كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

الْعَبْدِ تَصَرُّفًا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أَوْ يَدُلُّ عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أَوْ يَدُلُّ عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَبْدِ ، وَهُوَ حَقُّ الدَّفْعِ ، وَفِي تَفْوِيتِ الدَّفْعِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَرْضَى بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَهُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ : إذَا بَاعَ الْعَبْدَ بَيْعًا بَاتًّا ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي ، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلَا يَشْكُلُ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَهُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَهَذَا يَكْفِي دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الدَّفْعُ ، وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْبَرَمَ قَبْلَ الدَّفْعِ ، وَلَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ فَلَمْ يَفُتْ الدَّفْعُ ، وَلَوْ عَرَضَ الْعَبْدَ عَلَى الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ دَلِيلُ اسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا عَرَضَ الْمُشْتَرَى عَلَى الْبَيْعِ بَطَلَ اخْتِيَارُهُ فَكَانَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا يَفُوتُ

الدَّفْعُ ، وَلَيْسَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ أَيْضًا بَلْ هُوَ دَلِيلُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءَ ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَفُوتُ الدَّفْعُ ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يُزِيلَانِ الْمِلْكَ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَهَبَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا ، وَلَا شَيْء عَلَى الْمَوْلَى ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْهِبَةِ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَوَقَعَتْ الْهِبَةُ مَوْقِعَ الدَّفْعِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ ، وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ عَلَى الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ فَهُوَ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُفَوِّتُ الدَّفْعَ إذْ الدَّفْعُ تَمْلِيكٌ ، وَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ التَّمْلِيكِ ، فَكَانَتْ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَلَوْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَرَ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِأَمْرِهِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَكَانَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ قَتَلْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَتَلَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا .
( وَجْهُ

) قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُعْتَقًا بِالْقَوْلِ السَّابِقِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ ، وَلَا جِنَايَةَ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ لَا إعْتَاقَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُخْتَارًا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ مُنَجَّزًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِتَنْجِيزٍ مُبْتَدَأٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ بَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ : أَنْتَ حُرٌّ ، وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ : إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، فَمَرِضَ حَتَّى وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا يَصِيرُ فَارًّا عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَرِثَهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَخْبَرَ الْمَوْلَى إنْسَانٌ أَنَّ عَبْدَهُ قَدْ جَنَى فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَأَعْتَقَهُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ ، وَلَا عَدَالَتُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .

وَلَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا اخْتِيَارًا عَلَى التَّوَقُّفِ لِفَوَاتِ الدَّفْعِ فِي الْحَالِ عَلَى التَّوَقُّفِ ، فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ تَقَرَّرَ الِاخْتِيَارُ ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ خُوصِمَ قَبْلَ أَنْ يَعْجِزَ فَقَضَى بِالدِّيَةِ ثُمَّ عَجَزَ لَا يَرْتَفِعُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ وَجَبَتْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخَاصَمْ حَتَّى عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَأَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْجِزَ ، فَإِنْ عَجَزَ جُعِلَ كَأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بِنَفْسِهَا لِزَوَالِ يَدِهِ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الْعَجْزُ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا بِدُونِ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ ، وَهِيَ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ .
( وَأَمَّا ) الْإِجَارَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالتَّزْوِيجُ بِأَنْ زَوَّجَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ امْرَأَةً أَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْجَانِيَةَ إنْسَانًا فَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارًا ؟ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَمْ يَفُتْ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فَكَانَ الدَّفْعُ مُمْكِنًا فِي الْجُمْلَةِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْحَالِ مُتَعَذِّرٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ، وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ فَأَشْبَهَ التَّعْيِيبَ حَقِيقَةً .
وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ ؛ لِأَنَّ

الْمُقِرَّ مُخَاطَبٌ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ لِغَيْرِهِ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ إذْ الْعَبْدُ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلِكِ وَهُوَ الْيَدُ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْهُ ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى صَارَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّ الدَّفْعِ لَا إلَى خَلَفٍ هُوَ مَالٌ فَتَبْطُلَ الْجِنَايَةُ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً يَأْخُذُ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ ، وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي الْقِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنْ عَيَّبَهُ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا أَثَّرَ فِيهِ وَنَقَّصَهُ ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّقْصَانِ حَبَسَ عَنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ ، وَحَبْسُ الْكُلِّ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، فَكَذَا حَبْسُ الْجُزْءِ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى عَيْنَهُ فَابْيَضَّتْ ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى جُعِلَ مُخْتَارًا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ ، فَإِنْ ذَهَبَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ بَطُلَ الِاخْتِيَارُ ، وَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ مُخْتَارًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ ، وَقَدْ زَالَ فَجُعِلَ كَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ خُوصِمَ فِي حَالِ الْبَيَاضِ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي الْقِيمَةَ ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ فَقَضَاءُ الْقَاضِيَ نَافِذٌ لَا يُرَدُّ ، وَلَا يَبْطُلُ اخْتِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ وَقَعَ صَحِيحًا ، وَوَجَبَ الدَّيْنُ ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ، وَإِنْ اسْتَخْدَمَهُ ، وَهُوَ عَالَمٌ

بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِالِاسْتِخْدَامِ ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ ، وَكَذَا الِاسْتِخْدَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ، وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ عَطِبَ فِي الْخِدْمَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَبَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطِبَ قَبْلَ الِاسْتِخْدَامِ .

وَلَوْ كَانَ الْجَانِي أَمَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ جُزْءًا مِنْهَا حَقِيقَةً بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ ، وَهِيَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ صَارَ مُخْتَارًا ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَقْ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ عَلِقَتْ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَعْلَقْ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ إمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكُ الْيَمِينِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ النِّكَاحِ ، فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الْحِلِّ ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ دَلِيلًا عَلَى إمْسَاكِهَا لِنَفْسِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ إلَّا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا جُزْءًا مِنْ الْعَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِالْأَجْزَاءِ ، وَقُدِّرَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا حَصَلَ فِي الْمِلْكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ ، فَانْعَدَمَ النُّقْصَانُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَرَكِبَهُ دَيْنٌ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ .
( أَمَّا ) عَدَمُ صَيْرُورَتِهِ مُخْتَارًا فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُوجِبُ تَعَذُّرَ الدَّفْعِ لَا قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ ، وَلَا بَعْدَهُ وَأَمَّا لُزُومُ الْقِيمَةِ فَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، وَهُوَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، حِينَ لَوْ رَضِيَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بِقَبُولِهِ مَعَ النُّقْصَانِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ، ثُمَّ جَمِيعُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا

سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هَهُنَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ ، وَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا يَخْتَارُهُ ، وَهُوَ الْفِدَاءُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ اخْتِيَارُ الْإِيثَارَ ، وَاخْتِيَارُ الْإِيثَارِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ مُحَالٌ ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ إنْ كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يُخَاصَمْ فِيهَا حَتَّى رُدَّ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ أَوْ افْدِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ فَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَعُودُ بِالرَّدِّ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَسَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

، وَلَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ إنْسَانٍ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ فِيهِ فَاخْتَارَ الدَّفْعَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالدَّفْعُ عَلَى حَالِهِ لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ ثُمَّ يُخَيِّرُ ثَانِيًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ .
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَلَوْ كَانَ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ عَتَقَ الْعَبْدَ لِلْحَالِ حَتَّى صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ قِيَاسًا ، وَاسْتِحْسَانًا .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ عَنْ أَصْلِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ صَحَّ اخْتِيَارُهُ ، وَلَزِمَهُ مُوجَبُهَا ، وَبِالسِّرَايَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْلُ الْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ وَصْفُهَا ، وَالْوَصْفُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ الْمَتْبُوعِ اخْتِيَارًا عَنْ التَّابِعِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءَ عَنْ الْقَطْعِ لَمَا سَرَى إلَى النَّفْسِ ، وَمَاتَ فَقَدْ صَارَ قَتْلًا ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ ، فَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا عَنْ الْآخَرِ فَيُخَيَّرُ اخْتِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَلْزَمُهُ كُلُّ الدِّيَةِ ، وَلَا يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْكُلِّ وَالرِّضَا بِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ ، وَالْعَبْدُ لِلْحَالِ مَحَلٌّ لِلدَّفْعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ حَالًا لَا مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ ، وَالْفِدَاءُ كَالْخَلَفِ عَنْهُ فَيَكُونُ عَلَى نَعْتِ الْأَصْلِ ، ثُمَّ الدَّفْعُ يَجِبُ حَالًا فِي مَالِهِ لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَلِكَ الْفِدَاءُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ قِنًّا .

فَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا فَجِنَايَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا ظَهَرَتْ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ ، وَفِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَجِنَايَتَهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْمَوْلَى شَيْءٌ ، وَلَا يَتْبَعُ الْمُدَبَّرَ بَعْدَ الْعَتَاقِ كَجِنَايَةِ الْقِنِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ أَصْلِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَأَصْلُ الْوَاجِبِ بِهَا قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى الْمَوْلَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَضَيَا بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَبِالتَّدْبِيرِ مَنْعٌ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا لَوْ دَبَّرَ الْقِنَّ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْجِنَايَةَ .
( وَأَمَّا ) مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنْ كَانَتْ هِيَ الْأَقَلُّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَلَمْ يُمْنَعْ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ إلَّا الرَّقَبَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ قِيمَتِهِ لِمَا كَانَ قِنًّا ، وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ

أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ مِثْلَ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ الدِّيَةِ ، وَيُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَا تُزَادُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ يُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ ، وَسَوَاءٌ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى مِنْ جِنَايَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْمَنْعُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ .
وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ قِيمَةً وَاحِدَةً ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ فِي جِنَايَةِ الْقِنِّ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ مَعَ الدَّفْعِ ، كَذَلِكَ هَهُنَا ، وَتُقَسَّمُ قِيمَتُهُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ ، يَسْتَوِي فِيهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي دَفْعِ الْعَيْنِ هَكَذَا ، فَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ، وَسَوَاءٌ قَبَضَ مَا عَلَى الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَقْبِضْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ فَيَتَضَارَبُونَ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَوْمَ التَّدْبِيرِ ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ الْمَنْعُ ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ السَّابِقُ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ بَقَاءُ الْمُدَبَّرِ ، وَهَلَاكُهُ بِخِلَافِ الْقِنِّ إذَا جَنَى ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ وُجُوبُ الدَّفْعِ ، وَبِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الدَّفْعِ ، وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ بِأَنْ جَنَى وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ عَمِيَ لَمْ يُحَطُّ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَهُ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْهُ ثُمَّ هَلَاكُ كُلِّهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ

شَيْئًا فَكَذَا هَلَاكُ الْبَعْضِ ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ الْمَنْعُ ، وَأَنَّهُ مُتَّحِدٌ ، فَكَانَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ ، وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا سَبِيل لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى الدَّفْعِ ، وَالْمَجْبُورُ مَعْذُورٌ ، وَلَهُ أَنْ يَتْبَعَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا نَفْسًا ، وَالْأُخْرَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأَوَّلَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَدٍّ فِي دَفْعِ الْعَبْدِ ، وَالْقَابِضَ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى .

وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَدَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ، وَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَعِنْدَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا .
( وَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى هَهُنَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ مُنْعَدِمَةً وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مَوْجُودَتَيْنِ وَقْتَ الدَّفْعِ ، فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ إلَى الْأَوَّلِ تَعَدِّيًا فَيُضَمَّنُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى هُوَ الْمَنْعُ ، وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا ، فَصَارَ كَأَنَّ الْجِنَايَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الدَّفْعِ فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَكَانَ لَهُ تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَيَّرَهُ مَجْبُورًا فِي الدَّفْعِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَلْفًا آخَرَ ، وَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فِي الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسَلِّمُ الزِّيَادَةَ إلَى الثَّانِي ، وَيُقَسِّمُ تِلْكَ الْقِيمَةَ وَهِيَ الْأَلْفُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي يَتَضَارَبُونَ فِيهَا فَيَضْرِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ ، وَالثَّانِيَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ ؛

لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَلْفٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ تِلْكَ الْأَلْفِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا : عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ ، وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِلثَّانِي ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِ الْأَوَّلِ أَلْفَيْنِ ، وَوَقْتَ قَتْلِ الثَّانِي أَلْفًا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى شَيْئًا ، وَالْأَلْفُ تَكُونُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَالِمًا ، وَالْأَلْفُ لِلْآخَرِ تُقَسَّمُ بَيْنهمَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا : عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي ، وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ ، وَصَارَتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَزِيَادَةُ الْخَمْسمِائَةِ سَالِمَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لَا حَقَّ فِيهَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَالْأَلْفُ تَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ يَتَضَارَبُونَ فِيهَا ، فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ ، وَالثَّانِي بِتِسْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا ، تِسْعَةُ عَشَرَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي ، وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْمَوْلَى حَالًا ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي مَالِ الْمَوْلَى حَالًا كَمَا لَوْ دَبَّرَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَنْعِ كَالْخَلَفِ عَنْ ضَمَانِ الدَّفْعِ ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ مِنْ مَالِهِ حَالًا ، كَذَلِكَ هَهُنَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أُمَّ وَلَدٍ فَأُمُّ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا وَالْمُدَبَّرُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي جِنَايَتِهِمَا ضَمَانُ الْمَنْعِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ جِهَةَ الْمَنْعِ تَخْتَلِفُ ، فَالْمَنْعُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ بِالِاسْتِيلَادِ ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِالتَّدْبِيرِ ؛ لِذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ أَجْنَبِيًّا خَطَأً فَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ إذَا ظَهَرَتْ لَا عَلَى مَوْلَاهُ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ ، وَفِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَجِنَايَتُهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ ، وَالْمُدَبَّرِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَتَظْهَرُ أَيْضًا بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى فَلَمْ يَصِحَّ أَصْلًا ، وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ .
وَكَذَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ ظَاهِرًا ، وَلَوْ أَقَرَّ وَصَالَحَ ثُمَّ عَجَزَ فَحُكْمُهُ نَذْكُرهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا أَصْلُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَالْوَاجِبُ هُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ ، فَكَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ، بِخِلَافِ الْقِنِّ ، وَالْمُدَبَّرِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِشَيْءٍ مِنْ قِبَلِهِ ، وَهُوَ قَبُولُ الْكِتَابَةِ ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقِنِّ ، وَالْمُدَبَّرِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ .
( وَأَمَّا ) كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ : إنَّ قِيمَتَهُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَطْعِ ، وَالْبَتَاتِ ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى ثُمَّ عَجَزَ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ .
وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى بِلَا فَصْلٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ

وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا جَنَى جِنَايَةً ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِيمَةِ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتْمًا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ، وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ رَقَبَةً فَارِغَةً فَتُقْضَى بِقِيمَةٍ أُخْرَى .
وَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَالرَّقَبَةُ مَشْغُولَةٌ بِالْأُولَى ، وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقِيمَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ هُوَ امْتِنَاعُ الدَّفْعِ لِحَقٍّ ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ إذَا كَانَ لِحَقِّهِ كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ ، إذْ لَا خَرَاجَ مَعَ الضَّمَانِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ ، وَامْتِنَاعُهُ هَهُنَا لِعَارِضٍ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ زَوَالِهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ ، لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ ، فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ مِنْ الْقِنِّ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْقَوْلِ بِصَيْرُورَةِ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى التَّوَقُّفِ ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ التَّوَقُّفُ بِإِحْدَى مَعَانٍ : إمَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَدَّى فَقَدْ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ أَوْ بِالْعِتْقِ ( إمَّا ) بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ( وَإِمَّا ) بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ وَبِالْمَوْتِ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، وَإِذَا عَتَقَ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي كَسْبِهِ ، وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الدَّفْعِ

فَتَتَقَرَّرُ الْقِيمَةُ ، وَإِذَا تَرَكَ وَلَدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَلَدِ ، فَيَسْعَى عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ ، فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ وَيَعْتِقُ أَبُوهُ ، وَيَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً ، وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ أَوْ بِالصُّلْحِ عَلَى الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ ، هَذَا إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَةٌ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ .
( فَأَمَّا ) إذَا ظَهَرَتْ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْقِيمَةَ ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ وَلَا يَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّهُ وَصَّلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ .
وَكَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ ، وَلَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ بِإِعْتَاقِ مُبْتَدَأٍ أَوْ بِمَوْتِ الْمُكَاتِبِ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ ، وَلَدٍ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ ، فَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ - فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ بِهِ لِلْحَالِ ، وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَعَادَ قِنًّا كَمَا كَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ يُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ - بَطَلَ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَيُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ ، وَيُبَاعُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ ظَاهِرًا أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ

بِالْعَجْزِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ عَجَزَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لَمْ تَكُنْ لِمَكَانِ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكِتَابَةِ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى ، فَإِذَا عَجَزَ فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِإِكْسَابِهِ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِقْرَارِ صُلْحٌ بِأَنْ جَنَى الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً خَطَأً فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى مَالٍ جَازَ صُلْحَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى بَدَلَ الصُّلْحِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَوْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ لَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الصُّلْحُ ، وَلَا يَبْطُلُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدَّ بَدَلَ الصُّلْحِ ، وَلَا عَتَقَ حَتَّى عَجَزَ بَطَلَ الْمَالُ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ ، وَيَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ إنْسَانًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ إنَّهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ ، وَلَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَالِ ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ اثْنَيْنِ فَصَالَحَ الْمُكَاتَبُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَنْ صَالَحَهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَيَغْرَمُ الْمُكَاتَبُ لَهُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الدِّيَةِ ، فَالْوَاجِبُ فِي نِصْفِهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ بِالْكُلِّ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ لَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ .

وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى : ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ أَوْ افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ بَطَلَ عِنْدَهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ أَوْ يَفْدِيَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُبَاعُ فِي حِصَّةِ الْمَصَالِحِ أَوْ يَقْضِيَ عَنْهُ الْمَوْلَى .

( وَأَمَّا ) الْقِنُّ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا ، وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا ، وَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَصَالِحِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ ، أَوْ الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَصْلًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَقَدْ مَاتَ قِنًّا ، وَالْقِنُّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ مَاتَ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ أَصْلًا وَرَأْسَا ، وَمَا تَرَكَهُ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ ، إذَا مَاتَ عَبْدًا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَالَ الْمَوْلَى فَيَكُونَ لَهُ وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ ، وَتَرَكَ مَالًا ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَكِتَابَةٌ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى دَيْنٌ ضَعِيفٌ ؛ إذْ لَا يَجِبْ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَقْوَى أَوْلَى .
وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ : إنَّ شُرَيْحًا يَقُولُ : الْأَجْنَبِيُّ ، وَالْمَوْلَى يَتَحَاصَّانِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْطَأَ شُرَيْحٌ ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا قَضَاءَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْلَى ، وَكَانَ زَيْدٌ يَقُولُ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْفَى قَضَاؤُهُ عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ ، وَتَرَكَ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ ، وَجِنَايَةً فَالْجِنَايَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى ، وَلَوْ مَاتَ ، وَتَرَكَ مَالًا ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَكِتَابَةٌ ، وَجِنَايَةٌ ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا قُضِيَ بِهَا صَارَتْ دَيْنًا فَهُمَا دَيْنَانِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِالْبِدَايَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ ،

وَدَيْنُ الْجِنَايَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ بَعْدُ ، فَكَانَ الْأَوَّلُ آكَدَ وَأَقْوَى ، فَيُبْدَأُ بِهِ ، وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَوْلَى فَيُبْدَأُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمُوتُ قِنًّا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ إنَّ الْمُكَاتَبَ يَبْدَأُ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ ، إنْ شَاءَ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيّ ، وَإِنْ شَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ شَاءَ بِمَالِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِ ، وَالتَّدْبِيرُ فِي إكْسَابِهِ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّ دُيُونِهِ شَاءَ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ فَتَرَكَ وَلَدًا : إنَّ وَلَدَهُ يَبْدَأُ مِنْ كَسْبِهِ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ ، فَتَدْبِيرُ كَسْبِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مَوْتِهِ إلَى الْقَاضِي فَيُبْدَأُ بِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فِي قِيمَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ حُكْمًا فِي الْمَاضِي فَيَحْكُمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَخِيرِ : أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي زِيَادَةَ الضَّمَانِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ( وَأَمَّا ) قَدْرُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَاتِبِ مَنْعُ الزِّيَادَةِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ وَلَا يُخَيَّرُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ قَدْرَ الدِّيَةِ يَنْقُصُ مِنْ الدِّيَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَقَوَّمُ فِي الْجِنَايَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَالْبَدَلِ عَنْ الدَّفْعِ ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ .
وَكَذَا الْمَنْعُ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ ، وَهُوَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهِيَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ حَالًّا لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ الدَّفْعُ ، وَهَذَا كَالْخَلْفِ عَنْهُ ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَا الْخُلْفُ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ أَجْنَبِيًّا ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ مَوْلَى الْقَاتِلِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو : ( إمَّا ) إنْ كَانَ قِنًّا ( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ مُدَبَّرًا ( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ أُمَّ وَلَدٍ ( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَإِنْ كَانَ قِنًّا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً - فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا حَتَّى سَقَطَ الْقِصَاصُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ، وَلَا يَجِبُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يُقَالُ لِلَّذِي عَفَا : إمَّا أَنْ تَدْفَعَ نِصْفَ نُصِيبُكَ ، وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ تَفْدِيَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَدْ سَقَطَ نِصْفُ الْقِصَاصَ ، وَانْقَلَبَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ النِّصْفِ مَالًا شَائِعًا فِي النِّصْفَيْنِ نِصْفُهُ ، وَهُوَ الرُّبْعُ فِي نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَمَا كَانَ فِي نَصِيبِهِ يَسْقُطُ ، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَثْبُتُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إمَّا أَنْ تَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى ، وَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِبَ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ .
وَكَيْفَ مَا كَانَ فَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لَهُ ، وَعَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ؟ ، وَالْوَصِيَّةُ

لَا تُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَوَرَثَتُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا عَجَّلُوا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَوْفَوْا السِّعَايَةَ ثُمَّ قَتَلُوهُ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ ثَبَتَا لَهُمْ ، وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الْمَقْتُولِ بَلْ هِيَ بَدَلٌ عَنْ الرِّقِّ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَوْلَى وَلِيَّانِ عَفَا أَحَدُهُمَا - يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِخِلَافِ الْقِنِّ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ فَيَسْعَى ، وَهُوَ حُرُّ فَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنْ كَانَ أُمَّ وَلَدٍ فَقَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي السِّعَايَةِ فَأُمُّ الْوَلَدِ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا ، وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ، وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا ، وَلَهُ ابْنَانِ مِنْ غَيْرِهَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا ، وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَا فِي نِصْفِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ حُرَّةً وَقْتَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا وَتَسْعَى ، وَهِيَ حُرَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْحَالَيْنِ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ ،

وَحَالَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فِي الْحَالَيْنِ بِأَنْ قَتَلَتْ أَجْنَبِيًّا خَطَأً لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ .
وَكَانَتْ عَلَى الْمَوْلَى لَا عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً حَالَ الْجِنَايَةِ حُرَّةً حَالِ السِّعَايَةِ اعْتَبَرْنَا بِالْحَالَيْنِ فَأَوْجَبْنَا نِصْفَ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا إلَى وُجُودِ الْجِنَايَةِ .
وَأَوْجَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْمَوْلَى اعْتِبَارًا بِحَالِ وُجُوبِ السِّعَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ مِنْهَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهَا ، وَسَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ - فَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ فِي نَصِيبِ وَلَدِهَا ؛ إذْ لَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ قِصَاصُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ احْتِرَامًا لِلْأُمِّ ( وَأَمَّا ) لُزُومُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلتَّعَذُّرِ ، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْقِيمَةِ فَتَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ لَازِمَةٌ كَجِنَايَةِ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْسَابِهِ ، وَأَرْشُ جِنَايَاتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِإِكْسَابِهِ مِنْ الْمَوْلَى ، وَتَجِبُ الْقِيمَةَ حَالَّةً ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ فَتَكُونُ حَالَّةً كَمَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ مُدَبَّرِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( هَذَا ) إذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ حُرَّيْنِ أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا .

فَأَمَّا إذَا كَانَا عَبْدَيْنِ بِأَنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَالْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ كَانَ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ ، وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا لِمَوْلَى الْقَاتِلِ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لِأَجْنَبِيِّ بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ قِنًّا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا ، وَهَذَا وَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ بِالدِّيَةِ ، وَهَهُنَا يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِالْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لِوَلِيِّ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ هَدَرٌ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ لَازِمَةٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا إذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ، وَاَللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْمُوفِقُ .

( وَأَمَّا ) الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَنَوْعٌ هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى إنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ فَهَذَا الْقَتْلُ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِهِ لَا عَنْ قَصْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ مِنْ سَطْحٍ عَلَى قَاعِدٍ فَقَتَلَهُ ( أَمَّا ) وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْقَصْدِ ( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاعِدُ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَوْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ مَاتَ السَّاقِطُ دُونَ الْقَاعِدِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ قُعُودَهُ فِيهِ جِنَايَةً لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاعِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي الْقُعُودِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَيُهْدَرُ دَمُ السَّاقِطِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ قُعُودُهُ فِيهِ جِنَايَةً فَدِيَةُ السَّاقِطِ عَلَى الْقَاعِدِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْقُعُودِ فَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كَمَا فِي الْبِئْرِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ حَامِلًا سَيْفًا أَوْ حَجَرًا أَوْ لَبِنَةً أَوْ خَشَبَةً فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ فِيهِ وَحُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُصُولِ الْآلَةِ لِبَشَرَةِ الْمَقْتُولِ ( وَلَوْ ) كَانَ لَابِسًا

سَيْفًا فَسَقَطَ عَلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ ثَوْبُهُ أَوْ رِدَاؤُهُ أَوْ طَيْلَسَانُهُ أَوْ عِمَامَتُهُ ، وَهُوَ لَابِسُهُ عَلَى إنْسَانٍ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَتَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ فِي اللَّبْسِ ضَرُورَةً ؛ إذْ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ هَذِهِ ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ السُّقُوطِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ ، فَكَانَتْ الْبَلِيَّةُ فِيهِ عَامَّةً فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْحَمْلِ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ سُقُوطِ الْمَحْمُولِ مُمْكِنٌ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي لَبِسَهُ مِمَّا لَا يُلْبَسُ عَادَةً فَهُوَ ضَامِنٌ .
وَكَذَلِكَ الرَّاكِبُ إذَا كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامَّةِ فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ رَجُلًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ فِي هَذَا الْقَتْلِ وَحُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ ؛ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلِ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً ، وَلَوْ كُدِمَتْ أَوْ صُدِمَتْ أَوْ خُبِطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ، وَالْوَصِيَّةَ لِحُصُولِ الْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّسَبُّبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى السَّائِقِ ، وَالْقَائِدِ ، وَلَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّوْقِ وَالْقَوَدِ يُقَرِّبُ الدَّابَّةَ مِنْ الْقَتْلِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةَ ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا مُبَاشَرَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ ، وَيُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلَوْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا ، وَهُوَ يَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى رَاكِبٍ وَلَا سَائِقٍ وَلَا قَائِدٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّيْرَ وَالسَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ

مَأْذُونٌ فِيهِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ - لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِسَدِّ بَابِ الِاسْتِطْرَاقِ عَلَى الْعَامَّةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَالْوَطْءُ وَالْكَدْمُ وَالصَّدْمُ وَالْخَبْطُ فِي السَّيْرِ وَالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِحِفْظِ الدَّابَّةِ وَذَوْدِ النَّاسِ ، وَالنَّفْحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ وَكَذَا الْبَوْلُ وَالرَّوْثُ وَاللُّعَابِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارَهُ وَالْتُحِقَ بِالْعَدَمِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ : الرِّجْلُ جُبَارٌ أَيْ نَفْحُهَا } وَلِهَذَا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ مَا ثَارَ مِنْ الْغُبَارِ مِنْ مَشْي الْمَاشِي حَتَّى لَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا لَمْ يَضْمَنْ .
وَكَذَا مَا أَثَارَتْ الدَّابَّةُ بِسَنَابِكِهَا مِنْ الْغُبَارِ أَوْ الْحَصَى الصِّغَارِ ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا الْحَصَى الْكِبَارُ فَيَجِبُ الضَّمَانَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْ إثَارَتِهَا ؛ إذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْنِيفٍ فِي السَّوْقِ ، وَلَوْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا فَهُوَ هَدَرٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ ، وَلَوْ أَوْقَفَ الدَّابَّةَ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَطَرِيقِ الْعَامَّةِ - فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ وَطِئَتْ بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ بِيَدَيْهَا أَوْ نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا أَوْ عَطِبَ شَيْءٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا أَوْ لُعَابِهَا ، كُلُّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ رَوْثَ الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ لَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا إنَّمَا الْمَأْذُونُ فِيهِ هُوَ الْمُرُورُ لَا غَيْرُ ؛ إذْ النَّاسُ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ فَكَانَ الْوُقُوفُ فِيهِ تَعَدِّيًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا

عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ ؛ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا مِنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاكِبًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَفَ دَابَّةً عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مِثْلُ وَقْفِهِ فِي الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَوْقِفًا يَقِفُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَصَابَتْ فِي وُقُوفِهَا ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ النَّاسُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْوُقُوفِ فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَسْتَوِي فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَضْمَنُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ الْإِمَامُ بِالْوُقُوفِ فِيهِ كَمَا فِي سُوقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ فِي الْفَلَاةِ مُبَاحٌ لِعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهِ .
وَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَ وَقَفَ فِي الْمُحَجَّةِ فَالْوُقُوفُ فِيهَا كَالْوُقُوفِ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ ، وَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهَا بِالْوُقُوفِ لِلنَّاسِ أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْإِذْنِ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْوَقْفِ لَا فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَقْفِ فِيهَا اُسْتُفِيدَ بِالْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ ، فَأَمَّا إبَاحَةُ السَّيْرِ وَالسَّوَقِ وَالْقَوْدِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالْإِذْنِ مِنْ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ أَوْ

السَّيْرُ أَوْ السَّوْقُ أَوْ الْقَوْدُ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إلَّا فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ، وَهُوَ رَاكِبٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَقَعُ تَعَدِّيًا فِي الْمِلْكِ ، وَالتَّسْبِيبُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ .
فَأَمَّا الْوَطْءُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي حَالِ السَّيْرِ أَوْ الْوُقُوفِ فَهُوَ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الضَّمَانِ عَلَى كُلٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي لَحِقَتْهُ الْجِنَايَةُ مَأْذُونًا فِي الدُّخُولِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً ، وَمَنْ دَخَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يُبَاحُ إتْلَافُهُ ، وَلَوْ رَبَطَ الدَّابَّةَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَمَا دَامَتْ تَجُولُ فِي رِبَاطِهَا إذَا أَصَابَتْ شَيْئًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ - فَذَلِكَ كُلُّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْوُقُوفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَلَوْ انْفَتَحَ الرِّبَاطُ وَذَهَبَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَمَا عَطِبَ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ هَدْرٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي قَدْ زَالَ بِزَوَالِهَا مِنْ مَوْضِعِ الْوُقُوفِ ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ فَزَالَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا بَعْدَ مَا أَوْقَفَهَا ثُمَّ جَنَتْ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ عَطِبَ بِهَا شَيْءٌ فَهُوَ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِ الْوَقْفِ فَقَدْ زَالَ التَّعَدِّي فَكَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِنَفْسِهَا وَجَنَتْ ، وَلَوْ نَفَرَتْ الدَّابَّةُ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ انْفَلَتَتْ مِنْهُ فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } أَيْ الْبَهِيمَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا ، وَلَا يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا ، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا ، وَلَوْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فَمَا أَصَابَتْ مِنْ فَوَرِهَا

ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ سَيْرهَا فِي فَوْرِهَا مُضَافٌ إلَى إرْسَالِهَا ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِرْسَالِ ، فَصَارَ كَالدَّافِعِ لَهَا أَوْ كَالسَّائِقِ ، فَإِنْ عَطَفَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ أَصَابَتْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَرِيقٌ إلَّا ذَلِكَ - فَذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِلِ ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ الْإِرْسَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ ، وَصَارَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ ، وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا فَأَصَابَ شَيْئًا فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا فِي الْحَرَمِ فَأَتْلَفَ طِيبَةَ الْحَرَمِ إنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ ، وَلَوْ أَغْرَى بِهِ كَلْبًا حَتَّى عَقَرَ رَجُلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ كَانَ سَائِقًا لَهُ أَوْ قَائِدًا يَضْمَنُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ وَلَا قَائِدًا لَا يَضْمَنُ ، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْرَ فِعْلُ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ فَالْأَصْلُ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ إلَّا أَنَّهُ بِالسَّوْقِ أَوْ الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إيَّاهُ إلَى الْإِتْلَافِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ إغْرَاءَ الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ إرْسَالِ الْبَهِيمَةِ ، فَالْمُصَابُ عَلَى فَوْرِ الْإِرْسَالِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِلِ ، فَكَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ الْكَلْبَ يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَالْإِغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ ، وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبَهُ لَا يَضْمَنُ ، سَوَاءٌ دَخَلَ دَارِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ جُبَارٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ

صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إلَى الْعَقْرِ ؛ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الْإِمْسَاكُ فِي الْبَيْتِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ : { مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، وَلَوْ أَلْقَى حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا فِي الطَّرِيقِ فَلَدَغَتْ إنْسَانًا - فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُلْقِي ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِلْقَاءِ إلَّا إذَا عَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ لِارْتِفَاعِ التَّعَدِّي بِالْعُدُولِ إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَدِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلَيْنِ : فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَفِعْلِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ صَدْمَةُ صَاحِبِهِ ، وَصَدْمَةُ نَفْسِهِ فَيُهْدَرَ مَا حَصَلَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَيُعْتَبَرُ مَا حَصَلَ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ ، وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيُّ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ مَذْهَبِنَا ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فَيَضْمَنُ صَاحِبَهُ كَمَنْ بَنَى حَائِطًا فِي الطَّرِيقِ ، فَصَدَمَ رَجُلًا فَمَاتَ إنَّ الدِّيَةَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ كَذَا هَذَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ صَدْمَةَ نَفْسِهِ مَعَ صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ لَمَا لَزِمَ بَانِي الْحَائِطِ عَلَى الطَّرِيقِ جَمِيعُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ مَشَى إلَيْهِ وَصَدْمَهُ .
وَكَذَلِكَ حَافِرُ الْبِئْرِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاشِي قَدْ مَشَى إلَيْهَا رَجُلَانِ مَدَّا حَبْلًا

حَتَّى انْقَطَعَ فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ سَقَطَا عَلَى ظَهْرِهِمَا فَمَاتَا - فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَمُتْ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ ؛ إذْ لَوْ مَاتَ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ لَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ ، فَلَمَّا سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَدُّهُ ، فَقَدْ مَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ سَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا فَمَاتَا فَدِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبِهِ ، وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِهِ ، وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا - فَدِيَةُ الَّذِي سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ ، وَهُوَ جَذْبُهُ ، وَدِيَةُ الَّذِي سَقَطَ عَلَى ظَهْرِهِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ قَطَعَ قَاطِعٌ الْحَبْلَ فَسَقَطَا جَمِيعًا فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَاطِعِ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إتْلَافِهِمَا وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ : صَبِيٌّ فِي يَدِ أَبِيهِ جَذَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَدِهِ ، وَالْأَبُ يُمْسِكُهُ حَتَّى مَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى الَّذِي جَذَبَهُ وَيَرِثَهُ أَبُوهُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَجَاذَبَ رَجُلَا صَبِيًّا ، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَمَاتَ مِنْ جَذْبِهِمَا - فَعَلَى الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ دِيَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الصَّبِيِّ ، إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَبُوهُ - فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ - فَكَانَ إمْسَاكُهُ بِحَقٍّ ، وَجَذْبُ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَيَضْمَنُ .
رَجُلٌ فِي يَدِهِ ثَوْبٌ تَشَبَّثَ بِهِ رَجُلٌ فَجَذَبَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ فَخَرَقَ الثَّوْبَ ضَمِنَ الْمُمْسِكُ نِصْفَ الْخَرْقِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي دَفْعِ

الْمُمْسِكِ ، وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ بِغَيْرِ جَذْبٍ فَإِذَا جَذَبَ فَقَدْ حَصَلَ التَّلَفُ مِنْ فِعْلِهِمَا فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ فَجَذَبَ الْمَعْضُوضُ ذِرَاعَهُ مِنْ فِيهِ ؛ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ ، وَذَهَبَ لَحْمُ ذِرَاعِ هَذَا - تُهْدَرُ دِيَةُ الْأَسْنَانِ ، وَيَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ الذِّرَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَاضَّ مُتَعَدٍّ فِي الْعَضِّ ، وَالْجَاذِبُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ ؛ لِأَنَّ الْعَضَّ ضَرَرٌ ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ رَجُلٌ جَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ فَجَلَسَ عَلَى ثَوْبِهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَقَامَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَانْشَقَّ ثَوْبُهُ مِنْ جُلُوسِ هَذَا عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْجَالِسُ نِصْفَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْجَذْبِ ، وَالْجَالِسُ مُتَعَدٍّ فِي الْجُلُوسِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا مِنْ فِعْلَيْهِمَا فَيَنْقَسِمُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا .
رَجُلٌ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ ، فَصَافَحَهُ ، فَجَذَبَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ ، فَانْقَلَبَ ، فَمَاتَ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ غَيْرُ مُعْتَدٍ فِي الْأَخْذِ لِلْمُصَافَحَةِ بَلْ هُوَ مُقِيمٌ سُنَّةً ، وَإِنَّمَا الْجَاذِبُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ جَذَبَ يَدَهُ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ لَحِقَهُ مِنْ الْآخِذِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ يَدَهُ لِيَعْصِرَهَا ، فَآذَاهُ ، فَجَرَّ يَدَهُ - ضَمِنَ الْآخِذُ دِيَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَدِّي ، وَإِنَّمَا صَاحِبُ الْيَدِ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْجَرِّ ، وَلَهُ ذَلِكَ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَعَدِّي ، فَإِنْ انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُمْسِكِ ، وَهُوَ الْآخِذُ بِالْجَذْبِ - لَمْ يَضْمَنْ الْجَاذِبُ ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ الْمُمْسِكِ ، فَكَانَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَأَمَّا ) الثَّانِي فَنَحْوُ جِنَايَةِ الْحَافِرِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُحْدِثُ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ الْمَسْجِدِ ، وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ ، وَجِنَايَةُ النَّاخِسِ ، وَجِنَايَةُ الْحَائِطِ ( أَمَّا ) جِنَايَةُ الْحَافِرِ ، فَالْحَفْرُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ أَصْلًا ( وَأَمَّا ) إنْ كَانَ فِي الْمِلْكِ ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ - لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ تَسْبِيبٌ إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ قَدْ يُلْحَقُ بِالْقَتْلِ إذَا كَانَ الْمُسَبِّبُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ ، وَالْمُتَسَبِّبُ هَهُنَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ فِي الْمَفَازَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ ، فَانْعَدَمَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ - فَلَا يَخْلُو : أَمَّا إنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ .
وَإِمَّا إنْ مَاتَ غَمًّا أَوْ جُوعًا ، فَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَالْحَافِرُ لَا يَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَ حُرًّا ، وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا يَضْمَنُ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمَارِّ فِيهَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ ، فَيَضْمَنُ الدِّيَةَ ، وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ نَظَرًا لَهُ ، وَالْقَتْلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ دُونَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ أَبْلُغَ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً .
وَالْحَفْرُ لَيْسَ بِقَتْلٍ أَصْلًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ بِالسَّلَامَةِ عِنْدَ

وُجُودِ سَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ ، وَذَلِكَ بِالْقَتْلِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَجِبْ الشُّكْرَ .
وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ، إنْ كَانَ وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَلَا الْوَصِيَّةَ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا ؛ لِأَنَّ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ } وَلَمْ يُوجَدْ الْقَتْلُ حَقِيقَةً ، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا أَوْ جُوعًا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ مَاتَ غَمًّا يَضْمَنُ وَإِنْ مَاتَ جُوعًا لَا يَضْمَنُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ السُّقُوطِ إنَّمَا وَجَبَ لِكَوْنِ الْحَفْرُ تَسْبِيبًا إلَى الْهَلَاكِ ، وَمَعْنَى التَّسْبِيبِ مَوْجُودٌ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ سَبَبُ الْغَمِّ وَالْجُوعِ ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ ، وَإِذَا طَالَ مُكْثُهُ يَلْحَقُهُ الْجُوعُ ، وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ ، فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ ، كَمَا إذَا حَبَسَهُ فِي مَوْضِعٍ حَتَّى مَاتَ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَمَّ مِنْ آثَارِ الْوُقُوعِ ، فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ ، فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَيْسَ مِنْ آثَارِهِ ، فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ فِي الْغَمِّ ، وَلَا فِي الْجُوعِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْدُثَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا أَصْلًا لَا مُبَاشَرَةً ، وَلَا تَسْبِيبًا أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِقَائِهَا .
وَأَمَّا التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْجُوعِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْشَأُ مِنْهُ بَلْ مِنْ سَبَبٍ آخَرَ ، وَالْغَمُّ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْبِئْرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَغُمُّ ، وَقَدْ لَا تَغُمُّ ، فَلَا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْحَفْرِ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ

فَضَمَانُهَا عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ ، وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ ، ثُمَّ إنْ بَلَغَ الْقَدْرَ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ حَمَلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِلَّا فَيَكُونُ فِي مَالِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ غَيْرَ بَنِي آدَمَ ؛ لِأَنَّ ضَمَانُ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ سَائِرَ الدُّيُونِ ثُمَّ إنَّ جِنَايَاتِ الْحَفْرِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْ الْحُرِّ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنَايَةٍ أَرْشُهَا وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا يُشْرَكُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ جَنَى عَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِيَالِهِ ، فَيُؤْخَذُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ بِحِيَالِهَا ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ قِنًّا فَجِنَايَتُهُ بِالْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنْ يُخَاطِبَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاحِدًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَوْ يَفْدِي ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أَوْ يَفْدِي بِجَمِيعِ الْأُرُوشِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْقِنِّ فِي رَقَبَتِهِ يُقَالُ لِلْمَوْلَى : ادْفَعْ أَوْ أَفْدِ ، وَالرَّقَبَةُ تَتَضَايَقُ عَنْ الْحُقُوقِ فَيَتَضَارَبُونَ فِي الرَّقَبَةِ ، وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ ، وَالذِّمَّةُ لَا تَتَضَايَقُ عَنْ الْحُقُوقِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا وَاحِدٌ فَمَاتَ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ جِنَايَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ آخَرُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي الرَّقَبَةِ الْمَدْفُوعَةِ .
وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَكُلَّمَا يَحْدُثُ مِنْ جِنَايَةٍ بَعْدَ الدَّفْعِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْأَوَّلَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ عَنْ

عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ثُمَّ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْحَفْرِ أَيْضًا ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وُجُوبُ الدَّفْعِ ، فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ حَفَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ قَبْلَ الْوُقُوعِ ثُمَّ لَحِقَتْ الْجِنَايَاتُ ، فَذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ عَتَقَ يَشْتَرِكُ فِيهَا أَصْحَابُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْعِتْقِ وَبَعْدَهُ يَضْرِبُ فِي ذَلِكَ كُلَّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقِنِّ ، وَإِنْ كَثُرَتْ - فَالْوَاجِبُ فِيهَا الدَّفْعُ وَالْوَلِيُّ بِالْإِعْتَاقِ فَوَّتَ الدَّفْعَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِالْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّدْبِيرِ بَلْ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ فَوَاتُ الدَّفْعِ بِالتَّدْبِيرِ ، لَكِنَّ التَّدْبِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَفْرِ وَلَا تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانُهَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا بِسَبَبِ الْحَفْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَمَا إذَا جَنَى بِيَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ ، كَمَا إذَا جَنَى بِيَدِهِ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْحَفْرِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ، فَجَاءَ إنْسَانٌ ، وَدَفَعَ إنْسَانًا ، وَأَلْقَاهُ فِيهَا - فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ لَا عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً وَلَوْ وَضَعَ

رَجُلٌ حَجَرًا فِي قَعْرِ الْبِئْرِ فَسَقَطَ إنْسَانٌ فِيهَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ مَعَ الْوَاضِعِ هَهُنَا كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ ، وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَحَفَرَ مِنْ أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَان عَلَى الْأَوَّلِ كَذَا ذَكَر الْكَرْخِيُّ وَذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ ثُمَّ قَالَ : وَبِهِ نَأْخُذُ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ ، وَذَكَر الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِحْسَانِ : الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجِنَايَةِ ، وَهِيَ الْحَفْرُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ حَصَلَ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْحَفْرُ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ ، وَالْحَفْرُ مِنْ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ نَصْبِ السِّكِّينِ أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ ، فَكَانَ الْأَوَّلُ كَالدَّافِعِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَوَسَّعَ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ هَكَذَا أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ ، وَلَمْ يُفَصَّلْ ، وَقِيلَ : جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَسَّعَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ رَجُلٌ فِي حَفْرِهِمَا ( فَأَمَّا ) إذَا وَسَّعَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ فِي حَفْرِ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لَا عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ فِي حَفْرِهِمَا كَانَ الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهُمَا ، وَهُوَ حَفْرُهُمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وَإِذَا كَانَ كَثِيرًا كَانَ الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ كَبَسَهَا فَجَاءَ رَجُلٌ ، وَأَخْرَجَ مَا كُبِسَ ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالْكَبْسُ لَا يَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ ( وَأَمَّا ) إنْ كَانَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، فَإِنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْكَبْسَ

بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ يُعَدُّ طَمًّا لِلْبِئْرِ ، وَإِلْحَاقًا لَهُ بِالْعَدَمِ ، فَكَانَ إخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ بِئْرٍ أُخْرَى ( فَأَمَّا ) الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوِهِمَا - فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ طَمًّا بَلْ يُعَدُّ شَغْلًا لَهَا .
أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَقِيَ أَثَرُ الْحَفْرِ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَسَدَّ الْحَافِرَ رَأْسَهَا ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ فَنَقَضَهُ ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالضَّمَان عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْحَفْرِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِالسَّدِّ ، لَكِنَّ السَّدَّ صَارَ مَانِعًا مِنْ الْوُقُوعِ ، وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ أَزَالَ الْمَانِعَ ، وَزَوَالُ الْمَانِعِ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ ، وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا آخَرُ - فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِسَبَبِ التَّعَثُّرِ ، وَالتَّعَثُّرُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحَجَرِ ، وَالْوَضْعُ تَعَدٍّ مِنْهُ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى وَضْعِ الْحَجَرِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ ، وَلَكِنَّهُ حِمْلُ السَّيْلِ - فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْحَجَرِ لِعَدَمِ التَّعَدِّيَ مِنْهُ ، فَيُضَافُ إلَى الْحَافِرِ ؛ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي الْحَفْرِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَافِرُ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَقَالَ الْحَافِرُ : هُوَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهَا مُتَعَمِّدًا .
وَقَالَ الْوَرَثَةُ : بَلْ وَقَعَ فِيهَا - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَوَّلُ : أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْآخَرِ : أَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى

وُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ عَلَى الْحَافِرِ الضَّمَانَ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الظَّاهِرِ مُعَارَضٌ بِظَاهِرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَارَّ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ يَرَى الْبِئْرَ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ .

وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ رَجُلٌ فِيهَا فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ ، فَوَقَعُوا ، فَمَاتُوا - فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : ( أَمَّا ) إنْ عَلِمَ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ خَرَجُوا أَحْيَاءً فَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ .
( وَإِمَّا ) إنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ ( فَأَمَّا ) مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ ( إمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً .
( وَإِمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ خَاصَّةً .
( وَإِمَّا ) إنْ عَلِمَ إنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً .
( وَإِمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ .
( وَإِمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ .
( وَإِمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً - فَالضَّمَان عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْحَافِرَ هُوَ الْقَاتِلُ تَسْبِيبًا ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَرَّهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً - فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ هَدَرٌ ، وَنِصْفُهُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ جَرَّهُ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَجَرُّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرُ فَهُدِرَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ .
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِيَ عَلَيْهِ

فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْهُ بِالْحَفْرِ وَالنِّصْفُ هَدَرٌ لِجَرِّهِ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ ، وَالنِّصْفُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالثُّلُثُ هَدَرٌ ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْحَافِرِ ، وَالثُّلُثُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ : أَحَدُهُمَا هَدَرٌ ، وَهِيَ جَرُّهُ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْحَافِرِ ، وَجِنَايَةُ الثَّانِي بِجَرَّةِ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ فَتُعْتَبَرُ .
( وَأَمَّا ) مَوْتُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( إمَّا ) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ ، وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً - فَدِيَتُهُ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ ، فَكَانَ كَالدَّافِعِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ حَيْثُ جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُدِرَ دَمُهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ هَدَرٌ ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِعْلُ نَفْسِهِ ، وَهُوَ جَرُّهُ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ، وَالثَّانِي فِعْلُ غَيْرِهِ ، وَهُوَ جَرُّ الْأَوَّلِ وَإِيقَاعُهُ فِي الْبِئْرِ .
وَأَمَّا مَوْتُ الثَّالِثِ فَلَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ ، وَهُوَ سُقُوطُهُ فِي الْبِئْرِ ، وَدِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ وَأَوْقَعَهُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ حَالُ

وُقُوعِهِمْ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ - فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِمَّا إنْ وُجِدُوا مُتَفَرِّقِينَ ، فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ - فَالْقِيَاسُ هَكَذَا أَيْضًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ دِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : دِيَةُ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ : ثُلُثٌ عَلَى الْحَافِرِ ، وَثُلُثٌ عَلَى الثَّانِي ، وَثُلُثٌ هَدَرٌ ، وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ : نِصْفٌ هَدَرٌ وَنِصْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ كُلُّهَا عَلَى الثَّانِي ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ وَجَّهَ الْقِيَاسَ أَنَّهُ وُجِدَ لِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ سَبَبٌ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ الْحَفْرُ لِلْأَوَّلِ ، وَالْجَرُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي ، وَالْجَرُّ مِنْ الثَّانِي لِلثَّالِثِ ، وَإِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَالِحٌ لِلْمَوْتِ : وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ ، وَوُقُوعُ الثَّانِي ، وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ وُقُوعَ الثَّانِي عَلَيْهِ حَصَلَ بِجَرِّهِ إيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَدَرَ الثُّلُثُ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ : ثُلُثٌ عَلَى الْحَافِرِ بِحَفْرِهِ : وَثُلُثٌ عَلَى الثَّانِي بِجَرِّهِ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَوُجِدَ فِي الثَّانِي شَيْئَانِ : الْحَفْرُ ، وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ حَصَلَ بِجَرِّهِ فَهَدَرَ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَبَقِيَ النِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الثَّالِثِ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدً ، وَهُوَ جَرُّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى الْبِئْرِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَسْبَابِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ ، وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى -

أَعْلَمُ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ فِي فِنَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِفِنَائِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ عَلَى أَصْلِهِمَا مُطْلَقًا ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَفْرِ إلَيْهِ ، فَإِذَا حَفَرَ فِي فِنَائِهِ انْتَقَلَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ - وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ ، فَإِنْ أَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ لَا عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَحْفِرْ بِأَمْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْحَفْرُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْأَمْرِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَأْمُرُ بِمَا يَمْلِكَهُ مُطْلَقًا عَادَةً ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ ، وَهُوَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ كَأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ .
وَلَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَيَنْتَقِلُ فِعْلُهُ إلَى الْمَوْلَى كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ فِنَائِهِ فَصَارَ مُبْتَدِئًا فِي الْحَفْرِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ أَعْلَمَ الْعَبْدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ

الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْغُرُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ الْحَافِرُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ : أَنَا أَمَرْتُهُ بِالْحَفْرِ وَأَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ - فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ صَاحِبُ الدَّارِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يُصَدَّقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَفْرَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ ، وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْحَفْرِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، فَصَاحِبُ الدَّارِ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُ إبْرَاءَ الْجَانِي عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ : أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِلْحَالِ ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فَيُصَدَّقُ ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَائِهِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالسَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةً يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ - فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الدِّيَةِ ، وَهَدَرَ الرُّبْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ، فَبَطَلَ الرُّبْعُ ، وَبَقِيَ جِنَايَاتُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ ، فَتُعْتَبَرُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبْعُ .
وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ

بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَهُنَّ ثَلَاثُ جَوَارٍ رَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَقَضَى لِلَّتِي وَقَصَتْ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبَتِهَا ، وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَرُوِيَ أَنَّ عَشَرَةً مَدُّوا نَخْلَةً فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ ، فَمَاتَ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُشْرِ الدِّيَةِ ، وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ حُرًّا وَعَبْدًا مَحْجُورًا وَمُكَاتَبًا يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا ، فَوَقَعَتْ الْبِئْرُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ ، فَمَاتُوا - فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَلَا فِي الْمُكَاتَبِ ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لِمَوْلَاهُ أَمَّا الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُمَا فِي الْحَفْرِ بِنَاءً عَلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَوُقُوعُ الْبِئْرِ عَلَيْهِمَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لَمْ يَصِحَّ ، فَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَفْرِ غَاصِبًا إيَّاهُ فَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ، فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَوْلَاهُ ثُمَّ إذَا دَفَعَ قِيمَتَهُ إلَى الْمَوْلَى - فَالْمَوْلَى يَدْفَعُ الْقِيمَةَ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَصَلَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ : بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ ، وَجِنَايَةِ صَاحِبَيْهِ ، فَصَارَ قَدْرُ الثُّلُثِ مِنْ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ تَالِفًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ ، وَجِنَايَةُ الْقِنِّ تُوجِبُ الدَّفْعَ ، وَلَوْ كَانَ قِنًّا لَوَجَبَ دَفْعُهُ

إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ يَتَضَارَبُونَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، فَإِذَا هَلَكَ وَجَبَ دَفْعُ الْقِيمَةِ إلَيْهِمْ يَتَضَارَبُونَ فِيهَا أَيْضًا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِيهَا بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ ، وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ ، وَالْمُكَاتَبَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَيُسَلِّمُ لَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِرَدِّ قِيمَتِهِ إلَيْهِ ، لَكِنَّهُ رَدَّهُ مَشْغُولًا ، وَقَدْ كَانَ غَصْبُهُ فَارِغًا ، فَلَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ فِي حَقِّ الشُّغْلِ ، فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ مِنْ الْحُرِّ عَلَى ثُلُثِ عَبْدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَتِهِ ، وَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا مِنْ عَاقِلَةِ الْحُرِّ ثُلُثَ قِيمَةَ الْمُكَاتَبِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْحُرِّ عَلَى ثُلُثِ قِيمَتِهِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ ، فَتُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَتِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ بَيْنَ وَرَثَةِ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْهُ عَلَى الْحُرِّ وَعَلَى الْعَبْدِ يَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ ، وَيَضْرِبُ الْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ الْعَبْدِ فَأَتْلَفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ ، وَالْحُرُّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ ، وَالْعَبْدُ بِالْقِيمَةِ ، وَقَدْ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ ، فَكَانَ ضَمَانُ الْوَارِدَةِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَقَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي سُوقِ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَضْمَنُ ، وَكَذَلِكَ اتَّخَذَ قَنْطَرَةً لِلْعَامَّةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً ، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً ، كَالثَّابِتِ نَصًّا .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ حَقًّا لَهُمْ ، وَالتَّدْبِيرُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ إلَى الْإِمَامِ ، فَكَانَ الْحَفْرُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْحَفْرِ فِي دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْحَافِرِ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَافِرِ مِمَّنْ يُحْدِثُ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ ، كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ نَصَبَ فِيهِ مِيزَابًا ، فَصَدَمَ إنْسَانًا ، فَمَاتَ ، أَوْ بَنَى دُكَّانًا ، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا أَوْ خَشَبَةً أَوْ مَتَاعًا ، أَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ ، فَعَثَرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَاثِرٌ ، فَوَقَعَ ، فَمَاتَ أَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَقَتَلَهُ أَوْ حَدَثَ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَثْرَةِ وَالسُّقُوطِ جِنَايَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ صَبَّ مَاءً فِي الطَّرِيقِ فَزُلِقَ بِهِ إنْسَانٌ ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ضَامِنٌ .
وَكَذَلِكَ مَا عَطِبَ بِذَلِكَ مِنْ الدَّوَابِّ ؛ لِأَنَّهُ سَبَّبَ التَّلَفَ بِإِحْدَاثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الرَّمْيِ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةَ إذَا بَلَغَتْ الْقَدْرَ الَّذِي تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ .
وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، أَوْ كَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ بِخِلَافِ

الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ فِي بَنِي آدَمَ بِهَذَا الْقَدْرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَهُ ، وَفِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَوْ كَانَ وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَلَا الْوَصِيَّةَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ وَضَعَ كُنَاسَةً فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ : إنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِوَضْعِهِ ، وَهُوَ فِي الْوَضْعِ مُعْتَدٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ وَضَعَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ - لَمْ يَضْمَنْ لِعَدَمِ التَّعَدِّي مِنْهُ ؛ إذْ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَهْلِ السِّكَّةِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ الَّذِي نَصَبَهُ صَاحِبُ الدَّارِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ إنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ فِي الْحَائِطِ - لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهِ ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ إلَى الطَّرِيقِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إخْرَاجِهِ إلَى الطَّرِيقِ ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا يَضْمَنُ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي النِّصْفِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِيَ - فَالْقِيَاسُ : أَنْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَا : يَضْمَنُ .
وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَف الْخَارِج : يَضْمَنُ : وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَضْمَنُ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الطَّرَفَ الَّذِي أَصَابَهُ إنَّهُ الدَّاخِلُ أَوْ الْخَارِجُ - يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي مَوْتِهِمْ يُجْعَلُ

كَأَنَّهُمْ مَاتُوا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي أَوَانٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَرِثَ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ كَذَا هَذَا .

وَلَوْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَاءَ أَوْ بَنَى فِيهِ بِنَاءً : دُكَّانًا أَوْ غَيْرَهُ ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ وَالْبَانِي مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ ، فَمَا فَعَلُوهُ - لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ ، كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْيَتِيمِ ، وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ إذَا فَعَلَ فِي الْوَقْفِ .
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ ، فَكَانَ مَضْمُونًا ، وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا أَوْ بَسَطَ حَصِيرًا أَوْ أَلْقَى فِيهِ الْحَصَى ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحَ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ } مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ضَرْبَ اخْتِصَاصٍ بِهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ لَا فِي الْقِنْدِيلِ وَالْحَصِيرِ ، كَالْمَالِكِ مَعَ الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ بَسْطِ الْحَصِيرِ ، وَتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ فِي دَارِ الْإِعَارَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ

اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَا إلَى غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ مَنْعِ غَيْرِهِمْ عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْبَسْطِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ الْغَيْرُ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِي دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ .
وَلِهَذَا ضَمِنَ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا .
وَكَوْنُ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ أَهْلِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِ كَالْكَعْبَةِ ، فَإِنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اُخْتُصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِمَفَاتِحِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَخَذَ مَفَاتِحَ الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ ، وَدَفَعَهُ إلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ طَلَبِهِ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِرَدِّهِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
وَلَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ الْجَالِسُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَالِسُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ ، فَلَوْ أُخِذَ الْمُصَلِّي بِالضَّمَانِ لَصَارَ النَّاسُ مَمْنُوعِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ جَلَسَ لِحَدِيثٍ أَوْ نَوْمٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا : لَا يَضْمَنُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ مُبَاحٌ فَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ - فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ فَعَبَرَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ ، فَإِذَا

شَغَلَهُ بِذَلِكَ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ ، كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ جُعِلَ لِلِاجْتِيَازِ لَا لِلْجُلُوسِ ، وَإِذَا جَلَسَ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا - فَيَضْمَنُ كَذَا هَذَا ، وَقَوْلُهُمَا الْحَدِيثُ وَالنَّوْمُ مُبَاحٌ فِي الْمَسْجِدِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَكَانَ تَعَدِّيًا ، وَلَوْ جَلَسَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ لِعِبَادَةٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ لِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَا يَضْمَنُ فَإِذَا جَلَسَ لِقُرْبَةٍ فَهُوَ أَوْلَى .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُصَلِّي فِي حَقِّ الثَّوَابِ لَا غَيْرُ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ جِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِأَنْ سَاقَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَادَهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَوَقَعَ تَعَدِّيًا فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا ، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِأَنْ يَذُودَ النَّاسَ عَنْ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا .
وَسَوَاءٌ كَانَ السَّائِقُ أَوْ الْقَائِدُ رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ، وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا لَا كَفَّارَةَ

عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ يَتَعَلَّقُ ثُبُوتِهَا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُبَاشَرَةِ مِنْ الرَّاكِبِ لَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ قَائِدًا - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيبِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا ، - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً .

فَإِنْ قَادَ قِطَارًا فَمَا أَصَابَ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخِرُ أَوْ الْأَوْسَطُ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ صَدَمَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ - فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا هُوَ سَبَبُ حُصُولِ التَّلَفِ فَيَضْمَنُ ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، كَمَا إذَا وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ حَفَرَ فِيهِ بِئْرًا ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فِي آخِرِ الْقِطَارِ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ التَّلَفِ ، وَإِنْ كَانَ السَّائِقُ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَمَا أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ هَذَا السَّائِقِ وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا - فَهُوَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ لَهُ سَائِقٌ ، وَالْأَوَّلُ لَهُ قَائِدٌ ، وَمَا خَلْفَهُ هُمَا لَهُ قَائِدَانِ ( أَمَّا ) قَائِدُ الْقِطَارِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ مَرْبُوطٌ بِبَعْضٍ .
( وَأَمَّا ) السَّائِقُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَلِأَنَّهُ بِسَوْقِهِ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مَا خَلْفَهُ يَنْقَادُ بِسَوْقِهِ ، فَكَانَ قَائِدًا لَهُ ، وَالْقَوْدُ وَالسَّوْقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا فِي وَسَطِ الْقِطَارِ ، وَأَحْيَانًا يَتَأَخَّرُ ، وَأَحْيَانًا يَتَقَدَّمُ ، وَهُوَ يَسُوقُهَا فِي ذَلِكَ - فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَالسَّوْقُ وَالْقَوْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ فِي مُقَدَّمَةِ الْقِطَارِ ، وَالْآخَرُ فِي مُؤَخَّرَةِ الْقِطَارِ ، وَآخَرُ فِي وَسَطِهِ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَالْمُؤَخَّرِ لَا يَسُوقَانِ ، وَلَكِنَّ الْمُقَدَّمَ يَقُودُ فَمَا أَصَابَ الَّذِي قُدَّامُ الْوَسَطِ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْقَائِدِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسَبَبِ الْقَوْدِ ، وَمَا أَصَابَ الَّذِي خَلْفَهُ - فَذَلِكَ عَلَى الْقَائِدِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الَّذِي فِي الْوَسَطِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِدَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى الْمُؤَخَّرِ أَيْضًا إنْ كَانَ يَسُوقُ هُوَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوقُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ

مِنْهُ صُنْعٌ ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا يَسُوقُونَ فَمَا تَلِفَ بِذَلِكَ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ مِنْهُمْ جَمِيعًا ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَقُودُ قِطَارًا ، وَآخَرُ مِنْ خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ يَزْجُرُ الْإِبِلَ فَيَنْزَجِرْنَ بِسَوْقِهِ ، وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ فِي الْمَحَامِلِ نِيَامٌ ، فَوَطِئَ بَعِيرٌ مِنْهَا إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِ عَلَى الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ ، وَعَلَى الرَّاكِبِينَ عَلَى الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ جَمِيعًا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً ، أَمَّا السَّائِقُ وَالْقَائِدُ فَلِأَنَّهُمَا مُقَرِّبَانِ الْقِطَارَ إلَى الْجِنَايَةِ ، فَكَانَا مُسَبِّبَيْنِ لِلتَّلَفِ .
( وَأَمَّا ) الرَّاكِبُ لِلْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَأَمَّا ) الرَّاكِبُونَ أَمَام الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ فَلِأَنَّهُمْ قَادَةٌ لِجَمِيعِ مَا خَلْفَهُمْ ، فَكَانُوا قَائِدِينَ لِلْبَعِيرِ الْوَاطِئِ ضَرُورَةً ، فَكَانُوا مُسَبِّبِينَ لِلتَّلَفِ أَيْضًا فَاشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ .
وَإِنَّمَا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّ الدَّابَّةَ آلَةٌ لَهُ ، فَكَانَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِهِ مُضَافًا إلَيْهِ ، فَكَانَ قَاتِلًا بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الرُّكْبَانِ خَلْفَ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ لَا يَزْجُرُ الْإِبِلَ ، وَلَا يَسُوقُهَا رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ مِنْهَا أَوْ غَيْرِ رَاكِبٍ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ إذْ لَمْ يَسْرِقُوا الْبَعِيرَ الَّذِي وَطِئَ ، وَلَمْ يَقُودُوهُ فَصَارُوا كَالْمَتَاعِ عَلَى الْإِبِلِ ، وَلَوْ قَادَ قِطَارًا ، وَعَلَى بَعِيرٍ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ رَاكِبٌ لَا يَسُوقُ

مِنْهُ شَيْئًا - فَضَمَانُ مَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْقَائِدِ خَاصَّةً ، وَضَمَانُ مَا خَلْفَهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ غَيْرُ سَائِقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ لِهَذَا الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا أَنَّ مَشْيَهُ إلَى جَانِبِ الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا إيَّاهُ إذَا لَمْ يَسُقْهُ ، وَلَكِنَّهُ سَائِقٌ لِمَا رَكِبَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ إنَّمَا يَسِيرُ بِرُكُوبِ الرَّاكِبِ وَحَثِّهِ ، وَإِذَا كَانَ سَائِقًا لَهُ كَانَ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا .
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَقُودُ قِطَارًا ، فَجَاءَ رَجُلٌ ، وَرَبَطَ إلَيْهِ بَعِيرًا فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا - فَالْقَائِدُ لَا يَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِرَبْطِهِ ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ ثُمَّ عَاقِلَتُهُ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ ( أَمَّا ) وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَائِدِ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ تَسْبِيبًا ، وَضَمَانُ الْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ ( وَأَمَّا ) رُجُوعُ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ فَلِأَنَّ الرَّابِطَ مُتَعَدٍّ فِي الرَّبْطِ ، وَهُوَ السَّبَبُ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ لِلْقَائِدِ ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ وُقُوفًا لَا تُقَادُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ إلَيْهَا بَعِيرًا ، وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَقَادَ الْبَعِيرَ مَعَهَا فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ ؛ لِأَنَّ الرَّابِطَ ، وَإِنَّ تَعَدَّى فِي الرَّبْطِ ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنَّ الْقَائِدَ لَمَّا قَادَ الْبَعِيرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ أَزَالَ تَعَدِّيَهُ فَيَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَائِدِ كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيق ، فَجَاءَ إنْسَانٌ فَدَحْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ - فَالضَّمَانُ عَلَى

الثَّانِي لَا عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الرَّبْطُ وَالْإِبِلُ سَائِرَةٌ ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ مَكَانُ التَّعَدِّي ؛ لِيَزُولَ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ فَبَقِيَ التَّعَدِّيَ بِبَقَاءِ الرَّبْطِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِدُ عَلِمَ بِالرَّبْطِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا فَقَادَهُ عَلَى ذَلِكَ فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَادَ مَعَ عِلْمِهِ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ فَصَارَ عِلْمُهُ بِالرَّبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالرَّبْطِ ، وَلَوْ رَبَطَ بِأَمْرِهِ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَا هَذَا .
وَلَوْ سَقَطَ سَرْجُ دَابَّةٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالدِّيَةُ عَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي شَدِّ الْحِزَامِ ، فَكَانَ مُسَبِّبًا لِلْقَتْلِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ جِنَايَةُ النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الدَّابَّةَ الْمَنْخُوسَةَ أَوْ الْمَضْرُوبَةَ ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ ( وَإِمَّا ) إنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ فَالرَّاكِبُ لَا يَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَ سَائِرًا ، وَإِمَّا إنْ كَانَ وَاقِفًا ، وَالسَّيْرُ وَالْوُقُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِهِ ، وَالنَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ لَا يَخْلُو : مِنْ أَنْ يَكُونَ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ ، أَوْ بِأَمْرِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ ، فَإِنْ فَعَلَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ - فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا لَا عَلَى الرَّاكِبِ ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاكِبُ وَاقِفًا أَوْ سَائِرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي سَيْرِهِ أَوْ وُقُوفِهِ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّيْرِ فِيهِ وَالْوُقُوفِ ، أَوْ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ كَانَ يَقِفُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي سُوقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبِ النَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي السَّبَبِ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّابَّةَ عَلَى غَيْره ، وَالرَّاكِبُ الْوَاقِفُ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي التَّعَدِّي ، وَالنَّاخِسُ مُتَعَدٍّ فِي التَّعَدِّي .
وَكَذَا الضَّارِبُ فَأَشْبَهَ الدَّافِعَ مَعَ الْحَافِرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّنَ النَّاخِسَ دُونَ الرَّاكِبِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ وَلَمْ يُعْرَفْ الْإِنْكَارُ مِنْ أَحَدٍ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَإِنَّمَا شُرِطَ الْفَوْرُ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ عِنْدَ سُكُونِ الْفَوْرِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الدَّابَّةِ لَا إلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ، وَلَوْ نَخَسَهَا أَوْ ضَرَبَهَا ، وَهُوَ سَائِرٌ عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَاقِفًا عَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً كَمَا قُلْنَا فِي الرَّاكِبِ مَعَ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ ، وَلَوْ نَخَسَهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَوَثَبَتْ وَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَالنَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ ضَامِنٌ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ ، وَهُوَ النَّخْسُ وَالضَّرْبُ ، فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ تُلْقِهِ ، وَلَكِنَّهَا جَمَحَتْ بِهِ فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ فَعَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ ، فَإِنْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ جِنَايَةِ نَفْسِهِ ، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ، هَذَا إذَا نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ .
فَأَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الرَّاكِبِ فَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّيْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَاقِفًا فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالْوُقُوفِ بِأَنْ وَقَفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، أَوْ فِي سُوقِ الْخَيْلِ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُذِنَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا ، فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا

ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ ، وَلَا عَلَى الضَّارِبِ ، وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ ؛ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ ، فَنَفَحَتْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْحَةَ فِي حَالِ السَّيْرِ ، وَالْوُقُوفَ فِي مَوْضِعٍ أُذِنَ بِالسَّيْرِ أَوْ الْوُقُوفِ فِيهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ لَا عَلَى الرَّاكِبِ ، وَلَا عَلَى السَّائِقِ ، وَلَا عَلَى الْقَائِدِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالسَّيْرِ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، أَوْ كَانَ وَاقِفًا فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالْوُقُوفِ فِيهِ ، كَمَا إذَا كَانَ وَاقِفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَنَفَحَتْ - فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ : نِصْفٌ عَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ ، وَنِصْفٌ عَلَى الرَّاكِبِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ .
وَوَجْهُهُ : أَنَّ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ لَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ ، وَهُوَ رَاكِبٌ ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ ، فَكَانَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ مَعَ الرَّاكِبِ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ أَمَّا النَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ فَلَا يُشْكَلُ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَتْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي .
( وَأَمَّا ) الرَّاكِبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَمْرِ بِالنَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ نَاخِسًا أَوْ ضَارِبًا ، وَالنَّفْحَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ نَخْسِهِ وَضَرْبِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ ، هَذَا إذَا نَفَحَتْ ، فَأَمَّا إذَا صَدَمَتْ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ، وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّخْسِ

وَالضَّرْبِ مُضَافٌ إلَى الرَّاكِبِ لِحُصُولِهِ بِأَمْرِهِ ، وَالصَّدْمَةُ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كَانَ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا ، وَإِنْ كَانَ سَيْرُهُ أَوْ وُقُوفُهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي النَّفْحَةِ إذَا كَانَ الرَّاكِبُ وَاقِفًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ بِالْوُقُوفِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدْمَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الرَّاكِبِ ، إذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَاقِفًا كَانَ أَوْ سَائِرًا .
وَكَذَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، فَيَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي النَّفْحَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ هَذَا إذَا نَفَحَتْ أَوْ صَدَمَتْ ، فَأَمَّا إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِيمَا أُذِنَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُؤْذَنْ ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ الْقَتْلِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَالدَّابَّةِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً فَصَارَ الرَّاكِبُ مَعَ النَّاخِسِ كَالرَّاكِبِ مَعَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ خَاصَّةً ، كَذَا هَهُنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَنْخُوسَةِ أَوْ الْمَضْرُوبَةِ رَاكِبٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا رَاكِبٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ ، فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ أَوْ ضَرَبَهَا فَمَا أَصَابَتْ شَيْئًا عَلَى فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ فَضَمَانُهُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ الدَّابَّةُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَّبَ الْإِتْلَافَ بِالنَّخْسِ وَالضَّرْبِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ فَنَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَنَفَحَتْ أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ أَوْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ لَا عَلَى

السَّائِقِ وَالْقَائِدِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ ؛ لِأَنَّ النَّاخِسَ مَعَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ كَأَنَّهُ دَفَعَ الدَّابَّةَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ ، يَقُودُ أَحَدُهُمَا ، وَيَسُوقُ الْآخَرُ ، فَنَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لَا عَلَيْهِمَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَمِّدٌ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ .
وَكَذَا الضَّارِبُ وَلَا تَعَمُّدَ مِنْ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَنَفَحَتْ ، فَإِنْ كَانَ سَوْقُهُ أَوْ قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فِيهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ ، فَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إلَيْهِ كَالسَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ ، وَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ، وَعَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : الضَّمَانُ عَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ خَاصَّةً ، وَإِنْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا ، فَإِنْ كَانَ السَّائِقُ يَسُوقُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ بِأَمْرِ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ مُضَافٌ إلَيْهِ ، وَالصَّدْمَةُ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالرَّاكِبِ ، وَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَإِنْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ - فَهُوَ عَلَى

الِاخْتِلَافِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ سَوْقُهُ أَوْ قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ أَوْ الْقَوْدِ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْوَطْأَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَإِنْ وَطِئَتْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ ، لَكِنْ فِي قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ ، وَعَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ نِصْفَانِ ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ خَاصَّةً ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ جِنَايَةُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ، أَوْ عَلَى مَتَاعٍ ، فَأَفْسَدَهُ ، أَوْ عَلَى دَارٍ فَهَدَمَهَا أَوْ عَلَى حَيَوَانٍ فَعَطِبَ بِهِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْحَائِطَ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ بُنِيَ مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ ( وَإِمَّا ) إنْ بُنِيَ مَائِلًا مِنْ الْأَصْلِ ، فَإِنْ بُنِيَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ فَمَيَلَانُهُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الطَّرِيقِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ ، فَإِنْ كَانَ إلَى الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو : مِنْ أَنْ يَكُونَ نَافِذًا ، وَهُوَ طَرِيقُ الْعَامَّةِ أَوْ غَيْرَ نَافِذٍ ، وَهُوَ السِّكَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَافِذَةٍ ، فَإِنْ كَانَ نَافِذًا فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ إذَا وُجِدَ شَرَائِطُ وُجُوبِهِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامَ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مَا هِيَةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّتِهِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ التَّعَدِّي بِالتَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّقْضِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَالَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْهَوَاءُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَهُوَ الطَّرِيقُ حَقُّ الْعَامَّةِ كَنَفْسِ الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ حَقُّ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، فَإِذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَقَدْ لَزَمَهُ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ بِهَدْمِ الْحَائِطِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْإِمْكَانِ ، فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِاسْتِبْقَاءِ يَدِهِ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَطُولِبَ بِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ الرَّدِّ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ حَتَّى هَلَكَ - يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ الشُّعَبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي الْحَائِطِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ

وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ ، وَصُورَةُ الْمُطَالَبَةِ : هِيَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ فَيَقُولُ لَهُ : إنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَائِلٌ أَوْ مَخُوفٌ فَارْفَعْهُ ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ رَفْعُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْعَامَّةِ ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ صَارَ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَعْدَ إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ إنْ كَانَ عَاقِلًا ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّرَرِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَقْلِ الطَّالِبِ وَكَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ وَتَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ مَا ذَكَره مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْتُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ ، هَذَا وَالْإِشْهَادُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا لِصِحَّةِ الطَّلَبِ فَإِنَّ الطَّلَبَ يَصِحُّ بِدُونِ الْإِشْهَادِ حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ صَاحِبُ الدَّارِ بِالطَّلَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -

وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الشُّفْعَةِ : أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الطَّلَبُ لَا الْإِشْهَاد ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِالطَّلَبِ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الطَّلَبِ وَكَذَا لَوْ جَحَدَ الطَّلَبَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكَذَا الْإِشْهَادُ فِي بَابِ اللُّقْطَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ ، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طُولِبَ بِدَفْعِ النَّقْضِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا طُولِبَ بِالرَّفْعِ لَزِمَهُ الرَّفْعُ فَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ مَنْ تَوَلَّدَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : يَضْمَنُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَحَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ ؛ وَلِهَذَا ضَمِنَ إذَا وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ كَذَا إذَا عَطِبَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي طُولِبَ فِيهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ مَحِلِّ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ الْهَوَاءُ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ بِغَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَالَبَةٍ أُخْرَى كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَدَحْرَجَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاضِعِ كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنْ مَحِلِّ الْمُطَالَبَةِ ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةٍ أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ - فَالْخُصُومَةُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ السِّكَّةِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّهُمْ ، فَكَانَ

لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى مِلْكِ رَجُلٍ - فَالْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ وَالْإِشْهَادِ إلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ هَوَاءٌ مَلَكَهُ حَقُّهُ ، وَقَدْ شَغَلَ الْحَائِطَ حَقُّ صَاحِبِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ سَاكِنٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فَالْمُطَالَبَةُ وَالْإِشْهَادُ إلَى السَّاكِنِ ، فَيُشْتَرَطُ طَلَبُ السَّاكِنِ أَوْ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يَشْغَلُ الدَّارَ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يُشْغِلُ الْهَوَاءَ أَيْضًا ، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَاسْتَأْجَلَ الَّذِي طَالَبَهُ أَوْ اسْتَأْجَلَ الْقَاضِيَ فَأَجَّلَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى الطَّرِيقِ فَالتَّأْجِيلُ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُهُ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَأَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُ الدَّارِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالنَّقْضِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْحَائِطِ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ ، فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَيَلَانُ إلَى دَارِ إنْسَانٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ لِصَاحِبِ الدَّارِ خَاصَّةً .
وَكَذَلِكَ السَّاكِنُ فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ إسْقَاطًا لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ فِي دَارِ غَيْرِهِ حَجَرًا أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً وَأَبْرَأَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مِنْهُ كَانَ بَرِيئًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَطِبَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَطِبَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ دَاخِلٌ دَخَلَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ

الْمُطَالَبُ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ يَلِي النَّقْضَ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ لَا يَلِي النَّقْضَ سَفَهٌ ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَوْدَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ النَّقْضِ فَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ النَّقْضِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضُ وَيَقْضِيَ الدِّينَ ، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ ، وَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي هَدْمِ حَائِطِ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ النَّقْضِ لَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُضَا حَتَّى سَقَطَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ مُضَافٌ إلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الصَّبِيِّ ، وَالصَّبِيُّ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ ، فَيَضْمَنُ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ فِيمَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِ فِيمَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَالِغِ سَوَاءٌ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ لِجَمَاعَةٍ فَطُولِبَ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ الَّذِي طُولِبَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَرَكَ النَّقْضَ الْمُسْتَحَقَّ ( أَمَّا ) الَّذِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِالنَّقْضِ فَظَاهِرٌ ( وَإِمَّا ) الَّذِي طُولِبَ بِهِ فَلِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَلِي النَّقْضَ بِدُونِ الْبَاقِينَ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالنَّقْضِ تَرَكَ النَّقْضَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَاصِمَ الشُّرَكَاءَ وَيُطَالِبَهُمْ بِالنَّقْضِ إنْ كَانُوا حُضُورًا ، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالنَّقْضِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْإِمَامُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ فَيَأْمُرُ الْحَاضِرَ بِنَقْضِ نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْغَائِبِينَ

، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ - فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ ، فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَكِنْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْحَائِطِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا : عَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَنْصِبَاءَ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ لَمْ يَجِبْ بِهَا ضَمَانٌ ، فَكَانَتْ كَنَصِيبِ وَاحِدٍ ، كَمَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ ، وَعَقَرَهُ سَبْعٌ ، وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ عَلَى الْجَارِحِ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ عَقْرَ السَّبْعِ وَنَهْشَ الْحَيَّةِ لَمْ يَجِبْ بِهِمَا ضَمَانٌ ، فَكَانَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الْحَائِطِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَلِفًا فِي نَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا قِيَامُ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهَا وَقْتَ الْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ - لَمْ يَصِرْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى بَاعَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْحَائِطُ مِنْ إنْسَانٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ ، فَعَطِبَ بِهِ - أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ بِخُرُوجِ الْحَائِطِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ فِي حَقِّهِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شَرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ مَعَ الْجَنَاحِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ إنَّهُ يَضْمَنُ الْبَائِعَ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ عَلَى الْبَائِعِ قُبَيْلَ الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ ، وَالْإِشْرَاعُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ

مِنْ الضَّمَانِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَائِطِ ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبَيْعِ ، فَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي عِنْدَ السُّقُوطِ بِتَرْكِ النَّقْضِ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ الْأَبُ بِنَقْضِ حَائِطِ الصَّغِيرِ ، فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ إنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْوِلَايَةِ وَقْتَ السُّقُوطِ شَرْطٌ ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ وَالْبُلُوغِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) : إمْكَانُ النَّقْضِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّقْضِ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْوَاجِبِ ، وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يُفَرِّطْ فِي نَقْضِهِ ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ يَطْلُبُ مَنْ يَنْقُضُهُ ، فَسَقَطَ الْحَائِطُ ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ النَّقْضِ مُتَعَدِّيًا ، فَبَقِيَ حَقُّ الْغَيْرِ حَاصِلًا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَالْوَاجِبُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِجِنْسِهَا مِنْ جِنَايَةِ الْحَافِرِ ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ ، وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالنَّاخِسِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ وَكَانَتْ نَفْسًا - فَالْوَاجِبُ بِهَا الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَا دُونَ النَّفْسِ فَالْوَاجِبُ بِهَا الْأَرْشُ فَإِذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ بِهَا نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ ، وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى فَمَا فَوْقَهُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَلَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ ذَلِكَ ، وَلَا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ بَلْ يَكُونُ فِي مَالِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ فِي الدَّارِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحَجَّةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ شَرْطُ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ ، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ كَوْنَ الدَّارِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ : لَا تَضْمَنُ الْعَاقِلَةَ حَتَّى يَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : عَلَى التَّقْدِيمِ إلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ ، وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ يُرِيدُ بِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ ، أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ ؛ إذْ هُوَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ بِظَاهِرِ الْيَدِ ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّفْعَةِ ، ( وَأَمَّا ) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ - فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ .
( وَأَمَّا ) الشَّهَادَةُ

عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ فَلِأَنَّ بِهِ يَظْهَرُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ التَّعَدِّي ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ السُّقُوطِ لَا يُعْلَمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

فِي الْقَسَامَةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ قَتْلِ نَفْسٍ عُلِمَ قَاتِلُهَا ، فَأَمَّا حُكْمُ نَفْسٍ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهَا - فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالْقِصَاصِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَسَامَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْقَسَامَةِ ، وَبَيَانِ مَحَلِّهَا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ ، وَبَيَانُ مَحَلِّهَا - فَالْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ : تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَسَامَةِ ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ ، يُقَالُ : فُلَانٌ قَسِيمٌ أَيْ حَسَنٌ جَمِيلٌ ، وَفِي صِفَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسِيمٌ ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ ، وَهُوَ الْيَمِينُ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ ، وَعَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا : بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عِلْمنَا لَهُ قَاتِلًا ، فَإِذَا حَلَفُوا يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يُسْتَحْلَفُ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِذَا حَلَفُوا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ هُنَاكَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ أَيْ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْمَحَلَّةَ وَبَيْنَ وُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ : عَيِّنْ الْقَاتِلَ ، فَإِنْ عَيَّنَ الْقَاتِلَ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ احْلِفْ

خَمْسِينَ يَمِينًا ، فَإِنْ حَلَفَ فَلَهُ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الَّذِي عَيَّنَهُ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلٍ يُغَرِّمُهُ الدِّيَةَ ، فَإِنْ عَدِمَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِذَا حَلَفُوا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى احْتَجَّا لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ قَالَ : { وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبِ خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ : إمَّا حُوَيِّصَةُ وَإِمَّا مُحَيِّصَةُ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَذَكَرَ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ فَقَالُوا : كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا : كَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَهُ فَوَدَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عِنْدِهِ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَيْسَ

لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا ؟ فَقَالَ : بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لَا عَلَى الْمُدَّعِي ، وَعَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقَسَامَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { وُجِدَ قَتِيلٌ بِخَيْبَرَ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُخْرُجُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ فَقَالَتْ الْيَهُودُ : قَدْ كَانَ وُجِدَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَضَى فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاقْضِ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ فَقَالُوا : قَضَيْتَ بِالنَّامُوسِ } أَيْ بِالْوَحْيِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَرَّمَهُمْ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصَ لَغَرَّمَهُمْ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَطَرَحَهُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
( وَأَمَّا ) حَدِيثُ سَهْلٍ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ ؛ وَلِهَذَا ظَهَرَ النَّكِيرُ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَاهُمْ إلَى أَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالُوا : كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ ؟ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ رِضَا الْمُدَّعِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ : يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قَالُوا : كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ نَشْهَدْ

، وَهَذَا أَيْضًا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ إنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَكَيْفَ اسْتَخَارَ عَرْضَ الْيَمِينِ عَلَيْهِمْ ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ ، وَتَأْوِيلُهُ : أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ : أَيَحْلِفُ ؟ إذْ الِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } أَيْ أَتُرِيدُونَ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ سَهْلٍ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ } اسْتَثْنَى الْقَسَامَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ - فَالْجَوَابُ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ ، وَالثَّانِي : الْيَمِينُ كُلُّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ

فَإِنَّهُ تَجِبُ مَعَهَا الدِّيَةُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا جَمَعْنَا فِي الْقَسَامَةِ بَيْنَ الْيَمِينِ الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَانَتْ عَلَى فِعْلِهِمْ ، فَكَانَتْ عَلَى الْبَتَاتِ ، وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمْ ، فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ } ؟ قِيلَ : إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ إتْبَاعًا لِلسَّنَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْقِلَ فِيهِ الْمَعْنَى ، ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ صَحِيحٌ ، فَيُقَالُ لَهُ : ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ ، وَيُصَدِّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ } إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ مِرْآة لِلْكَفَرَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً

أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ } ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ بَقِيَ الرَّمَلُ سَنَةً فِي الطَّوَافِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ ، وَيَقُولُ مَا أَهُزُّ كَتِفِي ، وَلَا أَحَدًا رَأَيْتُهُ لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا ، وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَكَانَ مُفِيدًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ قَتِيلًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ قُتِلَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حَتَّى يُغَسَّلَ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا : إذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ مِنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ بِسَبَبِ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَعَارِضٍ آخَرَ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ الْخُرُوجُ مُضَافًا إلَى ضَرْبٍ حَادِثٍ ، فَكَانَ قَتِيلًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ هَكَذَا فِي الْمَعْرَكَةِ كَانَ شَهِيدًا ، وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا ، وَلَوْ مَرَّ فِي مَحَلَّةٍ فَأَصَابَهُ سَيْفٌ أَوْ خَنْجَرٌ فَجَرَحَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ فَحُمِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ - فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَا قَسَامَةَ ، وَلَا دِيَةَ وَهَذَا قَوْلُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا لَمْ يَمُتْ فِي الْمَحَلَّةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا

دُونَ النَّفْسِ كَمَا لَوْ وُجِدَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فِي الْمَحَلَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الْجِرَاحَةِ .
وَكَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا ، فَكَانَ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَحَلَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ فِرَاشٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَلَمْ يُوجَدْ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمَهُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْقَتِيلِ أَكْثَرُ بَدَنِهِ أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَتِيلًا ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ ، وَلَوْ وُجِدَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَسَامَةَ لَأَوْجَبْنَا فِي الْبَاقِي قَسَامَةً أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ قَسَامَتَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ ، فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي فِيهِ الرَّأْسُ - فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ إذَا كَانَ مَعَهُ يُسَمَّى قَتِيلًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَا رَأْسَ فِيهِ لَلَزِمَنَا الْإِيجَابُ فِي النِّصْفِ الَّذِي مَعَهُ الرَّأْسُ فَيُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا ، وَإِنْ وُجِدَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ مَشْقُوقًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَشْقُوقَ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ

الْقَسَامَتَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْنَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ : إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ أَقَلُّهُ أَوْ نِصْفُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) : أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةَ فِي نَفْسِهَا أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَاعْتِبَارُ عَدَدِ الْخَمْسِينَ غَيْرُ مَعْقُولٍ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَكَذَا وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الشَّرْعِ جُعِلَتْ دَافِعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِنَفْسِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فِي بَنِي آدَمَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ وَالْغَرَامَةُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، كَذَا فِي الْبَهَائِمِ ، وَتَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي غَيْرِ مِلْكِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ، وَتَغْرَمُ الْعَاقِلَةُ قِيمَتَهُ فِي الْخَطَأِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ .
وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فِي

مُطْلَقِ قَتِيلٍ أُخْبِرَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرُوا ؛ لِأَنَّ دَمَ هَؤُلَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُسْلِمُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَأَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْيَهُودِ .
وَكَذَا الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إلَّا مَا نُصَّ بِدَلِيلٍ .
( وَمِنْهَا ) : الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ ، وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا : ) إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ .
( وَمِنْهَا ) : الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوَفَّى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ فِي حَالِ الْقَسَامَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مَنْ يَتَّهِمُونَهُ وَيَسْتَحْلِفُونَ صَالِحِي الْعَشِيرَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَحْلِفُونَ كَذِبًا ، وَلَوْ طُولِبَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ بِهَا فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ الْأَزْمَعِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ قَالَ : أَمَا تُجْزِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : لَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فَبِمَ يَبْطُلُ دَمُ صَاحِبِكُمْ ؟ فَإِذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا فَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ ، كَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّعَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؟ بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ ، أَوْ لَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَبَذَلَ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؟ وَهَهُنَا لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا ، وَلَمْ يُقِرُّوا ، وَبَذَلُوا الدِّيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ فَدَلَّ

أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهَا بِالْحَبْسِ ، { وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ } أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَيِسَ عَنْ الْحَلْفِ وَسَأَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يُغَرِّمَهُمْ الدِّيَةَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلِ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدٍ ، يَدُ الْعُمُومِ ، لَا يَدُ الْخُصُوصِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ - لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَوْ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللَّازِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكَ أَحَدٍ ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حِفْظُهُ - فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الْعَامَّةِ فَحِفْظُهُ عَلَى الْعَامَّةِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْكُلِّ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكُلِّ ، وَأَمْكَنَ إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْكُلِّ ؛ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمْ بِالْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مَالُهُمْ ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اسْتِيفَاءً مِنْهُمْ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ الْقُرَى ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقُرَى ، فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمِصْرِ - فَعَلَى أَقْرَبِ مَحَالِّ الْمِصْرِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ لَا يُلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْضِعُ فِي يَدِ أَحَدٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ الْقَتِيلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَلَا الدِّيَةُ ، وَإِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ يُلْحَقُ ، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ ،

وَقَدْ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ حَدِيثٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَضَى بِهِ أَيْضًا سَيِّدُنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلَوْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونُ وَنَحْوِهَا ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ الْعَظِيمَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تَجِبُ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا إذَا وُجِدَ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَهِيَ تَسِيرُ ، وَلَيْسَتْ فِي يَدِ أَحَدٍ ، وَهَذَا الْقِيَاسُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَسِيرُ فِيهِ الدَّابَّةُ تَابِعٌ لِأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ ، فَكَانَ فِي يَدِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بِالتَّبَعِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لَا يَجْرِي بِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُحْتَسَبًا فِي الشَّطِّ أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ مُلْقَى عَلَى الشَّطِّ ، فَإِنْ كَانَ الشَّطُّ مِلْكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ ، إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ : الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ دَوَابَّهُمْ ؛ فَكَانَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي الشَّطِّ ؛ فَكَانَ الشَّطُّ فِي أَيْدِيهِمْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْجَزِيرَةِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَى الْجَزِيرَةِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ : الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْجَزِيرَةَ تَكُونُ فِي تَصَرُّفِهِمْ ، فَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَإِنْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بِالشُّفْعَةِ لِلشُّرَكَاءِ فِي الشُّرْبِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُحْتَبَسًا أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ

كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِلْكًا لِأَرْبَابِهِ - كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْرِي بِهِ مَمْلُوكًا لَهُمْ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ ، وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ ، وَلَا فِي شَوَارِعِ الْعَامَّةِ ، وَلَا فِي جُسُورِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَصْلَحَتَهَا إلَى الْعَامَّةِ فَكَانَ حِفْظُهَا عَلَيْهِمْ فَإِذَا قَصَّرُوا ضَمَّنُوا بَيْتَ الْمَالِ مَالَهُمْ فَيُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ لَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ فِي سُوقِ الْعَامَّةِ ، وَهِيَ الْأَسْوَاقُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ ، وَهِيَ سُوقُ السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا يَدُ الْخُصُوصِ كَانَتْ كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ سُوقَ السُّلْطَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ حِفْظَهَا وَالتَّدْبِيرَ فِيهَا إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَضْمَنُونَ بِالتَّقْصِيرِ ؛ فَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ .
وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ ، وَلَا قَسَامَةَ ، وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ كَانَ السَّوْقُ مِلْكًا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لَكِنْ عَلَى مِنْ تَجِبُ فِيهِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي السِّجْنِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَيَدِ الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لِأَهْلِ السِّجْنِ فِي السِّجْنِ ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِيهِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُمُومِ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّجْنِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ

لَا الْقَسَامَةَ ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ ضَرْبَ تَصَرُّفٍ فِي السِّجْنِ فَكَأَنَّ لَهُمْ يَدًا عَلَى السِّجْنِ فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ .

( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ فَلَا قَسَامَةَ ، وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَوُجُودُهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا ، كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَقَتْلُ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ حُرٌّ ؛ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ لَهُ ، وَالْمَوْلَى فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلَا تَعْقِلَهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ إذًا صَارَ مَضْمُونًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ، وَفِي الْمَأْذُونِ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ إنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ حَقَّهُمْ بِالْقَتْلِ بِاسْتِهْلَاكِ مَحَلِّ الْحَقِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ضَمَانَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى بَلْ هَذَا ضَمَانُ الْمَالِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءُ بِمَالِيَّتِهِ ، فَكَانَ هَذَا ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ - لَا شَيْءَ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ فَلَا قَسَامَةَ ، وَالْقِيمَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ

لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمَهُ الْعَاقِلَةُ ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ ، كَعَبْدٍ لَيْسَ بِرَهْنٍ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا ، وَثَمَّةَ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَيْهِ ، كَذَا هَهُنَا .

( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا ) بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَقُولُ : سَبَبُ وُجُوبِهِمَا هُوَ التَّقْصِيرُ فِي النُّصْرَةِ وَحِفْظُ الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النُّصْرَةُ وَالْحِفْظُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ فَلَمْ يُحْفَظْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِفْظِ صَارَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْوَاجِبِ فَيُؤَاخَذُ بِالتَّقْصِيرِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ وَحَمْلًا عَلَى تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَخَصَّ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظ كَانَ أَوْلَى بِتَحَمُّلِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ فَكَانَ التَّقْصِيرُ مِنْهُ أَبْلَغَ ، وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَصَّ بِالْمَوْضِعِ مِلْكًا أَوْ يَدًا بِالتَّصَرُّفِ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لَهُ ، فَكَانَتْ النُّصْرَةُ عَلَيْهِ ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } وَلِأَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ اُخْتُصَّ بِهِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ إمَّا بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْيَدِ ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِيهِ فَيُتَّهَمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ ، فَالشَّرْعُ أَلْزَمَهُمْ الْقَسَامَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ وَالدِّيَةِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَمَا قِيلَ : أَنَبْذُلُ أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا ؟ فَقَالَ : أَمَّا أَيْمَانُكُمْ فَلِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ، وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَتِيلُ إذَا وُجِدَ فِي الْمَحَلَّةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ حَفِظَ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَنَفْعُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلَّةِ عَائِدٌ إلَيْهِمْ ، وَهُمْ الْمُتَّهَمُونَ فِي قَتْلِهِ ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ .
وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمَحَلَّةِ ؛

لِمَا قُلْنَا فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ ، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسِينَ رَجُلًا تُكَرَّرُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ رِجَالَ الْقَسَامَةِ فَكَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ وَاحِدًا ، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ حَتَّى كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا .
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ حَقُّ وَلِي الْقَتِيلِ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِمَّنْ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَدَدِ الرِّجَالِ الْخَمْسِينَ اسْتَوْفَى ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ - يَسْتَوْفِي عَدَدَ الْأَيْمَانِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ الْيَمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مَوْضُوعَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَلَى عَدَدِ الْخَمْسِينَ فِي الْأَصْلِ لَا عَلَى وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ عَلَى وَاحِدٍ لِضَرُورَةِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ ، وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ الْكَمَالِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَحَلَّةِ قَبَائِلُ شَتَّى ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ الْخُطَّةِ وَالْمُشْتَرُونَ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ جَمِيعًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِينَ ؛ وَلِهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُشْتَرِينَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ أَهْلَ الْخُطَّةِ أُصُولٌ فِي الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ ثَبَتَ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْمُشْتَرِينَ ، فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَةِ الْمَحَلَّةِ وَحِفْظِهَا مِنْ الْمُشْتَرِينَ ،

فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْمُشْتَرِي بَيْنَهُمْ كَالْأَجْنَبِيِّ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يُنْتَقَلُ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَحَلَّةِ فِيهَا إلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ ، وَأَبُو يُوسُفَ رَأَى التَّدْبِيرَ إلَى الْأَشْرَفِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَوْ لَا ، فَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوَّلَ عَلَى مَعْنَى الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ ، فَإِنْ فُقِدَ أَهْلُ الْخُطَّةِ .
وَكَانَ فِي الْمَحَلَّةِ مُلَّاكٌ وَسُكَّانٌ - فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا سُكَّانًا } وَلِأَنَّ لِلسَّاكِنِ اخْتِصَاصًا بِالدَّارِ يَدًا كَمَا أَنَّ لِلْمَالِكِ اخْتِصَاصًا بِهَا مِلْكًا ، وَيَدُ الْخُصُوصِ تَكْفِي لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَالِكَ أَخَصُّ بِحِفْظِ الْمَوْضِعِ وَنُصْرَتِهِ مِنْ السُّكَّانِ ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ اخْتِصَاصُ مِلْكٍ ، وَأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ اخْتِصَاصِ الْيَدِ .
أَلَا يُرَى أَنَّ السُّكَّانَ يَسْكُنُونَ زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ .
وَأَمَّا إيجَابُ الْقَسَامَةِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانًا ، بَلْ كَانُوا مُلَّاكًا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَمَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ .

وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ رُكَّابٌ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ السَّفِينَةِ ، وَعَلَى مَنْ يَمُدُّهَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا أَوْ لَا يَمْلِكُهَا ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا رُكَّابٌ فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي إيجَابِهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْمُلَّاكِ وَالسَّكَّانِ جَمِيعًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُفَرِّقَانِ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَالْمَحَلَّةِ ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَالدَّابَّةِ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلٌ ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْمِلْكُ وَالتَّحْوِيلُ مَا أَمْكَنَ لَا الْيَدُ .
وَكَذَلِكَ الْعَجَلَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّفِينَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ ، وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ مَعَهُ رَجُلٌ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي يَدِهِ ، وَلَوْ وُجِدَ جَرِيحٌ مَعَهُ بِهِ رَمَقٌ يَحْمِلُهُ حَتَّى أَتَى بِهِ أَهْلَهُ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْمَنُ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مَجْرُوحًا فَإِذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَتَحَامَلَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى فَمَاتَ فِيهِمْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى دَابَّةٍ ، وَلَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ عَلَيْهَا رَاكِبٌ - فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ اجْتَمَعَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ - فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ وُجِدَ فِي دَارِهِمْ ، وَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ لَا سَائِقَ لَهَا وَلَا قَائِدَ وَلَا رَاكِبَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ

مِلْكًا لِأَحَدٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ لَا مَالِكَ لَهُ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ - فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ وُجِدَتْ الدَّابَّةُ فِي مَحَلَّةٍ - فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِع إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى ، إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ مِنْهَا إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ - فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ أَنَّهُ يُضَاف إلَى أَقْرَبِهِمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِأَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَهُمَا } وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ ، وَكَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِذَلِكَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ قِسْ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ فَأَلْزِمْهُمْ فَوَجَدَ الْقَتِيلَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَأُلْزِمُوا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَكَاهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْفِقْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَا إذَا وُجِدَ بَيْنَ سِكَّتَيْنِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا ، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْمُعَسْكَرِ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا لَهَا أَرْبَابٌ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ الْمَوْضِعِ وَحِفْظِهِ ،

فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُعَسْكَرَ كَالسُّكَّانِ ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عَلَى أَصْلِهِمَا ( فَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَإِنْ يَكُنْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ بِأَنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ - فَعَلَى مَنْ يَسْكُنْ الْخِبَاءَ وَالْفُسْطَاطَ ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَيْمَةِ خُصَّ بِمَوْضِعِ الْخَيْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، كَذَا هَهُنَا .

وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ وَالْخِبَاءِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ مِنْهُمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ، كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا وُجِدَ بَيْنَ الْخِيَامِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ ، كَالْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ جَعَلَ الْخِيَامَ الْمَحْمُولَةَ كَالْمَحَلَّةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَسْكَرُ لَقُوا عَدُوًّا ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ لَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوا - فَلَا قَسَامَةَ ، وَلَا دِيَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَقُوا عَدُوًّا وَقَاتَلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ لَا الْمُسْلِمُونَ ؛ إذْ الْمُسْلِمُونَ لَا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ وَحِفْظِهَا مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِ ، كَصَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ .
لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ إنْسَانٍ ، وَصَاحِبُ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقَسَامَةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ حُضُورًا كَانُوا أَوْ غُيَّبًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِيهِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا فِي الْمِصْرِ دَخَلُوا فِي الْقَسَامَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى

عَاقِلَتِهِ أَمَّا دُخُولُ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَسَامَةِ ، إذَا كَانُوا حُضُورًا - فَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي الْقَسَامَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الدِّيَةُ لَزِمَتْهُمْ الْقَسَامَةُ ، كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ وَبِالْوِلَايَةِ وَالتُّهْمَةِ فَلَا يُشَارِكَهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا يُشَارِكُ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ غَيْرُهُمْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانُوا حُضُورًا يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ الدَّارِ وَنُصْرَتُهَا كَمَا يَلْزَمُ صَاحِبُ الدَّارِ .
وَكَذَا يُتَّهَمُونَ بِالْقَتْلِ كَمَا يُتَّهَمُ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَدْ شَارَكُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مَعْنَى التُّهْمَةِ ظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ مِنْ الْغَيْبِ .
وَكَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ نُصْرَةٌ مِنْ جِهَتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهْمَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْ الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ ، إذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ خَاطِئًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ فِيهَا سَاكِنٌ أَوْ كَانَتْ مُفَرَّغَةٌ مُغْلَقَةٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ - فَعَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمِلْكَ دُونَ السُّكْنَى ؛ فَكَانَ وُجُودُ السُّكْنَى فِيهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
( وَأَمَّا ) أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُوجِبُ عَلَى السَّاكِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدَّارِ يَدًا وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمِلْكُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ خَاصًّا أَوْ مُشْتَرَكًا - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ

الْمِلْكِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ قَدْرُ أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ أَوْ اخْتَلَفَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَ - فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا نِصْفَانِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عَدَدُ الرُّءُوسِ لَا قَدْرُ الْأَنْصِبَاءِ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الدَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْحِفْظُ لَا يَخْتَلِفُ ؛ وَلِهَذَا تَسَاوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْكِ ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ بَاعَ دَارًا ، وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي : أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْبَائِعِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْع خِيَارٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ - فَعَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : الدِّيَةُ عَلَى مَالِكِ الدَّارِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ ، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ .
وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - فَالْمِلْكُ لَهُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ ، وَصُورَةُ الْيَدِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَسَامَةِ ، كَيَدِ الْمُودِعِ ، فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ

لِلْبَائِعِ - فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي - فَقَدْ انْبَرَمَ الْبَيْعَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكهَا بِالْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ .
( وَأَمَّا ) تَصْحِيحُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمِلْكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ لَا الْيَدَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ يَدَ تَصَرُّفٍ كَيَدِ السَّاكِنِ ، وَالثَّابِتُ لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَهُ ، لَكِنْ لَا إشْكَالَ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ ، وَالْحِفْظُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً ، إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحِفْظُ إلَى الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ بِهِ عَادَةً ، فَيُقَامُ مَقَامَ الْيَدِ ، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بِهِ حَقِيقَةُ الْحِفْظِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْيَدُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْمِلْكِ ، وَهَذِهِ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ يَدِ السَّاكِنِ .

وَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا شَيْءَ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ قَوْلِهِمْ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَهُ ، وَالدَّارُ مِلْكُهُ ، وَإِنَّمَا صَارَ مِلْكَ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِقَتْلٍ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْمَوْتِ ، بَلْ هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَمْ يُقْتَلْ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَوَاقِلهمْ ، وَلِأَنَّ وُجُودَهُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَسَامَةِ - وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ ، لَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ بِدَلِيلِ أَنْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ ، وَالدَّارُ وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلهمْ تَجِبُ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ ، وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ ؟ فَكَيْفَ تَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ ؟ وَكَذَا عَاقِلَتُهُمْ تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ لَهُمْ أَيْضًا ، وَفِيهِ إيجَابٌ لَهُمْ أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ - فَالْجَوَابُ : مَمْنُوعٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ بَلْ لِلْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ فَتَكُونُ لَهُ ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجَهَّزُ مِنْهَا ، وَتُقْضَى مِنْهَا دُيُونَهُ ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ ثُمَّ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ تَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ لِاسْتِغْنَاءِ الْمَيِّتِ عَنْهُ ، وَالْوَرَثَةُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْأَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ أَوْ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا

ابْنُهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ - فَهُوَ مُمْكِنٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الدَّارِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ إذَا وُجِدَ ابْنُ الرَّجُلَ أَوْ أَخُوهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةَ ابْنِهِ وَدِيَةَ أَخِيهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ وَارِثَهُ ؛ لِمَا قُلْنَا : إنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي الدَّارِ كَمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهَا الْقَتْلَ فَيَلْزَمُ عَاقِلَتُهُ ذَلِكَ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الدَّارِ بِالْإِرْثِ ، وَلَوْ وُجِدَ مُكَاتَبٌ قَتِيلًا فِي دَار نَفْسِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ دَارِهِ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لَيْسَتْ لِوَرَثَتِهِ بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهَدَرَ دَمُهُ رَجُلَانِ كَانَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، وَاحْتِمَالُ خِلَافِ الظَّاهِرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ثَابِتٌ فِي قَتِيلِ الْمَحَلَّةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا ، وَمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ - : الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْقَسَامَةِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وُجِدَ الْقَتِيلُ سَوَاءٌ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِمَا أَوْ فِي مِلْكِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفَانِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ؛ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مِلْكِهِمَا لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِ النُّصْرَةِ اللَّازِمَةِ .
وَهَلْ يَدْخُلَانِ فِي الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ ؟ فَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِمَا كَالْمَحَلَّةِ وَمِلْكِ إنْسَانٍ لَا يَدْخُلَانِ فِيهَا ، وَإِنْ وُجِدَ فِي مِلْكِهِمَا يَدْخُلَانِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي مِلْكِهِمَا كَمُبَاشَرَتِهِمَا الْقَتْلَ ، وَهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلَانِ فِي الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ أَصْلًا ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْقَتْلِ ، وَالْقَتْلُ فِعْلٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا وَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُسْتَنْصَرُ بِهِمْ عَادَةً ، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ أَيْضًا ؛ فَلَا تَلْزَمُهُمْ الدِّيَةَ .
وَأَمَّا الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ - فَلَا يَدْخُلَانِ فِي قَسَامَةٍ وَجَبَتْ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي غَيْرِ دَارِهِمَا ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهِمَا أَمَّا الْمَأْذُونُ - إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ - فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ ، بَلْ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَاقِلَتَهُ - اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ ، وَإِذَا حَلَفَ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ

أَهْلِ الْيَمِينِ .
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى ؟ وَوُجُودُ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ خَطَأً ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، كَذَا هَذَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِحْلَافِ جَرَيَانُ الْقَسَامَةِ لِسَبَبٍ هُوَ النُّكُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ - خَطَأً - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مَوْلَاهُ فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِحْلَافُ مُفِيدًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ ، وَتَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ ؛ فَلَا يَمْلِكُ الدَّارَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا فَالْغُرَمَاءُ لَا يَمْلِكُونَهَا أَيْضًا ، وَالْعَبْدُ لَا مِلْكَ لَهُ ، وَالْمَوْلَى أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ ، فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا فِي الدَّارِ ، وَهُوَ حَقُّ اسْتِخْلَاصِهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ ( وَأَمَّا ) الْمُكَاتَبُ إذَا وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ فَلَا يَكُونُ عَلَى مَوْلَاهُ كَمَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي مُبَاشَرَتِهِ .
وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ ، فَإِنْ حَلَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ عَاقِلَةَ الْمُكَاتَبِ نَفْسُهُ ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ ، فَتَكُونُ حَالَّةً كَمَا تَجِبُ عَلَى

الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي غَيْرِ مِلْكهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِطَرِيقِ النُّصْرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهَا أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَهَا لَا يَكُونُ بِهَا غَيْرُهَا - عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ فَتُسْتَحْلَفُ وَيُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهَا لَا عَلَى عَاقِلَتِهَا .
وَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةِ لِلُزُومِ النُّصْرَةِ ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهَا ، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا .
وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ؟ وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ .
وَهَلْ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الدِّيَةِ ؟ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْقَاتِلَ فِي التَّحَمُّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا عَاقِلًا بَالِغًا ، فَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ عِنْدَ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهَا عَيْنًا فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَأَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنْكَرُوا عَلَى الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ وَقَالُوا : إنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَيَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْلَافِ

وَالْحِفْظِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

وَأَمَّا مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَوْعَانِ : نَصٌّ وَدَلَالَةٌ ، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ : أَبْرَأْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْإِبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْرَاءِ فِي مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ فَيَصِحُّ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ - فَهِيَ : أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلًا ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُون نَفْيًا لِلْقَتْلِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِلَّا حَلَفَ ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ( وَعِنْدَهُمَا ) : يُقْضَى بِالدِّيَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْوَلِيِّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا : تُقْبَلُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْقَبُولِ قَبْلَ الدَّعْوَى - كَانَتْ - التُّهْمَةُ ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْبَرَاءَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ بِالْإِبْرَاءِ إلَى تَصْحِيحِ شَهَادَتِهِمْ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِالْإِبْرَاءِ حَيْثُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَنْهُمْ ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْمُكَافَأَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ كَانُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِنْ

خَرَجُوا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِمْ خُصَمَاءَ قَائِمٌ ، وَهُوَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِيهِمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا خَاصَمَ ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِحَالِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَسْقُطُ .
وَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْقِيَاسُ أَنْ تَسْقُطَ الْقَسَامَةُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِلْأَثَرِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ تَعْيِينَ الْوَلِيِّ وَاحِدًا مِنْهُمْ - إبْرَاءً عَنْ الْبَاقِينَ - دَلَالَةٌ فَتَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُمْ نَصًّا .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ الْقَاتِلَ أَحَدُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ظَاهِرًا ، وَالْوَلِيُّ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْقَسَامَةِ إلَّا بِهَا ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ يُقْضَى بِهَا ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَائِمَةٌ فَكَانَ الشَّاهِدُ خَصْمًا ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً أُخْرَى ، وَبَقِيَتْ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى حَالِهَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشَّاهِدَانِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حَتَّى يَكْمُلَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ الشُّهُودُ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ؟ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ -

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَا قَتَلْنَاهُ ، وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ فُلَانٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا يُزَادُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ قَاتِلٌ فَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْلَافهمْ عَلَى الْعِلْمِ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيمَا قَالَاهُ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِ الْقَسَامَةِ ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ تَرْكُ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ أَصْلًا فَكَانَ مَا قَالَاهُ أَوْلَى ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إنْ وَافَقَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يَحْلِفُونَ ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : إبَانَةُ الْأَطْرَافِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَطْرَافِ ، وَالثَّانِي : إذْهَابُ مَعَانِي الْأَطْرَافِ مَعَ إبْقَاءِ أَعْيَانِهَا ، وَالثَّالِثُ : الشِّجَاجُ ، وَالرَّابِعُ : الْجِرَاحُ ، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَالظُّفْرِ وَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأُذُنِ وَالشَّفَةِ وَفَقْءُ الْعَيْنَيْنِ وَقَطْعُ الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ وَقَلْعُ الْأَسْنَانِ وَكَسْرُهَا وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَتَفْوِيتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْكَلَامِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ ، وَتَغَيُّرُ لَوْنِ السِّنِّ إلَى السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا مَعَ قِيَامِ الْمَحَالِّ الَّذِي تَقُومُ بِهَا هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَيُلْحَقُ بِهَذَا الْفَصْلِ إذْهَابُ الْعَقْلِ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَالشِّجَاجُ أَحَدَ عَشَرَ أَوَّلُهَا : الْخَارِصَةُ ، ثُمَّ الدَّامِعَةُ ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ ، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ ، ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ ، ثُمَّ الْآمَّةُ ، ثُمَّ الدَّامِغَةُ .
( فَالْخَارِصَةُ ) : هِيَ الَّتِي تَخْرُصُ الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهَا الدَّمُ وَالدَّامِعَةُ : هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ مِنْهَا الدَّمُ وَلَا يَسِيلُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّامِيَةُ : هِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ وَالْبَاضِعَةُ : هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ وَالْمُتَلَاحِمَةُ : هِيَ الَّتِي تَذْهَبُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فِيهِ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْمُتَلَاحِمَةُ قَبْلَ الْبَاضِعَةُ ،

وَهِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ مِنْهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ وَالسِّمْحَاقُ : اسْمٌ لَتِلْكَ الْجِلْدَةِ إلَّا أَنَّ الْجِرَاحَةَ سُمِّيَتْ بِهَا وَالْمُوضِحَةُ : الَّتِي تَقْطَعُ السِّمْحَاقَ ، وَتُوَضِّحُ الْعَظْمَ أَيْ : تُظْهِرُهُ وَالْهَاشِمَةُ : هِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ أَيْ تُكَسِّرُهُ وَالْمُنَقِّلَةُ : هِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ أَيْ : تُحَوِّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالْآمَّةُ : هِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ ، وَهِيَ جِلْدَةٌ تَحْتَ الْعَظْمِ فَوْقَ الدِّمَاغِ وَالدَّامِغَةُ : هِيَ الَّتِي تَخْرِقُ تِلْكَ الْجِلْدَةِ ، وَتَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ فَهَذِهِ إحْدَى عَشْرَ شَجَّةً ، وَمُحَمَّدٌ ذَكَرَ الشِّجَاجَ تِسْعًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَارِصَةَ وَلَا الدَّامِغَةَ ؛ لِأَنَّ الْخَارِصَةَ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ عَادَةً ، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ لَا حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ ، وَالدَّامِغَةُ لَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ مَعَهَا عَادَةً بَلْ تَصِيرُ نَفْسًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَتَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ شَجَّةً فَلَا مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ فِيهَا ؛ لِذَلِكَ تَرَكَ مُحَمَّدٌ ذِكْرَهُمَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الرَّابِعُ فَالْجِرَاحُ نَوْعَانِ : جَائِفَةٌ وَغَيْرُ جَائِفَةٍ ، فَالْجَائِفَةُ : هِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ، وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْفُذُ الْجِرَاحَةُ مِنْهَا إلَى الْجَوْفِ : هِيَ الصَّدْرُ ، وَالظَّهْرُ ، وَالْبَطْنُ ، وَالْجَنْبَانِ ، وَمَا بَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ وَالدُّبُرِ ، وَلَا تَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلَا فِي الرَّقَبَةِ وَالْحَلْقِ جَائِفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ مَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرَابِ قَطْرَةٌ يَكُونُ جَائِفَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطُرُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ ، وَلَا تَكُونُ الشَّجَّةُ إلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَفِي مَوَاضِعِ الْعَظْمِ مِثْلِ : الْجَبْهَةِ ، وَالْوَجْنَتَيْنِ ، وَالصُّدْغَيْنِ ، وَالذَّقَنِ دُونَ الْخَدَّيْنِ ، وَلَا تَكُونُ الْآمَّةُ

إلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَتَخَلَّصُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَثْبُتُ حُكْمَ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي كُلِّ الْبَدَنِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ إنْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ غَلَطُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْصِلُ بَيْنَ الشَّجَّةِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ الْجِرَاحَةِ فَتُسَمِّي مَا كَانَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي مَوَاضِعِ الْعَظْمِ مِنْهَا شَجَّةً ، وَمَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ جِرَاحَةً ، فَتَسْمِيَةُ الْكُلِّ شَجَّةً يَكُونُ غَلَطًا فِي اللُّغَةِ ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهِ إلَى الْمَعْنَى فَهُوَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الشِّجَاجِ يَثْبُتُ لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِبَقَاءِ أَثَرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ بَرِئَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ لَمْ يَجِبْ بِهَا أَرْشُ وَالشَّيْنُ إنَّمَا يَلْحَقُ فِيهَا فِيمَا يَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُمَا فَلَا يَظْهَرُ بَلْ لَعَلَّهَا يُغَطَّى عَادَةً فَلَا يَلْحَقُ الشَّيْنُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَلْحَقُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ ( مِنْهَا ) : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ( وَمِنْهَا ) مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ( أَمَّا ) الَّذِي فِيهِ الْقِصَاصُ فَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصُ ( وَالثَّانِي ) : فِي بَيَانِ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَنْوَاعٌ : ( بَعْضُهَا ) : يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مَا دُونَ النَّفْسِ .
( أَمَّا ) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ : فَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ كَوْنِ الْجَانِي عَاقِلًا بَالِغًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا ، وَكَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعْصُومًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جُزْءَ الْجَانِي وَلَا مِلْكَهُ .
وَكَوْنِ الْجِنَايَةِ حَاصِلَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ ( وَأَمَّا ) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْفِعْلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْشَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَلنَّصُّ وَالْمَعْقُولُ ( أَمَّا ) النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } إلَى قَوْله تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ، فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بَيَانُ حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ ، لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ، وَأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ ، فَيَكُونُ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا ، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا ( فَالْجَوَابُ ) : أَنَّ مِنْ

الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ ابْتَدَأَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } بِالرَّفْعِ إلَى قَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ } عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَانَ هَذَا شَرِيعَتَنَا ، لَا شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ بِكِتَابِنَا ، وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبْتَدَأَةً فَيَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرُّسُلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَصًّا لَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ إيجَابٌ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالسِّنِّ إلَّا صَاحِبَهُ ( وَيَجُوزُ ) أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ غَيْرُ صَاحِبِهِمَا ، فَكَانَ الْإِيجَابُ فِي الْعُضْوِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ إيجَابًا فِيمَا هُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي حَقِّهِ ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ذِكْرًا لِلْيَدِ وَالرِّجْلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَهُ ، كَمَا فِي التَّأَفُّفِ مَعَ الضَّرْبِ فِي الشَّتْمِ عَلَى أَنَّ فِي كِتَابِنَا حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) وَأَحَقُّ مَا يُعْمَلُ فِيهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا دُونَ النَّفْسِ ( وَقَالَ ) تَبَارَكَ وَتَعَالَى { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ ( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَهُوَ : أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ حُكْمُ

الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي الْحِلِّ وَالْحُرَمِ كَمَا يُسْتَوْفَى الْمَالُ .
وَكَذَا الْوَصِيُّ يَلِي اسْتِيفَاءَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِلصَّغِيرِ ، كَمَا يَلِي اسْتِيفَاءَ مَالِهِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ بِدُونِ إمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ مُمْتَنَعٌ ، فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ ضَرُورَةً ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَسَائِلُ ( فَنَقُولُ ) وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ - : لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا بِمِثْلِهِ فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إلَّا بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسهَا فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا ؛ إذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ .
( وَكَذَا ) الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا لِمَا قُلْنَا ( وَكَذَا ) الْإِبْهَامُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْإِبْهَامِ ، وَلَا السَّبَّابَةُ إلَّا بِالسَّبَّابَةِ ، وَلَا الْوُسْطَى إلَّا بِالْوُسْطَى ، وَلَا الْبِنْصِرِ إلَّا بِالْبِنْصِرِ ، وَلَا الْخِنْصَرُ إلَّا بِالْخِنْصَرِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ ؛ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ .
وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَمِينًا .
وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ .
وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ مِنْهُمَا إلَّا بِالْيَمِينِ ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى .
وَكَذَلِكَ الْأَعْيُنُ ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إلَّا بِالثَّنِيَّةِ ، وَلَا النَّابُ إلَّا بِالنَّابِ ، وَلَا الضِّرْسُ إلَّا بِالضِّرْسِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ وَبَعْضَهَا طَوَاحِنُ وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَلْحَقهُمَا بِجِنْسَيْنِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
وَكَذَا

لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى مِنْهَا بِالْأَسْفَلِ ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَطْرَافِ إلَّا بِالصَّحِيحِ مِنْهَا فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِع ، أَوْ مَفْصِلٌ مِنْ الْأَصَابِعِ .
وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَغَيْرُهَا ؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَعِيبِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي طَرَفِ الْجَانِي فَالْمَجْنِيّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ ، وَهُوَ السَّلِيمُ ، وَلَا يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى بَدَلِ حَقِّهِ ، وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ ، كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ ، وَالْمُتْلَفُ جَيِّدٌ ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا الرَّدِيءُ ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الْجَيِّدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ( وَلَوْ أَرَادَ ) الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
( وَقَالَ ) الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : إنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ هَذِهِ الْيَدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ ، وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ إلَّا قَدْرَ بَعْضِ حَقِّهِ إنَّهُ يَأْخُذُ الْقَدْرَ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُتْلَفِ وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ ، كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا )

أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْوَصْفُ ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ نَاقِصًا - كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الصِّفَةِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَهُوَ جَيِّدٌ ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ نَوْعُ الْجَيِّدِ ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا الرَّدِيءُ مِنْهُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ ، أَوْ قِيمَةُ الْجَيِّدِ كَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمِثْلِ الْمُتْلِفِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْجُودَ ، وَيَأْخُذَ قِيمَةَ الْبَاقِي ، وَهَهُنَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ إلَّا بِالْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ دُونَ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَصَابِعَ ، وَيَبْرَأَ عَنْ الْكَفِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَصَابِعُ عَيْنَ حَقِّهِ ، إنْ كَانَ الْبَعْضُ قَطْعَ الْأَصَابِعِ بِأَنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .

( وَلَوْ ) ذَهَبَتْ الْجَارِحَةُ الْمُعَيَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، أَخَذَهَا أَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ - بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ ( وَهَلْ يَجِبُ ) الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي ؟ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً ، وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا إنْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قُطِعَتْ بِحَقٍّ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ ( وَعِنْدَ ) الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا عِنْدَنَا فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَهُ ( وَعِنْدَهُ ) أَحَدُهُمَا : غَيْرُ عَيْنٍ فِي قَوْلٍ ، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَكِنْ مَعَ حَقِّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ ( وَقَدْ ) ذَكَرْنَا هَذَا الْأَصْلَ بِفُرُوعِهِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَطْعُ بِحَقٍّ يَجِبُ الْأَرْشَ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيحَةِ فَنَقُولُ : حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ الْمُعَيَّنَةِ بِعَيْنِهَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى الْأَرْشِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ حَتَّى هَلَكَتْ بَقِيَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فَإِذَا فَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ ؟ قِيلَ : لَا بَلْ حَقُّهُ كَانَ فِي الْيَدِ عَلَى التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى بَدَلِهِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْيَدِ ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ بَطَلَ مَحَلُّ الْحَقِّ ، فَبَطَلَ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ

- الْمُوَفِّقُ ( وَلَوْ كَانَتْ ) يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً وَقْتَ الْقَطْعِ ثُمَّ شُلَّتْ بَعْدَهُ فَلَا حَقَّ لِلْمَقْطُوعِ فِي الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي الْيَدِ عَيْنًا بِالْقَطْعِ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى الْأَرْشِ بِالنُّقْصَانِ ، كَمَا إذَا ذَهَبَ الْكُلُّ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَصْلًا وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلَا قِصَاصَ إلَّا فِيمَا يُقْطَعُ مِنْ الْمَفَاصِلِ مِفْصَلِ الزَّنْدِ ، أَوْ مَفْصِلِ الْمِرْفَقِ ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَتِفِ فِي الْيَدِ ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ ، أَوْ مِفْصَلِ الرُّكْبَةِ ، أَوْ مِفْصَلِ الْوِرْكِ فِي الرِّجْلِ ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَفَاصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ كَمَا إذَا قُطِعَ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ الْعَضُدِ أَوْ السَّاقِ أَوْ الْفَخِذِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ الْمَفَاصِلِ ، وَلَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِهَا .
( وَلَيْسَ ) فِي لَحْمِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ ، وَلَا فِي الْأَلْيَةِ قِصَاصٌ ، وَلَا فِي لَحْمِ الْخَدَّيْنِ ، وَلَحْمِ الظَّهْرِ ، وَالْبَطْنِ ، وَلَا فِي جِلْدَةِ الرَّأْسِ ، وَجِلْدَةِ الْيَدَيْنِ إذَا قُطِعَتْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَلَا فِي اللَّطْمَةِ ، وَالْوَكْزَةِ ، وَالْوَجْأَةِ ، وَالدَّقَّةِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَدَدُ بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ كَالِاثْنَيْنِ إذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ إصْبَعَهُ أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَارِحِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ بِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا ، وَعَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَانِ .
وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ الْعَدَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا ، كَمَا فِي النَّفْسِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا

عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا أُوهِمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا ، وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا ، فَقَدْ اعْتَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَطْعَ الْيَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ثُمَّ الْأَنْفُسُ تُقْتَلُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا الْأَيْدِي تُقْطَعُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي ، وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ ، وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا فِي الْفِعْلِ ( أَمَّا ) فِي الذَّاتِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَدَدِ بَيْنَ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَقَطْ فَفَوَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَصْفِ لَمَّا مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ فَفَوَاتُهَا فِي الذَّاتِ أَوْلَى ( وَأَمَّا ) فِي الْمَنْفَعَةِ فَلِأَنَّ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْيَدَيْنِ كَالْكِتَابَةِ ، وَالْخِيَاطَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَكَذَا مَنْفَعَةُ الْيَدَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً ( وَأَمَّا ) فِي الْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعُ بَعْضِ الْيَدِ كَأَنَّهُ وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْآخَرَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ، وَالْجَزَاءُ قَطْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَطْعُ كُلِّ الْيَدِ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ بَعْضِ الْيَدِ ، وَانْعِدَامُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ

تَكْفِي لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ كَيْفَ وَقَدْ انْعَدَمَتْ مِنْ وُجُوهٍ ؟ وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَطْعَ إلَى نَفْسِهِ ، وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَا رَجُلَيْنِ تُقْطَعُ يَمِينُهُ ثُمَّ إنْ حَضَرَا جَمِيعًا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَمِينَهُ ، وَيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَةَ يَدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ لِلْأَوَّلِ ، وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ لِلثَّانِي كَمَا قَالَ فِي الْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، وَيَغْرَمُ لِلْآخَرِ الدِّيَةِ كَمَا قَالَ فِي النَّفْسِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَلَى التَّرْتِيبِ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِلْأَوَّلِ فَلَا تَصِيرُ حَقًّا لِلثَّانِي فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلثَّانِي ، وَإِذَا قَطَعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِأَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ ، وَتَتَعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَطْعُ الْيَدِ ، وَقَدْ وُجِدَ قَطْعُ الْيَدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعَ يَدِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ إلَّا قَطْعُ بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَطْعِ إلَّا بَعْضَ حَقِّهِ فَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي مِنْ الْأَرْشِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ الْقَاطِعُ قَاضِيًا بِبَعْضِ يَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ( وَقَوْلُهُ ) صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مِلْكُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ .
وَالْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ بِثُبُوتٍ فِيهِ فَيُنَافِيهِ الْخُلُوصُ ( وَالدَّلِيلُ ) عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ

حَقٍّ ثَابِتٍ كَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ وَلَوْ صَارَتْ يَدُهُ مَمْلُوكَةً لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَكَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ دَلَّ أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ هُوَ مِلْكُ الْمَحَلِّ بَلْ مِلْكُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ فَإِطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْتِيفَاءِ الثَّانِي .
وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْسِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ عَلَى الْكَمَالِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ بِكَمَالِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا - وَالْآخَرُ غَائِبٌ - فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَلَا يَنْتَظِرَ الْغَائِبَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْيَدِ ، وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ فِي اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ بِحُكْمِ التَّزَاحُمِ بِحُكْمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلَا يُزَاحِمْ الْحَاضِرُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ ( وَلِأَنَّ ) حَقَّ الْحَاضِرِ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ ، وَأَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ ، وَالْغَائِبُ قَدْ يَحْضُرُ وَقَدْ لَا يَحْضُرُ ، وَقَدْ يُطَالِبُ بَعْضَ الْحُضُورِ ، وَقَدْ يَعْفُو فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ لِلْحَالِ بَعْدَ طَلَبِهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، وَلِهَذَا قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَطَلَبَ ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ كَذَا هَذَا .
وَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ عَلَى الْقَاطِعِ ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ .
وَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي

الْيَدِ عَلَى الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلِلْآخَرِ الدِّيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَأَمَّا ) إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِهِمَا اسْتِحْسَانًا ( وَقَالَ ) مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبِدِيَةِ الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا - بَطَلَ الْقِصَاصُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْبَعْضُ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالشَّرِكَةِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي بَعْضِ الْيَدِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الْفَتْوَى كَأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا يَجِبُ لَهُمَا ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقَطْعِ ، وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ كَعَفْوِهِ قَبْلَهُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبَضَا الدِّيَةَ فَقَدْ مَلَكَاهَا ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الْحَقُّ فِي كُلِّ الْيَدِ فَسَقَطَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْيَدِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْيَدِ ( وَكَذَلِكَ ) لَوْ أَخَذَ بِالدِّيَةِ رَهْنًا ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَأَنَّهُ فِي الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَصَارَ

قَبْضُهُمَا الرَّهْنَ كَقَبْضِهِمَا الدَّيْنَ ( وَلَوْ ) أَخَذَ بِالدِّيَةِ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ الْقِصَاصُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ هُوَ لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا .

( وَلَوْ قَطَعَ ) مِنْ رَجُلٍ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ .
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ ، وَمِنْ آخَرَ يَسَارَهُ قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ ، وَيَسَارُهُ لِصَاحِبِ الْيَسَارِ ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ ( فَإِنْ قِيلَ ) الْقَاطِعُ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَيْسَ فِي قَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ حَصَلَ ضَرُورَةً غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِمَا .
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ كُلَّهَا مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ أَوْ يَدًا بِالْيَدِ ثُمَّ يَقْطَعُ الْأُصْبُعَ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ فَلَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ جَاءَا جَمِيعًا يَطْلُبَانِ الْقِصَاصَ ، وَإِمَّا إنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ فَتُقْطَعُ الْأُصْبُعُ بِالْأُصْبُعِ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ فَيَجِبُ إيفَاءُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ ، لِأَنَّا لَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لَبَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَلَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا ، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مَعَ النُّقْصَانِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأُصْبُعِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا خُيِّرَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ ؛ لِأَنَّ

الْكَفَّ صَارَتْ مَعِيبَةً بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ فَوَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ .
وَإِنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ - وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ غَائِبٌ - تُقْطَعْ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبَ الْيَدِ ثَابِتٌ فِي الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِحَقِّ غَائِبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ وَيُطَالَبُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْضُرَ ، وَلَا يُطَالِبَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ ، وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِمَانِعٍ فَيَلْزَمُهُ الْأَرْشُ ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ ، وَصَاحِبُ الْيَدِ غَائِبٌ تُقْطَعُ الْأُصْبُعُ لِصَاحِبِ الْأُصْبُعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ مَفْصِلَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ آخَرَ كُلَّهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) إنْ جَاءُوا جَمِيعًا يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ ، وَإِمَّا إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ : فَإِنْ جَاءُوا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَوْسَطَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَرْشِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِأُصْبُعِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الَّذِي قَطَعَهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَيَجِبُ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّ بَعْضِهِمْ ، وَهُوَ أَنْ يُبْدَأَ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ حَقَّيْهِمَا مَعَ النُّقْصَانِ ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ أَصْلًا ، وَرُبَّ رَجُلٍ يَخْتَارُ الْقِصَاصَ - وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا - تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ ، وَإِذَا قُطِعَ مِنْهُ الْمَفْصِلُ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى يُخَيِّرُ الْبَاقِيَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا لِحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالطَّرَفِ .
وَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أَوَّلًا تُقْطَعُ لَهُ الْأُصْبُعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِذَا جَاءَ الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْضَى لَهُمَا بِالْأَرْشِ ، لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ، وَلِصَاحِبِ الْمَفْصِلَيْنِ ثُلُثَا دِيَةِ الْأُصْبُعِ لِمَا قُلْنَا .
وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمَفْصِلَانِ لِمَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57