِيَكُونَ الْمَحِلُّ مَحِلًّا لَهُ ثُمَّ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّ الرُّكْنَ مَتَى تُرِكَ قَبْلَ تَمَامِهِ يُنْتَقَضُ مِنْ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي نَفْسِهِ ، وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الَّذِي بِهِ تَمَامُهُ فِي الْحُكْمِ ، وَنَظِيرُهُ مَنْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً فِي الرُّكُوعِ خَرَّ لَهَا وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ ؛ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ ، وَتَابَعَ إمَامَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ فِيهَا رَأْيَ إمَامِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ رَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْإِمَامِ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي ، بِخِلَافِ اللَّاحِقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفُ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِ إمَامِهِ بِأَنْ كَانَ إمَامُهُ يَرَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ كَذَلِكَ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ ، ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ ، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا يَقْضِي الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَمَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُكَبِّرُ ، ثُمَّ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا

، بَلْ فِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَجْهُ رِوَايَةِ وَالنَّوَادِرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كَمَا فَاتَهُ ، وَقَدْ فَاتَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِيهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَيَقْضِيهِ كَذَلِكَ ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ : أَنَّ الْمَقْضِيَّ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ صُورَةً وَفِيمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ قَرَأَ ، ثُمَّ كَبَّرَ ؛ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِمَامِ فَلَوْ قَدَّمَ هَهُنَا مَا يَقْضِي أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بِصُورَةِ هَذَا الْفِعْلِ .
وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ لَكَانَ فِيهِ تَقْدِيمُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، لَكِنْ هَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إذْ هُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا ، وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ ، أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا ، فَكُلُّ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَمَا يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، وَفَوْتِ الْجَمَاعَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ ، غَيْرَ أَنَّهَا إنْ فَسَدَتْ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ عَلَى شَرَائِطِهَا ، وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَتْ ، وَلَا يَقْضِيهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي الْإِمَامُ يُكَبِّرُ فِيهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْجُمُعَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَهَا إلَّا بِالْجَمَاعَةِ كَالْجُمُعَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا فِي الْقَضَاءِ ، فَلَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِالْقَضَاءِ لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ ، فَلَوْ صَلَّى مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَنَالَ الثَّوَابَ كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يَجِبُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صَلَّى أَرْبَعًا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَشْيَاءُ مِنْهَا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ ، وَيَغْتَسِلَ ، وَيَطْعَمَ شَيْئًا ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ، وَيَمَسَّ طِيبًا ، وَيُخْرِجَ فِطْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ ، أَمَّا الِاغْتِسَالُ وَالِاسْتِيَاكُ وَمَسُّ الطِّيبِ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ - جَدِيدًا كَانَ أَوْ غَسِيلًا - ؛ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَأَمَّا إخْرَاجُهُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى } ؛ وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ .
وَأَمَّا الذَّوْقُ فِيهِ فَلِكَوْنِ الْيَوْمِ يَوْمَ فِطْرٍ .
وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ شَاءَ ذَاقَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَذُقْ ، وَالْأَدَبُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ شَيْئًا إلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْقَرَابِينَ وَمِنْهَا أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى جَاهِرًا بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمُصَلَّى تَرَكَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ } .
وَأَمَّا فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَلَا يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُجْهَرُ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُجْهَرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَلَيْسَ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إلَّا هَذَا التَّكْبِيرُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ قَائِدُهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَسَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَقَالَ لِقَائِدِهِ : أَكَبَّرَ الْإِمَامُ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : أَفَجُنَّ النَّاسُ ؟ وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ سُنَّةً لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِنْكَارِ مَعْنًى ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ

التَّخْصِيصُ فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ عَلَى الْأَصْلِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ التَّكْبِيرِ ، وَكَلَامُنَا فِي وَصْفِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ ، وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ ، ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ ، وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً } .
وَأَمَّا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، ( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ فِي الْمِصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ لِيُصَلِّيَ بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مَعَ خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا إعَانَةً لِلضَّعَفَةِ عَلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ فَكَانَ حَسَنًا ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سِوَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ عَلَى الضَّعَفَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ خَلَّفَ كَانَ أَفْضَلَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ فِي الْعِيدَيْنِ ؛ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ { كَانَ يَخْطُبُ فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى نَاقَتِهِ } ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ؛ وَلِهَذَا اتَّخَذُوا فِي الْمُصَلَّى مِنْبَرًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ اللَّبِنِ وَالطِّينِ ، وَاتِّبَاعُ مَا اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَاجِبٌ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ ، وَالْخُسُوفِ ، أَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ فَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَوْضِعِهَا ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ ، فَاسْتَثْنَى صَلَاةَ الْكُسُوفِ مِنْ الصَّلَوَاتِ النَّافِلَةِ ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ؛ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا نَافِلَةً ، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ : إنْ شَاءُوا صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا أَرْبَعًا ، وَإِنْ شَاءُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَالتَّخْيِيرُ يَكُونُ فِي النَّوَافِلِ لَا فِي الْوَاجِبَاتِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّهَا وَاجِبَةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ { : كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ : إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ } وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ { فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَقُومُوا وَصَلُّوا } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ { انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فَزِعًا فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُرْسَلُ لَا

تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُهَا لِيُخَوِّفَ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفِرُوهُ } ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { فَافْزَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ } وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إيَّاهَا نَافِلَةً لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ ، وَكُلُّ وَاجِبٍ زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّبَهَا بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَقَوْمَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا { : كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ { : كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَهُمَا حَتَّى تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ وَلَدُهُ إبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ ؛ لِيَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ } وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى رَكْعَتَيْنِ نَحْوَ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ } ، وَرَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ عَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا } ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ

عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِوَايَتَهُمَا قَدْ تَعَارَضَتْ رُوِيَ كَمَا قُلْتُمْ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ ، وَالْمُتَعَارَضُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا ، أَوْ نَقُولُ تَعَاضَدَ مَا رَوَيْنَا بِالِاعْتِبَارِ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ ، أَوْلَى أَوْ نَحْمِلُ مَا رَوَيْتُمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعًا رَكَعُوا وَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ ، وَعَلِمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقَلُوا عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمُوهُ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ وَاقِفَةً فِي خَيْرِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَنَقَلَا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمَا ، فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، كَذَا وَفَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ لَا مَخْرَجَ التَّخْيِيرِ ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ لَمَا اخْتَلَفُوا ثَمَّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ انْتِسَاخُ زِيَادَاتٍ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَاسْتَقَرَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ

الْيَوْمَ عِنْدَنَا ، فَكَانَ صَرْفُ النَّسْخِ إلَى مَا ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ نَسَخَهُ غَيْرُهُ ، وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ لَا لِلْكُسُوفِ ، بَلْ لِأَحْوَالٍ اعْتَرَضَتْ ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمَ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى كَانَ كَمَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا ثُمَّ تَأَخَّرَ كَمَنْ يَنْفِرُ عَنْ شَيْءٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْهُ بِاعْتِرَاضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَسَعُهُ التَّكَلُّمُ فِيهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَمَّا أَشْكَلَ الْأَمْرُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ إلَّا بِيَقِينٍ .

هَذِهِ الصَّلَاةُ تُقَامُ بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهَا بِالْجَمَاعَةِ ، وَلَا يُقِيمُهَا إلَّا الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ ، فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَهَا كُلُّ قَوْمٍ فِي مَسْجِدِهِمْ فَلَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ لِكُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقِيمُهَا إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِالْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا : إنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِصْرِ فَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ حِينَئِذٍ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى : إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ ، ثُمَّ إنْ شَاءُوا طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ ، وَإِنْ شَاءُوا قَصَرُوا وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً ، وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } فَالْأَفْضَلُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا .

وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْهَرُ بِهَا ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ، ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ } ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ } وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكُنْتُ إلَى جَنْبِهِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي الْقِرَاءَةِ لِتَصِيرَ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ مُشْتَرَكَةً ؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِهَذَا الْفَزَعِ ، كَمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي صَلَوَاتِ النَّهَارِ ؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِالْمَكَاسِبِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَعَارَضَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَقِيَ لَنَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مَعَ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ ، وَنَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِبَعْضِهَا اتِّفَاقًا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَلَا خُطْبَةَ فِيهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ } ، وَلَنَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمْ تُنْقَلْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى قَوْلِهَا خَطَبَ أَيْ دَعَا ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْخُطْبَةِ رَدًّا لِقَوْلِ النَّاسِ : إنَّمَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ لَا لِلصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) خُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا حَسَنَةٌ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } وَهِيَ لَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ { صَلَّى بِالنَّاسِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ ، وَقَالَ : صَلَّيْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ ، وَقِيَامِ رَمَضَانَ ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِاللَّيْلِ مُتَعَذَّرٌ ، أَوْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ ؛ لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ .

وَكَذَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ : كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ ، وَالزَّلْزَلَةِ ، وَالظُّلْمَةِ ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ الْأَفْزَاعِ ، وَالْأَهْوَالِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ .

وَأَمَّا مَوْضِعُ الصَّلَاةِ : أَمَّا فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ فَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُصَلَّى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدُ ، أَوْ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتُؤَدَّى فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ ؛ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ .
وَلَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَجْزَأَهُمْ ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ ؛ لِمَا مَرَّ .
وَأَمَّا وَقْتُهَا فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ أَدَاءُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ دُونَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَالنَّوَافِلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَسْبَابٌ عِنْدَنَا كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ ، وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ : وَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ ) .
فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ " وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَيْ لَا صَلَاةَ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : " سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الِاسْتِسْقَاءِ هَلْ فِيهِ صَلَاةٌ أَوْ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ أَوْ خُطْبَةٌ ؟ فَقَالَ : أَمَّا الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَلَا ، وَلَكِنْ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَلَا بَأْسَ بِهِ " ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : " يُصَلِّي الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ " وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ } وَالْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ } ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } .
وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صَلَّى فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى الْجُمُعَةَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَاسْقِ لَنَا الْغَيْثَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَدَعَا ،

فَمَا ضَمَّ يَدَيْهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلَهُ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَجَلْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَأَنْشَدَ فَقَالَ أَتَيْنَاك وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنْ الطِّفْلِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا إلَيْك فِرَارُنَا وَلَيْسَ فِرَارُ النَّاسِ إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا عَذْبًا طَيِّبًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ فَمَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إلَى صَدْرِهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ وَجَاءَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَصِيحُونَ الْغَرَقَ الْغَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ حَتَّى أَحْدَقَتْ بِالْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ مَنْ يُنْشِدُنَا قَوْلَهُ ؟ فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوَّلًا } وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ بِجَمَاعَةٍ بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَا اسْتَسْقَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ لَقَدْ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى

{ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيُّكَ وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فَمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى سُقُوا ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَسْقَى وَلَمْ يُصَلِّ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ حَدِيثٌ شَاذٌّ وَرَدَ فِي مَحِلِّ الشُّهْرَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ يَكُونُ بِمَلَأٍ مِنْ النَّاسِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ يُرَجَّحُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ ، أَوْ وَهْمُهُ عَلَى ضَبْطِهِ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مَعَ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي دِيَارِهِمْ ، وَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاذُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ مَا شَاءَ جَهْرًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ، وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يُكَبِّرُ فِيهَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَخْطُبُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْطُبُ ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّوْا وُحْدَانًا يَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ ، وَالْجَمَاعَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَذَا الْخُطْبَةُ ، ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْجِلْسَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ ، وَلَا يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، وَلَا يَصْعَدُهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ مِنْبَرٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ ، وَقَدْ عَابَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَنَسَبُوهُ إلَى خِلَافِ السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنْ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ وَإِنْ تَوَكَّأَ عَلَى عَصًا فَحَسَنٌ ؛ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَصًا ، وَيَخْطُبُ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ إلَى النَّاسِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا

يَتِمُّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ، وَيَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَيُنْصِتُونَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُمْ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ وَوَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَيَشْتَغِلُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ ، وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ بِوُجُوهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ فَيَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيُجَدِّدُونَ التَّوْبَةَ وَيَسْتَسْقُونَ .

وَهَلْ يَقْلِبُ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَا يَقْلِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَقْلِبُ إذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ فَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَلَبَ رِدَاءَهُ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَسْقَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَقْلِبْ الرِّدَاءَ } ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ الثَّوْبِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرِّدَاءَ مُحْتَمَلٌ ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ فَأَصْلَحَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَلَبَ ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ فَفَعَلَ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَكَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُرَبَّعًا جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا جَعَلَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ .
وَأَمَّا الْقَوْمُ فَلَا يَقْلِبُونَ أَرْدِيَتَهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْلِبُونَ أَيْضًا ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَحَوَّلَ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ } وَهُمَا يَقُولَانِ : إنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ شَاذٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ؛ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَدْبِرًا لَهُمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .

ثُمَّ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ سُنَّةٌ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ } .

الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ، وَالنَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ ، وَالثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ وَإِنْ أَمَرَ الْأَمَامُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ خَرَجُوا ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَحْطَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ } وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ ، وَإِذَا خَرَجُوا اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ إلَّا إذَا أَمَرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جَمَاعَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حُضُورُ الْإِمَامِ ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ إذْنُ الْإِمَامِ .

وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ إنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِمْ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ يَنْظُرُونَ نُزُولَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ ، وَالْكُفَّارُ مَنَازِلُ اللَّعْنَةِ وَالسَّخْطَةِ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْخُرُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ فَهِيَ السُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ هَذِهِ السُّنَنِ ، وَمَقَادِيرِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ فِيهَا ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقْتُ جُمْلَتِهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لِلْمَكْتُوبَاتِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهَا فِي الْوَقْتِ ، وَمِقْدَارُ جُمْلَتِهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً : رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ ، وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ ، وَرَكْعَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا مِقْدَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَوَقْتُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ : فَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ قَبْلَهُ فَحَسَنٌ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَصْرِ : وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ ، وَفِي الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْعَصْرِ ، وَالْعَمَلُ فِيمَا رَوَيْنَا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ .
وَالْأَصْلُ فِي السُّنَنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ : رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، } ، وَقَدْ وَاظَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِعُذْرٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ السُّنَّةِ ، وَأَقْوَى السُّنَنِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالتَّرْغِيبِ

فِيهِمَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { صَلُّوهُمَا فَإِنَّ فِيهِمَا لَرَغَائِبَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ } وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ } مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا قَوْلًا عَلَى مَا نَذْكُرُ وَعَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُحَافَظَةِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ إلَّا أَنَّهُ زَادَ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ ، وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْت : مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَقُلْتُ : أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقُلْتُ : بِتَسْلِيمَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ ؟ فَقَالَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَالتَّسْلِيمُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّشَهُّدِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلَامِ كَمَا فِيهِ مِنْ

الشَّهَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْبَعِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ غَيْرَ ثَابِتٍ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فَصْلِهِ إيَّاهَا .
وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا ، وَفِي بَعْضِهَا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ حَسَنًا لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ كَانَتْ لَهُ جُنَّةً مِنْ النَّارِ } وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا } ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْأَصْلِ : إنَّ التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعِشَاءِ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِهَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فِي الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ لَهُ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا { سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ : كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً ، كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ : وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ ، وَأَرْبَعٌ

بَعْدَهَا ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا وَقِيلَ : هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ أَمَّا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ ؛ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ } ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ نَظِيرُ الظُّهْرِ ، ثُمَّ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَذَا قَبْلَهَا .
وَأَمَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ فِيمَا قُلْنَا جَمْعًا بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ } ، فَجَمَعْنَا بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ بِمِثْلِهَا ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا } وَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَهَا كَمْ شَاءَ ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ : السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا غَيْرُ ؛ لِمَا رَوَيْنَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا فَالْقِرَاءَةُ فِي السُّنَنِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَطَوُّعٌ وَكُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ كُلُّ شَفْعٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْهَا فَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِلِاشْتِبَاهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا حَتَّى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا مَرَّ .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّي شَيْئًا مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مِنْ الْفَجْرِ ، فَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الْفَجْرُ تَرَكَهُمَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ لَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ كَانَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ لَا يَرَى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ } .
وَأَمَّا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ .
وَأَمَّا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ فَضِيلَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ : { تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِسَائِرِ النَّوَافِلِ ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِهَا فَوَاتُ النَّوَافِلِ ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِ النَّوَافِلِ فَوْتُهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَكَانَ إحْرَازُ فَضِيلَتِهَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّ التَّرْغِيبَ فِيهِمَا قَدْ وُجِدَ حَسْبَمَا وُجِدَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَاخْتَلَفَ تَخْرِيجُ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَشَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِيَنَالَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ عِنْدَ فَوْتِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مَوْهُومٍ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إحْرَازِ إحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يُحْرِزُ الْأُخْرَى ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَأْتِ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ بَعْدُ يَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِهَا ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَأَيَّدَتْ بِالِانْضِمَامِ إلَى فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ ، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى ، غَيْرَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَإِنَّ مُحَمَّدًا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ : إنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالتَّطَوُّعِ إذَا كَانَ يَرْجُو إدْرَاكَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَفَاتَتْهُ فَضِيلَةُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا .
وَلَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هِيَ التَّحْرِيمَةُ ، وَهِيَ تَبْقَى مَا دَامَتْ الْأَرْكَانُ بَاقِيَةً فَكَانَتْ تَكْبِيرَةُ

الِافْتِتَاحِ بَاقِيَةً بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ ، فَصَارَ مُدْرِكًا مِنْ وَجْهٍ وَصَارَ مُدْرِكًا أَيْضًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا } ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَكْعَةٌ لَا غَيْرُ ، وَالْمُسْتَدْرَكُ رَكْعَةٌ وَقَعْدَةٌ ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا فَاتَتَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا عِبْرَةَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا فَاتَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ، وَالْفَائِتُ أَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَعَجَزَ عَنْ إحْرَازِهِمَا فَيَخْتَارُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِمَا انْضَمَّ إلَى إحْرَازِهَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْضِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { تَفْضُلُ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أَمَّا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَإِمَّا إنْ شَرَعَ فِي الْفَرْضِ ، فَإِنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَتَمَّ الشَّفْعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَمَّا إتْمَامُ الشَّفْعِ ، فَلِأَنَّ صَوْنَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ وَاجِبٌ ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ فِي التَّطَوُّعِ زِيَادَةٌ عَلَى الشَّفْعِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَابْتِدَاءِ تَطَوُّعٍ آخَرَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ .
وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِي الْفَرْضِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقْطَعُهَا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ نَقْصًا صُورَةً فَلَيْسَ بِنَقْصٍ مَعْنًى لِأَنَّهُ لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ ، وَالْهَدْمُ لِيَبْنِيَ أَكْمَلُ يُعَدُّ إصْلَاحًا لَا هَدْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ هَدَمَ مَسْجِدًا لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَأْثَمُ ، وَإِذَا قَيَّدَ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَقْطَعْ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ ، وَالْفَرْضُ بَعْدَ إتْمَامِهِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صَوْنُ الْمُؤَدَّى وَاسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ { صَلَاةُ الرَّجُلِ بِالْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى التَّشَهُّدِ وَيُسَلِّمُ ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى حَالِهِ قَائِمًا ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَعْدَةِ

كَانَتْ سُنَّةً ، وَقَعْدَةُ الْخَتْمِ فَرْضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ أَتَمَّهَا ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ ، وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَيَجْعَلُهَا تَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ مَا لَكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا : كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا مَعَهُ وَاجْعَلَا ذَلِكَ سُبْحَةً } أَيْ : نَافِلَةً وَكَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ وَلَوْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَصْرِ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ ، وَيَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْخُرُوجِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْمُكْثِ .
وَأَمَّا فِي الْمَغْرِبِ فَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لَأَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ .
وَلَوْ قَطَعَ كَانَ بِهِ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فِيهَا لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثَّلَاثِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ ، وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ

أَرْبَعًا فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِتَصِيرَ شَفْعًا لَهُ ، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ : يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ يَقْعُدُ مَعَهُ وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ ثُمَّ جَازَ هَذَا التَّغْيِيرُ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ ، كَذَا هَذَا فَإِنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَامِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلرَّكْعَتَيْنِ لِخُرُوجِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فَلِذَلِكَ يُتِمُّ أَرْبَعًا لَوْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ ، هَذَا إذَا كَانَ لَمْ يُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّاهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بَعْدَهَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَلَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا ؟ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي سَائِرِ السُّنَنِ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا لَا تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا ، أَوْ مَعَ الْفَرِيضَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : تُقْضَى قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ ، وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا مِنْ قَبْلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ } وَفِي رِوَايَةٍ { رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَرَوْنِي ، فَقُلْتُ : أَفَأَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا ؟ فَقَالَ : لَا } وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اُخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَرِكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَجِبَ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ ، وَلِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْفِعْلُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَا يَكُونُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا .
وَأَمَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقَدْ فَعَلَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ

بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنَّهُمَا عَرَفَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
أَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنْ فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ تُقْضَى مَعَ الْفَرْضِ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا نَامَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّ الشَّمْسِ فَارْتَحَلَ مِنْهُ ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ } .
وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا لَا تُقْضَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تُقْضَى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَاهُمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ } فَصَارَ ذَلِكَ وَقْتَ قَضَائِهِمَا ، وَلَهُمَا أَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ تَوَابِعَ لِلْفَرَائِضِ فَلَوْ قُضِيَتْ فِي وَقْتٍ لَا أَدَاءَ فِيهِ لِلْفَرَائِضِ لَصَارَتْ السُّنَنُ أَصْلًا ، وَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَمْ تَبْقَ سُنَنٌ مُؤَكَّدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً بِوَصْفِ التَّبَعِيَّةِ ، وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقُضِيَتَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا فَاتَتَا وَحْدَهُمَا ، وَلَا وَجْهَ إلَى قَضَائِهِمَا وَحْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا ، وَلِهَذَا لَا يُقْضَى غَيْرُهُمَا مِنْ السُّنَنِ وَلَا هُمَا يُقْضَيَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ .

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ سُنَنُ الصَّحَابَةِ فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ، وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ ، وَقْتِهَا ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهَا ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا ، وَفِي سُنَنِهَا ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا ؟ .
أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ سُنَّةٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : الْقِيَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا بَلْ أَقَامَهَا فِي بَعْضِ اللَّيَالِي ، رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّاهَا لِلَيْلَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ تَرَكَ وَقَالَ : أَخْشَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ } لَكِنْ الصَّحَابَةُ وَاظَبُوا عَلَيْهَا فَكَانَتْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَدْرُهَا فَعِشْرُونَ رَكْعَةً فِي عَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ ، فِي خَمْسِ تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ تَرْوِيحَةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ : سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً ، وَفِي قَوْلٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ .

وَأَمَّا وَقْتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ الْوِتْرِ ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ : وَقْتُهَا مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ نَاسِيًا ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ إمَامٌ آخَرُ التَّرَاوِيحَ مُتَوَضِّئًا ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؟ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْعِشَاءَ وَالتَّرَاوِيحَ جَمِيعًا : أَمَّا الْعِشَاءُ فَلَا شَكَّ فِيهَا .
وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ ؛ فَلِأَنَّهَا تُصَلَّى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا .

وَهَلْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَا تَأْخِيرُهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سُنَنُهَا فَمِنْهَا الْجَمَاعَةُ وَالْمَسْجِدُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ مَا صَلَّى مِنْ التَّرَاوِيحِ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْهَا بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةً ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ ، وَالْمَسْجِدِ ، أَنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ أَمْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا سُنَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ .
وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كُلُّهُمْ إقَامَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أَسَاءُوا وَأَثِمُوا ، وَمَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ بِجَمَاعَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ لِتَرْكِهِ ثَوَابَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ .

وَمِنْهَا نِيَّةُ التَّرَاوِيحِ أَوْ نِيَّةُ قِيَامِ رَمَضَانَ ، أَوْ نِيَّةُ سُنَّةِ الْوَقْتِ .
وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا ، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ ، قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا : إنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ ؛ وَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً ، وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ ، أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ ، أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ .

وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِمَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، أَوْ النَّافِلَةَ قِيلَ : يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا التَّرَاوِيحَ ، وَقِيلَ : لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِعَمَلِ السَّلَفِ .

وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى بِمَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ قِيلَ : لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ فَكَانَ نِيَّةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَغْوًا ، وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِمُصَلِّي الْأَرْبَعِ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا .

وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَالْمُقْتَدِي أَيْضًا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ ، وَفِي التَّعَوُّذِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعُ الثَّنَاءِ ، أَوْ تَبَعُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ التَّشَهُّدِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ .

وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ : يَقْرَأُ فِيهَا كَمَا يَقْرَأُ فِي أَخَفِّ الْمَكْتُوبَاتِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ ، وَقِيلَ : يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ ، وَقِيلَ : يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَاسْتَقْرَأَهُمْ وَأَمَرَ أَوَّلَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً ، وَأَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ آيَةً ، وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ سُنَّةٌ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّةً فِي التَّرَاوِيحِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ .
وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْقَوْمِ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالْكَسَلِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لَا يُوجِبُ تَنْفِيرَ الْقَوْمِ عَنْ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ ، وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي التَّرْوِيحَاتِ كُلِّهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَا الْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُطَوِّلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْفَرَائِضِ .

وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ .
وَلَوْ صَلَّى تَرْوِيحَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً تَتَأَدَّى بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، لَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ بِتَرْكِ التَّسْلِيمَةِ ، وَالتَّحْرِيمَةِ ، وَالثَّنَاءِ ، وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ : إنَّهُ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا ؛ لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيَاسًا ، ثُمَّ إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلًا ، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ .
وَلَوْ صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ

: لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ تَنَفَّلَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ، وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا وَهُوَ الْمَغْرِبُ جَازَ ، فَكَذَا النَّفَلُ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ فِي النَّوَافِلِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الْمَغْرِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا ، وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا لَمْ تَجُزْ النَّافِلَةُ فَكَذَا فِي التَّرَاوِيحِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ سَاهِيًا فِي الثَّالِثَةِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ صَحَّتْ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا يَضُمُّ رَكْعَةً أُخْرَى إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَشَرَعَ فِي الثَّالِثَةِ بِلَا تَحْرِيمَةٍ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا قَالَ بَعْضُهُمْ : يُجْزِئُهُ عَنْ التَّرَاوِيحِ كُلِّهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِكُلِّ شَفْعٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ .

وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ تَرْوِيحَةٍ إمَامٌ وَاحِدٌ ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ ، وَعَمَلُ السَّلَفِ وَلَا يُصَلِّي التَّرْوِيحَةَ الْوَاحِدَةَ إمَامَانِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ ، وَيَكُونُ تَبْدِيلُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ .

وَلَا يُصَلِّي إمَامٌ وَاحِدٌ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَى الْكَمَالِ وَلَا لَهُ فِعْلٌ وَلَا يُحْتَسَبُ التَّالِي مِنْ التَّرَاوِيحِ ، وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ إمَامِهِمْ نَافِلَةٌ ، وَصَلَاتُهُمْ سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ أَقْوَى فَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَمَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ مَحْسُوبٌ ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا وَلَا بَأْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُتَطَوِّعِ بِمَنْ يُصَلِّي السُّنَّةَ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَدَخَلَ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

إذَا صَلَّوْا التَّرَاوِيحَ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوهَا ثَانِيًا يُصَلُّونَ فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ ، وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِجَمَاعَةٍ مَكْرُوهٌ .

وَيَجُوزُ التَّرَاوِيحُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا لَوْ صَلَّاهَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ السُّنَّةِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا ، وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ .

وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ كُلَّمَا صَلَّى تَرْوِيحَةً قَعَدَ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ يُسَبِّحُ ، وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو وَيَنْتَظِرُ أَيْضًا بَعْدَ الْخَامِسَةِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَارَثٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ بَعْدَ خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَعَمْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُسْتَحَبُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَدَائِهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا ؟ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا تُقْضَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُقْضَى ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ ، وَفِي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مَنْ التَّطَوُّعِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ فِيهِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ ، وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْإِبْطَالِ ، وَذَا بِلُزُومِ الْمُضِيِّ فِيهَا ، وَإِذَا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كَمَا فِي الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ كَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : نَعَمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ .
وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِيهَا يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَصْلًا ، أَوْ نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَسْقُطُ عَنْهُ ، وَتَنُوبُ هَذِهِ عَنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ

إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى ، وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا حِينَ شَرَعَ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ ، فَلَا يَنُوبُ هَذَا الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ ، وَإِنْ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ .
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزُفَرَ وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غَيْرَ مُلْزِمٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فِيهِ عَلَى الْبَعْضِ كَالْمَاءِ ، فَإِنَّ مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً ، وَقَطْرَةٌ مِنْهُ تُسَمَّى مَاءً ، وَكَذَا الْخَلُّ وَالزَّيْتُ ، وَكُلُّ مَائِعٍ ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ مِنْهُ اسْمُ الْكُلِّ كَالسَّكَنْجَبِينِ ، لَا يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجيبا ، وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا ، وَلَا الْخَدُّ وَحْدَهُ وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا ، ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَهِيَ : الْقِيَامُ ، وَالْقِرَاءَةُ ، وَالرُّكُوعُ ، وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ .
وَمِنْ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا

الْأَصْلُ فَنَقُولُ : إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ ، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُبَاشِرْ مِنْهَا فِيمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا ، فَبَعْدَ هَذَا يَقُولُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ فِي الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ ، وَفِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا فَنَقُولُ : وُجُوبُ الْمُضِيِّ فِي التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ قُرْبَةً ، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ مَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ وَالْمُضِيُّ لَوْ وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ وَمَا انْعَقَدَ عِبَادَةٌ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ ، فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، مَحْظُورَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ ، وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَبِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ ، وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ فَأَمَّا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا حَظْرَ فِيهَا فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا ، ثُمَّ صِيَانَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ وَلَكِنْ لَوْ مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ ، وَتَقْرِيرُهَا وَاجِبٌ ، وَمَا يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ وَمَحْظُورٌ أَيْضًا فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ مِنْ وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ .
وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ الْمُتَقَرِّرَةَ ، وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ

فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى مِنْ الِامْتِنَاعِ فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : إنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ فِي ثُبُوتِهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ كَانَ قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ ، فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ ، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ هَذِهِ الْفُرُوقَ ، وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ ، وَلَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَهَا مَعَ هَذَا وَقَضَى فِي وَقْتٍ آخَرَ كَانَ أَحْسَنَ ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى خَالِيًا عَنْ اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّى مَعَ هَذَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ ، وَقَدْ أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ .

وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، ثُمَّ الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَصِحَّ فَلَا ، حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، أَوْ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ ، وَكَذَا الْقَارِئُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ ، أَوْ فِي صَلَاةِ امْرَأَةٍ ، أَوْ جُنُبٍ ، أَوْ مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ ، وَكَذَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ .
وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كَانَ ، أَوْ مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ لَلَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا : قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا : يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذَلِكَ الْعَدَدُ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَرَوَى غَسَّانُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ مَا تَنَاوَلَهُ ، وَإِنْ كَثُرَ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ وَكَذَا بِالشُّرُوعِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عَنْهُ أَنَّ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ فَهَذَا أَوْلَى ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ مَا ثَبَتَ وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْمُؤَدِّي عَنْ الْبُطْلَانِ ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ مَا تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَا وُجِدَ الشُّرُوعُ فِيهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ ، وَلِأَنَّهُ مَا وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَا

ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الشَّفْعِ الثَّانِي ، بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا الْتَزَمَ .
وَكَذَا الْجَوَابُ فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَضَى أَرْبَعًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقْضِي فِي التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَرْبَعِ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَقَالَ : لَوْ قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا .
وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ : مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ وَبَيَّنَهُمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ ، وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً ، مِنْهُ الشَّفْعُ الثَّانِي عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا ، وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهَا تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ كَمَا فِي الْأُولَيَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثِ لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا يَسْتَفْتِحُ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ ،

وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ النَّفْلِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فِيهِ .
وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَصِحُّ ، وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ سَهْوُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ فِي الشَّرْعِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، أَوْ حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ ، أَوْ عَوْدُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعْمَلُ التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ فِي التَّحْلِيلِ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمُتَنَفِّلِ بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كَانَ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ كَانَتْ الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ ، وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا

بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي التَّطَوُّعِ ، وَقَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَمْ نَجْعَلْ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وَهُوَ الْخُرُوجُ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ الصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَمْ يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فَلَمْ تَبْقَ الْقَعْدَةُ فَرْضًا ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَسَدَ فَلَمْ يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا : إذَا صَلَّى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَدَتْ ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ مَا قَبْلَهَا .
وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الَّذِي مَضَى عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا فَتَكَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ ، فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ .

وَلَوْ اقْتَدَى الْمُتَطَوِّعُ بِمُصَلِّي الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا ، أَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ .

وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لَمْ يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي الظُّهْرِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شَيْئًا .

، وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الزِّيَادَةِ لَغْوًا .

هَذَا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِ الصَّلَاةِ فِي الْوَضْعِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صَلَّى التَّطَوُّعَ أَرْبَعًا ، وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهِنَّ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَإِنْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ النَّفْلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا ، يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ مَا هُوَ رُكْنٌ ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ أَنَّهُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ التَّرْكِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا ، كَذَا هَذَا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِفْسَادِ ، وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ سَوَاءً فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَمْ تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ رُكْنًا وَلَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَا عُقِدَتْ لِهَذَا

الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ لَهُ الشَّفْعُ الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، ثُمَّ يَفْسُدُ هُوَ أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مَعَ بُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخِرًا ، وَتَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا ؛ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ بِيَقِينٍ ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هَذَا الشَّفْعِ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَقُولُ : بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غَيْرَ أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلَمْ نَحْكُمْ بِبُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ ، وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْحُكْمِ بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ فِي هَذَا الشَّفْعِ أَيْضًا إذَا عَرَفْت هَذَا الْأَصْلَ ، فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِفَسَادِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ ، وَعِنْدَ أَبِي

يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا ، فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جَمِيعًا .
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ ، أَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ هَذَا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا .
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ ؛ فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ صَلَاةٌ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهِ قَدْ صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَصَحَّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً فَلَا يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ ، وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ؛ فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ ، وَأَنَّهَا انْعَقَدَتْ

لِلْأَدَاءِ ، وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ .
وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، قَضَاءُ الْأَرْبَعِ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ .
وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ .
وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْكُلِّ وَكَذَا ، لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ وَلَا تَتَأَتَّى هَذِهِ التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ .

وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ رَجُلٌ اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي مَا يَقْضِي إمَامُهُ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا .
وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا ، وَقَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ .
وَأَمَّا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هَذَا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَمْ يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ حَتَّى حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هَذَا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ } وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بْنِ رُوَيْبَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ .
{ ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : أَحْمَزُهَا أَيْ : أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ } .
وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ } أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ فَظَهَرَ مَثْنَى مَثْنَى مِنْ لَدُنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا { سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ : كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ } ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذَلِكَ ، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَكَلِمَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَادَةِ ، وَالْمُوَاظَبَةِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِبُ إلَّا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ كَمَا فِي صِفَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ ، ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ أَيْ : فَتَشَهَّدَ ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ : " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ، وَالتَّسْلِيمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا جَازَ ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ، فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ

لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ ، فَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا ، وَإِنْ شِئْت سِتًّا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ ، أَوْ إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ ، وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ ؛ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ .
وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ أَوْ عَلَى الثَّمَانِ فِي اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ

لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وَهُوَ الشُّرُوعُ .

ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى عَلَى حَسَبِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ ، وَقَالَ : الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ ؟ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ } أَيْ : الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } : إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ } وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ .
أَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ : أَحَدُهَا مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ ، وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ ، وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَهُوَ احْمِرَارُهَا ، وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ .
فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ لَهُ ، أَوْ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَقَالَ : الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ } ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَإِذَا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ ، وَقَالَ : لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ } وَرَوَى

الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقَالَ : إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُهَا حَتَّى يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا ، فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا ، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا ، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ } فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ ، وَنَبَّهَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ ، وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ ، وَيَسْجُدُونَ لَهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لَهَا ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا ، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لَهَا فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بَيْنَ قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نَحْوَ الشَّمْسِ لَهُ ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ ، وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بِهَا .

وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا : مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ الْمُبْتَدَإِ مَكْرُوهٌ فِيهَا .
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ، وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فَقَالَ : عَزَمْت عَلَى مَنْ أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَقُمْ فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ تَوَضَّأْنَا جَمِيعًا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ : كُنْت سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لَمْ يُحْدِثْ كَانَتْ نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ } فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ : إنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ وَنَ حْنُ نَفْعَلُ مَا أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : شَغَلَنِي وَفْدٌ عَنْ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فَقَالَتْ وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا } أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ ، لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ ، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ ، وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَكْرِ لِمِثْلِهِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، وَهُوَ إخْرَاجُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ

فِي حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ .

وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الَّذِي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ مِنْ النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ نَفْلٌ فِي نَفْسِهِ ، وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عَنْ الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا فِي نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ .

( وَمِنْهَا ) مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فِيهِ النَّفَلُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ .

وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ ، كَمَا تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السُّنَنِ .

وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا ، وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ وَالْكَلَامُ ، وَجَمِيعُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ .

( وَمِنْهَا ) مَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَنْهَاهُمْ فَقَالَ : لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرٌ .
وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ ، فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، فَلَا يَكُونُ فِي إلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ آيَاتٍ ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ } .

وَكَذَا لَوْ افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ .
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا : إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ : إنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ وَضْعًا ، وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ عِبَادَةً عَنْ الْبُطْلَانِ ، وَمَا انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ مَا بَقِيَ ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ مَا بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عَنْ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فَإِذَا أَوْجَبَ مَعَ الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ ، لَا رِوَايَةَ فِيهِ فَقِيلَ : إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوعِ ، وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ قَائِمًا ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ

مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ عَلَى مَا مَرَّ .

افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ ، أَوْ نَحْوُهَا قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ ، وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ } فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ .

أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي التَّطَوُّعِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ ، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَقَطْ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ، أَوْ يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا } قَالَ مُحَمَّدٌ : تَأْوِيلُهُ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا مِنْ التَّطَوُّعِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَيْ : رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ : لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا مِنْ التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ، فَكَانَ هَذَا أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فِي التَّطَوُّعِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ، وَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْ : لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ ؛ لِأَنَّهُ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .
وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ، أَوْ اسْتَيْقَظَ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا } ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ { لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا } وَيُمْكِنُ حَمْلُ

الْحَدِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فِيهِ بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ ، وَالنَّهْيَ عَنْ اتِّبَاعِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا ، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا مَرَّ .

وَلَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا فِي الْفَرْضِ ، فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَمْ يُعِدْ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ .
وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ وَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هَلْ يَعُودُ أَمْ لَا ؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يَعُودُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ .
وَلَوْ كَانَ نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ مَشَايِخِنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ .

وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ } وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً فِي التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلَاتِهِ } وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .

وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مُوَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ .

وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي مَوْضِعِهِ ، .

وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ .
وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ ، وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ فِي الْجَنَائِزِ يَقَعُ فِي الْأَصْلِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَالثَّانِي فِي تَكْفِينِهِ ، وَالثَّالِثُ فِي حَمْلِ جِنَازَتِهِ ، وَالرَّابِعُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَالْخَامِسُ فِي دَفْنِهِ ، وَالسَّادِسُ فِي الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذَلِكَ نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ : إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ، كَمَا يُوَجَّهُ فِي الْقَبْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كَمَا يُضْجَعُ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ ، وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَوْتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } .
وَإِذَا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ ، وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ كَالْمُثْلَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَغَمَّضَهُ } وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَوْتِهِ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي } ؛ وَلِأَنَّ فِي الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ } إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ فِي جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ } نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ .

( فَصْلٌ ) : وَالْكَلَامُ فِي الْغُسْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ النَّصُّ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ } وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى : كَلِمَةُ إيجَابٍ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا ، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ كَرَامَةً لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ .
وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ فِي كُلِّ وَقْتٍ

، حَتَّى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ لَمَّا كَانَ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ .
وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً لَهُ فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ الْغُسْلُ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ فِي امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا ، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ : إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ ، وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ ، وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لَوْ اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَاءٍ جَارٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ - كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ - فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ ، وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فِيهِ كَرَامَةً لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ - فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْغُسْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَوْ غَرِقَ فِي الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كَانَ الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كَمَا يُحَرَّكُ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ : يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ أَوْ حُصُولِهِ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى .
وَأَمَّا غُسْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَمِيصِهِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ السِّنَةَ عَلَيْهِمْ فَمَا فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ ، حَتَّى نُودُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ .
وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ ، وَلَا شِرْكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّجْرِيدِ هُوَ التَّطْهِيرُ ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَاهِرًا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَوَلَّى غُسْلَهُ : طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا .

وَيُوضَعُ عَلَى التَّخْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ عَلَى الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أَوْ عَرْضًا ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57