كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

خطبة الكتاب
الحمد لله جاعل المرء بأصغريه قلبه ولسانه والمتكلم بأجمليه فصاحته وبيانه راقم حقائق المعاني بأقلام الإلهام على صفحات الأفكار جامع اللسان والقلم على ترجمة ما في الضمائر ذاك للأسماع وهذا للأبصار الذي حفظ برسوم الخطوط ما تكل الأذهان السليمة عن حفظه وتبلغ بوسائطها على البعد ما يعسر على المتحمل تأديته بصورة معناه ولفظه
أحمده على أن وهب من بنات الأفكار ما يربو في الفخر على ذكور الصوارم ومنح من جواهر الخواطر ما يزكو مع الإنفاق ولا ينقص بالمكارم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يوقع لصاحبها بالنجاة من النار ويكتب قائلها في ديوان الأبرار وأن محمدا عبده ورسوله الذي اهتزت لهيبته الأسرة وشرفت بذكره المنابر وضاقت عن درك وصفه الطروس ونفدت دون إحصاء فضله المحابر

وصحبه الذين قلدوا أمور الدين فقاموا بواجبها وحملوا أعباء الشريعة فانتشرت بهم في مشارق الأرض ومغاربها صلاة تسطر في الصحف وتفوق بهجتها الروض الأنف
وبعد فلما كانت الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها وأربح البضائع وأنفعها وأفضل المآثر وأعلاها وآثر الفضائل وأغلاها لا سيما كتابة الإنشاء التي هي منها بمنزلة سلطانها وإنسان عينها بل عين إنسانها لا تلتفت الملوك إلا إليها ولا تعول في المهمات إلا عليها يعظمون أصحابها ويقربون كتابها فحليفها أبدا خليق بالتقديم جدير بالتبجيل والتكريم
( تسر مجانيها إذا ما جنى الظما ... وتروي مجاريها إذا بخل القطر )
وكانت الديار المصرية والمملكة اليوسفية أعز الله تعالى حماها وضاعف علاها قد تعلقت من الثريا بأقراطها ورجحت سائر الأقاليم بقيراطها بشر بفتحها الصادق الأمين فكانت أعظم بشرى وأخبر سيد المرسلين أن لأهلها نسبا وصهرا فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن

الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار وكانوا أحق بها وأهلها
ثم لم يزل يعلو قدرها ويسمو ذكرها إلى أن صارت دار الخلافة العباسية وقرار المملكة الإسلامية وفخرت مملكتها بخدمة الحرمين وخدمها سائر الملوك والأمم لحيازة القبلتين
( تناهت علاء والشباب رداؤها ... فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب )
وحظيت من فضلاء الكتاب بما لم تحظ مملكة من الممالك ولا مصر من الأمصار وحوت من أهل الفضل والأدب ما لم يحو قطر من الأقطار فما برحت متوجة بأهل الأدب في الحديث والقديم مطرزة من فضلاء الكتاب بكل مكين أمين وحفيظ عليم
( نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه )
هذا والمؤلفون في هذه الصنعة قد اختلفت مقاصدهم في التصنيف وتباينت مواردهم في الجمع والتأليف ففرقة أخذت في بيان أصول الصنعة وذكر شواهدها وأخرى جنحت إلى ذكر المصطلحات وبيان مقاصدها وطائفة اهتمت بتدوين الرسائل ليقتبس من معانيها ويتمسك بأذيالها وتكون أنموذجا لمن بعدهم يسلك سبيلها من أراد أن ينسج على منوالها ولم يكن فيها تصنيف جامع لمقاصدها ولا تأليف كافل بمصادرها الجليلة ومواردها بل أكثر الكتب المصنفة في بابها والتآليف الدائرة بين أربابها لا يخرج عن علم البلاغة المرجوع فيها إليه أو الألفاظ الرائقة مما وقع اختيار الكتاب عليه أو طرف من اصطلاح قد رفض وتغير أنموذجه ونقض فلا يغني النظر فيه المقلد من كتاب الزمان ولا يكتفي به القاصر في أوان بعد أوان على أن معرفة المصطلح هي اللازم المحتم والمهم المقدم لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه
( إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع )

وكان الدستور الموسوم بالتعريف بالمصطلح الشريف صنعة الفاضل الألمعي والمصقع اللوذعي ملك الكتابة وإمامها وسلطان البلاغة ومالك زمامها المقر الشهابي أحمد بن فضل الله العدوي العمري سقى الله تعالى عهده العهاد وألبسه سوابغ الرحمة والرضوان يوم المعاد هو أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب عقدا وأعدلها طريقا وأعذبها وردا قد أحاط من المحاسن بجوانبها وأعقمت الأفكار عن مثله ففاز من الصنعة بأحمد مذاهبها فكان حقيقا بقوله في خطبته
( يا طالب الإنشاء خذ علمه ... عني فعلمي غير منكور )
( ولا تقف في باب غيري فما ... تدخله إلا بدستوري )
إلا أنه قد أهمل من مقاصد المصطلح أمورا لا يسوغ تركها ولا ينجبر بالفدية لدى الفوات نسكها كالبطائق والملطفات والمطلقات

المكبرة في جملة كثيرة من المكاتبات فلم يقع الغنى به عما سواه ولا الاكتفاء بالنظر فيه عما عداه
ثم تلاه المقر التقوي ابن ناظر الجيش رحمه الله بوضع دستوره المسمى بتثقيف التعريف مقتفيا أثره في الوضع وجاريا على سننه في التأليف مع إيراد ما أهمله في تعريفه وذكر ما فاته من مصطلح ما يكتب أو حدث بعد تأليفه فاشتهر ذكره وعز وجوده ووقع الضن به حتى بخل بإعارته من عرف كرمه وجوده . وكان مع ذلك قد ترك مما تضمنه التعريف مقاصد لا غنى بالكاتب عنها ولا بد للمتلبس بهذه الصناعة منها كالوصايا والأوصاف التي هي عمدة الكاتب ومراكز البريد وأبراج الحمام وغير ذلك من متممات الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فصار كل من الدستورين منفردا عن الآخر بقدر زائد ولم تقع الغنية بأحدهما عن الآخر وإن كانا في معنى واحد
وكيفما كان فالاقتصار على معرفة المصطلح قصور والإضراب عن تعرف أصول الصنعة ضعف همة وفتور والمقلد لا يوصف بالاجتهاد وشتان

بين من يعرف الحكم عن دليل ومن جمد على التقليد مع جزم الاعتقاد
( ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام )
وقد ثبت في العقول أن البناء لا يقوم على غير أساس والفرع لا ينبت إلا على أصل والثمر لا يجتنى من غير غراس
وكنت في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة عند استقراري في كتابة الإنشاء بالأبواب الشريفة السلطانية عظم الله تعالى شأنها ورفع قدرها وأعز سلطانها أنشأت مقامة بنيتها على أنه لا بد للإنسان من حرفة يتعلق بها ومعيشة يتمسك بسببها وأن الكتابة هي الصناعة التي لا يليق بطالب العلم من المكاسب سواها ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها وجنحت فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها وتقديمها على كتابة الأموال وترشيحها ونبهت فيها على ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد وما ينبغي أن يسلكه من الجواد وضمنتها من أصول الصنعة ما أربت به على المطولات وزادت وأودعتها من قوانين الكتابة ما استولت به على جميع مقاصدها أو كادت وأشرت فيها إلى وجه تعلقي بحبال هذه الصنعة وإن لم أكن بمطلوبها مليا وانتسابي إلى أهلها وإن كنت في النسبة إليها دعيا
( وليس دعي القوم في القوم كالذي ... حوى نسبا في الأكرمين عريقا )
إلا أنها قد وقعت موقع الوحي والإشارة ومالت إلى الإيجاز فاكتفت بالتلويح عن واسع العبارة فعز بذلك مطلبها وفات على المجتني ببعد التناول أطيبها فأشار من رأيه مقرون بالصواب ومشورته عرية عن الارتياب أن أتبعها بمصنف مبسوط يشتمل على أصولها وقواعدها ويتكفل بحل رموزها

وذكر شواهدها ليكون كالشرح عليها والبيان لما أجملته والتتمة لما لم يسقه الفكر إليها فامتثلت أمره بالسمع والطاعة ولم أتلكأ وإن لم أكن من أهل هذه الصناعة غير أن القريحة بذلك لم تسمح وصار المقتضي يضعف والمانع يترجح لأعذار قد تشابه محكمها وضرورات إن لم يعلمها الخلق فالله يعلمها إلى أن لاحت لي بوارق الفتح وظهرت ولله الحمد آثار المنح فعند ذلك بلغت النفس أملها وأضفت مواهب الامتنان حللها وتلا لسان العناية على الغبي الحاسد ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها )
فشرعت في ذلك بعد أن استخرت الله تعالى ( وما خاب من استخار ) وراجعت أهل المشورة وما ندم من استشار مستوعبا من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحا لما أبهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف ومتبرعا بأمور زائدة على المصطلح الشريف لا يسع الكاتب جهلها متنقلا من توجيه المقاصد وتبيين الشواهد بما يعرف به فرع كل قضية وأصلها آتيا من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلا الناظر في هذا المصنف عن رتبة أن يسأل فلا يجاب إلى رتبة أن يسأل فيجيب منبها على ما يحتاج إليه الكاتب من الفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة ودركها ذاكرا من أحوال الممالك المكاتبة عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبينا جهة قاعدتها التي هي محل الملك شرقا أو غربا أو جنوبا أو شمالا معرفا الطريق الموصل إليها برا وبحرا وانقطاعا واتصالا ذاكرا مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمالا للتعريف ضابطا لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف

وسميته صبح الأعشى في كتابة الإنشا راجيا من الله تعالى أن يكون بالمقصود وافيا وللغليل شافيا
وليعذر الواقف عليه فنتائج الأفكار على اختلاف القرائح لا تتناهى وإنما ينفق كل أحد على قدر سعته لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ورحم الله من وقف فيه على سهو أو خطأ فأصلحه عاذرا لا عاذلا ومنيلا لا نائلا فليس المبرأ من الخطل إلا من وقى الله وعصم وقد قيل الكتاب كالمكلف لا يسلم من المؤاخذة ولا يرتفع عنه القلم والله تعالى يقرنه بالتوفيق ويرشد فيه إلى أوضح طريق وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وقد رتبته على مقدمة وعشر مقالات وخاتمة

المقدمة
في مباد يجب تقديمها قبل الخوض في كتابة الإنشاء وفيها خمسة أبواب

الباب الأول في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حمقاهم وفيه فصلان
الفصل الأول في فضل الكتابة
الفصل الثاني في مدح فضلاء الكتاب وذم حمقاهم الباب الثاني في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل
الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر

الباب الثالث في صفات الكتاب وآدابهم وفيه فصلان
الفصل الأول في صفاتهم الواجبة والعرفية
الفصل الثاني في آدابهم
الباب الرابع في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام
وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان
الفصل الأول في التعريف بحقيقته
الفصل الثاني في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك بالديار المصرية وغيرها
الباب الخامس في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله وفيه
أربعة فصول
الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث
الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان وآدابه
الفصل الثالث فيما يتصرف فيه متولي هذا الديوان ويدبره ويصرفه بقلمه
الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم وما كان عليه الأمر في الزمن القديم وما استقر عليه الحال بعد ذلك

المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب وفيه بابان
الباب الأول في الأمور العلمية وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما يحتاج إليه الكاتب في الجملة
الفصل الثاني فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء من معرفة اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع وحفظ كتاب الله تعالى والكثير من الأحاديث النبوية وخطب البلغاء ورسائلهم ومكاتباتهم ومحاوراتهم ومراوضاتهم وأشعار العرب والمولدين والمحدثين وأمثال العرب ومن جرى مجراهم والمعرفة بالتاريخ وأنساب العرب ومفاخراتهم ومنافراتهم وحروبهم وأوابدهم في الجاهلية وأحوال الأمم والأحكام السلطانية وأصناف العلوم ومن برع في كل علم منها والكتب الفائقة في كل فن من فنونها وما يجري مجرى ذلك والمعرفة بصنعة الكلام وكيفية إنشائه ونظمه وتأليفه وترصيفه وما يحمد من ذلك وما يذم
الفصل الثالث في معرفة الأزمنة والأوقات من الأيام والشهور والسنين على اختلاف الأمم فيها وتفاصيل أجزائها وما ينخرط في سلك ذلك من الفصول الأربعة وأعياد الأمم

الباب الثاني فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العملية من الخط وتوابعه
ولواحقه وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر آلات الخط من الدوي وما تتخذ منه ومقاديرها وكيفياتها ومعرفة أصناف الأقلام وصنعة برايتها فتحا ونحتا وشقا وقطا ومقادير أطوالها وعدد ما يكون في الدواة منها وكيفية عمل الحبر وحل الذهب وإذابة اللازورد والمغرة العراقية وغير ذلك مما يحتاج إليه في كتابة الديوان
الفصل الثاني في الكلام على نفس الخط وأصل وضعه واختلاف الأمم فيه وما يختص من ذلك بالخط العربي من تنويع أقلامه التي أحدثها أئمة الكتابة وتباين أشكالها واختلاف أوضاعها وما يستعمل منها في ديوان الإنشاء وما يلتحق بذلك من النقط والشكل والهجاء
المقالة الثانية في المسالك والممالك وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في ذكر الأرض على سبيل الإجمال وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في معرفة شكل الأرض وإحاطة البحر بها وبيان جهاتها الأربع وما اشتملت عليه من الأقاليم السبعة الطبيعية وبيان موقع الأقاليم العرفية كمصر والشام من الأقاليم الطبيعية وذكر حدودها الجامعة لها

الفصل الثاني في ذكر البحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان في التعريف بها والسفر إليها من البحر المحيط والبحار المنبثة في أقطار الأرض ونواحي الممالك مما هو متصل به ومنقطع عنه وما بها من الجزائر المشهورة
الفصل الثالث في استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها

الباب الثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم في القديم
وما انطوت عليه ممالكهم من الأقطار وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية بالشام وخلفاء بني العباس بالعراق ثم بالديار المصرية وخلفاء الفاطميين بمصر وخلفاء بني أمية بالأندلس والمدعين الخلافة من بقايا الموحدين بأفريقة
الفصل الثاني فيما انطوت عليه الخلافة العباسية في الزمن القديم وما كانت عليه من الترتيب وما هي عليه الآن
الباب الثالث في ذكر الديار المصرية ومضافاتها من البلاد الشامية وما
يتصل بها وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في الديار المصرية وذكر فضائلها ومحاسنها وخواصها وعجائبها وما بها من الآثار القديمة وذكر نيلها ومبدئه ونهايته وزيادته ونقصه ومقاييسه وما ينتهي إليه في الزيادة وما يصل إليه في النقص والخلجان المتفرعة عنه وجسورها الحابسة لمياه النيل على أرضها وبحيرات الديار المصرية وجبالها وزروعها ورياحينها وفواكهها ومواشيها ووحوشها وطيورها وذكر حدودها وابتداء عمارتها وتسميتها مصر وتفرع

الأقاليم التي حولها عنها وذكر أعمالها وقواعدها القديمة والمباني العظيمة الباقية على ممر الأزمان وقواعدها المستقرة وما اشتملت عليه من محاسن الأبنية وذكر من ملكها جاهلية وإسلاما قبل الطوفان وبعده وترتيب أحوالها وذكر معاملاتها ونقودها وترتيب مملكتها في القديم والحديث وبيان وظائف دولها القديمة والمستقرة لأرباب السيوف والأقلام
الفصل الثاني في البلاد الشامية وما يتصل بها من بلاد الجزيرة الفراتية وبلاد الثغور والعواصم المعبر عنها الآن ببلاد الأرمن وبلاد الدربندات المعروفة الآن ببلاد الروم مما هو مضاف إلى مملكة الديار المصرية وفضل الشام وخواصه وعجائبه وحدوده وابتداء عمارته وتسميته شاما وذكر أنهاره وبحيراته وجباله المشهورة وذكر زروعه وفواكهه ومواشيه ووحوشه وطيوره وذكر أعماله وجهاته وأجناده وكوره القديمة والمستقرة وقواعده العظام وما كانت عليه في الزمن السابق ومن ملكها جاهلية وإسلاما وما استقرت عليه الآن من النيابات وترتيب أحوالها وذكر معاملاتها ونقودها وترتيب نياباتها وما بها من وظائف أرباب السيوف والأقلام وما اشتملت عليه من العربان
الفصل الثالث في البلاد الحجازية وما ينخرط في سلكها وذكر فضل

الحجاز وخواصه وعجائبه وابتداء عمارته وتسميته حجازا وذكر مياهه وعيونه وجباله المشهورة وزروعه وفواكهه ورياحينه ومواشيه ووحوشه وقواعده وأعماله ونواحيه ومعاملاته ونقوده وملوكه جاهلية وإسلاما

الباب الرابع في الممالك والبلدان المحيطة بمملكة الديار المصرية من
الجهات الأربع والطرق الموصلة إليها وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الممالك والبلدان الشرقية عن الديار المصرية وما سامت ذلك ووالاه من الجهة الجنوبية والجهة الشمالية وما اشتملت عليه هذه الجهة من مملكة إيران التي هي مملكة الفرس قديما وما انطوت عليه من بلاد الجزيرة الفراتية وبلاد العراق وبلاد خوزستان وبلاد الأهواز وبلاد فارس وبلاد كرمان وبلاد سجستان وبلاد أرمينية وأذريبجان وبلاد الجبال المعبر عنها بعراق العجم وبلاد الديلم وبلاد الجبل المعبر عنها بكيلان وبلاد مازندران وبلاد قومس وبلاد زابلستان وبلاد الغور وغيرها ومملكة توران المعروفة بمملكة الترك قديما وما اشتملت عليه من قسم ما وراء النهر من بخارى وسمرقند ومضافاتهما وبلاد تركستان وما مع ذلك وقسم خوارزم ودشت الفبجاق المشتمل على خوارزم والدشت وأعمال السراي وبلاد القرم وبلاد الأزق وما ينضم إلى ذلك من بلاد السرب والبلغار وبلاد الأولاق وبلاد الآص وبلاد الروس وغيرها وقسم ما بيد صاحب التخت المعبر عنه

بالقان الكبير المشتمل على بلاد الخطا وبلاد الصين وما اتصل بهاتين المملكتين مما يلي الجنوب من بلاد البحرين ومملكة اليمن وما منها بيد أولاد رسول وما منها بيد إمام الزيدية وممالك الهند المتصلة ببلاد الصين والواقعة في جزائر البحر الهندي
الفصل الثاني في الممالك والبلدان الغربية عن مملكة الديار المصرية من مملكة تونس المشتملة على بلاد أفريقية ومملكة تلمسان المشتملة على بلاد الغرب الأوسط ومملكة فاس المشتملة على بلاد الغرب الأقصى إلى البحر المحيط وما إلى ذلك من ممالك جزيرة الأندلس وما بقي منها بيد المسلمين وما استعاده منها ملوك الكفر
الفصل الثالث في الممالك والبلدان الجنوبية عن مملكة الديار المصرية وما اشتملت عليه من بلاد السودان من مملكة البرنو ومملكة الكانم ومملكة مالي ومملكة الحبشة وبيان ما من ذلك بيد ملوك المسلمين وما منه بيد ملوك الكفر
الفصل الرابع في الممالك والبلدان الشمالية عن مملكة الديار المصرية مما بيد المسلمين من البلاد المعروفة الآن ببلاد الروم وما بيد ملوك النصارى من جزائر بحر الروم كجزيرة قبرس وجزيرة رودس وجزيرة أقريطش وجزيرة المصطكى وجزيرة صقلية وغيرها وما إلى ذلك مما شمالي بحر الروم من مملكة القسطنطينية ومملكة البندقية ومملكة جنوه ومملكة رومية ومملكة فرنسة وغير ذلك

المقالة الثالثة في ذكر أمور تشترك فيها أنواع المكاتبات والولايات وغيرهما من ذكر الأسماء والكنى والألقاب وكيفية تعيين صاحب ديوان الإنشاء القصص والمربعات ونحوها على كتاب الإنشاء ومقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام ومقادير البياض في أول الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابات وبيان المستندات التي يصدر عنها ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات وغيرها وكتابة الملخصات وبيان الفواتح والخواتم وفيها أربعة أبواب

الباب الأول في الأسماء والكنى والألقاب وفيه فصلان
الفصل الأول في الأسماء والكنى ومواضع ذكرهما في المكاتبات والولايات وما يجري مجراهما
الفصل الثاني في ذكر الألقاب وأصل وضعها وما استعمله الكتاب منها وما كان يلقب به أهل كل دولة وما حدث من الزيادة بعد ذلك حتى صار الأمر إلى ما عليه الحال في زماننا والألقاب التي اصطلح عليها لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم وما وضع منها لأهل الكفر وبيان معنى كل لقب في اللغة ومن يقع عليه في الاصطلاح وكيفية ترتيب بعضها على بعض
الباب الثاني في بيان مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من
الأقلام ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في كتابته وفيه فصلان
الفصل الأول في مقادير قطع الورق المستعملة بدواوين الإنشاء في القديم والحديث

الفصل الثاني في بيان ما يناسب كل مقدار من مقادير قطع الورق المتقدمة الذكر من الأقلام ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في أعلى الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة

الباب الثالث في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين ومقادير
قطع الورق وما يناسبها من الأقلام وفيه فصلان
الفصل الأول في بيان المستندات التي يصدر عنها كتابة ما يكتب من تلقي كاتب السر الأمر في ذلك عن السلطان أو تلقيه وتلقي كتاب الدست بدار العدل أو شمول القصة بالخط الشريف أو كونه برسالة الدوادار أو بإشارة النائب الكافل أو إشارة أستاذ الدار أو إشارة الوزير أو بقائمة من ديوان الخاص وغيره وكتابة الملخصات التي تكتب من الكتب المطولات الواردة على الديوان وترجمة الكتب الواردة بغير العربية إلى العربية
الفصل الثاني في بيان كيفية تعيين صاحب ديوان الإنشاء القصص والمربعات وما في معناها وبيان مقادير قطع الورق المستعمل في دواوين الإنشاء من الكامل والثلثين والنصف والثلث والعادة وما يناسب كل مقدار منها من مختصر الطومار وثقيل الثلث وخفيفه والتوقيعات والرقاع ومقادير البياض المرعية في الكتابة في أعلى الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور

الباب الرابع في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان
الفصل الأول في الفواتح من البسملة والحمدلة والتصلية والسلام في أول الكتب والبعدية التي يقع بها فصل الكلام وبيان أصول ذلك وأصل مشروعيته
الفصل الثاني في الخواتم واللواحق من كتابه إن شاء الله في آخر المكتوب وكتابة التاريخ ومعرفة معناه ومعرفة التواريخ القديمة وأصل وضع التاريخ في الإسلام والتاريخ بالهجرة والوقت الذي يؤرخ فيه وبيان بناء التاريخ العربي على الليالي دون الأيام واختلاف مذاهب النحاة والكتاب في التعبير عن ذلك وبناء تاريخ العجم على الأيام دون الليالي ومعرفة استخراج كل تاريخ من تواريخ الأمم من الآخر وكتابة المستند والحمدلة في آخر الكتب والتصلية على النبي بعدها والاختتام بالحسبلة وبيان مواضع ذلك جميعه من الورق وكيفية وضعه
المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان
الباب الأول في أمور كلية تتعلق بالمكاتبات وفيه فصلان
الفصل الأول في مقدمات المكاتبات من أصول يعتمدها الكاتب فيها من حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال وتقديم مقدمة تناسب المكتوب فيه في أول المكاتبة ومعرفة الفرق بين الألفاظ الجارية في الخطاب ونحوه من

المكاتبات وما يناسب المكتوب إليه منها ومواقع الدعاء فيها والإتيان لكل مقصد من مقاصد المكاتبات بما يناسبه ومخاطبة كل أحد من المكتوب إليهم على قدر طبقته من اللغة العربية ومراعاة الفصاحة والبلاغة في الكتابة إلى من يتعاناها ومراعاة رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه ومواقع الشعر من المكاتبات وحسن الاختتام وما يجري مجرى ذلك وبيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز وما يلائمها من المعاني ومعرفة ما يختص من ذلك بالأجوبة وبيان ترتيبها
الفصل الثاني في بيان أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها ومذاهب الكتاب فيما تفتتح به المكاتبات في القديم والحديث وما يخاطب به أهل الإسلام وأهل الكفر المكاتبات وبيان كيفية طي الكتاب وختمه وحمله وتأديته وفضه وقراءته وحفظه في الإضبارة

الباب الثاني في مصطلح المكاتبات الدائرة بين كتاب الإسلام في كل زمن من
الصدر الأول وإلى زماننا وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول في الكتب الصادرة عن النبي إلى أهل الإسلام وملوك الكفر واختلاف افتتاحها بحسب المقاصد
الفصل الثاني في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس وخلفاء الفاطميين وخلفاء بني أمية بالأندلس وبقايا الموحدين بأفريقية ابتداء وجوابا
الفصل الثالث في الكتب الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما كتب به إلى النبي والخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم

وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس وخلفاء الفاطميين بالديار المصرية وخلفاء بني أمية بالأندلس وبقايا الموحدين بأفريقية وما كتب به عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم من المكاتبات الدائرة بين ملوك الديار المصرية وملوك الشرق والغرب ووزراء الخلفاء ومنفذي أمر الخلافة اللاحقين بشأو الملوك وما يلتحق بذلك من المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر واختلاف الافتتاح في ذلك
الفصل الرابع في الكتب الصادرة عن ملوك الديار المصرية على ما استقر عليه الحال من ابتداء الدولة التركية وإلى زماننا على رأس الثمانمائة مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدولة الأيوبية التي هل أصل الدولة التركية مما هو صادر عنهم إلى خلفاء بني العباس وإلى أهل المملكة بمصر والشام والحجاز وإلى عظماء القانات بممالك الشرق كقان مملكة إيران الجامع لحدودها على ما كان الأمر عليه إلى آخر أيام أبي سعيد ثم من بعده ممن لم يبلغ شأوه من القانات الصغار كالشيخ واويس ومن تلاه إلى زماننا ومن بهذه المملكة من صغار الملوك والحكام وقانات مملكة توران من صاحب ما وراء النهر من بخارى وسمرقند وما معهما وصاحب خوارزم والدشت والقان الكبير صاحب التخت وصاحب الهند وصاحب اليمن وإمام الزيدية بها وملوك بلاد المغرب كصاحب تونس وصاحب تلمسان وصاحب فاس وصاحب غرناطة من الأندلس وملوك بلاد السودان كملك البرنو وملك الكانم وصاحب مالي وملوك الأتراك بالبلاد المعروفة ببلاد الروم من الجهة

الشمالية وملوك الكفر كملك الحبشة من البلاد الجنوبية وملك القسطنطينية وسائر ملوك الفرنج وحكامهم بجزائر الروم وغيرها ممن تقدم ذكره في الكلام على المسالك والممالك
الفصل الخامس في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية بالديار المصرية من ملوك الممالك المتقدمة الذكر وحكامها من أهل الإسلام والكفر ممن ترد مكاتبته على هذه المملكة
الفصل السادس في المكاتبات الإخوانيات مما كان عليه مصطلح السلف فمن بعدهم في كل زمن وما استقر عليه الحال في زماننا
الفصل السابع في مقاصد المكاتبات من الأمور الخاصة بالملوك والخلفاء كالكتب بالبشارة بولاية الخلافة والجلوس على تخت السلطنة والدعاية إلى الدين والحث على الجهاد والإخبار عن الفتوحات والأمر بلزوم الطاعة والتنبيه على مواسم العبادة والمواعظ عند حدوث الآيات السماوية والأوامر والنواهي والنهي عن التنازع في الدين والكتب إلى من نكث العهد أو خلع الطاعة والتضييق على أهل الجرائم والبشارة بالمواسم والأعياد ووفاء النيل وركوب الميادين والعود من الغزو والكتب بالتلقيب على ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدم وبالإحماد والإذمام والكتب قرين الإنعام السلطاني من الخيل والجوارح وسائر أصناف الإنعام والاعتذار عن السلطان في الهزيمة ونحوها والأجوبة عن ذلك وما يشترك فيه الملوك ومن عداهم من التهاني كالتهنئة بالوظائف وتكرمة السلطان وتجدد الأولاد والمساكن والعود من الحج والقدوم من السفر والإبلال من المرض ورضا السلطان وغرة السنة وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى والنيروز والمهرجان والدخول في دين الإسلام والصرف عن الخدمة في سلامة ومن التعازي كالتعزية بالأب والأم والولد والقريب والصديق والتشوقات والشفاعات والتهادي والآستزارة واستماحة الحوائج

واختطاب المودة وخطبة التزويج والشكر والشكوى والاعتذار والعتاب والمداعبة وغير ذلك
الفصل الثامن في معرفة إخفاء ما في الكتب من السر إما بطريق المترجم وإما بالكتابة بما يظهر بالمعالجة من عرضه على النار أو جعل دواء عليه وما أشبه ذلك

المقالة الخامسة في الولايات وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في بيان طبقات الولايات وما يجب على الكاتب مراعاته في كتابتها مما يكتب في ولاية الخلافة والسلطنة والولايات الصادرة عن الخلفاء والملوك وما يكتب عن السلطان بالديار المصرية والشام والحجاز لأرباب السيوف وأرباب الأقلام وأرباب الوظائف الديوانية والوظائف الدينية وغير ذلك
الفصل الثاني في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال
الفصل الثالث في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات
الباب الثاني في البيعات وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى البيعات
الفصل الثاني في ذكر تنويع البيعات مما يكتب للخلفاء وأصل مشروعيتها وبيان أسباب البيعة الموجبة لأحدها على الرعية وما يجب على

الكاتب مراعاته في كتابه البيعة وبيان صورة ما يكتب فيها واختلاف مذاهب الكتاب في ذلك وذكر نسخ من بيعات الخلفاء مما كان يكتب به في الخلافة العباسية بالعراق وخلفاء الفاطميين بالديار المصرية وخلفاء بني أمية بالأندلس وما يلتحق بذلك مما يكتب به لخلفاء بني العباس الآن بالديار المصرية وما يكتب من البيعات للملوك على ما اصطلح عليه كتاب بلاد الغرب والأندلس

الباب الثالث في العهود وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى العهد
الفصل الثاني في بيان أنواع العهود مما يكتب به للخلفاء عن الخلفاء وما يكتب به للملوك عن الخلفاء وما يكتب به عن الملوك لولاة العهد بالسلطنة وللملوك المنفردين بصغار البلدان ومذاهب الكتاب في ذلك وذكر نسخ من ذلك جميعه مما كتب به ببلاد المشرق والمغرب والديار المصرية
الباب الرابع في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب
السيوف والأقلام وغيرهم وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم وخلفاء بني أمية بالشام وخلفاء بني العباس بالعراق وخلفاء بين أمية بالأندلس وخلفاء الفاطميين بمصر ومدعي الخلافة من بقايا الموحدين ببلاد المغرب ومذاهب كتاب الدول في ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب من الولايات عن الملوك لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم من مصطلح كتاب المشرق بعد انقراض الخلافة العباسية من

العراق ومصطلح كتاب المغرب والأندلس في القديم والحديث ومصطلح كتاب الديار المصرية في الدولة الطولونية وما وليها من الدولة الإخشيدية والدولة الأيوبية وما وليها من الدولة التركية وما استقر عليه الحال فيها إلى زماننا مما يكتب لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية من التقاليد والتفاويض والمراسيم والتواقيع على اختلاف مراتبها
الفصل الثالث فيما يكتب عن نواب السلطنة بالممالك الشامية لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم وذكر نسخ من ذلك

المقالة السادسة في الوصايا الدينية والمسامحات والإطلاقات والطرخانيات
وتحويل السنن والتذاكر وذكر نسخ من ذلك وفيها أربعة أبواب
الباب الأول في الوصايا الدينية وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقدماء الكتاب من ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب من ذلك في زماننا

الباب الثاني في المسامحات والإطلاقات وفيه فصلان
الفصل الأول فيما يكتب في المسامحات
الفصل الثاني فيما يكتب في الإطلاقات
الباب الثالث في الطرخانيات وفيه فصلان
الفصل الأول في طرخانيات أرباب السيوف
الفصل الثاني في طرخانيات أرباب الأقلام
الباب الرابع في تحويل السنين وما يكتب في التوفيق بين السنين القمرية
والشمسية وما يكتب في التذاكر وفيه فصلان
الفصل الأول في تحويل السنين والتوفيق بين السنين الشمسية والقمرية
الفصل الثاني في التذاكر
المقالة السابعة في الإقطاعات والمقاطعات وذكر نسخ من ذلك وفيها بابان
الباب الأول في ذكر مقدمات الإقطاعات وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر أمور تتعلق بالإقطاعات من بيان معناها وأصل وضعها في الشرع وأول من وضع ديوان الجيش في الإسلام ومن يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه

الفصل الثاني في بيان حكم الإقطاع وأنقسامه إلى إقطاع تمليك واستغلال

الباب الثاني فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث وفيه فصلان
الفصل الأول في أصل ذلك في الشرع وبيان ما أقطعه النبي من البلاد والأرضين
الفصل الثاني في صورة ما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن القديم عن خلفاء بني العباس بالعراق وخلفاء الفاطميين بمصر وعن الملوك القائمين على الخلفاء بالعراق وملوك بني أيوب بالديار المصرية وما يكتب في الإقطاعات في زماننا مما استقر عليه الحال وما يكتب في ذلك من ديوان الجيش من المربعات وما هي مترتبة عليه وما يكتب في ذلك من ديوان الإنشاء والمناشير وبيان مراتبها وذكر قطع الورق الذي تكتب فيه وما يكتب في طرر المناشير وما يلتحق بذلك من الطغراوات المشتملة على

الألقاب السلطانية التي كانت تلصق بأعلى المناشير بين الطرة والبسملة وما يختص من ذلك بالزيادات والتجديدات

المقالة الثامنة في الأيمان وفيها بابان
الباب الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان وفيه
فصلان الفصل الأول فيما يقع به القسم من الأقسام التي أقسم الله تعالى بها والأقسام التي يقسم بها الخلق من أقسام العرب في الجاهلية والأقسام الشرعية التي يحلف بها في الشريعة
الفصل الثاني في بيان اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس
الباب الثاني في نسخ الأيمان الملوكية وفيه فصلان
الفصل الأول في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء
الفصل الثاني في الأيمان المتعلقة بالملوك مما يحلف به المسلمون من أهل السنة وأرباب البدع وأهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس وما يحلف به الحكماء
المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك وفيه خمسة أبواب

الباب الأول في الأمانات وفيه فصلان
الفصل الأول في عقد الأمان لأهل الكفر
الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام وذكر أصل ذلك من السنة وإيراد نسخ من ذلك
الباب الثاني في الدفن وفيه فصلان
الفصل الأول في أصله وكونه مأخوذا عن العرب
الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك
الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة وما يتفرع على ذلك وفيه فصلان
الفصل الأول في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في متعلقات أهل الذمة وإلزامهم بالجري على ما يقتضيه عقد الذمة لهم
الباب الرابع في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول يتعين على الكاتب معرفتها من بيان معنى الهدنة وما يرادفها من الألفاظ وبيان أصل وضعها في الشرع وما يجب على الكاتب مراعاته في كتابتها
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في المهادنات واختلاف مذاهب كتاب الشرق والغرب والديار المصرية في ذلك وذكر نسخ منها وبيان ما يكتب من ذلك من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وما يرد من ذلك مما يكتب عن ملوك الكفر

الباب الخامس في عقود الصلح الواقعة بين ملكين مسلمين وفيه فصلان
الفصل الأول في أصول تعتمد في ذلك
الفصل الثاني فيما يكتب في عقد الصلح وذكر نسخ من ذلك مما كتب به عن الخلفاء والملوك في القديم والحديث إلى زماننا
المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتاب ويتنافسون في عملها
ليس لها تعلق بكتابة الدواوين السلطانية ولا غيرها وفيها بابان
الباب الأول في الجديات وفية ستة فصول
الفصل الأول في المقامات وذكر نسخ منها
الفصل الثاني في الرسائل من الرسائل الملوكية المشتملة على الغزو والصيد ونحو ذلك والرسائل الواردة مورد المدح والرسائل الواردة مورد الذم ورسائل المفاخرات بين الأشياء النفيسة كالمفاخرة بين العلوم والسيف والقلم ونحو ذلك والرسائل المشتملة على الأسئلة والأجوبة والرسائل المكتتبة بالحوادث والماجريات وذكر نسخ من ذلك جميعه
الفصل الثالث في قدمات البندق وذكر نسخ منه
الفصل الرابع في الصدقات الملوكية وصدقات الأعيان
الفصل الخامس فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب من الإجازة

بالفتاوي وعراضات الكتب والمرويات وما يكتب على الكتب المصنفة والقصائد من التقريظات وما يكتب عن القضاة من التقاليد الحكمية وإسجالات العدالة والمطلقات وغير ذلك
الفصل السادس في العمرات التي تكتب للحاج

الباب الثاني الهزليات وفيه فصلان
الفصل الأول فيما اعتنت الملوك ببعضه
الفصل الثاني في سائر أنواع الهزل
الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة
أبواب
الباب الأول في الكلام على البريد وفيه فصلان
الفصل الأول في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها من معرفة معنى البريد وأول من وضعه في الجاهلية والإسلام وبيان معالمه
الفصل الثاني في ذكر مراكز البريد بالديار المصرية والبلاد الشامية على اختلاف طرقها
الباب الثاني في مطارات الحمام الرسائل وذكر أبراجها المقررة بالديار
المصرية والبلاد الشامية وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر مطاراته واعتناء الملوك بشأنه في القديم والحديث ومسافات طيرانه
الفصل الثاني في الأبراج المقررة له بالديار المصرية والبلاد الشامية

الباب الثالث في ذكر مراكب الثلج الواصل من البلاد الشامية إلى الملوك
بالديار المصرية وفيه فصلان
الفصل الأول في مراكبه
الفصل الثاني في هجنه
الباب الرابع في المناور والمحرقات وفيه فصلان
الفصل الأول في المناور التي كان يستعلم بها حركة التتار إلى البلاد الإسلامية
الفصل الثاني في المحرقات التي كان يتوسل بها إلى إحراق زروع التتار ومراعيهم بأطراف بلادهم

المقدمة في المبادىء التي يجب تقديمها قبل الخوض في كتابة الإنشاء وفيها
خمسة أبواب

الباب الأول
في فضل الكتابة
ومدح فضلاء أهلها وذم حمقاهم وفيه فصلان الفصل الأول
في فضل الكتابة
أعظم شاهد لجليل قدرها وأقوى دليل على رفعة شأنها أن الله تعالى نسب تعليمها إلى نفسه واعتده من وافر كرمه وإفضاله فقال عز اسمه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) مع ما يروى أن هذه الآية والتي قبلها مفتتح الوحي وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها ما لا خفاء فيه
ثم بين شرفها بأن وصف بها الحفظة الكرام من ملائكته فقال جلت قدرته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) ولا أعلى رتبة وأبذخ شرفا مما وصف الله تعالى به ملائكته ونعت به حفظته ثم زاد ذلك تأكيدا ووفر محله إجلالا وتعظيما بأن أقسم بالقلم الذي هو آلة الكتابة وما يسطر به فقال تقدست عظمته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون )

والإقسام لا يقع منه سبحانه إلا بشريف ما أبدع وكريم ما اخترع كالشمس والقمر والنجوم ونحوها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرفها ورفعة قدرها
ثم كان نتيجة تفضيلها وأثرة تعظيمها وتبجيلها أن الشارع ندب إلى مقصدها الأسنى وحث على مطلبها الأغنى فقال قيدوا العلم بالكتاب مشيرا إلى الغرض المطلوب منها وغايتها المجتناة من ثمرتها وذلك أن كل ذي صنعة لا بد له في معاناتها من مادة جسمية تظهر فيها الصورة وآلة تؤدي إلى تصويرها وغرض ينقطع الفعل عنده وغاية تستثمر من صنعته
والكتابة إحدى الصنائع فلا بد فيها من الأمور الأربعة
فمادتها الألفاظ التي تخيلها الكاتب في أوهامه وتصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة في نفسه بالقوة والخط الذي يخطه القلم ويقيد به تلك الصور وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة وآلتها القلم وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية فتكمل قوة النطق وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب وتحفظ صوره ويؤمن عليه من التغير والتبدل والضياع وغايتها الشيء المستثمر منها وهي انتظام جمهور المعاون والمرافق العظيمة العائدة في أحوال الخاصة والعامة بالفائدة الجسيمة في أمور الدين والدنيا
ولما كان التقييد بالكتابة هو المطلوب وقع الحض من الشارع عليه والحث على الاعتناء به تنبيها على أن الكتابة من تمام الكمال من حيث إن العمر قصير والوقائع متسعة وماذا عسى أن يحفظه الإنسان بقلبه أو يحصله في ذهنه

قال ذو الرمة لعيسى بن عمر اكتب شعري فالكتاب أعجب إلي من الحفظ إن الأعرابي لينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة فيضع موضعها كلمة في وزنها لا تساويها والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام
وقد أطنب السلف في مدح الكتابة والحث عليها فلم يتركوا شأوا لمادح حتى قال سعيد بن العاص من لم يكتب فيمينه يسرى وقال معن بن زائدة إذا لم تكتب اليد فهي رجل وبالغ مكحول فقال لا دية ليد لا تكتب قال الجاحظ ولو لم يكن من فضل الكتابة إلا أنه لا يسجل نبي سجلا ولا خليفة مرضي ولا يقرأ كتاب على منبر من منابر الدنيا إلا إذا استفتح بذكر الله تعالى وذكر رسوله وذكر الخليفة ثم يذكر الكتاب كما هو مشهور في السجلات التي سجلها رسول الله لأهل نجران وغيرهم وأكثرها بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في شرفه ونبله وسابقته ونجدته
ومن ثم قال المؤيد الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة

إليها ينتهي الفضل وعندها تقف الرغبة
ومن كلام أبي جعفر الفضل بن أحمد في جملة رسالة الكتابة أس الملك وعماد المملكة وأغصان متفرقة من شجرة واحدة والكتابة قطب الأدب وملاك الحكمة ولسان ناطق بالفصل وميزان يدل على رجاحة العقل والكتابة نور العلم وفدامة العقول وميدان الفضل والعدل والكتابة حلية وزينة ولبوس وجمال وهيبة وروح جارية في أقسام متفرقة والكتابة أفضل درجة وأرفع منزلة ومن جهل حق الكتابة فقد وسم بوسم الغواة الجهلة وبالكتابة والكتاب قامت السياسة والرياسة ولو أن فضلا ونبلا تصورا جميعا تصورت الكتابة ولو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربا لكل صنعة
قال صاحب مواد البيان ومن المعلوم أن جميع الصنائع وسائل إلى درك المطالب ونيل الرغائب وأن عوائدها متفاضلة في الكثرة والقلة بحسب تفاضلها في الرفعة والضعة إذ كان منها ما لا يفي بالبلغة من قوام العيش نحو الصنائع المهينة السوقية الداخلة في المرافق العامية ومنها ما يوصل إلى الثروة ويجاوز حد الكفاية ويحظى بالمال والنعم الخطيرة وهي الصنائع الخاصة وإذا تؤمل ما هذه صفته منها علم أنه ليس منها ما يلحق بصناعة الكتابة ولا يساويها في هذا النوع ولا ما يكسب ما تكسبه من الفوائد والمعاون مع حصول الرفاهية والتنزه عن دناءة المكاسب ولا ما يوصل إليه من الحظوية ورفاهية العيش ومشاركة الملوك في اقتناء المساكن الفسيحة والملابس الرفيعة والمراكب النبيلة والدواب النفيسة والخدم المستحسنة

وغير ذلك من آلات المروءة والأدوات الملوكية في أقرب المدد وأقل الأزمنة وناهيك بذلك من فضل هذه الصناعة وشرفها وارتفاع خطرها وسمو قدرها إذ كان لها سعة لمثل هذه الجدوى التي لا يوجد مثلها في غيرها من الصنائع
وكفى بالكتابة شرفا أن صاحب السيف يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه
قال في مواد البيان ومن ثم صار السلطان الذي هو رئيس الناس ومستخدم أرباب كل صناعة ومصرفهم على أغراضه يفتخر بأن تكون فضيلتها حاصلة له مع ترفعه عن التلبس بصناعة من الصنائع الحسنة وأنفته أن يقع اسم من أسمائها عليه قال وذلك أنا نرى كل ملك وسلطان يؤثر أن يكون له حظ من بلاغة العبارة وجودة الخط وفي ذلك ما يدل على أنها أشرف الصنائع رتبة وأعلاها درجة وأن المشاركين للسلطان فيها ممن تكتنفه سياسته أفضل من سائر المتصلين بغيرها من الصنائع الأخر فقد علم أن الصنائع كلها معاون ومرافق لا تنتظم عمارة العالم إلا بتضافرها ومرافدة بعضها لبعض وإنها على ضريين خاصية وعامية فالعامية صنائع المهنة وأهل الأسواق والحرف وإن شاركهم الخاصة في الحاجة إليها لأن بها تنتظم أمور المعاملات وتعمر البلاد والخاصية التي تقع في حيز الملوك والسلاطين ويتوزعها أعوانهم وأتباعهم وهذه الصنائع إنما يقع التمييز بين أقدارها بالنظر إلى مقدار عائدتها في أمور الملك والسلطان والرعية مما كان معلقا بالأمر الأهم وكانت الحاجة إليه ألزم وقدر المنفعة به أجسم والفساد العائد بوقع خلل فيه على أسباب المملكة أعظم ومرتبته في الصنائع الخاصة أشرف وألطف
وليس من الصنائع صناعة تجمع هذه الفضائل إلا صناعة الكتابة وذلك لأن الملك يحتاج في انتظام أمور سلطانه إلى ثلاثة أشياء لا ينتظم ملكه مع وقوع خلل فيها

أحدها رسم ما يجب أن يرسم لكل من العمال والمكاتبين عن السلطان ومخاطبتهم بما تقتضيه السياسة من أمر ونهي وترغيب ووعد ووعيد وإحماد وإذمام
والثاني استخراج الأموال من وجوهها واستيفاء الحقوق السلطانية فيها
والثالث تفريقها في مستحقها من أعوان الدولة وأوليائها الذين يحمون حوزتها ويسدون ثغورها ويحفظون أطرافها ويذبون عنها وعن رعاياها وغير ذلك من وجوه النفقات الخاصة والعامة ومعلوم أن هذه الأعمال لا يقوم بها إلا كتاب السلطان ولا سبيل للكتاب إلى الكتابة فيها إلا بالتدبر في صناعة الكتابة فهي إذن من أشرف الصنائع لعظيم عائدتها على السلطان ودولته قال الجاحظ من أبين فضلها أن جعلت في علية الناس قال صاحب مواد البيان وقد عرف أن الذين وضعوها وابتدهوها ورسموا رسومها هم الأنبياء عليهم السلام
وقد ذكر علماء التاريخ أن يوسف عليه السلام كان يكتب للعزيز وهارون ويوشع بن نون كانا يكتبان لموسى عليه السلام وسليمان بن دواد كان يكتب لأبيه وآصف بن برخيا ويوسف بن عنقا كانا يكتبان لسليمان عليه السلام ويحيى بن زكريا كان يكتب للمسيح عليه السلام
وقد انتقل جماعة منها إلى الخلافة فأبو بكر كان يكتب لرسول الله ثم صارت الخلافة إليه بعد ذلك وعمر بن الخطاب كان يكتب للنبي ثم صارت الخلافة إليه وعثمان بن عفان كان يكتب للنبي ثم كتب لأبي بكر بعده ثم صارت الخلافة إليه ومعاوية كان يكتب للنبي ثم صارت الخلافة إليه بعد الحسن ومروان بن الحكم كان يكتب لعثمان بن عفان ثم صار الأمر

إليه فيما بعد وعبد الملك بن مروان كان يكتب لمعاوية بن أبي سفيان ثم انتقل الأمر إليه إلى غير هؤلاء من أهل هذه الصنعة ممن فرع الذروة العلية من السيادة والسنام الباذخ من الرياسة على تغير الدول وتنقلها بين العرب والعجم وفي ذلك ما يدل على علو خطرها وارتفاع قدرها
قال صاحب العقد وقد تنبه قوم بالكتابة بعد الخمول وصاروا إلى الرتب العلية والمنازل السنية منهم سرجون بن منصور الرومي كان روميا خاملا فرفعته الكتابة وكتب لمعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان ومنهم حسان النبطي كاتب الحجاج وسالم مولى هشام بن عبد الملك وعبد الحميد الأكبر وعبد الصمد وجبلة بن عبد الرحمن وقحذم جد الحجاج بن هشام القحذمي وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية والربيع والفضل بن الربيع ويعقوب بن داود ويحيى ابن خالد وجعفر بن يحيى وابن المقفع والفضل بن سهل والحسن بن سهل وجعفر بن الأشعث وأحمد بن يوسف وأبو عبد السلام الجنديسابوري وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب وإبراهيم بن العباس الصولي ونجاح بن سلمة وأحمد بن عبد العزيز وزاد صاحب الريحان والريعان مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان قلت وهؤلاء بعض من شرفته الكتابة ورفعت قدره ولو اعتبر من شرف بالكتابة وارتفع قدره

بها لفاتوا الحصر وخرجوا عن الحد وهذا الوزير المهلبي كان في أول أمره في شدة عظيمة من الفقر والضائقة وكان قد سافر مرة ولقي في سفره ضيقة حتى اشتهى اللحم ولم يقدر عليه فقال ارتجالا
( ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه )
( ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من الموت الكريه )
( ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه )
وكان معه رفيق له فاشترى لحما وأطعمه ثم ترقى بالكتابة حتى وزر لمعز الدولة بن بويه الديلمي في جلالة قدره وهذا القاضي الفاضل أصله من بيسان من غير بيت الوزارة رفعته الكتابة حتى وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وعلت رتبته عنده حتى بلغ من رتبته لديه أن كان يكتب في كتب السلطان صلاح الدين عن نفسه بما أحب فكتب مرة السلام على الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين في كتاب عن أبيه ثم كتب شعرا منه
( وغريبة قد جئت فيها أولا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني )
( فرسولي السلطان في إرسالها ... والناس رسلهم إلى السلطان )
وأبلغ من ذلك كله أبو إسحاق الصابي صاحب الرسائل المشهورة كان على دين الصابئة مشددا في دينه وبلغت به الكتابة إلى أن تولى ديوان الرسائل عن الطائع والمطيع وعز الدولة بن بويه وجهد فيه عز الدولة أن

يسلم فلم يقع له ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصيدة فلامه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا فقال إنما رثيت فضله
قال في مواد البيان ولا عبرة بمن قعد به الجد وتخلف عنه الحظ من أهل هذه الصناعة إذ العبرة بالأكثر لا بالقليل النادر على أن المبرز في هذه الصناعة إن قعدت به الأيام في حال فلا بد أن يرفع قدره في أخرى لأن دولة الفاضل من الواجبات ودولة الجاهل من الممكنات خصوصا إذا صادف الكاتب الفاضل ملكا فاضلا أو رئيسا كاملا فإنه يوفيه حقه ويرقيه إلى حيث استحقاقه فمن كلام بعض الحكماء تسقط الحظوظ في دولة الملك الفاضل فلا يتسنم الرتبة العلية إلا مستوجبها بالفضيلة
وبالجملة ففضل الكتابة أكثر من أن يحصى وأجل من أن يستقصى وإنما حرمت الكتابة على النبي ردا على الملحدين حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر تعالى بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) وأكد ذلك بقوله ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذا لارتاب المبطلون )
وقد كان يأتي من القصص والأخبار الماضية من غير مدارسة ولا نظر في كتاب بما لا يعمله إلا نبي كما روي أن قريشا بمكة وجهت إلى اليهود أن عرفونا شيئا نسأله عنه فبعثوا إليهم أن سلوه عن أنبياء أخذوا أحدهم فرموه في بئر وباعوه فسألوه فنزلت سورة يوسف جملة واحدة بما عندهم في التوراة وزيادة
قال العتبي الأمية في رسول الله فضيلة وفي غيره نقيصة

لأن الله تعالى لم يعلمه الكتابة لتمكن الإنسان بها من الحيلة في تأليف الكلام واستنباط المعاني فيتوسل الكفار إلى أن يقولوا اقتدر بها على ما جاء به
قال صاحب مواد البيان وذلك أن الإنسان يتوصل بها إلى تأليف الكلام المنثور وإخراجه في الصور التي تأخذ بمجامع القلوب فكان عدم علمه بها من أقوى الحجج على تكذيب معانديه وحسم أسباب الشك فيه
وقد حكى أبو جعفر النحاس أن المأمون قال لأبي العلاء المنقري بلغني أنك أمي وأنك لا تقيم الشعر وأنك تلحن في كلامك فقال يا أمير المؤمنين أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله أميا وكان لا ينشد الشعر فقال له المأمون سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل يا جاهل ذلك في النبي فضيلة وفيك وفي أمثالك نقيصة
قال الجاحظ وكلام أبي العلاء المنقري هذا من أوابد ما تكلم به الجهال على أن أصحابنا الشافعية رحمهم الله قد حكوا وجهين في أنه هل كان يعلم الكتابة أم لا وصححوا أنه لم يكن يعلمها معجزة في حقه كما تقدم
قال أبو الوليد الباجي من المالكية ولو كتب لكان معجزة لخرق العادة قال وليست بأول معجزاته
وإذا كانت الكتابة من بين سائر الصناعات بهذه الرتبة الشريفة والذروة

المنيفة كان الكتاب كذلك من بين سائر الناس قال الزبير بن بكار الكتاب ملوك وسائر الناس وقال ابن المقفع الملوك أحوج إلى الكتاب من الكتاب إلى الملوك ومن كلام المؤيد كتاب الملوك عيونهم المبصرة وآذانهم الواعية وألسنتهم الناطقة
وكانت ملوك الفرس تقول الكتاب نظام الأمور وجمال الملك وبهاء السلطان وخزان أمواله والأمناء على رعيته وبلاده وهم أولى الناس بالحباء والكرامة وأحقهم بمحبة السلام
ومن كلام أبي جعفر الفضل بن أحمد للكتاب أقرت الملوك بالفاقة والحاجة وإليهم ألقيت الأعنة والأزمة وبهم اعتصموا في النازلة والنكبة وعليهم اتكلوا في الأهل والولد والذخائر والعقد وولاة العهد وتدبير الملك وقراع الأعداء وتوفير الفيء وحياطة الحريم وحفظ الأسرار وترتيب المراتب ونظم الحروب
قال في مواد البيان وما من أحد يتوسل إلى السلاطين بالأدب ويمت إليهم من العلم بسبب إلا وهو باقله لا ينول ما ينوله إلا على وجه الإرفاق خلا الكاتب فإنه ينول الرغائب العظيمة من طريق الاستحقاق لموضع الافتقار إليه والحاجة ومن المعلوم أنه لا بد من واسطة تقوم بين الملوك والرعية لبعد ما بين الطبقتين العليا والدنيا وليس من طبقات الناس من يساهم الملوك في جلالة القدر وعظيم الخطر ويشارك العامة في التواضع والاقتصاد سوى الكتاب فاحتيج إليهم للسفارة في مصالح الرعية عند

السلاطين واستيفاء حقوق السلاطين من الرعية والتلطف في الصلة بينهما قال ولعلم الملوك بخطر هذه الصناعة وأهلها وعائدتها في أمور السلطان صرفوا العناية إلى الكتبة وخصوهم بالحظوة وعرفوا لهم فضل ما جمعوه من الرأي والصناعة وكانت ملوك الفرس لرفعة رتبة الكتابة عندهم تجمع أحداث الكتاب ونواشئهم المعترضين لأعمال الملك ويأمرون رؤساء الكتابة بامتحانهم فمن رضي أقر بالباب ليستعان به ثم يأمر الملك بضمهم إلى العمال واستعمالهم في الأعمال وينقلهم في الخدم على قدر طبقاتهم من حال إلى حال حتى ينتهي بكل واحد منهم إلى ما يستحقه من المنزلة ثم لا يمكن أحد ممن عرض اسمه على الملك من الخدمة عند أحد إلا بإذن الملك
وفي عهد سابور وليكن كاتبك مقبول القول عندك رفيع المنزلة لديك يمنعه مكانه منك وما يظن به من لطافة موضعه عندك من الضراعة لأحد والمداهنة له ليحمله ما أوليته من الإحسان على محض النصيحة لك ومنابذة من أراد عيبك وانتقاص حقك ولم يكن يركب الهماليج في أيامهم إلا الملك والكاتب والقاضي
قلت ولشرف الكتابة وفضل الكتاب صرف كثير من أهل البلاغة عنايتهم إلى وضع رسائل في المفاخرة بين السيف والقلم إشارة إلى أن بهما قوام الملك وترتيب السلطنة بل ربما فضل القلم على السيف ورجح

عليه بضروب من وجوه الترجيح كما قال بعضهم مفضلا للقلم بقسم الله تعالى به
( إن افتخر الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم )
( كفى قلم الكتاب عزا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم )
وكما قال ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
والمعنى في ذلك أنها تؤثر في إرهاب العدو على بعد والسيوف لا تؤثر إلا عن قرب مع ما فضل به القلم من زيادة الجدوى والكرم وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله مشيرا للقلم
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهيت له الآجام حين نشا بها ... كرم السيول وصولة الآساد )

الفصل الثاني في مدح فضلاء الكتاب وذم حمقاهم
أما فضلاء الكتاب فلم يزل الشعراء يلهجون بمدح أشراف الكتاب وتقريظهم ويتغالون في وصف بلاغاتهم وحسن خطوطهم فمن أحسن ما مدح به كاتب قول ابن المعتز
( إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا )
وقول الآخر
( يؤلف اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب
وقول الآخر

( وكاتب يرقم في طرسه ... روضا به ترتع ألحاظه )
( فالدر ما تنظم أقلامه ... والسحر ما تنثر ألفاظه )
وقول الآخر
( إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله )
( وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له )
وقول الآخر
( لا يخطر الفكر في كتابته ... كأن أقلامه لها خاطر )
( القول والفعل يجريان معا ... لا أول فيهما ولا آخر )
وقول الآخر
( وشادن من بني الكتاب مقتدر ... على البلاغة أحلى الناس إنشاء )
( فلا يجاريه في ميدانه أحد ... يريك سحبان في الإنشاء إن شاء )
وكذلك أولعوا بذم حمقى الكتاب ولهجوا بهجوهم في كل زمن
فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجو كاتبا
( حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد )
( فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثيابك في المداد )

وقول الآخر
( وكاتب كتبه تذكرني القرءان ... حتى أظل في عجب )
( فاللفظ قالوا قلوبنا غلف ... والخط تبت يدا أبي لهب )
وقول الآخر
( يعي غير ما قلنا ويكتب غير ما ... يعيه ويقرا غير ما هو كاتب )
وقول الآخر
( وكاتب أقلامه ... معودات بالغلط )
( يكشط ما يكتبه ... ثم يعيد ما كشط )
وقول ابن أبي العيناء يهجو أسد بن جهور الكاتب
( أو ما ترى أسد بن جهور قد غدا ... متشبها بأجلة الكتاب )
( لكن يخرق ألف طومار إذا ... ما احتيج منه إلى جواب كتاب )
وقد أكثر الناس من الحكايات المضحكة عن هذا النوع من الكتاب مما صاروا به هزؤا على ممر الزمان وتعاقب الأيام كما حكي عن محمد بن يحيى الكاتب أنه قرأ على بعض الخلفاء كتابا يذكر فيه حاضر طي فصحفه حاضرطي فسخر منه أهل المجلس
ويروى أن كتاب الدواوين ألزموا بعض العمال مالا مخرجا عليه فبعث بحسابه إلى عبيد الله بن سليمان فوقع عليه هذا هذا ورد الحساب إلى العامل فقدر العامل بضعف آدابه أنه صحح حجته وقبل الحساب منه كما يقال في تثبت الشيء هو هو وأخرج التوقيع إلى الكتاب وناظرهم على أن ذلك

يوجب إزالة المال الذي لزمه عنه فلم يفهم أحد منهم ما أراد عبيد الله بن سليمان فرد التوقيع إلى عبيد الله فلم يزده في الجواب على أن شدد الكلمة الأخيرة ووقع تحتها الله المستعان إعلاما له أن لفظ هذا بالتشديد بمعنى الهذيان
وحكى العباس بن أسد أن أبا الحسن علي بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن عيسى كتابا من مكة فقرأه ثم رمى به إلي فقال اقرأ فقرأت كتابي إليك يوم القر بالرفع فقال ما معنى يوم القر فقلت القر البرد فقال إنما هو يوم القر بالفتح حين يقر الناس بمنى وهو اليوم الثاني من النحر ومثل ذلك كثير
قال صاحب نهاية الأرب وقد اتسع الخرق في ذلك ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتة وزادوا عن الإحصاء حتى إن فيهم من لا يفرق بين الضاد والطاء قال ولقد بلغني عن بعض من أدخل نفسه في الكتابة وتوسل إلى أن كتب في ديوان الرسائل أنه رسم له بكتاب يكتبه في حق رجل اسمه طرنطاي فقال لكاتب إلى جانبه يكتب طرنطاي بالساقط أو بالقائم قال وصار الآن حد الكاتب عند هؤلاء الجهال أنه يكتب على المجود مدة ويتقن بزعمه أسطرا فإذا رأى من نفسه أن خطه قد جاد أدنى جودة أصلح بزته وركب برذونه أو بغلته وسعى في الدخول إلى ديوان الإنشاء والانضمام إلى أهله ولعل الكتابة إنما يحصل ذمها بسبب هؤلاء وأمثالهم ولله در القائل

( تعس الزمان فقد أتى بعجاب ... ومحا فنون الفضل والآداب )
( وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب )
قلت وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعاجم على الأمر وتوسيد الأمر لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك لعدم إلمامه بالعربية والمعرفة بمقاصدها حتى صار الفصيح لديهم أعجم والبليغ في مخاطبتهم أبكم ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد
( وصناعتي عربية وكأنني ... ألقى بأكثر ما أقول الروما )
( فلمن أقول وما أقول وأين لي ... فأسير لا بل أين لي فأقيما )
وقد حكى أبو جعفر النحاس عن بعضهم أنه قال حضرت مجلس رجل فأحجمت عن مسألة حاجتي لكثرة جمعه فرأيته وقد أملى على كاتبه ولم أكتب بخطي إليك خوفا من أن تقف على رداوت فكتب كتابه رداوته على ما يجب فقال أما تحسن الهجاء أين الواو فأثبتها الكاتب فخس حينئذ في عيني فاجترأت عليه فدنوت منه وسألته حاجتي
وحكى صاحب ذخيرة الكتاب عن بعض الوزراء أنه تقدم إلى كاتبه بأن يكتب ألقاب أمير ليثبتها على برج أنشأه فكتب أمر بعمارة هذا البرج أبو فلان فلان واستوفى ألقابه إلى آخرها ودفع المثال إلى الوزير ليقف عليه فلما قرأه غضب حتى ظهر الغضب في وجهه وأنكر على الكاتب كونه كتب أبو فلان بالواو ولم يكتب أبي فلان بالياء محتجا عليه بأن أبو من ألفاظ العامة

فلا تعظيم بها فقال الكاتب إن الحال اقتضت رفعه من حيث إنه في هذا الموضع فاعل فزاد إنكاره عليه وقال متى رأيت الأمير فاعلا في هذا الموضع يحمل وينقل الحجارة على رأسه حتى تنسبه إلى هذا والله لولا سالف خدمتك لفعلت بك
قال ابن حاجب النعمان ولما كان أرباب الأمور وولاتها من الخلفاء فمن دونهم ينقدون ما يكتب به الكتاب عنهم وما يرد عليهم من الكتب ويناقشون على ما يقع فيها من خطأ أو يدخلها من خلل ويقدمون الفاضل ويرفعون درجته ويؤخرون الجاهل ويحطون رتبته كان الكتاب حينئذ يتبارون على إقتناء الفضيلة ويترفعون عن أن يعلق بهم من الجهل أدنى رذيلة ويجهدون في معرفة ما يحسن ألفاظهم ويزين مكاتباتهم لينالوا بذلك أرفع رتبة ويفوزوا بأعظم منزلة
ولما انعكست القضية في تقديم من غلط بهم الزمان وغفل عنهم الحدثان واستولت عليهم شرة الجهل ونفرت منهم أوانس الرياسة والفضل وصار العالم لديهم حشفا والأديب محارفا والمعرفة منكرة والفضيلة منقصة والصمت لكنه والفصاحة هجنه اجتنبت الآداب اجتناب المحارم وهجرت العلوم هجر كبائر المآثم
ولو أنصف أحد هؤلاء الجهال لكان بالحشف أولى وبالحرفة والمنقصة أجدر وأحرى لكنه جهل الواجبات وأضاعها وسفه حق المروءة وأفسد أوضاعها ويوصف بالحي الناطق والصامت أرجى منه عند أهل النظر وذوي الحقائق

الباب الثاني من المقدمة في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول

الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة
التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل
الكتابة في اللغة مصدر كتب يقال كتب يكتب كتبا وكتابا وكتابة ومكتبة وكتبة فهو كاتب ومعناها الجمع يقال تكتبت القوم إذا اجتمعوا ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير ونحوه ومن ثم سمي الخط كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض كما سمي خرز القربة كتابة لضم بعض الخرز إلى بعض قال ابن الأعرابي وقد تطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى ( أم عندهم الغيب فيهم يكتبون ) أي يعلمون وعلى حد ذلك قوله في كتابه لأهل اليمن حيث بعث إليهم

معاذا وغيره إني بعثت إليكم كاتبا قال ابن الأثير في غريب الحديث أراد عالما سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علما ومعرفة وكان الكاتب عندهم قليلا وفيهم عزيزا
أما في الاصطلاح فقد عرفها صاحب مواد البيان بأنها صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها ولم يبين مقاصد الحد ولا ما دخل فيه ولا ما خرج عنه غير أنه فسر في موضع آخر معنى الروحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه والجثمانية بالخط الذي يخطه القلم وتقيد به تلك الصورة وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة وفسر الآلة بالقلم وبذلك يظهر معنى الحد وما يدخل فيه ويخرج عنه ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين هما كتابة الإنشاء وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
إلا أن العرف فيما تقدم من الزمان قد خص لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتى كانت الكتابة إذا أطلقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء والكاتب إذا أطلق لا يراد به غير كاتبها حتى سمى العسكري كتابه ( ( الصناعتين الشعر والكتابة ) ) يريد كتابة الإنشاء وسمى ابن الأثير كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر يريد كاتب الإنشاء إذ هما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها

ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره وصار لصناعة الإنشاء اسمان خاص يستعمله أهل الديوان ويتلفظون به وهو كتابة الإنشاء وعام يتلفظ به عامة الناس وهو التوقيع فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها وهو مصدر أنشأ الشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما أو أن المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه
وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصة بسببها ثم أطلق على كتابة الإنشاء جملة
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف يقال جنب هذه الناقة موقع إذا أثرت فيه حبال الأحمال تأثيرا خفيفا وحكي أن أعرابية قالت لجارتها حديثك ترويع وزيارتك توقيع تريد أن زيارتها خفيفة قلت ويحتمل أن يكون من قولهم وقع الأمر إذا حق ولزم ومنه قوله تعالى ( ووقع القول عليهم بما ظلموا ) أي حق أو من قولهم وقع الصيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته يجلوه لأنه بتوقيعه في الرقعة يجلو اللبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة أو من موقعة الطائر وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقع على الرقعة يألف مكانا منها يوقع فيه كحاشية القصة ونحوها أو من الموقعة بالتسكين وهو المكان

المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقع في الناس وعلو شأنه أو غير ذلك
ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء أنه قد تقدم أن التوقيع في الأصل اسم لما يكتب على القصص ونحوها وسيأتي أن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن في معناهم وحينئذ فيكون التوقيع هو الأصل الذي يبني عليه المنشىء وقد يكون سمي بأصله الذي نشأ عنه مجازا وقد يعبر عنها بصناعة الترسل تسمية للشيء بأعم أجزائه إذ الترسل والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء وأعمها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك ولا سوقة بخلاف الولايات فإنها مختصة بأرباب المناصب العلية دون غيرهم وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله تسمية كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل

الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
قد تقدم في الفصل الذي قبله أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين كتابة الإنشاء وكتابة الأموال
فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها
وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل

المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجر القول فيه إلى صنعة الحساب ولا شك أن لكل من النوعين قدرا عظيما وخطرا جسيما إلا أن أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدمونها ويحتجون لذلك بأمور
منها أن كتابة الإنشاء مستلزمة للعلم بكل نوع من الكتابة ضرورة أن كاتب الإنشاء يحتاج فيما يكتبه من ولاياته ومكاتباته مما يتعلق بكتابة الأموال إلى أن يمثل لهم في وصاياه من صناعتهم ما يعتمدونه ويبين لهم ما يأتونه ويذرونه فلا بد أن يكون عالما بصناعة من يكتب له بخلاف كاتب الأموال فإنه إنما يعتمد على رسوم مقررة وأنموذجات محررة لا يكاد يخرج منها ولا يحتاج فيها إلى تغيير ولا زيادة ولا نقص
ومنها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدال على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ التي هي حلية الألسنة وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة أكثر من تنافسهم في الدر والجوهر
ومنها ما تستلزمه كتابة الإنشاء من زيادة العلم وغزارة الفضيلة وذكاء القريحة وجودة الروية لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها وفي ذلك من المشقة ما لا خفاء فيه على من مارس الصناعة خصوصا إذا طلب الزيادة والعلو على من تقدمه في

استعمالها أو حذا حذو رسوم المبرزين الذين ينتحلون الكلام ويوقعونه مواقعه مع مراعاة رشاقة اللفظ وحلاوة المعنى وبلاغته ومناسبته مع ما يحتاجه من اختراع المعاني الأبكار للأمور الحادثة التي لم يقع مثلها ولا سبق سابق إلى كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تتناهى ولا تقف عند حد
ومن هنا تنقص الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر المقامات الحريرية وازدراها جانحا إلى أنها صور موضوعة في قوالب حكايات مبينة على مبدإ ومقطع بخلاف الكتابة فإن أهوالها غير متناهية ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدة لكان مثل المقامات مرات
ومنها اختصاص كاتب الإنشاء بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصه واعتمادهم في المهمات عليه مع كونه أحرز بالسلامة من أرباب الأقلام المتصرفين في الأموال وقد قال بعض الحكماء الكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه
قال في مواد البيان ولا شك في صحة هذا التمثيل لأن كاتب الإنشاء هو الذي يمثل لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه ويتصفح ما يرد منه ويصرفه بالأمر والنهي على ما يؤدي إلى استقامة ما عدق به وهو حلية المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها ويعلى ذكرها ويعظم خطرها ويدل على فضل ملكها وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد والترغيب والإحماد والإذمام واقتضاب المعاني التي تقر الوالي على ولايته وطاعته وتعطف العدو العاصي عن عداوته ومعصيته على أن بعض

المتعصبين قد رجح كتابة الأموال على كتابة الإنشاء بمغالطات أوردها وتزويرات زخرفها ونمقها لا تخفى على متأمل ولا تتغطى على ذي ذهن سليم
وقد أورد الحريري في المقامة الثانية والعشرين المعروفة بالفراتية ألفاظا قلائل في المفاخرة بين كتابتي الإنشاء والأموال فقال على لسان أبي زيد السروجي
إعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب وقلم المحاسبة حاطب وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس والمنشىء جهينة الأخبار وحقيبة الأسرار ونجي العظماء وكبير الندماء وقلمه لسان الدولة وفارس الجولة ولقمان الحكمة وترجمان الهمة وهو البشير والنذير والشفيع والسفير به تستخلص الصياصي وتملك النواصي ويقتاد العاصي ويستدنى القاصي وصاحبه برىء من التبعات آمن كيد السعات مقرظ بين الجماعات غير معرض لنظم الجماعات
ثم عقب كلامه بأن قال
إلا أن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق وقلم الحاسب ضابط وقلم المنشىء خابط وبين إتاوة توظيف المعاملات وتلاوة طوامير السجلات بون لا يدركه قياس ولا يعتوره

التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس والتلاوة تفرغ الراس وخراج الأوارج يغني الناظر واستخراج المدارج يعني الخاطر
ثم إن الحسبة حفظة الأموال وحملة الأثقال والنقلة الأثبات والسفرة الثقات وأعلام الإنصاف والانتصاف والشهود المقانع في الاختلاف ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان وقطب الديوان وقسطاس الأعمال والمهيمن على العمال وإليه المآل في السلم والهرج وعليه المدار في الدخل والخرج وبه مناط الضر والنفع وفي يده رباط الإعطاء والمنع ولولا قلم الحساب لا ودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محلولا وجرح الظلامات مطلولا وجيد التناصف مغلولا وسيف التظالم مسلولا على أن يراع الإنشاء متقول ويراع الحساب متأول والحاسب مناقش والمنشىء أبو براقش ولكليهما حمة حين يرقى إلى أن يلقى ويرقى وإعنات فيما ينشا حتى يغشى ويرشى ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم )
قلت وقد أوردت في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء المشار إليها بالذكر في خطبة هذا الكتاب من فضل الكتابة ما يشدو بذكره المترنم وأودعتها من شرف الكتاب ما يذعن له الخصم ويسلم

الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر
اعلم أن الشعر وإن كان له فضيلة تخصه ومزية لا يشاركه فيها غيره من حيث تفرده باعتدال أقسامه وتوازن أجزائه وتساوي قوافي قصائده مما لا يوجد في غيره من سائر أنواع الكلام مع طول بقائه على ممر الدهور وتعاقب الأزمان وتداوله على ألسنة الرواة وأفواه النقلة لتمكن القوة الحافظة منه بارتباط أجزائه وتعلق بعضها ببعض مع شيوعه واستفاضته وسرعة انتشاره وبعد مسيره وما يؤثره من الرفعة والضعة باعتبار المدح والهجاء وإنشاده بمجالس الملوك الحافلة والمواكب الجامعة التقريظ وذكر المفاخر وتعديد المحاسن وما يحصل عليه الشاعر المجيد من الحباء الجسيم والمنح الفائق الذي يستحقه بحسن موقع كلامه من النفوس وما يحدثه فيها من الأريحية وقبوله لما يرد عليه من الألحان المطربة المؤثرة في النفوس اللطيفة والطباع الرقيقة وما اشتمل عليه من شواهد اللغة والنحو وغيرهما من العلوم الأدبية وما يجري مجراها وما يستدل به منها في تفسير القرآن الكريم وكلام من أوتي جوامع الكلم ومجامع الحكم وكونه ديوان العرب ومجتمع تمكنها والمحيط بتواريخ أيامها وذكر وقائعها وسائر أحوالها إلى غير ذلك من الفضائل الجمه والمفاخر الضخمة فإن النثر أرفع منه درجة وأعلى رتبة وأشرف مقاما وأحسن نظاما إذ الشعر محصور في وزن وقافية يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير وقصر الممدود ومد المقصور وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل اللفظة الفصيحة بغيرها وغير ذلك مما تلجىء إليه ضرورة الشعر فتكون معانيه تابعة لألفاظه والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه ويؤيد ذلك أنك إذا اعتبرت ما نقل من معاني النثر إلى النظم وجدته قد انحطت رتبته ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه قيمة كل امرىء ما يحسن أنه لما نقله الشاعر إلى قوله

( فيالائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه )
قد زادت ألفاظه وذهبت طلاوته وإن كان قد أفرد المعنى في نصف بيت فإنه قد احتاج إلى زيادة مثل ألفاظه مرة أخرى توطئة له في صدر البيت ومراعاة لإقامة الوزن وزاد في قوله فقيمة فاء مستكرهة ثقيلة لا حاجة إليها وأبدل لفظ امرىء بلفظ الناس ولا شك أن لفظ امرىء هنا أعذب وألطف وغير قوله يحسن إلى قوله يحسنونه والجمع بين نونين ليس بينهما إلا حرف ساكن غير معتد به مستوخم وإذا أعتبرت ما نقل من معاني النظم إلى النثر وجدته قد نقصت ألفاظه وزاد حسنا ورونقا ألا ترى إلى قول المتنبي يصف بلدا قد علقت القتلى على أسوارها
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
كيف نثره الوزير ضياء الدين بن الأثير في قوله يصف بلدا بالوصف المتقدم وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم فإنه قد جاء في غاية الطلاوة خصوصا مع التورية الواقعة في ذكر العزائم مع ذكر الجنون وهذا في النظم والنثر الفائقين ولا عبرة بما عداهما
وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ولم ينزله على صفة نظم الشعر بل نزهه عنه بقوله ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) وحرم نظمه على نبيه محمد تشريفا لمحله وتنزيها لمقامه منبها على ذلك بقوله ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) وذلك أن مقاصد الشعر لا تخلو من

الكذب والتحويل على الأمور المستحيلة والصفات المجاوزة للحد والنعوت الخارجة عن العادة وقذف المحصنات وشهادة الزور وقول البهتان وسب الأعراض وغير ذلك مما يجب التنزه عنه لآحاد الناس فكيف بالنبي ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله بخلاف النثر فإن المقصود الأعظم منه الخطب والترسل وكلاهما شريف الموضوع حسن التعلق إذ الخطب كلام مبني على حمد الله تعالى وتمجيده وتقديسه وتوحيده والثناء عليه والصلاة على رسوله والتذكير والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والحض على طلب الثواب والأمر بالصلاح والإصلاح والحث على التعاضد والتعاطف ورفض التباغض والتقاطع وطاعة الأئمة وصلة الرحم ورعاية الذمم وغير ذلك مما يجري هذا المجرى مما هو مستحسن شرعا وعقلا وحسبك رتبة قام بها النبي والخلفاء الراشدون بعده والترسل مبني على مصالح الأمة وقوام الرعية لما يشتمل عليه من مكاتبات الملوك وسراة الناس في مهمات الدين وصلاح الحال وبيعات الخلفاء وعهودهم وما يصدر عنهم من عهود الملوك وما يلتحق بذلك من ولايات أرباب السيوف والأقلام الذين هم أركان الدولة وقواعدها إلى غير ذلك من المصالح التي لا تكاد تدخل تحت الإحصاء ولا يأخذها الحصر
قال في مواد البيان وقد أحست العرب بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور كما حكي أن امرأ القيس بن حجر هم أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله
( اسقيا حجرا على علاته ... من كميت لونها لون العلق )
وما يروى أن النابغة الجعدي كان سيدا في قومه لا يقطعون أمرا دونه

وأن قول الشعر نقصه وحط رتبته قال ولا عبرة بما ذهب إليه بعضهم من تفضيل الشعر على النثر اتباعا لهواه بدون دليل واضح
قال في الصناعتين ومع ذلك فإن أكمل صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أن من أتم صفات الشاعر أن يكون خطيبا كاتبا قال والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد وسيأتي الكلام على احتياج الكاتب للشعر في بيان ما يحتاج إليه الكاتب فيما بعد إن شاء الله تعالى

الباب الثالث في صفاتهم وآدابهم وفيه فصلان
الفصل الأول في صفاتهم وهي على ضربين
الضرب الأول
الصفات الواجبة التي لا يسع إهمالها وهي عشر صفات
الصفة الأولى الإسلام ليؤمن فيما يكتبه ويمليه ويوثق به فيما يذره ويأتيه إذ هو لسان المملكة المرهب للعدو بوقع كلامه والجاذب للقلوب بلطف خطابه فلا يجوز أن يولى أحد من أهل الكفر إذ يكون عينا للكفار على المسلمين ومطلعا لهم على خفاياهم فيصلون به إلى ما لا يمكن استدراكه وقد قال تعالى ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) والمراد بالبطانة في الآية من يطلع على حال المسلمين كالاطلاع على مقدار خزائنهم من المال وأعداد جيشهم من الخيل والرجال
قال أبو الفضل الصوري في تذكرته وإن من الفطرة التي جبل كل أحد عليها حنين كل شخص من الناس إلى من يرى رأيه ويدين دينه قال وهذا أ مر يجده كل أحد في نفسه ولذلك شرط بعضهم في الكاتب أن يكون

على مذهب الملك الذي يتمذهب به من مذاهب المسلمين ليكون موافقا له من كل وجه
ولما فتحت الصحابة رضوان الله عليهم مصر بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص يأمره أن لا يستعمل في عمل من أعمال المسلمين كافرا فأجابه عمرو بأن المسلمين إلى الآن لم يعرفوا حقيقة البلاد ولم يطلعوا على مقادير خراجها وقد اجتهدت في نصراني عارف منسوب إلى أمانة إلى حين معرفتنا بها فنعزله فغضب عمر رضي الله عنه وقال كيف تؤمنهم وقد خونهم الله وكيف تعزهم وقد أذلهم الله وكيف تقر بهم وقد أبعدهم الله ثم تلا ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) الآية وقال في آخر كتابه مات النصراني والسلام
وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر بخطه وحسابه فقال عمر أحضر كاتبك ليقرأ فقال أبو موسى إنه نصراني لا يدخل المسجد فزبره عمر رضي الله عنه وقال لا تؤمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتبا ذميا ولا يضع الذمي موضعا يفضل به مسلما ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير مسلم وجزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا الشافعية رحمهم الله

أنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون مسلما وهو الأصح الذي عليه الفتيا في المذهب
وإذا اشترط الإسلام في كاتب القاضي والوالي ففي كاتب السلطان أولى لعموم النفع والضر به
قال أبو الفضل الصوري ولا شك أن كاتب الإنشاء من أحوج الناس إلى الاستشهاد بكلام الله تعالى في أثناء محاوراته وفصول مكاتباته والتمثل بنواهيه وأوامره والتدبر لقوارعه وزواجره وهو حلية الرسائل وزينة الإنشاءات وهو الذي يشد قوى الكلام ويثبت صحته في الأفهام فمتى خلت منه كانت عاطلة من المحاسن عارية من الفضائل لأنه الحجة التي لا تدحض والحقيقة التي لا ترفض فإذا كان الكاتب غير مسلم لم يكن لديه من ذلك شيء وكانت كتابته معسولة من أفضل الكلام وخالية مما يتبرك به أهل الإيمان والإسلام ومقصرة عن رتبة الكمال ومنسوبة إلى العجز والإخلال فإن تعاطى الكاتب الذمي حفظ شيء منه وكتبه فقد أبيحت حرمة كتاب الله تعالى وانتهكت وأمكن منه من يتخذه هزوا ولعبا والله سبحانه يقول في كتابه المكنون ( لا يمسه إلا المطهرون ) فقد صح أنه لا يجوز أن يرقى إلى هذه الرتبة إلا مسلم قال ولا يحتج بالصابىء وأنه كتب للمطيع والطائع من خلفاء بني العباس ومعز الدولة وعز الدولة من ملوك الديلم وهما يومئذ عمدة الإسلام وعضد الخلافة وهو على دين الصابئة فإن الصابيء كان من أهل ملة قليل أهلها ليس لهم ذكر ولا مملكة وليس منهم محارب لأهل الإسلام ولا لهم دولة قائمة فتخشى غائلته وتخاف عاقبته

الصفة الثانية الذكورة فقد صرح أصحابنا الشافعية بأنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون ذكرا وإذا اشترط ذلك في كاتب القاضي ففي كاتب السلطان أولى لما تقدم من عموم النفع والضر به وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في حق النساء جنبوهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف واستعينوا عليهن بلا فإن نعم تضريهن في المسألة ومر علي كرم الله وجهه على رجل يعلم امرأة الخط فقال لا تزد الشر شرا
ورأى بعض الحكماء امرأة تتعلم الكتابة فقال أفعى تسقى سما ولله البسامي حيث يقول
( ما للنساء وللكتابة ... بة والعمالة والخطابه )
( هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابه )
فإن قيل قد كن جماعة من النساء يكتبن ولم يرد أن أحدا من السلف أنكر عليهن ذلك فقد روى أبو جعفر النحاس بسنده إلى الحسن أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تكتب في مكاتباتها بعد البسملة من المبرأة عائشة بنت أبي بكر حبيبة حبيب الله وحكى جعفر بن سعيد أنه ذكر لعمرو ابن مسعدة كاتب المأمون توقيعات جعفر بن يحيى فقال قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني وذكر محمد بن علي المدائني في كتاب القلم والدواة أن

عاملا لزبيدة كتب إليها كتابا فوقعت في ظهره أن أصلح كتابك وإلا صرفناك عن عملك فتأمله فلم يظهر له فيه شيء فعرضه على بعض إخوانه فرأى فيه في الدعاء لها وأدام كرامتك فقال إنها تخيلت أنك دعوت عليها فإن كرامة النساء دفنهن فغير ذلك وأعاد الكتاب إليها فقبلته ومن كان هذا شأنه فكيف يقال إنه لم يؤهل للكتابة
فالجواب أن حديث عائشة لم يصرح فيه بأنها كتبت بنفسها ولعلها أمرت من يكتب فكتب كذلك بإملائها أو دونه وإن ثبت ذلك عنها فغيرها لا يقاس عليها ومن عداها من النساء لا عبرة به
الصفة الثالثة الحرية فقد شرطوا في كاتب القاضي أن يكون حرا لما في العبد من النقص فلا يعتمد في كل القضايا ولا يوثق به في كل الأحوال فكاتب السلطان كذلك بل أولى كما تقدم
الصفة الرابعة التكليف كما في كاتب القاضي فلا يعول على الصبي في الكتابة إذ لا وثوق به ولا اعتماد عليه
الصفة الخامسة العدالة فلا يجوز أن يكون الكاتب فاسقا فإنه بمنزلة كبيرة ورتبة خطيرة يحكم بها في أرواح الناس وأموالهم لأنه لو زاد أدنى كلمة أو حذف أيسر حرف أو كتم شيئا قد علمه أو تأول لفظا بغير معناه أو حرفه عن جهته أدى ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الضرر ونفع من يجب الإضرار به وكان قد موه على الملك حتى مدح المذموم وذم الممدوح فمتى لم يكن له دين يحجزه عن ارتكاب المآثم ويزعه عن احتقاب

المحارم كان الضرر به أكثر من الانتفاع وأثر فعله من الأضرار ما لم تؤثره السيوف ولله القائل
( ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأقطع من رقيق حسام )
( قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام )
وأيضا فإنه لا يقبل قول الفاسق فتضيع به المصالح وربما حمله الفسق وعدم الاكتراث بأمور الدين على وهن يدخله على الدين بقلمه أو ضرر يجلبه بلسانه
وأيضا فالكتابة ولاية شرعية والفاسق لا تصح توليته شيئا من أمور المسلمين وقد أطلق القاضي أبو الطيب والماوردي من أصحابنا الشافعية القول باشتراط العدالة في كاتب القاضي فيجب مثله في كاتب السلطان بل أولى على ما تقدم
الصفة السادسة البلاغة بحيث يكون منها بأعلى رتبة وأسنى منزلة فإنه لسان السلطان الذي ينطق به ويده التي بها يكتب ورب كاتب بليغ أصاب الغرض في كتابته فأغنى عن الكتائب وأعمل القلم فكفاه إعمال البيض القواضب وإذا كان جيد الفطنة صائب الرأي حسن الألفاظ تتأتى له المعاني الجزلة فيجلوها في الألفاظ السهلة ويختصر حيث يكون الاختصار ويطيل حيث لا يجد عن الإطالة بدا ويتهدد فيملأ القلوب روعة ويشكر فيلقي على النفوس مسرة وإن كتب إلى ملك كبير وذي رتبة خطير عظم مملكة سلطانه وفخمها في معارض كلامه من غير أن يوجد أن ذلك قصده
الصفة السابعة وفور العقل وجزالة الرأي فإن العقل أس الفضائل وأصل المناقب ومن لا عقل له لا انتفاع به وكلام المرء ورأيه على قدر عقله فإذا كان تام العقل كامل الرأي وضع الأشياء في مكاتباته ومخاطباته في مواضعها وأتى بالكلام من وجهه وخاطب كل أحد عن سلطانه بما يقتضيه الحال التي يكون عليها فيشتد ما كانت الشدة نافعة ويلين حين

يكون إلى اللين محتاجا ويوبخ من لا يقتضي فعله أكثر من التوبيخ ويذم من تعدى إلى ما يستوجب الذم ويأتى بالمكاتبات التي يقتضيها اختلاف الأحوال واقعة مواقعها صائبة مراميها
الصفة الثامنة العلم بمواد الأحكام الشرعية والفنون الأدبية وغيرها مما يأتي بيانه إذ الجاهل لا تمييز له بين الحق والباطل ولا معرفة ترشده إلى الطرق المعتبرة في الكتابة ومن سلك طريقا بغير دليل ضل أو تمسك بغير أصل زل
الصفة التاسعة قوة العزم وعلو الهمة وشرف النفس فإنه يكاتب الملوك عن ملكه وكل كاتب يجذبه طبعه وجبلته وخيمه في الكتابة إلى ما يميل إليه ومكاتبة الملوك أحوج شيء إلى التفخيم والتعظيم وذكر التهاويل الرائعة والأشياء المرغبة فكلما كان الكاتب أقوى نفسا وأشد عزما وأعلى همة كان في ذلك أمضى وعليه أقدر ومهما نقص في ذلك نقص من كتابته
الصفة العاشرة الكفاية لما يتولاه لأن العاجز يدخل الضرر على المملكة ويوجب الوهن في أمر المسلمين وربما عاد عليهم عجزه بالوبال أو أدى بهم ضعفه إلى الاضطراب والاختلال

الضرب الثاني
الصفات العرفية
قال المهذب بن مماتي في كتابه قوانين الدواوين ينبغي أن يكون الكاتب أديبا حاد الذهن قوي النفس حاضر الحس جيد الحدس

حلو اللسان له جراءة يثبت بها الأمور على حكم البديهة وفيه تؤدة يقف بها فيما لا يظهر له على حد الروية شريف الأنفة عظيم النزاهة كريم الأخلاق مأمون الغائلة مؤدب الخدام
قال محمد بن إبراهيم الشيباني من صفة الكاتب اعتدال القامة وصغر الهامة وخفة اللهازم وكثاثة اللحية وصدق الحس ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة وملاحة الزي قال ومن حاله أيضا أن يكون بهي الملبس نظيف المجلس ظاهر المروءة عطر الرائحة دقيق الذهن حسن البيان رقيق حواشي اللسان حلو الإشارة مليح الاستعارة لطيف المسلك مستفره المركب ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة متفاوت الأجزاء طويل اللحية عظيم الهامة فإنهم زعموا أن هذه الصفات لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة ولله القائل
( وشمول كأنما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتاب )
وقال أبو الفضل الصوري ينبغي أن يكون الكاتب فصيحا بليغا أديبا سني الرتبة قوي الحجة شديد العارضة حسن الألفاظ له ملكة يقتدر بها على مدح المذموم وذم المحمود
قال المهذب بن مماتي أما حسن الهيئة فإنه يرجع في ذلك إلى ما يعمله من حال مخدومه من إيثاره إظهار نعمته على من هو في خدمته أو إخفائها قلت وهذا قد يخالف ما تقدم من أنه ينبغي أن يكون الكاتب

بهي الملبس وبالجملة ففصاحة اللسان وقوة البيان والتقدم في صناعة الكتابة هو الذي يرفع الرجل ويعظمه دون أثوابه البهية وهيئته الزاهية بل ربما كان التعظيم في الفضل لرث الحالة المنحط الجانب أكثر وترجيحه على غيره أقرب
وقد قال سهل بن هرون كاتب المأمون وهو من أئمة هذه الصناعة لو أن رجلين خطبا أو تحدثا أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلا بهيا ولباسا نبيلا وذا حسب شريف وكان الآخر قليلا قميئا وباذ الهيئة دميما وخامل الذكر مجهولا ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة وفي درب واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم يقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ويشغلهم التعجب منه عن مناوأة صاحبه ولصار التعجب على مساواته له سببا للتعجب به والإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه لأن النفوس كانت له أحقر ومن بيانه أيأس ومن حسده أبعد فلما ظهر منه خلاف ما قدروه وتضاعف حسن كلامه في صدورهم كبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه اغرب وكلما كان أبعد في الوهم كان أظرف وكلما كان أظرف كان أعجب وكلما كان أعجب كان أبدع وإنما ذلك كنوادر الصبيان وملح المجانين فإن استغراب السامعين لذلك أعجب وتعجبهم منه أكثر قال والناس موكلون بتعظيم الغريب واستظراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن ولا فيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وعلى هذا السبيل يستظرفون القادم إليهم ويرحلون إلى النازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعا وأكثر وجوه في وجوه العلم تصرفا وأخف مؤونة وأكثر فائدة

الفصل الثاني في آداب الكتاب وهي على نوعين
النوع الأول حسن السيرة وشرف المذهب ولذلك شروط ولوازم
منها اعتماد تقوى الله تعالى في الإسرار والإعلان والإظهار والإبطان والمحافظة عليها والاستناد إليها في مبادي الأمور وعواقبها فإنها العروة التي لا تنفصم والحبل الذي لا ينصرم والركن الذي لا ينهدم والطريق التي من سلكها اهتدى ومن حاد عنها ضل وتردى والمحافظة على شرائع الدين التي فرضها الله تعالى على خلقه والحذر من الاستخفاف فيها بحقه وتوقي غضبه بتأديتها والاستجنان من شقاء الدنيا والآخرة بتوقيها
ومنها طلب الأجر بما ينيله من عز سلطانه ويجديه من فواضل نعمائه وهذا هو أصح الأغراض التي يجب على كل عاقل أن يقدمه على كل غرض ويحصل منه على السهم الوافر فلا خير في دنيا تنقطع السعادة عنها وإنما السعادة بعد الموت ( والدار الآخرة خير ) ومن اختار الفاني المنصرم على الباقي الدائم فقد خسرت صفقته وبارت تجارته
والطريق الموصل إلى هذا المقصد صلاح النية فيما يتولاه من أمور السلطان وقصد النفع العام له ولرعيته والاجتهاد في إغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف والنفع بجاهه عند سلطانه وحمله على العدل في الرعية فإذا توخى ذلك فاز بثواب الله تعالى وقضى حق السلطان فيما عرضه له من الشكر والأجر وقابل نعمة الله التي أقدره بها على هذه الأفعال الجميلة

بما يرتبطها عنده ويستقر بها لديه
ومنها مجانبة الريب والتنزه عنها والطهارة منها فإنها تسخط الله تعالى وتذهب بمهابة المرء وتسقطه من العيون والقلوب وأحق من راعى ذلك من نفسه من بين أتباع السلطان أهل هذه الصناعة لاختصاصهم به ولطف منزلتهم عنده إذ المشهور عند نقلة الآثار أن الذين تقدموا من صدورها ومشايخها كانوا من جلة العلماء وسادة الفقهاء وأفاضل أهل الورع المبرئين من الدنس والطمع المميزين على القضاة والحكام في الاستقلال بعلوم الإسلام المتميزين عنهم بفضل الآداب ورواية الأشعار والعلم بالأيام والسير والارتياض بآداب الملوك وعشرتهم ورسوم صحبتهم وغير ذلك مما ينتظم في صناعتهم فقد ساووهم في علم الدين وفاقوهم فيما تقدم ذكره مما لا يشاركونهم فيه والسلطان والدين قرينان لا يفترقان وعونان على صلاح البلاد والعباد فلا يحتمل السلطان ما ينكره الدين لأنه تابعه ورديفه
ومنها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعماله ويتصرف فيه من أشغاله والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان وجميل السيرة عند الرعية حتى إن هذه الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية وحصلوا على الأحوال السنية والمنازل العلية وقرب بها من كان بعيدا على من كان قريبا ومن لا مكانة له ولا حرمة على من له مكانة وحرمة واستدني لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان ثم الذي يلزمه أن يعتمد التمسك بالصيانة والعفاف الذي عليه نظام معيشته والارتفاق فيما يحل

ويطيب له من جاه خدمته فإنه قد قيل الزم الصحة يلزمك العمل لأنه يمتنع من المنافع التي تصل إليه من أطيب المكاسب وتسلم من تبعات العاجل والآجل وتخلص من قبيح الأحدوثة وإطلاق ألسن الحسدة بالطعن والتأنيب وينال بجاه السلطان ونفوذ الأمر من غير خيانة للمؤتمن ولا اشتكاء للرعية فإنه لولا هذه المنافع لغني الإنسان بالقناعة ورضي بالكفاف وسلم من المخاطرة بدينه ودنياه في سلامة السلطان إذ لا يجوز أن يستفرغ وسعه ويعرض نفسه للخطر فيما لا تحسن له عائدة ولا تخلص منه فائدة في جاه ولا مال وقد علم ما كان عليه أهل هذه الطبقة في سائر الدول وما حصلوه من الذخائر واقتنوه من القنيات النفيسة التي أقدرتهم على إظهار مروءاتهم واتخاذ الصنائع عند الأحرار وحراسة النعم على الدوائر والأعقاب وإنما حصلوا على ذلك من حيث معرفتهم بوجوه المكاسب وأبواب المرافق لا من الخيانة وذميم الطعم لأنهم كانوا في أزمنة لا يغضى فيها عن متكسب من رشوة ولا مصانعة ولا اغتصاب ولا سبب من أسباب الظلم وان جلت منزلته وعظمت مرتبته
ومنها طلب الثناء والحمد وهو من أفضل المقاصد السنية وأعلاها رتبة لأنه يتلو الأجر في البقاء والدوام وكلما كانت الهمة أعظم وأشرف كانت إليه أرغب وبه أكلف ولفضل هذا رغب فيه الأشراف وعلية الناس حتى قال

الخليل عليه السلام ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) وأولى الناس باقتناء ذخائر الحمد وافتراض فرض الشكر من عرض الله تعالى جاهه وطول يده وأمضى عند السلطان لسانه فينبغي أن يختار هذه المكرمة ويقوم بالنصيب الأوفر منها ولا يبخل بجاهه ولا ماله على قاصد ولا مؤمل ولا ذي رحم وذمام ولا يضجع في أمر بطانته وحاشيته وأصحابه ولا يضيق عليهم مع سعته ولا يقصر بهم في كفايته ويجعل اكتسابها بجاهه وماله دون أموال سلطانه فإن كثيرا من المتصرفين بذلوا ما اؤتمنوا عليه في هذا الغرض ورضوا به أهل الشفاعات والرسائل فأعقبهم ذلك زوال النعم وسقوط الرتبة وذهاب المال والوسم بميسم الخيانة والبوار إلى الأبد ولا يبالغ في ابتناء المعالي واقتناء المحامد وبذل الرغائب وارتفاع الهمم فإن ذلك مما يختص بالملوك ولا ينبغي لأحد من أتباعهم من كاتب ولا غيره الإقدام عليه مفاخرا ولا مكاثرا ولا مقابسا فيكون قد عدا طوره وأضل رشده وتعرض للعطب مع سلطانه وأوجد الطريق إلى سوء الظن به وفوق سهام الحسدة إليه وأطلق ألسنتها بالطعن عليه وربما أدى به ذلك إلى سقوط المنزلة أن سلمت نفسه
ومنها الاقتصاد في طلب اللذة والاقتصار من ذلك على ما يقيم المروءة من أفضل الأخلاق وأشرفها بأن يكون تناولهم ما يتناولونه من ذلك بسلوك طريقة محمودة يظهر فيها أثر التدبير السديد والرأي الأصيل من غير خروج إلى الإقبال على اللذات والانهماك في الشهوات فإن ذلك غير مستحسن لملك ولا سوقة لأنه جالب للأسقام قاطع عن الأمور المهمة التي يجب صرف العناية إليها في صلاح المعاش وأمر الآخرة ولكن لا يكلف ترك

اللذات جملة إذ لا بد لكل أحد من ذوي الرتبة العلية من الأخذ بنصيب منها لما جبلت عليه الطبائع من الميل إليها والرغبة في الاستمتاع بالنعم والملاذ ولكل منها حظ يضاهي رتبته
وأهل هذه الصنعة لاختلاطهم بالملوك ومشاركتهم لهم في آدابهم لا غنى بهم عما يقيم مروءاتهم من اللذات المشابهة لأقدارهم ومواضعهم من السلطان

النوع الثاني
حسن العشرة التي هي من أفضل الخلائق الموجودة في الغرائز طبعا والحاصلة بالتخلق تكسبا وتطبعا وأعونها لمصالح الحياة والمعاش ومحبة الخاصة والعامة وحصول الثناء والشكر والمودة من الأفاضل والأخيار وكفاية الأراذل الأشرار وإن لم يلتزمها الكاتب طوعا حمل عليها كرها
واعلم أن أدب المعاشرة على خمسة أضرب
الضرب الأول عشرة الملوك والعظماء
قال علي بن خلف ولا يقوم بآدابها وأكمل رسومها إلا من علت في الأدب درجته وسمت في رجاحة العقل منزلته وتميز بغريزة فاضلة وأدب مكتسب وصبر على المشاق في التحلي بالهمم الشريفة والسمو إلى المنازل اللطيفة من عز السلطان ومساعدة الزمان وتمكن من تصريف النفسين الحيوانية والشهوانية على أغراض الناطقية ومطاوعتها وأخذهما بقبول ما ترشد إليه وتبعث عليه لأن صحبة السلطان أمر عظيم وصاحبه راكب خطر

جسيم بتمليكه نفسه لمتحكم في شعره وبشره قادر على نفعه وضره لا يرده عن مقابلته على يسير الخيانة بكبير النكاية إلا ما يؤمل من صفحه ومسامحته ويرجو من عطفه ورأفته وأول ما يجب على المتصل بخدمة السلطان النظر في عواقب أموره وحفظ نفسه من جريرة يجرها عليها بإغفاله فرضا من فروض طاعته وتضييعه المحافظة على حقوق خدمته والعلم بأن لكل مصحوب خلقا يغلب عليه ويرجع بغريزة الطبع إليه لا يمكنه النزوع عنه ولا المفارقة له إذ الانتقال عن الطباع شديد الامتناع في الخدم والأتباع فكيف الملوك والرؤساء الذين لا يقابلون بلوم على خلق مذموم بل العادة جارية في أدب خدمتهم بأن يصوبوا ما يركبونه من خطإ ويحسنوا ما يواقعونه من قبح فعليه أن ينزل عن أخلاقه لأخلاق سلطانه وما خالف سجيته في إصلاح زمانه وأن ينزل عن هواه لهواه ويتبع فيما يسخطه ويأباه ما يؤثره سلطانه ويرضاه وينبغي أن لا يعرض نفسه لما يسقط منزلته ويفسد عاقبته ولا يوجد للزمن طريقا إلى التنكر له ويعينه بتفويق سهامه والتصدي لمواقعها وقد علم أن الزمان وأن عم بنوائبه فإنه يخص صاحب السلطان منها بما يزيد على نصيب غيره ومن أشق الأحوال أن يدفع الإنسان إلى تغير السلطان مع كون السبب في ذلك شيئا جره إلى نفسه بسوء اختياره لما يجتمع عليه في ذلك من مرارة النكبة وحرارة المغبة وتقريع من يزري على عقله ويؤنبه بجهله
ثم إنه يلزمه بعد الاحتياط فيما تقدم عدة خصال أيضا
منها الإخلاص وهو قوام الأمر في المصاحبة فإن من صحب سلطانا بعقيدة مدخولة في ولايته مشوبة في محبته لم ينتظم له ولا لسلطانه أمر

لأن الضمائر المذوقة والنيات السقيمة لا بد أن يصرح بما فيها ويظهر ما في دخيلتها وإذا اتضح ذلك للسلطان لم يقنع إلا بإتلاف نفسه وإذهاب مهجته
ومنها النصيحة وهي ترب الإخلاص والطريق الموصل إلى التوفية بها أن يطالع السلطان بكل ما يفتقر إلى العلم به من خاص أموره وعامها وعلى من استخلصه السلطان لنفسه وائتمنه على رعيته وأنطقه بلسانه وأخذ وأعطى بيده وأورد وأصدر برأيه وتخيره لهذه المنزلة من بين رؤساء دولته وأعيان مملكته أن لا يستر عنه دقيقا ولا جليلا من أحوال ما فوضه إليه ولا يقف عن إنهاء تفاصيله وجملة توقيا من لوم لائم ولا يحمله فرط النصح له على الإضرار برعيته ولا الرغبة في إثبات حقه على تضييع حقوقها ولا القيام بما يجب له دون ما يجب لها فإنها به وهو بها
ومنها الاجتهاد فيما يباشره من أحوال سلطانه بما يعود عليه نفعه بحيث لا يبقي في ذلك ممكنا ولا يدع فيه شأوا للاحق
ومنها كتمان السر وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره وأعودها بالفلاح على صاحبها لأن كثرة الانتشار الداخل على الدول إنما توجه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها وإظهارهم بما تقرر في أذهان الملوك وعزائمهم قبل أن يظهروه فيجد العدو بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها ومقابلتها بما يفسدها على أن إفشاء السر من الأخلاق التي طبع أكثر الناس عليها وحيل بينهم وبين الإقلاع عنها فمن علم من نفسه ذلك فليحذر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره ولا سيما ما وجد

منها في باب حروبه ومكايده فإنه إن ظهر منه على خيانة في السر عرض نفسه للهلكة
ومنها الشكر فإنه وإن كان واجبا على الإنسان مع أكفائه ونظرائه فإنه مع السلطان الذي يستظل بظله ويستدر أخلاف فضله أوجب إذ المرء قد يقدر على مكافأة عارفة صديقه بما يضاهيها ويزيد عليها ولا يقدر على مكافأة سلطانه إلا بشكر نعمته والمحافظة على حقوق خدمته ثم الشكر بالقول يرتفع بين الرئيس والمرؤوس والخادم والمخدوم إلا اليسير الذي يقضي به حق الخدمة لأن الإكثار منه داخل في حكم الملق والتثقيل وإنما يظهر شكر الخادم من أفعاله
ومنها الوفاء وهو من أهم الخصال اللازمة وآكدها إذ هو الطريق إلى صلاح العباد وعمارة البلاد بل هو رأس مال الكاتب وربحه ودوام عمله والسبب الذي لأجله ترغب السلاطين في صحبته لأنهم ما برحوا يقربون صاحب هذه الخصلة ويرونه أهلا للاختصاص موضعا للثقة ولا أسوأ حالا ممن نزل هذه المنزلة وهو بخلافها
ثم الوفاء يكون بإظهار النصيحة وبذل الاجتهاد وقصد المخالصة ومقابلة كل نعمة تفاض عليه بالنهضة فيما استند إليه ليدعو ذلك سلطانه إلى رب النعمة لديه وإقرار ما عليه
ومن شروط الوفاء أن يلتزمه صاحبه لسلطانه في حال سعادته وإقبال دولته وفي حال توليها عنه وعطلته أما في حال إقبال الدولة عليه فأن يصحبه بقلبه دون بدنه ولا يتطلب صاحبا غيره ينتقل إلى صحبته ويستبدل بخدمته

من خدمته ولا يحدث نفسه بأنه متى وجد أنفع منه عدل إليه ولا أن يرتب له جهة أخرى يجعلها مقدمة لأمر يترقبه لما في ذلك كله من الخروج عن حد الإخلاص المقدم وجوبه وأما في حال انصراف الدولة عن صاحبه فإنه لا يباينه مباينة المساعد للزمان عليه الموافق للمقادير فيه ولا يخونه عند حاجته إليه ولا يضيع حقوقه عنده وصنائعه لديه ولا ينحاز بكليته إلى من أقبلت أمور السلطان عليه فإن ذلك مما يدل على خبث السجية ومقابلتها على الإحسان بالإساءة واستعمال العقوق واطراح الحقوق
ومنها مجانبة الإدلال إذ الدالة على السلطان والرئيس من أعظم مصارع التلف وأقرب الأشياء إلى زوال النعم ولأجلها هلك من هلك من بطانة السلطان وخاصته ووزرائه وفي قصصهم عبرة لمن أنعم النظر في تأملها وعليه أن يعول في الاعتداد بخدمه ونصائحه له على اشتهارها وظهورها ولا يفيض في تعديدها وذكرها ولا يواصل التثقيل بأغراضه والإلحاف بأسئلته ولا يظهر التشحب عند التقصر به ولا الغضب اتكالا على سالف خدمة وقليل حرمة وأن يتناسى ما أسلفه من الخدمة والصحبة ويكون في كل حال عارفا بعوارفه معتدا بفواضله موجبا الفروض له لا عليه فإن السلطان مجبول على أنفة النفس وعزتها ولا يحتمل التنازل لأحد لتنزيله الكل منازل الخدم والأرقاء واعتقاده أنه سبب النعمة السابغة على الكافة وثقته بوجود العوض عمن يفقده من الأعوان والأصحاب ومثابرة الناس على خدمته والانتساب إلى متابعته لما يصلون إليه من الحظوة وينالونه من الجاه والثورة وإن كان في باطن حاله على خلاف ما يؤثر أظهر الشكر والاعتداد وتلطف في بلوغ الغرض بأحسن تعريض ولم يطلق قلمه كاتبا ولا لسانه مخاطبا فإن ذلك إزراء على همة المصحوب ودلالة على إخلاله بتفقد الصاحب لكن يذكر النعمة وسبوغها والمنة وشيوعها ويسأل الزيادة فيها ومضاعفتها فإن ذلك يقضي ببلوغ آماله وسداد أموره وسهولة مطالبه وإذا زاده السلطان رفعة وتشريفا ازداد له تعظيما وتوقيرا وإذا بسط يديه أن

ينقبض عن كل ما يشينه وإذا خصه بأثرة وتقريب أن يزيد الخاصة والعامة بشرا وإيناسا وإن اتهمه بهفوة لم ينته في إقامة العذر والاحتجاج على براءة الساحة إلى الغاية القصوى بل يتوسط في ذلك ويسأل من حسن الصفح والإقالة وجميل التغمد والعفو ما يجعل للإحسان وجها ولتعقبه للسخط سببا فإنه إذا صدع بالحجة في براءة الساحة فلا وجه لمعذرته وفيه تكذيب لرئيسه وربما أدى إلى فساد ومفاقمة
ومنها التمسك بآداب الخدمة بالمواظبة عليها وصرف الاهتمام إليها إذ هي أعظم الذرائع إلى نيل الرتب وبلوغ المآرب والسبب الذي يقرب البعداء ويرفعهم على أهل الوسائل والحرم وذوي الموات والخدم ويعمي عن كل شين ويصم عن كل طعن وما نال أحد عند السلطان مرتبة إلا والمواظبة على خدمته سببها والمواصلة موجبها وأولى الناس بلزوم السلطان كتابه الذين لا غنى به عن حضورهم في ليله ونهاره وأحيان شغله وفراغه لأنه ربما بدهه ما يحتاج إلى استكفائه إياه وإسناده إليه وإن تأخر عنه في تلك الحال استدعى من موجدته واستجر من لائمته ما لا يزيله العذر إلا في المدة الطويلة وربما اضطر لغيبته إلى إحضار من يستكفيه ما عرض له وأدى ذلك إلى اصطناعه وتصييره في مقامه وإن كان لا يساويه في فضل ولا علم ولا غناء بخلاف ما إذا وجده مسارعا إلى أمثلته فإن ذلك يزيد في حظوته ويدعو إلى استخلاص مودته
فيجب عليه أن يخص سلطانه من زمانه بالقسم الأوفر والنصيب الأغزر ولا يؤثر نيل لذة عليه ولا بلوغ وطر إذا أدى إلى تنكره فإن استطاع أن يوافقه على وقت يفرضه له يتمكن فيه من بلوغ أوطاره والوصول إلى مقاصده كان أحمد لعاقبته وأبلغ لقصده وأحسم لأسباب اللائمة في

غيبته ولا ينهمك في الملاذ انهماك الآمن بل يقف عند الحد الذي يبقي فيه فضلة لعوارض السلطان ومهماته الحادثة في آناء الليل وساعات النهار فإن تعبه في صلاح زمانه وراحة سلطانه مستبق لنعمته مستدع لزيادته ولا يشتغل بكبير الأمور عن صغيرها ولا يبتهج بما أصلحه منها حتى ينظر في عواقبه ويسوس ما رد إليه بالسياسة الفاضلة فيلين في غير ضعف ويشتد في غير عنف ويعفو عن غير خور ويسطو من غير جور ويقرب بغير تدله ويبعد بغير نكر ويخص في غير مجازاة ويعم في غير تضييع فلا يشقى به الحق وإن كان عدوا ولا يسعد به وإن كان وليا
ومنها إذا حضر بين يدي سلطانه أو رئيسه في المجلس الخاص أو العام أن يعتمد مقابلته بالإجلال والإعظام والتوقير والإكرام ولا يحمله تأكد الخدمة وتطاول الصحبة على إهمال ذلك بل يحفظ رسمه ولا يغير عادته
ومنها أن يتخير لخطابه في الأغراض والأوطار أوقاتا يعلم خلو سره فيها وفراغ باله وانشراح صدره وارتفاع الأفكار عن خاطره إلا إن كان ما يخاطبه فيه أمرا عائدا بانتظام سلطانه واستقامة زمانه داخلا في مهمات أعماله التي متى أخرها نسب إلى التقصير فيقدم الكلام فيها خف أو ثقل وإذا خاطبه رئيسه من سلطان أو غيره في أمر من الأمور فعليه أن يرعيه عينه وينصت إليه سمعه ويشغل به فكره ولا يستعمله فيما يعوقه عنه حتى يستوعب ما يلقيه إليه ويجيبه عنه أحسن الجواب ولا يلتفت في حال إقباله عليه إلى غيره ولا يصغى إلى كلام متكلم ولا حديث متحدث حتى لو امتحنه باستعادة ما فاوضه فيه وجده قد أحرز جميعه فإن التقصير في ذلك مما ينكره الملوك والرؤساء ويستدلون به على ضعف المخاطب وإن كان فيما خاطبه فيه أمر يحتمل التأخير بادر بالاعتذار عنه لئلا ينسب إلى التقصير بتأخيره عند الكشف عنه وإن كان فيه ما يخالف الصواب أمضاه وإن تعذر السبيل إلى فعله لم يظهر التقاعس عنه لتخطئته بل يقابله بالاستصواب ثم يتلطف في تعريفه مكان الخطأ فيما رآه

ومنها أن يجري في الحال في مجالسه على ما يعود بوفائه وإرادته فإن مال إلى الانبساط أطلق عنانه فيه إطلاق المتجنب للهجر والفحش ورفث القول تابعا لإيثاره قاضيا لأوطاره وإن أظهر الانقباض ذهب مذهبه في ذلك ولا ينبغي أن يخالفه في حال من أحواله فإن من شروط هذه الخدمة أن يتصرف صاحبها في كل ما يصرف فيه ويسرع الانقياد إلى كل ما يدعى إليه ولا يكثر من الدعاء لرئيسه والثناء عليه والشكر على ما يوليه من العوارف فإن مثل ذلك يستثقل
ومنها أن لا يحضر سلطانه في ملابسه التي جرت العادة أن ينفرد بها كالوشي ونحوه إلا أن يكون هو الذي يشرفه بها وأن يقتصد في لباسه فينحط عما يلبسه سلطانه ويرتفع عما يلبسه السوقة ويصرف عنايته إلى التنظف والتعطر وقطع الرائحة الكريهة من العرق وغيره حتى لا تقع عين رئيسه على دنس في أثوابه ولا يجد منه كريه رائحة في حال دنوه منه ويواصل استعمال الطيب والبخور الفائق والتضمخ بالمسك فإن الملوك ترى أن من أغفل تعهد نفسه كان لغيرها أشد إغفالا
ومنها أن يتجنب التفاصح والتعمق في مخاطبة رئيسه والافتخار عليه بالبلاغة والبيان لما في ذلك من الترفع عليه في الكلام بل يجعل ما يلقيه إليه ضمن ألفاظ تدل على معانيها بسهولة مع غض من صوته وخفض من طرفه وسكون من أعضائه لأنه إنما يتسامح بالإتيان بالفصاحة والذهاب بمذهب الجزالة للخطباء الذين يثنون على الملوك في المواقف العامة ضرورة احتياجهم إلى استعمال ألفاظ تقع في الأسماع أحسن المواقع
ومنها إنه إذا تميز عند رئيسه وارتفعت رتبته لديه أن يجمل القول في خاصته وعامته ويحسن الوساطة لحاشيته ورعيته ويتجنب القدح عنده في

أكفائه ونظرائه من بطانته والمقربين من حضرته ليكون ذلك داعيا إلى محبته والثناء عليه مكافأة له وإمساك الألسن عن الطعن فيه
ومنها أن يبادر إلى المشورة عليه بالصواب فيما يستشيره فيه ويورده إيراد مستفيد لا مفيد ومتعلم لا معلم ويتلطف في أن يوقعه من نفسه موقعا يدعوه إلى العمل به فإن من عادة الملوك والرؤساء الأنفة من الانقياد إلى ما ينتحله غيرهم من الآراء ولو كانت صائبة وإن تمكن من صياغة حديث يودعه فيه فعل مخادعة بذلك لنفسه الأبية وعزته المتقاعسة

الضرب الثاني آداب عشرة الأكفاء والنظراء
قال علي بن خلف ولا شك أن طريقة الاعتدال في ذلك الموافاة في الإخاء والمساواة في الصفاء ومقابلة كل حالة بما يضاهيها أما المسامحة بالحقوق والإغضاء عمن قصر والمحافظة على ود من فرط فلا خلاف في فضله والتمدح بمثله لا سيما لمثل أهل هذه الصناعة التي يرتفع حق الاعتزاء إليها عن حقوق القرابات الدانية والأنساب الراسخة ولذلك وقع في كلام بعضهم الكتابة نسب قال علي بن خلف والمعنى فيه أن التناسب الحاصل بين أهلها تناسب نفساني لا جسماني يحصل عن تناسب الصور القائمة في نفوسهم بالقوة وعن تناسبها بعد خروجها وظهورها من القوة إلى الفعل بدليل ما نراه من اتفاق خواطرهم على كثير من المعاني التي يستنبطونها وتواردهم فيها ولولا تناسب الغرائز وتشابهها لم يكن أن يتواطؤا في أكثر الأحوال على معان متكافئة متوافية
قال وإذا كنا نحفظ من مت إلينا بالأنساب الجسمية التي لا تعارف بينها فأولى أن نحفظ من مت إلينا بالأنساب النفسانية التي يصح منها التعارف ولذلك

قال الحسن بن وهب والكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان متفرقة وقال لا عبرة بما يقع بين بعضهم من التنافر والتباين لأن المناسبة إنما تقع عند المساواة أما من وقع دون رتبة الآخر من الفضيلة فليس بمناسب له فيصير القاصر حاسدا لمن فوقه للتقصير الذي فيه
وبكل حال فإنه يجب عليه أن يعرف لأكفائه حقهم ويحفظ مناسبتهم ويتوخى مساهمتهم ويتلقاهم بالإكرام والتمييز ويجعلهم في أعلى المراتب عنده ويزيدهم على الإنصاف ولا يقصر بهم عما يستوجبونه ويستحقونه ويتخول بمثل ذلك نظراءه في الرياسة من غير الكتاب وإن تعذر عليه الوصول إلى ملتمسهم أطاب قلوبهم بالوعد الجميل في المستقبل واجتهد في الوفاء به

الضرب الثالث آداب عشرة الأتباع
قال علي بن خلف وهي لاحقة بعشرة الأكفاء لأن الذين يستعين بهم الكاتب يدعون كتابا ولا يدعون أعوانا وإنما الأعوان خدام الشرطة ومن يجري مجراهم قال وهم وإن كانوا أصحاب الكاتب ومرؤوسيه وأتباعه فاسم الكتابة يجمع بينه وبينهم ومعاشرتهم داخلة في باب التكرم والتفضيل والاستئثار بمحاسن الأفعال ومكارم الشيم
ثم قال بعد ذلك وينبغي أن يخصهم بالنصيب الأوفر من إكرامه والقسم الأغزر من ملاحظته واهتمامه ويفرض لهم من التقديم والاختصاص وتفقد الأحوال والشؤون والذي ينتهي إليه أمل المرؤوس من الرئيس ليجعل

خدمتهم له بذلك خدمة مقة ومودة لا خدمة خوف ورهبة وأن يحبب خدمته إليهم بترك مناقشتهم والتضييق عليهم وإنالتهم من الترفيه في بعض الأوقات ما يجدون به السبيل إلى الأخذ بنصيب من لذاتهم وأوطارهم التي تميل النفوس إليها وتتهافت عليها فإنهم متى لحقهم التعب والنصب اعترضهم الضجر والملال فقصروا في الأعمال وتهاونوا بالأشغال فلا بد لهم من راحة تصفو بها أذهانهم ويزول عنها الكلال ولا يفسح لهم في مواصلة الراحة والإخلال بما يلزمهم فإن ذلك يحمل على سوء العادة وقبح المذهب وعليه أن يحفظ لهم حقوق الصحبة والخدمة ويوجدهم من الإعانة ما فيه صلاح حالهم فإنه يستعبدهم بذلك ويستخلص مودتهم إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها

الضرب الرابع آداب عشرة الرعية
قال ابن خلف وهو أمر عظيم النفع جسيم العائدة قاض بالسلامة إذ لا يطيب لأحد عيش مع بغض الرعية له ونفورهم عنه وإن علت عند السلطان رتبته وارتفعت طبقته وظن بنفسه الاستغناء عنهم قال فينبغي أن يوفر العناية على استصلاحهم له واستمالة أهوائهم إليه ولين الجانب ووطاءة الكنف وخفض الجناح والبسط والإيناس وتألفهم كما يوفرها على استصلاح السلطان وسياسته لتصح له رتبة التوسط بين الطبقتين ويسلم من طعن الطاعن ولوم اللائم ويبرأ من البغض

والشحناء وينقلهم عما تسرع إليه الطباع الرديئة من الحسد والإيذاء إلى التألف والمودة وقد أدب الله تعالى نبيه بقوله تعالى ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
الضرب الخامس آداب عشرة من يمت إليه بحرمة كالجار والقاصد والآمل والمدل بحق المفاوضة والمطاعمة والمحاضرة والسلام والمعرفة في الصبا والصداقة بين الآباء وغير ذلك من الحرم التي لا يطرحها أهل المروءات
قال ابن خلف وينبغي أن يوفيهم حقوقهم وينهض بما يسنح من أوطارهم ومهماتهم ويعينهم على ما يحدث من نوائب زمانهم ويسعد في بلوغ مطالبهم من سلطانهم ولا يضن عليهم بجاه ولا مال ولا يخيب أمل آملهم ولا قصده ويفرض لهم من إذعانه واعتنائه ما يعز جانبهم ويسهل مآربهم ويكف الضيم والظلم عنهم ويبسط العدل والإنصاف عليهم فإنه إذا التزم ذلك لهم التزموا له الإعظام والإجلال وأطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه والاعتداد بأياديه وأشاعوا ذلك بين أمثالهم فاجتلبوا له مودتهم وتعصبهم له
قلت ومن تمام آداب الكاتب وكمالها أن يعرف حقوق مشايخ الصناعة وأئمتها الذين فتحوا أبوابها وذللوا سبلها وسهلوا طرقها ويعاملهم بالإنصاف فيما أعملوا فيه خواطرهم وأتعبوا فيه روياتهم فينزلهم منازلهم ولا يبخسهم حقوقهم فمن آفات هذه الصنعة على ذوي الفضل من أهلها أن القاصر منهم لا يمتنع من ادعاء منزلة المبرز بل لا يعفيه من ادعاء التقدم في الفضل عليه والمبرز في الفضل لا يقدر على إثبات نقص المتخلف ( والله يعلم المفسد من المصلح )

ثم أصل هذه الآداب الذي ترجع إليه وينبوعها الذي تفجرت منه رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب التي كتبها إلى الكتاب يوصيهم فيها وهي
أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معايشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلادهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم
وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم ومقداما في موضع الإقدام ومحجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيا عند الشدائد عالما بما يأتي من النوازل ويضع الأمور مواضعها والطوارق أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلوم فأحكمه فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدأوا

بعلم كتاب الله عز و جل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم
ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناآت واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات وإياكم والكبر والصلف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابوا في الله عز و جل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقدم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء وهو لكم أفسد منه لها
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وصبره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه

فاستشعروا ذلكم وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة فإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز و جل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله ثم ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفرا وللبلاد عامرا وللرعية متألفا وعن إيذائهم متخلفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح ألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها وإن كان شبوبا اتقاها من قبل يديها وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طريقها فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم
والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظر ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى

الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير خاف
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا

تزكية لنفسه ولا تكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من يلزم الصحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخرا وتممته به تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الباب الرابع من المقدمة في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في
الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان
الفصل الأول في التعريف بحقيقته
لا خفاء في أنه اسم مركب من مضاف وهو ديوان ومضاف إليه وهو الإنشاء أما الديوان فاسم للموضع الذي يجلس فيه الكتاب وهو بكسر الدال قال النحاس في صناعة الكتاب وفتحها خطأ قال وأصله دوان فأبدلت إحدى الواوين ياء فقيل ديوان ويجمع على دواوين واختلف في أصله فذهب قوم إلى أنه عربي قال النحاس والمعروف في لغة العرب أن الديوان الأصل الذي يرجع إليه ويعمل بما فيه ومنه قول ابن عباس إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب ويقال دونته أي أثبته وإليه يميل كلام سيبويه وذهب آخرون إلى أنه عجمي وهو قول الأصمعي وعليه اقتصر الجوهري في صحاحه

فقال الديوان فارسي معرب وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك وجهين
أحدهما أن كسرى ذات يوم اطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم وهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان وعليه اقتصر أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب
والثاني أن الديوان بالفارسية اسم للشياطين وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلي منها والخفي
وأما الإنشاء فقد تقدم أنه مصدر أنشأ الشيء ينشئه إذا ابتدأه واخترعه وحينئذ فإضافة الديوان للإنشاء تحتمل أمرين
أحدهما أن الأمور السلطانية من المكاتبات والولايات تنشأ عنه وتبدأ منه
والثاني أن الكاتب ينشىء لكل واقعة مقالا وقد كان هذا الديوان في الزمن المتقدم يعبر عنه بديوان الرسائل تسمية له بأشهر الأنواع التي تصدر عنه لأن الرسائل أكثر أنواع كتابة الإنشاء وأعمها وربما قيل ديوان المكاتبات ثم غلب عليه هذا الاسم وشهر به واستمر عليه إلى الآن

الفصل الثاني في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه عنه بعد ذلك في الممالك
اعلم أن هذا الديوان أول ديوان وضع في الإسلام وذلك أن النبي كان يكاتب أمراءه وأصحاب سراياه من الصحابة رضوان الله عليهم ويكاتبونه وكتب إلى من قرب من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام وبعث إليهم رسله بكتبه فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة وعبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس ودحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين إلى غير ذلك من المكاتبات وكتب لعمرو بن حزم عهدا حين وجهه إلى اليمن وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع بالشام وكتب كتاب القضية بعقد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية وكتب الأمانات أحيانا إلى غير ذلك مما يأتي ذكره في الاستشهاد به في مواضعه إن شاء الله تعالى
وهذه المكتوبات كلها متعلقها ديوان الإنشاء بخلاف ديوان الجيش فإن أول من وضعه ورتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته
على أن القضاعي قد ذكر في تاريخه عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف أن الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت كانا يكتبان للنبي أموال الصدقات وأن حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير كانا يكتبان المداينات والمعاملات فإن

صح ذلك فتكون هذه الدواوين أيضا قد وضعت في زمنه إلا أنها ليست في الشهرة وتواتر الكتابة في زمانه كما تقدم من متعلقات كتابة الإنشاء
وقد رأيت في سيرة لبعض المتأخرين أنه كان للنبي نيف وثلاثون كاتبا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعامر بن فهيرة وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأبان أخوه وسعيد أخوهما وعبد الله بن الأرقم الزهري وحنظلة بن الربيع الأسدي وأبي بن كعب وثابت بن قيس بن شماس وزيد بن ثابت وشرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن زيد وجهيم بن الصلت والزبير بن العوام وخالد بن الوليد والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عبد الله بن أبي ومعيقب بن أبي فاطمة وطلحة بن زيد بن أبي سفيان والأرقم ابن الأرقم الزهري والعلاء بن عتبة وأبو أيوب الأنصاري وبريدة بن الخصيب والحصين بن نمير وأبو سلمة المخزومي وحويطب بن عبد العزى وأبو سفيان بن حرب وحاطب بن عمرو وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان ألزمهم له في الكتابة معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت
وكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعثمان هو الذي كتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة عن أبي بكر رضوان الله عليه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
وكتب لعمر رضي الله عنه زيد بن ثابت وعبد الله بن خلف
وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم
وكتب لعلي عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله وسعيد بن نجران الهمداني
وكتب للحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الله بن أبي رافع كاتب أبيه

ثم كانت دولة بني أمية فتوالت خلفاؤهم من معاوية بن أبي سفيان فمن بعده وأمر ديوان الإنشاء في زمن كل أحد مفوض إلى كاتب يقيمه إلى حين انقراض دولتهم وكان الخليفة هو الذي يوقع على القصص ويحدثها بنفسه والكاتب يكتب ما يبرز إليه من توقيعه ويصرفه بقلمه على حكمه وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وقوة الملكة في الكتابة حتى سار ذكره في الآفاق وصار يضرب به المثل على ممر الأزمان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفائهم
فلما بزغت شمس الخلافة العباسية بالعراق وولي الخلافة أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس استوزر أبا سلمة الخلال وهو أول من لقب بالوزارة في الإسلام على ما سيأتي وتوالت الوزراء بعده لخلفاء بني العباس من يومئذ وكان ديوان الإنشاء تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بقلمه ويتولى أحواله بنفسه وتارة يفرد عنه بكاتب ينظر في أمره ويكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بكلامه ويصرفها بتوقيعه على القصص ونحوها وصاحب ديوان الإنشاء يعتمد ما يرد عليه من ديوان الوزارة ويمشي على ما يلقى إليه من توقيعه وربما وقع الخليفة بنفسه حتى بعد غلبة ملوك الأعاجم من الديلم وبني سلجوق وغيرهم على الأمر والأمر على ذلك تارة وتارة إلى انقراض الخلافة من بغداد
وكان ممن اشتهر من وزرائهم بالبلاغة حتى صار يضرب به المثل يحيى بن خالد وزير الرشيد والحسن بن سهل وعمرو بن مسعدة كاتب المأمون وابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة وسهل بن هارون الذي ترجمها والأستاذ أبو الفضل بن العميد والصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وأبو إسحاق الصابي في جماعة آخرين منهم
ثم لما انقرضت الخلافة من بغداد في وقعة هولاكو ملك التتار في سنة ست وخمسين وستمائة واستولت المغل والأعاجم على بغداد بطل رسم

الكتابة المعتبرة وصار أكثر ما يكتب عن ملوك التتار بالمغلية أو الفارسية والأمر على ذلك إلى زماننا على ما سيأتي بيانه في الكلام على دواوين الأمصار في المكاتبات والولايات وغيرهما إن شاء الله تعالى
وكانت بلاد الغرب والأندلس بأيدي نواب الخلفاء من حين الفتح الإسلامي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا عناية لهم بديوان الإنشاء للتقرب من البداوة وغايته المكاتبة إلى ديوان الخلافة ونحو ذلك فلما غلب بنو العباس على الخلافة هرب طائفة من بني أمية إلى بلاد المغرب وجازت البحر إلى الأندلس فانتزعوه من النواب الذين كانوا به وملكوه وصاروا ينصبون فيه خليفة بعد خليفة جارين على سنن ما كانوا عليه بالشأم من ألقاب الخلافة مضاهين لخلافة بني العباس ببغداد من إقامة شعار الخلافة واتخاذ ديوان الإنشاء واستخدام بلغاء الكتاب وتعدت دولتهم إلى بر العدوة من بلاد المغرب فحكموه ثم تقاصر أمرهم بعد ذلك شيئا فشيئا باستيلاء المستولين المستبدين عليهم بالأمر إلى أن انقرضت دولتهم من الأندلس وبلاد المغرب واستولت عليهما طوائف من الملوك وتنقلت بهم الأحوال في استيلاء الملوك على كل ناحية منهما وتتابعت الدول في كل حين كلما خبت دولة نجمت أخرى على ما سيأتي ذكره في مكاتبات ملوكهما إن شاء الله تعالى
وكان حال ديوان الإنشاء فيهم بحسب ما يكونون عليه من الحضارة والبداوة فأوائل الدول القريبون عهدا بالبادية لا عناية لهم بكتابة الإنشاء وإذا استحضرت الدولة صرفت اهتمامها إلى ديوان الإنشاء وترتيبه إلى أن استقر ما بقي من الأندلس بعد ما ارتجعته الفرنج منه بأيدي بني الأحمر والغرب الأقصى بيد بني مرين والغرب الأوسط بيد بين عبد الواد وإفريقية

بيد بقايا الموحدين من أتباع المهدي بن تومرت وداخلتهم الحضارة فأخذوا في ترتيب دواوين الإنشاء بهذه الممالك ومعاناة البلاغة في المكاتبات ونحوها واستمر الحال على ذلك إلى زماننا
وممن اشتهر بالبلاغة من كتاب المغاربة والوزراء به أبو الوليد بن زيدون والوزير أبو حفص بن برد الأصفر الأندلسي وذو الوزارتين أبو المغيرة بن حزم والوزير أبو القاسم محمد بن الحد في جماعة أخرى من متقدمي كتابهم ومن متأخريهم عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن المريني وأربى على كثير من المتقدمين ابن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب غرناطة من الأندلس ممن أدركه من عاصرناه
أما الديار المصرية فلديوان الإنشاء بها خمس حالات
الحالة الأولى ما كان الأمر عليه من حين الفتح وإلى بداية الدولة الطولونية ونواب الخلفاء تتوالى عليها واحدا بعد واحد فلم يكن لهم عناية بديوان الإنشاء ولا صرف همة إليه للاقتصار على المكاتبات لأبواب الخلافة والنزر اليسير من الولايات ونحو ذلك ولذلك لم يصدر عنهم ما يدون في الكتب ولا يتناقل بالألسنة
الحالة الثانية ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية من ابتداء ولاية أحمد بن طولون واستفحال ملك الديار المصرية في الإسلام وترتيب أمرها وإلى حين انقراض الدولة الأخشيديه وفي خلال ذلك ترتب ديوان الإنشاء بها وانتظم أمر المكاتبات والولايات وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وحسن الكتابة أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود بن عبد كان كاتب أحمد بن طولون وكان مبدأ الكتاب المشهورين بها وكتب بعده لخمارويه بن أحمد بن طولون إسحاق بن نصر العبادي النصراني وتوالت الكتاب بالديوان بعد ذلك
الحالة الثالثة ما كان الأمر عليه من ابتداء الدولة الفاطمية وإلى

انقراضها ولما ولي الفاطميون الديار المصرية صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه فارتفع بهم قدره وشاع في الآفاق ذكره وولي ديوان الإنشاء عنهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم ما بين مسلم وذمي فكتب للعزيز بالله ابن المعز أبو المنصور بن سوردين النصراني ثم كتب بعده لابنه الحاكم ومات في أيامه فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر البهزكي ثم كتب بعده لابنه الظاهر وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العميدي وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فكتب بعده ولده الأجل أبو المكارم إلى أن توفي في أيام الحافظ وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرآسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجد المبصري المعروف بابن الصيرفي والقاضي كافي الكفاة محمود ابن القاضي الموفق أسعد بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره القاضي الموفق ابن الخلال أيام الحافظ وإلى آخر أيام العاضد وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني ثم شرك العاضد مع الموفق ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الملك محمود بن الأنصاري وكان في أيامه القاضي المؤتمن كاسيبويه ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق ابن الخلال قرب وفاته في سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وكتب من إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العاضد آخر خلفائهم
الحالة الرابعة ما كان الأمر عليه من ابتداء دولة بني أيوب إلى آخر انقراضها
قد تقدم أن القاضي الفاضل رحمه الله كان قد كتب بين يدي الموفق ابن الخلال في وزارة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين فلما استقل السلطان صلاح الدين المذكور بالملك وخطب لبني العباس على ما تقدم في الكلام على ملوك مصر فوض

إلى الفاضل الوزارة وديوان الإنشاء فكان يتكلم فيهما جميعا وأقام على ذلك إلى أن مات السلطان صلاح الدين فكتب بعده لابنه العزيز وأخيه العادل أبي بكر ثم مات وكتب للكامل بن العادل القاضي أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن توفي فكتب بعده للكامل الشيخ أمين الدين عبد المحسن الحلبي مدة قليلة وتوالت كتاب الإنشاء في الولاية إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب فولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهيرا ثم صرفه وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردي فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية
الحالة الخامسة ما كان الأمر عليه في الدولة التركية مما هو مستقر إلى الآن قد تقدم أن الصاحب فخر الدين بن لقمان بقي في ديوان الإنشاء إلى آخر الدولة الأيوبية
ولما صارت المملكة إلى الدولة التركية بقي في صحابة ديوان الإنشاء أيام أيبك التركماني ثم أيام المظفر قطز ثم أيام الظاهر بيبرس ثم أيام المنصور قلاوون فباشر ديوان الإنشاء في أيامه مدة ثم نقله إلى الوزارة وولى مكانه بديوان الإنشاء القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في حياة والده فبقي حتى توفي المنصور قلاوون واستقر بعده ابنه الأشرف خليل واستمر عنده في كتابة السر برهة من الزمان وسافر معه إلى الشام فمات بالشام فولى الأشرف مكانه القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير وقفل السلطان راجعا إلى مصر فمات القاضي تاج الدين في أثناء الطريق بمضي شهر من ولايته فولى مكانه القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله فأقام بقية أيام الأشرف بن قلاوون وأيام أخيه الناصر محمد بن قلاوون في سلطته الأولى وأيام العادل كتبغا وأيام المنصور لاجين وأيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية وأيام المظفر بيبرس الجاشنكير وبرهة من أيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة

ثم نقله إلى كتابة السر بدمشق المحروسة عوضا عن أخيه القاضي محيي الدين بن فضل الله وولى مكانه بمصر علاء الدين بن الأثير لسابق وعد له منه حين كان معه في الكرك وبقي حتى مرض بالفالج وبطلت حركته فاستدعى الملك الناصر القاضي محيي الدين بن فضل الله من الشأم فولاه ديوان الإنشاء بالديار المصرية في المحرم سنة تسع وعشرين وسبعمائة
وكان ولده القاضي شهاب الدين هو الذي يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات إلى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأعادهما الملك الناصر إلى دمشق وولى مكانهما القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود في شعبان من السنة المذكورة فبقي حتى حج السلطان وعاد إلى مصر فأعاد القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بالديار المصرية فبقيا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
وفي أواخر ذلك تغير السلطان على القاضي شهاب الدين المذكور وصرفه عن المباشرة وأقام أخاه القاضي علاء الدين مكانه يباشر مع والده وبقي الأمر على ذلك مدة لطيفة
ثم سأل القاضي محيي الدين السلطان في العود إلى دمشق وقد كبرت سنه وضعفت حركته فأعاده وصحبته ولده القاضي شهاب الدين وكتب له تقليد في قطع الثلثين بأن يستمر على صحابة دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة بالباب الشريف فمن دونه نوابه وأنه حيث حل يقرأ القصص والمظالم ويقرر الولايات والعزل والرواتب وغير ذلك ويوقع فيها بما يراه وتجهز إلى مصر ليعلم عليها العلامة الشريفة وفوض أمر ديوان الإنشاء بالديار المصرية لولده القاضي

علاء الدين استقلالا وتجهز القاضي محيي الدين للسفر فمرض ومات بعد أيام قلائل في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة ثم نقل إلى دمشق سنة تسع وبقي ولده القاضي علاء الدين فبقي في الوظيفة بقية أيام الملك الناصر ثم أيام ولده المنصور أبي بكر ثم أخيه الأشرف كجك ثم أخيه الملك الناصر أحمد
فلما خلع الناصر أحمد نفسه في سنة ثلاث وأربعين وتوجه إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنده واستقر الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في السلطنة بعد أخيه أحمد فقرر في ديوان الإنشاء القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله فبقي في الوظيفة إلى أن عاد أخوه القاضي علاء الدين من الكرك فأعيد إلى منصبه وبقي بقية أيام الملك الصالح إسماعيل ثم أيام أخيه الكامل شعبان ثم أيام أخيه المظفر حاجي ثم أيام أخيه الناصر حسن في سلطنته الأولى ثم أيام أخيه الصالح صالح ثم أيام الناصر حسن ثانيا ثم أيام المنصور محمد بن حاجي بن محمد بن قلاوون ثم أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون فتوفي وولي الوظيفة بعده ولده القاضي بدر الدين محمد فبقي بقية أيام الأشرف شعبان ثم أيام ولده المنصور علي ثم أيام أخيه الصالح حاجي بن شعبان إلى أن خلع وجاءت الدولة الظاهرية برقوق فقرر في ديوان الإنشاء القاضي أوحد الدين عبد الواحد بن التركماني فبقي حتى توفي فأعيد القاضي بدر الدين المذكور وبقي حتى خلع الظاهر برقوق وعاد المنصورحاجي بن الأشرف شعبان إلى السلطنة وهو مستمر المباشرة
فلما عاد الظاهر برقوق من الكرك حضر معه القاضي علاء الدين علي الكركي فولاه كتابة السر وبقي حتى توجه صحبة السلطان إلى الشام في طلب منطاش فمات القاضي علاء الدين وكان القاضي بدر الدين

صحبته فأعيد إلى الوظيفة في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وعاد مولى صحبة الركاب الشريف السلطاني ثم توجه صحبته إلى الشام عند وصول تمر لبغداد فمرض ومات هناك فولى الظاهر مكانه القاضي بدر الدين محمود السراي الكلستاني في شوال سنة ست وتسعين وسبعمائة وحضر صحبة الركاب الشريف إلى الديار المصرية فبقي حتى توفي في جمادي الأولى سنة إحدى وثمانمائة فولى الظاهر مكانه المقر العالي الفتحي فتح الله ففتح الله به من أبواب ديوان الإنشاء ما كان مغلقا وأصفى به من ورده ما كان مكدرا
وانتقلت السلطنة بعد وفاة الظاهر برقوق إلى ولده الناصر فرج فأجراه من المباشرة والإجلال والتعظيم عل عادة أبيه ثم صرفه عن الوظيفة في شهور سنة ثمان وثمانمائة وأقام مكانه في الوظيفة المقر السعدي إبراهيم بن غراب وهو يومئذ مشير الدولة بعد تنقله في وظائف الديار المصرية والمشار إليه وأقام بها مدة لطيفة وعادت إلى المقر الفتحي فتح الله المشار إليه وقيل ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ) فجرى فيها على الأسلوب الأول والمهيع السابق من العدل والإنصاف والإحسان إلى الخلق وإيصال البر إلى مستحقيه والمساعدة في الله لمن عرف ومن لم يعرف والله هو المكافئ لعباده على جميل الصنع
( من يفعل الخير لم يعدم جوازيه ... لن يذهب العرف بين الله والناس )

الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب
أهله وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه
الجاري عليه في القديم والحديث
أما رفعة محله وشرف قدره فأرفع محل وأشرف قدر يكاد أن لا يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته ولم يزل صاحب هذا الديوان معظما عند الملوك في كل زمن مقدما لديهم على من عداه يلقون إليه أسرارهم ويخصونه بخفايا أمورهم ويطلعونه على ما لم يطلع عليه أخص الاخصاء من الوزراء والأهل والولد وناهيك برتبة هذا محلها
قال صاحب مواد البيان ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص من كاتب الرسائل فإنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه ولا غنى له عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه من نفسه في آناء ليله وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته فهو لذلك لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومحله منه في عائدة خدمته وأثرة دولته محل قلبه الذي يؤامره في مشكل رأيه حتى يتنقح ويراجعه في مهم تدبيره حتى يتضح ولسانه الذي يقرر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة

ويستقر بترهيبه عن المعصية والمشاققة ويقر بأوامره ونواهيه أمور سلطانه وينزلها منازلها في متمهد مجالسها ويتمكن من سياسة أجناده وعمارة بلاده ومصلحة رعيته واجتلاب مودتهم واستخلاص نياتهم وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه ويرعيها مهمات شانه وأذنه التي يثق بما وعته ولا يرتاب بما سمعته ويده التي يبسطها بالإنعام ويبطش بها في النقض والإبرام
قال ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب
قال ابن الطوير في ترتيب الدولة الفاطمية وكان هذا المنصب لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة ويخاطب بالأجل وإليه تسلم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي وهذا أمر لا يصل إليه غيره قال وهو أول أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص وله حاجب من الأمراء الشيوخ وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخاد والمسند والدواة العظيمة الشأن ويحمل دواته أستاذ من خواص الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة
قلت ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة ومحله أعظم محل إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها وبرأيه يستضاء في مشكلاتها وعلى تدبيره يعول في مهماتها وإليه ترد المكاتبات وعنه تصدر ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية

كافة ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان وجميع ما يعلم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرته حتى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربعات ونحوها وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرض لأخذ علامة سلطانية البتة وناهيك بذلك رفعة وشرفا باذخا
وأما لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدم أنهم كانوا في زمن بني أمية وما قبله يعبرون عنه بالكاتب لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعي في عيون المعارف فلما جاءت الدولة العباسية واستقر السفاح أول خلفائهم في الخلافة لقب كاتبه أبا سلمة الخلال بالوزارة وترك اسم الكاتب واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد وتقدم أيضا أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوضه إلى من يتحدث فيه عنه وتارة ينفرد عنها فحيث انفرد عن الوزارة لقب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن
فحيث كان الديوان مشهورا بديوان الرسائل كما كان في الزمن الأول لقب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متولي ديوان الرسائل وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات أو متولي ديوان المكاتبات وحيث كان الديوان مشهورا بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيما لمتوليه فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية وعلى هذا مصطلح كتاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره على أنه لو قيل ناظر دواوين

الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما اشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان
قال ابن الطوير وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدست
قلت وانتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدست وربما عبر عنه بكاتب الدرج وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتاب الدست ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدم ذكره فلقب بكاتب السر ونقل لقب كاتب الدست إلى طبقة دونه من كتاب الديوان واستمر ذلك لقبا على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره ويضاهيه في ذلك من العرف العام متولي ديوان الإنشاء بدمشق وبحلب وبطرابلس وبحماة وبصفد إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب وكذا في الباقيات أما غزة والكرك والإسكندرية وغيرها من النيابات الصغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سر بوجه
واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السر بميم فيقولون كاتم السر وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سر الملك أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني

الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان وآدابه
قال أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته يجب أن يكون صبيح الوجه فصيح الألفاظ طلق اللسان أصيلا في قومه رفيعا في حيه وقورا حليما مؤثرا للجد على الهزل كثير الأناة والرفق قليل العجلة والخرق نزر الضحك مهيب المجلس ساكن الظل وقور النادي شديد الذكاء متوقد الفهم حسن الكلام إذا حدث حسن الإصغاء إذا حدث سريع الرضا بطيء الغضب رؤوفا بأهل الدين ساعيا في مصالحهم محبا لأهل العلم والأدب راغبا في نفعهم وأن يكون محبا للشغل أكثر من محبته للفراغ مقسما للزمان على أشغاله يجعل لكل منها جزءا منه حتى يستوعبه في جميع أقسامها ملازما لمجلس الملك إذا كان جالسا وملازما للديوان إذا لم يكن الملك جالسا ليتأسى به سائر كتاب الديوان ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن ديوانهم وأن يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه ما لم ير في ذلك خللا على المملكة فإنه يجب أن يهدي النصيحة فيها للملك من غير أن يوجده فيما تقدم من رأيه فسادا أو نقصا لكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف وأن ينحل الملك صائب الآراء ولا ينتحلها عليه ومهما حدث من الملك من رأي صائب أو فعل جميل أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره وأوجب على الناس حمده عليه وشكره وإذا قال للملك قولا في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه فلم يره موافقا للصواب فلا يجبهه بالرد عليه واستهجان ما أتى به فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر إلى حين الخلوة ويدخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج

الصواب من غير تلق برد ولا يتبجح بما عنده ويكون متابعا للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة من بسط المعدلة ومد رواق الأمنة ونشر جناح الإنصاف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وجبر الكسير والإنعام على المعتر المستحق والتوفر على الصدقات وعمارة بيوت الله تعالى وصرف الهمم إلى مصالحها والنظر في أحوال الفقهاء وحملة كتاب الله العزيز بما يصلح والالتفات إلى عمارة البلاد وجهاد الأعداء ونشر الهيبة وإقامة الحدود في مواضعها وتعظيم الشريعة والعمل بأحكامها فيكون لجميع ذلك مؤكدا ولأفعاله فيه موطدا ممهدا وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال أو فعلة تخالف هذه الأفعال نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج ولا يدع ممكنا في تبين قبحها وإصلاح رداءة عاقبتها وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه إلى أن يعيده إلى الفضائل التي هي بالملوك النبلاء أليق وأن يكون مع ذلك بأعلى مكانة من اليقظة والاستدلال بقليل القول على كثيره وببعض الشيء على جميعه ويستغني عن التصريح بالإشارة والإيماء بل الرمز والإيحاء لينبه الملك على الأمور من أوائلها ويعرفه خواتم الأشياء من مفتتحاتها ويحذره حين تبدو له لوائح الأمر من قبل أن يتساوى فيه العالم والجاهل كما حكي عن خالد بن برمك أنه كان مع قحطبة في معسكر جالسين في خيمة إذ نظر خالد إلى سرب من الظباء قد أتى حتى كاد يخالط العسكر فأشار على قحطبة بالركوب فسأله عن

السبب فقال الأمر أعجل أن أبين سببه فركب وأركب العسكر فلم يستتموا الركوب إلا والعدو قد دهمهم وقد استعدوا له فكانت النصرة لهم على العدو فلما انقضى الحرب سأل قحطبة خالدا من أين أدرك ذلك فقال رأيت الظباء وقد أقبلت حتى خالطت العسكر فعرفت أنها لم تفعل ذلك مع نفورها من الإنس إلا لأمر عظيم قد دهمها من ورائها وأن لا يكتب عن الملك إلا ما يقيم منار دولته ويعظمها ولا يخرج عن حكم الشريعة وحدودها ولا يكتب ما يكون فيه عيب على المملكة ولا ذم لها على غابر الأيام ومستأنف الأحقاب وإن أمر بشيء يخرج عن ذلك تلطف في المراجعة بسببه وبين وجه الصواب فيه إلى أن يرجع به إلى الواجب وأن يكون من كتمان السر بالمنزلة التي لا يدانيه فيها أحد ولا يقاربه فيها بشر حتى يقرر في نفسه إماتة كل حديث يعلمه ويتناسى كل خبر يسمعه وأن لا يطلع والدا ولا ولدا ولا أخا شقيقا ولا صديقا صدوقا على ما دق أو جل ولا يعلمه بما كثر منه ولا قل ويتوهم بل يتحقق أن في إذاعته ما يعلم به وضع منزلته وحط رتبته ويجتهد في أن يصير له ذلك طبعا مركبا وأمرا ضروريا
قلت وهذه الصفة هي الشرط اللازم والواجب المحتم بها شهر وبالإضافة إليها عرف وقد قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكانا وأوسعهم علما الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم
ومن كلام بعض الحكماء سرك من دمك قال صاحب العقد يعنون أنه ربما كان في إفشاء سرك سفك دمك وإلى ذلك يشير أبو محجن الثقفي بقوله
( قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق )
وقال الوليد بن عتبة لأبيه إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثا أفلا أخبرك به قال يا بني إن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه

فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا وقد كانت ملوك الفرس تقول أعظم الناس حقا على جميع الطبقات من ولي أسرار الملوك
واعلم أنه إذا كان إفشاء السر ربما أفضى إلى الهلكة خصوصا أسرار الملوك فعلى صاحب هذه الوظيفة القيام من ذلك بواجبه وكتمان السر حتى عن نفسه فقد حكى صاحب الريحان والريعان أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال عبد الله
( ومستودعي سرا تضمنت ستره ... فأودعته في مستقر الحشا قبرا )
فقال ابنه عبيد الله وهو صبي
( وما السر من قلبي كثاو بحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا )
( ولكنني أخفيه حتى كأنني ... من الدهر يوما ما أحطت به خبرا )
( وعلى صاحب هذه الرتبة الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك بأن لا يتلقاه عنه بحضرة أحد فقد حكي أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا فإنه أموت للسر وأحرم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة لأن الواحد رهن بما أفشي إليه والثاني مطلق عليه ذلك الرهن والثالث علاوة وإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة أو رهبة وإن كان عند اثنين كان على شبهة واتسعت عن الرجلين

المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئا بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه
قلت وكما يجب عليه الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك فكذلك يجب عليه الاحتياط حالة إلقائه إلى كاتب يكتبه فلا يلقيه إلى كاتبين جميعا ولا يخاطب فيه أحدهما بحضرة الآخر لتكون العهدة في دركه على واحد بعينه على أنه ربما أفشي السر مع احتراز صاحبه عن إفشائه فقد قيل إن الجن تنقل الأخبار وتفشي ماتطلع عليه من الأسرار وقد حكي عن علي بن الجهم أنه قال دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفا على غير مرتبته التي يقوم عليها متكأ على سيفه مطرقا إلى الأرض فأنكرت حاله وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إلي وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق فقال لي الخليفة يا علي أنكرت شيئا قلت نعم يا أمير المؤمنين قال ما هو قلت وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته قال سوء اختياره أقامه ذلك المقام قلت ما السبب يا أمير المؤمنين قال خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سرا فما عداني السر أن عاد إلي قلت لعلك أسررت إلى غيره قال ما كان هذا قلت فلعل مستمعا استمع إليكما قال لا ولا هذا أيضا قال فأطرقت مليا ثم رفعت رأسي فقلت يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجا قال وما هو قلت خبر أبي الجوزاء حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال

حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال طلقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي فقالت لي امرأتي طلقتني يا أبا الجوزاء قلت من أين لك هذا قالت حدثتني به جارتي الأنصارية قلت ومن أين لها هذا قالت ذكرت أن زوجها خبرها بذلك قال فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما فقصصت عليه القصة فقال أما علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل فمن هنا يفشو السر فضحك المتوكل وقال إلي يا فتح فصب عليه خلعة وحمله على فرس وأمر له بمال وأمر لي بدونه فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح فيما أخذ فصار إلي الأكثر
قال أبو نعيم وكان في نفسي من حديث أبي الجوزاء شيء حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات قال خرجت سنة أريد مكة فبينا أنا في الطريق إذ ضلت راحلتي فخرجت أطلبها فإذا أنا باثنين قد قبضا علي أحس حسهما ولا أرى شخصهما بل أسمع كلامهما فأخذاني إلى شيخ قاعد وهو حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام فأفرخ روعي ثم قال من أين وإلى أين قلت من الكوفة إلى مكة قال ولم تخلفت عن أصحابك قلت ضلت راحلتي فجئت أطلبها فرفع رأسه إلى قوم عنده وقال أنيخوا راحلته فأنيخت بين يدي ثم قال تقرأ القرآن قلت نعم قال فاقرأ فقرأت حتم

الأحقاق حتى أتيت ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) فقال مكانك أتدري كم كانوا قلت لا قال كنا أربعة وكنت أنا المخاطب عن النبي لهم فقلت ( يا قومنا أجيبوا داعي الله ) ثم قال أتقول الشعر قلت لا قال فترويه قلت نعم قال هاته فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى أمن أم أوفى فقال لمن هذه قلت لزهير بن أبي سلمى قال الجني قلت لا بل الإنسي ثم رفع رأسه إلى قوم عنده فقال ائتوني بزهير فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه قال يا زهير قال لبيك قال أمن أم أوفى لمن هي قال لي قال هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى قال صدق وصدقت قال وكيف هذا قال هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن أقول الشي فألقيه إليه في فهمه ويقول الشيء فآخذ عنه فأنا قائلها في الجن وهو قائلها في الإنس قال أبو نعيم فصدق عندي حديث أبي الجوزاء أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل

الفصل الثالث فيما يتصرف فيه صاحب هذا الديوان بتدبيره ويصرفه بقلمه
ومتعلق ذلك أثنا عشر أمرا
الأمر الأول التوقيع والتعيين
أما التوقيع فهو الكتابة على الرقاع والقصص بما يعتمده الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة والتحدث في المظالم وهو أمر جليل ومنصب حفيل إذ هو سبيل الإطلاق والمنع والوصل والقطع والولاية والعزل إلى غير ذلك من الأمور المهمات والمتعلقات السنية واعلم أن التوقيع كان يتولاه في ابتداء الأمر الخلفاء فكان الخليفة

هو الذي يوقع في الأمور السلطانية وفصل المظالم وغيرهما

الأمر الثاني ظره في الكتب الواردة عليه
قال أبو الفضل الصوري كان الواجب أن لا يقرأ الكتب الواردة على الملك إلا هو بنفسه ولما كان ذلك متعذرا عليه لوفورها واتساع الدولة وكثرة المكاتبين من أصناف أرباب الخدم ووصول الكتب إليه من الأقطار النائية والممالك المتباعدة وضيق الزمان عن تفرغه لذلك وجب تفويضه إلى متولي ديوان رسائله قال ولما كان حال متولي صاحب الديوان كذلك لاشتغاله بالحضور عند الملك في بعض الأوقات لقراءة الكتب الواردة وتقرير ما يجاب به عن كل منها مع شغله بتصفح ما يكتب في الديوان والمقابلة به احتاج أن يرد أمرها إلى كاتب يقوم مقامه على ما سيذكر في صفات كتاب الديوان فيما بعد إن شاء الله تعالى
الأمر الثالث نظره فيما يتعلق برده الأجوبة عن الكتب الواردة على لسانه
قال أبو الفضل الصوري ومن أهم ما يلزم صاحب هذا الديوان إشعار الملك ما يراه من الآراء الصائبة ويعلمه أن من أعظمها خطرا أن يصدر جواب كل كتاب يصل إليه في يومه ولا يؤخره إلى غده ويؤرخ في آخره بتاريخ ذلك اليوم فيقال وكتب في يوم وصول كتابك وهو يوم كذا فإن ذلك يقيم للملك هيبة كبيرة ويدل على تطلعه للأمور وانتصابه للتدبير وقلة إهماله لأمور دولته وكثرة احتفاله باستقامة شؤونها ويؤثر في نفس المكاتبين تأثيرا كبيرا ويستشعرون منه حذرا وخيفة قال وينبغي أن يأخذ جميع أرباب الخدم في البلاد بتاريخ كتبهم ويحذرهم من ترك ذلك فإن في إهماله ضررا كبيرا من حيث إنه ورد غير مؤرخ لم يعلم بعد العهد بما ذكر فيه من قربه ولا هل فات وقت النظر فيما تضمنه أم لا وإذا كان مؤرخا عرف ذلك وزالت

الشبهة فيه وإذا وصل إليه كتاب اقتضى تاريخه زيادة زمن على مسافة الطريق أنكر ذلك على حامله فإن خرج عن العهدة بإقامة الحجة على أنه لم يتأخر به قدرا زائدا على مسافة طريقه وأن العذر من تقدم التاريخ قبل إرساله أنكر ذلك على مرسله إنكارا يردعه عن ذلك ويزجره عنه

الأمر الرابع نظره فيما تتفاوت به المراتب في المكاتبات والولايات من
الافتتاح والدعاء والألقاب وقطع الورق ونحو ذلك
وقد كان هذا الباب في الزمن المتقدم في غاية الضبط والتحرير خصوصا في زمن الخلفاء من بني العباس والفاطميين لا يزاد أحد في الألقاب على ما لقبه به الخليفة كبيرا كان أو صغيرا ولا يسمح له بزيادة الدعوة الواحدة فضلا عما فوقها أما الآن فقد صار ذلك موكولا إلى نظر صاحب ديوان الإنشاء ينزل كل أحد من المكاتبين وأرباب الولايات منزلته على ما يقتضيه مصطلح الزمان من علو وهبوط وحينئذ فعليه أن يحتاط في ذلك ويؤاخذ كتاب الإنشاء بالمشاحة فيه والوقوف عند ما حد لهم من غير إفراط ولا تفريط فقد قال صاحب مواد البيان إن الملوك تسمح ببدرات المال ولا تسمح بالدعوة الواحدة وناهيك بذلك تشديدا واحتياطا
الأمرالخامس نظره فيما يكتب من ديوانه وتصفحه قبل إخراجه من الديوان
قال أبو الفضل الصوري على متولي الديوان أن يتصفح ما يكتب من ديوانه من الولايات والمناشير والمكاتبات إذ الكاتب غير معصوم من الخطأ

واللحن وسبق القلم وعيب الإنسان يظهر منه لغيره مالا يظهر له فما أبصره من لحن أو خطإ أصلحه ونبه كاتبه عليه فيحذر من مثله فيما يستأنفه فإن تكرر منه زجره عن ذلك وردعه عن العود إلى مثله إذ الغرض الأعظم أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظا ومعنى وإعرابا حتى لا يجد طاعن فيه مطعنا فربما زل الكاتب في شيء فيزل بسببه متولي الديوان بل السلطان بل الدولة بأسرها قال فإذا فرغ من عرض الكتاب والوقوف عليه كتب عليه بخطه ما يدل على وقوفه عليه ليكون ملتزما بدركه
وكأنه يشير إلى ما تقدم من كلامه من أنه إن كان رسالة كتب عنوانها بخطه وإن كان منشورا ونحوه كتب تاريخه بخطه
ثم قال فإن كان متولي الديوان مشتغلا بحضور مجلس السلطان ومخاطباته والتلقي عنه ولا يمكنه مع ضيق الزمان توفية كل ما يكتب بالديوان حق النظر فيه وتصفح ألفاظه ومعانيه نصب له في ذلك نائبا كامل الصنعة حسن الفطنة موثوقا به فيما يأتي ويذر يقوم مقامه في ذلك قال وليس ذلك لأنه يغني عن نظر متولي الديوان ولكن ليتحمل عنه أكثر الكل ويصير إليه وقد قارب الصحة أو بلغها فيحصل على الراحة من تعبها ويصرف نظره إلى ما لعله خفي على المتصفح من دقائق المعاني وعويص المدارك فيقل زمن النظر عليه ويظفر بالغرض المطلوب في أقرب وقت

الأمر السادس نظره في أمر البريد ومتعلقاته وهو من أعظم مهمات السلطان
وآكد روابط الملك
قال زياد لحاجبه وليتك حجابي وعزلتك عن أربع هذا المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني ولا سلطان لك عليه وصاحب

الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد وطارق الليل فلا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي ولو كنت في لحافي وقد تقدم أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يتلقى المكاتبات الواردة ويقرؤها على السلطان ويجاوب عنها فيجب على صاحب هذه الوظيفة أن يكون متيقظا لما يرد على السلطان من نواحي ممالكه وقاصيات أعماله فإنه المعتمد عليه في ذلك والمعول عليه في أمره
وقد كان أمر البريد في الزمن المتقدم والدوادارية يومئذ أمراء صغار وأجناد معدون لصاحب ديوان الإنشاء تخرج رسالة السلطان على لسان بعض الدوادارية بما يرسم به لمن يركب البريد في المهمات السلطانية وغيرها ويأتي بها إلى صاحب ديوان الإنشاء فيعلق رسالته على ما تقدم في تعليق الرسالة ويعمل بمقتضاها وكان للبريد ألواح من نحاس كل لوح منها بقدر راحة الكف أو نحوها منقوش على أحد وجهيه ألقاب السلطان وعلى الوجه الآخر لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وفي رقبته شرابة من حرير أصفر يجعلها راكب البريد في عنقه ويرسل اللوح على صدره علامة له فإذا حضرت الرسالة إلى كاتب السر دفع إلى البريدي لوحا من تلك الألواح وكتب له ورقة بخطه إلى أميرآخور البريد بالإصطبل السلطاني بما تبرز به الرسالة من الخيل ويكتب

اسمه في آخر الكتاب الذي ينفذ معه بين السطور ويختم الكتاب ويسلم إليه ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده وحمله على ما رسم له به من خيل البريد على ما سيأتي ذكره في الكلام على كتابة أوراق الطريق ويترك اسمه وتاريخ سفره والجهة التي توجه إليها والشغل الذي توجه بسببه بدفتر بالديوان
فلما عظم أمر الدوادارية واستقر عند الدوادار كاتب من كتاب الدست يعلق عنه الرسالة على ما تقدم في الكلام على تعليق الرسالة رجع أكثر الأمر في ذلك إلى الدوادار وصار كاتب الدست الذي يخدمه يعلق الرسالة عنه بذلك كما يعلقها عنه في غيره على ما تقدم فإن كان البريد إلى جهة الشام كتب في ورقة لطيفة يرسم برسالة المقر المخدوم الفلاني أمير دوادار الناصري أو الظاهري مثلا أعز الله تعالى أنصاره أن يكتب ورقة طريق شريفة باسم فلان الفلاني المرسوم له بالتوجه إلى الجهة الفلانية ويحمل على فرس أو فرسين أو أكثر من خيل البريد ثم يؤرخ وإن كان البريد إلى الوجه القبلي أو البحري أو غير ذلك كتب أن يكتب ورقة فرس بريد باسم فلان الفلاني من غير تعرض لذكر ورقة طريق وباقي الكلام على نحو ما تقدم ويؤرخ ويجهز تلك الورقة صحبة البريدي إلى صاحب ديوان الإنشاء فيخلد الورقة بديوانه عند دوادره في جملة أضابير الديوان ويكتب له في ورقة صغيرة أيضا ما مثاله أميرآخور البريد المنصور يحمل فلان الفلاني على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور عند توجهه إلى الجهة الفلانية ويؤرخ ويدفع إلى البريدي ليدفعها إلى أميرآخور البريد تخلد عنده ويكتب اسم البريدي في آخر الكتاب على ما سيأتي في أول المكاتبات إن شاء الله تعالى ويختم الكتاب ويدفع إليه

قلت وقد بطل الآن ما كان من أمر الألواح وتركت وصار كل بريدي عنده شرابة حرير صفراء يجعلها في عنقه من غير لوح اللهم إلا أن يتوجه البريدي إلى مملكة من الممالك النائية فيحتاج إلى اللوح لتعارف أمر المملكة القديمة وكذلك الحكم فيمن يتوجه إلى الأبواب السلطانية من نيابة من نيابات المملكة في ورقة الطريق وخيل البريد ولصاحب ديوان الإنشاء التنبه على مصالح مراكز خيل البريد في الديار المصرية وغيرها
وسيأتي الكلام على مراكز البريد بمصر والشام مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى
واعلم أنه يجب على الناظر في أمر البريد من الملك فمن دونه أن يحتاط فيمن يرسله في الأمور السلطانية فيوجه في كل قضية من يقوم بكفايتها وينهض بأعبائها ويختص الملوك وأكابر النواب بأكابر البريدية وعقلائهم وأصحاب التجارب منهم خصوصا في المهمات العظيمة التي يحتاج الرسول فيها إلى تنميق الكلام وتحسين العبارة وسماع شبهة المرسل إليه ورد جوابه وإقامة الحجة عليه فإنه يقال يستدل على عقل الرجل بكتابه وبرسوله وقد قيل من الحق على رسول الملك أن يكون صحيح الفكرة والمزاج ذا بيان وعارضة ولين واستحكام منعة وأن يكون بصيرا بمخارج الكلام وأجوبته ومؤديا للألفاظ عن الملك بمعانيها صدوقا بريئا من الطمع وعلى مرسله امتحانه قبل توجيهه في مقاصده ولا يرسل إلى الملوك الأجانب إلا من اختبره بتكرير الرسائل إلى نوابه وأهل مملكته فقد كان الملوك فيما سلف من الزمن إذا آثروا إرسال شخص لمهم قدموا امتحانه بإرساله إلى بعض خواص الملك ممن في قرار داره في شيء من مهماته ثم يجعل عليه عينا فيما يرسل به من حيث لا يشعر فإذا أدى الرسول رسالته رجع بجوابها وسأل الملك عينه فإن طابق ما قاله الرسول ما أتى به من هو

عين عليه وتكرر ذلك منه صارت له الميزة والتقدمة عند الملك ووجهه حينئذ في مهمات أموره
وكان أردشير بن بابك آخر ملوك الفرس يقول حق على الملك الحازم إذا وجه رسولا إلى ملك أن يردفه بآخر وإن وجه برسولين وجه بعدهما باثنين وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسله في طريق فعل
ومن الحزم أن الرسول إذا أتاه برسالة أو كتاب في خير أو شر أن لا يحدث في ذلك شيئا حتى يرسل مع رسول آخر يحكي له كتابه أو رسالته حرفا حرفا ومعنى معنى فإن الرسول ربما فاته بعض ما يؤمله فافتعل الكتب وغير ما شوفه به فأفسد ما بين المرسل والمرسل إليه من ملك أو نائب ونحوهما وربما أدى ذلك إلى وقوع فتنة بين الملكين أو خروج النائب عن الطاعة وتفاقم الأمر بسبب ذلك وسرى إلى ما لا يمكن تداركه
وقد حكي أن الإسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فجاء برسالة شك الإسكندر في حرف منها فقال له ويلك إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد إذا مالت وقد جئتنى برسالة صحيحة الألفاظ بينة المعاني وقد وجدت فيها حرفا ينقضها أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه فقال بل على يقين منه أنه قاله فأمر الإسكندر أن تكتب الألفاظ حرفا حرفا ويعاد إلى الذي جاء ذلك الرسول من عنده مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له فلما وصل الرسول الثاني إلى ذلك الملك وقرأ عليه ما كتب إليه به الإسكندر في أمر ذلك الرسول أنكر ذلك الحرف الذي أنكره الإسكندر وقال للمترجم ضع يدك على هذا الحرف فوضعها فأمر أن يعلم بعلامة وقال إني أجل ما وصل عن الملك أن أقطعه بالسكين ولكن ليصنع هو فيه وفي قائله ما شاء وكتب إلى الإسكندر إن من أس المملكة صحة لهجة الرسول إذا كان عن لسانه ينطق وإلى أذنه يؤدي فلما عاد الرسول إلى الإسكندر دعا برسوله الأول وقال ما حملك على كلمة قصدت بها أفساد ما بين ملكين

فأقر أن ذلك كان منه لتقصير رآه من الملك فقال له الإسكندر فأراك قد سعيت لنفسك لالنا فاتك ما أملت مما لا تستحقه على من أرسلت إليه فجعلت ذلك ثأرا توقعه في الأنفس الخطيرة الرفيعة ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه وكأنه رأى إتلاف نفس واحدة أولى من إتلاف نفوس كثيرة بما كان يوقعه بين الملكين من العداوة ويثير من الإحن وضغائن الصدور
وقد كان أردشير بن بابك يقول كم من دم سفكه الرسول بغير حله وكم من جيوش هزمت وقتل أكثرها وكم حرمة انتهكت وكم مال نهب وعقد نقض بخيانة الرسل وأكاذيب ما يأتون به

الأمر السابع نظره في أمر أبراج الحمام ومتعلقاته
سأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أن بالديار المصرية أبراجا للحمام الرسائلي يحمل البطائق في أجنحته من مكان إلى مكان منها برج بقلعة الجبل وأبراج بطريق الشام بمدينة بلبيس وأبراج بطريق الإسكندرية وكان قبل ذلك يدرج إلى قوص ومنها إلى أسوان وعيذاب ما يقطع ذلك الآن وحمام كل برج ينقل منه في كل يوم إلى البرج الذي يليه

ليطلب برجه الذي هو مستوطنه إذا أرسل فإذا عرض أمر مهم أو ورد بريد أو غيره ممن يحتاج إلى مطالعة الأبواب السلطانية به إلى مكان من الأمكنة التي فيها برج من أبراج الحمام كتب واليها المتحدث فيها بذلك للأبواب السلطانية وبعث بها على أجنحة الحمام وقد جرت العادة أن تكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار ويعلق منهما في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان ولا يكتفى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصول إلى مقصده فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وجه به إليه أمسكه البراج وأخذ البطاقة من جناحه وعلقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه أي من المنقول إلى ذلك البرج وعلى ذلك حتى ينتهي إلى برج القلعة فيأخذ البراج الطائر والبطاقة في جناحه ويحضره بين يدي الدوادار الكبير فيعرض عليه فيضع البطاقة عن جناحه بيده فإن كان الأمر الذي حضرت البطاقة بسببه خفيفا لا يحتاج إلى مطالعة السلطان به استقل الدوادار به وإن كان مهما يحتاج إلى إعلام السلطان به استدعى كاتب السر وطلع لقراءة البطاقة على السلطان كما يفعل في المكاتبات الواردة وكذلك الحكم فيما يطرأ من المهمات بالأبواب السلطانية فإنه يوجه بالحمام من برج القلعة إلى الجهة المتعلقة بذلك المهم وفي معنى ذلك كل نيابة من النيابات العظام بالممالك الشامية كدمشق وحلب وطرابلس ونحوها مع ما تحتها من النيابات الصغار والولايات على ما سيأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى

الأمر الثامن نظره في أمور الفداوية
وهم طائفة من الإسماعيلية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أبي طالب كرم الله

وجهه من فاطمة بنت رسول الله وهم فرقة من الشيعة معتقدهم معتقد غيرهم من سائر الشيعة أن الإمامة بعد النبي انتقلت بالنص إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم تنقلت في بني الحسين إلى جعفر الصادق ثم هم يدعون انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم تنقلت في بنيه
وسموا الفداوية لأنهم يفادون بالمال على من يقتلونه ويسمون في بلاد العجم بالباطنية لأنهم يبطنون مذهبهم ويخفونه وتارة بالملاحده لأن مذهبهم كله إلحاد وهم يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية وسيأتي الكلام عند ذكر تحليفهم في الكلام على الأيمان إن شاء الله تعالى وكانوا في الزمن المتقدم قد علت كلمتهم واشتدت شكيمتهم وقويت شوكتهم واستولوا على عدة قلاع ببلاد العجم وبلاد الشأم فأما بلاد العجم فكان بداية قوتهم وانتشار دعوتهم في دولة السلطان ملكشاه السلجوقي في المائة الخامسة وذلك أنه كان من مقدميهم رجل اسمه عطاش فنشأ له ولد يسمى أحمد فتقدم في مذهبهم وارتفع شأنه فيهم وألم به من في بلاد العجم منهم فغلب على قلعة بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه المتقدم ذكره وقلعة بالطالقان تعرف بقلعة الموت وكان من تلامذته رجل يقال له الحسن بن الصباح ذو شهامة وتقدم في علم الهندسة والحساب والنجوم

والسحر فاتهمه بالدعوة للخلفاء الفاطميين وهم من جملة طوائف الإسماعيلية ففر الحسن بن الصباح منه هاربا إلى مصر وبها يومئذ المستنصر بالله خامس خلفاء الفاطميين فأكرمه وأحسن نزله وأمره بأن يخرج إلى البلاد للدعوة إلى إمامته فأجابه إلى ذلك وسأله من الإمام بعده فقال إنه ابني نزار وهو الذي تنسب إليه النزارية منهم فخرج ابن الصباح من مصر وسار إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم يدعو إلى إمامة المستنصر ثم ابنه نزار من بعده وسار إلى خراسان وجاوزها إلى ما وراء النهر ودخل كاشغر يدعو إلى ذلك ثم عاد إلى الطالقان واستولى على قلعة الموت في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ثم استولى على قلعة أصبهان واستضاف إليها عدة قلاع بتلك النواحي في سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقويت شوكة هذه الطائفة بتلك البلاد وعظم أمرها وخافها الملوك وسائر الناس وبقي ابن الصباح على ذلك حتى مات في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وتنقلت تلك القلاع بعده حتى صار أمرها إلى شخص من عقبه يسمى جلال الدين بن حسن ألكيا الصباحي فأظهر التوبة في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وبقي على ذلك إلى سنة ثمان وستمائة فأظهر شعائر الإسلام وكتب إلى جميع قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم والشام فأقيمت فيها وبقي حتى توفي سنة ثمان عشرة وستمائة وقام بعده ابنه علاء الدين محمد وتداول مقدموهم تلك القلاع إلى أن خرج هولاكو على بلاد العجم في سنة ست وخمسين وستمائة باستصراخ أهل تلك البلاد من عيثهم وفسادهم فخرب قلاعهم عن آخرها

وأما بلاد الشأم فكان أول قوتهم بها أنه دخل منهم إلى الشام رجل يسمى بهرام بعد قتل خاله إبراهيم الأسدابادي ببغداد في أيام تاج الملوك بوري صاحب الشام وصار إلى دمشق ودعا إلى مذهبه بها وعاضده سعيد المردغاني وزيربوري حتى علت كلمته في دمشق وسلم له قلعة بانياس فعظم أمر بهرام وملك عدة حصون بالجبال أظنها القلاع المعروفة بهم إلى الآن وهي سبع قلاع بين حماه وحمص متصلة بالبحر الرومي على القرب من طرابلس وهي مصياف والرصافة والخوابي والقدموس والكهف والعليقة والمينقة ومن هنا سميت بقلاع الدعوة وكان آخر الأمر من بهرام أنه قتل في حرب جرت بينه وبين أهل وادي التيم وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل وأقام الوزير المردغاني عوض بهرام بدمشق رجلا منهم اسمه أبو الوفاء فعظم أمره بدمشق حتى صار الحكم له بها وهم بتسليمها للفرنج على أن يسلموا له صور عوضا منها فشعر به بوري صاحب دمشق فقتله وقتل وزيره المردغاني ومن كان بدمشق من هذه الطائفة ولم يزل أمرهم يتنقل بالشام لواحد بعد واحد من مقدميهم إلى أن كان المقدم عليهم في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبو الحسن راشد الدين سنان البصري وكان بينهم وبين السلطان صلاح الدين مباينة

ووثبوا عليه مرات ليقتلوه فلم يظفروا بذلك إلى أن حاصر قلاعهم في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وضيق عليهم فسألوه الصفح عنهم فأجابهم إلى ذلك وبقي راشد الدين سنان مقدما عليهم حتى مات في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
قال في مسالك الأبصار وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم ولذلك يتولونه ويرون إتلاف نفوسهم في طاعته لما يتنقل إليه من النعيم الأكبر بزعمهم قال ولصاحب مصر بمشايعتهم مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالي أن يقتل بعده ومن بعثه إلى عدو له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم وإن هرب تبعوه وقتلوه
قلت وكانوا في الزمن المتقدم يسمون كبيرهم المتحدث عليهم تارة مقدم الفداوية وتارة شيخ الفداوية وأما الآن فقد سموا أنفسهم بالمجاهدين وكبيرهم بأتابك المجاهدين وقد كانت السلاطين في الزمن المتقدم تمنع هؤلاء من مخالطة الناس فلا يخرجون من بلادهم إلى غيرها إلا من رسم له بالخروج لما يتعلق بالسلطان ولا يمكن أحد من التجار من الدخول إلى بلادهم لشراء قماش وغيره وكان يكتب بذلك مراسيم من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية ويوجه بها لنائب الشام المحروس وسيأتي إيراد شيء من نسخ هذه المراسيم عند ذكر مرسوم أتابكهم في الولايات إن شاء الله تعالى

الأمر التاسع نظره في أمر العيون والجواسيس
وهو جزء عظيم من أس الملك وعماد المملكة وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره وإليه رجوع تدبيره واختيار رجاله وتصريفهم فيجب عليه الاحتياط في أمر الجواسيس أكثر مما يحتاط في أمر البريدية والرسل لأن الرسول قد يتوجه إلى الصديق وقد يتوجه إلى العدو والجاسوس لا يتوجه إلا إلى العدو وإذا وثق بجاسوسه فإنه إلى ما يأتي به صائر وعليه معتمد وبه فاعل
وقد شرطوا في الجاسوس شروطا
منها أن يكون ممن يوثق بنصيحته وصدقه فإن الظنين لا ينتفع بخبره وإن كان صادقا لأنه ربما أخبر بالصدق فاتهم فيه فتفوت فيه المصلحة بل ربما آثر الضرر لمن هو عين له إذ المتهم في الحقيقة عين عليك لا عون لك وكيف يكون المتهم أمينا لا سيما فيما يصرف فيه جليل الأموال من القضايا العظيمة إن سلمت نفيسات النفوس
ومنها أن يكون ذا حدس صائب وفراسة تامة ليدرك بوفور عقله وصائب حدسه من أحوال العدو بالمشاهدة ما كتموه عن النطق به ويستدل فيما هو فيه ببعض الأمور على بعض فإذا تفرس في قضية ولاح له أمر آخر يعضدها قوي بحثه فيها بانضمام بعض القرائن إلى بعض
ومنها أن يكون كثير الدهاء والحيل والخديعة ليتوصل بدهائه إلى كل موصل ويدخل بحيلته في كل مدخل ويدرك مقصده من أي طريق أمكنه فإنه متى كان قاصرا في هذا الباب أوشك أن يقع ظفر العدو به أو يعود صفر اليدين من طلبته
ومنها أن يكون له دربة بالأسفار ومعرفة بالبلاد التي يتوجه إليها ليكون أغنى له عن السؤال عنها وعن أهلها فربما كان في السؤال تنبه له وتيقظ لأمره

فيكون ذلك سببا لهلاكه بل ربما وقع في العقوبة وسئل عن حال ملكه فدل عليه وكان عينا عليه لا له
ومنها أن يكون عارفا بلسان أهل البلاد التي يتوجه إليها ليلتقط ما يقع من الكلام فيما ذهب بسببه ممن يخالطه من أهل تلك المملكة وسكان البلاد العالمين بأخبارها ولا يكون مع ذلك ممن يتهم بممالأة أهل ذلك اللسان من حيث إن الغالب على أهل كل لسان اتحاد الجنس والجنسية علة الضم
ومنها أن يكون صبورا على ما لعله يصير إليه من عقوبة إن ظفر به العدو بحيث لا يخبر بأحوال ملكه ولا يطلع على وهن في مملكته فإن ذلك لا يخلصه من يد عدوه ولا يدفع سطوته عنه بل ولا يعرف أنه جاسوس أصلا فإن ذلك مما يحتم هلاكه ويفضي إلى حتفه إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيعابها فإذا وجد من العيون والجواسيس من هو مستكمل لهذه الشرائط وما في معناها فعليه أن يظهر لهم الود والمصافاة ولا يطلع أحدا منهم في زمن تصرفه له أنه يتهمه ولا أنه غير مأمون لديه فربما أداه ذلك في أضيق الأوقات أن يكون عينا عليه فإن الضرورة قد تلجئه لمثل ذلك خصوصا إن جذبه إلى ذلك جاذب يستميله عنه مع ما هو عليه من الضرورة والضرورة قد تحمل الإنسان على مفاسد الأمور ويجزل لهم الإحسان والبر ولا يغفل تعاهدهم بالصلات قبل احتياجه إليهم ويزيد في ذلك عند توجههم إلى المهمات ويتعهد أهليهم في حضورهم وغيبتهم ليملك بذلك قلوبهم ويستصفي به خواطرهم وإن قضي على من بعثه منهم بقضاء أحسن إلى من خلفه من أهله وجعل لهم من بعده من الإحسان ما كان يجعله له إذا ورد بنفسه عليه ليكون ذلك داعيا لغيره على النصيحة وإن قدر أن عاد منهم أحد غير ظافر بقصد أو حاصل على طلبة وهو ثقة فلا يستوحش منه بل يوليه الجميل ويعامله بالإحسان فإنه إن لم ينجع المرة نجع الأخرى وعليه أن يحترز عن أن تعرف جواسيسه بعضهم بعضا لا سيما عند التوجه للمهمات وإن استطاع أن لا يجعل بينه وبينهم واسطة فعل وإن لم يمكنه ذلك جعل

لكل واحد منهم رجلا من بعض خاصته يتولى إيصاله إليه فإنه إذا علم بعضهم ببعض ربما أظهره بخلاف ما إذا اختص الواحد بالسر وأيضا فإنه لا يؤمن اتفاقهم عليه وممالأتهم لعدوه وكذلك يحترز عن تعرف أحد من عسكره عيونه وجواسيسه فإن ذلك ربما يؤدي إلى انتشار السر والعود بالمفسدة وعليه أن يصغى إلى ما يلقيه إليه كل من جواسيسه وعيونه وإن اختلفت أخبارهم ويأخذ بالأحوط فيما يؤديه إليه اجتهاده من ذلك ولا يجعل اختلافهم ذنبا لأحد منهم فقد تختلف أخبارهم وكل منهم صادق فيما يقوله إذ كل واحد قد يرى ما لا يرى الآخر ويسمع ما لا يسمعه وإذا عثر على أحد من جواسيسه بزلة فليسترها عنه وعليه ولا يعاقبه على ذلك ولا يوبخه عليه فإن وبخه ففي خلوة بلطف مذكرا له أمر الآخرة وما في ممالأة العدو والخيانة من الوبال في الآخرة ولا بأس بأني يجري له ذكر ما عليه من مصافاته ومودته وأنه مع العدو على غرر لا يدري ما هو صائر إليه فإن ذلك أدعى لاستصلاحه ولا شك أن استصلاحه إما في الوقت أو فيما بعد خير من ثبات فساده فربما أداه ذلك إلى ممالأة العدو ومباطنته لا سيما إذا كان العدو معروفا بالحلم والصفح وكثرة البذل والعطاء وإذا حضر إليه جاسوس بخبر عن عدوه استعمل فيه التثبيت ودوام البشر ولا يظهر تهافتا عليه تظهر معه الخفة ولا إعراضا عنه يفوت معه قدر المناصحة ولا يظهر له كراهة ما يأتيه به من الأخبار المكروهة فإن ذلك مما يستدعي فيه كتمان السر عنه فيما يكره فيؤدي إلى الإضرار به
وقد حكي عن بعض الملوك أنه كان يعطي من يأتيه بالأخبار المكروهة من الجواسيس أكثر مما يعطي من يأتيه بالأخبار السارة

واعلم أنه لا يمكن أحدا ممن يمنع بلاده أو عسكره من جواسيس عدوه فيجب الاحتراز منهم بكتمان السر وستر العورة ما أمكنه على أنه ربما دعت الضرورة في بعض الأحيان إلى أن يعرف الملك عدوه بعض أموره على حقيقته لأمر يحاول به مكيدته والطريق في ذلك أن يتلطف إلى أن يصير جاسوس عدوه جاسوسا له بأن يتودد إليه بالاستمالة والبر وكثرة البذل حتى يستخرج نصيحته فحينئذ يلقي إليه ما أراد تبليغه إلى صاحبه الأول مما فيه المكيدة فيوصله إليه فيكون أقرب لقبوله من بلوغه له من غيره ممن يتهمه

الأمر العاشر نظرة في أمور القصاد الذين يسافرون بالملطفات من الكتب عند
تعذر وصول البرد إلى ناحية من النواحي
وهو من أعظم مهمات السلطنة وآكدها وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه أن أول من اتخذ السعاة من الملوك معز الدولة بن بويه أول ملوك الديلم بعد الثلاثين والثلثمائة
وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد وأخوه ركن الدولة ابن بويه بأصبهان وما معها فأراد معز الدولة سرعة إعلام أخيه ركن الدولة بتجددات الأخبار فأحدث السعاة وانتشى في أيامه ساعيان اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة وتعصب لكل منهما فرقة وبلغ من شأنهما أن كل واحد منهما كان يسير في كل يوم نيفا وأربعين فرسخا واستمر حكم السعاة ببغداد إلى زماننا حتى إن منهم ساعيين لركاب السلطان يمشيان أمامه في المواكب وغيرها على قرب
قلت وقد رأيتهما في خدمة السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد

حين قدم مصر في دولة الظاهر برقوق فارا من تمر أما الديار المصرية فإنه لا يتعانى ذلك عندهم إلا خفاف الشباب من مكارية الدواب ونحوهم ممن يعتاد شدة العدو إلا انه إذا طرأ مهم سلطاني يقتضي إيصال ملطف مكاتبة عن الأبواب السلطانية إلى بعض النواحي وتعذر إيصاله على البريد لحيلولة عدو في الطريق أو انقطاع خيل البريد من المراكز السلطانية لعارض انتدب كاتب السر بأمر السلطان من يعرف بسرعة المشي وشدة العدو للسفر ليوصل ذلك الملطف إلى المكتوب إليه والإتيان بجوابه وربما كتب الكتابان فأكثر إلى الشخص الواحد في المعنى الواحد ويجهز كل منهما صحبة قاصد مفرد خوف أن يعترض واحد فيمضي الآخر إلى مقصده كما تقدم في بطائق الحمام الرسائلي وقد أخبرني بعض من سافر في المهمات السلطانية من هؤلاء أنهم في الغالب عند خوف العدو يمشون ليلا ويكمنون نهارا وإذا مشوا في الليل يأخذون جانبا عن الطريق الجادة يكون بين كل اثنين منهم مقدار رمية سهم حتى لا يسمع لهم حس فإذا طلع عليهم النهار كمنوا متفرقين مع مواعدتهم على مكان يتلاقون فيه في وقت المسير

الأمر الحادي عشر نظره في أمر المناور والمحرقات
أما المناور فسيأتي أنه في الزمن المتقدم عند وقوع الحروب بين التتار وأهل هذه المملكة كان بين الفرات بآخر الممالك الشامية وإلى قريب من بلبيس من أعمال الديار المصرية أمكنة مرتبة برؤوس جبال عوال بها أقوام مقيمون فيها لهم رزق على السلطان من إقطاعات وغيرها إذا حدث حادث عدو من بلاد التتار واتصل ذلك بمن بالقلاع المجاورة للفرات من الأعمال

الحلبية فإن كان ذلك في الليل أوقدت النار بالمكان المقارب للفرات من رؤوس تلك الجبال فينظره من بعده فيوقد النار فينظره من بعده فيوقد النار وهكذا حتى ينتهي الوقود إلى المكان الذي بالقرب من بلبيس في يوم أو بعض يوم فيرسل بطاقته على أجنحة الحمام بالإعلام بذلك فيعلم أنه قد تحرك عدو في الحملة فيؤخذ في التأهب له حتى تصل البرد بالخبر مفصلا
وأما المحرقات فسيأتي أنه كان أيضا قوم من هذه المملكة مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بأن تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها فتذهب في الزروع آخذة يمينا وشمالا فما مرت بشيء منه إلا أحرقته وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها
قلت وهذان الأمران قد بطل حكمهما من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى

الأمر الثاني عشر نظره في الأمور العامة مما يعود نفعه على السلطان
والمملكة
قد تقدم في أول هذا الفصل في الكلام على بيان رتبة صاحب ديوان الإنشاء من كلام صاحب مواد البيان أنه ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص منه من حيث إنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه وأنه لا غنى به عن مفاوضته في آرائه والإفضاء إليه بمهماته وتقريبه في نفسه في آناء ليله وساعات نهاره وأوقات ظهوره للعامة وخلواته وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته وأنه لا يثق بأحد من خاصته ثقته به ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه ومن كان بهذه الرتبة من السلطان والقرب منه وجب عليه أن لا يألوه نصحا فيما يعلم أنه أصلح لمملكته وأعمر لبلاده وأرغم لأعاديه وحساده وأثبت لدولته وأقوى لأسباب مملكته

فقد حكي عن علي بن زيد الكاتب أنه صحب بعض الملوك فقال للملك أصحبك على ثلاث خلال قال وما هي قال لا تهتك لي سترا ولا تشتم لي عرضا ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرىء فقال له الملك هذه لك عندي فمالي عندك قال لا أفشي لك سرا ولا أؤخر عنك نصيحة ولا أوثر عليك أحدا قال نعم الصاحب المستصحب أنت
فإذا انتهى إلى صاحب الديوان خبر يتعلق بجلب منفعة إلى المملكة أو دفع مضرة عنها أطلع السلطان عليه في أسرع وقت وأعجله قبل فوات النظر فيه ونحله فيه صائب رأيه ثم رد النظر فيه إلى رأي السلطان ليخرج عن عهدته وإن ارتاب في خبر المخبر أحضره معه إلى السلطان ليشافهه فيه حتى يكون بريئا عن تبعته ولا يهمل تبليغ خبره بمجرد الريبة لاحتمال صحته في نفس الأمر فيلحق بواسطة إهماله ضرر لا يمكن تداركه وكذلك الحال في سائر ما يرجع إلى صلاح المملكة وحسن تدبيرها
الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم فيما كان الأمر عليه في الزمن القديم واستقر عليه الحال في زماننا
أما في الزمن القديم فقد ذكر أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته أن أرباب الوظائف فيه على ضربين

الضرب الأول الكتاب
وقد عداهم إلى سبع كتاب
الأول كاتب ينشيء ما يكتب من المكاتبات والولايات تتصدى للإنشاء ملكته وغريزة طبعه قال ويجب أن يكون هذا الكاتب لاحقا بصفات متولي الديوان بحيث يكون كاملا في الصفات مستوفيا لشروط الكتابة عارفا

بالفنون التي يحتاج إليها الكاتب مشتملا على التقدم في الفصاحة والبلاغة قوي الحجة في المعارضة واسع الباع في الكلام بحيث يقتدر بملكته على مدح المذموم وذم المحمود وصرف عنان القول إلى حيث شاء والإطناب في موضع الإطناب والإيجاز في موضع الإيجاز فإنه أجل كتاب الديوان وارفعهم درجة لأنه يتولى الإنشاء من نفسه وتلقى إليه الكلمة الواحدة والمعنى المفرد فينشىء على ذلك كلاما طويلا ويأتي منه بالعبارة الواسعة وهو لسان الملك المتكلم عنه فمهما كان كلامه أبدع وفي النفوس أوقع عظمت رتبة الملك وارتفعت منزلته على غيره من الملوك وهو الذي ينشىء العهود والتقاليد في الولايات والكتب في الحوادث الكبار والمهمات العظيمة التي تتلى فيها الكتب على صياصي المنابر ورؤوس الأشهاد فقد حكي أن يزيد بن الوليد كتب إلى إبراهيم بن الوليد وقد هم بالعصيان أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت والسلام فكان سببا لإقلاعه عما هم به
الثاني كاتب يكتب مكاتبات الملوك عن ملكه وقد شرط فيه مع ما شرط في المتصدي للإنشاء المتقدم ذكره إن كان هو الذي ينشىء المكاتبات بنفسه عن الملك أن يكون على دين الملك الذي يكتب عنه ومذهبه لما يحتاج إليه في مكاتبه الملك المخالف من الاحتجاج على صحة عقيدته ونصرة مذهبه وإقامة الدلائل على صحة ذلك ولن يحتج للملة أو المذهب من اعتقد خلافه بل المخالف إنما تبدو له مواضع الطعن لا مواضع الحجاج وكذلك أن يكون من علو الهمة وقوة العزم وشرف النفس بالمحل الأعلى والمكان الأرفع فإنه يكاتب عن ملكه وكل كاتب فإنه يجره طبعه وجبلته وخيمه إلى ما هو عليه من الصفات فكلما كان الكاتب أقوى جانبا وأشد عزما وأعلى همة كان على التفخيم والتعظيم والتهويل والترغيب والترهيب أقدر

وكلما نقص من ذلك نقص من كتابته بقدره وأن يكون عالما بقدر طبقة المكتوب إليه في معرفة اللسان العربي فيخاطب كل قوم على قدر رتبتهم في ذلك وما يعرف من فهمهم
الثالث كاتب يكتب مكاتبات أهل الدولة وكبرائها وولاتها ووجوهها من النواب والقضاة والكتاب والمشارفين والعمال وإنشاء تقليدات ذوي الخدم الصغار والأمانات وكتب الأيمان والقسامات قال وهي وإن كانت دون الرتبتين المتقدمتين فهي جليلة الخطر عالية القدر ويجب أن يكون لاحقا برتب الخدمة منها وأن يكون مأمونا على الأسرار كاف اليد نزه النفس عن العرض الدنيوي لأنه يطلع على اكثر ما يجري في الدولة ويعلم بالوالي قبل توليه والمصروف قبل صرفه ويكون مع ذلك سريع اليد في الكتابة حسن الخط إذ كان هذا الفن أكثر ما يستعمل ولا يكاد يقل في وقت من الأوقات
الرابع كاتب يكتب المناشير والكتب اللطاف والنسخ قال وهذه المنزلة لاحقة بالمنزلة التي قبلها وكأنها جزء منها ويجب أن يكون هذا الكاتب مأمونا كتوما للسر فيه من الأدب ما يأمن معه من الخطإ واللحن في لفظه وخطه ويكون حسن الخط أو بالغا فيه القدر الكافي ولكن لما كان هذا الشغل واسعا وهو أكثر عمل الديوان والذي لا ينفك منه لم يكد يستقل به رجل واحد فيحتاج إلى معاضدته بآخر يكون دونه في المنزلة ويجعل برسم تسطير المناشير والفصول المتقدمة إلى المقيمين بالحضرة وكتابة تذاكر المستخدمين ونقلها مما يمليه صاحب الديوان ويصدر عنه في نسخ تكون مخلدة فيه لا تغادر المبيضة بحرف لتكون موجودة متى احتيج إليها
الخامس كاتب يبيض ما ينشئه المنشيء مما يحتاج إلى حسن الخط كالعهود والبيعات ونحوها قال الصوري لما كانت البلاغة التامة التي يصلح صاحبها للإنشاء وحسن الخط قلما يجتمعان في أحد وجب أن يختار للديوان

مبيض برسم الإنشاءات والسجلات والتقليدات ومكاتبات الملوك وأن يكون حسن الخط إلى الغاية الموجودة بحيث لا يكاد يوجد في وقته أحسن خطا منه لتصدر الكتب عن الملك بالألفاظ الرائقة والخط الرائع فإن ذلك أكمل للمملكة وأكثر تفخيما عند من يكاتبه وتعظيما لها في صده ويجب أن يكون مع ذلك في الأمانة وكتمان السر ونزاهة النفس على ما تقدم
السادس كاتب يتصفح ما يكتب في الديوان قد تقدم أنه لما كان كل واحد ممن تقدم ذكره غير معصوم من السهو والزلل والخطإ واللحن وعثرات القلم وكل واحد يتغطى عنه عيب نفسه ويظهر له عيب غيره وكان زمن متولي الديوان أضيق من أن يوفي بكل ما يكتب بديوانه حق النظر وكان القصد أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظا ومعنى وإعرابا حتى لا يجد طاعن فيه مطعنا وجب أن يستخدم متولي الديوان معينا يتصفح جميع الإنشاءات والتقليدات والمكاتبات وسائر ما يسطر في ديوانه
قال أبو الفضل الصور وينبغي أن يكون هذا المتصفح عالي المنزلة في اللغة والنحو وحفظ كتاب الله تعالى ذكيا حسن الفطنة مأمونا وأن يكون مع ذلك بعيدا من الغرض والعداوة والشحناء حتى لا يبخس أحدا حقه ولا يحابي أحدا فيما أنشأه أو كتبه بل يكون الكل عنده في الحق على حد واحد لا يترجح واحد منهم على الآخر وعليه أن يلزم الكتاب بعرض جميع ما يكتبونه وينشئونه عليه قبل عرضه على متولي الديوان فإذا تصفحه وحرره كتب خطه فيه بما يعرف رضاه عنه ليلتزم بدرك ما فيه ويبرأ منشئه
السابع كاتب يكتب التذاكر والدفاتر المضمنة لمتعلقات الديوان
قال الصوري ويجب أن يختار لذلك كاتب مأمون طويل الروح صبور على التعب قال والذي يلزمه من متعلقات الديوان أمور
أحدها أن يضع في الديوان تذاكر تشتمل على مهمات الأمور التي تنهى في ضمن الكتب ويظن أنه ربما سئل عنها أو احتيج إليها فيكون

استخراجها من هذه التذاكر أيسر من التنقيب عليها والتنقير عنها من الأضابير قال ويجب أن تسلم إليه جميع الكتب الواردة بعد أن يكتب بالإجابة عنها ليتأملها وينقل منها في تذاكره ما يحتاج إليه وإن كان قد أجيب عنه بشيء نقله ويجعل لكل صفقة أوراقا من هذه التذاكر على حدة تكون على رؤوس الأوراق علامات باسم تلك الصفقة أو الجهة ويكتب على هذه الصفقة فصل من كتاب فلان الوالي أو المشارف أو العامل ورد بتاريخ كذا مضمونه كذا أجيب عنه بكذا أو لم يجب عنه إلى أن تفرغ السنة يستجد للسنة الأخرى التي تتلوها تذكرة أخرى وكذلك يجعل له تذكرة يسطر فيها مهمات ما تخرج به الأوامر في الكتب الصادرة لئلا تغفل ولا يجاب عنها وتكون على الهيئة المتقدمة من ذكر النواحي وأرباب الخدم وإذا ورد جواب عن شيء مهم نزل عنده فيقول ورد جوابه عن هذا الفصل بتاريخ كذا يتضمن كذا فإنه إذا اعتمد هذا وجد السلطان جميع ما يسأل عنه حاضرا في وقته غير متعذر عليه
الثاني أن يضع في الديوان دفترا بألقاب الولاة وغيرهم من ذوي الخدم وأسمائهم وترتيب مخاطباتهم وتحت اسم كل واحد منهم كيف يخاطب بكاف الخطاب أو هاء الكناية ومقدار الدعاء الذي يدعى له به في السجلات والمكاتبات والمناشير والتوقيعات لاختلاف ذلك في عرف الوقت وكذلك يضع فيه ألقاب الملوك الأباعد والمكاتبين من الآفاق وكتابهم وأسماءهم وترتيب الدعاء لهم ومقداره ويكون هذا الدفتر حاضرا لدى كتاب الإنشاء ينقلون منه في المكاتبات ما يحتاجون إليه لأنه ربما تعذر حفظ ذلك عليهم ومتى تغير شيء منه كتبه تحته ويكون لكل خدمة ورقة مفردة فيها اسم متوليها ولقبه ودعاؤه ومتى صرف كتب عليه صرف بتاريخ كذا كذا أو نقص ولا يتغافل عن ذلك فإنه متى أهمل شيء من ذلك زل بزلله الكتاب وصاحب الديوان بل والسلطان نفسه

الثالث أن يضع بالديوان دفترا للحوادث العظيمة وما يتلوها مما يجري في جميع المملكة ويذكر كلا منها في تاريخه فإن المنفعة به كثيرة حتى إنه لو جمع من هذين الدفترين تاريخ لاجتمع
الرابع أن يعمل فهرستا للكتب الصادرة والواردة مفصلا مسانهة ومشاهرة ومياومة ويكتب تحت اسم كل من ورد من جهته كتاب ورد بتاريخ كذا ويشير إلى مضمونه إشارة تدل عليه أو ينسخه جميعه إن دعت الحاجة إلى ذلك ويسلمه بعد ذلك إلى الخازن ليتولى الاحتفاظ به على ما سيأتي ذكره
الخامس أن يعمل فهرستا للإنشاءات والتقاليد والأمانات والمناشير وغير ذلك مشاهرة في كل سنة بجميع شهورها وإذا انقضت سنة استجد آخر وعمل فيه على مثل ما تقدم
السادس أن يعمل فهرستا لترجمة ما يترجم من الكتب الواردة على الديوان بغير اللسان العربي من الرومي والفرنجي وغيرهما مصرحا بمعنى كل كتاب ومن ترجمه على ما تقدمت الإشارة إليه قال الصوري فإذا روعيت هذه القوانين انضبطت أموره ولم يكد يخل منه شيء وكان جميع ما يلتمس منه موجودا بأيسر سعي في أسرع وقت

الضرب الثاني غير الكتاب وهما اثنان
أحدهما الخازن قال الصوري ينبغي أن يختار لهذه الخدمة رجل ذكي عاقل مأمون بالغ في الأمانة والثقة ونزاهة النفس وقلة الطمع إلى الحد الذي لا يزيد عليه فإن زمام جميع الديوان بيده فمتى كان قليل الأمانة ربما أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان وإفشاء سر من

الأسرار فيضر بالدولة ضررا كبيرا ويجب أن يكون ملازما للحضور بين يدي كتاب الديوان فمتى كتب المنشىء أو المتصدي لمكاتبة الملوك أو المتصدي لمكاتبة أهل الدولة أو لكتابة المناشير وغيرها شيئا سلمه للمتصدي للنسخ فينسخه حرفا بحرف ويكتب بأعلى نسخه كتاب كذا ويذكر التاريخ بيومه وشهره وسنته على ما تقدم في موضعه ويسلمه للخازن وكذلك يفعل بالكتب الواردة بعد أن يأخذ خط الكاتب الذي كتب جوابها بما مثاله ورد هذا الكتاب من الجهة الفلانية بتاريخ كذا وكتب جوابه بتاريخ كذا وإن كان لا جواب عنه أخذ عليه خط صاحب الديوان أنه لا جواب عنه لتبرأ ذمته منه ولا يتأول عليه في وقت من الأوقات أنه أخفاه ولم يعلم به ثم يجمع كل نوع إلى مثله ويجمع متعلقات كل عمل من أعمال المملكة من المكاتبات الواردة وغيرها ويجعل لكل شهر إضبارة يجمع فيها كتب من يكاتب من أهل تلك الأعمال ويجعل عليها بطاقة مثل أن يكتب إضبارة لما ورد من المكاتبات بالأعمال الفلانية في الشهر الفلاني ثم يجمع تلك الأضابير ويجعلها إضبارة واحدة لذلك الشهر ويكتب عليها بطاقة بذلك ليسهل استخراج ما أراد أن يستخرجه من ذلك قال ويجب على هذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة ونسخ الكتب الصادرة والتذاكر وخرائط المهمات وضرائب الرسوم احتفاظا شديدا
الثاني حاجب الديوان قال الصوري ينبغي لصاحب ديوان الإنشاء أن يقيم لديوانه حاجبا لا يمكن أحدا من سائر الناس أن يدخل إليه ما خلا أهله الذين هو معذوق بهم فإنه يجمع أسرار السلطان الخفية فمن الواجب كتمها ومتى أهمل ذلك لم يؤمن أن يطلع منها على ما يكون بإظهاره سبب سقوط مرتبته وإذا كثر الغاشون له والداخلون إليه أمكن أهل الديوان معه

إظهار الأسرار اتكالا على أنها تنسب إلى أولئك فإذا كان الأمر قاصرا عليهم احتاجوا إلى كتمان ما يعلمونه خشية أن ينسب إليهم إذا ظهر
وأما ما استقر عليه الحال في زماننا فكتاب الديوان على طبقتين
الطبقة الأولى كتاب الدست وهم الذين يجلسونه مع كاتب السر بمجلس السلطان بدار العدل في المواكب على ترتيب منازلهم بالقدمة ويقرأون القصص على السلطان بعد قراءة كاتب السر على ترتيب جلوسهم ويوقعون على القصص كما يوقع عليها كاتب السر وسموا كتاب الدست إضافة إلى دست السلطان وهو مرتبة جلوسه لجلوسهم للكتابة بين يديه وهؤلاء هم أحق كتاب ديوان الإنشاء باسم الموقعين لتوقيعهم على جوانب القصص بخلاف غيرهم
وقد تقدم أنهم كانوا أوائل الدولة التركية في الأيام الظاهرية بيبرس وما والاها قبل أن يلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر ثلاثة كتاب رأسهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ثم زادوا بعد ذلك قليلا إلى أن صاروا في آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عشرة أو نحوها ثم تزايدوا بعد ذلك شيئا فشيئا خصوصا في سلطنة الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج حتى جاوزوا العشرين وهم آخذون في التزايد
وقد كانت هذه الرتبة لاحقة بشأو كتابة السر في الرفعة والرياسة إلى أن دخل فيها الدخيل وقدم فيها غير المستحق ووليها من لا يؤهل لما هو دونها وانحطت رتبتها وصار أهلها في الحضيض الأوهد من الرياسة بعد أوجها إلا الأفذاذ ممن علت رتبته وقليل ما هم
الطبقة الثانية كتاب الدرج وهم الذين يكتبون ما يوقع به كاتب السر أو كتاب الدست أو إشارة النائب أو الوزير أو رسالة الدوادار ونحو ذلك من

المكاتبات والتقاليد والتواقيع والمراسيم والمناشير والأيمان والأمانات ونحو ذلك مما يجري مجراه وسموا كتاب الدرج لكتابتهم هذه المكتوبات ونحوها في دروج الورق والمراد بالدرج في العرف العام الورق المستطيل المركب من عدة أوصال وهو في عرف الزمان عبارة عن عشرين وصلا متلاصقة لا غير قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب وهو في الأصل اسم للفعل أخذا من درجت الكتاب أدرجه درجا إذا أسرعت طيه وأدرجته إدراجا فهو مدرج إذا أعدته على مطاويه وأصله الإسراع في حالة ومنه مدرجة الطريق التي يسرع الناس فيها وناقة دروج إذا كانت سريعة ويجوز أن يطلق عليهم كتاب الإنشاء لأنهم يكتبون ما ينشأ من المكاتبات وغيرها مما تقدم ذكره ولا يجوز أن يطلق عليهم لقب الموقعين لما تقدم من أن المراد من التوقيع الكتابة على جوانب القصص ونحوها وكما زاد كتاب الدست في العدد زاد كتاب الدرج حتى خرجوا عن الحد وبلغوا نحوا من مائة وثلاثين كاتبا وسقطت رياسة هذه الوظيفة وانحط مقدارها حتى إنه لم يرضها إلا من لم يكن أهلا على أن كتاب الدست الآن هم المتصدون لكتابة المهم من كتابة الدرج كمتعلقات البريد المختصة بالسلطان من المكاتبات والعهود والتقاليد وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير وصار كتاب الدرج في الغالب مخصوصين بالمكاتبات في خلاص الحقوق وما في معناها وكذلك صغار التواقيع والمراسيم والمناشير مما يكتب في القطع الصغير وربما شارك أعلاهم كتاب الدست في التقاليد وكبار التواقيع وما في معناهما إذا كان حسن الخط ولا نظر إلى البلاغة جملة بل كل أحد يلفق ما يتهيأ له من كلام المتقدمين غير مبال بتحريفه ولا تصحيفه مبتهجا بذلك مطالعا لغيره في أنه الذي ابتدعه وابتكره وكل من لفق منهم شيئا أو أنشأه كتبه بخطه على أي طبقة كان في الخط ما خلا عهود السلطنة ومكاتبات القانات من ملوك الشرق فإنه ربما

انتخب لها أعلى أهل الزمان خطا تنويها بذكرها ورفعة لقدرها
أما كتابة التذاكر والدفاتر فقد كان الأمر مستمرا في بعضها ككتابة ما في المكاتبات الواردة والصادرة بدفتر في الديوان إلى آخر مباشرة القاضي بدر الدين بن فضل الله في الدولة الظاهرية برقوق ثم رفض ذلك وترك واقتصر على ما يرد من المكاتبات وما يكتب من الملخصات وكتابة الموقع الذي يكتب الجواب بسد كل فصل تحته ليس إلا وترك ما وراء ذلك واكتفي من الخازن بدوادار كاتب السر وصار هو المتولي لحفظ ذلك وإيداعه في الأضابير على نحو ما تقدم وكذلك صار أمر حجابة الديوان إليه ثم للديوان أعوان يسمون المدرا جمع مدير شأنهم أخذ القصص ونحوها وإدارتها على كاتب السر فمن دونه من كتاب الديوان ليكتب كل منهم ما يلزمه من متعلقها ولذلك سموا بهذا الاسم

المقالة الأولى بعد المقدمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من
المواد وفيه بابان
الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
فيما يحتاج إليه الكاتب على سبيل الإجمال
وقد اختلفت مقاصد المصنفين في ذلك فابن قتيبة بعد أن بنى كتابه أدب الكاتب على أمور من اللغة والتصريف وطرف من الهجاء قال وليس كتابنا هذا لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم ولا من الكتابة إلا بالرسم ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة ولكنه لمن شدا شيئا من الإعراب فعرف الصدر والمصدر وانقلاب الياء عن الواو والألف عن الياء وأشباه ذلك من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين حتى يعرف المثلث القائم الزاوية والمثلث الحاد والمثلث المنفرج ومساقط الأحجار والمربعات المختلفات والقسي والمدورات والعمودين وتمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر فإن المخبر عنه ليس كالمعاين وذكر أن العجم كانت تقول من لم يكن عالما بإجراء المياه وحفر فرض المشارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان ودوران الشمس ومطالع

النجوم وحال القمر في استهلاله واتصاله ووزن الموازين وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصا في حال كتابته ثم قال ولا بد له مع ذلك من النظر في جمل من الفقه والحديث ودراسة أخبار الناس وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا بها إذا كتب أو يصل بها كلامه إذا حاور وختم ذلك بأن قال ومدار الأمر في ذلك كله على القطب وهو العقل وجودة القريحة فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كاف والكثير مع غيرهما مقصر
وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه الصناعتين ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة وأدوات جمة من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى وإلى الحساب وعلم المساحة والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه
ولا يخفى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة يتواردان فيه في المعنى وإن اختلف اللفظ وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أول كتابه صناعة الكتاب في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط أن من أدوات الكتابة البلاغة ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين والخبرة بمجاري الأعمال والدربة بوجوه استخراج الأموال مما يجب ويمتنع ثم قال فهذه الآلات ليس لواحد منها تميز بذاته ولا انفراد باسم يخصه وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنجوم والمعرفة بإجراء المياه والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن

كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نحو ما يكتب بالألف والياء وإلى شيء من المقصور والممدود ولو كلف الكاتب ما ذكره من ذكره لجعل الأصعب طريقا للأسهل والأشق مفتاحا للأهون وفي طباع الناس النفار عما ألزمهم من جميع هذه الأشياء
قلت والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها فكل نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فن أو فنون تختص به
وقد حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة قال لي ويلك يا عمرو لم تزل تخدعني حتى وليت عمر بن الفرج الرخجي الأهواز وقد قعد في سرة الدنيا يأكلها خضما وقضما فقلت يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطير قال كلا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به فقلت لنفسي إن هذه منزلة خسيسة بعد الوزارة أكون مستحثا لعامل خراج ولم أجد بدا من الخروج رضا لأمير المؤمنين فقلت ها أنا خارج إليه بنفسي يا

أمير المؤمنين قال فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد ففعلت وأحدثت عهدا بإخواني ومنزلي وأتي إلي بزورق ففرش لي فيه ومضيت حتى إذا صرت بين دير هرقل ودير العاقول إذا شاب على الشط يقول يا ملاح رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله فقلت يا غلام قرب له فقال جعلت فداك يؤذيك ويضيق عليك فقلت قرب له لا أم لك فقرب له وحمله على مؤخر الزورق وحضر الطعام فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي ثم قلت هلم يا فتى فوثب وجلس فأكل أكل جائع نهم إلا أنه نظيف الأكل فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوام فيتنحى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل فتناومت عمدا لينهض فلم يفعل فاستويت جالسا وقلت يا فتى ما صناعتك فقال جعلت فداك أنا حائك فقلت في نفسي أنا والله جلبت هذه البلية وتغير لوني ففطن أني استثقلته فقال جعلت فداك أنك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك فأنت ما صناعتك فقلت هذه والله أضر من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الحرفة ولم أجد بدا من الجواب فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قربت عليه فقلت أنا كاتب فقال جعلت فداك الكتاب خمسة فأيهم أنت فأورد علي ما لم أسمع به قبل فقلت بينهم لي قال نعم هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول والمقصور والممدود والابتداء والجواب حاذقا بالعقود والفتوح قلت أجل وماذا قال كاتب خراج يحتاج أن يعرف السطوح والمساحة والتقسيط خبيرا بالحساب والمقاسمات قلت وماذا قال كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام والتأويل

والتنزيل والمتشابه والحدود القائمة والفرائض والاختلاف في الأموال والفروج حافظا للأحكام حاذقا بالشروط قلت وماذا قال وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشيات قلت وماذا قال وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات وموضع الحدود ومواقع العفو في الجنايات قلت حسن قال فأيهم أنت فكنت متكئا فاستويت جالسا متعجبا من قوله فقلت أنا كاتب رسائل قال فإن أخا من إخوانك واجب الحق عليك معتنيا بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوجت أمه كيف تكتب إليه أتهنيه أم تعزيه قلت أهنيه قال فهنه فلم يتجه لي شيء فقلت لا أعزيه ولا أهنيه فقال إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بدا من أن تكتب إليه فقلت أقلني فأنا كاتب خراج قال فإن أمير المؤمنين وجه بك إلى ناحية من عمله وأمرك بالعدل والإنصاف وأنك لا تدع شيئا من حق السلطان يذهب ضياعا وحذرك الظلم والجور فخرجت حتى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسيا كيف تمسحه قلت آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه قال تختلف عليك العطوف قلت آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع قال إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف فأعياني ذلك فقلت أقلني فأنا كاتب قاض قال فإن رجلا هلك وخلف زوجة حرة وسرية حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرة جارية ووضعت السرية غلاما فوضعت الجارية في مهد السرية فلما أصبحت السرية قالت الغلام لي وقالت الحرة بل هو لي كيف تحكم بينهما قلت لا أدري فأقلني فأنا كاتب جند قال فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد وأحدهما مشقوق الشفة العليا والآخر مشقوق الشفة السفلى ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحليهما قلت فلان الأعلم وفلان

الأعلم قال إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة قلت أقلني فأنا كاتب شرطة قال فإن رجلين تواثبا فشج أحدهما صاحبه موضحة وشجه الآخر مأمومة كيف يكون الحكم فيهما قلت لا أدري فأقلني قال فقلت إنك قد سألتني فبين لي قال نعم
أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه أما بعد فإن الأمور تجري على غير محاب المخلوقين والله يختار لعباده فخار الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام وأما القراح من الأرض فإنك تمسح اعوجاجه حتى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه وأما الحرة والسرية فيوزن لبنهما فأيهما كان لبنها أخف فالبنت لها وأما المشقوق الشفة العليا فأعلم والمشقوق الشفة السفلى فأفلح وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل فقلت ألست تزعم أنك حائك فقال أنا حائك كلام لا حائك نساجة قال عمرو بن مسعدة فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتى عدت إلى المعتصم فسألني عما لقيت في طريقي فقصصت عليه القصة فأعجب به وقال لم يصلح فقلت للعمائر فقرره فيها وعلت رتبته فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجل لي فأنهاه فيقول هذه نعمتك وأنت أفدتها

فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادة يحتاج إليها بمفردها وآلة تخصها لا يستغنى عنها
على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فن فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والماشطة عند جلوة العروس وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة فما ظنك بما فوق هذا وذلك لأنه مؤهل أن يهيم في كل واد فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن بل قد قيل إن كل ذي علم يسوغ أن ينسب إليه فيقال فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يجوز أن ينسب المتعلق بالكتابة إليها فلا يقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن
واعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حد واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريق الذات وهي مواد الإنشاء التي يستمد منها ويقتبس من مقاصدها كاللغة التي منها استمداد الألفاظ والنحو الذي به استقامة الكلام وعلوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل ومنا ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطب والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلقات كل فن من هذه الفنون كالألفاظ الدائرة بين أهل الطب ومشاهير أهله وكتبه فيما يكتب به لرئيس الطب ونحو ذلك من الهيئة فيما يكتب به لمنجم

ونحوه من الهندسة فيما يكتب به لمهندس وربما احتاج إلى معرفة ما هو دون ذلك في الرتبة كمعرفة مصطلح رماة البندق فيما يكتب به في قدمات البندق ومعرفة مصطلح الفتيان فيما يكتب به في دسكرة فتوة ونحو ذلك بل ربما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزلية كمعرفة أحوال الطفيلية فيما يكتب به لطفيلي اقتراحا أو امتحانا للخاطر أو ترويحا للنفس مع معرفة ما يجب عليه من وصف ما يحتاج إلى وصفه كأوصاف الأبطال والشجعان والجواري والغلمان والخيل والإبل وجليل الوحش وسائر أصنافه وجوارح الوحش والطير وطير الواجب والحمام الهدي وسائر أنواع الطير والسلاح بأنواعه وآلات الحصار والآلات الملوكية وآلات السفر وآلات الصيد وآلات المعاملة وآلات اللهو والطرب وآلات اللعب وآلات الشربة والمدن والحصون والمساجد وبيوت العبادات والرياض والأشجار والأزهار والثمار والبراري والقفار والمفاوز والجبال والرمال والأودية والبحار والأنهار وسائر المياه والسفن والكواكب والعناصر والأزمنة والأنواء والرياح والمطر والحر والبرد والثلج وما يتعلق بكل واحد من هذه الأشياء أو ينخرط في سلكه ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إلى وصفه في حالة من حالات الكتابة على ما سيأتي بيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى

الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الأولى فيما يحتاج الكاتب إلى
معرفته من مواد الإنشاء وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يحتاج إليه من الأدوات ويشتمل الغرض منه على خمسة عشر
نوعا
النوع الأول المعرفة باللغة العربية وفيه أربعة مقاصد
المقصد الأول في فضلها وما اختصت به على سائر اللغات
أما فضلها فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم قال يزيد بن هارون اللحن هو اللغة ولا خفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بيانا وأذلقها لسانا وأمدها رواقا وأعذبها مذاقا ومن ثم اختارها الله تعالى لأشرف رسله وخاتم أنبيائه وخيرته من خلقه وصفوته من بريته وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
قال في صناعة الكتاب وقد انقادت اللغات كلها للغة العرب

فأقبلت الأمم إليها يتعلمونها
وأما ما اختصت به على غيرها من اللغات فقد حكى في صناعة الكتاب أنها اللغة التامة الحروف الكاملة الألفاظ لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادته وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية وسائر اللغات فيها حروف مولدة وينقص عنها حروف أصلية كاللغة الفارسية تجد فيها زيادة ونقصانا وكذلك يوجد فيها من الأسماء ما لا يوجد في الفارسية وغيرها كالحق والباطل والصواب والخطإ والحلال والحرام فلا ينطق به أهل تلك اللغة إلا عربيا قال الفراء وجدنا للغة العرب فضلا على لغة جميع الأمم اختصاصا من الله تعالى وكرامة أكرمهم بها ومن خصائصها أنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات قال ومن الإيجاز الواقع فيها أن للضرب كلمة واحدة فتوسعوا فيها فقالوا للضرب في الوجه لطم وفي القفا صفع وفي الرأس إذا أدمى شج فكان قولهم لطم أوجز من ضرب على وجهه قال في المثل السائر حضرت مع رجل يهودي عارف باللغات فجرى ذكر اسم الجمل فقال لا شك أن العربية أوجز اللغات فإن اسم الجمل بالعبرانية كومل فسقط منه الواو وحولت الكاف إلى الجيم قال أبو عبيد وللعرب في كلامها علامات لا يشركهم فيها أحد من الأمم كعلامة إدخالهم الألف واللام في أول الاسم وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه مع نقلهم كل ما احتاجوا إليه من كلام العجم إلى

كلامهم فقد نقل ما قالت حكماء العجم والفلاسفة إلى العربية ولم يقدر أحد من الأمم على نقل القرآن إلى لغته لكمال لغة العرب على أن الكثير من الناس حاولوا ذلك فعسر عليهم نقله وتعذرت عليهم ترجمته بل لم يصلوا إلى ترجمة البسملة إلا بنقل بعيد

المقصد الثاني
في وجه احتياج الكاتب إلى اللغة
لا مرية في أن اللغة هي رأس مال الكاتب وأس كلامه وكنز إنفاقه من حيث إن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرف فيها بالكتابة وحينئذ يحتاج إلى طول الباع فيها وسعة الخطو ومعرفة بسائطها من الأسماء والأفعال والحروف والتصرف في وجوه دلالتها الظاهرة والخفية ليقتدر بذلك على استعمالها في محالها ووضعها في مواضعها اللائقة بها ويجد السبيل إلى التوسع في العبارة عن الصور القائمة في نفسه فيتسع عليه نطاق النطق وينفسح له المجال في العبارة وينفتح له باب الأوصاف فيما يحتاج إلى وصفه وتدعو الضرورة إلى نعمته فيستظهر على ما ينشيه ويحيط علما بما يذره ويأتيه إذ المعاني وإن كانت كامنة في نفس المعبر عنها فإنما يقوى على إبرازها وإبانتها من توفر حظه من الألفاظ واقتداره على التصرف فيها ليأمن تداخلها وتكريرها المهجنين للمعاني وناهيك أن ابن قتيبة لم يضمن كتابه أدب الكاتب غير اللغة إلا النزر اليسير من الهجاء وأبا جعفر النحاس ضمن كتابه صناعة الكتاب جزءا وافرا من اللغة وأبا الفتح كشاجم لم يزد في كتابه كنز الكتاب على ذكر الألفاظ وصورة تركيبها

المقصد الثالث في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من اللغة ويرجع المقصود منه
إلى خمسة أصناف
الصنف الأول الغريب وهو ما ليس بمألوف الاستعمال ولا دائر على الألسنة وذلك أن مدار الكتابة على استخراج المعاني من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر وألفاظها لا تخلو عن الغريب بل ربما غلب الغريب منها في الشعر على المألوف لا سيما الشعر الجاهلي وقد قال الأصمعي توسلت بالملح ونلت بالغريب قال صاحب الريحان والريعان والغريب وإن لم ينفق منه الكاتب فإنه يجب أن يعلم ويتطلع إليه ويستشرف فرب لفظة في خلال شعر أو خطبة أو مثل نادر أو حكاية فإن بقيت مقفلة دون أن تفتح لك بقي في الصدر منها حزازة تحوج إلى السؤال وإن صنت وجهك عن السؤال رضيت بمنزلة الجهال وقد عاب ابن قتيبة رجلا كتب في وصف برذون وقد بعثت به أبيض الظهر والشفتين فقيل له هلا قلت في بياض الشفتين أرثم ألمظ فقال لهم فبياض الظهر قالوا لا ندري فقال إنما جهلت من الشفتين ما جهلتم من الظهر وذم قوما من وجوه الكتاب بأنه اجتمع معهم في مجلس فتذاكروا عيوب الرقيق فلم يكن فيهم من يفرق بين الوكع والكوع ولا بين الحنف والفدع ولا

بين اللمى واللطع ثم قال وأي مقام أخزى لصاحبه من رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء وارتضاه لسره فقرأ عليه يوما كتابا فيه مطرنا مطرا كثر عنه الكلأ فقال له الخليفة ممتحنا له وما الكلأ فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال لا أدري فقال سل عنه قال أبو القاسم الزجاجي في شرح مقدمة أدب الكاتب وهذا الخليفة هو المعتصم والكاتب أحمد بن عمار وكان يتقلد العرض عليه وكان المعتصم ضعيف البصر بالعربية فلما قرأ عليه أحمد بن عمار الكتاب وسأله عن الكلأ فلم يعرفه قال إنا لله وإنا إليه راجعون خليفة أمي وكاتب عامي ثم قال من يقرب منا من كتاب الدار فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقف على قهرمة الدار فأمر بإشخاصه فلما مثل بين يديه قال له ما الكلأ قال النبات كله رطبه ويابسه فإذا كان رطبا قيل له خلا وإذا كان يابسا قيل له حشيش وأخذ في ذكر النبات من ابتدائه إلى اكتهاله إلى هيجه فقال المعتصم ليتقلد هذا العرض علينا ثم خص به حتى استوزره
فقد ظهر أن معرفة الغريب من الأمور الضرورية للكاتب التي هي من أهم شأنه وأعنى مقاصده وجل كتب اللغة المصنفة في شأنها راجعة إليه كصحاح الجوهري ومحكم ابن سيده ومجمل ابن فارس وغيرها

من المصنفات التي لا تكاد تحصى كثرة والصحاح أقربها مأخذا والمحكم أمثلها طريقة وأكثرها جمعا وأكملها تحقيقا وقد صرف قوم من المصنفين العناية من ذلك إلى الاقتصار على ذكر الأسماء والأوصاف كأوصاف الرجال والنساء المحمودة والمذمومة وما يختص من ذلك بالرجال والنساء وأوصاف الخيل وأعضائها وألوانها وشياتها وأسنانها وسيرها وعدوها وما يخص الذكور والإناث منها وأوصاف الوحوش من السباع والظباء والوعول والبقر والحمر الوحشيين وأسماء الطير من الجوارح الصائدة والطيور المصيدة وبغاث الطير كالرخم وصغاره كالنحل والجراد وأوصاف الهوام كالحشرات من الحيات والوزغ ونحو ذلك وأوصاف العلويات من السماء والسحاب والرياح والأمطار والأزمنة كأوقات الليل والنهار وأوقات الشهر وفصول السنة ونحو ذلك وأسماء النبات من الشجر البري كالطلح والأراك والبستاني كالنخل والعنب والنبات البري كالشيح والقيصوم وأنواع المرعى وأسماء الأماكن من البراري والقفار والرمال والجبال والأحجار والمياه والبحار والأنهار والعيون والسيول والرياض والمحال والأبنية وأسماء جواهر الأرض من اليواقيت ونحوها وسائر مستخرجات المعادن كالنحاس والرصاص وما يجري مجراها ومستخرجات البحر من اللؤلؤ والعنبر والمرجان وغيرها وأسماء المأكولات من الحبوب والفواكه والأطعمة المصنوعة والأطبخة وأسماء الأشربة كالماء واللبن والعسل والخمر وأسماء السلاح من السيوف والرماح والقسي والسهام والدروع وغيرها وأسماء اللباس من الثياب على اختلافها وأسماء الأمتعة والآنية

وسائر الآلات وأسماء الطيب من المسك والند والغالية والزعفران وما أشبهها وكذلك كل ما يجري هذا المجرى وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي والمذهبة والمعقبة لابن أصبغ كافلتان بالكثير من ذلك وفي أدب الكاتب لابن قتيبة وفقه اللغة للثعالبي الجزء الوافر من ذلك
وصرف آخرون عنايتهم إلى التأليف في الأفعال وتصاريفها كابن درستويه وغيره وفي فصيح ثعلب جزء وافر من ذلك ولعصرينا الشيخ مقبل الصرغتمشي النحوي كتاب زاد فيه عليه جمعا ووضوحا
الصنف الثاني الفروع المتشعبة في المعاني المختلفة وهي فروع كثيرة متسعة الأرجاء متباينة المقاصد لا يكاد يجمعها مصنف وإن كان الكاتب لا يستغني عن شيء منها ولا يحسن به تركه
منها المتباين والمترادف فأما المتباين فهو ما دل لفظ الكلمة منه على

خلاف ما دلت عليه الكلمة الأخرى كالسواد والبياض والطول والعرض ويحتاج إليه في التعبير عن المعاني المختلفة لاتساع نطاق الكلام وأما المترادف فهو المتوارد الألفاظ على مسمى واحد كالأسد والسبع للحيوان المفترس والثنية والقلوص للناقة ونحو ذلك ويحتاج إلى معرفة ذلك للمخلص عند ضيق الكلام عليه في موضع لطول لفظة أو قصرها أو اختلاف وزنها في شعر أو رعاية الفاصلة آخر الفقرة في نثر أو غير ذلك مما يضطر فيه إلى إيراد بعض الألفاظ بدل بعض كما في قوله
( وثنية جاوزتها بثنية ... حرف يعارضها جنيب أدهم )
فإنه أراد بالثنية الأولى العقبة وبالثنية الثانية الناقة والجنيب الأدهم استعارة لظلها فالثنية من حيث وقوعها على الناقة والعقبة أوفق للتجنيس من الناقة إذ لو ذكر الناقة مع الثنية التي هي الطريق لفاته التجنيس ومحل الكلام عليهما كتب الفقه ونحوها
ومنها الحقيقة والمجاز والحقيقة هي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي كالأسد للحيوان المفترس والحمار للحيوان المعروف والمجاز هو ما أريد به غير الموضوع له في أصل اللغة كالأسد للرجل الشجاع بعلاقة الشجاعة في كل منهما والحمار للبليد بعلاقة البلادة في كل منهما ويحتاج إليه لنقل الألفاظ من حقائقها إلى الاستعارة والتمثيل والكناية لما بينهما من العلاقة والمناسبة كاليد فإنها في أصل اللغة للجارحة أطلقت على القوة والنعمة مجازا من حيث إن القوة تظهر في اليد والنعمة تولى بها ومحل ذكرهما أصول الفقه وما في معناها
ومنها الألفاظ المتضادة وهي التي تقع كل لفظة منها على ضد ما تقع عليه الأخرى كالأمانة والخيانة والنصيحة والغش والفتق والرتق والنقض والإبرام ونحو ذلك فإن الكلام كثيرا ما ينبني على الأضداد وربما غلط الكاتب فجعل مقابل الشيء غير ضده فيلزمه النقص في صناعته وفوات ما

يقصده من المقابلة والطباق اللذين هما من أحسن أنواع البديع وفي صناعة الكتاب لأبي جعفر النحاس جملة صالحة من ذلك وفي كنز الكتاب لأبي الفتح كشاجم جملة جيدة منه أيضا
ومنها تسمية المتضادين باسم واحد كالجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض والصريم لليل والنهار ووراء لخلف وقدام ونحو ذلك ويحتاج إليه للتمييز بين الحقائق التي يقع اللبس فيها وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها المقصور والممدود كالندى للجود وندى الأرض والحفا لكلال القدم والحافر والممدود كالسماء للفلك وكل ما علاك والبقاء لضد الفناء ونحو ذلك وما يجوز فيه المد والقصر جميعا كالزناء والشراء وما أشبههما ويحتاج إليه الكاتب من ثلاثة أوجه أحدها أن الدلالة تختلف باعتبار المد والقصر كلفظ الهوى فإنه إن قصر كان بمعنى هوى النفس وإن مد كان بمعنى ما بين السماء والأرض الثاني أنه إذا أضيف الممدود أضيف بزيادة واو في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض وإذا أضيف المقصور لم يحتج إلى زيادة واو ولا ياء ولو كان مما يجوز فيه المد والقصر جاز فيه بعض حركاته وبما يمد كالبلاء والقلاء فإنه إذا كسر أولهما قصرا وكتبا بالياء وإذا فتح مدا وكتبا بالألف وكالباقلاء فإنه إذا خفف مد وإذا شدد قصر فمتى لم يعرف الكاتب ذلك كان قاصرا في صناعته وفي أدب الكاتب من ذلك جملة
ومنها المذكر والمؤنث فإنه تختلف أحواله باعتبار التذكير والتأنيث في

كثير من الأمور وذلك أن المؤنث على ضربين أحدهما ما فيه علامة من علامات التأنيث الثلاث وهي الهاء نحو حمزة وطلحة والألف الممدودة نحو حمراء والألف المقصورة نحو حبلى وضرب لا علامة فيه وإنما يؤخذ من السماع كالسماء والأرض والقوس والحرب وما أشبهها وربما كان منه ما يجوز فيه التذكير والتأنيث كالطريق والسبيل والموسى واللسان والسلطان وما أشبهها فإن من العرب من يذكر ذلك ومنهم من يؤنثه وربما وقع لفظ التأنيث على الذكر والأنثى جميعا كالسخلة والحية والحمامة والنعامة والبطة ونحوها وأيضا فإن من وصف المؤنث ما يحذف منه الهاء باعتبار تأويل آخر كصيغة فعيل فإنه إن كان بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وخضيب بمعنى مخضوب حذفت الهاء من مؤنثه فيقال امرأة قتيل وكف خضيب وما أشبه ذلك وإن كان بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم ورحيم بمعنى راحم تثبت الهاء في مؤنثه فتقول فيه عليمة ورحيمة وعلى العكس من ذلك فعول فإنه إن كان بمعنى فاعل كان بغير هاء نحو امرأة صبور وشكور بمعن صابرة شاكرة وإن كان بمعنى مفعول كان مؤنثه بالهاء كالحلوبة بمعنى المحلوبة والركوبة بمعنى المركوبة وصيغة مفعل مما لا يوصف به الذكور تكون بغير هاء كامرأة مرضع فإن أرادوا الفعل قالوا مرضعة وصيغة فاعل مما لا يكون وصفا لمذكر تكون بغير هاء أيضا نحو امرأة طالق وحامل وربما حذفت الهاء مما يكون للمذكر والمؤنث جميعا فتقول امرأة عاقر ورجل عاقر وفي أدب الكاتب وفصيح ثعلب جملة من ذلك وفي كتب النحو المبسوطة قواعد موصلة إلى مقاصده
ومنها المهموز وغير المهموز فإن المعنى قد يختلف في اللفظ الواحد باعتبار الهمز وعدمه كما تقول عبأت المتاع بالهمز وعبيت الجيش بغير همز وبارأت الكري بالهمز من الإبراء وباريت فلانا من المفاخرة بغير

همز وتقول زنى من الزنا بغير همز وزنا في الجبل إذا رقي فيه ونحو ذلك وربما جاء الهمز وعدمه في الكلمة الواحدة كما تقول شئت بالهمز وشيت بإسكان الياء من غير همز ونحو ذلك فمتى لم يكن الكاتب عارفا بالهمز ومواضعه ضل في طريق الكتابة وفي أدب الكاتب باب مفرد لذلك
ومنها ما ورد من كلام العرب مزدوجا كقولهم الطم والرم يريدون بالطم البحر وبالرم الثرى وكقولهم الحجر والمدر فالحجر معروف والمدر التراب الندي ونحو ذلك فإذا عرف الكاتب ذلك تمكن من وضعه في مواضعه لتحسين الكلام وتنميقه في الطباق والمقابلة وفي أدب الكاتب نبذة من ذلك
ومنها ما ورد من كلامهم مثنى إما على سبيل التغليب كقولهم القمران يريدون الشمس والقمر والعمران يريدون أبا بكر وعمر وإما على الحقيقة كقولهم ذهب منه الأطيبان يريدون الأكل والنكاح واختلف عليه الملوان أو الجديدان يريدون الليل والنهار ونحو ذلك وفي أدب الكاتب أيضا طرف منه
ومنها ما ورد من كلام العرب مرتبا كقولهم أول النوم النعاس وهو الاحتياج إلى النوم ثم الوسن وهو ثقل النعاس ثم الكرى والغمض وهو أن يكون بين النائم واليقظان ثم التغفيق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم ثم الإغفاء وهو النوم الخفيف ثم التهجاع وهو النوم القليل ثم الرقاد وهو النوم الطويل ثم الهجوع وهو النوم الغرق ثم التسبيخ وهو أشد النوم وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة للثعالبي قدر صالح من ذلك
ومنها ما ورد من كلامهم مورد الدعاء إما على بابه استأصل الله

شأفته يريدون أذهب الله أثره كما يذهب أثر الشأفة وهي قرحة تخرج من القدم فتكوى فتذهب وقوله أباد الله خضراءهم أي سوادهم ومعظمهم أو لم يقصد به حقيقة الدعاء كقولهم تربت يداك أي ألصفت بالتراب من الفاقة وقولهم أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهم لا يقصدون به الدعاء وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها ما تختلف أسماؤه مع المشابهة في المعنى كالظفر للإنسان أو الحافر للفرس والبغل والحمار والظلف للبقر والمنسم للبعير والبرثن للسباع وما يجري هذا المجرى وفي فقه اللغة جزء وافر منه
ومنها ما تختلف أسماؤه وأوصافه باختلاف أحواله كالكأس لا يقال فيه كأس إلا إذا كان في شراب وإلا فهو قدح ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان ولا قلم إلا كان مبريا وإلا فهو أنبوبة ولا خاتم إلا وفيه فص وإلا فهو فتخة ونحو ذلك وفي فقه اللغة جملة منه
ومنها معرفة الأصول التي تشتق منها الأسماء كتسمية القمر قمرا لبياضه إذا الأقمر هو الأبيض وكتسمية ليلة الرابع عشر من الشهر ليلة البدر لمبادرة الشمس القمر بالطلوع أو لتمامه وامتلائه حينئذ من حيث إن كل تام يقال له بدر وكتسمية النجم نجما أخذا من قولهم نجم إذا طلع ونحو ذلك وفي أدب الكاتب جملة من ذلك
ومنها ما نطقت به العجم على وفق لغة العرب لعدم وجوده في لغتهم وهو المعرب كالكف والساق والدلال والوزان والصراف والجمال والقصاب والبيطار وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة جزء من ذلك كاف

ومنها ما اشترك فيه العربية والفارسية كالتنور والخمير والدينار والدرهم والصابون وما أشبه ذلك وفي فقه اللغة أيضا نبذة منه
ومنها ما اضطرت العرب إلى تعريبه واستعماله في لغتهم من اللغة العجمية كالكوز والإبريق والطست والخوان والطبق وغيرها من الآنية والسكباج والزيرباج والطباهج والجوذاب ونحوها من الأطعمة والجلاب والسكنجبين ونحوهما من الأشربة والخولنجان والكافور والصندل وغيرها من الأفاويه والطيب ونحو ذلك وفي فقه اللغة من ذلك جملة جيدة إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيفاؤها مما في أدب الكاتب وفقه اللغة الكثير منه
ومنها ما تعددت لغاته ولتعلم أن لغة العرب متعددة اللغات متسعة أرجاء الألسن بحيث لا تساويها في ذلك لغة فمن ذلك ما فيه لغتان كقولهم رطل بكسر الراء وفتحها وسم وسم بفتح السين وضمها وما فيه ثلاث لغات مثل برقع بضم القاف وبرقع بفتحها وبرقوع بضم الباء وزيادة الواو وخاتم بكسر التاء وخاتم بفتحها وخيتام وما فيه أربع لغات مثل نطع بكسر النون وفتحها وسكون الطاء ونطع بفتح النون والطاء جميعا وكسر النون وصداق بفتح الصاد وصداق بكسرها وصداق بضمها وصدقة بضم الصاد وسكون الدال وما فيه خمس لغات كقولهم ريح الشمال بفتح الشين من غير همز والشمأل بالهمز والشامل بغير همز والشمل بفتح الميم والشمل بسكونها وما فيه ست لغات كفسطاط بضم الفاء وفسطاط بكسرها وفستاط بضم الفاء وإبدال الطاء تاء وفستاط بكسر الفاء وفساط بضم الفاء وتشديد السين وفساط بكسر الفاء وما فيه تسع لغات كالأنملة بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الميم وضمها وكسرها وما فيه عشر لغات كالأصبع بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع الفتح الباء وضمها وكسرها والعاشر أصبوع وفي أدب الكاتب جملة من هذا النمط

الصنف الثالث الفصيح من اللغة واعلم أن اللغة العربية قد تنوعت واختلفت بحسب تنوع العرب واختلاف ألسنتهم والذي اعتمده حذاق اللغة وجهابذة العربية من ذلك ما نطق به فصحاء العرب وهم الذين حلوا أوساط بلاد العرب ولم يخالطهم من سواهم من الأمم كثير مخالطة ولم يصاقبوا بلاد العجم فبقيت ألفاظهم سالمة من التغيير والاختلاط بلغة غيرهم كقريش وهذيل وكنانة وبعض تميم وقيس عيلان ونحوهم من عرب الحجاز وأوساط نجد بخلاف الذين حلوا في أطراف بلاد العرب وجاوروا الأعاجم فتغيرت ألفاظهم بمخالطتهم كحمير وهمدان وخولان والأزد لمجاورتهم بلاد الحبشة وطيء وغسان لمجاورتهم بلاد الروم بالشام وبعض تميم وعبد القيس لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس
واعلم أن التغيير يدخل في لغة العرب من عدة وجوه
منها أن تبدل كلمة بغيرها كما يستعمل أهل اللغة الحميرية ثب بمعنى اجلس وهي في عامة لغة العرب للأمر بالطفرة قال القاضي الرشيد في شرح أمنية الألمعي وربما غلبت العجمة على أحدهم حتى لا يفهم عنه شيء
ومنها أن تبدل حرفا من الكلمة بحرف آخر كما تبدل حمير كاف الخطاب شينا معجمة فيقولون في قلت لك قلت لش وربما أبدلوا التاء أيضا كافا فيقولون في قلت قلك وكما تبدل ربيعة الباء الموحدة ميما فيقولون في بكر مكر ونحو ذلك وكما يبدل بعض العرب الصاد المهملة بالسين المهملة

فيقولون في صابر سابر وكما يبدل بعضهم الطاء المهملة بتاء مثناة فوق فيقولون في طال تال وتسمع من عرب أهل الشرق كثيرا وكما يبدل قول التاء المثناة فوق بضاد معجمة فيقولون في أتر أضر
ومنها أن يعاقب بين حرفين في الكلمة كما يقول بعضهم في بلخ فلخ وفي أصبهان أصفهان
ومنها أن يأتي بحرف بين حرفين فيأتون بكاف كجيم فيقولون في كمل جمل قال ابن دريد وهي لغة في اليمن كثيرة في أهل بغداد ويأتون بجيم ككاف على العكس من الأول فيقولون في رجل ركل يقربونها من الكاف ويأتون بشين معجمة كجيم فيقولون في اجتمعوا اشتمعوا ويأتون بصاد مهملة كزاي فيقولون في صراط زراط ويأتون بجيم كزاي فيقولون في جابر زابر ويأتون بقاف بين القاف والكاف المعقودة قاله ابن سعيد عن سماعه من العرب ولا يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين وقد ذكر الشيخ أثير الدين أبو حيان ذلك جميعه في شرحه على تسهيل ابن مالك
الصنف الرابع ما تلحن فيه العامة وتغيره عن موضعه بأن يكون مفتوح الأول والعامة تكسره كقولهم في جفن العين بفتح الجيم جفن بكسرها أو مفتوح الأول والعامة تضمه كقولهم في القبول الذي هو خلاف الرد قبول بضمها أو مكسور الأول والعامة تفتحه كقولهم في درهم بكسر الدال درهم بفتحها أو مكسور الأول والعامة تضمه كقولهم في التمساح بكسر التاء

تمساح بضمها أو مضموم الأول والعامة تفتحه كقولهم في العصفور بضم العين عصفور بفتحها أو مضموم الأول والعامة تكسره كقولهم في الظفر بضم الظاء ظفر بكسرها أو مفتوح الوسط كقولهم في القالب بفتح اللام قالب بكسرها أو مكسور الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الرجل الموسوس والبر المسوس والجبن المدود بكسر الواو في الثلاثة موسوس ومسوس ومدود بفتحها أو مضموم الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الجدد جمع جديد جدد بفتحها أو محرك الوسط والعامة تسكنه كقولهم في التحفة بفتح الحاء تحفة بإسكانها أو ساكن الوسط والعامة تحركه كقولهم في الحلقة بإسكان اللام حلقة بفتحها أو مشددا والعامة تخففه كقولهم في العارية بتشديد الياء عارية بتخفيفها أو مخففا والعامة تشدده كقولهم في الكراهية بتخفيف الياء كراهية بتشديدها أو مهموزا والعامة تحذف الهمز من أوله كقولهم في الإهليلج بإثبات همزة في أوله هليلج بحذفها أو مهموز الوسط والعامة تسهله كقولهم في المراءة بإثبات الهمزة مراة بحذفها أو غير مهموز الأول والعامة تثبت الهمزة في أوله كقولهم في الكرة أكرة أو كان بالظاء المعجمة فجعلته بالضاد المعجمة كالوظيفة ونحوها أو بالضاد فجعلته بالظاء كقول بعضهم في البيضة بيظة أو بالذال المعجمة فجعلته بالدال المهملة كالذراع أو كان بالجيم فجعلته بالقاف كقولهم في مجاديف السفينة مقاديف أو بالدال المهملة فجعلته بالتاء المثناة فوق كقولهم في دخاريص القميص تخاريص ونحو ذلك مما شاع وذاع وفي أدب الكاتب لابن قتيبة نبذة من لحن أهل المشرق وكتاب تثقيف اللسان لابن مكي التونسي موضوع في لحن أهل الغرب وفصيح ثعلب مشتمل على كثير من هذا المقصد
الصنف الخامس الألفاظ الكتابية وهي ألفاظ انتخبها الكتاب وانتقوها من اللغة استحسانا لها وتمييزا لها في الطلاوة والرشاقة على غيرها قال

الجاحظ ما رأيت أمثل طريقة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا حوشيا ولا ساقطا سوقيا وقد ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن الكتاب غربلوا اللغة وانتقوا منها ألفاظا رائقة استعملوها
ثم هذه الألفاظ أسماء وأفعال فالأسماء كقولك في المدح فلان غرة القبيلة وسنامها وذؤابتها وذروتها وهو نبعة أرومته وأبلق كتيبته ومدرة عشيرته ونحو ذلك والأفعال كقولك في إصلاح الفاسد أصلح الفاسد ولم الشعث ورأب الشعب وضم النشر ورم الرث وجمع الشتات وجبر الكسر وأسا الكلم ورقع الخرق ورتق الفتق وشعب الصدع وفي كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى الكاتب كفاية من ذلك وله مختصر أربى عليه وفي كنز الكتاب لكشاجم ما فيه مقنع

المقصد الرابع في كيفية تصرف الكاتب في الألفاظ اللغوية وتصريفها في وجوه
الكتابة
لا خفاء أنه إذا أكثر من حفظ الألفاظ اللغوية وعرف الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد والمتقاربة المعاني تمكن من التعبير عن المعاني التي يضطر إلى الكتابة فيها بالعبارات المختلفة والألفاظ المتباينة وسهل عليه التعبير عن مقصوده وهان عليه إنشاء الكلام وترتيبه وفي الأمثلة التي أوردها كشاجم في كنز الكتاب حيث يعبر عن المعنى الواحد بعبارات متعددة ما يرشد إلى الطريق في ذلك ويهدي إلى سلوك الجادة الموصلة إلى القصد منه

وهذه نسخة مكاتبة منه في التهنئة بمولود يستضاء بها في ذلك وهي
قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها أرومة رسخت عروقها شجرة زكت غصونها فرع شرفت منابته معدن زكت علائقه جوهر شاعت مكارمه عنصر بسقت فروعه محتد ذاعت محامده أصل نجبت مآثره سنخ خلصت مناقبه نصاب صرحت مفاخره نجر نمت مساعيه أصل فضلت معالمه عنصر نصرت محاسنه منتمى كثرت مناقبه فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم مظاهر في محو ثرى الإفضال ذخيرة نفيسة لذوي الآمال نعمة كاملة السعادة غبطة شاملة البشاشة سرور يواجه الأولياء حبور تجتويه الأعداء غبطة تصل إلى الأحرار ابتهاج لذوي الأخطار فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية بالولاية الكافية الكفاية المتظاهرة الدفاع الكالي الحفاظ الداعي الصنع الجميل الدفاع الحسن العافية المتكاتفة وبلغني الخبر بهبة الله المستجدة الولد المبارك الفرع الطيب السليل الرضي الولد الصالح الابن السار الثمرة المثمرة السلالة الزكية النجل الميمون الذي عمر أفنية السيادة زاد في مواثيق العهد والرياسة أرسى قواعد السيادة ثبت أساس الرفعة أوثق عرا المجد مكن أركان الفضل وطد أساس المكارم أكد علائق الشرف أبد أواخي الكرم أبرم حبال الجود أمر أسباب الطول شيد بنيان الكمال أحصف أيدي السماحة أحكم قوى الرجاحة أوثق عقد العلا رفع دعائم الظهارة أنار أعلام

الغارة أظهر علامات الخير فتباشرت به ابتهجت اجتذلت اغتبطت فرحت سررت استبشرت جعله اليه برا تقيا سيدا حميدا ميمونا مباركا طيبا عزيزا سعيدا ظهيرا عونا ناصرا راجحا زكيا وزرا ملجأ يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم يسلك منهاجهم يسن سنتهم يتبع قصدهم يسير سيرتهم يسعى مساعيهم ينحو مثالهم يحذو حذوهم يتخلق بأخلاقهم يتبصر بصيرتهم ينوط أفعالهم يترسم رسومهم وأيمن به عددك كثر به ذريتك أراك فيه غاية أملك شفعه الله بإخوة بررة وفقه الله لأداء حقك جعله خير خلف كما هو لخير سلف زين به العشيرة وهب له النماء بلغ به أكلأ العمر مكن له في رفيع المراتب حقق فيه فراستك وهب له تمام الفضيلة وأوزعك الشكر عليه أجارك فيه من الثكل سرك بفائدته أسعدك برؤيته أطاب عيشك به متعك بعطيته ألهمك شكر ما خولك واصل لك المزيد برحمته
فإنه إذا أراد الكاتب أن يستخرج من ألفاظ هذا الكتاب عدة كتب بتهنئة بولد فعل كما إذا قال قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم فتولى الله نعمه عندك بالحراسة وبلغني الخبر بهبة الله الجديدة المستجدة الولد المبارك الذي عمر أفنية السيادة فتباشرت به جعله الله تعالى برا تقيا يتقيل سلفه وأيمن به عددك وأوزعك الشكر عليه وواصل لك المزيد برحمته كان ذلك كتابا كافيا في هذا النوع فتأمل ذلك وقس عليه

النوع الثاني المعرفة باللغة العجمية وهي كل ما عدا العربية من التركية
والفارسية والرومية والفرنجية والبربرية والسودان وغيرهم وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى معرفة اللغات العجمية
لا يخفى أن الكاتب يحتاج في كماله إلى معرفة لغة الكتب التي ترد عليه لملكه أو أميره ليفهمها ويجيب عنها من غير اطلاع ترجمان عليها فإنه أصون لسر ملكه وأبلغ في بلوغ مقاصده
وقد روى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال قال لي رسول الله إنه يرد علي أشياء من كلام السريانية لا أحسنها فتعلم كلام السريانية فتعلمتها في ستة عشر يوما وفي رواية قال قال لي رسول الله أتحسن السريانية فإنه يأتيني كتب بها قلت لا قال فتعلمها فتعلمتها في سبعة عشر يوما فكنت أجيب عن رسول الله وأقرأ كتب يهود إذا وردت عليه وفي رواية قال قال لي رسول الله يا زيد تعلم كتاب يهود فإني والله لا آمن يهود على كتابي قال فتعلمت كتابتهم فما مر لي ست عشرة ليلة حتى حذقته فكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب إذا كتب وفي رواية العبرانية بدل السريانية
قال محمد بن عمر المدائني بل قد قيل إن النبي كان يفهم اللغات كلها وإن كان عربيا لأن الله تعالى بعثه إلى الناس كافة ولم يكن الله بالذي يبعث نبيا إلى قوم لا يفهم عنهم ولذلك كلم سلمان بالفارسية وساق بسنده إلى عكرمة أنه قال سئل ابن عباس هل تكلم رسول الله بالفارسية قال

نعم دخل عليه سلمان فقال له درسته وسادته قال محمد بت أميل أظنه مرحبا وأهلا وحينئذ فيكون النبي إنما أمر يزيد بتعلم كتابة السريانية أو العبرانية لتحريم الكتابة عليه لا أنه أمره بتعلم لغتهم

المقصد الثاني في بيان ما يتصرف فيه الكاتب من اللغة العجمية
اعلم أن الذي ينبغي له تعلمه من اللغات العجمية هو ما تتعلق به حاجته في المخاطبة والمكاتبة
أما المخاطبة فبأن يكون لسان ملكه بعض الألسن العجمية أو كان الغالب عليه لسان عجمي مع معرفته بالعربية كما غلبت اللغة التركية على ملوك الديار المصرية وكما غلبت اللغة الفارسية على ملوك بلاد العراق وفارس وكما غلب لسان البربر على ملوك بلاد المغرب مع تبعية عسكر كل ملك في اللسان الغالب عليه له في ذلك فيحتاج الكاتب إلى معرفة لسان السلطان الذي يتكلم به هو وعسكره ليكون أقرب إلى الحصول قصده من فهم الخطاب وتفهيمه وسرعة إدراك ما يلقى إليه من ذلك وتأدية ما يقصد تأديته منه مع ما يحصل له من الحظوة والتقريب بالموافقة في اللسان فإن الشخص يميل إلى من يخاطبه بلسانه لا سيما إذا كان من غير جنسه كما تميل نفوس ملوك الديار المصرية وأمرائها وجندها لمن يتكلم بالتركية من العلماء والكتاب ومن في معناهم على ما هو معلوم مشاهد
وأما المكاتبة فبأن يكون يعرف لسان الكتب الواردة على ملكه ليترجمها له ويجيب عنها بلغتها التي وردت بها فإن في ذلك وقعا في النفوس

واستجلابا للقلوب وصونا للسر عن اطلاع ترجمان عليه وأمر النبي لزيد ابن ثابت بتعلم السريانية أو العبرانية على ما تقدم ظاهر في طلب ذلك من الكاتب وحثه عليه
ثم اللغات العجمية على ضربين أحدهما ما له قلم يكتب به في تلك اللغة كاللغة الفارسية واللغة الرومية واللغة الفرنجية ونحوها فإن لكل منها قلما يخصه يكتب به في تلك اللغة والثاني ما ليس له قلم يكتب به وهي لغات القوم الذين تغلب عليهم البداوة كالترك والسودان ولأجل ذلك ترد الكتب من القانات ملوك الترك ببلاد الشمال المعروف في القديم ببيت بركة والآن بمملكة أزبك باللغة المغلية بالخط العربي وترد الكتب الصادرة عن ملوك السودان باللفظ العربي والخط العربي أما اللغات التي لها أقلام تخصها فإن كتبهم ترد بخطهم ولغتهم كالكتب الواردة من ملوك الروم والفرنج ونحوهما ممن للغته قلم يخصه على اختلاف الألسنة واللغات

النوع الثالث المعرفة بالنحو وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إليه
لانزاع أن النحو هو قانون اللغة العربية وميزان تقويمها وقد تقدم في النوع الأول أن اللغة العربية هي رأس مال الكاتب وأس مقاله وكنز إنفاقه وحينئذ فيحتاج إلى المعرفة بالنحو وطرق الإعراب والأخذ في تعاطي ذلك حتى يجعله دأبه ويصيره ديدنه ليرتسم الإعراب في فكره ويدور على لسانه وينطلق به مقال قلمه وكلمه ويزول به الوهم عن سجيته ويكون على بصيرة من عبارته فإنه إذا أتى من البلاغة بأعلى رتبة ولحن في كلامه ذهبت محاسن ما أتى به وآنهدمت طبقة كلامه وألغي جميع ما حسنه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39