كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين

الْجَنَّةِ ، وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ ، رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِمَا عَلِمَ ؛ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَرَجُلٌ عَلِمَ فَقَضَى بِغَيْرِ مَا عَلِمَ ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ جَهِلَ فَقَضَى بِالْجَهْلِ ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ ، } إلَّا أَنَّهُ لَوْ قُلِّدَ جَازَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ ، بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالِاسْتِفْتَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، فَكَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ ، فَاسِدًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، وَالْفَاسِدُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ عِنْدَنَا ، مِثْلُ الْجَائِزِ حَتَّى يَنْفُذَ قَضَايَاهُ الَّتِي لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، أَنَّهُ مِثْلُ الْجَائِزِ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، كَذَا هَذَا ، وَكَذَا الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ ، لَكِنَّهَا شَرْطُ الْكَمَالِ ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ ؛ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطُ الْجَوَازِ ، فَلَا يَصْلُحُ الْفَاسِقُ قَاضِيًا عِنْدَهُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ ، وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ ، فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إلَّا مَنْ كَمُلَ وَرَعُهُ ، وَتَمَّ تَقْوَاهُ ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ قُلِّدَ ؛ جَازَ التَّقْلِيدُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ فِي نَفْسِهِ ؛ لِمَا مَرَّ .
( وَأَمَّا ) تَرْكُ الطَّلَبِ : فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَكُونُ مُتَّهَمًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ كَانَ لَهُ طَالِبًا } وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أُجْبَرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ ، } وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّالِبَ ، لَا يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ ، وَالْمُجْبَرُ عَلَيْهِ يُوَفَّقُ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ ، قَدْ بَلَغَ فِي عِلْمِهِ ذَلِكَ حَدَّ الِاجْتِهَادِ ، عَالِمًا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُعَامَلَتِهِمْ ، عَدْلًا وَرِعًا ، عَفِيفًا عَنْ التُّهْمَةِ ، صَائِنَ النَّفْسِ عَنْ الطَّمَعِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ : هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ، فَإِذَا كَانَ الْمُقَلَّدُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِالْحَقِّ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ مَشْرُوعٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُقَلَّدِ ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ .
( مِنْهَا ) : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ ؛ يَصِحُّ رُجُوعُهُ ، وَإِذَا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ إذَا حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي ، وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ ، فَنَقُولُ : إذَا عُرِضَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ ، لَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ ، بَلْ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ .
( أَمَّا ) جَوَازُ الْقَبُولِ ؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ قَضَوْا بَيْنَ الْأُمَمِ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَقَلَّدُوا غَيْرَهُمْ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ ، فَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا ، وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا ، وَقَلَّدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ الْأَعْمَالَ ، وَبَعَثَهُمْ إلَيْهَا ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ قَضَوْا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَقَلَّدُوا غَيْرَهُمْ ، فَقَلَّدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَيْحًا الْقَضَاءَ ، وَقَرَّرَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
( وَأَمَّا ) جَوَازُ التَّرْكِ ؛ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَالْإِمَارَةَ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ قَالَ : لَا تَتَأَمَّرْنَ عَلَى اثْنَيْنِ ، } وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْ ، وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ مِنْ صَالِحِي الْأُمَّةِ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، دَخَلَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرَكَ الدُّخُولَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ ، ثُمَّ إذَا جَازَ التَّرْكُ وَالْقَبُولُ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقَبُولَ أَفْضَلُ أَمْ التَّرْكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : التَّرْكُ أَفْضَلُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَبُولُ أَفْضَلُ ، احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ ، } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّجْرِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ ، احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ بِصُنْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَصُنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ لِأَنَّ لَنَا فِيهِمْ قُدْوَةً ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ إذَا أَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ، قَالَ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ : { عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً } .
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَاضِي الْجَاهِلِ ، أَوْ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ ، أَوْ الطَّالِبِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّشْوَةَ ، فَيَخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ؛ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ ؛ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ لَهُ غَيْرُهُ - تَعَيَّنَ هُوَ لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ ، فَصَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْلِيدِ ، فَإِذَا قُلِّدَ - اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْقَبُولِ - يَأْثَمُ ، كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا ؛ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ ضَرُورَةً .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ ، فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ ، وَهُوَ الثَّابِتُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ، إمَّا قَطْعًا بِأَنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ ، وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ ، أَوْ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَاتِرُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَإِمَّا ظَاهِرًا ؛ بِأَنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، يُوجِبُ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ ، وَأَكْثَرَ الظَّنِّ ، مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ ، وَذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَاَلَّتِي لَا رِوَايَةَ فِي جَوَابِهَا عَنْ السَّلَفِ ، بِأَنْ لَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً ، حَتَّى لَوْ قَضَى بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ - لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالْبَاطِلِ قَطْعًا ، وَكَذَا لَوْ قَضَى فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، بِمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ ، فَالْقَضَاءُ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا كُلِّهَا يَكُونُ قَضَاءً بَاطِلًا قَطْعًا .
وَكَذَا لَوْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ ظَاهِرٌ ، يُخَالِفُهُ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ - لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ ، سَوَاءٌ كَانَ النَّصُّ قَطْعِيًّا أَوْ ظَاهِرًا .
وَأَمَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُخَالِفُهُ ، وَلَا إجْمَاعَ النُّقُولِ ، لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ظَاهِرًا ، فَكَانَ غَيْرُهُ بَاطِلًا ظَاهِرًا ، ؛ لِأَنَّ

الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَاحِدٌ ، وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ - عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ جَمِيعًا ، وَلَوْ أَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ .
وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ - أَفْقَهُ مِنْهُ - لَهُ رَأْيٌ آخَرُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ ، مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ فِيهِ ، وَتَرَجَّحَ رَأْيُهُ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ مِنْهُ ، هَلْ يَسَعُهُ ذَلِكَ ؟ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسَعُهُ ذَلِكَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَسَعُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ ، فَقَالَ : عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَسَعُهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا : يَسَعُهُ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ أَفْقَهَ ، مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ فِي رَأْيِهِ ، هَلْ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا ؟ مَنْ قَالَ : يَصْلُحُ مُرَجِّحًا ، قَالَ : يَسَعُهُ ، وَمَنْ قَالَ لَا يَصْلُحُ ، قَالَ : يَسَعُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ ، أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِالدَّلِيلِ ، وَكَوْنُهُ أَفْقَهَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ ، فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مَنْ يَرَى بِهِ التَّرْجِيحَ ، أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَفْقَهَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ إقْرَارٌ إلَى الصَّوَابِ ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ ، إنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ ، وَأَبَدًا يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا قِيلَ : فِي حَدِّهِ زِيَادَةٌ لَا يَسْقُطُ بِهَا التَّعَارُضُ حَقِيقَةً ؛ لِمَا عُلِمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ ؛ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِسِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ

فِي ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ - نَظَرَ فِي ذَلِكَ ، فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ ظَاهِرًا ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ - عَمِلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ ، مَا لَمْ يَقْضِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَيَنْكَشِفْ لَهُ وَجْهُ الْحَقِّ ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ ، قَضَى بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَلَا يَكُونَنَّ خَائِفًا فِي اجْتِهَادِهِ ، بَعْدَ مَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ ، فَلَا يَقُولَنَّ : إنِّي أَرَى ، وَإِنِّي أَخَافُ ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ ، يَمْنَعُ مِنْ إصَابَةِ الْحَقِّ ، وَيَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَرِيئًا جُسُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ، حَتَّى لَوْ قَضَى مُجَازِفًا لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَدْرِي - يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ ، وَيُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا ، وَحَفِظَهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ - عَمِلَ بِقَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا عَلَى التَّقْلِيدِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ - عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ الْفِقْهِ فِي بَلَدِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا فَقِيهٌ وَاحِدٌ ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ ، وَنَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ - مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَلَوْ قَضَى بِمَذْهَبِ خَصْمِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فِي اعْتِقَادِهِ ، فَلَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا ، فَتَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ ، وَقَضَى بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ يَرَى رَأْيَهُ بَاطِلًا - فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي اجْتِهَادِهِ كَذَا هَذَا .

وَلَوْ نَسِيَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ فَقَضَى بِشَيْءٍ ، عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَذْهَبُ نَفْسِهِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ؟ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا - تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا ، كَمَا لَوْ قَضَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ، وَذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي : أَنَّهُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ ، لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مُقَصِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُ مَذْهَبِ نَفْسِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ فَقَدْ قَصَّرَ ، وَالْمُقَصِّرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ - خُصُوصًا عِنْدَ تَزَاحُمِ الْحَوَادِثِ - فَكَانَ مَعْذُورًا ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِي الْحُكْمِ ، بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يَكُونُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى النِّسْيَانِ ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ ، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَضَى بِهِ ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ .

وَإِنْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ - وَهِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ - بِرَأْيِهِ ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي ، وَلَا يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ ؛ قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ ؛ وَبِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، فَكَانَ هَذَا قَضَاءً مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلَا اتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الرَّأْيِ الثَّانِي ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الِاجْتِهَادَ كَذَا هَذَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي حَادِثَةٍ ، ثُمَّ قَضَى فِيهَا بِخِلَافِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ ، فَسُئِلَ فَقَالَ : تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا نَقْضِي ، وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا ، فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ بِهِ ، وَلَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي ، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ ، كَمَا لَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ ، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا .

وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ بَائِنٌ ، فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، وَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ؛ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِرَأْيِهِ الثَّانِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فِي حَقِّهَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ رَأْيٌ أَمْضَاهُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَمَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ ؛ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْيُهُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ، فَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ ، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهُ بَائِنٌ ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْحُرْمَةِ ، فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحِلِّ ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْحِلِّ ، حَتَّى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحُرْمَةِ ، تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الِاجْتِهَادِ مَحِلُّ النَّقْضِ ، مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِمْضَاءُ ، وَاتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ ، وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْضِ ، فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ .
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا ، فَاسْتَفْتَى : فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِهِ ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ فِي مَنْكُوحَتِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ ، وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أَمْضَى وَاجِبٌ ، لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ ، كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ ، فَكَذَا لَا

يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُقَلِّدِ .
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْضِيُّ لَهُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَكِنْ لَمْ يُخَالِفْ رَأْيُهُمَا رَأْيَ الْقَاضِي ، فَأَمَّا إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَخَالَفَ رَأْيُهُمَا رَأْيَ الْقَاضِي ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ ، عَامِّيًّا مُقَلِّدًا أَوْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا ، يُخَالِفُ رَأْيُهُ رَأْيَ الْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْمُفْتِي ، فَتَقْلِيدُ الْقَاضِي أَوْلَى ، وَكَذَا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي ، قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا مَعْنَى لِلصِّحَّةِ إلَّا النَّفَاذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ بَائِنٌ ، فَرَافَعَتْهُ الْمَرْأَةُ إلَى الْقَاضِي ، فَقَضَى بِالْبَيْنُونَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِمَا قُلْنَا وَأَمَّا قَضَاؤُهُ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَهُ ، هَلْ يَنْفُذُ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَنْفُذُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَنْفُذُ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ ، وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ بَائِنٌ ، وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ وَاحِدَةٌ ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ، فَرَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي ؛ فَقَضَى بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ؛ لَا يَحِلُّ لَهُ الْمَقَامُ مَعَهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ لَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا : أَنَّ هَذَا قَضَاءٌ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى

جَوَازِهِ ، لِوُقُوعِهِ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، فَيَنْفُذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَالْمَقْضِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِمَا جَمِيعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ : أَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ إنْفَاذُهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ، لَا فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْبُورٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الْمَقْضِيُّ لَهُ فَمُخْتَارٌ فِي الْقَضَاءِ لَهُ ، فَلَوْ اتَّبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي ، إنَّمَا يَتْبَعُهُ تَقْلِيدًا ، وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا يَمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ ، فَيَجِبْ الْعَمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ، أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ ؛ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ إنْسَانٌ فِي حَادِثَةٍ ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَى الْقَاضِي ، فَقَضَى بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَيَتْرُكُ رَأْيَ الْمُفْتِي ؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُفْتِي يَصِيرُ مَتْرُوكًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُقَلِّدِ ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسَنَنْظُرُ فِيهِ فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ مُظْهِرَةٌ لِلْمُدَّعِي ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا ، هَذَا هُوَ ، الظَّاهِرُ ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِالْحَقِّ ، وَكَذَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عِنْدَنَا ، فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا بَذْلٌ ، أَوْ إقْرَارٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ صِدْقِ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ ؛ لِمَا عُلِمَ ، فَكَانَ الْقَضَاءُ

بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ .

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ ، فِي الْجُمْلَةِ ، فَنَقُولُ : تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قُلِّدَ قَضَاءَهُ ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ ، وَفِي غَيْرِ مَكَانِهِ ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ بَعْدَ زَمَانِ الْقَضَاءِ ، فِي غَيْرِ مَكَانِهِ ، فَإِنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ ، وَفِي مَكَانِهِ ، بِأَنْ سَمِعَ رَجُلًا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ ، أَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ، أَوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ ، أَوْ يَقْذِفُ رَجُلًا ، أَوْ رَآهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا ، وَهُوَ قَاضٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قُلِّدَ قَضَاءَهَا ، جَازَ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَقْضِي بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، فِي قَوْلٍ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي الْكُلِّ ، وَفِي قَوْلٍ : يَجُوزُ فِي الْكُلِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ ، لَمْ يَبْقَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الثَّانِي ، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَقَدْ عُلِمَ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَخْتَلِفُ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ عَيْنُهَا ، بَلْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ ، وَعِلْمُهُ الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ ، أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ ، وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عِلْمُ الْقَطْعِ

وَالْيَقِينِ ، فَكَانَ هَذَا أَقْوَى ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي وَضْعِ الشَّيْءِ ، هِيَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَتَكَلَّمُ بِهَا ، وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ وَإِنْ وُجِدَ ، فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا ، وَفَوَاتُ الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُحْتَاطُ فِي إسْقَاطِهَا ، وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ ، وَكِلَاهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِشُبْهَةِ فَوَاتِ الصُّورَةِ ، هَذَا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ ، فَأَمَّا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ ، اسْتَفَادَهُ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَلَدِ ، الَّذِي وَلِي قَضَاءَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَلَا يَجُوزُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ زَمَنِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا اسْتَدَامَ الْعِلْمُ ، الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ ، وَهُنَاكَ حَدَثَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ ، وَالشُّبْهَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَادِثَ لَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ فِيهِ بِالْقَضَاءِ ، فَأَشْبَهَ

الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِيهِ بِالْقَضَاءِ ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ هُوَ الْبَيِّنَةُ ، إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا قَدْ يَلْحَقُ بِهَا ؛ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ - فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ - يَكُونُ حَادِثًا فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ ، وَالْحَاصِلُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ ، أَوْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مَكَانِهِ ، حَاصِلٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْقَضَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِهِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ .

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِكِتَابِ الْقَاضِي ، فَنَقُولُ : لِقَبُولِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَاضِي شَرَائِطُ ، مِنْهَا : الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ ، فَتَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي ، وَيَذْكُرُوا اسْمَهُ وَنَسَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُهُ بِدُونِهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا ، وَيَشْهَدُوا عَلَى أَنَّ هَذَا خَتْمُهُ ؛ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْخَلَلِ فِيهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ ، بِأَنْ يَقُولُوا : إنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالْخَتْمِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ تُقْبَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِي جَوْفِهِ تُقْبَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ ، بِأَنْ قَالُوا : لَمْ يُشْهِدْنَا عَلَى الْخَاتَمِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَصْلًا ، لِأَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ ، لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِمَا فِيهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا فِيهِ ؛ لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَبَيْنَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَمْرٌ جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى غَائِبٍ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ ، لَكِنْ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ - الَّتِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَى - وَالشَّهَادَةِ ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ .
وَأَمَّا فِي

الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، كَالْمَنْقُولِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ ، لَا تُقْبَلُ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : تُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ خَاصَّةً إذَا أَبَقَ ، وَأُخِذَ فِي بَلَدٍ ، فَأَقَامَ صَاحِبُهُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضِي بَلَدِهِ أَنَّ عَبْدَهُ أَخَذَهُ فُلَانٌ فِي بَلَدِ كَذَا ، فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْمِلْكِ ، أَوْ عَلَى صِفَةِ الْعَبْدِ وَحِلْيَتِهِ ، فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي الْعَبْدُ فِيهِ ، أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدِي ، أَنَّ عَبْدًا صِفَتُهُ وَحِلْيَتُهُ كَذَا وَكَذَا مِلْكُ فُلَانٍ ، أَخَذَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ .
يَنْسِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى أَبِيهِ وَإِلَى جَدِّهِ ، عَلَى رَسْمِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ ، يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَيْهِ ، وَيَخْتِمُ فِي عُنُقِهِ ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ ، حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي الْكَاتِبُ لَهُ ، كِتَابًا آخَرَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ قَبِلَهُ وَقَضَى ، وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الَّذِي جَاءَ بِالْكِتَابِ ، وَأَبْرَأَ كَفِيلَهُ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي فِي الْعَبْدِ مُتَحَقِّقَةٌ ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ ؛ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ ؛ وَلَضَاعَتْ أَمْوَالُهُمْ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَهْرَبُ عَادَةً لِعَجْزِهَا ، وَضَعْفِ بِنْيَتِهَا وَقَلْبِهَا ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مَعْلُومٍ ؛ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَالْمَنْقُولُ لَا يَصِيرُ

مَعْلُومًا إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْغَائِبِ مُحَالٌ ، فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ ، وَلَا دَعْوَى الْمُدَّعِي ؛ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي فَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ بِخِلَافِ الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالتَّحْدِيدِ وَبِخِلَافِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْكُلِّ ، وَقُضَاةُ زَمَانِنَا يَعْمَلُونَ بِمَذْهَبِهِ ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ ، أَنْ لَا يَفُكَّ الْكِتَابَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ؛ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ التُّهْمَةِ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا ، كَذَا هَذَا .
وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَفَخِذِهِ مَكْتُوبًا فِي الْكِتَابِ ، حَتَّى لَوْ نَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ جَدِّهِ ، أَوْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَةٍ ، كَبَنِي تَمِيمٍ وَنَحْوِهِ لَا يَقْبَلُ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ ، إلَّا وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا مَشْهُورًا ، أَشْهُرَ مِنْ الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلُ ؛ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ ، وَمِنْهَا : ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدُّورِ وَالْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمَحْدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحَدِّ ، وَلَوْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ ، يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى حَدَّيْنِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مَشْهُورَةً كَدَارِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ ، لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَهَذِهِ مِنْ

مَسَائِلِ الشُّرُوطِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى قَضَائِهِ ، عِنْدَ وُصُولِ كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَلَى قَضَائِهِ ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ ، ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي وَلِيَ مَكَانَهُ ، لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، لَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، بَلْ يَرُدُّهُ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ ، وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ قَضَاءٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَكَذَا إذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ ، لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ ، وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ الثَّابِتِ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّا وَعَلَا مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ عَلَى الْقَضَاءِ رِشْوَةً ؛ فَقَدْ قَضَى لِنَفْسِهِ لَا لِلَّهِ عَزَّ اسْمُهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ فَأَنْوَاعٌ ، مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ ؛ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَقْتَ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ لَهُ ، إلَّا إذَا كَانَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا لَا يَجُوزُ ، فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ ، وَمِنْهَا : طَلَبُ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَاضِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ ، فَكَانَ حَقُّهُ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ .

( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَحَضْرَتُهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا آدَابُ الْقَضَاءِ فَكَثِيرَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهَا كِتَابُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابَ السِّيَاسَةِ ، وَفِيهِ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ ، آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهَكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ : وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ - الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ، وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يَبْطُلُ ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ ، مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ ، ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ ، وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَاعْمَدْ إلَى أَحَبِّهَا ، وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتّ عَالَى ، وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ ، اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ ، فَإِذَا أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ بِحَقِّهِ ، وَإِلَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ : وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ - فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى ، الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السِّرَّ - وَفِي رِوَايَةٍ السَّرَائِرَ - وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ، إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ ، وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ ؛ لِلْخُصُومِ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ ، الَّذِي يُوجِبُ

اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذُّخْرَ ، وَأَنَّ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى - وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَقِّ - يَكْفِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ يَتَزَيَّنْ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ ؛ شَانَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادَةِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا ، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، مِنْ عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ ، وَالسَّلَامُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِمًا عِنْدَ الْخُصُومَةِ ، فَيَجْعَلُ فَهْمَهُ وَسَمْعَهُ وَقَلْبَهُ إلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ : فَافْهَمْ إذَا أُولِيَ إلَيْك ؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا ؛ يَضِيعُ الْحَقُّ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ قَلِقًا وَقْتَ الْقَضَاءِ ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَالْقَلَقَ .
وَهَذَا نَدْبٌ إلَى السُّكُونِ وَالتَّثْبِيتِ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ ضَجِرًا عِنْدَ الْقَضَاءِ ؛ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَضَاقَ صَدْرُهُ ؛ لِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَضْبَانَ وَقْتَ الْقَضَاءِ ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } ؛ وَلِأَنَّهُ يُدْهِشُهُ عَنْ التَّأَمُّلِ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ جَائِعًا وَلَا عَطْشَانَ وَلَا مُمْتَلِئًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ مِنْ الْقَلَقِ ، وَالضَّجَرِ وَالْغَضَبِ ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالِامْتِلَاءِ ، مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ الْحَقِّ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ ، أَوْ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ

وَالسَّيْرَ يَشْغَلَانِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ ، فَيُجْلِسُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ قَرَّبَ أَحَدَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ ، وَكَذَا لَا يُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا فِي حَادِثَةٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَأَلْقَى لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وِسَادَةً ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهَا : أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ ، وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ ، فَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا ، وَلَا يُومِئُ إلَى أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ دُونَ خَصْمِهِ ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا بِلِسَانٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ ، وَلَا يَخْلُو بِأَحَدٍ فِي مَنْزِلِهِ ، وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا ، فَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي هَذَا كُلِّهِ ؛ لِمَا فِي تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الْآخَرِ ، وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي بِهِ أَيْضًا .

وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ أَحَدِهِمَا ، إلَّا إذَا كَانَ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْمُهْدِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ ، فَإِمَّا إنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ ، وَإِنْ كَانَ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي الْحَالِ يَقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لَا يَقْبَلُ ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ ، أَوْ لَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ ، كَانَ بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَا يَقْبَلُ وَلَوْ قَبِلَ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَالِ خُصُومَةٌ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي الْحَالِ ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَهْدَى مِثْلَ مَا كَانَ يُهْدِي أَوْ أَقَلَّ يَقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَبِلَ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لِلْحَالِ حَتَّى انْقَضَتْ الْخُصُومَةُ ثُمَّ قَبِلَهَا ، لَا بَأْسَ بِهِ ، وَمِنْهَا : أَنْ لَا يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ ، بِأَنْ كَانُوا خَمْسَةً أَوْ عَشَرَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ التُّهْمَةِ ، إلَّا إذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِمَّنْ كَانَ يَتَّخِذُ لَهُ الدَّعْوَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي قَرَابَةٌ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْضُرَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ ؛ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ ، فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي لَهُ خُصُومَةً لَمْ يَحْضُرْهَا .
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ : فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً ، كَدَعْوَةِ

الْمُبَارَاةِ وَنَحْوِهَا ؛ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْقَاضِي إجَابَتُهَا فَالْقَاضِي أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً كَوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ ، فَإِنَّهُ يُجِيبُهَا ؛ لِأَنَّهُ إجَابَةُ السُّنَّةِ ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ .
وَمِنْهَا : أَنْ لَا يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةَ قَلْبِ الْآخَرِ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ، فَيُوجِبُ التُّهْمَةَ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا ، أَسْكَتَ الْآخَرَ ؛ لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ وَمِنْهَا : أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ ، بَلْ يَتْرُكُهُ يَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُ ، فَإِنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَبُولَهُ قَبِلَهُ ، وَإِلَّا رَدَّهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُولَ : أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْحَقُهُ الْحَصْرُ ؛ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، فَيُعْجِزُهُ عَنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ ، فَكَانَ التَّلْقِينُ تَقْوِيمًا لِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يُتَّهَمُ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ فَيَتَحَرَّجُ عَنْهُ وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَعْبَثَ بِالشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ، وَإِذَا اتَّهَمَ الشُّهُودَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرِّقَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، فَيَسْأَلَهُمْ أَيْنَ كَانَ وَمَتَى كَانَ ؟ فَإِنْ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ ؛ رَدَّهَا وَإِلَّا فَلَا ، وَيَشْهَدُ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي أَدَاءِ سُنَّةٍ فَيَحْضُرُهَا ، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ عَلَى وَجْهٍ : لَوْ حَضَرَهَا كُلَّهَا لَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ أَنْ لَا يَشْهَدَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَكَانَ إقَامَةُ فَرْضِ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ

الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى .
وَيَعُودُ الْمَرِيضَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِإِقَامَتِهِ وَيُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ إذَا دَخَلُوا الْمَحْكَمَةَ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ - وَكَانَ شُرَيْحٌ يُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ - لَكِنْ لَا يَخُصُّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ ، وَهَذَا قَبْلَ جُلُوسِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَأَمَّا إذَا جَلَسَ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا هُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ، أَمَّا هُوَ فَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ الْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ ، لَا الْقَاعِدُ عَلَى الْقَائِمِ ، وَهُوَ قَاعِدٌ وَهُمْ قِيَامٌ .
وَأَمَّا هُمْ فَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ هُوَ أَهَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاشْتِغَالُ كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ ، وَكَذَا الْمُدَرِّسُ إذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ سَلَّمَ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ ؛ لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ الْأَمِيرِ إذَا جَلَسَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ ، إنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ السُّنَّةُ ، وَإِنْ كَانَ سَلَاطِينُ زَمَانِنَا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ جَلَسُوا لِلزِّيَارَةِ ، وَمِنْ سُنَّةِ الزَّائِرِ التَّسْلِيمُ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا جَلَسَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلزِّيَارَةِ ، فَلَا يُسَنُّ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ إنْ سَلَّمُوا ، لَكِنْ لَوْ أَجَابَ جَازَ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ ، فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ ، وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ

الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَفْضَلُ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْقَضَاءِ ، وَكَذَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَعَنَ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ ، ثُمَّ الْقُضَاةُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَسْأَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ مِنْ أَهْلِ مَحَلَّتِهِمْ ، وَأَهْلِ سُوقِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ سُوقِيًّا مِمَّنْ هُوَ أَتْقَى النَّاسِ ، وَأَوْرَعُهُمْ ، وَأَعْظَمُهُمْ أَمَانَةً ، وَأَعْرَفُهُمْ بِأَحْوَالِ النَّاسِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا ، وَالْقُضَاةُ فِي زَمَانِنَا نُصِبُوا لِلْعَدْلِ ، تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ ؛ لِمَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي طَلَبُ الْمُعَدِّلِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ ، فَاسْتَحْسَنُوا نَصْبَ الْعَدْلِ .

ثُمَّ نَقُولُ : لِلتَّعْدِيلِ شَرَائِطُ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَدْلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعَقْلُ ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ ؛ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ فَخَبَرُهُمْ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَدَالَةِ ، وَلَا عَدَالَةَ لِهَؤُلَاءِ ، وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ كَيْف يَعْدِلُ غَيْرَهُ ؟ وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهُ شَرَطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطُ الْجَوَازِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي ، وَهَذَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ ، فَيُشْتَرَطُ لَهَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ ، وَلَهُمَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الْعَدَدُ ، عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الْعَدَدِ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ : الْعَدَدُ فِي التُّرْجُمَانِ ، وَحَامِلِ الْمَنْشُورِ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ : حُرِّيَّةُ الْمُعَدِّلِ ، وَبَصَرُهُ ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا ، فَتَصِحُّ تَزْكِيَةُ الْأَعْمَى ، وَالْعَبْدِ ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ ، فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ شَهَادَةٌ عِنْدَهُ ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ ،

فَلَا يُرَاعَى فِيهَا شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّزْكِيَةِ ، فَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً تَخْرُجُ لِحَوَائِجِهَا ، وَتُخَالِطُ النَّاسَ فَتَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا ، فَتَصِحُّ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ ، وَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ ، وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَدْلِ فِي التَّعْدِيلِ ، إنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً فِيهِ ، وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ يُجْرِي التَّعْدِيلَ مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ لَا تُقْبَلُ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُزَكَّى مَشْهُودًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تُعْتَبَرْ تَزْكِيَتُهُ ، وَيَجِبُ السُّؤَالُ ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلشَّرْعِ .
وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَتَأَدَّى بِتَعْدِيلِهِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ ، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السُّؤَالُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَقُّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَبُ إلَّا بِطَلَبِهِ ، فَمَا لَمْ يَطْعَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ ، فَلَا تَجِبُ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا قَالَ لِلشَّاهِدِ : هُوَ عَدْلٌ لَا يُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ ، عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ : لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا وَفِي رِوَايَةٍ : يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ

.
وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ - فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ فِي التَّعْدِيلِ : هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ : هُوَ عَدْلٌ ، وَلَمْ يَقُلْ : جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ، كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَصَلُحَ ، وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي الرَّدِّ : هُوَ لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا يَرُدُّ مَا لَمْ يَقُلْ : هُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ ، وَلَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي يَنْفُذُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْمُعَدِّلَ فِي السِّرِّ أَوَّلًا ، فَإِنْ وَجَدَهُ عَدْلًا يَعْدِلُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَيْضًا ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمُزَكَّى وَالشُّهُودِ ، وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فِي تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ عَدْلًا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي : زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَكْشِفُ عَنْ حَالِ الْمَجْرُوحِ سَتْرًا عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِتَعْدِيلِ السِّرِّ خَوْفًا مِنْ الِاحْتِيَالِ وَالتَّزْوِيرِ ، بِأَنْ يُسَمِّيَ غَيْرَ الْعَدْلِ بِاسْمِ الْعَدْلِ ، فَكَانَ الْأَدَبُ هُوَ التَّزْكِيَةُ فِي الْعَلَانِيَةِ ، بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعَدِّلَانِ فَعَدَّلَهُ أَحَدُهُمَا ، وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ ، سَأَلَ الْقَاضِي غَيْرَهُمَا فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالتَّزْكِيَةِ ، وَإِنْ جَرَّحَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالْجَرْحِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ عَمِلَ بِالْجَرْحِ ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ يَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ ، وَالْمُعَدِّلُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ الصَّلَاحَ ، وَيَكْتُمَ الْفِسْقَ ، فَكَانَ قَبُولُ قَوْلِ الْجَارِحِ أَوْلَى كَذَلِكَ لَوْ

جَرَّحَهُ اثْنَانِ وَعَدَّلَهُ ثَلَاثَةٌ ، أَوْ أَرْبَعَةٌ ، أَوْ أَكْثَرُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ ، يُشَاوِرُهُمْ وَيَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا يَجْهَلُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } مَعَ انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يَقُولُ لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قُولَا ، فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا } ؛ وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ ؛ لِئَلَّا يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ، بَلْ يَهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ ، وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنْ الْمَجْلِسِ ، ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ ، أَوْ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُجْلِسُهُمْ ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ؛ بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ ، وَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جِلْوَازٌ - وَهُوَ الْمُسَمَّى

بِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - يَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْقَاضِي ؛ لِتَهْذِيبِ الْمَجْلِسِ ، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ ، وَيُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْسِكُ بِيَدِهِ سَوْطًا ، يُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ ، وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ } .
وَكَانَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّخَذَ دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْوَانٌ ، يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ ، وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ إجْلَالًا لَهُ ؛ لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا ، وَيُذْعِنُ الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ ، وَهَذَا فِي زَمَانِنَا ، فَأَمَّا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا كَانَ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا ، فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عَنْ أَصَابِعِهِ ؛ فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا ، وَكَانَ لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا ، وَكَانَتْ الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً مِنْهَا ، وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ .
فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ ، وَتَغَيَّرَ النَّاسُ ؛ فَهَانَ الْعِلْمُ وَأَهْلُهُ ، فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى إحْيَاءِ الْحَقِّ ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ تُرْجُمَانٌ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ ، مِنْ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالشُّهُودِ ، وَالْكَلَامُ فِي عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، كَالْكَلَامِ فِي عَدَدِ الْمُزَكَّى وَصِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ ، أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ ؛ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ .
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ ؛ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَتِهِ .
وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ ؛ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ ، وَالنَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ؛ لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لَمْ يَجِبْ ، وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ ، ثُمَّ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ الدَّعْوَى عَلَى الدَّعْوَى ، فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ التَّارِيخِ بَيَاضًا ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عَنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ ، وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ - إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ - وَيَتْرُكُ بَيْنَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا ؛ لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ ، وَجَوَابَ الْخَصْمِ ، وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَى ظَهْرِهِ : خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَعَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، فِي شَهْرِ كَذَا ، فِي سَنَةِ كَذَا ،

وَيَجْعَلُهُ فِي قِمْطَرَةٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كُلِّ شَهْرٍ قِمْطَرًا عَلَى حِدَةٍ ؛ لِيَكُونَ أَبْصَرَ بِذَلِكَ ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ عَلَى بِطَاقَةٍ ، أَوْ يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا - وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ ، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي الْحُضُورِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ } وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ ؛ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ ، فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ ، أَوْ خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، أَوْ خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهُمْ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَدِّمْ الْغَرِيبَ ، فَإِنَّك إذَا لَمْ تَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ ، فَتَكُونُ أَنْتَ الَّذِي ضَيَّعْتَهُ نَدَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ ، فَكَانَ تَأْخِيرُهُ فِي الْخُصُومَةِ تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ ، إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا ، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ، وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ وَاجِبٌ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَكْرِمُوا الشُّهُودَ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِ بِهِمْ الْحُقُوقَ } وَلَيْسَ مِنْ الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي ، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا ، فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ عَلَى

حِدَةٍ ، وَالنِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِمَا فِي الْخَلْطِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ ؛ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ فَعَلَ ؛ لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ ، وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فِيهَا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ ، وَقَدْرَ مَا لَا يَفْتُرُ عَنْ النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ دَعْوَاهُ ؟ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَعْوَى خَصْمِهِ ؟ ذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْمُدَّعِي : سَلْهُ عَنْ جَوَابِ دَعْوَايَ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّعْوَى إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ ، وَالْقَاضِي لَا يُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ فَيَعْجِزُ عَنْ الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ الْقَاضِي ، فَيَسْأَلُ عَنْ دَعْوَاهُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّفْعَ وَقَالَ : لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ : اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْهِلْهُ ، وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا ، فَهُوَ مِنْ صِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ ، ثُمَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ شَاءَ

إلَى الْغَدِ ، وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، بَلْ يَقْضِي لِلْمُدَّعِي .

وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ فِي أَشْهَرِ الْمَجَالِسِ ؛ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ ، وَهَلْ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : يَقْضِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَقْضِي ، بَلْ يَقْضِي فِي بَيْتِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْتِيهِ الْمُشْرِكُ ، وَالْحَائِضُ ، وَالنُّفَسَاءُ ، وَالْجُنُبُ ، وَيَجْرِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ كَلَامُ اللَّغْوِ وَالرَّفَثُ وَالْكَذِبُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ، وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَاجِبٌ .
( وَلَنَا ) الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَاجِبٌ ، وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ إلَى الصُّلْحِ إنْ طَمَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَكَانَ الرَّدُّ إلَى الصُّلْحِ رَدًّا إلَى الْخَيْرِ ، وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ فَنَدَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقُضَاةَ إلَى رَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ اصْطَلَحَا ، وَإِلَّا قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ الصُّلْحَ لَا يَرُدُّهُمْ إلَيْهِ ، بَلْ يَنْفُذُ الْقَضِيَّةَ فِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ .

وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ ؟ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ ، وَلَا كِفَايَةَ لَهُ ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ كَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ ، وَوَلَّاهُ أَمْرَهَا ، رَزَقَهُ أَرْبَعَمِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ عَامٍ } .
وَرُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجَرُوا لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَثُلُثًا أَوْ ثُلُثَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَانَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ ، وَرَزَقَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَيْحًا ، وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا فَرَضَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ .
أَمَّا الْحِلُّ ؛ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ عَلَيْهِمْ لَا مِنْ طَرِيقِ الْأَجْرِ وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ قَاضٍ مُحْتَاجٌ ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ سُنَّةً وَرَسْمًا ، فَتَمْتَنِعُ السَّلَاطِينُ عَنْ إبْطَالِ رِزْقِ الْقُضَاةِ إلَيْهِمْ - خُصُوصًا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا - فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ ، فَكَانَ الْأَفْضَلُ هُوَ الْأَخْذُ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ

يَتَصَرَّفُ بِالتَّفْوِيضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ تَتَوَقَّفُ قَضَايَا خَلِيفَتِهِ عَلَى إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الْخَاصِّ ، إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، كَالْوَكِيلِ الْعَامِّ وَفِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَمَا نَدَبَ الْقَاضِي إلَى فِعْلِهِ كَثْرَةً لَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ هُنَاكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا ، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، أَوْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ، أَوْ الْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّقْضُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا ، وَإِنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا .
وَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ نَفْسَ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ ، فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ ؛ لَمْ يَرُدَّهُ الثَّانِي ، بَلْ يُنَفِّذُهُ ؛ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته ؛ لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، فَكَانَ قَضَاؤُهُ مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته ، فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ .
وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلْ اجْتِهَادِيٌّ ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ ، وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ

الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ ، وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا ، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ ، وَمَا أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ .
فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ، وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ ، وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَإِنْ كَانَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، بِأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى الْمِصْرِ - الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ - فَرُفِعَتْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْئًا مِنْهَا ، بَلْ يَنْقُضُهَا كُلَّهَا - وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ - كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ ؛ لِيَنْزَجِرُوا عَنْ الْبَغْيِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمْ لَا كَمَا لَوْ قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ أَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ ؟ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ .
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ ، فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا ، فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أَحَدَ الِاخْتِلَافَيْنِ ، وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ

بِالْقَضَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ ، وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحِلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَحِلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا ، كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي أَمْ لَا ؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا ؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ ؛ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَخَرَجَ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ .
وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ ؟ عِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ ، وَعِنْدَهُ يُرْفَعُ ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِ ، يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ ، وَلَا يَرُدُّهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ ، وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، لَا يُنَفِّذُ ، بَلْ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ ؛ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مِنْ فَصَّلَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالَ : إنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ شَنِيعًا مُسْتَنْكَرًا جَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ كَوْنُهُ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي نَقْضُ قَضَاءِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ ، وَمَا لَا يُحِلُّهُ ، فَالْأَصْلُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْ الزُّورِ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ فِي الْجُمْلَةِ ، يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَضَاؤُهُ بِهِمَا فِيمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا ، لَا يُفِيدُ الْحِلَّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَنَقُولُ : جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَاهِدَيْنِ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمَا شَاهِدَا زُورٍ ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ ، فَإِنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ فَقَضَاؤُهُ يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشُهُودِ زُورٍ هَلْ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ ، لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ، فَأَنْكَرَتْ ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ ، فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا - وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا - حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا ، وَحَلَّ لَهَا التَّمْكِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا - وَهُوَ مُنْكِرٌ - فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ ؛ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ .
وَفِي الْهِبَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ ، وَهِيَ تُنْكِرُ وَتَقُولُ : أَنَا أُخْتُهُ مِنْ

الرَّضَاعِ ، أَوْ أَنَا فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ ، فَشَهِدَ بِالنِّكَاحِ شَاهِدَانِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَمَا أَخْبَرَتْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّمْكِينُ ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ جَارِيَتُهُ ، وَهِيَ تُنْكِرُ ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَهَا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } أَخْبَرَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمَا لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قَضَاءٌ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ ، وَلَوْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا لَمَا كَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ - وَهِيَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ - وَهَذِهِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْفُذُ حَقِيقَةً ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ بِالْمِلْكِ الْمُرْسَلِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ ، أَوْ الرَّضَاعِ أَوْ الْقَرَابَةِ ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ ، كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إنْشَاءٌ لَهُ ، فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا .
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ ، وَلَا يَقَعُ قَضَاؤُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَكُونُ صَادِقَةً ، وَقَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً ، فَيُجْعَلُ إنْشَاءً ، وَالْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ مِمَّا تَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ مِنْ الْقَاضِي ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَائِهَا فِي

الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُرْسَلِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمِلْكِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَنْشَأَ الْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُ صَرِيحًا - لَا يَصِحُّ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِأَسْبَابٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا لَا يَنْفُذُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إلَّا دَعْوَاهُمَا ، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى - وَبِهِ نَقُولُ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ السَّبَبِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ : إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ لَهُ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ بَلْ هُوَ قَضَا لَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَبِحَقٍّ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا ، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ فَنَقُولُ : الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ ، أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا أَنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالرَّجْمِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، فَإِنْ كَانَ مَالًا - وَهُوَ قَائِمٌ - رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا ، وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } .
وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، { وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ ؛ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا عَمِلَ لَهُ فَكَانَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلًا ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ - وَهُوَ الزَّجْرُ - فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِمَا قُلْنَا فَيُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ ، وَلَا يُضَمَّنُ الْقَاضِي ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي ،

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : كُلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ ، وَمَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ ، وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا ، وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ ؛ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ ، كَالرَّسُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ ، وَإِذَا كَانَ رَسُولًا كَانَ فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ ، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً ، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً ؛ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ .
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي الْحَقِيقَةِ ، لَا نَائِبُ الْقَاضِي ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ ، فَلَا

يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ ، كَذَا هَهُنَا ، إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَنْ شَاءَ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا عَزْلًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لَا مِنْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ : اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ ، وَإِذَا عَزَلَ كَانَ الْعَزْلُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، كَذَا هَذَا .
وَعِلْمُ الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ ؟ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ ، كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا : صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ ، لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا : حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى الْمُحْكَمِ ، فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى .
وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : يَنْعَزِلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كَمَا

هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنْ الْإِيمَانِ ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَ بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ ، كَمَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ ؛ الْأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْقِسْمَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْقِسْمَةُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا - قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَالثَّانِي - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مَشْرُوعَةٌ ، أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
( أَمَّا ) السُّنَّةُ : فَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الشَّرْعِيَّةُ } ( وَأَمَّا ) الْإِجْمَاعُ : فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً ، وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا ، أَمَّا فِي اللُّغَةِ : فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ النَّصِيبِ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عَنْ بَعْضٍ ، وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ، وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غَيْرَ عَيْنٍ ، فَكَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا ، وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ عَلَى الشُّيُوعِ ، فَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ ، بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ .
فَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ ، لَمْ يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ عَلَيْهِ ، بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا بِالتَّرَاضِي ، أَوْ بِطَلَبِهَا مِنْ الْقَاضِي رِضًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ - وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ - وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا ، أَوْ تَعْيِينًا لَهَا فِي الْمِلْكِ وَفِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً ، وَهِيَ مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا فِي كُلِّ قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْإِفْرَازِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ

الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ مِنْ الْمُعَوَّضِ ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ ، فَجُعِلَ إفْرَازًا حُكْمًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ؟ .
( فَالْجَوَابُ ) أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً مَعَ مَا أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ ، بَلْ هِيَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَمُعَاوَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا الْجَبْرُ ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً ؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ثَلَاثُونَ مِنْهُ رَدِيئَةً وَعَشَرَةٌ مِنْهُ جَيِّدَةً قِيمَتُهَا سَوَاءٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ وَالْآخَرُ عَشَرَةً أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِتَمَكُّنِ الرِّبَا فِيهِ لَتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ .
وَلَوْ زَادَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ ثَوْبًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ صَارَتْ مُقَابِلَةً بِالثَّوْبِ ، فَزَالَ مَعْنَى الرَّبَّا وَقَالَ فِي زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا فَأَرَادَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ ، وَقَدْ سَنْبَلَ الزَّرْعُ : إنَّهُ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ ، وَلَا

تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِصُوفٍ عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ لِرَجُلَيْنِ ، أَوْ أَوْصَى بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَهُمَا ، لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ قَبْلَ الْجَزِّ وَالْحَلْبِ ؛ لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَحْتَمِلَانِ الْقِسْمَةَ مُجَازَفَةً ، كَمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً ، وَكَذَا خِيَارُ الْعَيْبِ يَدْخُلُ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهُ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا .
وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ النَّوْعَانِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، لَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْمُبَادَلَةُ فِي الْآخَرِ ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ .
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا ، كَمَا إذَا اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْكُرِّ كَذَا هُنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الثَّمَنِ شَرْعًا فِي هَذَا الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَوَّلِ ثَمَنٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ ثَمَنُ

الْقِسْمَةِ - وَزِيَادَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَبِيعَ نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَرِبْحُ دِرْهَمٍ مَثَلًا ، كَمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ ، أَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِثَوْبٍ ، فَأَمْكَنَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً ، أَوْ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِرِبْحِ دَهٍ يازده لَا يَجُوزُ ؛ لِمَعْنًى عُرِفَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ لَهُ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَنَوْعٌ : هُوَ شَرْطُ الِاسْتِحْبَابِ أَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعَقْلُ ، فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى تَجُوزَ قِسْمَةُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْقِسْمَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ ، فَتَجُوزُ قِسْمَةُ الذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ ، فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ بِدُونِهِمَا أَمَّا الْمِلْكُ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ : أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مَالِكًا فَيَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي .
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَنَوْعَانِ : وِلَايَةُ قَضَاءٍ ، وَوِلَايَةُ قَرَابَةٍ ، إلَّا أَنَّ شَرْطَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الطَّلَبُ ، فَيَقْسِمُ الْقَاضِي وَأَمِينُهُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، عِنْدَ طَلَبِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ ، فَيَقْسِمُ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ ، وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُ ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ ، مِنْ غَيْرِ طَلَبِ أَحَدٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ ، وَمَنْ لَا فَلَا ، وَلِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَكَانَتْ لَهُمْ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ ، وَكَذَا الْقَاضِي لَهُ وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي الْجُمْلَةِ ،

فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
( وَأَمَّا ) وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَقْسِمُ الْمَنْقُولَ دُونَ الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ ، وَفِي وَصِيِّ الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ هَلْ يَقْسِمُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَهَذَا كُلُّهُ يُقَرِّرُ مَا قُلْنَا : إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَازِمٌ فِي الْقِسْمَةِ ، حَيْثُ جَعَلَ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْبَيْعِ فِي الْوِلَايَةِ ، وَلَا يَقْسِمُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَا يَقْسِمُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ ، وَلَا يَقْسِمُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ ؛ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَقْسِمُونَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَهُوَ غَائِبٌ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ ، لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - تَنْفُذُ وَلَا تُنْقَضُ ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْبَابِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَمِينًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ خَائِنًا ، أَوْ جَاهِلًا بِأُمُورِ الْقِسْمَةِ يُخَافُ مِنْهُ الْجَوْرُ فِي الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ غَيْرِهِ لَا تَنْفُذُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ الْأَمَانَةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِيَقْسِمَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَقْسِمُ لَهُمْ بِأَجْرٍ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً كَيْ لَا يَتَحَكَّمَ عَلَى النَّاسِ ، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي نَصَبَهُ الْقَاضِي لَا يَمْنَعُهُمْ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَجْبُرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لَا يَرْضَى إلَّا بِأُجْرَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ ، وَكَذَا لَا يَتْرُكُ الْقَسَّامِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقِسْمِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
( وَمِنْهَا ) الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السِّهَامِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ قُصُورٌ فِي سَهْمٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ حَقًّا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ غَيْرَ مَقْسُومٍ مِنْ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ وَالشُّرْبِ ، إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُمَّ نَصِيبَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ إلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا رَضَوْا بِالضَّمِّ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُدْخِلَ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا الدَّرَاهِمَ ، إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ إلَّا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْقِسْمَةِ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ ، وَلَا شِرْكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ فَلَا يُدْخِلُهَا فِي الْقِسْمَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ

الْقِسْمَةِ ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ مِنْ الدَّارِ ، وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بَعْدَهُ فَلَهُ السَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ هَكَذَا ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ ؛ لَا لِأَنَّ الْقُرْعَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ ؛ بَلْ لِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ ؛ وَلِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَكَانَ سُنَّةً ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِذَا قَسَمَ بِأُجْرَةٍ فَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ مِنْ مُؤْنَاتِ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَالنَّفَقَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابِلَةِ الْعَمَلِ ، وَعَمَلُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمْيِيزُ الْأَنْصِبَاءِ ، وَالتَّمْيِيزُ عَمَلٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ ، هُوَ بِعَيْنِهِ تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ ، وَالتَّفَاوُتُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ ، وَإِذَا لَمْ يَتَفَاوَتْ الْعَمَلُ لَا تَتَفَاوَتُ الْأُجْرَةُ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ يَتَفَاوَتُ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ لَهُ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ لَا يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ : قِسْمَةُ جَبْرٍ : وَهِيَ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا الْقَاضِي ، وَقِسْمَةُ رِضًا : وَهِيَ الَّتِي يَفْعَلُهَا الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ : قِسْمَةُ تَفْرِيقٍ ، وَقِسْمَةُ جَمْعٍ .
( أَمَّا ) قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : إنَّ الَّذِي تُصَادِفُهُ الْقِسْمَةُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ بِالشَّرِيكَيْنِ أَصْلًا بَلْ لَهُمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مَضَرَّةُ فِي تَبْعِيضِهِ أَصْلًا بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلشَّرِيكَيْنِ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ ، فَتَجُوزُ قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فِيهَا قِسْمَةُ جَبْرٍ ، كَمَا تَجُوزُ فِيهَا قِسْمَةُ الرِّضَا ؛ لِتُحَقِّقَ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِسْمَةُ ، وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا نَفْعٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فِيهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ اللُّؤْلُؤَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْيَاقُوتَةِ وَالزُّمُرُّدَةِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالسَّرْجِ وَالْقَوْسِ وَالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ ، وَالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَالْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَانُوتِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قِسْمَةُ إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الْإِضْرَارِ ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالْعَيْنُ وَالْبِئْرُ ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَ

مَعَ ذَلِكَ أَرْضٌ ؛ قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَتُرِكَتْ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ عَلَى الشِّرْكَةِ .
( فَأَمَّا ) إذَا كَانَتْ أَنْهَارُ الْأَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةً أَوْ عُيُونًا أَوْ آبَارًا ؛ قُسِمَتْ الْآبَارُ وَالْعُيُونُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْقِسْمَةِ ، وَكَذَا الْبَابُ وَالسَّاحَةُ وَالْخَشَبَةُ إذَا كَانَ فِي قَطْعِهِمَا ضَرَرٌ فَإِنْ كَانَتْ الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ؛ جَازَتْ ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّضَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ يَقْتَسِمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا بِتَرَاضِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمَا مَعَ مَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ نَفْعٍ ، وَمَا لَا تَجْرِي فِيهِ الْقِسْمَةُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى بَيْعِ حِصَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا اخْتَصَمَا فِيهِ ؛ بَاعَ الْقَاضِي وَقَسَمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ نَافِذٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ تَحْصِيلًا لِمَا شُرِعَتْ لَهُ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ - فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ فَلَا يَلِيهَا الْقَاضِي إلَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ مَفْتَحٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيَقْسِمُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا تَقَعُ إضْرَارًا ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ الْمُشْتَرَكُ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ .
وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قُسِمَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَدْرُ مَا يَسِيلُ مَاؤُهُ ، أَوْ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ يَقْسِمُ وَإِنْ

لَمْ يُمْكِنْ لَمْ يَقْسِمْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّرِيقِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا مَفْتَحَ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الطَّرِيقِ ، وَأَبَى الْآخَرُ إلَّا بِرَفْعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَفْتَحٌ آخَرُ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ ؛ قَسَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ رَفْعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْقِسْمَةِ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ - أَوْفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَ بَيْنَهُمَا طَرِيقًا وَقَسَمَ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَفْتَحٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لَهَا ، فَكَانَتْ إضْرَارًا بِهِمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ فَيَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جُعِلَ الطَّرِيقُ عَلَى قَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وُضِعَ لِلِاسْتِطْرَاقِ ، وَالْبَابُ هُوَ الْمَوْضُوعُ مَدْخَلًا إلَى أَدْنَى مَا يَكْفِي لِلِاسْتِطْرَاقِ فَيَحْكُمُ فِيهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا إذَا بَنَى رَجُلَانِ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْبِنَاءِ وَأَبَى الْآخَرُ ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ ؛ لَمْ تُقْسَمْ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَبْنِيَّ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا شَائِعٌ بِالْإِعَارَةِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ ، فَلَوْ قَسَمَ الْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبِيلٌ فِي بَعْضِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي جَازَتْ ، وَكَذَا لَوْ هَدَمَهَا وَكَانَتْ الْآلَةُ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا زَرْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا ؛ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ بَلَغَ وَسَنْبَلَ لَا يَقْسِمُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ طَلَبَا جَمِيعًا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الرِّبَا وَحُرْمَةُ الرَّبَّا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ

بِالرِّضَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا عَلَى الشِّرْكَةِ فَلَوْ قَسَمَ ؛ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ مِنْ الْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَا جَبْرَ عَلَى الضَّرَرِ .
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَرَطَا الْقَطْعَ جَازَتْ ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِالضَّرَرِ ، وَلَوْ شَرَطَا التَّرْكَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ شَرْطُ التَّرْكِ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمَةِ شَرْطًا لِانْتِفَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَرِيكِهِ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُمَا ، وَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا بِالْإِعَارَةِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَا تُقْسَمُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، وَلَا تَجُوزُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَالْبَيْعِ عَلَى ذِكْرِنَا ، وَكَذَلِكَ طَلْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الطَّلْعِ دُونَ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْسِمْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي فَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ جَازَ ، وَإِنْ شَرَطَا التَّرْكَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ .
وَلَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَأَدْرَكَ وَقَلَعَ فَالْفَضْلُ لَهُ طَيِّبٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَكِنَّهُ حَصَلَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ؛ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فِيهِ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ ، هَذَا إذَا كَانَ شَيْئًا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا شِقْصٌ قَلِيلٌ فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قُسِمَتَا إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي حَقِّهِ مُفِيدَةٌ ؛ لِوُقُوعِهَا مُحَصَّلَةٌ لِمَا شُرِعَتْ لَهُ

مِنْ تَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ ، وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ تَقَعُ مَنْعًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إذْ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ ؛ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِ مَنْعًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَجَازَتْ ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ الْقِسْمَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقْسَمُ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ .
( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَثِيرِ ، بَلْ لَهُ فِيهِ مُنَفِّعَةٌ فَكَانَ فِي الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتًا فَلَا يُعْتَبَرُ إبَاؤُهُ ، وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ قَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ حَيْثُ طَلَبَ الْقِسْمَةَ فَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا أَصْلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ إضْرَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِالضَّرَرِ ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الْإِضْرَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ ؛ لِكَوْنِ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ ، وَقِسْمَةُ الْجَبْرِ لَمْ تُشْرَعْ بِدُونِ الطَّلَبِ ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ قَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَصْلًا فَجَازَتْ قِسْمَتُهَا .
وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا ، فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا مَوْضِعٌ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شُرِطَ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ إلَى الطَّرِيقِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ لَهُ فِيهَا إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ بِفَتْحِ طَرِيقٍ آخَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ أَصْلًا فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْقِسْمَةِ ؛

فَلَهُ حَقُّ الِاخْتِيَارِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِنْ الْحُقُوقِ فَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ فِي حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُسِمَتْ بِغَيْرِ مَسِيلٍ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا ، وَوَقَعَ الْمَسِيلُ فِي نَصِيب الْآخَرِ ؛ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الطَّرِيقِ ، وَلَوْ اقْتَسَمَا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ ، وَلَا مَسِيلَ جَازَتْ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تَقَعُ إضْرَارًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ .
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْجَمْعِ : فَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تَجُوزُ فِي جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ تَقَعُ وَسِيلَةً إلَى مَا شُرِعَتْ لَهُ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ - وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لَهَا إذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي الْأَمْثَالِ الْمُتَسَاوِيَةِ ، وَهِيَ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ؛ لِانْعِدَامِ التَّفَاوُتِ ، وَكَذَلِكَ تِبْرُ الذَّهَبِ وَتِبْرُ النُّحَاسِ وَتِبْرُ الْحَدِيدِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمَطْلُوبِ لَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَقِلُّ .
وَالتَّفَاوُتُ الْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْبَرُ بِالْقِيمَةِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ

اللَّآلِئُ الْمُنْفَرِدَةُ ، وَكَذَا الْيَوَاقِيتُ الْمُنْفَرِدَةُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ فِي جِنْسَيْنِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَزْرُوعِ وَالْعَدَدِيِّ قِسْمَةُ جَمْعٍ ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالثِّيَابِ الْبَرْدِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ وَالْيَوَاقِيتُ ، وَكَذَا الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَرْدٌ كَبِرْذَوْنٍ وَجَمَلٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَجُبَّةٍ وَقَمِيصٍ وَوِسَادَةٍ وَبِسَاطٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمْعِ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا ، وَإِمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بِإِنْ يَضُمَّ إلَى بَعْضِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِأَحَدِهِمَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الضَّرَرِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدَّرَاهِمِ .
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الْقِسْمَةُ ، حَتَّى لَوْ اقْتَسَمَا ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ وَزَادَ مَعَ الْأَوْكَسِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً جَازَ ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةَ الرِّضَا لَا قِسْمَةَ الْقَضَاءِ ، وَكَذَا الْأَوَانِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا أَوْ اتَّحَدَتْ ؛ لِأَنَّهَا بِالصِّنَاعَةِ أَخَذَتْ حُكْمَ جِنْسَيْنِ ، حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْأَوَانِي الصِّغَارِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ .
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِسْمَةُ جَمْعٍ ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ عَلَى اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا وَقِيمَتِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ الْقِسْمَةَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَمَا فِيهَا مِنْ

التَّفَاوُتِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِدُونِ شَرْطِ جَوَازِهِ مُحَالٌ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَوْ قَسَمْنَاهَا رِقًّا - بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا - فَقَدْ أَضْرَرْنَا بِأَحَدِهِمَا لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ عَبْدٍ وَعَبْدٍ فِي الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ، فَكَانَا فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِالْمَقْسُومِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَسَمْنَاهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ فِي الْقِيمَةِ ، وَالْمَحَلِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الرَّقِيقِ غَيْرُهُ قُسِمَ .
كَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَقْصُودًا فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا يَحْتَمِلُهَا فَيُقْسَمُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مَقْصُودًا ، ثُمَّ يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّهْرِ وَالْأَرْضِ ، كَذَا هَذَا ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى قِسْمَةِ الرِّضَا .
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْقَضَاءِ فَلَا تَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَقْسُومِ لَيْسَ تَبَعًا لِلْمَقْسُومِ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ - بِخِلَافِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ - ، وَكَذَلِكَ الدُّورُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَارَانِ تُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَتِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ أَوْ مُتَلَاصِقَتَيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَعْدَلُ فِي الْجَمْعِ جَمَعَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَعْدَلُ فِي التَّفْرِيقِ فَرَّقَ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضَانِ أَوْ كَرْمَانِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ

.
وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إجْمَاعًا مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ ، وَكَذَا الْمَنْزِلَانِ الْمُتَّصِلَانِ .
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى الْخِلَافِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدُّورَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إنْ رَأَى الْأَعْدَلَ فِي التَّفْرِيقِ فَرَّقَ ، وَإِنْ رَأَى الْأَعْدَلَ فِي الْجَمْعِ جَمَعَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّقِيقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا ، وَيَقَعُ ضَرَرُ التَّفَاوُتِ مُتَفَاحِشًا بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ ؛ لِاخْتِلَافِ الدُّورِ فِي أَنْفُسِهَا وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْبِقَاعِ ، فَكَانَا فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَالْقِسْمَةُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ تَقَعُ تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا يَصِحُّ ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ بِالْقَاضِي بِتَرَاضِيهِمَا جَازَ ؛ لِمَا مَرَّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا تُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ ، بَلْ يَقْسِمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَمِنْهَا الطَّلَبُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ - وَهُوَ قِسْمَةُ الْجَبْرِ - حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الطَّلَبُ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ أَصْلًا لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ طَلَبِ الْبَعْضِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ عُلِمَ أَنَّهُ لَهُ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ ضَرَرًا ، إذْ لَوْ كَانَ الطَّلَبُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِطَلَبِ صَاحِبِهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِضْرَارِ دِيَانَةً ، فَإِذَا أَبَى الْقِسْمَةَ ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي ضَرَرَهُ بِالْقِسْمَةِ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ ،

وَالْقَاضِي نُصِبَ لَهُ ، وَنَظِيرُهُ الشُّفْعَةُ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ رِضًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الشُّفْعَةَ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ فَالشَّرْعُ دَفَعَ ضَرَرَهُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ حَقِّ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا .

( وَمِنْهَا ) الرِّضَا فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ ، وَهُوَ رِضَا الشُّرَكَاءِ فِيمَا يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا ، أَوْ رِضَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ ، إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَا يَصِحُّ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ لَا وَصِيَّ لَهُ ، أَوْ كَبِيرٌ غَائِبٌ ، فَاقْتَسَمُوا ؛ فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَقِسْمَةُ الرِّضَا أَشْبَهُ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَّا بِالتَّرَاضِي ، فَكَذَا الْقِسْمَةُ ، إلَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ فَيَقْسِمُ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ إذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ فَيَمْلِكَانِ الْقِسْمَةَ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَهُ وَلِيٌّ ، أَوْ وَصِيٌّ ، يَقْتَسِمُونَ بِرِضَا الْوَلِيِّ أَوْ الْوَصِيِّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا ، وَاقْتَسَمُوا بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى تَرَافَعُوا إلَى الْقَاضِي ، حَتَّى يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ ، وَمِنْهَا حَضْرَةُ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ أَصْلًا وَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَكِنَّهُ لَوْ قَسَمَ لَا تُنْقَصُ قِسْمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ .
وَمِنْهَا الْبَيِّنَةُ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِمِيرَاثِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ فَنَقُولُ - جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ : إنَّ جَمَاعَةً إذَا جَاءُوا إلَى الْقَاضِي ، وَهُمْ عُقَلَاءُ بَالِغُونَ أَصِحَّاءُ فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ ، فَأَقَرُّوا أَنَّهُ مِلْكُهُمْ ، وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَخْلُو فِي الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : .
( إمَّا ) أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عَنْ ذَكَرِ سَبَبٍ ، وَإِمَّا أَنْ

يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ ادَّعَوْا انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مَنْقُولًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عَنْ سَبَبِ الِانْتِقَالِ قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ ، وَيَذْكُرُ فِي الْإِشْهَادِ فِي كِتَابِ الصَّكِّ أَنِّي قَسَمْتُ بِإِقْرَارِهِمْ وَلَمْ أَقْضِ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ .
وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ مَنْقُولًا كَانَ الْمَالُ أَوْ عَقَارًا ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ ، وَلَا دَعْوَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ أَحَدٍ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَمْ يَقْسِمْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَضْرَةَ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَصْلُحُونَ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ قَالُوا : هُوَ بَيْنَنَا مِيرَاثٌ عَنْ فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَنْقُولًا ؛ قُسِمَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحَاضِرَانِ اثْنَيْنِ كَبِيرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ قَدْ نُصِبَ عَنْهُ وَصِيٌّ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَقَارًا فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ فُلَانٍ وَعَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الصَّكِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ مَحِلَّ قِسْمَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلْكِ - وَهُوَ الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ بِالْإِرْثِ - مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ فَصَادَفَتْ الْقِسْمَةُ مَحِلَّهَا فَيَقْسِمُ ، وَيَكْتُبُ أَنَّهُ قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقَامُ عَلَى مُنْكِرٍ ، وَالْكُلُّ

مُقِرُّونَ فَعَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ ؟ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ صَادَفَتْ حَقَّ الْمَيِّتِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ شَجَرَةً فَأَثْمَرَتْ كَانَ الثَّمَرُ لَهُ حَتَّى تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ تَصَرُّفًا عَلَى مِلْكِهِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَ قَطْعًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ بَلْ هِيَ حِفْظُ حَقِّ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ وَالْقِسْمَةُ نَوْعُ حِفْظٍ لَهُ .
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْحِفْظِ ، فَبَقِيَتْ قِسْمَتُهُ قَطْعًا لِحَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا لَا مُنْكَرٌ هَهُنَا فَعَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ ؟ ( قُلْنَا ) : تُقَامُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْبَعْض ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ - وَذَلِكَ جَائِزٌ - كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّا عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا مُنْكِرَ هَهُنَا ، كَذَا هَذَا .
هَذَا إذَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ وَلَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ كَالْمِيرَاثِ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ لَهُ ، وَادَّعَوْا الِانْتِقَالَ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ ،

فَإِقْرَارُهُمْ مُسَلَّمٌ وَدَعْوَاهُمْ مَمْنُوعَةٌ وَمُحْتَاجَةٌ إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِسْمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذْ لَا حَقَّ بَاقٍ لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ؛ فَصَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَحَّتْ ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ حَاضِرٌ ، فَإِنْ كَانَ فَأَقَرُّوا بِالْمِيرَاثِ فَلَا يُشْكِلُ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بَيْنَ الْكِبَارِ الْحُضُورِ فَكَيْفَ يَقْسِمُ هَهُنَا ؟ وَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، وَيَضَعُ حِصَّةَ الْغَائِبِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَحْفَظُهُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ مِنْ الْبَعْضِ ، وَيَنْصِبُ عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْغَائِبِ الْكَبِيرِ أَوْ فِي يَدِ الْحَاضِرِ الصَّغِيرِ أَوْ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لَا يَقْسِمُ ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ بِالْإِجْمَاعِ .
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ شَيْءٌ فَالْحَاجَةُ إلَى اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ هَذَا إذَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مِيرَاثِ الْعَقَارِ ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ : إنْ كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْغَائِبُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ حَاضِرٌ ؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ وَيَعْزِلُ نَصِيبَ كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ ، فَيُوَكِّلُ وَكِيلًا يَحْفَظُهُ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا حَضَرَ شَرِيكَانِ وَشَرِيكٌ غَائِبٌ ؛ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَقَارِ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَطْعِ حَقِّهِ عَنْ التَّرِكَةِ

، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا يَرُدُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعَيْبِ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، وَالْآخَرَ مَقْضِيًّا لَهُ فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاضِرُ وَاحِدًا وَالْبَاقُونَ غَيْبًا لَمْ يَقْسِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ حَتَّى تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ؛ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ مَقْضِيًّا لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْحَاضِرِ وَارِثٌ صَغِيرٌ نَصَبَ الْقَاضِي عَنْهُ وَصِيًّا وَقَسَمَ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هَهُنَا مُمْكِنَةٌ ؛ لِوُجُودِ مُتَقَاسِمَيْنِ حَاضِرَيْنِ ، وَإِذَا قَسَمَ الْمَنْقُولَ - بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِإِقْرَارِهِمْ - أَوْ الْعَقَارَ - بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ فَعَزَلَ نَصِيبَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنْ أَقَرَّ ، كَمَا أَقَرُّوا أُولَئِكَ ، فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ تُرَدُّ الْقِسْمَةُ فِي الْمَنْقُولِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي الْعَقَارِ لَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْبَيِّنَةِ قَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْغَائِبِ فَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا وَفِيهِ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ ، فَطَلَبَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ بَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالثُّلُثِ قَسَمَ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ ؛ قَسَمَ وَإِنْ كَانَ الْبَاقُونَ غَيْبًا ، كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ مَالِكًا لِلْمَقْسُومِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلْمَقْسُومِ لَهُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ ، وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمَمْلُوكِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْعَيْنُ الْمَقْسُومَةُ تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ فِي الظَّاهِرِ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ شَيْءٌ مِنْهَا تُبْطَلُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ وَقَدْ لَا تُسْتَأْنَفُ ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَقَدْ لَا يَثْبُتُ .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ : أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى كُلِّهِ ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى كُلِّ الْمَقْسُومِ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْ الْأَصْلِ ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ - وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ - فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَيْضًا : إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَيْضًا إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ وَرَدَ الْآخَرُ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا .
كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ ، اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثُلُثًا مِنْ مُقَدَّمِهَا ، وَأَخَذَ الْآخَرُ ثُلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا ، وَقِيمَتُهَا سَوَاءٌ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ فَاسْتَأْنَفَ الْقِسْمَةَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا

مِلْكُ الْمُسْتَحَقِّ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ أَصْلًا ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ شَائِعًا تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكُهُمَا فِي الدَّارِ فَظَهَرَ أَنَّ قِسْمَتَهُمَا لَمْ تَصِحَّ دُونَهُ ، فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ ، كَمَا إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَة - لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ مَا فِي يَدِهِ وَرَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ وَهُوَ مِثْلُ مَا اسْتَحَقَّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِيمَا وَرَاءَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ انْعِدَامُ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِي مَا وَرَاءَهُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الصِّحَّةِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ انْعِدَامُهَا فِي الْبَاقِي .
لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ - وَهُوَ الْإِفْرَازُ وَالْمُبَادَلَةُ - لَمْ يَنْعَدِمْ بِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْقَدْرِ فِي الْبَاقِي فَلَا تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ فِي الْبَاقِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وَإِنْ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى النِّصْفِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ فِيهِ مَقْصُودًا ، لَكِنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ فِي الْبَاقِي ؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِي الْبَاقِي أَصْلًا ، وَهَهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ فَلَا تُبْطَلُ ، لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ نِصْفِ الْمُسْتَحَقِّ ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ رُبْعُ نَصِيبِهِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ ؛ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهَا وَلِدُخُولِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ ، إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ ، وَالْعَيْبُ

يُثْبِتُ الْخِيَارَ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَاعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ لِشَرِيكِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ وَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ أَصْلًا وَأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ شَرِيكُهُ ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْبَاقِي نِصْفَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُقَدَّمَةِ ، إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ ؛ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هَهُنَا وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ ، فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَانَ شَرِيكًا لَهُمَا فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ انْتِقَاضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالِانْتِقَاضُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ يَرْجِعُ بِالرُّبْعِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا مِائَةُ شَاةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَرْبَعِينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَأَخَذَ الْآخَرُ سِتِّينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ شَاةٌ مِنْ

الْأَرْبَعِينَ تَسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ صَادَفَتْ الْمَمْلُوكَ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَالْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنٌ فَلَا تَظْهَرُ الشَّرِكَةُ هُنَا أَصْلًا ، فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحَقِّهِ وَهُوَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
كُرُّ حِنْطَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَانِ عَشَرَةٌ مِنْهُ طَعَامٌ جَيِّدٌ ، وَثَلَاثُونَ رَدِيءٌ فَاقْتَسَمَاهُ ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةً وَثَوْبًا ، وَأَخَذَ الْآخَرُ ثَلَاثِينَ رَدِيئًا ، حَتَّى جَازَتْ الْقِسْمَةُ فَاسْتَحَقَّ مِنْ الثَّلَاثِينَ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ ، يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الثَّوْبِ وَثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَرَدَ عَلَى عَشَرَةٍ شَائِعَةٍ فِي الثَّلَاثِينَ ، فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ ثُلُثَهَا ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ طَرِيقَ جَوَازِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ ، وَالْعِشْرُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ مِنْهُ عَشَرَةً ، وَأَنَّهُ بِمُقَابِلَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ ؛ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ ، وَقَوْلُهُ : لِلْمُسْتَحِقِّ عَشَرَةٌ شَائِعَةٌ فِي الثَّلَاثِينَ لَا الْعَشَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ - وَهِيَ الَّتِي مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ - فَنَعَمْ .
هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ ، إلَّا أَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ؛ لَاحْتَجْنَا إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ وَإِعَادَتِهَا ، وَلَوْ صَرَفْنَا الِاسْتِحْقَاقَ إلَى عَشَرَةٍ - هِيَ مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ - لَمْ نَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ ، وَتَصَرُّفُ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ النَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ .
وَعَلَى هَذَا أَرْضٌ بَيْنَ

رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ قُسِمَتْ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وَقَدْ بَنَى صَاحِبُهُ فِيهِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ الْبِنَاءَ وَقَلَعَ الْغَرْسَ ؛ لَمْ يَرْجِعْ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي أَوْ بِاخْتِيَارِ الشَّرِيكَيْنِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْبُرُهُمَا الْقَاضِي ، وَلَوْ تَرَافَعَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وَقَدْ بَنَى صَاحِبُهُ فِيهِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ وَقَلَعَ ؛ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي ، أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةُ جَبْرٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ جَبْرِ الْقَاضِي عِنْدَ الْمُرَافَعَةِ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ مَجْبُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ضَمَانُ السَّلَامَةِ ؛ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ ، إذْ هُوَ ضَمَانُ السَّلَامَةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا الشَّفِيعُ إذَا أَخَذَ الْعَقَارَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ ، وَبَنَى فِيهِ أَوْ غَرَسَ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَقُلِعَ الْبِنَاءُ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ أُخِذَ مِنْهُ جَبْرًا ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَخَذهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ : لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ كُرْهًا وَجَبْرًا ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ ؛ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الِابْنِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الِابْنِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَبَقَتْ مِنْ

يَدِهِ فَأَدَّى ضَمَانَهَا ، ثُمَّ عَادَتْ الْجَارِيَةُ فَاسْتَوْلَدَهَا الْغَاصِبُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ الْغَاصِبِ ، فَكَانَ ضَامِنًا السَّلَامَةَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ .
وَعَلَى هَذَا دَارَانِ أَوْ أَرْضَانِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْدَاهُمَا وَبَنَى فِيهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الْجَمْعِ فِي الدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ عِنْدَهُ ، فَإِذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا مُبَادَلَةً ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا سَلَامَةَ النِّصْفِ لِصَاحِبِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمَا ، فَأَشْبَهَ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَرْجِعُ .
وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الْجَمْعِ هَهُنَا عِنْدَهُمَا إذَا رَأَى الْجَمْعَ أَعْدَلَ ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي إذَا فَعَلَا بِأَنْفُسِهِمَا ، وَلَوْ كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الرَّقِيقِ عِنْدَهُ ، فَإِذَا اقْتَسَمَا بِتَرَاضِيهِمَا أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الدُّورِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ عَيْنًا وَلَكِنَّهُ يُرَاعِي الْأَعْدَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ

التَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ ، وَهَهُنَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ ؛ لَتَعَذُّرِ التَّفْرِيقِ فَلَمْ يُوجَدْ ضَمَانُ السَّلَامَةِ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا اقْتَسَمَ قَوْمٌ دَارًا ، وَفِيهَا كَنِيفٌ شَارِعٌ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ ظِلِّهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ ؛ لَا يُحْسَبُ ذَرْعُ الْكَنِيفِ وَالظِّلِّ مِنْ ذَرْعِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ ، بَلْ هِيَ حَقُّ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ يُحْسَبُ ذَلِكَ مِنْ ذَرْعِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي السِّكَّةِ مَسْلَكًا فَأَشْبَهَ عُلُوَّ الْبَيْتِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَاتُ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَادِلَةً غَيْرَ جَائِرَةٍ وَهِيَ أَنْ تَقَعَ تَعْدِيلًا لِلْأَنْصِبَاءِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ النَّصِيبِ وَلَا نُقْصَانَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ ، وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ ، وَمَبْنَى الْمُبَادَلَاتِ عَلَى الْمُرَاضَاةِ ، فَإِذَا وَقَعَتْ جَائِرَةً ؛ لَمْ يُوجَدْ التَّرَاضِي ، وَلَا إفْرَازُ نَصِيبِهِ بِكَمَالِهِ ؛ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِي الْبَعْضِ فَلَمْ تَجُزْ وَتُعَادُ .
وَعَلَى هَذَا إذَا ظَهَرَ الْغَلَطُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُبَادَلَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ تُسْتَأْنَفُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ ، فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الْغَلَطِ ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إقْرَارٌ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ بِكَمَالِهِ ، وَدَعْوَى الْغَلَطِ إخْبَارٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَقُّهُ بِكَمَالِهِ فَيَتَنَاقَضُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ؛ لَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ صَحَّتْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ ، فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ حَلَّفَهُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْغَلَطِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ .
وَالْعَدَمِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ : دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا ، وَاسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ لَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى

الْغَلَطِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ إنْ شَاءَ ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ ، فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ ثَلَاثَةً يَجْمَعُ بَيْنَ نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَبَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ ، فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ دَلِيلُ كَوْنِ الْمُدَّعِي صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فِي حَقِّهِ ، فَكَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْحَالِفِ ، فَلَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِمَا فَتُعَادُ فِي قَدْرِ نَصِيبِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَلَطَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ .
وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَارَانِ اقْتَسَمَاهُمَا ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا لَا تَبْطُلُ وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِذَلِكَ الذَّرْعِ مِنْ الدَّارِ الْأُخْرَى ، وَبَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى بَيْعِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي الدُّورِ بِالتَّرَاضِي جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ لَكِنْ هَذَا النَّوْعُ بِالْمُبَادَلَاتِ أَشْبَهُ ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْمُبَادَلَةُ صَحَّ الْبِنَاءُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا بَيْنَهُمَا ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي قِسْمَتِهِ ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً ؛ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ ؛ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ وَالْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ، وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ؛ قُضِيَ لِكُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحَدِّ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ ، وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَهَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التَّالِفِ أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْبُيُوعِ .
وَلَوْ اقْتَسَمَ رَجُلَانِ أَقْرِحَةً ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا قَرَاحَيْنِ ، وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْقَرَاحَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الْأَقْرِحَةِ الْأَرْبَعَةِ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي أَثْوَابٍ اقْتَسَمَاهَا ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَهُمَا ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ ، وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ .
وَلَوْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ ، وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْأَوْكَسِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ أَوْ الْخَطَأَ فِي التَّقْوِيمِ ؛ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَلَوْ قَالَ : أَخْطَأْنَا فِي الْعَدَدِ ، وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسِينَ - وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي قِسْمَتِهِ - وَأَنْكَرَ الْآخَرُ تَحَالَفَا ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَخَذْتَ أَنْتَ إحْدَى وَخَمْسِينَ غَلَطًا ، وَأَخَذْتُ أَنَا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : مَا أَخَذْتُ إلَّا خَمْسِينَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ

قِسْمَةُ عَرْصَةِ الدَّارِ بِالذِّرَاعِ أَنَّهُ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعٍ مِنْ الْعُلْوِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُحْسَبُ عَلَى الْقِيمَةِ دُونَ الذَّرْعِ .
زَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا يَقُولُهُ ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْعُلْوِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِصَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ إنْ لَمْ يَضُرَّ الْبِنَاءُ بِهِ .
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الْبِنَاءَ عَلَى عُلُوِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لِلْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى فَحَسْبُ ، وَلِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ : مَنْفَعَةُ السُّكْنَى ، وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا السُّفْلُ كَمَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى يَصْلُحُ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فِيهِ ، فَأَمَّا الْعُلْوُ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلسُّكْنَى خَاصَّةً ، فَكَانَ لِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ وَلِلْعُلْوِ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمَّا مَلَكَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَتَانِ أَيْضًا ، فَاسْتَوَى الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ فِي الْمَنْفَعَةِ ، فَوَجَبَ التَّعْدِيلُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا فِي الذَّرْعِ .
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْبِلَادِ وَأَهْلَهَا فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْعُلْوَ عَلَى السُّفْلِ ، فَكَانَ التَّعْدِيلُ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَالْعَمَلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ

اللَّهُ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا فَضَّلَ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ اخْتِيَارِهِمْ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ ، وَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ ؛ لِاسْتِوَاءِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ عِنْدَهُمْ ، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ ، وَمُحَمَّدٌ بَنَى الْفَتْوَى عَلَى الْمَعْلُومِ مِنْ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي سُفْلٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَعُلُوٍّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا ، أَرَادَا قِسْمَتَهُمَا يُقْسَمُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا الْعَرْصَةُ فَتُقْسَمُ بِالذَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْقِيمَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعَيْنِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ .
وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ ، وَعُلُوٌّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْعُلْوِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ ؛ لِاسْتِوَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ عِنْدَهُ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا .
وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ سُفْلٌ وَعُلُوٌّ ، وَسُفْلٌ آخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ مِنْ السُّفْلِ ، وَذِرَاعٍ مِنْ سُفْلِ الْبَيْتِ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْآخَرِ ، وَذِرَاعٍ مِنْ عُلُوِّهِ بِنِصْفِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْآخَرِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ مِنْ التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ

السُّفْلِ ، - وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَفَضَّلَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ لِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ أَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَادِلَةً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الدَّارَ قَدْ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ ، فَكَانَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ تَعْدِيلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّيَا قِيمَةَ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ اسْتِحْسَانًا ، وَتَجِبُ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهَا فِي الْقِسْمَةِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِسْمَةُ بَعْضِ الدَّارِ دُونَ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مَعَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْقِسْمَةُ مَجْهُولَةً فَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ لِلْعَرْصَةِ دُونَ الْبِنَاءِ ؛ بَقِيَتْ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ قَدْ صَحَّتْ بِوُقُوعِهَا فِي مَحِلِّهَا - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَلَا صِحَّةَ لَهَا إلَّا بِقِسْمَةِ الْبِنَاءِ ، وَذَلِكَ بِالْقِيمَةِ ، فَتَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْفَضْلِ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ضَرُورَةً صِحَّةَ الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ أَيْضًا قِسْمَةُ الْجَمْعِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ جَبْرًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِتَعَذُّرِ تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحِلَّ الْقِسْمَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرَّقِيقِ وَالدُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ فِيهَا عَادِلَةً أَوْ جَائِرَةً ، وَلَا تُقْسَمُ الْأَوْلَادُ فِي بُطُونِ الْغَنَمِ ؛ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ رَدُّ الْمَقْسُومِ بِالْعَيْبِ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ

فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِرَةً لَا عَادِلَةً ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ يَرْجِعُ بِتَمَامِ النُّقْصَانِ وَفِي الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ .
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ الرِّضَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشْبَهُ بِالْمُبَادَلَاتِ ؛ لِوُجُودِ الْمُرَاضَاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ لَا لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ ؛ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَتْبَعُ الْمُبَادَلَةَ الْمَحْضَةَ ؛ لِثُبُوتِهَا عَلَى مُخَالِفَةِ الْقِيَاسِ ، وَالْقِسْمَةُ مُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَجِبَ لِلشَّرِيكِ أَوْ لِلْجَارِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الطَّلَبِ ، حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيمَا يَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ ، وَكَذَا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدُهُمَا وَيَسْتَضِرُّ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُنْتَفِعِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَضِرِّ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ ، وَالْقُدُورِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا اللُّزُومُ بَعْدَ

تَمَامِهَا فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ، حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ الرُّجُوعُ عَنْهَا إذَا تَمَّتْ .
وَأَمَّا قَبْلَ التَّمَامِ فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ ، وَهُوَ قِسْمَةُ الْقَضَاءِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قِسْمَةُ الشُّرَكَاءِ ، بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ قَوْمٍ فَقَسَمَهَا الْقَاضِي أَوْ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي فَخَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا بِالْقُرْعَةِ ؛ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ الْكُلُّ إلَّا سَهْمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خُرُوجُ السِّهَامِ كُلِّهَا ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ السَّهْمُ مُتَعَيَّنًا بِمَنْ بَقِيَ مِنْ الشُّرَكَاءِ ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُهُ .
وَأَمَّا فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي لَا تَتِمُّ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ السِّهَامِ كُلِّهَا ، وَكُلُّ عَاقِدٍ بِسَبِيلٍ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : حُكْمُ الْقِسْمَةِ ثُبُوتُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَقْسُومِ عَيْنًا تَصَرُّفًا فِيهِ فَيَمْلِكُ الْمَقْسُومُ لَهُ فِي الْمَقْسُومِ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فِيهَا ، وَوَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ عَنْهُ ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا ، أَوْ قَصَّارًا ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلًا فَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ أَوْلَى ، وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ كِرْبَاسًا ، وَإِنْ كَانَ يَهِي بِذَلِكَ حَائِطَ جَارِهِ ، وَلَوْ طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيلَ ذَلِكَ ؛ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّحْوِيلِ ، وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْكَفَّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ .
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } خَصَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ ، فَلَئِنْ لَا يُحْسِنُ إلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ أَذَاهُ .
وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا ، لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَنْعُهُمَا عَنْ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا بِالْقِسْمَةِ مُتَصَرِّفَانِ فِي مِلْكِ

أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْنَعَانِ عَنْهُ ، فَيَقْتَسِمَانِ مَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ ، وَيَتْرُكَانِ الطَّرِيقَ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَلَوْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ فَإِنْ كَانَتْ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ ؛ قَسَمُوا مَمَرَّ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ لِشَرِيكَيْ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمُرُورِ ، حَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنْ لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِلشَّرِيكَيْنِ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَضْرِبُ بِحَقِّهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ بِحَقِّ الْمُرُورِ ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ ، وَيَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ ، فَيَكُونَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ فِيهَا طَرِيقٌ .
( وَجْهُ ) مَا حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ ، فَإِذَا بِيعَ الطَّرِيقُ بِإِذْنِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا فَلَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ .
( وَجْهُ ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ ، وَهَهُنَا مَا بِيعَ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ ، لَكِنْ ثَمَنُ الْحَقِّ لَا ثَمَنُ الْمِلْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا مَسِيلُ الْمَاءِ ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، بَلْ يَقْسِمُ الدَّارَ وَيَتْرُكُ الْمَسِيلَ عَلَى حَالِهِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقُهُ فِي الدَّارِ ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَا الدَّارَ لَا

يُمْنَعَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ ، وَلَكِنْ يَتْرُكَانِ طَرِيقَ الْمَنْزِلِ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ، لَا عَلَى سَعَةِ بَابِ الْمَنْزِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَفْتَحَ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ بَابًا آخَرَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْحَائِطَ كُلَّهُ فَهَذَا أَوْلَى ، وَلَوْ اشْتَرَى صَاحِبُ الْمَنْزِلِ دَارًا مِنْ وَرَاءِ الْمَنْزِلِ وَفَتَحَ بَابَهُ إلَى الْمَنْزِلِ ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ مِنْ الدَّارِ إلَى الْمَنْزِلِ ، وَمِنْ الْمَنْزِلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ غَيْرَ سَاكِنِ الْمَنْزِلِ فَلَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ أَنْ يَمُرَّ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهِ .
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ اقْتَسَمَاهَا ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا ، فَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً إلَى السِّكَّةِ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَسَعُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ مَنْعُهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَائِطِ أَصْلًا فَالْبَابُ وَالْكُوَّةُ أَوْلَى .
وَعَلَى هَذَا حَائِطٌ بَيْنَ قَسِيمَيْنِ وَلِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ عَلَيْهِ جُذُوعُ الْحَائِطِ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطُوا قَطْعَ الْجُذُوعِ فِي الْقِسْمَةِ قَطَعَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا تُرِكَ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا لَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَطْعَ فِي الْقِسْمَةِ فَقَدْ اُلْتُزِمَ الضَّرَرُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ دَرَجَةٌ أَوْ أُسْطُوَانَةٌ جُمِعَ عَلَيْهَا جُذُوعٌ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ رَوْشَنًا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ

شَرَفًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُقْلِعَ الرَّوْشَنَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَطْرَافُ خَشَبٍ عَلَى حَائِطِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ لَمْ يُكَلَّفْ قَلْعُهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ كُلِّفَ الْقَلْعَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَيَلْتَحِقُ بِالْحُقُوقِ ، فَأَشْبَهَ الرَّوْشَنَ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَعَذُّرُ إلْحَاقِهَا بِالْحُقُوقِ فَبَقِيَ شَاغِلًا هُوَ لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيُكَلَّفُ قَطْعَهَا ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شَجَرَةٌ أَغْصَانُهَا مُظِلَّةٌ عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَهَلْ تُقْطَعُ ؟ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا لِصَاحِبِهَا ، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تُقْطَعُ كَمَا يُقْطَعُ أَطْرَافُ الْخَشَبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُهَا ، وَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ طَرِيقٍ فِي الطَّرِيقِ ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَهُ ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ، لَا عَلَى ذُرْعَانِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْيَدِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمُرُورِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ .
دَارٌ لِرَجُلٍ وَفِيهَا طَرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ ، فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ ، وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ، حَتَّى لَوْ بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ، وَقَدْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَى مَا مَرَّ ،

وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ ؛ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ؛ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ سَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
قَدَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فِيهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَقِيَامُ مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ ، فَقِيَامُ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ أَوْلَى .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ - وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ - ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِيهِ ، وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا بِجَعْلِ الدَّيْنِ فِيهِ ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَالِيَّةُ ، فَإِذَا

قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ ، بِأَنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وَهُوَ مَالِيَّتُهَا لَا بِالصُّورَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ فَسُمِعَتْ .
( وَمِنْهَا ) ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا ، وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ ، فَكَذَا هَذَا ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ .
( وَمِنْهَا ) ظُهُورُ الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا

تُنْقَضُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ ، حَتَّى لَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى لَهُ ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ ، فَكَانَ دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ ، وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هَذَا الْمُدَّعِي ، وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ هُنَا قُضِيَ فِي دَعْوَاهُ ؛ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ الدَّارُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَمَتَى قُسِمَتْ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ صَحَّ وَتَسْلِيمُ عَيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مُمْكِنٌ ، فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ ، فَيَقْسِمُ مَا أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَرْعِ الْبَيْتِ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ

الدَّارِ بَعْدَ الْبَيْتِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ كَمَا قَالَا ، وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَضْرِبُ بِنِصْفِ ذَرْعِ الْبَيْتِ لَا بِكُلِّهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَرْعُ الدَّارِ مِائَةً ، وَذَرْعُ الْبَيْتِ عَشَرَةً ، فَتُقْسَمُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ جَمِيعُ ذَرْعِ الْبَيْتِ وَالْبَاقِي - وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ - لِلْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ ذَرْعِ الْبَيْتِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ ، إذْ هُوَ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ الْمُقَرِّ بِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَحِلًّا مُعَيَّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْأَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا لَهُ ، وَالْآخَرُ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ فَيَبْطُلُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَصِحُّ فِي نَصِيبِهِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْمُقَرِّ لَهُ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَمَنَعَ ، فَإِذَا قُسِمَتْ الدَّارُ الْآنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، فَإِنْ وَقَعَ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ بَدَلِهِ مِنْ نَصِيبِهِ ، وَهُوَ تَمَامُ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، كَبَيْتٍ مِنْ حَمَّامٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى

قِسْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِضْرَارِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْإِقْرَارُ بِعَيْنٍ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ إقْرَارًا بِبَدَلِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ ، وَصِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، كَالْإِقْرَارِ بِجِذْعٍ فِي الدَّارِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ .
( وَأَمَّا ) قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُهَايَئَاتِ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْمُهَايَئَاتُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الزَّمَانِ .
( أَمَّا ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا يَسْكُنُهَا وَأَنَّهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَئَاتِ قِسْمَةٌ فَتُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ ، وَكَذَا لَوْ تَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ الْعُلْوَ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ بِمُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَنَا ، كَإِجَازَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا يَسْكُنُهَا أَوْ يَسْتَغِلُّهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ( أَمَّا ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي عَيْنِ الدُّورِ جَائِزَةٌ ، فَكَذَا فِي الْمَنَافِعِ .
( وَأَمَّا ) أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ .
( وَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الدُّورَ فِي حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي نَفْسِهَا وَبِنَائِهَا وَمَوْضِعِهَا ، وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ .
( وَأَمَّا ) التَّفَاوُتُ فِي الْمَنَافِعِ فَقَلَّ مَا

يَتَفَاحَشُ بَلْ يَتَقَارَبُ ، فَلَمْ تَلْتَحِقُ مَنَافِعُ الدَّارَيْنِ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجَازَتْ الْقِسْمَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ عَلَى الْخِدْمَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ .
( أَمَّا ) عِنْدَهُمَا ؛ فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ جَائِزَةٌ ، وَكَذَا فِي مَنَافِعِهَا .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّارَيْنِ وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا يَخْدُمُهُ وَشَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ طَعَامَ الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ ؛ جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ طَعَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ ، فَاشْتِرَاطُ كُلِّ الطَّعَامِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ مُعَاوَضَةِ بَعْضِ الطَّعَامِ بِالْبَعْضِ ، وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِلْجَهَالَةِ .
( وَوَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّعَامِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دُونَ الْمُضَايِقَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ كِسْوَةَ الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي الْكِسْوَةِ مِنْ الْمُضَايِقَةِ مَا لَا يَجْرِي فِي الطَّعَامِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْكِسْوَةِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ ، مَعَ مَا إنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْكِسْوَةِ تَتَفَاحَشُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) التَّهَايُؤُ فِي الدَّوَابِّ بِأَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا وَالْآخَرُ دَابَّةً أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا يَسْتَغِلُّهَا ، وَشَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الدَّوَابِّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ ،

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ أَنَّهُ جَوَّزَ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِهَا وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي مَنَافِعِهَا .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهَا فِي مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ ، وَلَوْ فَعَلَ لَضَمِنَ ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافَ جِنْسِ الْعَيْنِ ، وَاخْتِلَافُ جِنْسِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ مَانِعٌ جَوَازَ قِسْمَةِ الْجَمْعِ ، كَذَا فِي الْمَنْفَعَةِ ، بِخِلَافِ الْمُهَايَئَاتِ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَنَافِعَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِيهَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَتْ الْمُهَايَئَاتُ .

( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ هَذَا يَوْمًا ، وَهَذَا يَوْمًا ، أَوْ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا ، وَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُهَايَئَاتُ فِي الشِّرْبِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ بِظَاهِرِ النَّصِّ ، وَثَبَتَ جَوَازُ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ لِمَكَانِ حَاجَاتِ النَّاسِ ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا فِي احْتِمَالِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ شَرْعٌ ، سَوَاءٌ مِنْ الْأَعْيَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ كَالْعَبْدِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِمَا ، فَلَمَّا جَازَتْ تِلْكَ فَلَأَنْ تَجُوزَ هَذِهِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ : إنَّ مَحِلَّهَا الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، فَكَانَ مَحِلُّهَا الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ ، حَتَّى أَنَّهُمَا لَوْ تَهَايَئَا فِي نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا ؛ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَطِيعًا وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا - لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا عَقْدُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ ، وَالثَّمَرُ وَاللَّبَنُ عَيْنُ مَالٍ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُهَايَئَاتِ ، وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا وَيَذْرَعُ - جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْمُهَايَئَاتِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، حَتَّى لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ، وَفَسَخَ الْمُهَايَئَاتِ ؛ لِأَنَّهَا كَالْخُلْفِ عَنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ أَكْمَلُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْمُهَايَئَاتِ ؛ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ فَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا فَاحْتَمَلَ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ لَأَعَادَهَا الْقَاضِي لِلْحَالِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ ، أَمَّا فِي الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَئَاتِ سَوَاءٌ شَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا ، وَسَوَاءٌ تَهَايَئَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ دَارَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ ، فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُهَايَئَاتِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُؤَاجَرُ .
( وَأَمَّا ) الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسْكِنَ أَوْ يَسْتَخْدِمَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ السُّكْنَى وَالِاسْتِغْلَالِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْوَقْتِ لِتَصِيرَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً ، وَالْمُهَايَئَاتُ بِالْمَكَانِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ مَقْدِرَةٍ مَجْمُوعَةٍ بِالْمَكَانِ ، وَمَكَانُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ ، فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً بِالْعِلْمِ بِمَكَانِهَا ، فَجَازَتْ الْمُهَايَأَةُ .
وَأَمَّا الْمُهَايَأَةُ بِالزَّمَانِ فَقِسْمَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِالزَّمَانِ ، فَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ زَمَانٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَهَلْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِغْلَالَ فِي نَوْبَتِهِ ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطَا - لَمْ يَمْلِكْ ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ ، وَالْعَارِيَّةُ لَا تُؤْجَرُ وَذَكَرَ الْأَصْلُ : أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ عَلَى السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ جَائِزَةٌ .
( مِنْهُمْ ) مَنْ قَالَ : الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمُهَايَئَاتٍ حَقِيقَةً ؛ لِوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَضَافَ التَّهَايُؤَ إلَى الْغَلَّةِ دُونَ الِاسْتِغْلَالِ ، وَالْغَلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّهَايُؤَ حَقِيقَةً إذْ هِيَ عَيْنٌ ، وَالتَّهَايُؤُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ .
وَالثَّانِي - أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ غَلَّةَ الدَّارِ إذَا وَصَلَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ ، وَكَمَا أَنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالْمَكَانِ فِي الدَّارَيْنِ إذَا تَهَايَئَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخْذُهُ ، يَسْتَغِلُّهَا فَاسْتَغَلَّهَا فَفَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، أَنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ هَذَا غَلَّةَ شَهْرٍ وَذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ مُهَايَأَةً مَجَازًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُهَايَأَةً حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ - يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلًا عَلَى شَرْطِ جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ ، إذْ الْغَلَّةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ إرَادَةِ الِاسْتِغْلَالِ هَهُنَا - وَهُوَ قَرِينَةُ التَّهَايُؤِ - إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ دُونَ الْغَلَّةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ مَالِهِ ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَقْدُورُ التَّهَايُؤِ وَهُوَ فِعْلُ الِاسْتِغْلَالِ دُونَ عَيْنِ الْغَلَّةِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَا السُّكْنَى الَّذِي هُوَ فِعْلُ السَّاكِنِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : مَا فَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِهِ يُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ ، مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا تَهَايَئَا بِشَرْطِ الِاسْتِغْلَالِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَلَّةَ شَهْرٍ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الدَّارَيْنِ .
فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ ،

وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الْحُدُودِ ) جَمَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ التَّعْزِيرِ ، وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْحُدُودِ ، فَبَدَأَ بِمَا بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْفِيقُ : الْكَلَامُ فِي الْحُدُودِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِّ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ أَسْبَابِ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ وُجُوبُهَا عِنْدَ الْقَاضِي ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهَا ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَتِهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا اجْتَمَعَتْ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا ؛ لِمَنْعِهِ النَّاسَ عَنْ الدُّخُولِ ، وَفِي الشَّرْعِ : عِبَارَةٌ عَنْ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَاجِبَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ، قَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِمَا ، وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً لَكِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ ، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ حَدًّا ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا وَغَيْرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَيَمْنَعُ مَنْ يُشَاهِدُ ذَلِكَ وَيُعَايِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ حُلُولَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ ؛ لَوْ بَاشَرَ تِلْكَ الْجِنَايَةَ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ ، فَنَقُولُ : الْحُدُودُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : حَدُّ السَّرِقَةِ ، وَحَدُّ الزِّنَا ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ، وَحَدُّ السُّكْرِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ .
( أَمَّا ) حَدُّ السَّرِقَةِ : فَسَبَبُ وُجُوبِهِ السَّرِقَةُ ، وَسَنَذْكُرُ رُكْنَ السَّرِقَةِ وَشَرَائِطَ الرُّكْنِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ .
( وَأَمَّا ) حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ : جَلْدٌ ، وَرَجْمٌ ، وَسَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الزِّنَا ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْإِحْصَانُ ، فَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ ، أَمَّا الزِّنَا : فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ ، مِمَّنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَارِي عَنْ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَتِهِ ، وَعَنْ حَقِّ الْمِلْكِ وَعَنْ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَشُبْهَتِهِ ، وَعَنْ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ جَمِيعًا .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً ، وَالْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً ؛ إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ كُلِّهَا إذَا عُرِفَ الزِّنَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ : الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ ، فَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ مِنْهُمَا زِنًا ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا طَاوَعَتْهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَالَ زُفَرُ

وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : عَلَيْهَا الْحَدُّ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، لَهُمَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا خَصَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَنْعُ ، كَالْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؛ لِمَا قُلْنَا .
كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَابِ الزِّنَا لَيْسَ لِكَوْنِهَا زَانِيَةً ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهَا وَهُوَ الْوَطْءُ ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ ، وَتَسْمِيَتُهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زَانِيَةً مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا ؛ لِكَوْنِهَا مَزْنِيًّا بِهَا ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا فَلَا تَكُونُ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَفِعْلُ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فَكَانَتْ الصَّبِيَّةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ مَزْنِيًّا بِهَا ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا ؛ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَيَجِبُ ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فِي الْأُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا ؛ لِعَدَمِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَدَّ - وَهُوَ الرَّجْمُ - إنْ كَانَ مُحْصَنًا وَالْجَلْدُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لَا لِأَنَّهُ زِنًا ؛ بَلْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا ؛ لِمُشَارَكَةِ الزِّنَا فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَدْعِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ عَلَى وَجْهِ التَّمَحُّضِ ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا ، فَوُرُودُ النَّصِّ بِإِيجَابِ الْحَدِّ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ بِزِنًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ

يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ : لَاطَ وَمَا زَنَى ، وَزَنَى وَمَا لَاطَ ، وَيُقَالُ : فُلَانٌ لُوطِيٌّ وَفُلَانٌ زَانِي ، فَكَذَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَدِّ هَذَا الْفِعْلِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا زِنًا - لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الزِّنَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا وَلَا فِي مَعْنَى الزِّنَا أَيْضًا ؛ لِمَا فِي الزِّنَا مِنْ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفِعْلِ ، إنَّمَا فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ الَّذِي يُبَاحُ مِثْلُهُ بِالْعَزْلِ ، وَكَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ هَذَا الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ شَخْصَيْنِ ، وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ ، وَلَا دَاعِي فِي جَانِبِ الْمَحِلِّ أَصْلًا ، وَفِي الزِّنَا وُجِدَ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا - وَهُوَ الشَّهْوَةُ الْمُرَكَّبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا - فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الزِّنَا - فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَيْسَ وُرُودًا هَهُنَا ، وَكَذَا اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ التَّعْزِيرُ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّعْزِيرَ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَا الْحَدِّ .
وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْحَدِّ بَلْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ ، وَلِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ فِي التَّعْزِيرِ .

وَكَذَا وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ ؛ لِعَدَمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ .

وَكَذَا وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا ؛ لِانْعِدَامِ الْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مِلْكَ الْوَاطِئِ قِيلَ : إنَّهَا تُذْبَحُ وَلَا تُؤْكَلُ ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَكِنْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ وَاطِئَ الْبَهِيمَةِ ، وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ حَتَّى أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ .

وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .

وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَفِي دَارِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، حَتَّى إنَّ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حِينَ وُجُودِهِ ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُسْتَوْفَى بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ أَوْ ، ذِمِّيٌّ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ ؛ وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ ؛ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِقَامَةِ وَالتَّوَطُّنِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ ؛ لِيُعَامِلَنَا وَنُعَامِلَهُ ، ثُمَّ يَعُودَ فَلَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ دَارَ الْإِسْلَامِ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ حَقَّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ الْتَزَمَ أَمَانَهُمْ عَنْ الْإِيذَاءِ بِنَفْسِهِ وَظَهَرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ يُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحَدُّ ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِلَا خِلَافٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ فِعْلُ الرَّجُلِ ، وَفِعْلُهَا يَقَعُ تَبَعًا فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَجِبْ عَلَى التَّبَعِ كَالْمُطَاوَعَةِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ حَرَامٌ مَحْضٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ فَكَانَ زِنًا فَكَانَتْ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَنَا ، وَهَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّهُ

بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا إلَّا فِي قَدْرِ مَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا .

وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَاَلَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى مِنْهَا ؛ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا .

وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُحْرِمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ أَوْ جَمْعٍ ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا وَعُلِمَ بِالْحُرْمَةِ ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ عُلِمَ بِالْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ شُبْهَةَ الْمِلْكِ - وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ - أَوْ حَقُّ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } فَظَاهِرُ إضَافَةِ مَالِ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بِحَرْفِ اللَّامِ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، فَلَئِنْ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَلَى إيرَاثِ الشُّبْهَةِ أَوْ حَقِّ الْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَانَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَاهُ حَقِيقَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ كَمَا فِي جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَبَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ - وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً - فَأَشْبَهَ وَطْئًا حَصَلَ فِي نِكَاحٍ وَهُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ ، وَذَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَذَا هَذَا .

وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَدِّ - أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا - عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَادًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ الْغَانِمِينَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَهُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَطْأَهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ ؛ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الثُّبُوتِ ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً ، وَلَوْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فِي الْمَحِلِّ ، أَمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، بَلْ الْمَوْجُودُ حَقٌّ عَامٌّ ، وَأَنَّهُ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ .

وَكَذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ ، فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ، أَوْ الْعَبْدُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ شُبْهَةً .

وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ مَحَارِمَهُ أَوْ الْخَامِسَةَ أَوْ أُخْتَ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا - لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وُجِدَ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ - يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ فَادَّعَى الِاشْتِبَاهَ أَوْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يَجِبُ الْحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُو ، وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُحَلَّلَةُ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَالْمَحَارِمُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ ، وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ .
لِي سَقَطَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِيغَةَ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ دَلِيلُ الْحِلِّ فَاعْتُبِرَ هَذَا الظَّنُّ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً إسْقَاطًا لِمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ خَلَا الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْحَدُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى

الْمَحَلِّيَّةِ - أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هُوَ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ ، أَمَّا النُّصُوصُ ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا } ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّسَاءَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مَحِلَّ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ ؛ فَلِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ السُّكْنَى وَالْوَلَدِ وَالتَّحْصِينِ وَغَيْرِهَا ، فَكَانَتْ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَسِيلَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَحِلَّ الْمَقْصُودِ مَحِلَّ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَثْبُتْ مَعْنَى التَّوَسُّلِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً ، فَقِيَامُ صُورَةِ الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّيَّةِ يُورِثُ شُبْهَةً ، إذْ الشُّبْهَةُ اسْمٌ لِمَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ، أَوْ نَقُولُ : وُجِدَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، إلَّا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَكَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا ، وَالْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ زِنًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ فَيُقَالُ : هَذَا الْوَطْءُ لَيْسَ بِزِنًا .
فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ .

وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ فَإِنْ ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ بِأَنْ قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهُ تَحِلُّ لِي .
لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ - يَجِبُ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ ، وَأَنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ : فِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الْأُمِّ وَجَارِيَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَجَارِيَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا - مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ - وَأُمِّ الْوَلَدِ - مَا دَامَتْ تَعْتَدُّ مِنْهُ - وَالْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ ، فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ ، أَمَّا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ ؛ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ عَادَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ وَمَنْكُوحَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ ؛ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ مُطْلَقٌ لَهُ شَرْعًا أَيْضًا ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ ؛ لِإِسْقَاطِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّى الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَتَمَحَّضَ حَرَامًا - فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ سَوَاءٌ ادَّعَى بِالِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَلَمْ يَدَّعِ الْآخَرُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُقِرَّا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ؛ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً .
وَأَمَّا مَنْ سِوَى الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَتَهُ يَجِبُ الْحَدُّ

، وَإِنْ قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الِاشْتِبَاهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَسِطُ بِالِانْتِفَاعِ بِمَالِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ عَادَةً ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَنًّا مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ .

، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، أَمَّا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ ؛ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَصْلًا ؛ لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَقَطْ فَتَمَحَّضَ الْوَطْءُ حَرَامًا فَكَانَ زِنًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَظَنَّ الْحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى ظَنَّهُ عَلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَحُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ فَظَنَّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَيْضًا ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً - لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْتَ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِبَانَةِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ مِثْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي الْكِنَايَاتِ : إنَّهَا رَوَاجِعُ ، وَطَلَاقُ الرَّجْعِيِّ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً .

وَلَوْ خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَنْ أَعْتَقَهَا ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ .

وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ مَوْلَاهُ عَادَةً بِالِانْتِفَاعِ فَكَانَ وَطْؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ فَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ ؛ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ يُحَدُّ ؛ لِعَرَاءِ الْوَطْءِ عَنْ الشُّبْهَةِ .

وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ ، ( فَوَجْهُ ) رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ؛ فَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ مِنْ الْجَارِيَةِ يَدًا ، فَقَدْ وَطِئَ جَارِيَةً هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يَدًا ؛ فَلَا يَجِبُ ، الْحَدُّ ، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِلْحَدِّ ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ فَلَا شُبْهَةَ - فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي بَابِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مِنْ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْجِنْسِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ التَّوْثِيقِ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَارِيَةِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ .

وَلَوْ وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَزَوَّجَ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَمِلْكُ الْيَدِ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً .

وَلَوْ وَطِئَ الْمُسْتَأْجِرُ جَارِيَةَ الْإِجَارَةِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ جَارِيَةَ الْإِعَارَةِ ، وَالْمُسْتَوْدِعُ جَارِيَةَ الْوَدِيعَةِ يُحَدُّ ، وَإِنْ قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ عُرِّيَ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ .

وَلَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ ، وَقُلْنَ النِّسَاءُ : إنَّ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَوَطِئَهَا - لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ؛ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٌ ، فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَلَوْ كَانَ امْتِنَاعُ الْوُجُوبِ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ فِي شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ ، وَهَهُنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ ، دَلَّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ .
وَهُوَ إنْ وَطِئَهَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ - يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، بَلْ لَا دَلِيلَ هَهُنَا سِوَاهُ فَلَئِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَقِيَامُ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً ، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي أَوْ شَبَّهْتُهَا بِامْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي - يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إلَى دَلِيلٍ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ ، مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِدَلِيلٍ ، إمَّا بِكَلَامِهَا أَوْ بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، مَعَ مَا أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الظَّنَّ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَمْ يَقُمْ حَدُّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ مَا ، إذْ الزَّانِي لَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : لَوْ قِيلَ هَذَا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَعْمَى فَوَجَدَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ : ظَنَنْتهَا امْرَأَتِي عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ ، إذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مَنْ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ ؛ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَلَمْ

تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَعْمَى دَعَا امْرَأَتَهُ فَقَالَ : يَا فُلَانَةُ ، فَأَجَابَتْ غَيْرُهَا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ؛ أَنَّهُ يُحَدُّ ، وَلَوْ أَجَابَتْهُ غَيْرُهَا وَقَالَتْ : أَنَا فُلَانَةُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا - لَمْ يُحَدَّ ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَهِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمَزْفُوفَةِ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِنَفْسِ الْإِجَابَةِ مَا لَمْ تَقُلْ أَنَا فُلَانَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ الَّتِي نَادَاهَا ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا ، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَى نَفْسِ الْإِجَابَةِ ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ يُعَذَّرْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ : أَنَا فُلَانَةُ فَوَطِئَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْأَعْمَى إلَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ ، فَكَانَ مَعْذُورًا فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ الْمَزْفُوفَةَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ بَصِيرًا لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِالرُّؤْيَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ فِي رَجُلٍ أَعْمَى وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ امْرَأَةً نَائِمَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي ؛ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُدْرَأُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ظَنَّ فِي مَوْضِعِ الظَّنِّ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ ، فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ ؛ فَيُوجِبُ دَرْأَ الْحَدِّ ، كَمَا لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْوَطْءِ بِهَذَا الْقَدْرِ ، فَإِذَا اسْتَحَلَّ وَظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ - لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْإِحْصَانُ ، فَالْإِحْصَانُ نَوْعَانِ : إحْصَانُ الرَّجْمِ ، وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ - فِي الشَّرْعِ - عَنْ اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ ، وَهِيَ سَبْعَةٌ : الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، فَوُجُودُ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَمِيعًا فِيهِمَا شَرْطٌ ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْصَنًا ، وَالدُّخُولُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بَعْدَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا ، فَإِنْ تَقَدَّمَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَهَا ، فَلَا إحْصَانَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ ، وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا بِنَفْسِ النِّكَاحِ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ .
وَمَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا وَقْتَ الدُّخُولِ عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ ، حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ ، وَهِيَ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ ، ثُمَّ أَدْرَكَتْ الصَّبِيَّةُ وَأَفَاقَتْ الْمَجْنُونَةُ وَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكَافِرَةُ ؛ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ ، حَتَّى لَوْ زَنَى قَبْلَ دُخُولٍ آخَرَ - لَا يُرْجَمُ ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صَارَ الشَّخْصُ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْحِصْنِ ، يُقَالُ : أَحْصَنَ ، أَيْ دَخَلَ الْحِصْنَ ، كَمَا يُقَالُ : أَعْرَقَ أَيْ دَخَلَ الْعِرَاقَ ، وَأَشْأَمَ أَيْ دَخَلَ الشَّامَ ، وَأَحْصَنَ أَيْ دَخَلَ فِي الْحِصْنِ ، وَمَعْنَاهُ دَخَلَ حِصْنًا عَنْ الزِّنَا إذَا دَخَلَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ دَاخِلًا فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهَا تَتَوَفَّرُ الْمَوَانِعُ .
أَمَّا الْعَقْلُ ؛

فَلِأَنَّ لِلزِّنَا عَاقِبَةً ذَمِيمَةً ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ ذَمِيمَةٌ .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّ الصَّبِيَّ ؛ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَمِيدَةَ مِنْهَا وَالذَّمِيمَةَ .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ ؛ فَلِأَنَّ الْحُرَّ يَسْتَنْكِفُ عَنْ الزِّنَا وَكَذَا الْحُرَّةُ ؛ وَلِهَذَا { لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَبَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا يَزْنِينَ } قَالَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ } وَأَمَّا الْإِسْلَامُ ؛ فَلِأَنَّهُ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ فَيَمْنَعُ مِنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ وَضْعُ الْكُفْرِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا فِيهِمَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِمَا ، وَذَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَاصِرٌ ، وَكَذَا بِالرَّقِيقِ ؛ لِكَوْنِ الرِّقِّ مِنْ نَتَائِجِ الْكُفْرِ فَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ ، وَكَذَا بِالْكَافِرَةِ ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْكَافِرَةِ .
وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ } وَأَمَّا الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ فَلِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْحَرَامِ ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ .
وَأَمَّا كَوْنُ الدُّخُولِ آخِرَ الشَّرَائِطِ ؛ فَلِأَنَّ الدُّخُولَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَقَعُ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ ، فَلَا تَقَعُ الْغُنْيَةُ بِهِ عَنْ الْحَرَامِ عَلَى التَّمَامِ ، وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ

عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَوَانِعُ عَنْ الزِّنَا فَيَحْصُلُ بِهَا مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَا يَصِيرَ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ ، وَالدُّخُولِ بِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ الثَّيِّبُ إذَا زَنَى لَا يُرْجَمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُجْلَدُ ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ ، وَيُرْجَمُ الذِّمِّيُّ بِهِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ ، } وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا لَمَا رَجَمَ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا ، وَالدِّينُ الْمُطْلَقُ يَصْلُحُ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا .
( وَلَنَا ) فِي زِنَا الذِّمِّيِّ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَلْدَ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَزَانِيَةٍ ، أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، وَمَتَى وَجَبَ الْجَلْدُ انْتَفَى وُجُوبُ الرَّجْمِ ضَرُورَةً ؛ وَلِأَنَّ زِنَا الْكَافِرِ لَا يُسَاوِي زِنَا الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً ، فَلَا يُسَاوِيهِ فِي اسْتِدْعَاءِ الْعُقُوبَةِ كَزِنَا الْبِكْرِ مَعَ زِنَا الثَّيِّبِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ زِنَا الْمُسْلِمِ اُخْتُصَّ بِمَزِيدِ قُبْحٍ انْتَفَى ، ذَلِكَ فِي زِنَا الْكَافِرِ وَهُوَ كَوْنُ زِنَاهُ وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ وَدِينَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ ، وَفِي زِنَا الْمُسْلِمِ بِالْكِتَابِيَّةِ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ

يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } وَالذِّمِّيُّ مُشْرِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِالْكَافِرَةِ قُصُورًا ، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى النِّعْمَةِ فَلَا يَتَكَامَلُ الزَّاجِرُ ، وَقَوْلُهُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِأَصْلِ الدِّينِ قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَكُونُ الزِّنَا - مِنْ الْمُسْلِمِ - وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ، وَدِينُ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ ؛ فَلَا يَكُونُ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا مِثْلُهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجَلْدِ ؛ فَانْتَسَخَ بِهَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا ، وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَإِحْصَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُحْصَنٍ ، فَالْمُحْصَنُ مِنْهُمَا يُرْجَمُ ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ يُرْجَمُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ ، أَمَّا النَّصُّ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ ، وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَكَانَ مُحْصَنًا } .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْصَنَ إذَا تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الزِّنَا ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ - صَارَ زِنَاهُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ ، فَيُجَازَى بِمَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوَعَّدَ نِسَاءَ

النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ؛ لِعِظَمِ جِنَايَتِهِنَّ ؛ لِحُصُولِهَا مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ فِيهِنَّ ؛ لِعِظَمِ نِعَمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِنَّ ؛ لِنَيْلِهِنَّ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُضَاجَعَتَهُ ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُنَّ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ غَايَةً فِي الْقُبْحِ ، فَأُوعِدْنَ بِالْغَايَةِ مِنْ الْجَزَاءِ .
كَذَا هَهُنَا ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } .
( وَلَنَا ) { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ } ، وَلَوْ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَجَمَعَ ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُوجِبُ إلَّا عُقُوبَةً وَاحِدَةً ، وَالْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَلَا يَجِبَانِ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، لَكِنْ فِي حَالَيْنِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ ، وَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا يُرْجَمُ بَلْ يُجْلَدُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الزِّنَا هُوَ الْجَلْدُ بِآيَةِ الْجَلْدِ ؛ وَلِأَنَّ زِنَا غَيْرَ الْمُحْصَنِ لَا يَبْلُغُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ فَلَا تَبْلُغُ عُقُوبَتُهُ النِّهَايَةَ ، فَيُكْتَفَى بِالْجَلْدِ وَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يُجْمَعُ إلَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ؛ فَيَجْمَعُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ ، فَمَنْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخٌ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْجَلْدَ جَزَاءً ، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِزَاءِ - وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ - فَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّغْرِيبَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالْجَلْدِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ تَعْرِيضٌ لِلْمُغَرَّبِ عَلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي بَلَدِهِ يَمْتَنِعُ عَنْ الْعَشَائِرِ وَالْمَعَارِفِ حَيَاءً مِنْهُمْ ، وَبِالتَّغْرِيبِ يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى فَيُعَرَّى الدَّاعِي عَنْ الْمَوَانِعِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَالزِّنَا قَبِيحٌ فَمَا أَفْضَى إلَيْهِ مِثْلُهُ ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ : لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا .
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً فَدَلَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ : إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّغْرِيبِ ، وَيَكُونُ النَّفْيُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا إحْصَانُ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ ؛ وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ خَاصَّةً ، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَلَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ عَلَى حُصُولِ السُّكْرِ مِنْهَا ، وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ ، وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَمِنْهَا الْعَقْلُ ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَمِنْهَا عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا عَلَى مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ ، وَكَذَا الشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ ، وَالْإِكْرَاهُ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّا نُهِينَا عَلَى التَّعْرِيضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ .
وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ ، حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فِيهِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ .
( فَأَمَّا ) الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الذَّكَرِ

وَالْأُنْثَى .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا ، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا ؛ لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، فَلَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ مِنْهَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57