كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

فأجابه محمد بن عبد الملك الزيات معتذرا بقوله - منسرح -
( كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكل شيء أنال من سببك )
( إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل علي من أدبك )
على أن في كراهة الدعاء للإخوان بذلك نظرا فسيأتي في الكلام على ترتيب المكاتبات على سبيل الإجمال أن أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية في حديث طويل يأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى
أما الدعاء بالإمتاع للأتباع فقد أجازه جماعة من محققي الكتاب محتجين على ذلك بأنه دعا لأبي اليسر كعب بن عبيد الله بقوله ( ( اللهم أمتعنا به ) ) قال ابن عفير فكان آخر أهل بدر وفاة مات سنة خمس وخمسين من الهجرة
النوع الثاني ما يختص بالنساء فقد ذكر أبو جعفر النحاس أنه لا يقال في مكاتبتهن وأدام كرامتك ولا وأتم نعمته عليك ولكن لديك ولا فضله عندك ولا وأدام سعادتك أما منع الدعاء لهن بالكرامة فلما حكى محمد بن عمر المدائني أن بعض عمال زبيدة كتب إليها كتابا بسبب ضياع لها فوقعت له على ظهر كتابه أردت أن تدعو لنا فدعوت علينا فأصلح خطأك في كتابك وإلا صرفناك عن جميع أعمالك فأدركه القلق وجعل يتصفح الكتاب ويعرضه على الكتاب فلا يجد فيه شيئا إلى أن عرضه على بعض أهل المعرفة فقال إنما

كرهت دعاءك في صدر كتابك بقولك وأدام كرامتك لأن كرامة النساء دفنهن قال رسول الله ( ( دفن البنات من المكرمات ) ) فغير ذلك الحرف من كتابه وأعاده إليها فوقعت له على ظهره أحسنت ولا تعد وأما كراهة وأتم نعمته عليك وإبدال ذلك بلفظ وأتم نعمته لديك فكأنه لما يلمح فيه من ذكر العلو على النساء وأما منع وأتم فضله عندك أو وأتم سعادتك فيحتاج إلى تأمل
الخامس أن يتجنب الخلاف في الدعاء في فصول الكتاب ولا يوالي بين دعوتين منه متفقتين فأما الخلاف في الدعاء فقال أبو جعفر النحاس هو مثل أن يقول أطال الله بقاء سيدي بلفظ الغيبة ثم يقول بعد ذلك وبلغك أملك بلفظ الخطاب وأما الموالاة بين دعوتين ولا يأتي بهما متفقتين فقال في مواد البيان هو مثل حرس الله الأمير أعزه الله ثم يقول في الفصل الذي بعده أعزه الله تعالى وما أشبه ذلك
السادس أن يتجنب وقوع اللبس في الدعاء فإذا ذكر الرئيس مع عدوه مثلا لم يدع للرئيس حينئذ فإنه لو ذهب يقول وقد كان من عدو سيدي أبقاه الله كذا لاحتمل عود الدعاء إلى الرئيس وإلي عدوه فيقع اللبس أما إذا ذكر الرئيس وحده كما إذا قال وقد كنت عرفت سيدي أبقاه الله كذا فإنه لا التباس

الأصل السادس أن يعرف ما يناسب المكتوب إليه من الألقاب فيعطيه حقه منها
ويتعلق الغرض من ذلك بثلاثة أمور
أحدها أن يعرف ما يناسب من الألقاب الأصول المتقدمة الذكر في

المقالة الثالثة عند الكلام على الألقاب المصطلح عليها بحسب ذلك الزمان كالمقام والمقر والجناب والمجلس في زماننا فيعطي كل أحد من المكتوب إليهم ما يليق به من ذلك فيجعل المقام لأكابر الملوك والمقر لمن دونهم من الملوك وللرتبة العليا من أهل المملكة والجناب للرتبة الثالثة من الملوك والرتبة الثانية من أهل الدولة والمجلس للرتبة الرابعة من الملوك والرتبة الثالثة من أهل الدولة ومجلس الأمير لمن دون ذلك من أهل الدولة على المصطلح المستقر عليه الحال
الثاني أن يعرف ما يناسب كل لقب من الألقاب الأصول من الألقاب والنعوت التابعة لذلك فيتبع كل واحد من الأصول بما يناسبه من الفروع
الثالث أن يعرف مقدار المكتوب إليه فيوفيه قسطه من الألقاب في الكثرة والقلة بحسب ما يجري عليه الاصطلاح فقد ذكر في معالم الكتابة أن السلطان لا يكثر في المكاتبة إليه من نعوته بل يقتصر على الأشياء التي تكون فيه مثل العالم العادل أما غير ذلك فيقع باللقبين المشهورين وهما نعته المفرد ونعته المضاف إلى الدين وأنه في الكتابة عن السلطان كلما زيد في النعوت كان أميز لأنها على سبيل التشريف من السلطان ويجعل المضاف إلى الدين متوسطا بين الألقاب لا في أولها

الأصل السابع أن يراعي مقاصد المكاتبات فيأتي لكل مقصد بما يناسبه
ومدار ذلك على أمرين
الأمر الأول أن يأتي مع كل كلمة بما يليق بها ويتخير لكل لفظة ما يشاكلها قال ابن عبد ربه وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل نسأل الله رفع المحذور وصرف المكروه وأشباه ذلك وفي موضع

ذكر المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع النعمة الحمد لله خالصا والشرك لله واجبا وما شاكل ذلك قال في مواد البيان وإذا ذكر البلوى شفعها بالاستعانة بالله تعالى والرجوع إليه فيها ورد الأمر إلى حوله وقوته قال ابن عبد ربه فإن هذه المواضع مما يتعين على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظ فيها فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كل معنى في موضعه ويعلق كل لفظ على طبقه في المعنى
ومما يلتحق بذلك أيضا أنه إذا ذكر الرئيس في أثناء المكاتبة دعا له مثل أن يقول عند ذكر السلطان خلد الله ملكه وعند ذكر الأمير الكبير عز نصره أو أعز الله تعالى أنصاره وعند ذكر الحاكم أيد الله تعالى أحكامه وما أشبه ذلك مما يجري هذا المجرى
الأمر الثاني أن يتخطى التصريح إلى التلويح والإشارة إذا ألجأته الحال إلى المكاتبة بما لا يجوز كشفه وإظهاره على صراحته مما في ذكره على نصه هتك ستر أو في حكايته اطراح مهابة السلطان وإسماعه ما يلزم منه إخلال الأدب في حقه كما لو أطلق عدوه لسانه فيه بلفظ قبيح يسوءه سماعه قال في مواد البيان فيحتاج المنشيء إلى استعمال التورية في هذه المواضع والتلطف في العبارة عن هذه المعاني وإبرازها في صورة تقتضي توفية حق السلطان في التوقير والإجلال والإعظام والتنزيه عن المخاطبة بما لا يجوز إمراره على سمعه وإيصال المعنى إليه من غير خيانة في طي ما لا غنى به عن علمه قال وهذا مما لا يستقل به إلا المبرز في الصناعة المتصرف في تأليف الكلام

الأصل الثامن أن يعرف مقدار فهم كل طبقة من المخاطبين في المكاتبات من
اللسان فيخاطب كل أحد بما يناسبه من اللفظ وما يصل إليه فهمه من الخطاب

قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين أول ما ينبغي أن تستعمل في كتابك مكاتبة كل فريق على مقدار طبقتهم في الكلام وقوتهم في المنطق قال والشاهد على ذلك أن النبي لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس كتب إليهم بما يمكنهم ترجمته فكتب إليهم ( ( من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) فأسلم تسلم وإن أبيت فإثم المجوس عليك ) ) فسهل رسول الله الألفاظ غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيء على من له أدنى معرفة بالعربية
ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب فخم اللفظ لما عرف من قوتهم على فهمه وعادتهم بسماع مثله فكتب لوائل بن حجر الحضرمي ( ( من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على التيعة الشاة والتيمة لصاحبها وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار ومن

أجبى فقد أربى وكل مسكر حرام ) )
وقد ذكر العسكري أيضا في باب الإطناب ما يحسن أن يكون شاهدا لذلك من القرآن الكريم فقال قد رأينا أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي كما في قوله تعالى خطابا لأهل مكة ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) وقوله ( إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ) وقوله ( أو ألقى السمع وهو شهيد ) في أشباه كثيرة لذلك وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا كما في سورة طه وأشباهها حتى إنه قلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم وتأخر معرفتهم
قال في مواد البيان فيجب على الكاتب أن ينتقل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين وتوجبه الأحوال المتغايرة والأوقات المختلفة ليكون كلامه مشاكلا لكل منها فإن أحكام الكلام تتغير بحكم تغير الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين
قال ولتحري الصدر الأول من الكتاب إيقاع المناسبة بين كتبهم وبين الأشياء المتقدمة الذكر استعمل كتاب الدولة الأموية من الألفاظ العربية الفحلة والمتينة الجزلة ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية لأن كتاب الدولة الأموية

قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم وهم أهل الفصاحة واللسن والخطابة والشعر
أما زمان بني العباس فإن الهمم تقاصرت عما كانت مقبلة على تطلبه فيما تقدم من العلوم المقدم ذكرها وشغلت بغيرها من علوم الدين ونزل ملوكهم ديار العراق وما يجاورها من بلاد فارس وليس استفاضة لغة العرب فيها كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام ومن المعلوم أن القوم الذين كانوا يكاتبون عنهم لا يجارون تلك الطبقة في الفصاحة والمعرفة بدلالات الكلام فانتقل كتابها من اللفظ المتين الجزل إلى اللفظ الرقيق السهل وكذلك انتقل متأخرو الكتاب عن ألفاظ المتقدمين إلى ما هو أعذب منها وأخف للمعنى المتقدم ذكره
قال وحينئذ ينبغي للكاتب أن يراعي هذه الأحوال ويوقع المشاكلة بين ما يكتبه وبينها فإذا احتاج إلى إصدار كتاب إلى ناحية من النواحي فلينظر في أحوال قاطنيها فإن كانوا من الأدباء البلغاء العارفين بنظم الكلام وتأليفه فليودع كتابه الألفاظ الجزلة التي إذا حليت بها المعاني زادتها فخامة في القلوب وجلالة في الصدور وإن كانوا ممن لا يفرق بين خاص الكلام وعامه فليضمن كتابه الألفاظ التي يتساوى سامعوها في إدراك معانيها فإنه متى عدل عن ذلك ضاع كلامه ولم يصل معنى ما كتب فيه إلى من كاتبه لأن الكلام البليغ إنما هو موضوع بإزاء إفهام البلغاء والفصحاء فأما العوام والحشوة فإنما يصل إلى أفهامهم الكلام العاطل من حلى النظم العاري من كسوة التأليف فيجب على الكاتب أن يستعمل في مخاطبة من هذه صورته أدنى رتب البلاغة وأقربها من أفهام العامة والأمم الأعجمية إذا كتب إليهم
ثم قال فأما الكتب المعتدة عن السلطان فإن منها كتب الفتوحات

والسلامات ونحوها وهي محتملة للألفاظ الفصيحة الجزلة والإطالة القاضية بإشباع المعنى ووصوله إلى أفهام كافة سامعيه من الخاص والعام ومنها كتب الخراج وجبايته وأمور المعاملات والحساب وهي لا تحتمل اللفظ الفصيح ولا الكلام الوجيز لأنها مبنية على تمثيل ما يعمل عليه وإفهام من لا يصل المعنى إلى فهمه إلا بالبيان الشافي في العبارة ومنها مخاطبته السلطان عن نفسه فيجب فيها مخاطبته على قدر مكانه من الخدمة من الألفاظ المتوسطة ولا يجوز أن يستعمل فيها الفصيحة التي لا تحتمل من تابع في حق متبوع لما فيه من تعاطي التفاصح على سلطانه وهو غير جائز في أدب الملوك وكذلك لا يجوز فيه تعاطي الألفاظ المبتذلة الدائرة بين السوقة لما في ذلك من الوضع من السلطان بمقابلته إياه بما لا يشبه رتبته
وأما الكتب الإخوانيات النافذة في التهاني والتعازي فإنها تحتمل الألفاظ الغريبة القوية الأخذ بمجامع القلوب الواقعة أحسن المواقع من النفوس لأنها مبنية على تحسين اللفظ وتزيين النظم وإظهار البلاغة فيها مستحسن واقع موقعه
قلت والذي تراعى الفصاحة والبلاغة فيه من المكاتبات عن الأبواب السلطانية في زماننا مكاتبات ملوك المغرب كصاحب تونس وصاحب تلمسان وصاحب فاس وصاحب غرناطة من الأندلس وكذلك القانات العظام من ملوك المشرق ومن يجري هذا المجرى ممن تشتمل بلاده على العلماء بالبلاغة وصناعة الكتابة ويظهر ذلك بالاستخبار عن بلادهم وبالإطلاع على كتبهم الصادرة عن ملوكهم إلى الأبواب السلطانية بخلاف من لا عناية له بذلك كحكام أصاغر البلدان وأصحاب اللغات العجمية من الروم والفرنج والسودان ومن في معناهم فإنه يجب خطابهم بالألفاظ الواضحة إلا أن يكون في بعض بلادهم من يتعاطى البلاغة من الكتاب ووردت كتبهم على نهجها فإنه ينبغي مكاتبتهم على سنن البلغاء

الأصل التاسع أن يراعى رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه في الخطاب فيعبر عن كل واحد منهما في كل مكاتبة بما يليق به ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه
فأما المكتوب عنه فيختلف الحال فيه باختلاف منصبه ورتبته
فإن كان المكتوب عن خليفة فقد جرت عادة من تقدم من الكتاب بالتعبير عنه في الكتب الصادرة عن أبواب الخلافة بأمير المؤمنين مثل أن يقال فجرى أمر أمير المؤمنين في كذا على كذا وكذا وأوعز أمير المؤمنين إلى فلان بكذا واقتضى رأي أمير المؤمنين كذا وخرج أمر أمير المؤمنين بكذا وتقدم أمر أمير المؤمنين إلى فلان بكذا وما شاكل ذلك وربما عبر عنه بالسلطان مثل أن يقال في حق المخالفين وحاربوا عساكر السلطان أو ومنعوا خراج السلطان وما أشبه ذلك يريدون الخليفة على ما ستقف عليه في الكتب التي نوردها في المكاتبات عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى
وقال ابن شيث في معالم الكتابة ويخاطب بالمواقف المقدسة الشريفة والعتبات العالية ومقر الحرامة الدحمة ومحل الشرف وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف نحوه فقال ويخاطب بالديوان العزيز والمقام الأشرف والجانب الأعلى أو الشريف وبأمير المؤمنين مجردة عن سيدنا ومولانا ومرة غير مجردة مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة قال وسبب الخطاب بالديوان العزيز الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه وتنزيل الخطاب منزلة من يخاطب نفس الديوان والمعني به ديوان الإنشاء إذ الكتب وأنواع المخاطبات إليه واردة وعنه صادرة
وقد سبق في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة نقلا عن ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب إنكار هذه الاستعارات والمخترعات وسيأتي في

المكاتبة إلى الخلفاء ذكر ترتيبها إن شاء الله تعالى
وأن كان المكتوب عنه ملكا فقد جرت العادة أن يعبر عنه بنون الجمع للتعظيم فيقال فعلنا كذا وأمرنا بكذا واقتضت آراؤنا الشريفة كذا وبرزت مراسيمنا بكذا ومرسومنا إلى فلان أن يتقدم بكذا أو يتقدم أمره بكذا وما أشبه ذلك وذلك أن ملوك الغرب كانوا يجرون على ذلك في مخاطباتهم فجرت الملوك على سننهم في ذلك وفي معنى الملوك في ذلك سائر الرؤساء من الأمراء والوزراء والعلماء والكتاب ونحوهم من ذوي الأقدار العلية والأخطار الجليلة والمراتب السنية في الدين والدنيا ممن يصلح أن يكون آمرا وناهيا إذا كتبوا إلى أتباعهم ومأموريهم إذ كانت هذه النون مما يختص بذوي التعظيم دون غيرهم وشاهد ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى ( حتى إذا حضر أحدهم الموت قال رب ارجعون ) فدعاه دعاء المفرد لعدم المشاركة له في ذلك الاسم وسأله سؤال الجمع لمكان العظمة إلى غير ذلك من الآيات الواردة مورد الاختصاص له كما في قوله تعالى ( إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) وقوله ( إنا نحن نحيي الموتى ) وقوله ( نحن الوارثون ) وغير ذلك من الآيات قال في معالم الكتابة وقد أخذ كتاب المغرب بهذا مع ولاة أمورهم في الجمع بالميم فخاطبوا الواحد مخاطبة الجمع مثل أنتم وفعلتم وأمرتم وما أشبه ذلك
قلت والأمر في ذلك عندهم مستمر إلى الآن قال ابن شيث وهو غير ما صور به عند غيرهم

وإن كان المكتوب عنه مرؤوسا بالنسبة إلى المكتوب إليه كالتابع ومن في معناه فقال في مواد البيان ينبغي أن يتحفظ في الكتب النافذة عنه من الإتيان بنون العظمة وغيرها من الألفاظ التي فيها تعظيم شأن المكتوب عنه مثل أن يقول أمرت بكذا أو نهيت عن كذا أو أوعزت بكذا أو تقدم أمري إلى فلان بكذا أو أنهي إلي كذا أو خرج أمري بكذا وما في معنى ذلك مما لا يخاطب به الأتباع رؤساءهم بل يعدل عن مثل هذه الألفاظ إلى ما يؤدي إلى معناها مما لا عظمة فيه مثل أن يقول وجدت صواب الرأي كذا ففعلته ورأيت السياسة تقتضي كذا فأمضيته وما أشبه ذلك إن كان عرف الكتاب على الخطاب بالتاء وإلا قال وجد المملوك صواب الرأي كذا ففعله ورأى السياسة تقتضي كذا فأمضاه وما يجري هذا المجرى
وأما المكتوب إليه فقال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين ينبغي أن يعرف قدر المكتوب إليه من الرؤساء والنظراء والعلماء والوكلاء ليفرق بين من يكتب إليه أنا أفعل كذا ومن يكتب إليه نحن نفعل كذا فأنا من كلام الأشباه والإخوان ونحن من كلام الملوك ويفرق بين من يكتب إليه فإن رأيت أن تفعل كذا وبين من يكتب إليه فرأيك قال في مواد البيان وذلك إن قولهم فإن رأيت أن تفعل كذا لفظ النظراء والمساوين بخلاف فرأيك فإنه لا يكتبه إلا جليل معظم لتضمنها معنى الأمر والتقدير فر رأيك بخلاف فإن رأيت فإنه لا أمر فيه إذ يقال فإن رأيت أن تفعل كذا فافعله على أن الأخفش قد أنكر هذا على الكتاب لأن أقل الناس يقول للسلطان انظر في أمري ولفظه لفظ الأمر ومعناه السؤال وذكر مثله في صناعة الكتاب عن النحويين قال في مواد البيان وحجة الكتاب أن المشافهة تحتمل ما لا تحتمله المكاتبة لأن المشافهة حاضر يحضر الإنسان لا يمكنه تقييده وترتيبه والماكتبة بخلاف ذلك فلا عذر لصاحبها في الإخلال بالأدب قال ابن شيث وقد اصطلحوا على أن يكتب في أواخر الكتب

وللآراء العالية فضل السمو والقدرة إن شاء الله تعالى ودون ذلك وللرأي السامي حكمه ودونه والرأي أعلى ودونه والرأي موفق وموفقا بالرفع والنصب ودونه ورأيه للمجلس ورأيها للحضرة قال وربما قالوا فإن رأى مولانا أن يكون كذا وكذا أمر به أو فعل إلا أنها لا تقوم مقام قوله والرأي أعلى فأما لمن دونه فمحتمل وذكر أنه كان مصطلحهم أن يقال في آخر كتب السلطان فاعلم ذلك وأعمل به إن شاء الله تعالى وإن أعيان أصحاب الأقلام كانوا يكتبونه إلى من دونهم
قلت والذي استقر عليه الحال أن يكتب في مثل ذلك وللآراء العالية مزيد العلو وأن تختم الكتابة للأكابر بمثل فنحيط علمه بذلك ولمن دونهم فنحيط بذلك علما وللأصاغر فليعلم ذلك ويعتمده ونحو ذلك قال محمد بن إبراهيم الشيباني إن احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والأدباء والخطباء وأوساط الناس وسوقتهم فخاطب كلا منهم على قدر أبهته وجلالته وعلوه وارتفاعه وفطنته وانتباهه ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه وتعطيه قسمته وتوفيه نصيبه فإنه متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقتهم وتسلك بهم غير مسلكهم وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه فلا تعتد بالمعنى الجزل ما لم تكسه لفظا مختلفا على قدر المكتوب إليه فإن إلباسك المعنى وإن صح إذا أشرب لفظا لم تجربه عادة المكتوب إليه تهجين للمعنى وإخلال لقدر المكتوب إليه وظلم يلحقه ونقص مما يجب له كما أن في إتباع متعارفهم وما انتشرت به عادتهم وجرت به سنتهم قطعا لعذرهم وخروجا عن حقهم وبلوغا إلى غاية مرادهم

وإسقاطا لحجة أدبهم قال ابن عبد ربه فامتثل هذه المذاهب وأجر عليها القوم
قال في مواد البيان وذلك أن المعاني التي يكتب فيها وإن كان كل منها جنسا بعينه كالتهنئة والتعزية والاعتذار والعتاب والاستظهار ونحو ذلك فإنه لا يجوز أن يخرج المعنى لكل مخاطب على صيغة واحدة من اللفظ بل ينبغي أن يخرج في الصيغة المشاكلة للمخاطب اللائقة بقدره ورتبته ألا ترى أنك لو خاطبت سلطانا أو وزيرا بالتعزية عن مصيبة من مصائب الدنيا لما جاز أن تبني الكلام على وعظه وتبصيره وإرشاده وتذكيره وحضه على الأخذ بحظ من الصبر ومجانبة الجزع وتلقي الحادثات بالتسليم والرضا وإنما الصواب أن تبني الخطاب على أنه أعلى شانا وأرفع مكانا وأصح حزما وأرجح حلما من أن يعزى بخلاف المتأخر في الرتبة فإنه إنما يعزى تنبيها وتذكيرا وهداية وتبصيرا ويعرف الواجب في تلقي السراء بالشكر والضراء بالصبر ونحو ذلك
وكذلك إذا كاتبت رئيسا في معنى الاستزادة والشكوى لا يجوز أن تأتي بمعناهما ألفاظهما الخاصة بل يجب أن تعدل عن ألفاظ الشكوى إلى ألفاظ الشكر وعن ألفاظ الاستزادة إلى ألفاظ الاستعطاف والسؤال في النظر لتكون قد رتبت كلامك في رتبته وأخرجت معناك مخرج من يستدعي الزيادة لا من يشكو التقصير
قال ابن شيث في معالم الكتابة ولا يخاطب السلطان في خلال الكتابة إليه بسيدنا مكان مولانا فإن سيدنا كأنها خصصت بأرباب المراتب

الدينية والديوانية وملانا تخص السلطان وحده وإن كان من نعوت السلطان السيد الأجل
قال على أن ذلك مخالف لمذهب المغاربة فإنهم يعبرون عن ولاة أمورهم بالسادة ويعبرون عن صاحب الأمر بسيدنا وكأن هذا كان في زمانه وإلا فالمعروف عند أهل المغرب والأندلس الآن التعبير عن السلطان بالمولى يقول أحدهم مولانا فلان وأهل مصر الآن يطلقون السادة على أولاد الملوك
وكذلك لو وقع واقع للسلطان فنصحته لم يجز أن تورد ذلك مورد التنبيه على ما أغفله والإيقاظ لما أهمله والتعريف من الصواب لما جهله لأن ذلك من القبيح الذي لا يحتمله الرؤساء من الأتباع ولكن تبني الخطاب على أن السلطان أعلى وأجل رأيا وأصح فكرا وأكثر إحاطة بصدور الأمور وأعجازها وأن آراء خدمه جزء من رأيه وأنهم إنما يتفرسون مخايل الإصابة بما وقفوا عليه من سلوك مذهبه والتأدب بأدبه والارتياض بسياسته والتنقل في خدمته وإن مما يفرضونه في حكم الإشفاق والاهتمام وما يسبغ عليهم من الإنعام المطالعة بما يجري في أوهامهم ويحدث في أفكارهم من الأمور التي يتخيلون أن في العمل بها مصلحة للدولة وعمارة للمملكة ليتصفحه بأصالة رأيه التي هي أوفر وأثبت فإن استصوبه أمضاه وإن رأى خلافه ألغاه وكان الرأي الأعلى ما يراه إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى
قال ابن شيث في معالم الكتابة ولا يقارن الكاتب السلطان في تكرار المواضع التي يقع الالتباس فيها بين الكاتب والمكتوب إليه لأن هاء الضمير تعود عليهما معا لما تقدم من ذكرهما وإن كان في القرينة ما يدل على ذلك بعد الفكرة وإذا ابتدأ معهم بالمملوك لا يقال بعد ذلك العبد ولا الخادم وإن كان ذلك جائزا مع غير السلطان
قال ولا بأس بتكرار الإشارة إلى السلطان في المواضع التي يجمل فيها الاشتراك بينه وبين المكتوب إليه مثل أن يقال وكان قد ذكر كذا وكذا

والضمير في كان يصلح لهما معا فلا بد هنا من ذكر المملوك إن كان الالتباس من جهة الكاتب أو مولانا إن كانت الإشارة إلى السلطان

الأصل العاشر أن يراعي مواقع آيات القرآن والسجع في الكتب وذكر أبيات
الشعر في المكاتبات
أما آيات القرآن الكريم فقد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أنها في صدر الكتب قد يذكرها الأدنى للأعلى في معنى ما يكتب به مثل قوله تعالى ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا ) وقوله تعالى ( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ) إلى غير ذلك من الآيات المناسبة للوقائع وإن كانت في أثناء الكتب فقد أستشهد بها جماعة من الكتاب في خلال كتبهم مما رأيته
وأما السجع فقد ذكر ابن شيث أنه لا يفرق فيه بين كتاب الأعلى للأدنى وبالعكس وأنه بما يكتب عن السلطان أليق لكن قد ذكر بعض المتأخرين أن الكتابة بالسجع نقص في حق المكتوب إليه وقضيته أنه لا يكتب به إلا من الأعلى للأدنى إلا أن الذي جرى عليه مصطلح كتاب الزمان تخصيصه ببعض الكتب دون بعض من الجانبين
وأما الشعر فيورده حيث يحسن إيراده ويمنعه حيث يحسن منعه فليس كل مكاتبة يحسن فيها إيراد الشعر بل يختلف الحال في ذلك بحسب المكتوب

عنه والمكتوب إليه فأما المكاتبات الصادرة عن الملوك والصادرة إليهم فقد ذكر في مواد البيان أنه لا يتمثل فيها بشيء من الشعر إجلالا لهم عن شوب العبارة عن عزائم أوامرهم ونواهيهم والأخبار المرفوعة إليهم بما يخالف نمطها ووضعها ولأن الشعر صناعة مغايرة لصناعة الترسل وإدخال بعض صنائع الكلام في بعض غير مستحسن
قلت الذي ذكره عبد الرحيم بن شيث في كتابه معالم الكتابة ومواضع الإصابة أنه يتمثل بالشعر في المكاتبات الصادرة عن الملوك دون غيرهم وهو معارض لما ذكره في مواد البيان وكأنه في مواد البيان يريد الكتب النافذة عن الملوك إلى من دونهم أو ممن دونهم إليهم أما الملوك والخلفاء إذا كتبوا إلى من ضاهاهم في أبهة الملك وقاربهم في علو الرتبة فإنه لا يمنع التمثل بأبيات الشعر فيها تطريزا للنثر بالنظم وجمعا بين جنسي الكلام اللذين هما خلاصة مقاصده وما زالت الخلفاء والملوك السالفة يخللون كتبهم الصادرة عنهم إلى نظرائهم في علو الرتبة بالأبيات الرقيقة الألفاظ البديعة المعاني للاستشهاد على الوقائع المكتوب بسببها كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين تمالأ عليه القوم واجتمعوا على قتله إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه - طويل -
( فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق )
وكما كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى معاوية بن أبي سفيان في جواب كتاب له حين جرى بينهما التنازع في الخلافة فقال في أثناء كتابه وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك - طويل

( وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ... )
وعلى ذلك جرى كثير من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية كما حكى العسكري في الأوائل أن أهل حمص وثبوا بعاملها فأخرجوه ثم وثبوا بعده بعامل آخر فأمر المتوكل إبراهيم بن العباس أن يكتب إليهم كتابا يحذرهم فيه ويختصر فكتب
أما بعد فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله تعالى عليه فيما قوم به من أود أو عدل به من زيغ أو لم به من شعث ثلاثا يقدمن بعضهن أمام بعض فأولاهن ما يستظهر به من عظة وحجة ثم ما يشفعه به من تحذير وتنبيه ثم التي لا ينفع حسم الداء غيرها - طويل -
( أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيد فإن لم يجد أجدت عزائمه )
وممن كان يكثر التمثل بالشعر في المكاتبات من خلفاء بني العباس وتصدر إليه المكاتبات كذلك الناصر لدين الله حتى يحكى أن الملك الأفضل علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب دمشق حين تعصب عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمه الملك العادل أبو بكر كتب إلى الناصر لدين الله يستجيشه عليهما كتابا يشير فيه إلى ما تعتقده الشيعة من أن الحق في الخلافة كان لعلي وأن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما تقدما عليه إذ كان الناصر يميل إلى التشيع وكتب فيه - بسيط -
( مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي )

( فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول )
فكتب إليه الناصر الجواب عن ذلك وكتب فيه - كامل -
( وافى كتابك يا ابن يوسف ناطقا ... بالحق يخبر أن أصلك طاهر )
( غصبوا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر )
( فاصبر فإن على الإله حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر )
وعلى ذلك جرى الملوك القائمون على خلفاء بني العباس في مكاتباتهم أيضا كما كتب أبو إسحاق الصابي عن معز الدولة بن بويه إلى عدة الدولة أبي تغلب كتابا يذكر له فيه خلاف قريبين له لم يمكنه مساعدة أحدهما على الآخر واستشهد فيه بقول المتلمس - طويل -
( وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما )
( فلما استقاد الكف بالكف لم يجد ... له دركا في أن تبينا فأحجما )
وعلى هذا النهج جرى الحال في الدولة الأيوبية بالديار المصرية كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ديوان الخلافة ببغداد عند قتل ابن رئيس الرؤساء وزير الخليفة كتابا ليسلي الخليفة عنه وكان ممن أساء السيرة وأكثر الفتك متمثلا بالبيتين المقولين في أبي حفص الخلال وزير أبي العباس السفاح وكان يعرف بوزير آل محمد - كامل -
( إن المكاره قد تسر وربما ... كان السرور بما كرهت جدير )

( إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا )
وكما كتب القاضي محي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن في جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح مع تعريضه في أمر له بأن الحروب مما يشغل عن المصائب في الأولاد مستشهدا فيه بقوله - وافر -
( إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمر به الوحول )
وكما كتب صاحبنا الشيخ علاء الدين البيري رحمه الله عن الظاهر برقوق صاحب الديار المصرية جوبا لصاحب تونس من بلاد المغرب واستشهد فيه لبلاغة الكتاب الوارد عنه بقوله - خفيف -
( وكلام كدمع صب غريب ... رق حتى الهواء يكثف عنده )
( راق لفظا ورق معنى فأضحى ... كل سحر من البلاغة عبده )
وعلى ذلك جرت ملوك المغرب من بني مرين وغيرهم كما كتب بعض كتاب السلطان أبي الحسن المريني عنه إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية كتابا يخبره في خلاله أن صاحب بجاية خرج عن طاعته فغزاه وأوقع به وبجيوشه ما قمعه مستشهدا فيه بقوله - سريع -
( إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره )
إلى غير ذلك من المكاتبات الملوكية التي لا تحصى كثرة بل ربما وقع التمثيل بالشعر في المكاتبات عن الخلفاء والملوك إلى من دونهم وبالعكس

كما حكى العسكري في الأوائل أن رافعا رفع كتابا إلى الرشيد وكتب في أسفله - طويل -
( إذا جئت عارا أو رضيت بذلة ... فنفسي على نفسي من الكلب أهون )
فكتب إليه الرشيد كتاب وكتب في أسفله - طويل -
( ورفعك نفسا طالبا فوق قدرها ... يسوق لك الحتف المعجل والذلا )
وبالجملة فمذاهب الناس في التمثيل بالشعر في المكاتبات الملوكية مختلفة ومقاصدهم متباينة بحسب الأغراض ولذلك أورد الشيخ جمال الدين بن نباتة هذه المسألة في جملة أسؤولته التي سأل عنها كتاب الإنشاء بدمشق مخاطبا بها الشيخ شهاب الدين محمودا الحلبي وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء بها فقال ومن كره الاستشهاد في مكاتبة الملوك بالأشعار وكيف تركها على ما فيها من الآثار
أما المكاتبات الإخوانيات الواقعة بالتهاني والتعازي والتزاور والتهادي والمداعبة وسائر أنواع الرقاع في فنون المكاتبات فقد قال في مواد البيان إنه يجوز أن تودع أبيات الشعر على سبيل التمثل وعلى سبيل الاختراع محتجا بأن الصدر الأول كانوا يستعملون ذلك في هذه المواضع وهذا الذي ذكره لا خفاء فيه وكتب الرسائل المدونة من كلام المتقدمين والمتأخرين من كتاب المشرق والمغرب شاهدة بذلك ناطقة باستعمال الشعر في المكاتبات وأثنائها ونهاياتها ما بين البيت والبيتين فأكثر حتى القصائد الطوال وأكثر ما يقع من ذلك البيت المفرد والبيتان فما حول ذلك كما استشهد القاضي الفاضل في بعض مكاتباته في الشوق بقوله - طويل -
( ومن عجبي أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معي )
( وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي )
وكما كتب أيضا لبعض إخوانه في جواب كتاب - طويل

( وكم قلت حقا ليتني كنت عنده ... وما قلت إجلالا له ليته عندي )
وكما كتب في وصف كتاب ورد عليه مستشهدا بقوله - كامل -
( وحسبته والطرف معقود به ... وجه الحبيب بدا لوجه محبه )
وكما كتب في كتاب تعزية بصديق مستشهدا فيه بقوله - طويل -
( وذاك الذي لا يبرح الدهر رزؤه ... ولا ذكره ما أرزمت أم حائل )
إلى غير ذلك من المكاتبات التي لا يأخذها حصر ولا تدخل تحت حد مما ستقف على الكثير منه في الكلام على مقاصد المكاتبات إن شاء الله تعالى

الأصل الحادي عشر أن يأتي في مكاتبته بحسن الاختتام
ويرجع إلى معنيين كما في حسن الافتتاح المقدم ذكره
المعنى الأول أن يكون الحسن فيه راجعا إلى المعنى المختتم به إما بمعاطاة الأدب من المرؤوس إلى الرئيس ونحو ذلك وإما بما يقتضي التعزيز والتوقير من الرئيس إلى المرؤوس كالاختتام بالدعاء ونحو ذلك مما يقع في مصطلح كل زمن
المعنى الثاني أن يكون الحسن فيه راجعا إلى ما يوجب التحسين من سهولة اللفظ وحسن السبك ووضوح المعنى وتجنب الحشو وغير ذلك من موجبات التحسين كما كتب الصاحب بن عباد في آخر رسالة له لئن حنثت فيما حلفت فلا خطوت لتحصيل مجد ولا نهضت لاقتناء حمد ولا سعيت إلى مقام فخر ولا حرصت على علو ذكر قال أبو هلال

العسكري فهذه اليمين لو سمعها عامر بن الظرب لقال هي اليمين الغموس لا القسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى
قلت واعتبار هذه الأصول الأحد عشر بعد ما تقدم اعتباره في الكلام على صنعة إنشاء الكلام وترتيبه في المقالة الأولى من أنه لا يستعمل في كلامه ما أتت به آيات القرآن الكريم من الاختصار والحذف ومخاطبة الخاص بمخاطبة العام ومخاطبة العام بمخاطبة الخاص ولا ما يختص بالشعر من صرف مالا ينصرف وحذف ما لا يحذف وقصر الممدود ومد المقصور والتقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار وتصغير الاسم في موضع التعظيم مثل دويهية وما شاكل ذلك مما تقدم التنبيه عليه في موضعه فلا بد من اعبتاره هنا

الأصل الثاني عشر أن يعرف مقادير قطع الورق وسعة الطرة والهامش وسعة بيت
العلامة ومقدار ما بين السطور وما يترك في آخر الكتاب
أما مقدار قطع الورق فقد تقدم في المقالة الثالثة أنه يختلف باختلاف المكتوب إليهم عن السلطان فكلما عظم قدر المكتوب إليه عظم مقدار قطع الورق وربما روعي في ذلك قدر المكتوب عنه والمكتوب إليه جميعا

وأما طول الطرة في أعلى الكتاب فقد ذكر في معالم الكتابة أنها تطول فيما إذا كان الكتاب من الأعلى إلى الأدنى وتكون متوسطة من الأتباع وسيأتي أن المصطلح عليه في زماننا أن المكاتبات الصادرة عن السلطان تكون الطرة فيها ما بين ثلاثة أوصال إلى وصلين ومن النواب ومن في معناهم تكون وصلا واحدا
وأما مقدار سعة الهامش فقد سمعت بعض فضلاء الكتاب يذكر أن الضابط فيه أن يكون ثلث عرض الدرج المكتوب فيه
وأما بيت العلامة فقد تقدم أنه يكون مقدار نحو شبر في كتب السلطان أما في غيره حيث كانت العلامة تحت البسملة فتكون نحو ثلاثة أصابع أو أربعة
وأما سعة ما بين السطور فقد تقدم أنها تكون بمقدار نصف بيت العلامة وذكر ابن شيث أنها ثلاثة أصابع أو أربعة
وأما ما يترك في آخر الكتاب فقد ذكر ابن شيث أنه لا يترك في آخر المكاتبة شيئا
وأما الخط فإنه كلما غلظ القلم واتسعت السطور كان أنقص في رتبة

المكتوب إليه وقد ذكر في معالم الكتابة أن الكتب الصادرة إلى السلطان لا يكون بين سطورها أكثر من إصبعين

الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز
وما يلائم كل مكاتبة منها من المعاني
ولتعلم أن المكاتبات على ثلاثة أقسام
القسم الأول ما يكتب عن السلطان أو من معناه من الرؤساء إلى الأتباع وهي
على ضربين
الضرب الأول ما يعمل فيه على الإيجاز والاختصار
وقد استحسنوا الإيجاز في خمسة مواضع
أحدها أن يكون المكتوب عن السلطان في أوقات الحروب إلى نواب الملك قال في حسن التوسل فيجب أن يتوخى الإيجاز والألفاظ البليغة الدالة على القصد من غير تطويل ولا بسط يضيع المقصد ويفصل الكلام بعضه من بعض ولا يعمد في ذلك إلى تهويل لأمر العدو يضعف القلوب ولا تهوين لأمره بحيث يحصل به الاغترار
الثاني أن يكون ما يكتب به عن السلطان خبرا يريد التورية به عنه وستر حقيقته كإعلامهم بالحوادث الحادثة على الملوك والنوائب الملمة بالدولة من هزيمة جيش أو تغيير رسم أو إحداثه أو تكليف الرعية ما لا يسهل عليها تكليفه وما أشبه ذلك قال في مواد البيان فيجب أن يقصد في ذلك الاختصار والإيجاز ويعدل عن استعمال الألفاظ الخاصة بالمعنى إلى غيرها مما يحتمل التأويل ولا تنفر الأسماع عنه ولا تراع القلوب به من غير أن يحتمل كذبا

صراحا فإنه لا شيء أقبح بالسلطان ولا أغمص لشأنه وقدره من أن يضمن كتابه ما ينكشف للعامة بطلانه قال وينبغي للكاتب أن يتخلص من هذا الباب التخلص الجيد الذي يزين به الأثر من غير تصريح بكذب وأن يخرج الباطل في صورة الحق ويعرض سلطانه في ذلك للإحماد والتقريظ من حيث يستحق التأنيب والإذمام فإن هذه سبيل البلاغة وطريقة فضلاء الصناعة لأن الأمر الظاهر الحسن المجمع على فضله لا يحتاج في التعبير عن حسنه إلى كد الخاطر وإتعاب الفكر إذ الألكن لا يعجز عن التعبير عنه فضلا عن اللسن وإنما الفضل في تحسين ما ليس بحسن وتصحيح ما ليس بصحيح بضروب من التمويه والتخييل وإقامة المعاذير والعلل المعفية على الإساءة والتقصير من حيث لا يلحق كذب صريح ولا زور مطلق ولضيق هذا المقام وصعوبة مرتقاه أورده الشيخ جمال الدين بن نباتة في جملة مسائلة التي سأل عنها كتاب الإنشاء بدمشق فقال وما الذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه
الثالث أن يكون المكتوب به عن السلطان أمرا أو نهيا قال في مواد البيان فحكمها حكم التوقيعات الوجيزة الجامعة للمعاني الجازمة بالأمر أو النهي اللهم إلا أن يكون الأمر أو النهي مما يحتاج إلى رسوم ومثل يعمل عليها فيحتاج إلى الإطالة والتكرير بحسب ما يؤمر به وينهى عنه دون الحذف والإيجاز
الرابع أن تكون الكتب المكتوبة عن السلطان باستخراج الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال قال في مواد البيان فسبيلها أن ينص فيها على ما رآه السلطان ودبره ثم يختتم بفصل مقصور على التوكيد في امتثال أمره

وإنفاذه ولا يقتصر على ما تقدم إيجابا للحجة وتضييقا للعذر وحسما لأسباب الاعتذار
الخامس أن يكون ما يكتب به عن السلطان إحمادا أو إذماما أو وعدا أو وعيدا أو استقصارا أو عذلا أو توبيخا قال في مواد البيان فيجب أن يشبع الكلام ويمد القول بحسب ما يقتضيه أمر المكتوب إليه في الإساءة والإحسان والاجتهاد والتقصير لينشرح صدر المشمر المحسن وينبسط أمله ورجاؤه ويرتدع المقصر المسيء ويرتجع عما يذم منه ويتلافى ما فرط فيه

الضرب الثاني ما يعمل فيه على البسط والإطناب
وقد استحسنوا البسط في موضعين
أحدهما أن يكون ما يكتب به السلطان خبرا يريد تقرير صورته في نفوس العامة كالإخبار بالفتوحات المتجددة في إعلاء الدين والسلطان قال في مواد البيان فيجيب أن يشبع القول فيها ويبني على الإسهاب والإطناب وتكثير الألفاظ المترادفة ليعرفوا قدر النعمة الحادثة وتزيد بصائرهم في الطاعة ويعلو موضع سلطانهم من عناية الله تعالى به فتقوى قلوب أوليائه وتضعف قلوب أعدائه لأنه لو كتب كتابا في فتح جليل ليقرأ في المحافل والمشاهد العامة على رؤوس الأشهاد بين العامة ومن يراد تفخيم السلطان في نفسه على صورة الاختصار لأوقع كلامه في غير رتبته ودل ذلك على جهله وقد أوضح الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله هذا المقام في كتابه حسن التوسل فقال وإذا كتب في التهاني بالفتوح فليس إلا بسط الكلام والإطناب في شكر نعمة الله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا به ووصف ما أعطى من النصر وذكر ما منح من الثبات وتعظيم ما يسر من الفتح ثم وصف ما بعد ذلك من عزم وإقدام وصبر وجلد عن الملك وعن جيشه مما حسن وصفه ولاق ذكره وراق التوسع فيه وعذب بسط الكلام معه قال ثم كلما اتسع

مجال الكلام في ذكر الواقعة ووصفها كان أحسن وأدل على السلامة وأدعى لسرور المكتوب إليه وأحسن لتوقع المنة عنده وأشهى إلى سمعه وأشفى لغليل شوقه إلى معرفة الحال قال ولا بأس بتهويل أمر العدو ووصف جمعه وإقدامه فإن في تصغير أمره تحقيرا للظفر به
قال في مواد البيان ولا يحتج للإيجاز في كتب الفتوح بما كتب به كاتب المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج في فتح الأزارقة على ارتفاع خطره وطول زمانه وعظم صيته من سلوكه فيه مسلك الاختصار حيث كتب فيه
الحمد لله الذي كفى بالإسلام فقد ما سواه وجعل الحمد متصلا بنعماه وقضى أن لا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من خلقه ثم إنا كنا وعدونا على حالين مختلفين نرى منهم ما يسرنا أكثر مما يسوءنا ويرون منا ما يسوءهم أكثر مما يسرهم فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم ينصرنا الله ويخذلهم ويمحصنا ويمحقهم حتى بلغ الكتاب بناديهم أجله ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين )
فإنه إنما حسن في موضعه لمخاطبة السلطان به ولغرض كانت المكاتبة فيه قال فإن كتب مثل هذا الكتاب عن السلطان في مثل هذا الفتح أو ما يقاربه ليورد على العامة ويقرر في نفوسهم به قدر النعمة لم يحسن موقعه

وخرج عن شرط البلاغة بوضعه إياه في غير موضعه وذكر العسكري نحو ذلك في الصناعتين
ثم قال في حسن التوسل وإن كان المكتوب إليه ملكا صاحب مملكة بمفرده تعين أن يكون البسط أكثر والإطناب والتهويل أبلغ والشرح أتم ثم قال وإن اضطر أن يكتب مثل ذلك إلى ملك غير مسلم لكنه غير محارب فالحكم في ذلك أن يذكر من أسباب المودة ما يقتضي المشاركة في المسار وأن أمر هذا العدو مع كثرته أخذ بأطراف الأنام وآل أمره إلى ما آل ويعظم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر ويقول إن تلك عوائد نصر الله تعالى لنا وانتقامه ممن عادانا
وإن كان المكتوب إليه متهما بممالأة العدو كتب إليه بما يدل على التقريع والتهكم والتهديد في معرض الإخبار
الثاني أن يكون ما يكتب به عن السلطان في أوقات حركات العدو إلى أهل الثغور يعلمهم بالحركة للقاء عدوهم قال في حسن التوسل فيجب أن يبسط القول في وصف العزائم وقوة الهمم وشدة الحمية للدين وكثرة العساكر والجيوش وسرعة الحركة وطي المراحل ومعاجلة العدو وتخييل أسباب النصر والوثوق بعوائد الله تعالى في الظفر وتقوية القلوب منهم وبسط آمالهم وحثهم على التيقظ وحفظ ما بأيديهم وما أشبه ذلك ويبرز ذلك في أمثل كلام وأجله وأمكنه وأقربه من القوة والبسالة وأبعده من اللين والرقة ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييده والرجوع إليه في تثبيت الأقدام والاعتصام به في الصبر والاستعانة به على العدو والرغبة إليه في خذلانهم وزلزلة أقدامهم وجعل الدائرة عليهم دون التصريح ببطلان حركتهم ورجاء تأخرهم وانتظار العرضيات في ضعفهم لما في ذلك

من إيهام الضعف عن لقائهم واستشعار الوهم والخوف منهم

القسم الثاني ما يكتب به عن الأتباع إلى السلطان والطبقة العليا من
الرؤساء وهو على ضربين
الضرب الأول ما يعمل فيه على الإيجاز والاختصار
وقد استحبوا الإيجاز في ثلاثة مواضع
أحدها أن يكون ما يكتب به من باب الشكر على نعمة يسبغها سلطانه عليه وعارفة يسديها إليه قال في مواد البيان فسبيله أن لا يبنيها على الإسهاب وتجاوز الحد بل يبينها على اللفظ الوجيز الجامع لمعاني الشكر المشتمل على أساليب الاعتراف والاعتداد فإن إطناب الأصاغر في شكر الرؤساء داخل في باب الإضجار والإبرام ولا سيما إذا رجعوا إلى خصوصية وتقدم خدمة وكذلك لا يكثر من الثناء عليه لأن ذلك من باب الملق الذي لا يليق إلا بالأباعد الذين لم يتقدم لهم من الموات والحرم ما يدل على صحة عقائدهم ولم يضف عليهم من النعم ما يوجب خلوص نياتهم أما إذا كان المثني أجنبيا متكسبا بالتقريظ والثناء فإنه لا يقبح به الإيغال والإغراق فيهما قال وكذلك لا ينبغي للخاصة الإكثار من الدعاء وتكريره في صدور الكتب عندما يجري ذكر الرئيس فإن في ذلك مشقة وكلفة يستثقلها الملوك والحكم فيما يستعمل من ذلك في الكتب شبيه بما يستعمل شفاها منه ويقبح من خادم السلطان أن يشغل سمعه في مخاطبته إياه بكثرة الدعاء وتكريره
الثاني أن يكون ما يكتب به التابع إلى السلطان ونحوه في سؤال حسن

النظر وشكوى الفقر والخصاصة قال في مواد البيان فيبني القول على الإيجاز ويمزج الشكوى بالشكر والاعتداد بالآلاء والرغبة في مضاعفة الإحسان والزيادة في البر والإلحاق بالطبقة الرابعة في إيلاء العوارف فإن ذلك أعطف لقلب الرئيس وأدعى إلى بلوغ الغرض ولا يكثر شكوى الحال ورثاثتها واستيلاء الخصاصة والفقر عليه فإن ذلك يجمع إلى الإضجار والإبرام شكاية الرئيس بسوء حال مرؤوسه وقلة ظهور نعمته عليه وذلك مما يكرهه الرؤساء ويذمونه
الثالث أن يكون ما يكتب به التابع إلى المتبوع من باب التنصل والاعتذار عن شيء قرف به عند رئيسه قال في مواد البيان فسبيله أن يبني كلامه على الاختصار ويعدل عن الإسهاب والإطناب ويقصد إلى النكت التي تزيل ما عرض عنده من الشبهة في أمره وتمحو الموجدة السابقة إلى ضمير رئيسه ولا يصرح ببراءة الساحة عن الإساءة والتقصير فإن ذلك مما يكرهه الرؤساء من أتباعهم لأن عادتهم جارية بإيثار اعتراف الخدم بالتقصير والتفريط والإقرار بالمقروف به ليكون لهم في العفو عند الإقرار موضع منة مستأنفة تستدعي شكرا وعارفة مستجدة تقتضي نشرا أما إذا أقام التابع الحجة على براءته مما قرف به فلا موضع للإحسان إليه في إقراره على منزلته والرضا عنه بل يكون ذلك قدرا واجبا له إن منعه إياه ظلمه وتعدى عليه

الضرب الثاني ما يعمل فيه على البسط والإطناب
وقد استحبوا البسط هنا في موضع واحد وهو ما إذا كان ما يكتب به

التابع إلى السلطان واقعا في باب الإخبار بأحوال ما ينظر فيه من الأعمال وما يجري على يديه من المهمات قال في مواد البيان فسبيله أن يوفي حقه في الشرح والبيان ويسلك فيه طريقة يجمع فيها بين إيضاح الأغراض من غير هذر يضجر ويمل ولا اختصار يقصر ويخل وأن يقصد إلى استعمال الألفاظ السهلة التي تصل معانيها إلى الأفهام من غير كلفة ويتجنب ما يقع فيه تعقيد وتوعير أو إبهام إلا أن يعرض له في المكاتبة ما يحتاج إلى التورية والكناية كما تقدم فيما إذا أطلق عدو لسانه في السلطان فإنه يحتاج إلى الكناية عنه على ما مر

القسم الثالث ما يكتب به إلى الأكفاء والنظراء والطبقة الثانية من
الرؤساء
قال في مواد البيان وسبيل مكاتبتهم أن يؤتى فيها باللفظ المساوي للمعنى من غير إيجاز ولا إطناب لأنها رتبة متوسطة بين الرتبتين المتقدمتين ولا يخفى أن ما ذكره إنما هو عند الوقوف مع حقائق المكاتبات أما الإخوانيات المطلقة فإنها تكون في الطول والقصر بحسب ما بين الصديقين من المودة والقرب وما يعلمه كل واحد منهما من خلق الآخر وما توجبه دالته عليه
وسيأتي في مقاصد المكاتبات من أمثلة الأقسام الثلاثة ما يوضح مقاصدها ويقرب مآخذها إن شاء الله تعالى
الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة وفيه جملتان
الجملة الأولى في بيان أي الأمرين من الابتداء والجواب أعلى رتبة وأبلغ
في صناعة الكتابة
وقد اختلف الكتاب في ذلك فذهب أكثر البلغاء إلى أن الكتب الجوابية

أتعب مطلبا وأصعب مرتقى من الكتب الابتدائية وأن فيها تظهر مهارة الكاتب وحذقه لا سيما إذا كان الخاطب محتملا للاعتذار والاعتلال عن امتثال الأوامر والنواهي والتورية عن نصوص الأحوال والإعراض عن ظواهرها قائدا إلى استعمال المغالطة موجبا للانفصال عن الاحتجاج والإلزام ونحو ذلك مما يؤدي إلى الخلاص من المكاره
واحتجوا لترجيح ذلك بوجوه
منها أن المبتدىء محكم في كتابه يبتديء بألفاظه كيف شاء ويقطعها حيث يشاء ويتصرف في التقديم والتأخير والحذف والإثبات والإيجاز والإسهاب ويبني على أساس يؤسسه لنفسه والمجيب ليس له تقديم ولا تأخير وإنما هو تابع لغرض المبتدىء بان على أساسه
ومنها أن المجيب إذا كان جوابه محتملا للإشباع والتوسع مضطر إلى اقتصاص ألفاظ المبتدىء واتباعها للإجابة عنها وذلك يؤدي إلى تصفح كلام المبتدىء والمجيب ويصل ما بين الكلامين لأن الكلامين يتقابلان فلا تخفى رتبتهما والفاضل منهما من الرذل وهذا مرفوع عن المبتدىء
ومنها أن تأليف الكلام وانتظامه واتساقه والتئامه يقدر منها المبتدىء على ما لا يقدر عليه المجيب لأن الجواب يفصل أجزاء الكلام ويبدد نظامه ويقسمه أقساما لمكان الحاجة إلى استئناف القول من الفصل بعد الفصل بقول وأما كذا وأما كذا فظهور الصورة المستحسنة في المتصل أكثر من ظهورها في المنفصل
أما إذا كان الجواب مقتضبا مبنيا على امتثال مأمور أو انتهاء عن منهي عنه فإنه سهل المرام قريب المتناول لأنه إنما يشتمل على ذكر وصول الكتاب والعمل بما فيه

وذهب صاحب مواد البيان إلى أن الابتداء والجواب في ذلك على حد واحد وإن كان الكاتب قد يجيد في الابتداء ولا يجيد في الجواب وبالعكس محتجا لذلك بأن كلا من المبتدىء والمجيب ممتاح من جودة الغريزة محتاج من البلاغة والصناعة إلى ما يحتاج إليه الآخر لأن الكاتب يكون تارة مبتدئا وتارة مجيبا وليست الإجابة بصناعة على حيالها ولا البداية بصناعة على حيالها بل هما كالنوعين للجنس ولا منع من أن يكون الكاتب ماهرا في نوع دون نوع
قال والكاتب لا يكون في الأمر الأعم كاتبا عن نفسه وإنما يكون كاتبا عن آمر يأمره بالكتابة في أغراضه ويسلمها إليه منثورة فيحتاج إلى نظمها وضمها وإبرازها في صورة محيطة بجميع الأغراض من غير إخلال بشيء منها فعلى المبتدىء من المشقة في إيراد أغراض المكتوب عنه في الصورة الجامعة لها مع نظمها في سلك البلاغة مثل ما على المجيب من المشقة في توفية فصول كتاب المبتدئ حقها من الإجابة والتصرف على أوضاع ترتيبها بل كلفة المجيب قريبة لأنه يستنبط من نفس معاني كتاب المبتدئ للمعاني التي يجيب بها لأن الجواب لا يخلو من أن يكون يوافق الابتداء أو يناقضه فإن وافقه فالأمر سهل وإن ناقضه فإن كل نقيض قائم في الوهم على مقابلة نقيضه إلا أنه أتعب على كل حال من الموافق ولا شك أن الجواب بتجزئته قد خف تحمله إذ ليس من يجمع خاطره على الفصل الواحد حتى يخرج عن جوابه كمن يجمع خاطره على الكتاب كله ثم قال وليس القصد مما ذكرناه مناقضة مشايخ صناعتنا ولكن القصد تعريف الحق الذي يجب اعتقاده والعمل عليه

الجملة الثانية في بيان ترتيب الأجوبة
واعلم أن للجواب حالتين
الحالة الأولى أن يكون الجواب من الرئيس إلى المرؤوس عما كتب به الرئيس إليه فالذي ذكره في مواد البيان أن للرئيس أن يبني حكاية كتاب مرؤوسه إليه في جوابه على الاختصار ويجمع معانيه في الألفاظ وجيزة محيطة بما وراءها كأن يقول وصل كتابك في معنى كذا وفهمناه
الحالة الثانية أن يكون الجواب من المرؤوس إلى الرئيس عما كتب به الرئيس إليه قال في مواد البيان والواجب في هذه الحالة أن يحكي فصول كتاب رئيسه على نصها ويقصها على وجهها من غير إخلال بشيء منها إعظاما لقدر الرئيس وإجلالا لخطابه قال وليس للمجيب إن مر في كتاب الرئيس بلفظة واقعة في غير موضعها أن يبدلها بغيرها لما في ذلك من الإشارة إلى أن هذا أصح من كتاب رئيسه في ألفاظه ومعانيه قال ولا يجوز الخروج عن حكاية لفظ رئيسه في كتابه بحال اللهم إلا أن يكون الكتاب الوارد على المجيب في معنى الشكر والتقريظ من رئيسه له والثناء عليه في قيامه بالخدمة فإنه لا يجوز أن يأتي به على نصه لأنه يصير بذلك مادحا نفسه ومدح الإنسان نفسه غير سائغ ولا يجوز أن يهمل ذكره جملة لأنه يكون قد أخل بما يجب من شكره له على تشريف رتبته بإحماده له والثناء عليه بل الواجب أن يوقع تلك الصفة على جملة تجعل نفسه بعضا منها مثل أن يقول فأما ما وصفه من اعتداده بخادمه في جملة من نهض بحقوق خدمته وقام بفرض طاعته فأهله لما يرفع الأقدار من إحماده وثنائه ويعلي الأخطار من شكره ودعائه وما يضاهي هذا من العبارة التي تشتمل على معاني ألفاظ رئيسه فإنه إذا قصد هذا السبيل في حكاية كتاب رئيسه في هذا المعنى فقد جمع بين البلاغة والإتيان على معاني ألفاظ رئيسه في رئيسه والأدب في ترك التفخيم لنفسه بإضافته لها إلى جملة الخاصة دون إيقاع المدح عليها فقط

قلت هذا هو الترتيب الذي يجب اعتماده في الأجوبة فلا يجوز الخروج عنه إلى غيره على أن كتاب زماننا قد اطرحوا النظر في ذلك جملة وصاروا يكتبون الأجوبة بحسب التشهي فمنهم من يحكي الكتاب الذي يقع الجواب عنه بنصه مطلقا سواء كان من رئيس أو مرؤوس وبالعكس مع قطع النظر عما وراء ذلك فتنبه لهذه الجملة فإنها دقيقة جليلة

الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الرابعة في ذكر أصول المكاتبات
وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها وفيه طرفان
الطرف الأول في ذكر أصولها وترتيبها وفيه جملتان
الجملة الأولى في المكاتبات إلى أهل الإسلام
واعلم أن المكاتبات الدائرة بين المسلمين من صدر الإسلام وإلى زماننا لا يأخذها حد ولا تدخل تحت حصر
والمشهور استعماله منها في دواوين الإنشاء على اختلاف الأزمان خمسة عشر أسلوبا
الأسلوب الأول أن تفتتح الكتب بلفظ من فلان إلى فلان
قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل وأول من كتب بذلك قس ابن ساعدة الإيادي وعلى ذلك كانت مكاتبات النبي والسلف من الصحابة

والتابعين رضوان الله عليهم فكان النبي يكتب ( ( من محمد رسول الله إلى فلان ) ) ثم كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته من أبي بكر خليفة رسول الله ثم كتب عمر بعده من عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله إلى فلان فلما لقب بأمير المؤمنين زاد في ذلك لفظ عبد الله قبل عمر ولقب أمير المؤمنين بعده فكان يكتب من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فلان ولم يزل الأمر على ذلك إلى خلافة هارون الرشيد فأمر أن يزاد في صدور الكتب بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على جده محمد عبده ورسوله فجرى الأمر على ذلك في زمنه وما بعده قال أبو هلال العسكري في الأوائل وكان ذلك من أجل مناقبه قال صاحب ذخيرة الكتاب وكان الرشيد قد قال ليحيى بن خالد إني قد عزمت على أن يكون في كتبي من عبد الله هارون الإمام أمير المؤمنين عبد رسول الله فقال له يحيى قد عرف الله نيتك في هذا يا أمير المؤمنين وأجزل لك الأجر والتعبد إنما هو لله وحده لا لغيره قال فأكتب من هارون مولى محمد رسول الله فقال إن المولى ربما كان في كلام العرب ابن العم وجزى الله أمير المؤمنين خيرا عن هذه النية وهذا الفكر
الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بلفظ لفلان من فلان أو إلى فلان من فلان وبقية الصدر والتخلص بأما بعد أو غيرها والاختتام بالسلام وغيره على ما تقدم في الأسلوب الأول
وقد اختلف العلماء في جواز الابتداء في المكاتبة باسم المكتوب إليه فذهب جماعة من العلماء إلى جواز ذلك محتجين بأن الصحابة رضي الله

عنهم وبعض الملوك كانوا يكتبون إلى النبي كذلك كما كتب إليه خالد ابن الوليد والنجاشي والمقوقس في إحدى الروايات على ما سيأتي ذكره في المكاتبات إلى النبي فيما بعد إن شاء الله تعالى
وقد روي أن رسول الله قال ( ( إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه إلا إلى والد أو والدة أو إمام يخاف عقوبته ) ) وعن نافع قال كانت لابن عمر إلى معاوية حاجة فقال له ولده إبدأ به في الكتاب فلم يزالوا به حتى كتب بسم الله الرحمن الرحيم إلى معاوية من عبد الله بن عمر وعن الأوزاعي أنه كان يكتب إلى عمر بن عبد العزيز فيبدأ به فلا ينكر ذلك وعن سعيد بن عبد العزيز قال كتب عمر يعني ابن عبد العزيز إلى الحجاج فبدأ بالحجاج قبل نفسه فقيل له في ذلك فقال بدأت به لأحقن دم رجل من المسلمين قال سعيد فحقن له دمه وعن بكر بن عبد الله أنه كتب إلى عامل في حاجة فكتب بسم الله الرحمن الرحيم إلى فلان من بكر فقيل له أتبدأ باسمه فقال وما علي أن أرضي صاحبي وتقضى حاجة أخي المسلم قال في صناعة الكتاب وعلى ذلك جرى التعارف في المكاتبة إلى الإمام
وذهب قوم إلى كراهة ذلك لأنه مأخوذ عن ملوك العجم قال ميمون بن مهران كان العجم يبدأون بملوكهم إذا كتبوا إليهم وقد روي عن العلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي فبدأ بنفسه وعن الربيع بن أنس قال ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله وكان أصحابه يكتبون إليه يبدأون بأنفسهم وعلى ذلك جرى في نهاية الأرب فقال كان أصحاب رسول الله وأمراء

جيوشه يكتبون إليه كما يكتب إليهم يبدأون بأنفسهم وعن ميمون بن مهران أنه قال كان ابن عمر إذا كتب إلى أبيه كتب من عبد الله بن عمر إلى عمر بن الخطاب وعن يحيى بن سعيد القطان قال قلت لسفيان الثوري أكتب إلى أمير المؤمنين يعني المهدي قال إن كتبت إليه بدأت بنفسي قلت فلا تكتب إليه إذن وهذه الأقوال كلها جانحة إلى ترجيح بداءة المكتوب عنه بنفسه قال أبو جعفر النحاس وهذا عند أكثر الناس هو الإجماع الصحيح لأنه هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم
ولتعلم أن الذاهبين إلى جواز الابتداء باسم المكتوب إليه اختلفوا فذهب قوم إلى أنه إنما يكتب إلى فلان من فلان كما تقدم في كتاب ابن عمر إلى معاوية ولا يكتب لفلان من فلان واستشهد لذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال يكتب الرجل من فلان إلى فلان ولا يكتب لفلان وبما روي عن هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أنه قال كانوا يكرهون أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم لفلان من فلان لكن قد روي أن رجلا كتب عند ابن عمر بسم الله الرحمن الرحيم لفلان من فلان فقال ابن عمر مه فإن اسم الله هو له إذن ومقتضى ذلك أن الكراهة إنما هي لإيهام أن البسملة للمكتوب إليه لا للابتداء باسم المكتوب إليه
وذهبت طائفة إلى جواز أن يكتب لفلان من فلان واحتج لذلك بما روي عن مالك بن انس عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كتب إلى عبد الملك ابن مروان بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر وهو ظاهر فقد كانت مكاتبة خالد بن الوليد والنجاشي والمقوقس لمحمد رسول الله على ما سيأتي ذكره وعلى ذلك كانت

المكاتبة للخلفاء فكان يكتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله وغيرهم لعبد الله عمر أمير المؤمنين وعلى ذلك جرى الحال في المكاتبة إلى سائر الخلفاء بعده على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى

الأسلوب الثالث أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد
وعليه ورد بعض المكاتبات الصادرة عن النبي وعن الخلفاء من الصحابة فمن بعدهم في صدر الإسلام على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
وكانوا بعد حدوث الدعاء في المكاتبات يتبعونها بالدعاء بطول البقاء غالبا فيقال أما بعد أطال الله بقاءك ونحو ذلك ثم أضرب بعض الكتاب بعد ذلك قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين وكان الناس فيما مضى يستعملون في أوائل فصول الرسائل أما بعد وقد تركها جماعة من الكتاب فلا يكادون يستعملونها قال وأظنهم ألموابقول ابن القرية وقد سأله الحجاج عما ينكره من خطابته فقال إنك تكثر الرد وتشير باليد وتستعين بأما بعد فتحاموها لهذه الجهة ثم قال فإن استعملتها إتباعا للسلف ورغبة فيما جاء فيها من التأويل أنها فصل الخاطب فهو حسن وإن تركتها توخيا لمطابقة أهل عصرك وكراهة للخروج عما أصلوه لم تكن ضائرا أما الآن فقد ترك الابتداء في الكتب بأما بعد حتى لا يكاد يعول عليها في الابتداء كاتب من كتاب الزمان ولا يفتتح بها مكاتبة نعم يؤتى بها في أثناء بعض

المكاتبات على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
وقد تقدم الكلام على معناها وأول من قالها في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة وكتاب المغاربة ربما افتتحوا مكاتباتهم بلفظ وبعد

الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله
وأصل هذه المكاتبة مختلس من الأسلوب الأول من قولهم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ثم جاء عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية فأطال التحميدات في صدور الكتب مع الإتيان بأما بعد وتبعه الكتاب على ذلك ثم توسعوا فيه حتى كرروا الحمد المرات في الكتاب الواحد لا سيما في أماكن النعم الحادثة كالفتوحات ونحوها ثم توسع بعض الكتاب في ذلك حتى جعل الحمد لله افتتاحا واستمر ذلك إلى الآن وعلى ذلك بعض المكاتبات السلطانية في زماننا على ما ستقف على ذلك جميعه في مواضعه إن شاء الله تعالى
ولا خفاء في أن الحمد أفضل الافتتاحات وأعلى مراتب الابتداآت وإن لم يقع الابتداء به في صدر الإسلام فهو من المبتدعات المستحسنة وحيث افتتحت المكاتبة بالحمد لله كان التخلص منها إلى المقصود بأما بعد وربما وقع التخلص بغير ذلك ويكون الاختتام فيها تارة بالسلام وتارة بالدعاء وتارة بغير ذلك قال ابن شيث في معالم معالم الكتابة والتحميد في أول الكتب لا

يكون إلا في الكتب المكتوبة عن السلطان قال وغاية عظمة الكاتب أن يكرر التحميد ثانية وثالثة في الكتاب ثم يذكر الشهادتين والصلاة على النبي
قلت والتكرار في الحمد يكون بحسب مقدار النعمة المكتوب بسببها من فتح ونحوه
الأسلوب الخامس أن تفتتح الكتاب بلفظ كتابي إليك أو كتابنا إليك من موضع كذا أو في وقت كذا والأمر على كذا وتشرح القضية وتختم المكاتبة بكتابنا إليك بنحو قولك فإن رأيت أن تفعل كذا فعلت والمكاتبة بكتابي إليك بنحو قولك فرأيك في كذا وما يجري هذا المجرى
والأصل في هذه المكاتبة أن النبي كان يكتب في بعض المكاتبات الصادرة عنه هذا كتاب من محمد رسول الله إلى فلان أو إلى الجماعة الفلانيين فلما كان أيام بني بويه في أثناء الدولة العباسية استخرج كتابها من هذا المعنى الابتداء بكتابي إليك إذا كانت المكاتبة إلى النظير ومن في معناه والابتداء بكتابنا إليك إذا كانت المكاتبة عمن له رتبة نون العظمة من الملوك ونحوهم وكانوا يتبعون ذلك بالدعاء بطول البقاء نحو كتابي إليك أطال الله بقاءك أو كتابنا إليك أطال الله بقاءك وربما عبر بهذه الخدمة وما أشبه ذلك ويكون التخلص فيه إلى المقصد بواو الحال مثل أن يقال كتابي إليك والأمر على كذا وكذا ونحو ذلك وربما وقع التخلص بخلاف ذلك ويكون الاختتام فيه تارة بالسلام وتارة بالدعاء وتارة بغير ذلك وكتاب المغرب عدلوا عن لفظ الاسم في كتابي إلى لفظ الفعل مثل أن يقال كتبنا إليك أو كتبت

إليك والأمر على كذا أو من موضع كذا

الأسلوب السادس أن تقع المكاتبة بلفظ كتب بصيغة الفعل
وهذه المكاتبة كان يكتب بها عن الوزراء ومن في معناهم إلى الخلفاء فيكتب الوزير ونحوه كتب عبد أمير المؤمنين أو كتب العبد من محل خدمته بمكان كذا والأمر على كذا وكذا وعلى نحو من ذلك يجري كتاب المغاربة في الكثير من كتبهم مثل إنا كتبنا إليكم من محل كذا أو كتبت إليك من محل كذا وما أشبه ذلك وهذه في الأصل مأخوذة من الأسلوب الذي قبل
الأسلوب السابع أن يقع الافتتاح بالدعاء
والأصل في ذلك ما حكاه أبو جعفر النحاس إن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند جريان الخلاف ووقوع الحرب بينهما أما بعد عافانا الله وإياك من السوء ثم زاد الناس في الدعاء بعد ذلك
وقد اختلف في جواز المكاتبة بالدعاء في الجملة فذهب ذاهبون إلى جواز ذلك كما يجوز الدعاء في غير المكاتبة سواء تضمن الدعاء معنى الدوام والبقاء أم لا وهو الذي رجحه محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة وإليه يميل كلام غيره أيضا وحكاه النحاس عن أبي جعفر أحمد بن سلامة وكلامه يميل إلى ترجيحه أما ما يتضمن معنى الدوام والبقاء فلما روي أن النبي قال لأبي اليسر كعب ابن علية اللهم أمتعنا به قال النحاس وذلك دليل الجواز بل حكي عن بعضهم أن الدعاء بطول البقاء

أكمل الدعاء وأفخمه لأن كل نعمة لا ينتفع بها إلا مع طول البقاء ثم قال والمعنى في الدعاء في المكاتبات التودد والتحبب وقد أمر المسلمين أن يكونوا إخوانا ومن أخوتهم ود بعضهم بعضا وكذلك القول بما يؤكد الأخوة بينهم والمودة من بعضهم لبعض وإذا قال له ذلك كان قد بلغ من قلبه نهاية مبلغ مثله منه ويكون من قال ذلك قد علم من قلبه في شأنه ما يكون من قلب مثله وقد قال الشيخ محيي الدين النووي من قال لصاحبه حفظا لمودة أدام الله لك النعم ونحو ذلك فلا بأس به
وأما ما لم يتضمن معنى الدوام والبقاء كالعز والكرامة فقد روي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال من رأى منكم مقتل حمزة فقلت أعزك الله أنا رأيته وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال دخل جرير بن عبد الله على النبي فضن الناس بمجالسهم فلم يوسع له أحد فرمى له رسول الله ببردته وقال اجلس عليها يا جرير فتلقاها بوجهه ونحره فقبلها ثم ردها على ظهره وقال أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني فقد دعا له كعب بن مالك بالعز وجرير بن عبد الله بالكرامة ولم ينكر ذلك على واحد منهما
وذهب آخرون إلى أنه لا تجوز المكاتبة بالدعاء سواء تضمن معنى الدوام والبقاء أم لا لأنه خلاف ما وردت به السنة وجرى عليه اصطلاح السلف
وفصل بعضهم فقال إن كان الدعاء مما لا يتضمن معنى الدوام والبقاء نحو أكرمك الله بطاعته وتولاك بحفظه وأسعدك بمعرفته وأعزك بنصره جاز لحديثي كعب بن مالك وجرير بن عبد الله المتقدمين وإن كان مما

يتضمن معنى الدوام والبقاء نحو أطال الله بقاءك ونسأ أجلك وأمتع بك وما أشبه ذلك لم تجز المكاتبة به
واحتج لذلك بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله لقد دعوت لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة لا يتقدم منها شيء قبل أجله ولا يتأخر بعد أجله ولو سألت الله أن يقيك عذاب النار لكان خيرا لك وبما روي أن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال للنبي جعلني الله فداك فقال له النبي أما تركت أعرابيتك بعد فقد أنكر على أم حبيبة والزبير الدعاء بما فيه طول البقاء وإذا امتنع ذلك في مطلق الدعاء امتنع في المكاتبة من باب أولى لمخالفة طرقها التي وردت بها السنة قال حماد بن سلمة كانت مكاتبة المسلمين من فلان إلى فلان أما بعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده وآل محمد حتى أحدث الزنادقة لعنهم الله هذه المكاتبة التي أولها أطال الله بقاءك
وعن إسماعيل بن إسحاق أن أول من كتب أطال الله بقاءك الزنادقة وقد قال الإمام الرافعي وغيره من أئمة أصحابنا الشافعية إن الدعاء بالطليقة وهي أطال الله بقاءك لا أصل له في الشرع قال الشيخ محيي الدين النووي وقد نص السلف على كراهته ونقل النحاس عن بعضهم أنه استحب تقييده بالإضافة إلى شيء آخر مثل أن يكتب أطال الله بقاءك في طاعته وكرامته أو أطال الله بقاءك في أسر عيش وأنعم بال وما أشبه ذلك
واعلم أن الناس قد اختلفوا في صورة الابتداء بالدعاء فالأولون لابتداع الدعاء في المكاتبات كانوا يفتتحون بطول البقاء للخلفاء وغيرهم ثم توسعت الطبقة الثانية من الكتاب في المكاتبة فافتتحوا بالدعاء للخلفاء والملوك بخلود الملك ودوام الأيام ودوام السلطان وخلوده وما في معنى ذلك

ولمن دونهم بعد النصر والنصرة والأنصار بدوام النعمة وخلود السعادة ومد الظل وإسباغ الظلال وغير ذلك مما يأتي ذكره في الكلام على مصطلح كل طبقة فيما بعد إن شاء الله تعالى
ثم للكتاب في الخطاب بالدعاء مذهبان
أحدهما أن يقع الدعاء بلفظ الخطاب نحو أطال الله بقاءك وأعزك الله وأكرمك الله وأدام كرامتك وسعادتك وما أشبه ذلك
والثاني أن يقع بلفظ الدعاء للغائب مثل أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأطال الله بقاء سيدي وأطال الله بقاء مولانا أو أعز الله أنصار المقام أو المقر أو ضاعف الله تعالى نعمة الجناب أو أدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك
قال في صناعة الكتاب وهو أجل الدعاء فيما اصطلحوا عليه قال ورأيت علي بن سليمان ينكر ذلك ويقول الدعاء للغائب جهل باللغة ونحن ندعو الله عز و جل بالمخاطبة

الأسلوب الثامن أن يفتتح الكتاب بالسلام
ويقع التخلص إلى المقصود بلفظ ونبدي لعلمه أو نحو ذلك ويقع الاختتام فيه بالسلام أيضا وهو منتزع من قولهم في صدر المكاتبة في الأسلوب الأول سلام عليك فإني أحمد إليك الله تصرف الكتاب فيه فجعلوا السلام في ابتداء المكاتبة وصاروا يبتدئونها بنحو سلام الله ورحمته وبركاته وقد كانوا يبتدئون المكاتبة إلى الخلفاء ببغداد في الدولة الأيوبية بالديار المصرية بالسلام في بعض الأحيان وعلى ذلك استقرت المكاتبة عن الخليفة الآن وبه يفتتح

بعض المكاتبات إلى مشايخ الصوفية على ما سيأتي في الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى
قال في صناعة الكتاب وإنما قدموا السلام على الرحمة لتصرفه لأنه من أسماء الله تعالى أو جمع سلامة قال في مواد البيان أو اسم للجنة كما في قوله تعالى ( لهم دار السلام عند ربهم ) ثم عقب ذلك بأن قال والسلام في هذا الموضع من السلامة وتقديم السلامة التي تكون في الدنيا أولى من تقديم الرحمة التي تكون في الآخرة

الأسلوب التاسع أن يفتتح الكتاب بيقبل الأرض
ويتخلص إلى المقصود بلفظ وينهي ويقع الاختتام بطالع أو أنهى وهذه المكاتبة مما هو موجود في بعض مكاتبات القاضي الفاضل ولم أرها فيما قبله وكأنهم لما استعملوا في صدور المكاتبات إلى الخلفاء المكاتبة بيقبل الأرض والعتبات ونحو ذلك استنبطوا منه ابتداء مكاتبة وجعلوها لمكاتبة الرؤساء من السلطان ومن في معناه بالنسبة إلى المرؤوس والأصل في ذلك أن تحية الملوك والرؤساء والأكابر في الأمم الخالية كانت بالسجود كما يحيي المسلمون بعضهم بعضا بالسلام وقد قال قتادة في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليهم السلام ( وخروا له سجدا ) كانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض وعليه حمل قوله تعالى ( وإذ قلن لملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ) على أحد التفاسير وهو المرجح عند الإمام فخر الدين وغيره من المفسرين قال الشيخ عماد الدين بن كثير رحمه الله في تفسيره وكان ذلك

مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا قال معاذ يا رسول الله إني قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقالا لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها من عظم حقه عليها وعن صهيب أن معاذا لما قدم من اليمن سجد للنبي فقال يا معاذ ما هذا قال إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسيسيها وبطارقتها قلت ما هذا قالوا تحية الأنبياء فقال كذبوا على أنبيائهم وعن سفيان الثوري عن سماك بن هانيء قال دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له علي اسجد لله ولا تسجد لي
فلما وردت شريعة الإسلام بنسخ التحية بالسجود وغلب ملوك العجم على الأقطار استصحبوا ما كان عليه الأمر في الأمم الخالية وعبروا عنه بتقبيل الأرض فرارا من اسم السجود ولورود الشريعة بالنهي عنه واستمر ذلك تحية الملوك إلى الآن فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى اللفظ فاستعملوه في مكاتباتهم إلى الخلفاء والملوك ثم توسعوا في ذلك فكاتبوا به كل من له عظمة بالنسبة إلى المكتوب عنه ورتبوه مراتب على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ولا خفاء فيما في هذه المكاتبة من الكراهة

الأسلوب العاشر أن يفتتح الكتاب بيقبل اليد وما في معناها من الباسط
والباسطة
ويقع التخلص منه إلى المقصود بما يقع به التخلص في الأسلوب الذي

قبله من الانتهاء ويختم بالدعاء ونحوه
والأصل في هذه المكاتبة أن يقبل اليد وما في معناها مما يؤذن بالتعظيم والتبجيل والتكريم وعلو القدر وزيادة الرفعة مع أنه ليس بممنوع في الشريعة فقد ثبت في الصحيحين في حديث الإفك أنه لما أنزل الله تعالى براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال لها أبوها قومي إلى النبي فقبلي يده ولم يكن الصديق رضي الله عنه ليأمرها بما هو ممنوع في الشريعة وقد نص الفقهاء رحمهم الله على أنه يجوز تقبيل يد العالم والرجل الصالح ونحوهما فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى الكتابة أيضا كما فعلوا في تقبيل الأرض ورتبوه مراتب على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى على أن بعض الكتاب قد جعل يقبل القدم رتبة بين يقبل الأرض ويقبل اليد وما في معناها وهو ظاهر لكنه لم يشتهر في عرف الكتاب

الأسلوب الحادي عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ صدرت المكاتبة
ويتلخص فيها إلى المقصود بلفظ وتوضح لعلمه أو موضحة لعلمه وما أشبه ذلك ويقع الاختتام فيها بمثل والله الموفق ونحو ذلك وربما قيل فيها أصدرت هذه المكاتبة أو أصدرناها
وأصل هذه المكاتبة أنه كان يكتب في الدولة السلجوقية ببغداد والدولة الأيوبية بالديار المصرية صدرت هذه الخدمة أو أصدرت هذه الخدمة وربما كتب صدرت هذه الجملة فعدل عنه كتاب الزمان بالديار المصرية ومن قاربهم إلى التعبير بقولهم صدرت هذه المكاتبة على أن كتاب الزمان بالديار المصرية إنما أخذوها من صدور المكاتبات المفتتحة بالدعاء مثل أعز الله أنصار المقر حيث يقال في تصديرها أصدرناها ومثل ضاعف الله

نعمة الجناب وأدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك حيث يقال في تصديرها صدرت هذه المكاتبة فجعلوا الصدور ابتداء

الأسلوب الثاني عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ هذه المكاتبة
ويتخلص منها إلى المقصود بنحو ما وقع التخلص به في الأسلوب الذي قبله ويقع الاختتام بمثل ما وقع به اختتامه
وهذه المكاتبة مأخوذة في الأصل من ابتدائهم في الأسلوب الخامس بلفظ كتابي إليك وما في معناه على أن كتاب الزمان إنما أخذوا ذلك من المكاتبة التي قبلها فجعلوا بعض الصدر فيها ابتداء كما جعلوا جميع الصدر ابتداء في الأسلوب الذي قبلها
الأسلوب الثالث عشر أن يفتتح الكتاب بالإعلام
كما يكتب كتاب الزمان يعلم فلان أن الأمر كذا وكذا والاختتام فيها بمثل الأسلوبين اللذين قبلها ولا تخلص فيها لأن الافتتاح فيها موصل إلى المقصود على أن الصواب إثبات اللام في أولها بأن يقال ليعلم فلان لأن لام الأمر لا يجوز حذفها على ما تقرر في آخر المقالة الثالثة وعلى ذلك كتب غازان أحد ملوك بني جنكزخان ببغداد وما معها إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية وكتب الجواب عن الملك الناصر إليه كذلك على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
الأسلوب الرابع عشر أن يفتتح الكتاب يلفظ يخدم
مثل يخدم الجناب أو يخدم المجلس وما أشبه ذلك ويكون

التخلص منها بمثل وينهي أو ويبدي ونحو ذلك ويقع الاختتام فيها بالدعاء
وهذه المكاتبة كانت مستعملة في مكاتبات الفاضل بقلة وتداولها الكتاب بعد ذلك إلى أن صارت مستعملة بين الكتاب في المكاتبات الدائرة بين أهل الدولة في زماننا ثم رفضت بعد ذلك وتركت حتى لم يستعملها منهم إلا القليل النادر

الأسلوب الخامس عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ الخلافة أو المقام الذي شأنها
كذا أو الإمارة التي شأنه كذا
مثل خلافة فلان أو مقام فلان أو إمارة فلان وما أشبه ذلك ثم يقع التخلص في ذلك بمثل معظم مقامها يخصها بسلام صفته كذا ويبدي لعلمها كذا وما أشبه ذلك ويقع الاختتام فيها بالسلام وهذا الأسلوب مما اختص به كتاب المغرب لا سيما المتأخرون منهم على ما سيأتي ذكره في موضعه أن شاء الله تعالى
قلت ووراء هذه الأساليب أساليب أخرى لكتاب أهل الشرق والغرب بالديار المصرية في الأزمنة المتقدمة لا يأخذها حصر ولا تدخل تحت حد وأكثر ما تكون في الإخوانيات وسيأتي ذكر الكثير من أنواعها في مواضعه فيما بعد إن شاء الله تعالى
الجملة الثانية في المكاتبات إلى أهل الكفر وللكتاب فيه أسلوبان
الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلان إلى فلان
وعلى ذلك كتب النبي إلى أهل الكفر وكان يكتب في

مكاتباته السلام على من اتبع الهدى بدل والسلام ويتخلص فيها بأما بعد تارة وبغيرها أخرى وعلى ذلك جرى الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس ببغداد ومن شاركهم في الأمر من ملوك بني بويه وبين سلجوق ومن في معناهم وتختتم هذه المكاتبة تارة بلفظ والسلام على من ابتع الهدى إن لم يذكر السلام في الأول وتارة بغير ذلك

الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالدعاء
كما يكتب كتاب الزمان أطال الله بقاء الحضرة الفلانية حضرة لملك الفلاني أو أطال الله بقاء الملك الفلاني وما أشبه ذلك وقد تقدم الخلاف في أصل جواز المكاتبة بالدعاء وما قيل في الدعاء بطول البقاء وما في معناه من الكراهة وأن جماعة من العلماء والكتاب أجازوه
فإن قيل على تقدير جواز ذلك في حق المسلم فكيف يجوز في حق الكافر فالجواب أنه ورد قد أن النبي استسقى فسقاه يهودي فقال له جملك الله فما رؤي الشيب في وجهه حتى مات فقد دعا ليهودي بالجمال وقد لا يكون في طول بقائه على الإسلام ضرر بل قد يكون فيه نفع كحمل جزية ونحوه وإنما يمنع الدعاء له بالعز والنصر وما في معنى ذلك
تنبيه اعلم أن الأجوبة قد تفتتح بما تفتتح به الابتداءات من الأساليب المتقدمة ثم يؤتى بالأجوبة في أثنائها مثل أن يقال وقد وصل كتاب المجلس أو الجناب أو وردت مكاتبته أو عرضت مكاتبته على أمير المؤمنين أو على المسامع الشريفة وما أشبه ذلك وقد يجعل الجواب ابتداء فيفتتح الكتاب بنحو عرضت مكاتبتك على أمير المؤمنين مثلا كما كان يكتب في الزمن المتقدم أو عرضت المكاتبة الواصلة من جهة المجلس أو الجناب الفلاني على المسامع الشريفة أو وردت مكاتبته أو وصلت مكاتبته

ونحو ذلك ويؤتى على ما تضمنته المكاتبة وما اقتضاه الجواب عنه ثم يؤتى في الاختتام بنظير ما يؤتى به في المكاتبة المبتدأة

الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها وفيه ست جمل
الجملة الأولى في الترجمة عن المكتوب عنه
أما الترجمة عن السلطان فقد ذكر ابن شيث أن مصطلح الدولة الأيوبية أن يكتب لأرباب خدمته العلامة فإنها أليق به معهم فإن أراد تمييز أحد منهم كتب له بخطه شيئا مكان العلامة وأن ترجمته للفقهاء والقضاة وذوي التنسك أخوه وولده وذكر أن الأحسن أن يقال في ولده محل ولده لقوله تعالى ( ادعوهم لآبائهم ) أما أخوه فلا حرج عليه فيه لقوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوه ) وقوله ( فإخوانكم في الدين ) وذكر أنه يترجم لهؤلاء من ولي الأمر أيضا المعترف ببركته والمتبرك بدعائه والمرتهن بمودته وذكر أن الفقهاء والقضاة وذوي التنسك يترجمون عن أنفسم بالخادم ودون ذلك خادمه
قال وربما ترفعوا عن الترجمة بهذه اللفظة مطلقا فقالوا الخادم بالدعاء الصالح أو الخادم بدعائه قال وأهل الورع خاصة يترجمون بالفقير إلى رحمة الله وربما راعوا المترجم له مثل أن يكون ولي الأمر فيقول العبد الفقير إلى رحمة الله ويعني أنه عبد الله ويحصل بذلك المقصود من الأدب مع السلطان ومنهم من يكتب الداعي لدولته

والمبتهل بدعائه الصالح لأيامه والمواظب على خدمته بالدعاء وأمثال ذلك قال وأكثر الناس يرى الترجمة لولده فإن ترجم له لم يسم اسمه لأنه ليس له والدان ولا أقل من أن يكون بينه وبين من يكتب بوالده غير الأب هذا الفرق فأما أن يقول والده فلان بن فلان بحيث يذكر اسم أبيه فقبيح ثم قد كانوا في الزمن الأول يكتفون بذكر اسم المكتوب عنه في صدر الكتاب وعنوانه نحو من فلان إلى فلان ثم أحدث الكتاب في أيام بني بويه وما بعدها تراجم رتبوها بعضها أرفع من بعض
وقد ذكر في ذخيرة الكتاب لذلك مراتب في الصدور والعنوان بعضها أعلى من بعض فجعل أعلاها بالنسبة إلى المكتوب عنه أن يكتب اسمه ودونه صديقه ودونه محبه ودونه شاكره ودونه المعتد به ودونه أخوه ودونه وليه ودونه عبده ودونه خادمه ودونه عبده وخادمه ودونه العبد ودونه العبد الخادم ودونه الصنيعة ودونه مملوكه ودونه المملوك ودونه المملوك الصنيعة وهو الأعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه ثم قال ويتفرع من هذه الأصول فروع كثيرة لا تحصر مما يختاره الكتاب ويقترحونه ويبتكرونه ويكاتبون به أصدقائهم وأوداءهم حسب ما تقتضيه موادتهم وتوجبه مصافاتهم كصفي مودته والمفتخر بمحبته والمعتمد على أخوته وعبد مودته وخادم مجده وشاكر أياديه وحامد تفضله والمعتد بتطوله وما يجري هذا المجرى مما هو أوسع من أن يجمع وأكثر من أن يحصر ولكنه أكثر ما يكون بين النظراء والأقران
ورتب عبد الرحيم بن شيث في معالم الكتابة ترتيبا آخر فذكر أن الترجمة إلى ديوان الخلافة من ذوي الولايات كلهم العبد ومن الملوك كلهم

الخادم وأن الترجمة إلى الملوك من الأجناد كلهم المملوك مع النسبة إلى أشهر ألقاب الملك كالناصري للناصر والعادلي للعادل وما جرى مجرى ذلك ودون المملوك في الخضوع عبده ودونه وخادمه ودونه العبد مفردة ودونه مملوكه ودونه العبد الخادم لأن الثاني كأنه ناسخ للأول ودونه الخادم ودونه عبده ودونه خادمه ودونه عبده وأخوه ودونه أخوه ودونه شاكر تفضله ودونه شاكر إحسانه ودونه شاكر مودته ودونه وليه وصفيه ودونه محبه وواده وشاكره ودونه الاسم ودونه العلامة
ثم قال أما أصغر المماليك وما يجري مجراها فلا يليق من الأجانب ورأيت في دستور صغير في المكاتبات يعزى للمقر الشهابي بن فضل الله أن أكبر الآداب في اسم المكتوب عنه بالنسبة إلى المكتوب إليه المملوك ثم المملوك الرق ثم المملوك الأصغر ثم المملوك المحب ثم المملوك الداعي ثم مملوكه ومحبه ثم الخادم ثم خادمه ثم أخوه ثم محبه ثم شاكره ثم الفقير إلى الله تعالى ولا يخفى ما في بعض هذه التراجم من التخالف بين ما ذكره وما تقدم ذكره عن ذخيرة الكتاب
والذي استقر عليه الحال في زماننا في ترجمة العلامة بالقلم الشريف السلطاني أخوه ثم والده ثم الاسم وفي حق غيره المملوك ثم الاسم وربما كتب بعضهم العبد بدل الاسم تواضعا على أنهم قد اختلفوا في جواز الترجمة بالعبد والمملوك فذهب بعضهم إلى منع ذلك محتجا بما روي أن النبي قال لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن غلامي وجاريتي والذي عليه العمل جواز ذلك احتجاجا بقوله تعالى ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) والاستدلال به لا يخلو من نزاع وقضاة القضاة يكتبون الداعي

الجملة الثانية في العنوان وفيه سبع لغات
حكاها صاحب ذخيرة الكتاب واقتصر في صناعة الكتاب على ذكر بعضها إحداها عنوان بضم العين وواو بعد النون والثانية عنيان بضم العين وياء تحتية بعد النون والثالثة عنيان بكسر العين والرابعة علوان بضم العين ولام بدل النون والخامسة علوان بفتحها والسادسة علوان بكسرها والسابعة عليان بالكسر مع إبدال الواو ياء ويجمع عنوان على عناوين وعلوان على علاوين ويقال عنونت الكتاب عنونة وعلونته علونة وعننته بنونين الأولى منهما مشددة تعنينا وعنيته بنون مشددة بعدها ياء تعنية وعنوته أعنوه عنوا بفتح العين وسكون النون وعنوا بضمهما وتشديد الواو
واختلف في اشتقاقه فمن قال عنوان جعله مأخوذا من العنوان بمعنى الأثر لأن عنوان الكتاب أثر بيان ممن هو وإلى من هو قال النحاس وأكثر الكتاب لا يعرف غير هذا واحتجوا لذلك بقول الشاعر يذكر قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه - بسيط -
( ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا )
وزعم بعضهم أن العنوان مأخوذ من قول العرب عنت الأرض تعنو إذا أخرجت النبات وأعناها المطر إذا أظهر نباتها قال النحاس فيكون عنوان على هذا فعلانا ينصرف في النكرة ولا ينصرف في المعرفة وقيل هو مأخوذ من عن يعن إذا عرض وبدا قال النحاس فعلى هذا ينصرف في النكرة والمعرفة لأنه فعلال
ومن قال علوان أبدل من النون لاما كما في صيدلاني وصيدناني

فيكون الاشتقاق واحدا وقيل علوان مشتق من العلانية لأنه خط ظاهر على الكتاب
ومن قال عنيان وعنيان جعله من عنيت فلانا بكذا إذا قصدته قال في مواد البيان والعنوان كالعلامة وهو دال على مرتبة المكتوب إليه من المكتوب عنه والأصل فيه الإخبار عن اسمهما حتى لا يكون الكتاب مجهولا والمراد أنه يكتب فيه من فلان إلى فلان أو لفلان من فلان قال ولم يزالوا يكاتبون بأسمائهم إلى أن ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة ولقب أمير المؤمنين فكتب من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثم وقع الاصطلاح على العنونة للرؤساء والنظراء والمرؤوسين والأتباع بالأسماء ثم تغير هذا الرسم أيضا
وكان المأمون يكتب في أول عنوانات كتبه بسم الله الرحمن الرحيم فكانت تكتب قبل اسم المكتوب إليه والمكتوب عنه وقد ذكر أبو جعفر النحاس أن ذلك بقي إلى زمانه وكان بعد الثلثمائة قال في مواد البيان ثم بطل بعد ذلك قال والأصل فيه أن يبتدأ باسم المكتوب عنه ثم باسم المكتوب إليه وهو الترتيب الذي تشهد به العقول لأن نفوذ الكتاب من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه كنشء الشيء وخروجه من ابتداء إلى نهاية فابتداؤه من المكتوب عنه وانتهاؤه إلى المكتوب إليه ولفظ من يتقدم لفظ إلى بالطبع لأن حرف من ينبيء عن منشأ الشيء والى حرف يخبر عن النهاية التي عندها قرار الشيء والابتداآت في الأشياء قبل النهايات
قال وعلى هذا كانت كتب رسول الله ومن سلف من الأمم الماضية ثم عرض للناس رأي في تغيير هذا الرسم إلى غيره ففرقوا بين مراتب المكاتبين من الرؤساء والعظماء والخدم والأتباع بتقديم اسم المكتوب

إليه إذا قصدوا إعظامه وإجلاله وتأخير اسم المكتوب عنه ورأوا أنه الصواب الصحيح على أن كتاب زماننا يقتصرون في أكثر عنواناتهم على ذكر المكتوب إليه دون المكتوب عنه ولا يذكرون المكتوب عنه إلا في مكاتبات خاصة قليلة قال في صناعة الكتاب ولا يتكنى المكتوب عنه على نظيره بل يتسمى له ولمن فوقه ثم يقول المعروف بأبي فلان وإن كانت كنيته أشهر من اسمه واسم أبيه جاز أن يكتب كنيته بغير ألف ويجريها مجرى الأسم قال النحاس وإن كان الكتاب إلى اثنين أحدهما أكبر من الآخر فيقدم الأكبر وكذلك لو كان إلى ثلاثة قال أبو جعفر النحاس وقد استسحن جماعة أن يصغر اسم المكتوب عنه على عنوانات الكتب ورأوا أن ذلك تواضع وما ذكره هو المستعمل في المكاتبات الجاري عليه حكم الدواوين إلى زماننا والأصل في ذلك ما ذكره النحاس أن الحجاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو خليفة في طومار لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ثم كتب في طرته بقلم ضئيل من الحجاج بن يوسف فجرى الكتاب على أسلوبه فيما بعد
قال في معالم الكتابة ولا يكثر النعوت ولا الدعاء على العنوان للسلطان ولا للكبراء أما من الأعلى إلى الأدنى فحسن وقد تقدم في مقدمة الكتاب أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يعنون الكتب السلطانية وأنها كانت لا تعنون قبل كتابة السلطان عليها علامته والذي استقر عليه الحال في كتب السلطان وما في معناها من المشتملة على الألقاب أن تكتب الألقاب في العنوان ويدعى فيها بدعوة واحدة وهي المفتتح بها المكاتبة

الجملة الثالثة في طيه الكتاب وختمه
أما ط \ يه فمعروف وهو أن يلف بعضه على بعض لفا خاصا والطي في اللغة خلاف النشر ويقال طوى الكتاب يطويه طيا ومنه قوله تعالى ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) والترتيب في ذلك أن تكون الكتابة إلى داخل الكتاب لأن المقصود صون المكتوب فيه
ثم للناس في صورة الطي طريقتان
الطريقة الأولى أن يكون لفه مدورا كأنبوبة الرمح وهي طريقة كتاب الشرق من قديم الزمان وإلى الآن
والطريقة الثانية أن يكون طيه مبسوطا في قدر عرض أربعة أصابع مطبوقه وعلى ذلك كان الحال جاريا في الدولة الأيوبية بالديار المصرية فقد ذكر عبد الرحيم بن شيث من كتاب دولتهم أن طي الكتب السلطانية يكون عرض أربعة أصابع وكذلك من العلية إلى من دونهم أما الكتاب من الأدنى إلى الأعلى فلا يتجاوز به عرض إصبعين وهذا ظاهر في أن الطي يكون عريضا لا مدورا وهي طريقة أهل المغرب والروم والفرنج
وأما ختمه فالختم مصدر ختم يقال ختم الكتاب يختمه ختما ومعناه طبع ومنه قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) والمراد شد رأس الكتاب والطبع عليه بالخاتم حتى لا يطلع أحد على ما في باطنه حتى يفضه المكتوب إليه على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وهو أمر

مطلوب مرغب فيه فمن كلام عمر رضي الله عنه طينة خير من ظنة يعني أن ختم الكتاب بطينة خير من ظنة تقع في الكتاب بالنظر فيه أو زيادة أو نقص والظنة التهمة ومن كلام غيره اختم تسلم ومن كلام غيره إن طينت وإلا وقعت يعني إن طينت الكتاب وإلا وقعت في المحذور ويقال إن في ختم الكتاب تعظيما للمكتوب إليه قال بزرجمهر أحد ملوك الفرس من لم يختم كتابا فقد استخف بصاحبه وجهل في رأيه وقد قيل إن أول من ختم الكتاب سليمان عليه السلام وقد فسر قوله تعالى حكاية عن بلقيس ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) بأنه مختوم وعلى نهجه في ذلك جرت ملوك العجم قال في مواد البيان ولم تزل كتب العرب منشورة حتى كتب عمرو بن هند الصحيفة إلى المتلمس فقرأها ولم يوصلها فختمت العرب الكتب من حينئذ وقد ورد في الحديث أن النبي أراد أن يكتب إلى بعض العجم فقيل له يا رسول الله إنهم لا يقرأون كتابا غير مختوم فأمر أن يتخذ له خاتم حديد فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال له انبذه من

إصبعك فنبذه وأمر أن يتخذ له خاتم نحاس فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال انبذه من إصبعك فنبذه ثم أمر أن يتخذ له خاتم فاتخذ له خاتم من فضة فختم به وكتب إلى من أراد أن يكتب من الأعاجم ونقش عليه محمد ثلاثة أسطر وكان الخاتم في يد رسول الله حتى قبضة الله تعالى ثم تختم به أبو بكر رضي الله عنه حتى قبض ثم تختم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قتل ثم تختم به عثمان رضي الله عنه فبينما هو ذات يوم على بئر أريس من بئار المدينة إذ عبث بالخاتم فسقط من يده فنزح كل ما كان في البئر من الماء فلم يوجد فلما يئس منه أمر أن يصاغ له خاتم مثله وينقش عليه محمد رسول الله ففعل ذلك وتختم به هكذا أورده صاحب ذخيرة الكتاب وبعضه في الصحيح وقيل إن نقش الخاتم الذي اتخذه كان آمنت بالذي خلق فسوى وقيل كان نقشه لتصبرن أو لتندمن ثم كان لكل من الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه خاتم يختم به عليه نقش مخصوص فكان نقش خاتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الملك لله الواحد القهار ونقش خاتم ابنه الحسن لا إله إلا الله الملك الحق المبين ونقش خاتم معاوية بن أبي سفيان لكل عمل ثواب وقيل لا قوة إلا بالله ونقش خاتم يزيد بن معاوية ربنا الله ونقش خاتم معاوية بن يزيد الدنيا غرور ونقش خاتم مروان ابن الحكم الله ثقتي ورجائي ونقش خاتم عبد الملك ابن مروان آمنت بالله مخلصا ونقش خاتم الوليد بن عبد الملك يا وليد إنك ميت ومحاسب ونقش خاتم عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله ونقش خاتم يزيد بن عبد الملك قني

السيئات يا عزيز ونقش خاتم هشام بن عبد الملك الحكم للحكم الحكيم ونقش خاتم الوليد بن يزيد يا وليد احذر الموت ونقش خاتم يزيد بن الوليد يا يزيد قم بالحق ونقش خاتم إبراهيم بن الوليد توكلت على الحي القيوم ونقش خاتم مروان بن محمد اذكر الله يا غافل
وكان نقش خاتم السفاح أول خلفاء بني العباس الله ثقة عبد الله ونقش خاتم المهدي حسبي الله ونقش خاتم الرشيد العظمة والقدرة لله وقيل كن من الله على حذر ونقش خاتم الأمين محمد واثق بالله ونقش خاتم المأمون سل الله يعطيك ونقش خاتم المعتصم الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن ونقش خاتم الواثق الله ثقة الواثق ونقش خاتم المتوكل على الحي اتكالي ونقش خاتم المنتصر يؤتى الحذر من مأمنه ونقش خاتم المستعين في الاعتبار غناء عن الاختيار ونقش خاتم المعتز الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء ونقش خاتم المهتدي من تعدى الحق ضاقت مذاهبه ونقش خاتم المعتمد السعيد من وعظ بغيره ونقش خاتم المعتضد الاضطرار يزيل الاختيار ونقش خاتم المكتفي بالله علي بن أحمد يثق ونقش خاتم المقتدر بالله الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء ونقش خاتم القاهر محمد رسول الله ونقش خاتم المتقي المتقي لله كلقبه للخلافة ونقش خاتم المستكفي المتسكفي بالله يثق ولم أقف على نقش خاتم أحد من الخلفاء غير هؤلاء
واعلم أنه كان للختم في أيام الخلفاء ديوان مفرد يعبر عنه بديوان الخاتم وقد اختلف في أول من اتخذ ديوان الخاتم فروى محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لم يكن أبو

بكر ولا عمر يلبسون خواتم ولا يطبعون كتابا حتى كتب زياد بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنك تكتب إلينا بأشياء ليست لها طوابع فاتخذ عند ذلك عمر طابعا يطبع به وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخرم
ومقتضى ذلك أن يكون أول من اتخذ الختم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويكون لبسه خاتم النبي لغير الختم وذكر الطبري في تاريخه أن أول من اتخذ ذلك معاوية بن أبي سفيان في خلافته وذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف من عند زياد ففتح الكتاب وجعل المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكر ذلك معاوية وطلب عمرا فحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير واتخذ معاوية حينئذ ديوان الختم وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم قال القاضي ولي الدين بن خلدون في تاريخه وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان قال وهذا الخاتم خاص بديوان الرسائل وكان ذلك للوزير في أيام الدولة العباسية ويشهد لذلك قول الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه إني أحول الخاتم من يمين إلى شمالي فكنى بالخاتم عن الوزارة لانضمام ديوان الرسائل إلى الوزير إذ ذاك ثم إختلف العرف بعد ذلك فصار ليس إليه الرسائل في الدولة
ثم للختم ثلاث صور
الصورة الأولى أن يلصق رأس الكتاب بنوع من أنواع اللصاق كالكثيراء المدافة بالماء والنشا المطبوخ ونحو ذلك وهذا هو المستعمل بالديار المصرية وبلاد المشرق من قديم الزمان وهلم جرا إلى زماننا والمستعمل بالدواوين هو النشا دون غيره لنصاعة بياضه وشدة لصاقه قال في مواد

البيان ويجب أن يكون اللصاق خفيفا كالدهن لئلا يتكرس ويكثف في جانب الورق وقد كانت عادتهم في بلاد المشرق أيام الخلفاء أن يختم بخاتم الخليفة بأن يغمس في طين معد لذلك أحمر الصبغ ويختم به على طرفي اللصاق ليقوم مقام علامة الخليفة وكان هذا الطين يجلب إليهم من سيراف من بلاد فارس وكأنه مخصوص بها وعلى نهج الخلفاء جرى الملوك حينئذ والذي استقر عليه الحال الآن بالديار المصرية ونحوها من البلاد الشرقية الاقتصار على مجرد اللصاق اكتفاء بما فيه من الضبط وظهور فضه إن فض وهذه المسألة مما سأله الشيخ جمال الدين بن نباتة كتاب ديوان الإنشاء بدمشق مخاطبا به للشيخ جمال الدين محمود الحلبي فقال ومن ختم الكتاب بالطين وربطه ومن غير الطين إلى النشا وضبطه وقد سبق الكلام في النشا وسائر أنواع اللصاق في الكلام على آلات الدواة في المقالة الأولى
الصورة الثانية أن يخزم الكتاب من وسطه بالأشفار حتى تنفذ في بعض طيات الكتاب ثم تخرج من وجه الورق أيضا ويدخل فيه دسرة من الورق كالسير الصغير ويقط طرف الدسرة ثم يلصق على ذلك بشمع أحمر ثم يختم عليه بخاتم يظهر نقشه فيه ويسمى هذا النوع من الختم الخزم بالخاء والزاي المعجمتين أخذا من خزم البعير وهو أن يثقب أنفه ويجعل فيه خيطا أو نحوه ولعل هذه الطريقة من الختم هي التي كان عليها الحال حين أحدث الختم في صدر الإسلام ويدل على ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه في رواية الطبري

المتقدمة وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم وعلى هذا الآن أهل المغرب والروم والفرنج ومن في معناهم
الصورة الثالثة أن يلف على الكتاب بعد طيه قصاصة من الورق كالسير في عرض رأس الخنصر وتلف على الكتاب ثم يلصق رأسها ويكون ذلك في الرقاع الصغيرة المترددة بين الإخوان وتسمى القصاصة التي يلصق بها سحاءة بفتح السين وبالمد وتقال بكسر السين أيضا وربما قيل سحاية ويقال فيه سحوت الكتاب أسحوه سحوا وسحيته بالتشديد أسحيه تسحية فهو مسحو ومسحي ومسحى والأمر من سحوت الكتاب أسح ومن سحيته بالتشديد سح وأصله من السحو وهو القشر يقال سحوت اللحم عن العظم إذا قشرته

الجملة الرابعة في حمل الكتاب وتأديته
وهو من جملة الأمانات الداخلة في عموم قوله تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال من أعظم الأمانة أداء الكتاب إلى أهله قال محمد بن عمر المدائني حمل الكتاب أمانة وترك إيصاله خيانة وقد روي أن النبي قال من بلغ كتاب غاز في سبيل الله إلى أهله أو كتاب أهله إليه كان له بكل حرف عتق رقبة وأعطاه الله كتابه بيمينه وكتب له براءة من النار وقد نطق القرآن الكريم بتأدية الهدهد كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس حيث قال حكاية عن سليمان ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) إلى أن قال ( قالت يأيها الملأ إني ألقى إلي كتاب كريم )

وقد وردت الأحاديث بأن النبي كان يبعث كتبه مع رسله إلى الملوك فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس وبعث دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى الضحاك ملك الحبشة وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين وبعث عمرو بن العاص إلى عبد وجيفر ابني الجلندى ملكي عمان قال ابن الجوزي وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري
واعلم أنه يجب أن يكون حامل الكتاب المؤدى له عن الملك ونحوه وافر العقل شديد الشكيمة في الجواب طلق اللسان في المحاورة فإنه لسان ملكه وترجمان مرسله وربما سأله المكتوب إليه عن شيء أو أورد عليه اعتراضا فيكون بصدد إجابته وقد قيل إنه يستدل على عقل الرجل بكتابه ورسوله ومن غريب ما يروى في ذلك ما ذكره ابن عبد الحكم أن النبي لما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وبلغه كتاب النبي قال له ما منعه أن يدعو علي فيسلط علي قال له حاطب ما منع عيسى أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل ويفعل فوجم ساعة ثم استعادها فأعادها عليه حاطب فسكت ويروى أنه حين سأله عن أمر النبي في حرب قومه وذكر له أن الحرب تكون بينهم سجالا تارة له وتارة عليه قال له المقوقس النبي يغلب فقال له حاطب فالإله يصلب يشيربذلك إلى ما تزعمه النصارى من أن المسيح عليه السلام صلب مع دعواهم فيه أنه إله
وذكر السهيلي أن دحية الكلبي حين دخل على قيصر بكتاب النبي

قال له دحية هل تعمل أكان المسيح يصلي قال نعم قال فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح في بطن أمه فألزمه من صلاة المسيح أنه عبد لله تعالى وضمن ذلك بيتا من أبيات له فقال - متقارب -
( فقررته بصلاة المسيح ... وكانت من الجوهر الأحمر )
ويحكى أن بعض ملوك الروم كتب إلى الخليفة زمانه يطلب منه من يناظر علماء النصرانية عنده فإن قطعهم أسلموا فوجه إليه بالقاضي أبي بكر بن الطيب المالكي وكان من أئمة علماء زمانه فلما حضر المجلس واجتمع لديه علماء النصارى قال له بعضهم إن معتقدكم أن الأنبياء عليهم السلام معصومون في الفراش وقد رميت عائشة بما رميت به فإن كان ما رميت به حقا كان ناقضا لأصلكم الذي أصلتموه في عصمة الأنبياء في الفراش وإن كان غير حق كان مؤثرا في إيمان من وقع منه فقال القاضي أبو بكر إمرأتان حصينتان رميتا بالفرية إحداهما لها زوج ولا ولد لها والأخرى لها ولد ولا زوج لها يشير بالأولى إلى عائشة رضي الله عنها وبالثانية إلى مريم عليها السلام فسجدوا له على عادة تحيتهم في ذلك إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى كثرة
فإذا كان الرسول متمكنا من عقله عالما بما يأتي وما يذر كفى ملكه مؤونة غيبته وأجاب عن كل ما يسأل عنه وإذا كان بخلاف ذلك انعكست القضية ورجع على مرسله بالوبال ثم إن اقتضى رأي الملك زيادة في الرسالة على الرسول الواحد فعل ليتعاونا على ما فيه المصلحة ويتشاورا فيما يفعلان فقد ذكر السهيلي أن جبرا مولى أبي ذر الغفاري كان رسولا مع حاطب ابن أبي بلتعة إلى المقوقس وإن اقتضى الحال إرسال أكثر من اثنين أيضا فعل فقد ذكر ابن الجوزي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته

بعث إلى قيصر ثلاثة رسل وهم هشام بن العاص ونعيم بن عبد الله ورجل آخر
ومما يجب التنبيه عليه أنه يحرم على حامل الكتاب النظر فيه والإطلاع على ما تضمنه قال محمد بن عمر المدائني في فض الكتاب إثم وسوء أدب
وساق بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال قال رسول أطلع في كتاب أخيه بغير إذنه أطلعه طلعة في النار

الجملة الخامسة في فض الكتاب وقراءته
أما فضه فالمراد فك ختمه وفتحه والفض في أصل اللغة الكسر والتفريق ومن الأول ما ثبت في الصحيح من قول القائلة لابن عمها في قصة الثلاثة الذين دعوا الله بأحب أعمالهم إتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه تريد إزالة بكارتها ومن الثاني ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) وقد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية أن الرسول أو البريدي الواصل إلى باب السلطان يقدمه الدوادار إلى السلطان ثم يتناول الكتاب منه ويمسح به وجه من حضر على يده ثم يدفعه إلى السلطان فيفض ختامه ثم يتناوله الدوادار من السلطان ويدفعه إلى كاتب السر فيقرأه على السلطان
واعلم أن لفض الكتاب حالتين
الحالة الأولى أن يكون مختوما باللصاق بالنشا على طريقة المشارقة وأهل الديار المصرية فيشق ظاهره على القرب من محل اللصاق بسكين ثم يفتح

الحالة الثانية أن يكون مخزوما مسمرا بدسرة من الورق على عادة المغاربة ومن جرى مجراهم فيرفع الختم الملصق عليه من الشمع وتقلع الدسرة ويفتح الكتاب
وأما قراءة الكتب فإنه يجب أن يكون من يقرأ الكتب على الملوك ومن في معناهم ماهرا في القراءة فصيح اللسان في النطق رقيق حاشية اللسان في حسن الإيراد قوي الملكة في استخراج الخطوط المختلفة سريع الفهم في إدراك المعاني الخفية وأن تكون قراءته على رئيسه من سلطان أو غيره بحسب ما يؤثر ملكه أو أميره سماعه من السرعة والبطء وأن يكون ذلك بصوت غير خفي بحيث يعسر سماعه ولا مرتفع بحيث يعد صاحبه خارجا عن أدب المخاطبة للأكابر وأن يقرب لمن يقرأ عليه فهم المقاصد التي اعتاصت عليه إذا سأله عنها أو غلب على ظنه أنها لم تصل إلى فهمه بحسن إيراد وتلطيف عبارة يحسن موقعها في النفوس ويجمل وقعها في الأذهان

الجملة السادسة في كراهة طرح الكتاب بعد تخزيقه وهو فضه وحفظه بعد ذلك في
الإضبارة
أما كراهة طرحه فقد قال محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة كرهوا تخزيق الرسائل ورميها في الطرق والمزابل خوفا على اسم الله تعالى أن يداس أو تلحقه النجاسة والأدناس قال وفي رفع ما طرح من

الكتاب أعظم الرغائب وأجل الثواب وساق بسنده إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال قال رسول الله ما من كتاب يلقى ببقعة من الأرض فيه اسم من أسماء الله إلا بعث الله إليه سبعين ألف ملك يحفونه بأجنحتهم ويقدسونه حتى يبعث الله إليه وليا من أوليائه فيرفعه من الأرض ومن رفع كتابا من الأرض فيه اسم من أسماء الله تعالى رفع الله اسمه في عليين وخفف عن والديه العذاب وإن كانا مشركين ويروى من رفع قرطاسا من الأرض فيه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا له أن يداس أدخله الله الجنة وشفعه في عشرين من أهل بيته كلهم قد وجب له النار
وأما حفظه في الإضبارة فهو أمر مطلوب والإضبارة عبارة عن ورقة تلف على جملة من الكتب قد جمعت في داخلها ويلصق طرفها بالنشا والقاعدة فيها أن تلوى الكسرة من أسفلها وإن طال بعضها في طيه وقصر بعض جعل التفاوت في الطول والقصر من أعلاها قال في صناعة الكتاب ومعناها الجمع لأنها يجمع بعضها إلى بعض ومنه قيل تضبر القوم إذا تجمعوا ورجل مضبر الخلق أي مجتمعه وناقة مضبرة ومضبورة وضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب ويقال للإضبارة أيضا إضامة بكسر الهمزة وتشديد الميم لضم بعضها إلى بعض والمعنى فيها صيانة الكتب وحفظها عن الضياع وقد جرت عادة كتاب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أن يجعل لكل شهر إضبارة تجمع فيها الكتب الواردة على أبواب السلطان من أهل المملكة وغيرهم ويكتب عليها شهر كذا وقد سبق القول في مقدمة الكتاب أن الديوان كان له في زمن الفاطميين كاتب يكتب الكتب الواصلة ويبسط عليها جرائد كما يكتب

الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية ويبسط عليها جرائد وأن ذلك بطل في زماننا وصار الأمر قاصرا فيها على حفظ الكتب في الإضبارات متى احتيج إلى الكشف عن كتاب منها أخذ بالحدس أنه ورد في السنة الفلانية وتكشف إضباراتها واحدة بعد واحدة حتى يقع العثور عليه ولا خفاء فيما في ذلك من المشقة بخلاف ما إذا كان لها جرائد مبسوطة فإنه يسهل الكشف منها ويستدل بتاريخه على إضبارته فتخرج ويقع الكشف منها ولكن أهمل ذلك في جملة ما أهمل

الباب الثاني من المقالة الرابعة في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام وهلم جرا إلى زماننا وفيه ستة فصول

الفصل الأول في الكتب الصادرة عن النبي وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأول في ذكر ترتيب كتبه في الرسائل على سبيل الإجمال
كان يفتتح أكثر كتبه بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان وربما افتتحها بلفظ أما بعد وربما افتتحها بلفظ هذا كتاب وربما افتتحها بلفظ سلم أنت
وكان يصرح في الغالب باسم المكتوب إليه في أول المكاتبات وربما اكتفى بشهرته فإن كان المكتوب إليه ملكا كتب بعد ذكره اسمه عظيم القوم الفلانين وربما كتب ملك القوم الفلانيين وربما كتب صاحب مملكة كذا
وكان يعبر عن نفسه في أثناء كتبه بلفظ الإفراد مثل أنا ولي

وجاءني ووفد علي وما أشبه ذلك وربما أتى بلفظ الجمع مثل بلغنا وجاءنا ونحو ذلك
وكان يخاطب المكتوب إليه عند الإفراد بكاف الخطاب مثل لك وعليك وتاء المخاطب مثل أنت قلت كذا وفعلت كذا وعند التثنية بلفظها مثل أنتما ولكما وعليكما وعند الجمع بلفظه مثل أنتم ولكم وعليكم وما أشبه ذلك
وكان يأتي في صدور كتبه بالسلام فيقول في خطاب المسلم سلام عليك وربما قال السلام على من آمن بالله ورسوله وفي خطاب الكافر سلام على من اتبع الهدى وربما أسقط السلام من صدر الكتاب
وكان يأتي في صدور الكتب بالتحميد بعد السلام فيقول فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وربما تركه وقد يأتي بعد التحميد بالتشهد وقد لا يأتي به
وكان يتخلص من صدر الكتاب إلى المقصود تارة بأما بعد وتارة بغيرها
وكان يختم كتبه بالسلام تارة فيقول في خطاب المسلم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وربما اقتصر على السلام ويقول في خطاب الكافر والسلام على من اتبع الهدى وربما أسقط السلام من آخر كتبه
أما عنونة كتبه فلم أقف فيها على نص صريح والذي يظهر أنه كان يعنون كتبه بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان على نحو ما في الصدر وتكون كتابته من محمد رسول الله عن يمين الكتاب والى فلان عن يساره وعليه يدل ما تقدم من كلام صاحب مواد البيان في الأصل الثاني عشر من أصول المكاتبات حيث ذكر في الكلام على العنوان أن الأصل أن يبتدأ باسم المكتوب عنه ويثني باسم المكتوب إليه ثم قال وعلى هذا كانت كتب رسول الله

الطرف الثاني في كتبه إلى أهل الإسلام وهو على ثلاثة أساليب
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان
فمن ذلك كتابه إلى خالد بن الوليد في جواب كتابه إليه بإسلام بني الحارث وهو على ما ذكره ابن إسحاق في سيرته
من محمد رسول الله إلى خالد بن الوليد
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبرني أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
ومن ذلك كتابه إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين من جهة الفرس في جواب كتابه إليه ونسخته على ما ذكره السهيلي في الروض الأنف
من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا هو الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني أذكرك الله عز و جل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في

قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل لهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك ومن أقام على مجوسيته فعليه الجزية
ومن ذلك كتابه إلى فروة بن عمرو الجذامي ونسخته على ما ذكره ابن الجوزي في كتاب الوفاء
من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو
أما بعد فقد قدم علينا رسولك وبلغ ما أرسلت به وخبر عما قبلكم خيرا وأتانا بإسلامك وأن الله هداك بهداه
ومن ذلك كتابه إلى طهفة النهدي وقومه ونسخته فيما حكاه ابن الأثير في المثل السائر
من محمد رسول الله إلى بني نهد
السلام على من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة ولكم الفارض والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا يحس دركم ما لم تضمروا

الإماق وتأكلوا الرباق من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة ومن أبى فعليه الربوة
وهذا الكتاب مما يحتاج إلى شرح غريبه ليفهم فالوظيفة النصاب في الزكاة وأصله الشيء الراتب والفريضة الهرمة المسنة والمراد أنها لا تؤخذ منهم في الزكاة بل تكون لهم والفريش بالفاء والشين المعجمة ما انبسط من النبات وفرش على وجه الأرض ولم يقم على ساق وقد يطلق على الفرس إذا حمل عليها بعد النتاج أيضا وذو العنان الركوب الفرس الذلول والفلو المهر الصغير وقيل الفطيم من جميع أولاد الحافر والضبيس بالضاد المعجمة والباء الموحدة والسين المهملة العسر الصعب الذي لم يرض والسرح السارحة وهي المواشي والمعنى أنها لا تمنع من المرعى والعضد القطع والطلح شجر عظام من شجر العضاه والدر اللبن والمراد ذوات الدر من المواشي أراد أنها لا تحشر إلى المصدق وتمنع المرعى إلى أن تجتمع الماشية ثم تعد لما في ذلك من الإضرار والإماق مخفف من أمأق الرجل إذا صار ذا مأقة وهي الحمية والأنفة وقيل مأخوذ من الموق وهو الحمق والمراد إضمار النكث والغدر أو إضمار الكفر والرباق بالراء المهملة والباء الموحدة والقاف جمع ربقة وهي في الأصل اسم لعروة تجعل في الحبل وتكون في

عنق البهيمة أو يدها تمسكها والمراد هنا نقض العهد واستعار الأكل لذلك لأن البهيمة إذا أكلت الربقة خلصت من الشد والربوة بكسر الراء الزيادة والمراد هنا الزيادة في الفريضة الواجبة عليه كالعقوبة له
ومن ذلك كتابه إلى أكيدر دومة فيما ذكره أبو عبيدة وهو
من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور لا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم بذلك عهد الله والميثاق
وهذا الكتاب أيضا مما يحتاج إلى معرفة غريبه فالأنداد جمع ند بكسر النون وهو ضد الشيء الذي يخالفه في أموره ويناده أي يخالفه والمراد ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله تعالى والأصنام جمع صنم وهو ما اتخذ إلها من دون الله وقيل ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم ولا صورة فهو وثن والأكناف بالنون جمع كنف بالتحريك وهو الجانب والناحية والضاحية بالضاد المعجمة والحاء المهملة الناحية البارزة التي لا حائل دونها والمراد هنا أطراف الأرض والضحل بفتح الضاد المعجمة وسكون الحاء المهملة القليل من الماء وقيل الماء القريب من المكان وبالتحريك مكان الضحل والبور الأرض الخراب التي لم تزرع وهو بالفتح مصدر وصف به وبالضم جمع بوار وهو الأرض الخراب التي لم تزرع والمعامي المجهولة من الأرض التي ليس فيها أثر عمارة واحدها معمى وأغفال الأرض بالغين المعجمة والفاء الأرض التي ليس فيها أثر يعرف كأنها مغفول عنها والحلقة بسكون اللام

السلاح عاما وقيل الدروع خاصا والسلاح ما أعد للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به والسيف وحده يسمى سلاحا والضامنة من النخل بالضاد المعجمة والنون ما كان داخلا في العمارة من النخيل وتضمنته أمصارهم وقراهم وقيل سميت ضامنة لأن أربابها ضمنوا عمارتها وحفظها فهي ذات ضمان كعيشة راضية بمعنى ذات رضا والمعين من المعمور الماء الذي ينبع من العين في العامر من الأرض وقوله لا تعدل سارحتكم بالذال المعجمة أي لا تصرف ماشيتكم وتمال عن الرعي ولا تمنع وقوله ولا تعد فاردتكم أي لا تضم إلى غيرها وتحشر إلى الصدقة حتى تعد مع غيرها وتحسب والفاردة الزائدة على الفريضة وقوله ولا يحظر عليكم النبات بالظاء المعجمة أي لا تمنعون من الزرع والمرعى حيث شئتم والحظر المنع
ومن ذلك كتابه إلى وائل بن حجر وأهل حضرموت وهو
من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على التيعة الشاة والتيمة لصاحبها وفي

السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط والا شناق ولا شغار ومن أجبى فقد أربى وكل مسكر حرام
وذكر القاضي عياض في الشفاء أن كتابه لهم إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله تعالى وكل مسكر حرام ووائل بن حجر يترفل على الأقيال
وهذا الكتاب في معنى ما تقدم من الاحتياج إلى شرح غريبه الأقيال بالقاف والياء المثناة تحت جمع قيل وهو الملك والعباهلة الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه وحضرموت بلدة فياليمن في أقصاها وقيل هي أحد مخاليفها والتيعة بالمثناة من فوق ثم المثناة من تحت والعين المهملة اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان كالخمس من الإبل والأربعين من الغنم قال ابن الأثير وكأنها الجملة التي للسعاة عليها سبيل من تاع يتيع إذا ذهب إليه والتيمة بالكسر الشاة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى وقيل هي الشاة التي تكون لصاحبها في منزله يحلبها وليست بسائمة وهي بمعنى الداجن والسيوب الركاز أخذا من السيب وهو العطاء قاله أبو عبيدة وقيل هي عروق الذهب والفضة التي تسيب في المعدن بمعنى تتلون وتظهر وقال الزمخشري في هي

جمع سيب يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنه من فضل الله تعالى لمن أصابه والخلاط بالكسر مصدر خالط يقال خالطه يخالطه خلاطا ومخالطة والمراد أن يخلط الرجل إبله بإبل غيره أو بقرة أو غنمه ليمنع حق الله تعالى منها ويبخس المصدق فيما يجب له
والوراط بالكسر أيضا أن تجعل الغنم في وهدة من الأرض لتخفى على المصدق مأخوذ من الورطة وهي الهوة من الأرض والشناق بكسر الشين المشاركة في الشنق بفتح النون وهو ما بين الفريضتين من كل ما تجب فيه الزكاة وهو ما زاد من الإبل على الخمس إلى التسع وما زاد على العشر إلى أربع عشرة والمراد أن لا تؤخذ الزيادة على الفريضة قال ابن الأثير ويجوز أن يكون معناه المشاركة في الشنق والشنقين وهو بمعنى الخلاط المتقدم ذكره لكن حمله على الأول أولى لتعدد المعنى والشغار بكسر الشين وبالغين المعجمة نكاح معروف في الجاهلية وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوجه بنته أو أخته ويكون بضع كل منهما صداقا للأخرى والأروع جمع رائع وهم الحسان الوجوه من الناس وقيل الذين يروعون الناس أي يفزعونهم بشدة الهيبة قال ابن الأثير والأول أوجه وقوله ومن أجبى هو بالجيم والباء الموحدة وهو بيع الزرع قبل بدو صلاحه وقيل هو أن يغيب إبله عن المصدق أخذا من أجبأته إذا واريته وقيل هو أن يبيع من الرجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به ومعنى أربى وقع في الربا والمشابيب السادة الرؤوس الزهر الألوان الحسان المناظر واحدها مشبوب والمقورة الألياط المسترخية الجلود لهزالها والأقورار الاسترخاء في الجلود والألياط جمع ليط وهو قشر العود شبه به الجلد لالتزاقه باللحم والضناك بالكسر الكثير اللحم ويقال الذكر والأنثى فيه سواء والمراد أنه لا تؤخذ المفرطة في السمن كما لا تؤخذ الهزيلة وقوله وأنطوا هو بلغة أهل اليمن بمعنى أعطوا خاطبهم بلغتهم والثبجة بثاء مثلثة بعدها باء موحدة هي جيم في الوسط من المال التي ليست من خياره ولا رذالته أخذا من ثبجة الناقة وهو ما بين الكاهل إلى الظهر

مم بكر جرى فيه على لغة أهل اليمن حيث يبدلون لام التعريف ميما قال ابن الأثير وعلى هذا فتكون راء بكر مكسورة من غير تنوين لأن أصله من البكر فلما أبدلت الألف واللام ميما بقيت الحركة بحالها ويكون قد استعمل البكر موضع الأبكار قال والأشبه أن تكون بكر منونة وقد أبدلت نون من ميما لأن النون الساكنة إذا كان بعدها باء قلبت في اللفظ ميما نحو عنبر ومنبر ويكون التقدير ومن زنى من بكر وقوله فاصقعوه هو بالصاد المهملة والقاف أي أضربوه وأصل الصقع الضرب على الرأس وقيل الضرب ببطن الكف وقوله واستوفضوه هو بالفاء والضاد المعجمة أي انفوه أخذا من قولهم استوفضت الإبل إذا تفرقت في رعيها وقوله فضرجوه بالضاد المعجمة والجيم أي أدموه بالضرب ويطلق الضرج على الشق ايضا والأضاميم بالضاد المعجمة الحجارة واحدها إضمامة والمراد ارجموه بالحجارة والتوصيم بالصاد المهملة الفترة والتواني أي لا تفتروا في إقامة الحدود ولا تتوانوا فيها وقوله ولا غمة في فرائض الله أصل الغمة الستر أي لا تستر فرائض الله ولا تخفى بل تظهر ويجهر بها وتعلن وقوله يترفل أي يسود ويترأس استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإرساله والأقيال الملوك وقد تقدم الكلام عليه

الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ هذا كتاب ويذكر المقصد فيما بعد
وهو قليل الوقوع في المكاتبات
ومن ذلك كتابه لقبيلة همدان من اليمن فيما ذكره ابن هشام وهو هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرمل مع وافدها ذي المشعار لمالك بن نمط ولمن أسلم من وقومه على أن

لهم فراعها ورهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها ويرعون عافيها لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله وشاهدكم المهاجرون والأنصار
وذكر القاضي عياض في الشفاء أن في كتابه إليهم إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها تأكلون علافها وترعون عفاءها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري وعليهم فيها الصالغ والقارح
وهذا من نسبة ما تقدم مما يحتاج إلى شرح غريبه فالفراع بالكسر جمع فرعة وهو ما ارتفع من الأرض والوهاط جمع وهطة وهي ما اطمأن من الأرض والعلاف بالكسر جمع علف كجبل وجبال والمراد ما تعتلفه الدواب من نبات الأرض والعزاز ما صلب من الأرض واشتد وخشن ويكون ذلك في أطرافها والعفاء العافي وهو ما ليس لأحد فيه ملك من قولهم عفا الأثر إذا درس والدفء نتاج الإبل وما ينتفع به منها سمي دفئا لأنه يتخذ من أوبارها ما يستدفأ به والمراد هنا الإبل والغنم والصرام النخل وأصله قطع الثمرة والثلب من ذكور الإبل الذي هرم وتكسرت أسنانه والناب المسنة من إناثها والفصيل من أولاد الإبل الذي فصل عن أمه من الرضاع والفارض المسن من الإبل والمراد أنه لا يؤخذ منهم في الزكاة والداجن الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم والكبش الحوري منسوب إلى الحور وهي جلود تتخذ من جلود الضأن وقيل هو ما دبغ من الجلود بغير القرظ والصالغ بالصاد المهملة

والغين المعجمة وهو من البقر والغنم الذي كمل وانتهى ويكون ذلك في السنة السادسة ويقال بالسين بدل الصاد والقارح الفرس الذي دخل في السنة الخامسة

الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ سلم أنت
فمن ذلك كتابه إلى المنذر بن ساوى وهو فيما ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال سلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن ومن أبى فإن عليه الجزية
الطرف الثالث في كتبه إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام وهو على ثلاثة
أساليب
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان كما في
الأسلوب الأول من كتبه إلى أهل الإسلام
فمن ذلك كتابه إلى هرقل وهو قيصر وقيل نائبه بالشام
وهو على ما ثبت في الصحيحن من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى
أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وذكر أبو عبيد في كتاب الأموال أن كتابه إلى هرقل كان فيه
من محمد رسول الله إلى صاحب الروم إني أدعوك إلى الإسلام فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم وإن لم تدخل في الإسلام فأعط الجزية فإن الله تعالى يقول ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية
قال أبو عبيد وأراد بالفلاحين أهل مملكته لأن العجم عند العرب كلهم فلاحون لأنهم أهل زرع وحرث
وفي مسند البزار أنه كتب إليه من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم
ومن ذلك كتابه إلى كسرى أبرويز ملك الفرس فيما ذكره ابن الجوزي وهو
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس
سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله عز

وجل فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وأسلم تسلم فإن توليت فإن إثم المجوس عليك
ومن ذلك كتابه إلى المقوقس صاحب مصر وهو فيما ذكره ابن عبد الحكم
من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على مناتبع الهدى
أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم القبط يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وذكر الواقدي أن كتابه إليه كان بخط أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأن فيه
من محمد رسول الله إلى صاحب مصر
أما بعد فإن الله أرسلني رسولا وأنزل علي قرآنا وأمرني بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني ويدخل الناس في ملتي وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانيته فإن فعلت سعدت وإن أبيت شقيت والسلام
ومن ذلك كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة وهو فيما ذكره ابن إسحاق
من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة إني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم البتول

الطيبة الحصينة حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز و جل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين والسلام على من اتبع الهدى
ومن ذلك كتابه إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة وكان نصرانيا وهو فيما ذكره السهيلي
من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي
سلام على من اتبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك
ومن ذلك كتابه إلى نصارى نجران وهو فيما ذكره صاحب الهدي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب
أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام
ومن ذلك كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندى ملكي عمان
وهو من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي سلام على من اتبع على الهدى

أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي في ملككما وكتب أبي بن كعب
وفي رواية ذكرها أبو عبيد في كتاب الأموال أنه كتب إليهما
من محمد رسول الله لعباد الله أسيد بن ملوك عمان وأسيد عمان من كان منهم بالبحرين إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حق النبي ونسكوا نسك المسلمين فإنهم آمنون وإن لهم ما أسلموا عليه غير أن مال بيت النار ثنيا لله ورسوله وإن عشور التمر صدقة ونصف عشور الحب وإن للمسلمين نصرهم ونصحهم وإن لهم على المسلمين مثل ذلك وإن لهم أرحاء يطحنون بها
قال أبو عبيد وبعضهم يرويه لعباد الله الأسبيين اسما أعجميا نسبهم إليه قال وإنما سموا بذلك لأنهم نسبوا إلى عبادة فرس وهو بالفارسية أسب فنسبوا إليه وهم قوم من الفرس وفي رواية من العرب
ومن ذلك كتابه إلى مسيلمة الكذاب في جواب كتابه إليه أنه إن جعل له الأمر بعده آمن به

وهو من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد وهو أقل وقوعا مما قبله
فمن ذلك كتابه إلى أهل نجران ودينهم النصرانية
وهو فيما ذكره ابن الجوزي
بسم الله الرحمن الرحيم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب
أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام
لأسلوب الثالث أن يفتتح الكتاب بلفظ هذا كتاب
فمن ذلك كتابه مع رفاعة بن زيد إلى قومه وهو فيما ذكره ابن إسحاق
هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله الله ومن أدبر فله أمان شهرين
قلت وقد كتب إلى جماعة غير من تقدم لم أقف على صورة ما

كتب إليهم كجبلة بن الأيهم الغساني وذي الكلاع الحميري وغيرهم وستأتي كتبه في معنى الولايات والإقطاعات والهدن والأمانات في مواضعها إن شاء الله تعالى

الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن
الخلفاء وهي على قسمين
القسم الأول المكاتبات إلى أهل الإسلام وفيه تسعة أطراف
الطرف الأول في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم وفيه
جملتان
الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وكانت تفتتح بلفظ من أبي بكر خليفة رسول الله إلى فلان وباقي الكتاب من نسبة كتب النبي من التصدير بالسلام والتحميد والتخلص بأما بعد والاختتام بالسلام وما يجري هذا المجرى مع لزوم الخطاب بالكاف وتاء المخاطب للواحد وبالتثنية للاثنين والجمع للجماعة وعنونتها من أبي بكر خليفة رسول الله في الجانب الأيمن ثم إلى فلان الفلاني في الجانب الأيسر على ما يقتضيه الترتيب المتقدم
وهذه نسخة كتابه رضي الله عنه إلى أهل الردة حين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي
وهو على ما ذكره صاحب نهاية الأرب

من أبي بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على الإسلام أو رجع عنه سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأقر بما جاء به وأكفر من أبى وأجاهده
أما بعد فإن الله أرسل محمدا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين يهدي الله للحق من أجاب إليه وضرب رسول الله بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعا وكرها ثم توفي رسول الله وقد نفذ لأمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزله فقال ( إنك ميت وإنهم ميتون ) وقال ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) وقال للمؤمنين ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله بالمرصاد حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم

حافظ لأمره منتقم من عدوه بحزبه وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاء به نبيكم وأن تهتدوا بهديه وأن تعتصموا بدين الله فإن من لم يهد الله ضل وكل من لم يعافه مبتلى وكل من لم ينصره مخذول فمن هداه الله كان مهديا ومن أضله كان ضالا ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغترارا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان وقال الله جل ثناؤه ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) وقال جل ذكره ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) وإني أنفذت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ولا يبقى على أحد منهم قدر عليه

وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة ويسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد إلا الإسلام فمن آمن فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية الأذان فإن أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم وإن لم يؤذنوا عاجلوهم وإن أذنوا سلوهم ما عليهم فإن أبوا عاجلوهم وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم

الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن بقية الخلفاء من الصحابة رضوان
الله عليهم
وهي على أسلوبين
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان
يقال إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما صارت الخلافة إليه بعد أبي بكر كان يكتب في كتبه من عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله إلى فلان فلما تلقب بأمير المؤمنين على ما تقدم في المقالة الثالثة أثبت هذا اللقب في كتبه وزاد في ابتدائها لفظ عبد الله قبل اسمه ليكون اسمه اسمع نعتا له فكان يكتب من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى فلان وباقي الكتاب على ما مر في كتب النبي والصديق بعده في التصدير والتعبير عن نفسه بلفظ الإفراد مثل أنا ولي وعلي وعن المكتوب له بكاف الخطاب مثل لك وعليك وتاء المخاطب مثل قلت وفعلت وتبعه الخلفاء على ذلك وعنونتها من عبد الله فلان أمير المؤمنين

في الجانب الأيمن ثم إلى فلان الفلاني في الجانب الأيسر كما تقدم ترتيبه
فمن ذلك ما كتب به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ أمير مصر وهو
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام عليك
أما بعد فقد بلغني أنه فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد وعهدي بك قبل ذلك ولا مال لك فاكتب إلي من أين أصل هذا المال
ومن ذلك ما كتب به معاوبة بن أبي سفيان في خلافته إلى ابنه يزيد وقد بلغه مقارفته اللذات وانهماكه على الشهوات وهو
من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى يزيد بن معاوية
أما بعد فقد أدت ألسنة التصريح إلى أذن العناية بك ما فجع الأمل فيك وباعد الرجاء منك إذ ملأت العيون بهجة والقلوب هيبة وترامت إليك آمال الراغبين وهمم المتنافسين وشحت بك فتيان قريش وكهول أهلك فما يسوغ لهم ذكرك إلا على الحرة المهوعة والكظ الجشء اقتحمت البوائق وانقدت للمعاير واعتضتها من سمو الفضل ورفيع القدر فليتك يزيد إذ كنت لم تكن سررت يافعا ناشئا وأثكلت كهلا ضالعا فواحزناه عليك يزيد ويا حر صدر المثكل بك ما أشمت فتيان بني هاشم وأذل فتيان بني عبد

شمس عند تفاوض المفاخر ودراسة المناقب فمن لصلاح ما أفسدت ورتق ما فتقت هيهات خمشت الدربة وجه التصبر بك وأبت الجناية إلا تحدرا على الألسن وحلاوة على المناطق ما أربح فائدة نالوها وفرصة انتهزوها انتبه يزيد للفظة وشاور الفكرة ولا تكن إلى سمعك أسرع من معناها إلى عقلك وأعلم أن الذي وطأك وسوسة الشيطان وزخرفة السلطان مما حسن عندك قبحه واحلولى عندك مره أمر شركك فيه السواد ونافسكه الأعبد لا لأثرة تدعيها أو حبتها لك الإمرة وأضعت بها من قدرك فأمكنت بها من نفسك فكأنك شانيء نفسك فمن لهذا كله
اعلم يا يزيد أنك طريد الموت وأسير الحياة بلغني أنك اتخذت المصانع والمجالس للملاهي والمزامير كما قال تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) وأجهرت الفاحشة حتى اتخذت سريرتها عندك جهرا
اعلم يا يزيد أن أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة وآلائه المتواترة وهي الجرحة العظمى والفجعة الكبرى ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ثم استحسان العيوب وركوب الذنوب وإظهار العورة وإباحة السر فلا تأمن نفسك على سرك ولا تعقد على فعلك فما خير لذة تعقب الندم وتعفي الكرم وقد توقف أمير المؤمنين بين شطرين من أمرك لما يتوقعه من غلبة الآفة واستهلاك الشهوة فكن الحاكم على نفسك واجعل المحكوم عليه ذهنك ترشد إن شاء الله تعالى وليبلغ أمير المؤمنين ما يرد شاردا من نومه فقد أصبح

نصب الاعتزال من كل مؤانس ودرأة الألسن الشامتة وفقك الله فأحسن

الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد
وهو على ما تقدم خلا الابتداء والتصدير بالسلام والتحميد ويكون الافتتاح فيه بالمقصد كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين خرج علي إلى الينبع واختلف الناس على عثمان
أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وطمع في كل من كان يضعف عن الدفع عن نفسه ولم يغلبك مثل مغلب فأقبل إلي صديقا كنت أو عدوا طويل
( فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق )

الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية
وهي على ما تقدم من الكتب عن الخلفاء من الصحابة في التصدير والتعبير إلا أنه يعبر عن الخليفة بأمير المؤمنين وربما عبر عنه بلفظ الإفراد مثل فعلت وأفعل وما أشبه ذلك أما الخطاب للمكتوب له فبكاف الخطاب وتاء المخاطب مثل إنك أنت قلت كذا وفعلت كذا وما أشبه ذلك وعنوانها من عبد الله فلان أمير المؤمنين في الجانب الأيمن ثم إلى فلان الفلاني في الجانب الأيسر
ثم هي على أسلوبين
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من عبد الله فلان أمير المؤمنين إلى
فلان
كما كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف وقد بلغه تعرضه لأنس بن مالك رضي الله عنه من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف
أما بعد فإنك عبد علت بك الأمور فطغيت وعلوت فيها حتى جزت حد قدرك وعدوت طورك وايم الله لأغمزنك كبعض غمزات الليوث الثعالب ولأركضنك ركضة تدخل منها في وجعاء أمك أذكر مكاسب آبائك في الطائف إذ كانوا ينقلون الحجارة على أعناقهم ويحفرون الآبار والمناهر بأيديهم قد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك جرأة منك على أمير

المؤمنين وغرة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محجته ونزل عند سخطه وأظنك أردت أن تروزه بها فتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها فإن سوغتها مضيت قدما وإن غصصت بها وليت دبرا أيها العبد الأخفش العينين الأصك الرجلين الممسوح الجاعرتين ولن يخفى عن أمير المؤمنين نبؤك ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون

الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد ويقع الشروع منه في المقصد
كما كتب يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام وقد بلغه خلافهم عليه
أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال إني والله قد لبستكم فأخلقتكم ورفعتكم على رأسي ثم على عيني ثم على فمي ثم على فمي بطني وايم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل بها عددكم وأترككم بها أحاديث تنسخ منها أخباركم كأخبار عاد وثمود
وكما كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وهو عامله على بعض النواحي
أما بعد فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعية عندك

وكما كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص إلى مروان بن محمد وقد بلغه عنه تلكؤ في بيعته
أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيهما شئت والسلام
قلت ولم يزل الأمر في المكاتبات في الدولة الأموية جاريا على سنن السلف إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك فجود القراطيس وجلل الخطوط وفخم المكاتبات وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد المقدم ذكره فإنهما جريا في ذلك على طريقة السلف ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنه الوليد بن عبد الملك إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد آخر خلفائهم وكتب له عبد الحميد بن يحيى وكان من اللسن والبلاغة على ما اشتهر ذكره فأطال الكتب وأطنب فيها حيث اقتضى الحال تطويلها والإطناب فيها حتى يقال إنه كتب كتابا عن الخليفة جاء وقر جمل واستمر ذلك فيما بعده

الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد وولاة العهد
بالخلافة وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في بيان ترتيب كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال
كانوا يفتتحون أكثر كتبهم بلفظ من فلان إلى فلان وتارة بأما بعد

وربما افتتحوها بغير ذلك فأما افتتاحها بلفظ من فلان إلى فلان فكان يكتب عنهم في أول دولتهم كما كان يكتب عن خلفاء بني أمية وهو من عبد الله فلان أمير المؤمنين سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ثم يتخلص إلى المقصود بلفظ أما بعد إلا أنهم زادوا بعد اسم الخليفة لفظ الإمام الفلاني بلقب الخلافة فكان يقال من عبد الله الإمام الفلاني أمير المؤمنين فلما صارت الخلافة إلى الرشيد زاد بعد التحميد ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله فلما ولي ابنه الأمين اكتنى في كتبه وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك
وقد اختلف في تقديم الاسم والكنية واللقب والذي رتبه أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب تقديم الاسم على الكنية وتقديم الكنية على اللقب مثل أن يقال من عبد الله فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين ثم قال وهذه المكاتبة هي التي اصطلح عليها في الأمور السلطانية التي تنشأ بها الكتب من الدواوين إلا أن بعض العلماء قد خالفهم في هذا وقال الأولى أن يبدأ باللقب مثل أن يقال من الراضي أو المتوكل وما أشبه ذلك كما قال الله عز و جل وعز ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) وذلك لأن اللقب لا يشاركه فيه غيره فكان أولى أن يبدأ به
وترتيب المكاتبة على ما ذكره في صناعة الكتاب أن يكتب من عبد الله فلان أبي فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ثم يفصل ببياض يسير ويكتب أما بعد فإن كذا وكذا ثم يأتي على المعنى فإذا فرغ من ذلك وأراد أن يأمر بأمر فصل ببياض يسير ثم يكتب وقد أمر أمير المؤمنين بكذا ورأى أن يكتب إليك بكذا فيؤمر بامتثال ما أمر به والعمل بحسبه ثم يفصل ببياض ويكتب فاعلم ذلك من رأي أمير

المؤمنين واعمل به إن شاء الله تعالى وكتب فلان بن فلان باسم الوزير واسم أبيه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا وقد يكتب في أواخر المكاتبة بعد استيفاء المقصد هذه مناجاة أمير المؤمنين لك أو هذه مفاوضة أمير المؤمنين لك
ويقال في السلام على أعلى الطبقات من المكتوب إليهم والسلام عليك ورحمة الله وربما قيل ورحمة الله وبركاته
وأما افتتاحها بلفظ أما بعد فغالب ما يقع في الكتب المطلقة كالبشرى بالفتوح وغيرها ثم تارة يعقب البعدية بالحمد لله إما مرة أو أكثر وغالب ما يكون ثلاث وتارة يعقب بغير الحمد
وأما الافتتاح بغير هذين الافتتاحين فتارة يكون بالدعاء وتارة يكون بغيره ويكون التعبير عن الخليفة في كتبه الصادرة عنه بأمير المؤمنين على ما تقدم في خلافة بني أمية
ثم إن كان المكتوب إليه معينا فالذي كان عليه الحال في أول دولتهم أن يكتب إليه باسمه ثم لما تغلب بنو بويه على الخلفاء وغلبوا عليهم وعلت كلمتهم في الدولة وتلقبوا بفلان الدولة وفلان الملة فكان يكتب إليهم بذلك في الكتب إليهم ثم لما كانت الدولة السلجوقية في أواخر الدولة العباسية ببغداد استعلموا كثرة الألقاب للمكتوب إليه عن الخليفة في صدر المكاتبة قال في مواد البيان ولا يخاطب أحد عن الخليفة إلا بالكاف وقد يخاطب الإمام وزيره في المكاتبة الخاصة بما يرفعه فيه عن خطاب المكاتبة العامة الديوانية ويتصرف في ذلك ويزاد وينقص على حسب لطافة محل الوزير ومنزلته من الفضل والجلالة
قال في ذخيرة الكتاب ويكون الدعاء من الخليفة لمن يكاتبه على

قدر موضعه في خدمته ومحله عنده وقد تقدم أن أعلى الدعاء كان عندهم بإطالة البقاء ولذلك كان يدعى لملوك بني بويه فمن بعدهم بلفظ أطال الله بقاءك وقد تقدم في المقالة الثالثة في الكلام على مقادير قطع الورق وما يناسب كل قطع من الأقلام أنه إن كانت المكاتبة عن الخليفة ترك الكاتب من رأس الدرج قدر ذراع بياضا ثم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ثم يكتب في سطر ثان يلاصقها ويخرج يسيرا من عبد الله إلى آخر التصدير الذي يليه أما بعد وأن التصدير يكون في سطرين بينهما فضاء قدر شبر لا يزيد عن ذلك ولا ينقص ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء بنصف ما بين الأولين فيما ذكره في مواد البيان وبقدره فيما ذكره في ذخيرة الكتاب ثم يقول أما بعد ويأتي على المكاتبة إلى آخرها على هذا النحو
أما عنونة كتبهم فكانت في أول دولتهم من عبد الله فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين في الجانب الأيمن وفي الجانب الأيسر إلى فلان بن فلان ثم زاد المأمون في أول عنواناته بسم الله الرحمن الرحيم ولما تكنى الأمين في كتبه بعد ذلك زيدت الكنية في العنوان فكان يكتب في الجانب الأيمن بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني وفي الجانب الأيسر إلى فلان بن فلن وقد تقدم في الكلام على ترتيب المكاتبات أن البسملة بقيت في العنونة إلى زمن النحاس في خلافة الراضي وأن صاحب مواد البيان ذكر أنها بطلت منه بعد ذلك
قال النحاس فإن كان المكتوب إليه من موالي بني هاشم نسب إلى ذلك وإن لم يكن ينسب إليهم ترك

الجملة الثانية في الكتب العامة وهي على أسلوبين
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان

بان يكتب من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى آخر المكاتبة على ما تقدم ترتيبه
وهذه نسخة كتاب من ذلك كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى صمصام الدولة بن عضد الدولة بن بويه بسبب كردويه الخارج عن الطاعة وليس فيه تكنية للخليفة وهو
من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة مولى أمير المؤمنين
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله
أما بعد أطال الله بقاءك فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوأك المنزلة

العليا وأنالك من أثرته الغاية القصوى وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدولة وتاج الملة ورحمة الله عليه من القدر والمحل والموضع الأرفع الأجل فإنه يوجب لك عند بذلك أثرا يكون لك في الخدمة ومقام حمد تقومه في حماية البيضة إنعاما يظاهره وإكراما يتابعه ويواتره والله يؤيدك من توفيقه وتسديده ويمدك بمعونته وتأييده ويخبر لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمر عليه من مزيدك وتمكينك والإبقاء بك وتعظيمك وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وقد عرفت أدام الله عزك ما كان من أمر كردويه كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك وجاحد صنيعته وصنيعتك في الوثبة التي وثبها والكبيرة التي ارتكبها وتقريره أن ينتهز الفرصة التي لم يمكنه الله منها بل كان من وراء ذلك دفعه ورده عنها ومعاجلتك إياه الحرب التي أصلاه الله نارها وقنعه عارها وشناها حتى انهزم والأوغاد الذين شركوه في إثارة الفتنة على أقبح أحوال الذلة والقلة بعد القتل الذريع والإثخان الوجيع فالحمد لله على هذه النعمة التي جل موقعها وبان على الخاصة والعامة أثرها ولزم أمير المؤمنين خصوصا والمسلمين عموما نشرها والحديث بها وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم والمقام المجيد الكريم بخلع تامة ودابتين ومركبين ذهبا من مراكبه وسيف

وطوق وسوار مرصع فتلق ذلك بالشكر عليه والاعتداد بنعمته فيه والبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته وسر من بابه على حملاته وأظهر ما حباك به لأهل حضرته ليعز الله بذلك وليه ووليك ويذل عدوه وعدوك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب أحمد بن محمد لثمان إن بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة أطال الله بقاءك وأدام عزك وأحسن حفظك وحياطتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة فيك وعندك
وهذه نسخة كتاب آخر من ذلك أيضا كتب به عن المقتفي لأمر الله إلى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي في تعزية بولد مات له وفيه تكنية الخليفة وتقديم الكنية على الاسم وكثرة الألقاب للمكتوب إليه وهو
من عبد الله أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين إلى شاهنشاه المعظم مولى الأمم مالك رقاب العرب والعجم جلال دين الله ظهير عباد الله حافظ بلاد الله معين خليفة الله غياث الدنيا والدين ناصر الإسلام المسلمين محيي الدولة القاهرة معز الملة الزاهرة عماد الملة الباهرة أبي الفتح مسعود بن محمد ملكشاة قسيم أمير المؤمنين
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ويسلم تسليما

أما بعد أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك وسعادتك ونعمتك وأحسن حفظك وكلاءتك ورعايتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة الجليلة والموهبة الجزيلة والمنحة النفيسة فيك وعندك ولا أخلاه منك فإن أولى من أدرع للحوادث جبة الاصطبار ونظر أحوال الدنيا في تقلبها بعين الاعتبار ورجع إلى الله تعالى في قدره وقضائه وسلم لأمره الذي لا راد له في امتحانه وابتلائه وعرف أن له سبحانه في كل ما يجريه على عباده حكمة باطنة ومصلحة كامنة من خير عاجل ينشره وثواب أجل يؤخره لهم إلى يوم الجزاء ويدخره وفائدة هو أدرى بها وأعلم وفعله فيها أتقن وأحكم من خصه بما خصك الله به من الدين الراجح والخلق الصالح والمعتقد الواضح والنعم التي جادك في كل يوم مقام سحابها واتسعت بين يديك عند مضايق الأمور رحابها وأنست إذا استوحشت من العاجزين عن ارتباطها بالشكر صحابها والمناقب التي فرعت بها صهوات المجد وتملكت رق الثناء والحمد وعلوت فيها عن المساجل والمطاول وبعد ما حضر لك منها عن أن تناله يد القائم المحاول وتأدى إلى حضرة أمير المؤمنين أمتعه الله ببقائك ودافع له عن حوبائك نبأ الحادثة بسليلك الذي اختار الله له كريم جواره فأحب له الانتقال إلى محل الفوز ومداره فوجد لذلك وجوما موفرا وهما للسكون منفرا وتوزعا تقتضيه المشاركة لك فيما ساويته ( ) والمساهمة الحاصلة في كل ما حلا من الأمور وأمر وأمر عند ورود هذا الخبر بالتصدي للعزاء وإعلان ما يعلن عن مقاسمتك في الضراء دفعها الله عنك والسراء وندب جمعا من الخدم المطيفين بشريف سدته المختصين بعزيز خدمته بتعز يتصونه لباس التعزية ويستدني بتقمصه عازب التسلية إبانة عن انصراف الهمم الإمامية إليك فيما خص وعم من حالك واستجلابه لك دواعي المسار في حلك

وترحالك وكون الأفكار الشريفة موكلة بكل ما حمى من الروائع قلبك وأعذب شربك وأنت حقيق بمعرفة هذه الحال من طويته لك ونيته ورأيه فيك وشفقته ورعاية مصلحتك منه بعين كالية ورجوعه من المحافظة في حقك إلى ألفة بالصفاء حالية وتلقي الرزية التي أرداها الله وقضاها وأنفذ مشيئته فيها وأمضاها بالصبر المأمور به والاحتساب والتسليم الموعود عليه بجزيل الثواب علما أن الأقدار لا تغالب وغريمها لا يطالب وإن الله تعالى إذ قال لنبيه وهو سيد البشر ( وإنك ميت وإنهم ميتون ) فلا سبيل لأحد من خلقه إلى البقاء ولا وجه للخلود في دار الفناء ولا دافع لحكمه جلت عظمته فيما قدره من الآجال وسبق في علمه من الروائع في دار الابتلاء والأوحال وما يزال التطلع واقعا إلى وصول جوابك الدال على السلوة التي هي الأليق بك والأدعى إلى حصول بغيتك من قضاء الله وأدبك لتحط الأنسة مع وصوله في رحالها وتؤذن لصرف الغموم الجارية لأجلك بارتحالها
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك أدام الله تأييدك وأمتع بك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله

الأسلوب الثاني أن يكون الافتتاح بلفظ أما بعد وهو على نوعين
النوع الأول أن يعقب البعدية الحمد لله وهو على ضربين
الضرب الأول أن يتعدد الحمد في أول الكتاب
ويكون ذلك في الكتب المؤذنة بحصول نعمة ظاهرة كالفتوح ونحوها

ويقع التعدد فيها بحسب ما تقتضيه النعمة وغالب ما يكون ثلاث مرات وربما وقع التحميد في أول الكتاب وآخره
وهذه نسخة كتاب من هذا النوع كتب بها عن المعتصم إلى ملوك الآفاق من المسلمين عند قبض الأفشين على بابك ملك الروم وهي
أما بعد فالحمد لله الذي جعل العاقبة لدينه والعصمة لأوليائه والعز لمن نصره والفلج لمن أطاعه والحق لمن عرف حقه وجعل دائرة السوء على من عصاه وصدف عنه ورغب عن ربوبيته وابتغى إلها غيره لا إله إلا هو وحد لا شريك له يحمده أمير المؤمنين حمد من لا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يفوض أمره إلا إليه ولا يرجو الخير إلا من عنده والمزيد إلا من سعة فضله ولا يستعين في أحواله كلها إلا به ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله وصفوته من عباده الذي ارتضاه لنبوته وابتعثه بوحيه واختصه بكرامته فأرسله بالحق شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا والحمد لله الذي توجه لأمير المؤمنين بصنعه فيسر له أمره وصدق له ظنه وأنجح له طلبته وأنفذ له حيلته وبلغ له محبته وأدرك المسلمون بثأرهم على يده وقتل عدوهم وأسكن روعتهم ورحم فاقتهم وآنس

وحشتهم فأصبحوا آمنين مطمئنين مقيمين في ديارهم متمكنين في أوطانهم بعد القتل والخوف والتشريد وطول العناء وتتابع البلاء منا من الله عز و جل على أمير المؤمنين بما خصه به وصنعا له فيما وفقه لطلبه وكرامة زادها فيما أجرى على يده فالحمد لله كثيرا كما هو أهله ونرغب إلى الله في تمام نعمه ودوام صنعه وسعة ما عنده بمنه ولطفه ولا يعلم أمير المؤمنين مع كثرة أعداء المسلمين وتكنفهم إياه من أقطاره والضغائن التي في قلوبهم على أهله وما يترصدونه من العداوة وينطوون عليه من المكايدة إذ كان هو الظاهر عليهم والآخذ منهم عدوا كان أعظم بلية ولا أجل خطبا ولا أشد كلبا ولا أبلغ مكايدة ولا أرمى بمكروه من هؤلاء الكفرة الذين يغزوهم المسلمون فيستعلون عليهم ويضعون أيديهم حيث شاءوا منهم ولا يقبلون لهم صلحا ولا يميلون معهم إلى موادعة وإن كان لهم على طول الأيام وتصرف الحالات وبعض ما لا يزال يكون من فترات ولاة الثغور أدنى دولة من دولات الظفر وخلسة من خلس الحرب كان بما لهم من خوف العاقبة في ذلك منفصا لما تعلجوا من سروره وما يتوقعون من الدوائر بعد مكدرا لما وصل إليهم من فرحة
فأما اللعين بابك وكفرته فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون وينالون أكثر مما ينال منهم ومنهم المنحرفون عن الموادعة المتوحشون عن المراسلة ومن أديلوا من تتابع الدول ولم يخافوا عاقبة تدركهم ولا دائرة تدور عليهم وكان ما وطأ ذلك ومكنه لهم أنهم قوم ابتدؤا أمرهم على حال تشاغل السلطان وتتابع من الفتن واضطراب من الحبل فاستقبلوا أمرهم بعزة من أنفسهم وضعف واستثارة ممن باراهم فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم ثم أخربوا البلاد ليعز مطلبهم وتشتد المؤونة وتعظم الكلفة ويقووا

في ذات أيديهم فلم يتواف إليهم قواد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوة من كل جانب فاستفحل أمرهم وعظمت شوكتهم واشتدت ضروراتهم واستجمع لهم كيدهم وكثر عددهم واعتدادهم وتمكنت الهيبة في صدور الناس منهم وتحقق في نفوسهم أن كل ما يعدهم الكافر ويمينهم أخذ باليد وكان الذي بقي عندهم منه كالذي مضى وبدون هذا ما يختدع الأريب ويستنزل العاقل ويعتقل الفطن فكيف بمن لا فكرة له ولا روية عنده
هذا مع كل ما يقوم في قلوبهم من حسد أهل النعم ومنافستهم على ما في أيديهم وتقطعهم حسرات في إثر ما خصوا به وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحق بذلك فإنهم يرون أنهم فيه سواء
ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضي إليه الخلافة مادا عنقه موجها همته إلى أن يوليه الل ه أمر هؤلاء الكفرة ويملكه حربهم ويجعله المقارع لهم عن دينه والمناجز لهم عن حقه فلم يكن يألو في ذلك حرصا وطلبا واحتيالا فكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يأبى ذلك لضنه به وصيانته بقربه مع الأمر الذي أعده الله له وآثره به ورأى أن شيئا لا يفي بقوام الدين وصلاح الأمر
فلما أفضى الله إلى أمير المؤمنين بخلافته وأطلق الأمر في يده لم يكن شيء أحب إليه ولا آخذ بقلبه من المعاجلة للكافر وكفرته فأعزه الله وأعانه الله فلله الحمد على ذلك وتيسره فأعد من أمواله أخطرها ومن قواد جيشه أعلمهم بالحرب وأنهضهم بالمعضلات ومن أوليائه وأبناء دعوته ودعوة آبائه صلوات الله عليهم أحسنهم طاعة وأشدهم نكاية وأكثرهم عدة ثم اتبع الأموال بالأموال والرجال بالرجال من خاصة مواليه وعدد غلمانه وقبل ذلك ما اتكل عليه من صنع الله جل وعز ووجه إليه نم رعبته فكيف رأى الكافر اللعين وأصحابه الملاعين ألم يكذب الله ظنونهم ويشف صدور أوليائه منهم يقتلونهم كيف شاءوا في كل موطن ومعترك ما دامت عند أنفسهم مقاومة
فلما ذلوا وقلوا وكرهوا الموت صاروا لا يتراءون إلا في رؤوس الجبال

ومضايق الطرق وخلف الأودية ومن وراء الأنهار وحيث لا تنالهم الخيل حصنا للمطاولة وانتظارا للدوائر فكادهم الله عند ذلك وهو خير الكائدين واستدرجهم حتى جمعهم إلى حصنهم معتصمين فيه عند أنفسهم فجعلوا اعتصامهم لحين لهم وصنع لأوليائه وإحاطة منه به تبارك وتعالى فجمعهم وحصرهم لكي لا تبقى منهم بقية ولا ترجى لهم عاقبة ولا يكون الدين إلا لله ولا العاقبة إلا لأوليائه ولا التعس والنكس إلا لمن خذله
فلما حصرهم الله وحبسهم عليهم ودانتهم مصارعهم سلطهم الله عليهم كيد واحدة يختطفونهم بسيوفهم وينتظمونهم برماحهم فلا يجدون ملجأ ولا مهربا ثم أمكنهم من أهاليهم وأولادهم ونسائهم وحرمهم وصيروا الدار دارهم والمحلة محلتهم والأموال قسما بينهم والأهل إماء وعبيدا وفوق ذلك كله ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب وما أعد لأولئك من الخزي والعقاب وصار الكافر بابك لا فيمن قتل فسليم من ذل الغلبة ولا فيمن نجا فعاين في الحياة بعض العوض ولا فيمن أصيب فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسد مذاهبه وتركه ملددا بين الذل والخوف والغصة والحسرة حتى إذا ذاق طعم ذلك كله وفهمه وعرف موقع المصيبة وظن مع ذلك كله أنه على طريق من النجاة فأضرب الله وجهه وأعمى بصره وسد سبيله وأخذ بسمعه وبصره وحازه إلى من لا يرق له ولا يرثي لمصرعه فامتثل ما أمر به الأفشين حيدر بن طاوس

مولى أمير المؤمنين في أمره فبث له الحبائل ووضع عليه الأرصاد ونصب له الأشراك حتى أظفره الله به أسير ذليلا موثقا في الحديد يراه في تلك الحالة من كان يراه ربا ويرى الدائرة عليه من كان يظن أنها ستكون له فالمحمد لله الذي أعز دينه وأظهر حجته ونصر أولياءه وأهلك أعداءه حمدا يقضي به الحق وتتم به النعمة وتتصل به الزيادة والحمد لله الذي فتح على أمير المؤمنين وحقق ظنه وأنجح سعيه وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه وجعله خالصا لتمامه وكماله بأكمل الصنع وأحسن الكفاية ولم ير بوسا فيه ما يقذي عينه ولا خلا من سرور يراه وبشارة تتجدد له عنه فما يدري أمير المؤمنين ما متع فيه من الأمل أو ما ختم له من الظفر فالحمد لله أولا والحمد لله آخرا والحمد لله على عطاياه التي لا تحصى ونعمه التي لا تنسى إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة كتاب من هذا الضرب كتب به أبو سعيد العلاء بن موصلايا عن القائم بالله إلى عضد الدولة ألب أرسلان إلى مسعود بن محمود صاحب غزنة من أوائل بلاد الهند بالبشارة بالنصر على البساسيري وهو
أما بعد فالحمد لله منير الحق ومبديه ومبير الباطل ومرديه الكافل بإعزاز حزبه وإذلال حربه المؤيد في نصرة دينه خصب الدهر بعد إمحاله وجدبه الناظم شمل الشرع بعد شتاته وتفرقه الحاسم داعي الفساد بعد

استيلائه وتطرقه ذي المشيئة النافذة الماضية والعزة الكاملة الوافرة والعظمة الظاهرة البادية والبراهين الرائعة الرائقة والدلائل الشاهدة بواحدانيته الناطقة حمدا لا انتهاء لآمده ولا إحصاء لعدده والحمد لله الذي اختص محمدا برسالته وحباه وأولاه من كرامته ما حاز له به الفضل وحواه وبعثه على حين فترة من الرسل وخلاء من واضح السبل فجاهد بمن أطاعه من عصاه وبلغ في الإرشاد أقصى غايته ومداه ولم يزل مبديا أعلام الإعجاز وملحقا الهوادي بالإعجاز إلى أن دخل الناس في الدين أفواجا وسلكوا في نصرته جددا واضحا ومنهاجا وغدت أنوار الشرع ضاحكة المباسم وآثار الشرك واهية الدعائم ومناهل الهدى عذبة صافية فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأئمة الراشدين وسلم تسليما والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من تراث النبوة ما استوجبه واستحقه وأنار لديه من مطالع الجلال ما تملك به الفخر واسترقه ومنحه من حسن التمكين والإظفار وإجراء الأقضية على مراده والأقدار ما رد صرف الدهر عن حوزته مفلول الحد ومد باع مجده إلى أقصى الغاية والحد وحمى سرب إمامته من دواعي الخوف والحذر ووقى مشرب خلافته من عوادي الرنق والكدر وجعل معالم العدل في أيامه مشرقة الأوضاح والحجول مفترة النواجذ عن الكمال الضافي الأهداب والذيول مؤذنة باستقرار أمداد السعادة واستمرار الأحوال على أفضل الرسم والعادة وهو يستديمه من لطيف الصنع وجميله ووافي الطول وجزيله ما يزيد آراءه سدادا ورشادا وأرومة عزه

اتساعا وامتدادا ومجاري الأمور لديه اتساقا على المراد واطرادا وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
ومعلوم ما اعتمده شاهنشاه المعظم بعد مسيره إلى العراق في الجيوش التي يضيق بها الفضاء ويجري على مرادها القضاء قاصدا تلبية الدعوة وخاضدا شوك كل من سد عن الدين أسباب المضرة والمعرة ومعتمدا ما حمى حوزة أمير المؤمنين من الشوائب المعترضة وحوى أقسام الفخار في اتباع شروط الخدمة الملتزمة المفترضة من المبادرة للكع اللعين البساسيري ولفيفه المخاذيل مدرعا من الاعتضاد بالله تعالى أقوى الجنن وأسبغ السرابيل ليطهر الأرض من دنس كفرهم ويوفر الجد في فصم حدهم وحسم كيدهم فأطل على بلاد الشام متطلبا من ألجأه حذره إلى الإمعان في الهرب وقطع كل أخية وسبب ومعتزما الائتمام إلى مصر لاتنزاعها وبقية الأعمال من أيدي أحلاف الغواية والضلال وقرب الأمر فيما حاوله من ذلك ورامه اعتماده فيه صنوف التجدد وأقسامه فاعترضه من عصيان إبراهيم اينال وعقوقه وخروجه عن زمرة أبناء الطاعة ومروقه بإفساد اللعين إياه وإحالته بمكره عن مناهج هداه ما أحوجه إلى ترك ما هو بصدده واللحاق بأثره حذارا من استفحال خطبه وبدارا إلى فل حده وغربه فعاد ذلك بتجمع الأعداء واحتشادهم وسلوكهم المحجة التي خصوا فيها بعدم توفيقهم ورشادهم وإقدامهم على فضل الإمامة المكرمة بالمحاربة واطراحهم في منابذتها حكم الاحتشام والمراقبة ووقوع التظافر على المجاهرة بخلافها والتظاهر بشعار أشياع الغواية وأحلافها جرأة على الله تعالى واستنزالا لعقابه واطراحا لما توجبه الجناية العظمى من توقع العذاب

وارتقابه وادراعا لملابس الخزي في الدنيا والآخرة واتباعا لداعي الضلالة المغوية في البدء والخاتمة فاقتضى حكم الاستظهار الانتقال من دار الخلافة بمدينة السلام إلى حديثة عانة لما هي عليه من امتناع الجانب وشدة الحصانة إلى أن أسفر خطب شاهنشاه ركن الدين أمتع الله به عن إدراك المطالب وتيسر المصاعب فعاد بنصرة الدولة العباسية الإمامية القائمية مستنفدا في ذلك أقسام الوسع والاجتهاد ومستنجدا بمعونة الله تعالى على إبادة الكفر بصنوف القراع والجهاد ولم يزل ساعيا في إزالة العار وانتزاع المغتصب وارتجاع المستعار إلى أن صدق الله تعالى الأمل وحققه وأصفى منهل العز من كل ما شابه ورنقه وأطلع شمس الحق بعد غروبها ومن بخضد شوكة الباطل وفل غروبها
وعاد أمير المؤمنين إلى دار ملكه ومقر مجده في يوم كذا ضافية على راياته جلابيب النصر والظفر جارية على إرادته تصاريف القضاء والقدر بيمن نقيبة شاهنشاه الذي أدى في الطاعة الفرض والواجب وتمسك من المشايعة بأفضل ما تضم عليه الرواجب وغدا للدولة عضدا موفيا على الأمثال في دفعه عن الإسلام وذبه ومتقمصا للجلال بحسن إخلاصه في حالتي بعده وقربه وما زالت ثقة أمير المؤمنين مستحكمة بالله تعالى عندما ألم به من تلك الحال ودهم من الخطب المحتف به سطوة الاشتداد والاستفحال في إجرائه على ما ألفه من النصر والإعزاز وإظهار آلائه في تأييده والإعجاز إذ لم يكن ما عراه

استعاد للحق المسلم إليه والموهبة التي ضفت جلابيبها عليه بل جعل الله ذاك إلى امتحان صبره سبيلا وعلى وفور أجره دليلا وبإبادة كل ناعق في الفتنة كفيلا لتزداد أنوار علاه نضارة وحسنا وأعلام جلاله سعادة ويمنا ورباع عزه سكونا وأمنا لطفا منه جلت آلاؤه في ذلك ومنا وتلا هذه النعمة التي جددت عهود الشرع وافية النضارة وأزالت عن الدين مفاسده العارضة ومضاره ما سهله الله وهناه وأجزل به صنيعه الجزيل وأسناه من ظفر السرايا التي توردها لاصطلام اللعناء واجتياحهم وحسم فسادهم وهدم عراصهم وإخماد ما أضرموه من نار الشرك وشبوه وإبطال ما أحدثوه من رسم الجور وسنوه وأفضى الحال إلى النصر على الأعداء من كل جانب وقهر كل منحرف عن الرشاد ومجانب وحلول التأييد على الرايات المنصورة العباسية التي لم تزل مكنوفة على صرف الدهر أشياعها وأنصارها وإجلاء الحرب عن قتل اللعين البساسيري وأخذ راسه وتكذيب ظنه في احرازه من طوارق الغير واحتراسه وإراحة الأرض وأهلها من دنسه وعدوانه وكون من ضامه من طبقات العرب والأكراد والأتراك البغداديين والعوام بين قتيل مرمل بدمه وأسير تلقى المنون بغصة أسفه وندمه وصريع في بقية من ذمائه وهارب والطلب واقع من ورائه فأنجز الله وعده في هذا المارق والعبد الآبق الذي غره إمهال الله تعالى إياه فنسي عواقب الإهمال في الغواية والإمهال في الطغيان إلى أقصى الحد والغاية وحمل رأسه إلى الباب العزيز فتقدم بالتطواف به في جانبي مدينة السلام وشهره إبانة عن حاله وإيضاحا لجلية أمره وكفي

ما يوجبه إقدامه على العظائم التي علم الله تعالى سوء مصيرها ومآلها وحرم الرشد في التمسك والتشبث بأذيالها وتلك عاقبة من بغى واعتدى وأتزر بالغدر وارتدى وأمعن في الضلة واعتدى والجد واقع من بعد في المسير للاحتواء على بلاد المخالفين الدانية والقاصية والأخذ مع مشيئة الله تعالى بنواصي كل فئة طاغية عاصية
فالحمد لله على المنحة التي بشرت الإسلام بجبر كسره وأنقذت الهدى من ضيق الكفر وأسره وأبدت نجوم العدل بعد أن أفلت وغارت وأردت شيعة الباطل بعد أن اعتدت على الحق وأغارت وهو المسؤول صلتها بأمداد لها تقضي إذ ذاك سائر الأغراض وبلوغها وتقضي بكمال رائق الآلاء وسبوغها
اقتضى مكانك أمتع الله بك من رأي أمير المؤمنين الذي وطأ لك معاقد العز وهضابه وكمل لديك دواعي الفخر وأسبابه ونحلك من إيجابه الذي وصلت به إلى ذروة العلاء وصلت على الأمثال والنظراء إشعارك بما جدده الله تعالى من هذه النعمة التي غدت السعود بها جمة المناهل سامية المراتب والمنازل لتأخذ من حظه بها والشكر لله تعالى على ما تفضل به فيها بالقسم الأوفى كفاء ما يوجبه ولاءك الذي امتطيت به كاهل المجد واصطفيت به كامل السعد وكونك لدولة أمير المؤمنين شهابها المشرق في الحنادس وصفيها الرافل من إخلاص مشايعتها في أفخر الحلل والملابس والله تعالى لا يخليك من كل ما تستدر به أخلاف معاليك ولا يعدم أمير المؤمنين منك الولي الحميد السيرة الرشيد العقيدة والسريرة الشديد الشاكلة والوتيرة

هذه مناجاة أمير المؤمنين لك أجراك فيها على ما عودك من التجمل والإكرام وحباك فيها بما هو مبشر لك بالسعادة الوافية الأصناف والأقسام فتلقها بالجذل والاستبشار وواصل شكر الله تعالى على ما تضمنته من حسن مجاري الأقضية والأقدار وطالع حضرة أمير المؤمنين بأنبائك وتابع إنهاء ما يتشوف نحوه من تلقائك إن شاء الله تعالى

الضرب الثاني أن يتخذ التحميد في أول الكتاب وهو أقل وقوعا من الضرب الذي
قبله
وهذه نسخة كتاب ذلك كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله إلى بعض ولاة الأطراف عند طاعة عبد الملك بن نوح أحد ملوك بني ساسان وهي
أما بعد فالحمد لله الولي بالاستحماد المستحق لكنه الاعتباد القدير على تأليف الأجساد البصير بسبل خفايا الأحقاد ذي الحكمة في تبديل الضغن والسخيمة ذمة والمنابذة عصمة والقطيعة وصلة والشحناء خلة والحرج فرجة والشعث نضارة وبهجة الذي جعل الصلح فتحا هنيا والسلم منجا بهيا والموادعة منا جزيلا والإرعاء أمنا جميلا والإقالة حرما لا

يضل هداه ولا تحل قواه ولا تخيب عواقبه ولا تخفى مآثره ومناقبه رأفة منه بالخلق وصيانة لأهل الحق وإمهالا في العهد ورخصة في الاختصار دون الحد ليقرب فيئة المتأمل ويسهل رجعة المتحصل وتسرع رفاهية المستبصر ويخف اجتهاد المزاول المشمر وقد قال الله عز و جل ( والصلح خير ) وهو المسؤول عمارة الإسلام بالسلامة والأنام بالاستقامة والسلطان بالطاعة والملك ببخوع الجماعة حتى تزال الفتنة مهيضة الجناح مريشة الاجتياح فليلة الشباة قليلة الأدوات فتكون النفوس واحدة والأيدي مترافدة والمودات صافية والمآرب متكافية متضاهية في الشكر الذي يذاد به عن النفوس ويحمى به حريم الدين ويرجى معه التأييد ويبتغى بوسيلته المزيد فقد قال الله وقوله الحق ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) والله سميع مجيب وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل وقد علمت ما فرط من نوح بن نصر في السهو ونقم منه في الهفو الذي ألهاه عن التقوى وأنساه شمية الرقبى فعدل عن سنن القصد وزاغ عنه على عمد وحال عن آداب آبائه رحمهم الله وهم القدوة وسجاياهم وبهم الأسوة وما كان ينتمي به من الولاء ويعتزي إليه من الوفاء وصار أدنى معنى ممن يحسده على كرم الأصل وينافسه في شرف المحل ويدخل على عقله مدخل النصيحة ويطلع بظاهرها على آرائه الصريحة وكل ذلك إلحاد في أمير

وعهدته ومروق عن أزمته وعقوق بالبرية يشقى به الباقي ولن يشقى به النازح الماضي فإن أمير المؤمنين ما زال واعيا لأوامر سلفه عارفا بمآثر خلفه متجافيا لأولئك عما ابتدعه متنويا لهذا التجاوز عما صنعه فقد كان نمى إلى أمير المؤمنين أن عبد الملك بن نوح مولى أمير المؤمنين سليم السريرة سديد البصيرة يرجع إلى رأيه وتدبيره ولم يجد وشمكير بن زنار عاجله بالبوار مساغا إلى ختله ولا احتيالا في ليه وفتله وكان لعبد الملك ركن الدولة بن مالك مولى أمير المؤمنين ظهير صدق أن وسن أيقظه وإن ماد أيده خلة فضل فطره الله عليها وغريزة تمييز أحسن الله إليه فيها فإنه لو قال أمير المؤمنين إنه لا مثل له استحق هذا الوصف ولأمن أمير المؤمنين فيه الخلف ترك لباس أبيه فنزعه واعتاض منه وخلعه وتنصل مما كان منه منتهكا فعاد عليه محتنكا وأتى الأمر من طريقه ولجأ فيه إلى فريقه ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين أحسن الله ولايته ومعز الدولة أبي الحسين تولى الله معونته واستصلحهما وكفى واستخلصهما وغنى وراسل في الإنابة وإن لم يكن حائدا والاستقالة وإن لم يكن جانبا فما ترك ركن الدولة ومعز الدولة كلأهما الله إكبار قدره وإجلال أمره والقيام بخلاصه والنطق عن أمير المؤمنين بلسان مشاركته وإذكار أمير المؤمنين بما لم ينسه من تلك الوثائق التي صدر بها كتابه والعلائق التي وشح بها خطابه إلى أن أجل أبا محمد نوحا وترحم عليه وقبل عبد الملك وأحسن إليه وواصل رسله واستمع رسائله وقلده خراسان ونواحيها وسائر الأعمال الجارية فيها وعهد إليه في ذلك عهدا وميزه باللواء والخلع والحباء بعد أن كناه بلسانه ووفاه حدود إحسانه وألحقه في ذلك بآبائه ولم يقصر فيه بشأوه وكتاب أمير المؤمنين هذا وقد اطردت الحال واستوثقت وامتزجت الأهواء واتفقت وخلا المشرق من الاضطراب الذي طال أمده ولم يكد يرى أثره

وصارت العساكر الدانية والنائية فوضى لا تمتاز ولا تنفرد وتنحاز وذلك صنع الله لأمير المؤمنين في جمع الشتات وتلافي الهنات ولم خلل التخاذل ومداواة نغل الدخائل لتتم الكلمة في ولايته وتعم النعم في طاعته ولا يكون للشيطان سبيل على شيعته ولا طريق إلى مكيدة أبناء دعوته والله ذو الفضل العظيم
فاحمد الله على هذا النبأ الذي تطوع به المقدار والخبر الذي دلت عليه الأخبار من الفتح الذي لم ينغصه تعب ولم يكدره عناء ولا نصب فإنه تأتى سهلا وأتى رسلا وابتدأ عفوا وانتهى خالصا صفوا فقد قمع الله به العندة وجمع بتهيئته العبدة وآذن عقباه بالسعادة وبشرفي سيماه باتصال المادة وأنزل أبا الفوارس عبد الملك بن نوح مولى أمير المؤمنين منزلة من رآه أمير المؤمنين أهلا للوديعة وآمنة على الصنيعة ورتبة مرتبة المسبحة واستحفظ الله حسن الموهبة به وما قد تجدد بين أبي الفوارس وبينهما من الاتحاد المتولد عن الاغتباط والاعتداد فقل من شاقهما فلم يندم وتمرد عليهما فلم يكلم وتمسك بهما فلم يسعد وارتبع أكنافهما فلم يوعد وأجب عن هذا الكتاب بوصوله إليك وموقع متضمنه لديك وما يحدثه لك من الجذل وانفساح الأمل موفقا إن شاء الله تعالى

النوع الثاني أن لا يعقب البعدية تحميد بل يقع الشروع عقبها في المقصود
وهذه نسخة كتاب من ذلك كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى من بصحار وسوادها وجبال عمان وأعمالها وحاضرتها وباديتها بالأمر

بالاجتماع على الطاعة وهي
أما بعد فإن أمير المؤمنين للذي حمله الله من أعباء الإمامة وأهله له من شرف الخلافة واستودعه من الأمانة في حياطة المسلمين والاجتهاد لهم في مصالح الدنيا والدين يرى أن يراعي من بعد منهم ونأى كما يراعي من قرب ودنا وأن يلاحظ جماعتهم بالعين الكالية ويطلبهم بالعين الوافية ويتصفح ظواهر أمورهم وبواطن دواخلهم فيحمد من سلك نهج السلامة ويرشد من عدل من الإستقامة وينظم شمل الجماعة على الألفة التي أمر الله بها وحض عليها ويزيلهم عن الفرقة التي ذمها ونهى عنها إذ يقول جل من قائل ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم ) ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) فلا يزال أمير المؤمنين يعرفهم ما افترض الله عليهم من طاعة الأئمة وأولي الأمر الذين لا عصمة لمخالفهم ولا ذمة لمعاندهم ولا عذر لمسلم ولا معاهدة نأى بجانبه عنهم وضل بوجهه عن سبيلهم إذ كان الإمام حجة الله على خلقه وخليفته في أرضه وكانت الطاعة واجبة له ولمن قلده أزمة أموره واستنابه في حمل الأعباء عنه فمن آنس منه الهداية أحمده ومن أنكر منه الغواية أرشده بالوعظ ما اكتفى به أو بالبسط إن أحوج إليه وإن أمير المؤمنين يسأل الله أن يوفقه للرأي السديد ويمده بالصنع والتأييد ويتولاه بالمعونة على كل ما لم الشعث وسد الخلل وقوم الأود وعدل الميل وأحسن العائدة على المسلمين جميعا في شرق الأرض وغربها وسهلها وحزنها إنه بذلك جدير وعليه قدير وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وقد علمتم أن أمير المؤمنين أحسن إلى الرعية بما كان فوضه إلى عضد

الدولة وتاج الملة رحمة الله عليه من سياستهم باديا ثم أحسن باستخلاف عديله وسليله صمصام الدولة وشمس الملة ثانيا إذ كان خيرة أمير المؤمنين وصفوته وحسامه ومجنه والمورد المصدر عنه بالعهدين المستمرين من أمير المؤمنين بالنص عليه ومن الوالد رحمه الله بالوصية إليه وإن هذه العقود المؤكدة والعهود المشددة موجبة على الكافة طاعة من حصلت له أو استقرت بوثائقها في يده إذ لا يصح من حاكم حكم ولا من عاقد عقد ولا من وال إقامة حد ولا من مسلم تأدية فرض حتى يكون ذلك مبنيا على هذا الأصل ومدارا على هذا القطب وإن كان خارج عنهما وراض بخلافهما خرج من دينه أثم بربه برىء من عصمته وأنتم من بين الرعية فقد خصصتم سالفا بحسن النظر لكم وعرفت الطاعة الحسنة منكم فتقابلت النعمة والشكر تقابلا طاب به الذكر وانتظم به الأمر ثم حدثت الهفوة المعترضة قبيل فكان أمير المؤمنين موجبا للمعاقبة الموجبة على الجاهل الموضع في الفتنة والمعاتبة الممضة على الحكيم منكم القاعد عن النصرة إلى أن وردت كتب أستادهرمز بن الحسن حاجب صمصام الدولة باستمراركم على كلمة سواء في نصرة الأولياء والمحاماة دونهم ومدافعة الأعداء والمراماة لهم فوقع ذلك من أمير المؤمنين أحسن مواقعه ونزل لديه ألطف منازله وأوجب لكم به رضاه المقترن برضا الله سبحانه الموجب للقربة والزلفى عنده وأمير المؤمنين يأمركم بالدوام على ما أنتم والثبات على ما استأنفتم

والمبادرة إلى كل ما يأمركم به فلان الوالي عليكم من صمصام الدولة بالاستخلاف والتفويض ومن أمير المؤمنين بالإمضاء لما أمضاه والرضا بما يرضاه فاعلموا ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره وانتهوا فيه إلى حده ورسمه وكونوا لفلان الوالي خير رعية يكن لكم خير راع فقد أمر فيكم بحسن السيرة وإجمال المعاملة وتخفيف الوطأة ورفع المؤونة وجعل إليه عقاب المسيء وثواب المحسن ومسالمة المسالم ومحاربة المحارب وأمان المستأمن وإقالة المستقيل وحمل الجماعة على سواء السبيل إن شاء الله تعالى

الجملة الثالثة في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء وهي على ضربين
الضرب الأول ما يكتب عن الخلفاء إلى وزارئهم
قال في صناعة الكتاب ويكاتب الإمام الوزير أو من حل محله أمتعني الله بك وبدوام النعمة عندي بك وبقاء الموهبة لي فيك وما جرى هذا المجرى
وذكر في ذخيرة الكتاب أن الدعاء للوزير أمتعنا الله بك وبدوام النعمة لنا فيك وتجديد الموهبة عندنا بك ثم قال ودعا المكتفي بالله للقاسم بن عبد الله لما أمر بتكنيته وكان الكتاب بخطه أمتعني الله بك وبالنعمة فيك ووقع المستنصر إلى وزيره أحمد بن الخصيب مد الله في عمرك وهو قريب مما ذكره في صناعة الكتاب في ذلك كله والذي رأيته في مكاتبات العلاء بن موصلايا عن القائم بأمر الله التصدير بما فيه تعظيم

الوزير وتقريظه من غير ضابط في الابتداء والدعاء في أثناء ذلك بالحياطة ثم التوصل إلى المقصد
وهذه نسخة كتاب كتب به العلاء بن موصلايا عن القائم إلى وزيره
لما خص الله تعالى الدولة القاهرة العباسية بامتداد الرواق في العز واتساع النطاق وأجرى لها الأقدار بما يجمع شمل الحق ويمنع من نفاق النفاق وأفرد أيامها بالبهاء المنير الأعلام والانتهاء في قوة الأمر إلى ما يتأدى في طاعتها بين اليقظات والأحلام وجعل الزمان واقفا عند حدها في النقض والإبرام ومتصرفا على حكمها في كل ما حاول من حال ورام ومكن لها في الأرض حتى أذلت نواصي الأعداء قهرا وقسرا وحسرت عن قناع القدرة على رد الطامعين في إدراك مداها ظلعا حسرى فإن الله تعالى لم يخلها كل وقت من قائل في نصرتها فاعل وقائم بإقامة حشمتها من كل حاف من الأنام وناعل وراغب في الذب عن حوزتها سرا وجهرا وخاطب من خدمتها ما يرجى أن يكون رضا الله في المقابلة عنه أغلى مهرا وناهج جدد الرشد في المناضلة عنها بسيفه وقلمه وفارج للكرب الحادثة فيها بنطق فيه وسعي قدمه
وقد منح الله أيام أمير المؤمنين من كونك الولي بمواصلة المقامات الغر فيها والخلي من كل ما يباين صحة الموالاة وينافيها والضمين لما عاد عليها باستقامة النظام والضنين بما يوجد للغير الطريق إلى وصول الحتف إليها والاهتضام والمتجرد في إمداد عزها بالإحصاف والإمرار والمتفرد بإعداد أقسام المناضلة دونها في الإعلان والإسرار والباذل وسعة فيما ثنى إليها أعنة السعد ولواها والخاذل كل مستنجد بها فيما يخالف محبتها وهواها ما أوفى على المألوف في أمثالها من قبل وصار لك به على كل من سلفك من الأعضاء

التقدم والفضل فهي بآثارك الحميدة فيها وإكبارك الجد في تشييد مبانيها وكونك كافيا أمر المحاماة من ورائها كافا عنها ما يخشى من حدوث أسباب الفساد واعترائها منيعة الجانب مريعة الجناب سريعة فيها السعود إلى ما يلبي نداءها بأحسن التلبية والجواب
ثم إنه وإن كانت زلفك إلى حضرة أمير المؤمنين بادية الحجول والغرر غير محتاجة إلى إقامة الدليل عليها بما اتضح من أمرها واشتهر فإن فلانا يعيد جلاءها دائما في أبهى الملابس وأنضرها ويجيد الجد في الدلالة على تقابل مخبرها في الجمال ومنظرها ويكشف من صفاء السرائر فيها والبواطن وما يطلع عليه منها في كل المحال والمواطن ما يسهب في وصفه ويعجب سماع ذكره ويطرب
وفي هذه النوبة عاد وقد زاد على المعهود من شكرك وجازه وأبان عن صلته بالوعد في ضمان النجح منك نجازه وأوجب على نفسه أن لا يقف عند حد فيما يؤدي إلى نشر محامدك في الأرض وطي الجوانح لك على الإخلاص الصادق المحض
ولما مثل بحضرة أمير المؤمنين على رسمه الذي وسم بالجمال جبينه وابتسم ثغر التوفيق فيه عما أصبح النجح أليف سعيه وقرينه وبحسب فوزه من شرف الحظوة برتبة لم ينلها أحد الأقران له في الزمان وفوته شأو أبناء جنسه يوم المضمار والرهان كفاء ما يستوجبه بغلاء قيمته في الكمال والغناء به في كل مقام أمن حد مضائه فيه الكلال أشار بذكر مقاصدك التي حزت بها من غنائم الحمد الصفايا وشاد مباني محامدك بفضل الإبانة عن السرائر والخفايا وتابع الثناء على كل من أفعالك التي أمسى هلالك فيها مقمرا ووضح فيها كونك بشروط الإخلاص محبا مضمرا وشرح من توفرك على كل قربة غراء تغري

الألسنة بحمدك وتنبيء عن حسن مقصدك برفع عماد الحق وعمدك ما قامت عليه الأدلة واستقامت به على سنن الرشد الأهواء المضلة وبين من إمضائك كل عزم في تهيئة القربات إلى حضرة أمير المؤمنين حالا فحالا وإبطائك خطا الجد فيما يراد بزلفك البالغة أقصى الغايات لديه سابقا واتصالا ما يضاهي المظنون في تلك العقيدة التي طالما ألفيت في نصرة الدولة القاهرة صافية المورد والمنهل حالية من الحسن بكل حال اتضح فيها ما ألهى عن غيرها من الوصف وأذهل فقوبلت بما تستحقه من إحماد أشيع وأذيع واتبع فيه الواجب وأطيع وتضاعف الاعتداد بأفعالك التي أعنت بالعون منها في الجمال والأبكار وأعدت بها الأمور في الصلاح إلى ما يؤمن إيضاحه الجحد والإنكار ومن أحق منك بكل فعال تضيء مصابيح الخير فيه وينتشر جميل الذكر من مطاويه وأنت للدولة الولي الأمين وبحفظ نظام كل أمر يختص بها الكفيل الضمين ومن أولى منك بكل حمد يفد إليك إمداده إرسالا وتجد منه ضالة نشدت مثلها آمال سواك فآبت بالخيبة عجالا فلك من الحقوق ما لا ينسى وما يلزم أني يرعى في كل مصبح وممسى فأحسن الله جزاءك عن كونك في دولته ذابا عن الجحد حاميا
فأما ما تحدد في معنى الأعمال على الوصف الذي قضى بزوال الخلف وانحسامه واقتضى رأيك إجراء الأمر على ما استصوب من اتساقه وانتظامه فقد وقفت عليه وأجيز ما أشرت إليه فأعواض الدنيا تهون وتسهل في ضمن ما يلحظ من اعتناقك أحكام مشايعة الدولة التي قمت بأعبائها في كل أوان وغدت آثارك فيها باقية الذكر والأجر على تقضي الأزمان فأنت المرغوب فقي الثناء ولاية وإن شانت الأحوال والمخلص الذي لا عوض عنه في كل مقام ومقال فقد أحاط العلم بتفصيل ذلك وجملته وتحقق أن الخيرة في كل ما تشير إلى

سلوك طريقه وجدده ولذلك أجيب فلان إلى الحضور والمستخدمون معه وأذن في المقابلة بالقوانين القديمة والباقي والجرائد والموافقة على ما رأيته في البوادي والعوائد والتنزه عن كل ما شذ عن الحجة المؤكدة بتوفيقك وتوفر الموجود لهذه السنة فيه عليه وحسم مواد استزادته في كل ما تمسك به وأشار إليه و الثقة من بعد مستحكمة بتوفرك على ما يرادف إليك إمداد الحمد وتجديدك كل قربة تنضم إلى سوابقها المتجاوزة حد الإحصاء والعد
فأما ما تضمنته إشارتك في حق الستر الرفيع فهل الصلاح إلا من نتائج أقوالك وهل مساعيك إلا موقوفة على الخير وأفعالك وهل الموافقة إلا لك في جميع آرائك وأبحاثك وبحكم ابتدائك لاستقامة النظام فيما قرب وبعد والسكون إلى إسعافك في كل أمر يحدث ويتجدد ويبعث على ما يعيذ رونق الحشمة من الوهن ويهز طاعتك في كل أمر يحقق التقدير فيها والظن فإذا تصفحت حقوق الوكلاء المجتباة وجدت موفرة على اقتناء الأجر مصروفة في وجوه البر التي هي أنفع الذخر في غد وهل الأعواض إلا عند من يظن الدنيا بعينها قيمة تنافس وهل مصيرها إلا إلى انقضاء ولو أسعفت بالرغائب والنفائس غير أن الأحوال إذا كشف مستورها أثبت ما يقتضي إسبال ستر الإشفاق والبواطن متى أعرب عنها أشمت ذاك كل مجانب للدولة من أهل النفاق وأنت المعتمد لتدبير ما يصون حشمة الدولة عن البذلة والخلل والمرجوع إليه في تحسين الأمر فيما وقع الاجتهاد فيه حتى تيسر قدره وتسهل ولهذا تفصيل قد أوعز إلى فلان باستقصاء شرحه وإطلاعك على حقيقة الأمر وفصه فكن بحيث الظن فيك تجد زند جمالك بذلك أورى وتجب لك به صنوف الشكر طورا إن شاء الله تعالى

الضرب الثاني ما يكتب عن الخلفاء إلى وزراء الملوك
وهي مما يؤتى في صدرها بحرف النداء غالبا كما كتب عن المسترشد

إلى معز الدين الفضل بن محمود وزير معز الدين سنجر بن ملكشاه
مقامك يا معز الدين أحسن الله حياطتك وكمل موهبته عندك في خدمة الدار العزيزة التي ما زلت لجهدك فيها باذلا وفي جلابيب المناصحة رافلا لا يقبضنك أن تواصل فحالا فحلا بأنبائك وتستديم ما خصصت به من شريف الآداب الموفية بك على أكفائك وعرض بحضرة أمير المؤمنين ما ورد منك دالا على طاعتك المعهودة وموالاتك الرائقة المشهودة واستمرارك على الجدد والمهيع فيما حاز المراضي الشريفة الإمامية لك وحقق في الفوز بجميل الآراء أملك وناطقا بحال فلان المارق عن الدين المجاهر بمعصية الله تعالى في مخالفة أمير المؤمنين وما اقتضاه الرأي المعزي بحسن سفارتك وسداد مقصدك في الطاعة وصفاء نيتك وأحاط علما بمضمونه الذي لا ريب أنه ثمرة مناصحتك ونتيجة سعيك المضاهي نصيحة عقيدتك ومن أولى منك بهذه الحال وأنت الحول القلب ذو الحنكة المجرب الذي تفرد في الأنام

وقصر أكفاؤه عن درك شأوه في الخير ومثاله وما زلت حديثا وقديما موسوما بهذه المزية مرقوما وبغير شك أنك تراعي ما بدأت به وتعضد مقالك في موارده بما تعمده في مصادره وتحرس ما قدمته من الاحتياط بتحريك في أواخره وتمضي العزيمة لإتمام ما شرعت فيه كفاء ما يوجبه دينك ويقتضيه جريا على وتيرتك فيما قضي للأحوال بالانتظام والاتساق وآذن لشمس الصلاح بالإضاءة والإشراق
وبعد فقد عرفت ما تكرر إليك في أمر هذه الطائفة الخبيثة المكاشفة بمذهب الإلحاد المبارزة بسوء الاعتقاد بعثا على جهادها وكف ضررها عن الإسلام وفسادها ورفع ستر المراقبة عنها والانتقام لله ولرسوله منها وما يقنع من همة معز الدولة والدين أمتع الله ببقائه ومن وافر عقل ودينك وصدق يقينك إلا بإرهاف العزيمة في مكاشفتها وخوض الغمار في محاربتها والقصد المضايقة من اعتصم منها بالقلاع وقتل كل من يظفر به في سائر البقاع حمية وامتعاضا للدين وأنفا مما استولى عليه بها من الضرر المبين فكن من وراء الحب لمعز الدنيا والدين على تيقنك هذا المثال والادكار بما تفوز به مع الإمتثال له في المآل وانهض في تنفيذ ما يأمرك به في هذا الباب نهضة من أتزر رضا الله وأرداه وبذل في صلاح معاده اجتهاده فإن الله سبحانه لا يرضى منكما للانتصار لدينه بالتقصير وأمير المؤمنين أمركما بالجد فيه والتشمير وقد شرفك بتحفة أمر بحملها إليك من بين يدي سدته وأعرب بها عن مكانك من حضرته إنافة على الأمثال بقدرك وإضفاء لملابس فخرك فاعرف بمكان النعمة في ذلك واسلك في القيام بشكرها أوضح المسالك وأدم المواصلة بمطالعتك وقدم التوقع من إجابتك تفز من المراضي الشريفة بالحظ الأسنى ويجتمع لك منها الاسم والمعنى إن شاء الله تعالى

الطرف الرابع في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية
بعد مصير الخلافة إليها
وهي على ثلاثة أساليب
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان
والحكم فيها على ما كان الأمر عليه في خلافتهم ببغداد إلا أنه زاد فيه لفظ ووليه بعد لفظ عبد الله في اول الكتاب فيقال في افتتاحه من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلاني ثم يقال أما بعد حمد الله ويؤتى على آخر الخطبة ثم يتخلص منها ويختم بالأمر بامتثال ما أمر به ويقال بعد ذلك موفقا إن شاء الله تعالى والخطاب فيه بالكاف وربما افتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم مناسبة للمعنى
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الحاكم بأمر الله أحمد إلى الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر صلاح الدين يوسف بن رسول الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في سنة سبع وسبعمائة حين منع صاحب اليمن الهدية التي جرت العادة بإرسالها إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية مفتتحا بآية من القرآن وهو
( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )

من عبد الله ووليه أبي الربيع سليمان
أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها وموفق من اختاره إلى محجة صواب لا يضل سالكها ولا تظلم عند إخلاف الأمور العظام مسالكها وملهم من اصطفاه لاقتفاء آثار السنن النبوية والعمل بموجبات القواعد الشرعية والانتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها وأفاضت على سدته الجليلة برودها وملكته أفاضي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد وسارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة وشيدت بأحكامه مناجح الدنيا ومصالح الآخرة وتبختر كل منبر من ذكره في ثوب من السيادة معلم وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينار ودرهم
يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطة وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة محوطة ويصلي على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها وعمدوا إلى تمهيد المعالم الدينيية فأقاموها على قواعدها صلاة دائمة الغدو والرواح متصلا أولها بطرة الليل وآخرها بجبين الصباح
هذا وإن الدين الذي فرض الله على الكافة الانضمام إلى شعبه وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه جعل الله حكمه بأمرنا منوطا وفي سلك أحكامنا مخروطا وقلدنا في أمر الخلافة المعظمة سيفا طال نجاده وكثر أعوانه وأنجاده وفوض إلينا أمر الممالك الإسلامية وإلى حرمنا تجبى ثمراتها ويرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها يخلف الأسد إن مضى في غابه شبله ويلفى في الخبر والخبر مثله
ولما أفاض الله علينا حلة الخلافة وجعل محلنا الشريف محل الرحمة والرافة وأقعدنا على سدة خلافة أشرقت بالخلائف من آبائنا وابتهجت بالسادة

الغطاريف من أسلافنا وألبسنا خلعه هي من سواد السؤدد مصبوغة ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة وأمضينا على سدتنا الشريفة أمر الخاص والعام وقلدنا كل إقليم من عملنا من يصلح سياستها على الدوام واستكفينا بالكفاة من عمالنا على أعمالنا واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبة الإسلام وفيئة الإمام وثانية دار السلام تعين علينا أن نتصفح جرائد عمالنا ونتأمل نظام أعمالنا مكانا فمكانا وزمانا فزمانا فتصفحناها فوجدنا قطر اليمن خاليا من ولايتنا في هذا الزمن عرفنا هذا الأمر من اتخذناه للمالك الإسلامية عينا وقلبا وصدرا ولبا وفوضنا إليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها مقاما أقعد الأضداد وأحسن في ترتيب ممالكها نهاية الإصدار وغاية الإيراد وهو السلطان الأجل السيد الملك الناصر المبجل لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية فلم يعد جوابا لما ذكرناه ولا عذرا عما أبديناه إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة وتعيين أناس من فوارسه المذكورة يقتحمون الأهوال ولا يعبأون بتغيرات الأحوال يرون الموت مغنما إن صادفوه وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه لا يشربون سوى المدام مدامة ولا يلبسون غير الترانك عمامة ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره صليل الحسام من غنا ولا ينزلون قفرا إلا ونبت ساعة نزولهم من قنا ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في ممالكها واحتاط على جميع مسالكها واتخذ أهلها خولا وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته

خللا برز مرسومنا الشريف النبوي أن يكاتب من قعد على تخت مملكتها وتصرف في جميع امور دولتها وطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفر يوسف ابن عمر الذي له شبهة تمسك بأذيال المواقف المستعصمية وهو مستصحب الحال على زعمه أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات أو ما تحقق الحال التي بين النفي والإثبات أصدرناها إلى الرحاب التعزية والمعالم اليمنية تشعر من تولى عنها فاستبد وتولى كبره فلم يعرج على أحد أن أمر اليمن ما برحت نوابنا تحكم فيه بالآية الصحيحة والتفويضات التي هي غير جريحة وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور وما تمشي به الجمال مشيا وئيدا وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات وليدا ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده وبحال دياره ومعاهده ولك أسوة بوالدك فلان هلا اقتفيت ما سنه من آثاره ونقلت ما دونته أيدي الزمن من أخباره
واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك
منها وهي العظمى التي ترتب عليها ما ترتب قطع الميرة عن البيت الحرام وقد علمت أنه واد غير ذي زرع ولا يحل لأحد أن يتطرق إليه بمنع
ومنها انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث
ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا وخلو تلك الأماكن من أمور عقدنا وحلنا ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال ولاتسعت فيه دائرة المقال رسمنا بها والسيف يود لو سبق القلم حده والعلم المنصور يود لو فات العلم واهتز بتلك الروابي قده والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب وأهل العزم والحزم يودون إليك إعمال الركاب والجواري المنشآت

قد تكونت من ليل ونهار وبرزت كصور الأفيلة لكنها على وجه الماء كالأطيار وما عمدنا إلى مكاتبتك إلا للإنذار ولا احتجنا إلى مخاطبتك إلا للإعذار فأقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب وانتظم في سلك من استخلفناه فأخذ بيمينه ما أعطي من كتاب وصن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك ومنتظمون في سلك أوامر كلمك وداخلون تحت طاعة قلمك فلسنا نشن الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبه ودان بما يجب من الديانة وتقلد عقود الصلاح والتحف مطارف الأمانة ولسنا ممنا يأمر بتجريد سيف إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقص عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدة دولته وشيد قواعد صولته ونستدعي منه رسولا إلى مواقفنا الشريفة ورحاب ممالكنا المنيفة لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخف حملا وتعالى رتبة وحسن مثلا واشرط على نفسك في كل سنة قطيعة ترفعها إلى بيت المال وإياك ثم إياك أن تكون على هذا الأمر ممن مال ورتب جيشا مقيما تحت علم السلطان الأجل الملك الناصر للقاء العدو المخذول التتار ألحق الله أولهم بالهلاك وآخرهم بالبوار وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة وتواريخ سيرهم المنكورة فاحرص على أن يخصك من هذا المشرب السائغ أوفر نصيب وأن تكون ممن جهز جيشا في سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو غير مصيب ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلة أعلامنا المنصورة شاكرا بر مواقفنا المبرورة وإن أبى حالك إلا أن استمريت على غيك واستمريت مرعى بغيك فقد منعناك التصرف في البلاد والنظر في أحكام العباد حتى تطأ خيلنا العتاق

مشمخرات حصونك وتعجل حينئذ ساعة منونك وما علمناك غير ما علمه قلبك ولا فهمناك غير ما حدسه لبك ولا تكن كالصغير يزيده كثرة التحريك نوما ولا ممن غره الإمهال يوما فيوما أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه موفقا إن شاء الله تعالى

الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بخطبة إما مصدرة بآية من القرآن الكريم
أو دونها
كما كتب عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان إلى السلطان الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو بالكرك يستدعي حضوره إلى قلعة الجبل بالقاهرة المحروسة لتقليد السلطنة الشريفة بعد خلع أخيه الملك الأشرف كجك ابن الناصر محمد وإمساك الأمير قوصون ومن معه من الأمراء
وقد ذكر صاحب الدر الملتقط أنه كتبه في قطع البغدادي الكامل بين يدي الأمير قطلوبغا الفخري كافل السلطنة الشريفة وهذه نسخته
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )
فالحمد لله الذي أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة وألف قلوب أوليائه المتفقة والمتباينة وأخذ بنواصي أعدائه المراجعة والبائنة وأعلى جد هذه الدولة القاهرة وأطلع في أسنة العوالي نجومها الزاهرة وحرك لها العزائم فملكت

والأمور بحمد الله ساكنة والبلاد والمنة لله آمنة والرعايا في مكانها قاطنة والسيوف في أغمادها مثل النيران في قلوب حسادها كامنة وأقام أهل الطاعة بالفرض واستوفى بهم القرض وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض وأعز أنصار المقام الشريف العالي وأعز نصره وأعد لعدوه حصره وأتى بدولته الغراء تسمو شموسها وتثمر غروسها وتظهر في حلل الصباح المشرق عروسها وتجيء منه بخير راع للرعية يسوسها وبشره بالملك والدوام وسره بما اجتمع له من طاعة الأنام وأقدمه على كرسي ملكه تظله الغمام وأراه يوم أعدائه وكان لا يظن أن يرى في المنام ولا يزال مؤيد الهمم مؤكد الذمم مجدد البيعة على رقاب الأمم ولا برحت أيامه المقبلة مقبلة بالنعم خضر الأكناف على رغم من كاد وغيظ من رغم ولا فتئت عهود سلفه الشريفة تنشأ له كما كانت ورعاياه تدين له بما دانت وجنوده تفديه من النفوس بأعز ما ذخرت وما صانت وسعادة سلطانه تكشف الغمم وتنشر الذمم وتعيد إلى أنوف أهل الأنفة الشمم وتحفظ ما بقي لأوليائه من بياض الوجوه وسواد اللمم
سطرها وأصدرها وقد حققت بعوائد الله الظنون وصدقت الخواطر العيون وأنجز الله وعده وأتم سعده وجمع على مقامه الكريم قلوب أوليائه وفرق فرق عدوه وأباته بدائه ووطد لرقيه المنابر ورجل لترقيه العساكر وهيأ لمقاتل أعدائه في أيدي أوليائه السيوف البواتر وأخذ قوصون وأمسك ونهب ماله واستهلك وهدمت أبنيته وهدت أفنيته وخربت دياره وقلعت آثاره وأخليت خزائنه وأخرجت من بطون الأرض دفائنه وما مانعت عنه تلك الربائب التي ظنها قساور ولا ناضلت تلك القسي التي طبعها أساور ولا أغنى عنه ذلك المال الذي ذهب ولا ذلك الجوهر الذي كان عرضا لمن نهب وأعيد إلى المهد ذلك الطفل الذي أكل الدنيا باسمه وقهر أبناءها بحكمه وموه ب على الناس وأخلى له الغاب وما خرج من الكناس وغالب به الغلب حتى وطيء الرقاب وداس الأعقاب وخادع ودله الشيطان بغروره ودلس عليه عاقبة أموره فاعتد

بعتاده واعتز بقياده واغتر بأن الأرض له وما علم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فأمسك ومعه رؤوس أشياعه وحصرت بالخوف نفوس أتباعه ومنهم الطنبغا وقد أحاط العلم الشريف بكيفية وصوله وحقيقة الخبر وما قاساه في طريقه من العبر وداس عليه حتى وصل من وخز الإبر وكذلك من جاء معه وخلف وراءه الحق وتبعه بعد الهزيمة التي ألجأهم إليها خوف العساكر المنصورة التي قعدت لهم على الطريق وأخذت عليهم بمدارج أنفاسهم في فم المضيق وعبئت لهم صفوف الرجال وأعدت لهم حتوف الآجال وحيرتهم في سعة الفجاج وأرتهم بوارق الموت في سحب العجاج ثم لم يصلوا إلا وهم أشلاء ممزقة وأعضاء مفرقة قد فني تحتهم الظهر وقني بيومهم الدهر وساقتهم سعادة سلطان المقام العالي إلى شقاوتهم وهم رقود وعبئت لهم الخيل والخلع إلا أنها ملابس الذل وهي القيود فأخذوا جميعا ومن كانوا على موالاته وفارقوا الجماعة لمواتاته وحملوا إلى الحبس النائي المكان وأودعوا أحياء في ملحده إلا أنهم كالأموات وقد نالوا المقصد إلا أنهم ما أمنوا الفوات ووكل بحفظهم إلى أن يشرف سرير الملك بعقود مقامه وعقود أيامه الحوالي وسعود زمانه الذي لا يحتم بالنجوم إلا خدم الليالي
وهذا النصر إنما تهيأت ولله الحمد أسبابه وهذا الفتح إنما فتحت بمشيئة الله أبوابه بمنة الله ونية المقام العالي لا بمنة أحد ولا بمنة بأس من أقدر ولا يأس من حجر وما قضى الله به من سعادة هذه الأيام ومضى به القدر السابق وعلى الله التمام وبمظافرة الجناب الكريم السيفي قطلوبغا الفخري الساقي الناصري أدام الله نصرته لهذه العصابة المؤيدة وبمضاء عزائمه التي ماونت وقضاء قواضبه التي ما انثنت وبموازرة من التف عليه من أكابر الأمراء وبما أجمعوا عليه من مظافرة الآراء ونزولهم على النية لا يضرهم من خذلهم ولا يهينهم من بذلهم ولا يبالون بمعساكر دمشق المقيمة على حلب ومن مال إليهم وتمالأ معهم عليهم ومن انضاف إليهم من جنود البلاد وجيوش العناد ولا لواهم ما كان يبعث إليه ذلك الخائن من وعبده ولا ولاهم

ما كاد يخطف أبصارهم من تهديده ولا بالوا بما ألب عليهم من جند الشام من كل أوب وصب عليهم سيوله من كل صوب وخادعهم بالرسائل التي ما تزيدهم عليه إلا إباء ولا تشككهم أن السيف أصدق منه إنباء حتى ولى لا تنفعه الخدع ولا تنصره البدع فما أسعدته تلك الجموع التي جمعها ولا أجابته تلك الجنود التي سار عليها إلى مكمن أجله ولا وقت تلك السيوف التي لم يظهر له من بوارقها إلا حمرة الخجل حتى أخذ مع طاغيته بل طاغوته بمصر ذلك الأخذ الوبيل وقذف به إلى مهوى هلكه سيل ذلك السب ل وقام من بالديار المصرية قيام رجل واحد وتظافروا على إزالة ذلك الكافر الجاحد ولم يبق من الأمراءإلا من بذل الجهد وجمع قلوب الرعية والجند وفعل في الخدمة الشريفة ما لم يكن منه بد حتى حمد الأمر وخمد الجمر وتواترت الكتب بما عمت به البشرى من إقامة البيعة باسمه الكريم وأنه لم يبق إلا من أعطى اليمين وأعطى اليمين وأتم الحلف إتماما لا يقدر معه ثمين وأقيمت له السكة والخطبة فرفع على المنابر اسمه وتهلل به وجوه النقود وظهر على أسارير الوجود وضربت البشائر ونهبت المسرات السرائر وتشوقت أولياء هذه الدولة القاهرة أدام الله سلطانها إلى حضور ملكها وسفور الصباح لإذهاب ما أبقته عقابيل تلك الليلة من حلكها والمقام العالي ما يزداد علما ولا يزاد عزما وهو أدرى بما في التأخير وبما في بعده من الضرر الكبير ومثله لا يعلم ومنه يتعلم فهو أعلم بما يجب من مسابقة قدومه للبشير وما سيعن من معاجلته لامتطاء جواديه ظهر الخمال وبطن السرير فالله الله في تعجيل حفظ هذا السوام المشرد وضم هذا الشمل المشتت ونظم هذا العقد المبدد وجمع كلمة الإسلام التي طالما افترقت وانتجاع عارض هذه النعمة التي أبرقت وسرعة المسير فإن صبيحة اليوم المبارك الذي يعرف من أوله قد أشرقت فما بقي ما به يقتدر ولا سوى مقدمه السعيد ينتظر
وقد كتبناها ويدنا ممدودة لمبايعته وقلوب الخلق كلها مستعدة لمتابعته وكرسي الملك قد أزلف له مقعده ومؤمل الظفر قد أنجز له موعده والدهر

والزمان مسعده وطوائف أوليائه ليوم لقائه ترصده والعهد له قد كتب ولواء الملك عليه قد نصب والمنبر باسمه عليه قد خطب والدينار والدرهم هذا وهذا له قد ضرب ولم يبق إلا أن يقترب وترى العيون منه ما ترتقب ويجلس على السرير ويزمع المبشر ويعزم على المسير وتزين الأقاليم ويبين لتسيير شهابه ما كان يقرأ له في التقاويم لا زال جيب ملكه على الأقطار مزرورا وذيل فخاره على السماء مجرورا وحبل وليه متصلا وقلبه مسرورا ومقدمه يحوز له من إرث آبائه نعما جمة وملكا كبيرا إن شاء الله تعالى

الأسلوب الثالث ما استقر عليه الحال في زماننا إلى خلافة الإمام المتوكل
على الله خليفة العصر
وهو أن تفتتح المكاتبة بالسلام ويؤتى في ألقاب المكتوب إليه بما يكتب من الألقاب عن السلطان على ما سيأتي ذكره في المكاتبات السلطانيات في الباب الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى
مثال ذلك أن تكون المكاتبة إلى نائب الشأم مثلا فالذي يكتب إليه عن السلطان أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم العالي إلى آخر الألقاب الآتي ذكرها هناك ويكتب عن الخليفة سلام الله تعالى ورحمته وبركاته يخص المقر الكريم العالي إلى آخر الألقاب
قلت ولو سلكوا سبيل الخلفاء السابقين في المكاتبات الصادرة عنهم من الابتداء بلفظ من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى فلان على ما تقدم وأتوا في ألقاب المكتوب إليه بالألقاب المستعملة في ذلك الزمان في المكاتبات السلطانية مثل أن يكتب عن الإمام المتوكل على الله محمد خليفة العصر إلى نائب الشام من عبد الله ووليه أبي عبد الله محمد الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين إلى المقر الكريم العالي الأميري

الكبيري إلى آخر الألقاب المقدم بيانها في المقالة الثالثة ثم يقال وسلام على المقر الكريم فإن أمير المؤمنين يحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ثم يقال أما بعد فإن كذا وكذا ويؤتى على المقصد ويختم بالدعاء وغيره لكان أذهب مع الصواب وأوفق لمكاتبة الخلفاء السابقين وأقرب إلى اقتفاء سبيلهم

الطرف الخامس في الكتب الصادرة عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية
وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في الكتب الصادرة عنهم على سبيل الإجمال
وقد ذكر صاحب مواد البيان وكان من كبار دولتهم في المكاتبات الصادرة عنهم نحو المكاتبات الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد فقال وإن كانت المكاتبة من الخليفة فينبغي للكاتب أن يفضل من الدرج قد ذراع ثم يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في سطر أول لأنها أولى ما يستفتح به ثم يكبت في سطر ثان يلاصقها ويخرج يسيرا من عبد الله ووليه فلان بن فلان إلى فلان ويبدأ بذكر نعته إن كان الإمام شرفه بنعت سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الأئمة المهديين ويسلم تسليما ويكون هذا التصدير في سطرين يجعل بينهما فضاء قيس شبر ولا يزيده عن ذلك ولا ينقصه فيخرجه عن حده ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء نصف الذي بينهما ثم يقول أما بعد ويقتص المعاني معنى معنى فإن كان أمرا أمر به الإمام قال بعد انقضاء الكلام وأمر أمير المؤمنين بكذا ثم يقول بعد فصل أوسع من الفصل الأول فاعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه واعمل عليه بحسبه ويقول للمخاطبين من الطبقة العالية والسلام عليك ورحمة الله

ويفرد بالسلام من دونها
وقد كانت العادة جارية أن يقال في آخر الكتب النافذة عن الإمام وكتب فلان بن فلان باسم الوزير واسم أبيه ثم بطل هذا الرسم في الدولة العلوية ولا يكتب أحد بالتصدير إلا الإمام وولي عهده وهذه المكاتبة عامة للناس جميعا في الأمور السلطانية التي تنشأ فيها الكتب من الدواوين ولا يخاطب أحد عن الخليفة إلا بالكاف

الجملة الثانية في الكتب العامة وهي على أسلوبين
الأسلوب الأول أن يفتتح الكتاب بلفظ من عبد الله ووليه أبي فلان فلان
الإمام الفلاني على ما تقدم ترتيبه
وعلى هذا الأسلوب كان الحال في ابتداء دولتهم وإلى أوساطها
وهذه نسخة كتاب كتب به الإمام العزيز بالله نزار الفاطمي إلى عامله بمصر يبشره بالفتح حين خرج إلى قتال القرمطي بالشام في سنة سبع وستين وثلثمائة مما أورده المسبحي في تاريخه
من عبد الله وليه نزار أبي المنصور العزيز بالله أمير المؤمنين إلى حسين بن القاسم

سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد نبيه ورسوله وعلى الأئمة من عترته الأبرار الطاهرين المطهرين وسلم تسليما
أما بعد فالحمد لله الملك العظيم العليم الحليم ذي الطول الكريم والمن الجسيم والعز المديد والمحال الشديد ولي الحق ونصيره وماحق الباطل ومبيره المتكفل بالنصر والتمكين والتأييد والتحصين لأوليائه المتقين وخلفائه المصطفين الذابين عن دينه والقائمين بحقه والدالين على توحيده الحاكم بإعلاء كلمتهم وإفلاج حججهم وظهورهم على أعدائه المشاقين له الضالين عن سبيله الملحدين في آياته الجاحدين نعمه المنزل رجزه وقوارع بأسه على من عصاه فحاده وصد عنه فناده القاضي بالعواقب الحسنى والفوز والنعماء لمن أسلم وجهه له وتوكل عليه في أمره وفوض إليه حكمه كل ذلك فضلا منه وعدلا وقضاء فصلا وهو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون فتبارك الله الغالب على أمره الفرد في ملكه سبحانه وتعالى علوا كبيرا والحمد لله الذي ابتعث عبده المصطفى وأمينه المرتضى من أكرم سنخ ونبعه وأظهر ملته وشرعه في أفضل دهر وعصر وأنزل عليه كتابا من وحيه حكيما غير ذي عوج قيما بديع النظام داخلا في الأفهام خارجا عن جميع الكلام ليس كسجع الكهان ولا كتحبير ذوي اللسن والبيان وقد تفرقت بالأمم أهواؤهم وتوزعتهم آراؤهم فضلت أحلامهم وعميت أفهامهم واستحوذ عليهم الشيطان فعبدوا الأصنام والأوثان جهلا بعبادة الرحمن فدعاهم إلى الإقرار بإلههم وعرفهم وحدانية ربهم وكان حريصا على إرشادهم جادا في الاجتهاد هاجرا للدعة والمهاد صابرا على تكذيب المشركين وتفنيد الملحدين ينصح لهم فيستكبرون ويهديهم فيضلون ويحذرهم فيستهزئون حتى ظهر دين الله فسما وطمس

الكفر فانمحق وعفا وعمت بركته وفضلت على الأمم أمته وعلت على الملل ملته صلى الله عليه أفضل صلاة المصلين وزاده شرفا في العالمين إلى يوم الدين
والحمد لله الذي حبا أمير المؤمنين وانتخبه لخلافته وجعله صفيه من خلقه وأمينه على عباده وهاديا إلى سبيله قائما بحق مقسطا في أرضه ذابا عن دينه محييا ما أماته أهل الكفر من أحكامه وأيده بنصره وأمده بقوته وتكفل له بالنجح في مسعاه والظفر بمبتغاه ونيل طلبته فيما أمه وارتآه وحكم بكبت كل عدو له وخزيهم وإذلالهم ومحقهم وخذلهم وإيهان كيدهم وضرب الذلة عليهم حيث كانوا وأين كانوا فلا ينعق ناعق منهم بطلال أو يسعى بفسق وخبال أو يدفع إلى افتراء على الله أو مروق عن دينه أو إذهاب ما فرض الله عز و جل من طاعة إلا اصطلمه وأخزاه وأكبه لوجهه وأرداه وقضى عليه بالشقوة في دنياه وعذاب الآخرة في أخراه
والحمد لله الذي منح فأجمل وأعطى فأجزل من نعمه السابغة وآلائه المتتابعة التي لا يوازيها شكر ولا يدرك كنهها ذكر حمدا يوجب منه المزيد ويستدعي المنن والتجديد وإليه يرغب أمير المؤمنين خاضعا ويسأله راغبا حسن العون على ما بلغ رضوانه وامترى فضله وإحسانه وتقدم أمير المؤمنين إليك بما هيأه الله من وصوله إلى مدينة الرملة على أجمل صنع وألطف كفاية وأتم أمن وأكمل عز وأوطد حال وأحسن انتظام وأبسط يد وأظهر قدره وأشمل هيبة وبما أولى الله أمير المؤمنين في حله وظعنه وارتحاله وثوائه من نعمه العميمة ومواهبه الجسيمة ومنحه الجليلة ومننه الجزيلة وإنه مما يستغرق الحمد والشكر ويفوت الإحصاء والنشر وذكر أمير المؤمنين أمر اللعين التركي وهربه من بين يديه وأنه لم يلو

على شيء إلى أن بلغ طبرية للذي تداخله من الفرق واستولى عليه من القلق ولما سكن قلبه من الرعب وحشاه من الرهب بقصد أمير المؤمنين إياه وإغذاذه السير في طلبه ومواصلته الأسباب ومتابعته الإدآب ووصف أمير المؤمنين ما عليه عزمه في تتبعه واقتفاء أثره والحلول بعقونه حيث قصد وحل لثقته بالله ربه وتوكله عليه وتفويضه إليه ولم يزل جل وعز يولي أمير المؤمنين بعد نفوذ كتابه من عز يؤيده وظفر يؤكده ونصر يوطئه وآلاء يجددها ومواهب يتابعها وعدو يذله ومناو يقله وشارد يصرفه إلى طاعته ومارق يعيده إلى موالاته إلى أن تم له من ذلك ما واصل به حمد الله عليه وتهيأ له ما تواتر شكره له جل وعز فيه وكان مع ذلك مواصلا إلى اللعين الإعذار ومتابعا الإنذار ومحذرا له ما يعذر ومستدعيه إلى ما يختار ويؤثر وممنيا له مما يمنى به مثله من العفو عنه وتغمد ما جرى منه والإقالة لعثرته والتجاوز عن هفوته والامتنان عليه بما رغب فيه من تقليده ناحية من نواحي الشام وإدرار الأرزاق عليه وعلى رجاله وأصحابه وإيثارة بالفضل الجليل واختصاصه بالطول الجزيل فما نجح في الفاسق وعد ولا نجع فيه وعظ ولا وفق إلى قبول حظ ولا أصغى إلى قبول تذكرة ولا أناب إلى تبصرة وما زال جادا في تهوكه متماديا على تمهكه جاريا على ضلالته سالكا سبيل عمايته مترددا في غوايته متلددا في جهالته مقدرا أن بأس الله لا يرهقه وسطوته لا تلحقه ورجزه لا يمحقه وذنوبه لا تزهقه وأجرامه لا توبقه وما زال اللعين في خلال ذلك يبسط آمال العرب ويرجيها ويرغبها ويمينها بأقوال كاذبة وآمال خائبة ومواعيد باطلة حتى أصغى أكثرها إلى غروره وقبول إفكه

وزوره وأجابته طائفة طاغية ووصلت إليه متتابعة فتوفر جمعه وكثر عدده واشتد طمعه وقوي أمله وتمكن له باستدراج الله إياه وغضبه عليه أن يورط عصبته ومن اختدعه بغية واستفزه معه جهله ويوردهم جميعا ونفسه الرذلة موردا لا صدر له ولا علل بعده فخرج من طبرية وحل بيسان محل الخزي والهوان فعندها انتهى إلى أمير المؤمنين خبره وهو يومئذ في المنهل الذي حصل فيه بعد رحيله من الرملة وهو الموضع المعروف بالطواحين فعندما قرب استجرار الفاسق اللعين واعتمد ما يعود بأطماعه أقام في الموضع أياما ناظرا فيما يحتاج إليه متأهبا لما يريده وكان ذلك هو السبب الذي أطمعه فبعد ما طمع قاده الحين الغالب والقدر الجالب وما أراد الله عز و جل من استدراجه إلى موضع نكاله ومنهل وباله ورحل من بيسان رحيل من استعجلته البلية واستدعته الرزية فحل بموضع يعرف بكفر سلام كافرا بحدود الإسلام متجرئا على الله محاربا لنجل نبيه عليه السلام وأقام بها متلددا في حيرته مترددا في سكرته ثم استجره شؤمه وقاده حينه ولؤمه إلى أن رحل فنزل بكفر سابا البريد فأنبأه اسمها بما حل به من السبي المبيد والخزي الشديد ثم لم يلبث أن ضرب مضاربه المأكولة ونصب أعلامه المخذولة وأقام صفوفه المفلولة وأظهر آلة الحرب إقداما وأخفى عن اللقاء إحجاما
فأمر أمير المؤمنين بتزيين العساكر المنصورة والجيوش المظفرة وتعبئتها على مراتبها وترتبيها على مواكبها وتقدم إلى قوادها أن لا يمشوا إلا صفا ولا يسيروا إلا زحفا وعرفهم أنه سيسير بنفسه ويقصد اللعين بموكبه وجمهوره

ومن معه من حماة رجاله وأنه لا يثنيه عن الفاسق ثان ولا يصرفه عن الاقتحام صارف فبدا من عزائمهم وشدة شكائمهم وخلوص بصائرهم وسكون أفئدتهم وثبات أقدامهم ما كانت به دلائل النصر واضحة وشواهد الفلج لائحة وعلامات الفتح ظاهرة وآيات النجح باهرة فمشوا على ما أمروا وساروا على ما سيروا فعندما دنوا من عدوا الله أصابوه للجلاد معدا وفي المحاربة مجدا واستخاروا الله عز و جل وتدانوا للتلاق والأخذ بالنواصي والأعناق وقامت الحرب على ساق وتجرع منها أمر مذاق فاستطار شرارها وتأججت نارها وارتفع دخانها وعظم شانها والتزم بالأقران بالأقران واشتد الضرب والطعان إلى أن مشى أمير المؤمنين بنفسه وجمهور موكبه متوكلا على الله ماتا إليه بجده محمد متوسلا بمتقدم وعده وسالف إنعامه عنده وقصد اللعين غير متلوم عن مصادمته ولا معرج عن ملاحمته فقويت نفوس أوليائه وعبيده ومن اشتملت عليه عساكره المنصورة وجيوشه المظفرة بما تبينوه من إقدامه وشاهدوه من اعتزامه وحملوا على الفاسق وأحزابه وقذف الله في قلوبهم الرعب فتزلزلت أقدامهم وأرعشت أيديهم ونخبت أفئدتهم وولوا الدبر منهزمين ومنحوا ظهورهم مولين وافترقوا ثلاث فرق فرقة قتلت في المعركة وصرعت في الملحمة فاحتزت رؤوسهم وفرقة أحست وقع السيوف وإرهاق الحتوف فاستأمنت تحت الذلة والصغار والغلبة والاقتدار فبقيت عليهم الأرواح وحقنت منهم الدماء وفرقة أسرت أسرا وقيدت قيدا وهرب التركي اللعين رئيس ضلالتهم وعميد كفرهم في شريذمة من أصحابه فظن أن ذلك من بأس الله ينجيه ومن الأخذ بكظمه يوقيه هيهات كما قال الله عز و جل ( هيهات هيهات لما توعدون ) ( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) فاتبعه سرعان الخيل

وخفاف الرجال مع مفرج بن دغفل بن جراح فأخذه قبضا وأتى به قودا أسيرا من غير عهد وذليلا من غير عقد واستولى أهل العساكر المنصورة والجيوش المظفرة على مناخه وسوداه وما كان فيه من مال وأثاث وكراع وقناع وقليل وكثير وجليل وحقير فحازوه واتسعوا به واكثروا من حمد الله وانصرفوا إلى معسكرهم سالمين بالمغنم والظفر آمنين لم يكلم منهم أحد ولم ينقص لهم عدد وكان جملة ما أتوا به معهم من رؤوس الفسقة زائدا على ألف رأس ومن أسراهم ثمانمائة أسير غير من استؤمن وقت الإيقاع بهم ولم يفلت من الفسقة إلا من هرب بحشاشة نفسه مع من لاءم التركي اللعين وصاحب عقده ومورطه في هلاكه وقائده إلى نقماته وسائقه إلى موبقاته وهو كاتبه المعروف بابن الحمارة فلحق بطبرية فقتل هو وجل من كان معه واحتز رأسه وأتي به فكملت النعمة وتمت الموهبة وتجدد حمد أمير المؤمنين واتصل شكره لما أولاه من جليل عطائه وكريم حبائه وسني آلائه وكان ما آتاه الله من عظيم آياته وأكبر شواهده واختصاص الله إياه وانتخابه له فالحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله رب العالمين على عطائه الهني وحبائه السني وما أيد أمير المؤمنين وأعز الدين وقمع المشركين إذ كان الفاسق اللعين التركي الغوي المبين ثلة من ثللهم وركنا من أركانهم وحزبا من أحزابهم ووثنا من أوثانهم وطاغية من طواغيتهم ولم يكن لهم في بلد المسلمين يد تصد عنهم بأس غيرهم ولا عضد يدفعون بها سواه وأمير المؤمنين يرغب إلى الله عز و جل أن يوزعه الشكر على ما أولاه ويوجده سبيلا إلى بلوغ مبتغاه من إعزاز الملة والدين وإحياء شريعة جده سيد المرسلين ومجاهدة الترك والمشركين وقمع الظالمين والقانطين والمارقين حتى يكون الدين كله لله ويجمع القلوب على طاعته بإذن الله

أمر أمير المؤمنين بتعريفك ذلك وتلخيص الكتاب إليك لتقف عليه وتذيعه وتشهره فيما قبلك وتحمد الله على ما منح أمير المؤمنين من النصر ومكنه من الظفر فاعلمه إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم سنة سبع وستين وثلثمائة

الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بخطبة مفتتحة بالحمد لله
وعليه كان الحال في أواخر دولتهم وعليه جرى في مواد البيان في الأمثلة التي ذكرها
وهذه نسخة كتاب مما أورده في مواد البيان ببشارة بفتح وهي
الحمد لله مديل الحق ومنيره ومذل الباطل ومبيره مؤيد الإسلام بباهر الإعجاز وقصم وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز أخمد كل دين وأعلاه ورفض كل شرع واجتباه وجعله نوره اللامع وظله الماتع وابتعث به السراج المنير والبشير النذير فأوضح مناهجه وبين مدارجه وأنار أعلامه وفصل أحكامه وسن حلاله وحرامه وبين خاصه وعامه ودعا إلى الله بإذنه وحض على التمسك بعصم دينه وشمر في نصره مجاهدا من ند عن سبيله وعند عن دليله حتى قصد الأنصاب والأصنام وأبطل الميسر والأزلام وكشف غيابات الإظلام وانتعلت خيل الله بقبائل الهام

يحمده أمير المؤمنين أن جعله من ولاة أمره ووفقه لاتباع سنة رسوله واقتفاء أثره وأعانه على تمكين الدين وتوهين المشركين وشفاء صدور المؤمنين وانهضه بالمراماة عن الملة والمحاماة عن الحوزة وإعزاز أهل الإيمان وإذلال حزب الكفران ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى وصفوته المنتصى محمد أفضل من ذب وكافح وجاهد ونافح وحمى الذمار وغزا الكفار صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب سيفه القاطع ومحنه الدافع وسهمه الصارد وناصره العاضد فارس الوقائع ومعنوس الجمائع مبيد الأقران ومبدد الشجعان وعلى الطهرة من عترته أئمة الأزمان وخالصة الله من الإنس والجان وإن أولى النعم بأن يرفل في لباسها ويتوصل بالشكر إلى لباثها ويتهادى طيب خبرها ويتفاوض بحسن أثرها نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشرك وغزو أولي الباطل والإفك والهجوم عليهم في عقر دارهم واجتثاث أصلهم وهدم منارهم واستنزالهم من معاقلهم وتشريدهم عن منازلهم وتغميض نواظرهم الشوس وإلباسهم لباس البوس لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزه وخمود الإلحاد وعره وعلو ملة المسلمين وانخفاض دولة المشركين ووضوح محجة الحق وحجته وفضوح برهانه وآيته

وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك وقد انكفأ عن ديار الفلانيين والمشركين إلى دست خلافته ومقر إمامته بعد أن غزاهم برا وبحرا وشردهم سهلا ووعرا وجرعهم من عواقب كفرهم مرا وفرق جمائعهم التي تطبق سهوب الفضاء خيلا ورجلا وتضيق بها المهامه حزنا وسهلا ومزق كتائبهم التي تلحق الوهاد بالنجاد وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد وسبى الذراري والأطفال وأسر البطاريق والأقيال وافتتح المعاقل والأعمال وحاز الأسلاب والأموال واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا ومحا منها رسوم الشرك وعفاها وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوعة المسلمين من الغنائم ما أقر العيون وحقق الظنون وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذا في الدين وسرائرهم إخلاصا في طاعة أمير المؤمنين بما أولاهم الله من النصر والإظفار والإعزاز والإظهار ووضح للمشركين بما أنزله عليهم من الخذلان وأنالهم إياه من الهوان أنهم على مضلة من الغي والعمى وبعد من الرشد والهدى فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السلم والموادعة وتحملوا بذلا بذلوه تفاديا من الكفاح والمقارعة فأجابهم إلى ذلك متوكلا على الله تعالى ومتمثلا بقوله تعالى إذ يقول ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له وأقره في يده حجة مضمونة
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النعمة بنصيب مثلك من المخلصين وتعرف موقع ما تفضل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين

فتحسن ظنك وتقر عينك وتشكر الله تعالى شكر المستمد من فضله المعتد بطوله وتتلو كتاب أمير المؤمنين على كافة من قبلك من المسلمين ليعلموا ما تولاهم الله به من نصره وتمكينه وإذلال عدوهم وتوهينه فاعلم ذلك واعمل به

الجملة الثالثة في الكتب الخاصة كالمكاتبة إلى الوزير ومن في معناه
قال في مواد البيان بعد ذكر صورة المكاتبات العامة عنهم وقد يخاطب الإمام وزيره في المكاتبة الخاصة بما يرفعه فيه عن خطاب المكاتبة العامة الديوانية ويتصرف في ذلك ويزاد وينقص على حسب لطافة محل الوزير ومنزلته من الفضل والجلالة قال وليس لهذه المكاتبة الخاصة حدود ينتهي إليها ولا قوانين يعتمد عليها وطريقها مستفيضة معلومة وقد تقدم في المكاتبات الخاصة عن خلفاء بني العباس أن مكاتبة الوزير أمتعني الله بك في أدعية أخرى
الطرف السادس في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية بالأندلس
ولم أقف على شيء من المكاتبات الصادرة عنهم وإن ظفرت بشيء منها بعد ذلك ألحقته إن شاء الله تعالى

الطرف السابع في الكتب الصادرة عن الخلفاء الموحدين أتباع المهدي بن
تومرت المستمر بقاياهم الآن بتونس وسائر بلاد أفريقية وهي على أسلوبين
الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلان إلى فلان
وكان الرسم فيها أن يقال من أمير المؤمنين فلان ويدعى له بما يناسبه إلى فلان ويدعى له مبما يليق به ثم يؤتى بالسلام ثم يؤتى بالبعدية والتحميد والصلاة على النبي والترضية عن الصحابة ثم عن إمامهم المهدي ثم يؤتى على المقصود ويختم بالسلام والخطاب فيه بنون الجمع عن الخليفة وميم الجمع عن المكتوب إليه
كما كتب عن عبد المؤمن خليفة المهدي إمامهم إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد

من أمير المؤمنين أيده الله بنصره وأمده بمعونته إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد وفقه الله ويسره لما يرضاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فالحمد لله الذي له الاقتدار والاختيار ومنه العون لأوليائه والإقدار وإليه يرجع الأمر كله فلا يمنع منه الاستبداد والاستئثار والصلاة على محمد نبيه الذي ابتعثت بمبعثه الأضواء والأنوار وعمرت بدعوته الأنجاد والأغوار وخصم بحجته الكفر والكفار وعلى آله وصحبه الذين هم الكرام الإبرار والمهاجرين والأنصار والرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم القائم بأمر الله حين غيرته الأغيار وتقدم الامتعاض له والانتصار وهذا كتابنا كتب الله لكم نظرا يريكم المنهج ويلفيكم الأبهج فالأبهج وآتاكم الله من نعمة الإيمان وعصمة الانقياد له والإذعان ما تجدون به اليقين والثلج من حضرة مراكش حرسها الله تعالى ولا استظهار إلا بقوته وحوله ولا استكثار إلا من إحسانه وطوله
ولما جعل الله هذا الأمر العظيم رحمة لخلقه ومطية لرقيه وقراره لإقامة حقه وحمل حملته الدعاء إليه والدلالة به عليه والترغيب في عظيم ما عنده ونعيم ما لديه وجعل الإنذار والإعذار من فصوله المستوعبة وأحكامه المرتبة ومنجاته المخلصة من الخطوب المهلكة والأحوال المعطبة رأينا أن نخاطبكم بكتابنا هذا أخذا بأمر الله تعالى لرسوله في المضاء إلى سبيله والتحريض على اغتنام النجاء وتحصيله وإقامة الحجة في تبليغ القول وتوصيله فأجيبوا رفعكم الله داعي الله تسعدوا وتمسكوا بأمر المهدي رضي الله عنه في إتباع سبيله تهتدوا واصرفوا أعنة العناية إلى النظر في المآل والتفكر في نواشيء التغير والزوال وتدبروا جري هذه الأمور وتصرف هذه الأحوال واعلموا أنه لا عزة إلا بإعزاز الله تعالى فهو ذو العزة والجلال ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) فالدنيا دار الغرور وسوق المحال وليس لكم في قبول

النصيحة وابتداء التوبة الصحيحة والعمل بثبوت الإيمان في هذه العاجلة الفسيحة إلا ما تحبونه في ذات الله تعالى من الأمنة والدعة والكرامة المتسعة والمكانة المرفعة والتنعم بنعيم الراحة المتصلة والنفس الممتنعة فنحن لا نريد لكم ولسائر من نرجو إنابته ونستدعي قبوله وإجابته إلا الصلاح الأعم والنجاح الأتم وتأملوا سددكم الله من كان بتلك الجزيرة حرسها الله من أعيانها وزعماء شانها هل تخلص منهم إلى ما يوده وفاز بما يدخره ويعده إلا من تمسك بهذه العروة الوثقى واستبقى لنفسه من هذا الخير الأدوم الأبقى وتنعم بما لقي من هذا النعيم المقيم ويلقى وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه ورغب بنفسه عن هذا الأمر العزيز إلى ما سواه فقد علم بضرورتي المشاهدة والاستفاضة سوء منقلبه وخسارة مذهبه ومطلبه وتنقل منه حادث الانتقام أخسر ما تنقل به وحق عليكم وفقكم الله ويسركم لما يرضاه أن تحسنوا الاختيار وتصلوا الادكار والاعتبار وتبتدروا الابتدار وما حق من انقطع إلى هذا الأمر الموصول الواصل وأزمع ما يناله من خيره المحوز الحاصل أن يناله منكم شاغل يشغله عن مقصوده ويحيط به ما يصرفه عن محبوبه ومودوده فقد كان منكم في أمر أهل بلنسية حين إعلانهم بكلمة التوحيد وتعلقهم بهذا الأمر السعيد ما كان ثم كان منكم في عقب ذلك ما اعتمدتموه في أمر أهل لورقه وفقهم الله حين ظهر اختصاصهم وبان إخلاصهم وليس لذاك وأمثاله عاقبة تحمد فالخير خير ما يقصد والنجاة فيما ينزح عن الشر ويبعد وإنا لنرجو أن يكفكم عن ذلك وأشباهه إن شاء الله تعالى نظر موفق ومتاع محقق ويجذبكم إلى موالاة هذه الطائفة المباركة جاذب يسعد وسائق يرشد والله يمن عليكم بما ينجيكم ويمكن لكم في طاعته

أسباب تأميلكم وترجيكم بمنة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكتب في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ أما بعد
والأمر فيه على نحو ما تقدم في الأسلوب قبله بعد البعدية كما كتب أبو الميمون عن المستنصر بالله أحد خلفائهم إلى بعض نوابه وقد نقض العهد على بعض المهادنين من النصارى
أما بعد حمد الله الآمر بالوفاء بالعهود والصلاة على سيدنا المصطفى الكريم سيد الوجود وعلى آله وصحبه ليوث البأس وغيوث الجود والرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم الآتي بالنعت الموجود في الزمن المحدود وعن خلفائه الواصلين بأمره إلى التهائم والنجود والدعاء لسيدنا الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين بسعد تذل له النواصي ويهد الأقطار القواصي فكتبناه كتبكم الله ممن إذا هم بأمر تدبر عواقبه وإذا عزم على ركوب غرر ألفى معاطبه من فلانة كلأها الله تعالى وقد بلغنا ما كان منكم من أكتساح النصارى والزيادة على ذلك باختطاف الأسارى ونعوذ بالله من شهوة تغلب عقلا ونخوة تعقب هوانا وذلا وقد أخطأتم في فعلتكم الشنعاء من ثلاثة أوجه أحدها أنه خلاف ما أمر الله تعالى به من الوفاء بالعهد والوقوف مع العقد والثاني عصيان الأمر العزيز وفيه التغرير بالمهج وترك السعة للحرج والثالث أنكم تثيرون على أنفسكم من شر عدوكم قصمه الله شررا يستعر وضررا يعدم فيه المنتصر فليتكم إذ تجليتم بالعصيان ورضيتم الغدر المحرم في سائر الأديان ثبتم للعدو إذا دهمكم ولقيتموه بالجانب القوي متى زحمكم بل تتدرعون له الفرار وتتركونه في مخلفيكم وما اختار وقد جربتم

مرات أنكم لا ترزؤونهم ذرة إلا رزؤوكم ألف بدرة ولا تصيبونهم مرة إلا أصابوكم ألف مرة وإلى متى تنهون فلا تنتهون وحتام تنبهون فلا تنتبهون فإذا وافاكم كتابنا هذا بحول الله وقوته فأدوا من أسرتم إلى مأمنه وردوا ما انتهبتم إلى مسرحه ولا تمسكوا من الأسارى بشعرة ولا من الماشية بوبرة ومن سمعنا عنه بعد وصول هذا الكتاب أنه تعدى هذا الرسم وخالف هذا الحكم أنفذنا عليه الواجب وحكمنا فيه المهند القاضب فلتسرع من نومة الغفلة إفاقتكم ولا تتعرضوا من الشر لما تعجز عنه طاقتكم ونحن متعرفون ما يكون منكم من تأن أو بدار ومقابلون لكم بما يصدر عنكم من إقرار وإنكار وهو يرشدكم بمنه والسلام عليكم ورحمة الله
قلت ثم طرأ بعد ذلك الإكثار من ألقاب خلفائهم في المكاتبات الصادرة عنهم والمبالغة في مدحهم وإطرائهم على ما سيأتي ذكره في الكلام على المكاتبات الواردة من ملوك الأقطار إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية فيما بعد إن شاء الله تعالى

الطرف الثامن في الأجوبة وهي على ضربين
الضرب الأول ما يضاهي الأجوبة في الابتداء وهو على أسلوبين
الأسلوب الأول أن يفتتح الجواب بلفظ من فلان إلى فلان
مثل أن يكتب من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى آخر الصدر على ما تقدم في الابتداءات ثم يقال أما بعد وينساق

منه إلى ذكر الكتاب الوارد وعرضه على الخليفة وما اقتضته آراء الخلافة فيه ويكمل على نحو الابتداء كما كتب عن المقتفي لأمر الله إلى غياث الدين مسعود بن ملكشاه السلجوقي في جواب كتابه الوارد عليه يخبره بأن بعض من كان خرج عن طاعته دخل فيها وانحاز إليه وهو
من عبد الله أبي عبد الله محمد الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين إلى فلان بألقابه
أما بعد أطال الله بقاءك فإن كتابك عرض بحضرة أمير المؤمنين معربا عن أخبار سعادتك وجرى الأمور على إرادتك وبلوغ الأغراض من الوجهة التي توجهت إليها والأطراف التي أشرقت سعادتك عليها بميامن ما تثق به من الطاعة الإمامية وتضمره وتعتقده من الإخلاص وتستشعره وأن ركن الدين محمدا ومن انضم إلى جملته وانتظم في سلك موافقته لما ظفروا منك بذمام اطمأنوا إليه وسكنوا وأمان وثقوا به وركنوا أبصروا الرشد فاتبعوه واستجابوا الداعي إذ سمعوه وأذعنوا لطاعتك مسرعين وانقادوا إلى متابعتك مهطعين على استقرار مسيرهم تحت لوائك إلى باب همذان ليكون تقرير القواعد الجامعة للمصالح عند وصلوها والتوفر على تحري ما تقر به الخواطر مع حلولها والانفصال إلى من يفد إلى الأبواب العزيزة مؤتنسا بقرب الدار ومستسعدا بالخدمة الشريفة الإمامية المؤذنة ببلوغ الأوطار ووقف عليه وعرف مضمونه وجدد ذلك لديه من الابتهاج والاغتباط الواضح المنهاج ما تقتضيه ثقته بجانبك واعتقاده وتعويله على جميل معتقدك واعتماده واعتضاده من طاعتك بحبل لا تنقض الأيام مبرمه وسكونه من ولائك إلى وزر لا تروع المخاوف حرمه وواصل شكر الله تعالى على ما شهدت به هذه النعمة العميمة والموهبة الجسيمة من إجابة الأدعية التي ما زالت جنودها نحوك مجهزة

ووعوده جلت عظمت بقبول أمثالها منجرة وإمدادك منها بأمداد تستدعي لك النصر وتستنزله وتستكمل الحظ من كل خير وتستجزله وتبلغ الأمل منك فيمن هو العدة للملمات والحامي لتقرير الأنس من روائع الشتات ومن ببقائه تكف عن الامتداد أكف الخطوب وتطلق وجوه المسار من عقل القطوب ويأبى الله العادل في حكمه وحكمته الرؤوف بعباده وخليقته إلا إعلاء كلمة الحق بالهممم الإمامية والإجراء على عوائد صنيعته الحفية الكافلة بصلاح العباد والرعية وقد أقيمت أسواق التهنئة بهذه البشرى وأفادت جذلا تتابع وفوده تترى لا سيما مع الإشارة إلى قرب الأوبة التي تدني كل صلاح وتجلبه وتزيل كل خلل أتعب القلوب وتذهبه وإلى الباري جل اسمه الرغبة في اختصاصك من عنايته بأحسن ما عهدته وأجمله وصلة آخر وقتك في نجح المساعي بأوله وأن لا يخلي الدار العزيزة من إخلاصك في ولائها ورغبتك في تحصيل مراضيها وشريف آرائها
هذه مناجاة أمير المؤمنين أدام الله تأييدك ابتغى الله جزاءك فيها على عادة تكرمته وأعرب بها عن اعتقاده فيك وطويته ومكانك الأثيل في شريف حضرته وابتهاجه بنعمة الله عندك وخيرته فتأملها تأملا يشاكل طاعتك الصافية من الشوائب والأقذاء وتلقها بصدق الاعتماد عليها وحسن الإصغاء تفز بالإصابة قداحك ويقرن بالتوفيق مغداك ومراحك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكما كتب بعض كتاب الفاطميين عن الحافظ لدين الله أحد خلفائهم إلى شمس الدولة أبي منصور محمد بن ظهير الدين بن نوري بن طغتكين ببعلبك جوابا عن كتابه الوارد عنه على الخليفة ويذكر أنه حسن لفخر الملك رواج وروده على الخليفة بالديار المصرية ويذكر نصرته على الفرنج بطرابلس وقتله القومص ملكها

من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى الأمير فلان
أما بعد فإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين كتابك من يد فتاه ووزيره وصفيه وظهيره السيد الأجل الأفضل الذي بذل نفسه في نصرة الدين تقى وليانا وأوضح الله للدولة الحافظية بوزارته حجة وبرهانا وأسبغ النعمة على أهلها بأن جعله فيهم ناظرا ولهم سلطانا ووفقه في حسن التدبير والعمل بما يقضي بمصالح الصغير والكبير وبما أعاد المملكة إلى أفضل ما كانت عليه من النضرة والبهجة ولم يخرج المادحون لها إذا اختلفوا عن التحقيق وصدق اللهجة فقد ساوت سياسته بين البعيد والقريب وأخذ كل منهما بأجزل حظ وأوفر نصيب وسارت سيرته الفاضلة في الآفاق مسير المثل واستوجب من خالقه أجر من جمع في طاعته بين القول والعمل وشفع عرضه من وصفك وشكرك والثناء عليك وإطابة ذكرك وأنهى ما أنت عليه من الولاء وشكر الآلاء بما يضاهي ما ذكرته فيه مما علم عند تلاوته وأصغي إليه عند قراءته وقد استقر بحضرة أمير المؤمنين مكانك من المشايعة وموقعك من المخالصة وكونك من ولاء الدولة على قضية كسبتك شرفا تفيأت ظلاله وأفاضت عليك ملبسا جررت أذياله وسمت بك إلى محل لا يباهي من بلغه ولا يطاول من ناله وكنت في ذلك سالكا للمنهج القويم ومعتمدا ما أهل بيتك عليه في القديم ولا جرم أنه عاد عليك من حسن رأي أمير المؤمنين بما تقصر عنه كل أمنية ويشهد لك بمخالصة جمعت فيها بين عمل ونية والله يضاعف أجرك على اعتصامك من طاعة أمير المؤمنين بالحبل المتين ويوزعك شكر

ما منحك من الاستضاءة بنور الحق المبين
فأما الأمير الاسفهسلار فخر الملك رواج وبعثك له على الوصول إلى الباب وحضك إياه على التعلق من الخدمة بمحصد الأسباب فما كان الإذن له في ذلك إلا لأن كتابه وصل بملتمسه وعرض فيه نفسه وبذلك المناصحة والخدمة ويسأل سؤال من يعرف قدر العارفة بالإجابة إليه وموقع النعمة فأجيب إلى ذلك إسعافا له بمراده وعملا برأي الدولة فيمن يرغب إلى التحيز إليها من أقطاره وبلاده وإلا فلا حاجة لها إليه ولا إلى غيره لأن الله تعالى وله الحمد وفر حظها من الأولياء والأشياع والأنصار والأتباع والعساكر والجيوش والأجناد والأنجاد والأعوان الأقوياء الشداد وعبيد الطاعة الذين يتبارون في النصح ويتنافسون في الاجتهاد والحرص وسعة الأموال وعمارة الأعمال وجمع الرجال في العزائم بين الأفعال والأقوال ولو وصل المذكور لكانت المنة للدولة عليه والحاجة له في ذلك لا إليه قال الله عز من قائل ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين )
وأما توجهه إلى طرابلس وظفره بقومصها وقتله إياه مع من بها وعظيم أمره فيها فالله تعالى يعز الإسلام وينشر لواءه ويعلي مناره ويخذل أعداءه وينصر عساكره وأجناده ويبلغه في أحزاب الكفر والضلال مراده وهو عز و جل يمتعك من الولاء بما منحك وينيلك في دينك ودنياك أملك ومقترحك فاعلم هذا واعلم به إن شاء الله تعالى

الأسلوب الثاني أن يفتتح الجواب بلفظ أما بعد
كما كتب عن المقتفي إلى السلطان محمود بن محمد السلجوقي جوابا

عن كتابه الوارد بإخباره باجتماعه مع عمه سنجر ونسخته
أما بعد فإن كتابك عرض بحضرة أمير المؤمنين ناطقا بدرك الأوطار وحصول المقاصد على الآثار وما أنهيته من الاجتماع بعز الدنيا والدين جمع الله في طاعته شملكما ووصل بالألفة والتوادد حبلكما ومن إكرام الوفادة الذي أنت أهله ووليه وحقيق أن يتبع وسميه لديك وليه والموافقة على كل حال آذنت ببلوغ الأغراض وتيسرها ونجاز المساعي على أتم وفاق وتقررها وانتظام الأمور على أجمل معتاد وأكمل مراد وأحسن اتساق واطراد واستقرار القواعد على الوصف الجامع أشتات الاتفاق الدال على صدق المحافظة بينكما وفرط الإشفاق محفوفا بالسعادة التي لا تزال مآثرك في الطاعة الإمامية تملك قيادها وتقلدك على الاتصال نجادها فتهللت بهذا النبأ المبهج أسرة البشرى وأصبح الجذل بمكانه أفعم عرفا وأذكى نشرا وقامت لأجله في عراص الدار العزيزة مواسم أضحت المسرة بها مفترة الثغور ضاحكة المباسم وجدير بمن كان له من الهمم الشريفة مدد واف ومنجد يدفع في صدر كل خطب مواف أن تكتنفه الميامن والسعود ويصدق في كل مرمى ينحوه من النجح الموعود وتنقاد له المصاعب ذللا ويعود بيمن نقيبته كل عاف من الصلاح جديدا مقتبلا ولا ينفك صنع الله جل اسمه لطيفا وبرباعه محدقا مطيفا والتوفيق مصاحبه أنى حل وثوى أو ثنى عنانه إلى وجه ولوى والله يمتع أمير المؤمنين منك بالعضد الذي يذب عن دولته ويحامي ويناضل دونها بجنود الإخلاص ويرامي

يخليك من رعايته التي لا يزال يستقر فيها إليك ويرغب إليه في إسباغ لباسها عليك حتى تتسنى لك المطالب معا ويغدو الزمان فيما ينشأ متبعا
هذه مفاوضة أمير المؤمنين إليك أدام الله تأييدك أجراك فيها على مألوف العادة وجدد لك بها برود الفخار والسعادة فاجر على وتيرتك في إتحاف حضرته بطيب أخبارك ومجاري الأمور في إيرادك وإصدارك تهد إليها ابتهاجا وافرا وابتساما يظل لثامه عن حمد الله المسند بها سافرا إن شاء الله تعالى

الضرب الثاني أن يكون الافتتاح في الجواب مصدرا بما فيه معنى وصول
المكاتبة إلى الخليفة
فقد جرت عادة المتقدمين من الكتاب في التعبير عن ذلك بلفظ العرض على الخليفة ويؤتى فيه على ما تضمنه الكتاب المجاب عنه ثم يختم كما تختم الابتداآت
كما كتب العلاء بن موصلايا عن القائم بأمر الله إلى أتسز عند ورود كتابه على أبواب الخلافة يتضمن انتظامه في سلك الطاعة وغلبته الأعداء وهو عرض بحضرة أمير المؤمنين ما ورد منك دالا على تمسكك من الطاعة الإمامية بما لا تزال تجد فيه ملابس التوفيق حالا بعد حال وتجد به مرائر السعد محصفة في كل حل وترحال منبئا عن توفرك على المقامات التي انتقمت بها للهدى من الضلال واستعمت فيها حتى أجلت عن كل صلاح ممتد الظلال شاهدا بما أنت عليه من موالاة لا تألوا جهدا في التزام شروطها بادئا عائدا ولا تخلو فيها من حسن أثر يكون لدعائم الصواب عامدا وترى فيه قاصدا لاجتلاب

الخير عائدا ووقف عليه وقوف من ارتضى ما يتوالى من قرباتك التي لا تزال في إعذاب ورودها ساعيا ولما يفضي إلى إعشاب مرعاها في طلب الحمد مراعيا وانتضى منك للخدمة بتلك الأعمال حساما باترا آجال بقايا الكفر هناك ماضيا في كل ما يقضي بانفساح مجال آمالك في الدهر ومبارك واعتد لك بما أنهاه عنك رسول أمير المؤمنين العائد من قبلك وأوضحه من زلفك التي شفع قولك فيها عملك وطالع به الرسول الذي نفذته معه لقصد بابه والمناب في تأكيد دواعي النجح وتمهيد أسبابه وحل كل ذلك لديه المحل الذي ستجني ثمره كلما يطيب ويحلو ويسلم من كل الاستزادة ويخلو ويعز مهر الفوز به على غيرك ويغلو وتأثل لك من الرتبة بحضرته ما يدني لك كل مطلب إلى مرادك آئل ويدوي قلب كل منحرف عن وفائك مائل وصرت من أعيان الخلصاء الذين وسمت الهدى أفعالهم بالحمد وسمت بالطاعة آمالهم إلى توقل هضاب المجد فما تهم بك الغير إلا وتنقطع دونك أعناقها وترجع في جلباب الخيبة وحيصها إليك وإعناقها ولا تمتد نحوك يد ضد إلا ردها عنك جميل الآراء الشريفة فيك وغلها وأوجب نهلها عن موارد القصور وعلها وكيف لا يكون ذاك ولك في الطاعة كل موقف اغتذى بلبان الحمد واعتنى باشتهاره بلوغ المدى في وصفه والحد فأحسن الله توفيقك فيما أنت بإزائه من إخماد لهب الباطل بتلك الشعاب وإجهاد النفس في إخمال المتاعب وإذلال الصعاب وأمدك بالعون على ما بدأت له من جب . . . فيما يليك وطب أدواء الفساد في نواحيك ومع ما فزت به من هذه المنحة التي قد جاز قدرها التقدير والظن وجاد لك الدهر فيها بما كان شح به على أمثالك وضن فيجب أن تستديمها وتحصن من النغل أديمها بمزيد من الخدمة تنتهز

بالإسراع إليه والبدار وتنتهج أقوم الجدد في مقابلة الإيراد منه بالإصدار وتنفد وسعك في كل مسعى ينثني إليك عنان الثناء معه وتنفق عمرك في كل أمر يجمع لك مرأى الرضا عنك ومسمعه لتجد من جدوى ذلك ما ينظم في السعادة شملك ويضحى به القياد فيما يصدق أملك أملك وأن تحمد السيرة في الرعايا الذين غدوا تحت كنفك وتجعل الاشتمال على مصالحهم معربا عن فضل شغفك بالخير وكلفك فإنهم ودائع الله تعالى يلزم أن تحمى من ضياع يتسلك عليها في حال وتحيا من در الإحسان برضاع لا يخطر الفطام عنه ببال فلا تقفن عند غاية في إفاضة الفضل عليهم وإسباغ ظله واعتمادهم بتخفيف ثقل الحيف عنهم أو إزالة كله ليكونوا في أفياء الأمن راتعين ولخرق كل ملم بحسن ملاحظتك راقعين فالذي يراه أمير المؤمنين في فرضك حتى يزداد باعك طولا ولا يترك لك على الزمان اقتراحا ولا سولا يقتضي أن يتبع كل سابق إليك من الإحسان بلاحق ويمرع جناب النعمى لديك عند ذر كل شارق وكذلك يرى أن يجدد لك من تشريفه المنور مطالع الفجر المنوه بالذكر في الدهر الذي لا تزال الهمم العالية تصبو إلى الفوز به وتميل وتقف عند حد الرجاء والتأميل ما أصحب رسولك المشار إليه لتدرع من خلاله ما الشرف الأكبر في مطاويه وتمتطي من صهوة العز فيه ما يبعد على النظراء إدراك مراميه ويجب أن تتلقى مقدم ذلك عليك بما ينبيء عن اقتران النعمة الغراء فيه وأقمار أهلة التوفيق عندك بما تقصد في المعنى وتنتحيه وإذا عاد رسولك إلى باب أمير المؤمنين حسب ما ذكرت أصدر على يده من ضروب التشريفات ما يقر فيك عيون من يودك ويقر في مغانيك كل سعد يوري فيه زندك فاسكن إلى حبائك بالمزيد من كل رتبة أهلت لها وكن بحيث الظن فيك توقر عليك أقسام الحمد كلها وثق بمترادف آلاء ينضم لديك شملها ويثقل كل كاهل حملها إن شاء الله تعالى

الطرف التاسع في الكتب الصادرة عن ولاة العهد بالخلافة
لم أقف على مكاتبة صريحة التصوير عن ولاة العهد غير أن الإمام أبا جعفر النحاس في صناعة الكتاب بعد أن ذكر أن صورة المكاتبة عن الخليفة من عبد الله أبي فلان فلان الإمام الفلاني إلى فلان أتبع ذلك بأن قال وليس أحد من الرؤساء يكاتب عنه بالتصدير إلا الإمام وولي العهد ولم يزد على ذلك وقد فسر ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب التصدير بأن قال يكتب من عبد الله أبي فلان فلان باسمه وكنيته ونعته ويقال أمير المؤمنين أبي فلان
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو إلى آخره على ما تقدم بيانه
وذكر النحاس في الكلام على العنوان من الرئيس إلى المرؤوس أنه يحذف من الكتاب عن ولي العهد لفظ الإمام ولفظ أمير المؤمنين ويقال فيه ولي العهد وظاهر ذلك أن المكاتبة عن ولي العهد مشابهة للمكاتبة عن الخليفة وأن لفظ ولي العهد في المكاتبة عنه يقوم مقام أمير المؤمنين في المكاتبة عن الخليفة نفسه وحينئذ فيتجه أن تكون المكاتبة عنه من عبد الله أبي فلان فلان المعتضد بالله مثلا ولي عهد المسلمين سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله أما بعد فإن كذا وكذا ويؤتى على المقصد إلى آخره وعلى ذلك يدل كلام صاحب ذخيرة الكتاب فإنه قال بعد ذكر المكاتبة عن الخليفة وكذلك المكاتبة عن ولي العهد على أن المكاتبة ولي العهد قد بطلت في زماننا جملة

الطرف العاشر من المكاتبات عن الخلفاء المكاتبات إلى أهل الكفر
وكان الرسم فيها أن يكتب من فلان إلى فلان ويقع التخلص فيها إلى المقصود بأما بعد ويختم الكتاب بلفظ والسلام على من أتبع الهدى فقد حكى أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل أنه كان على الروم ملكة وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد فخافت أمه على ملك الروم فقتلته فخرج عليها تقفور ملك الروم فقتلها واستولى على ملكها وكتب إلى الرشيد
أما بعد فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه ووضعت نفسها موضع الرخ وينبغي أن تعلم أني انا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك فلما قرأ الكتاب قال لكتابه أجيبوا عنه فكتبوا ما لم يرتضه فكتب هو إليه
من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى تقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام على من اتبع الهدى
ويقال إنه كتب الجواب ما تراه لا ما تسمعه وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ولا يخفى ما في ذلك من البلاغة مع الإيجاز
وكما كتب عن الحافظ لدين الله أحد خلفاء الفاطميين بمصر إلى صاحب صقلية وما معها من ملوك الفرنج

من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى الملك بجزيرة صقلية وأنكورية وأنطاكية وقلورية وسترلو وملف وما انضاف إلى ذلك وفقه الله في مقاصده وأرشده إلى العمل بطاعته في مصادره وموارده
سلام على من اتبع الهدى وأمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الواصل من جهتك ففض ختامه واجتلى وقريء مضمونه وتلي ووقعت الإصاخة إلى فصوله وحصلت الإحاطة بجمله وتفاصيله والإجابة تأتي على أجمعه ولا تخل بشيء من مستودعه أما ما افتتحته به من حمد الله تعالى على نعمه وتوسيعك القول فيما أولاك من إحسانه وكرمه فإن مواهب الله تعالى ومننه التي جعل تواليها اختبار شكر العبد وامتحانه على أنه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عليم وهو القائل فيمن أثنى عليهم ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ) لا يزال مضاعفها ومرادفها ومتبعا سالفها آنفها وهو يوليها كلا من عبيده بقدر منزلته عنده ويخص أصفياءه بأوفى مما تمناه الآمل المبالغ ووده والله تبارك وتعالى يمنح أمير المؤمنين وآباءه الأئمة الراشدين ما غدت مستقدمات الحمد والشكر عند لوازمه مستأخرة إذ كان أفردهم دون الخليقة بأن أعطاهم الدنيا ثم أعطاهم معها الآخرة وأختصهم من حبائه بما لا يحصيه عدد وخولهم من آلائه بما لا يقوم بشكره أحد

وأما ما ذكرته من افتتاحك الجزيرة المعروفة بجربة لما شرحته من عدوان أهلها وعدولهم عن طرق الخيرات وسبلها واجترائهم في الطغيان على أسباب لا يجوز التغافل عن مثلها واستعمالهم الظلم تمردا وتماديهم في الغي تباهيا في الباطل وغلوا يأسا من الجزاء لما استبطأوه فإن من كانت هذه حالته حقيق أن تكون الرحمة عنه نائية وخليق أن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية كما أنه من كان من أهل السلامة وسالكا سبيل الاستقامة ومقبلا على صلاح شانه وغير متعد للواجب في سره وإعلانه تعين أن نوفر من الرعاية سهمه ونجزل من العناية نصيبه وقسمه ويؤمن مما يقلقه ويزعجه ويقصد بما يسره ويبهجه ويصان عن أن يناله مكروه ويحمى من أذى يلم به ويعروه
وأما شكرك لوزيرك الأمير تأييد الدولة وعضدها عز الملك وفخره نظام الرياسة أمير الأمراء فإن من تهذب بتهذيبك وتخلق بأخلاقك وتأدب بتأديبك لا ينكر منه إصابة المرامي ولا يسستغرب عنده نجح المساعي وواجب عليه أن لا يجعل قلبه إلا مثوى للنصائح وأن لا يزال عمره بين غاد في المخالصة ورائح
وأما المركب العروس ووصول كتاب وكيله ذاكرا ما اعتمده مقدم أسطولك من صونه وحمايته وحفظه ورعايته وإعادة ما كان أخذ منه قبل المعرفة بأنه جار في الديوان الخاص الحافظي ففعل يجمل عنك صدره ويليق بك أن ينسب إليك ذكره وخبره ويدل على علم أصحابك برأيك وإحكام معاقدة المودة ويعرب عن إيثارك إبرازها كلما تقادم عهدها في ملابس بهجة مستجدة وهذا الفعل من خلائقك الرضية غير مستبدع وقد ذخرت منه عند أمير المؤمنين ما حصل في أعز مقر وأكرم مستودع لا جرم أن أوامره خرجت إلى مقدمي

أساطيله المظفرة بما يجنيك ثمرة ما غرسته ويعلي منار ثنائك الذي قررته على أقوى أصل وأسسته وقد نفذت مراسيمه بإجرائك على غلاتك المستمرة في المسامحة بما وجب للديوان عما وصل برسمك على مراكبك وبرم الأمير تأييد الدولة وزيرك والرسولين الواردين عن حق الورود إلى ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى ثم إلى مصر حرسها الله وحق الصدور عنهما وكل ما يصل من جهتك فعلى هذه القضية
وأما شكرك على الأسرى الذين أمر أمير المؤمنين بإطلاقهم إجابة لرغبتك ورسم بتسييرهم إليك محافظة على مرادك وبغيتك فأوزعنا شعارهم أنهم عتقاء شفاعتك وأرقاء منتك فذلك من الدلائل على ما ينطوي عليه من جميل الرأي وكريم النية ومن الشواهد بأنه يوجب لك ما لا يوجبه لأحد من ملوك النصرانية
وأما سؤالك الآن في إطلاق من تجدد أسره وإنهاؤك أن ذلك مما يهمك أمره فقد شفعك أمير المؤمنين بالإجابة إليك على ما ألف من كريم شيمته وسير إليك مع رسولك من تضمن الثبت ذكر عدته وقد علمت ما كان من أمر بهرام ووصوله إلى الدولة الفاطمية خلد الله ملكها شريدا طريدا قد نبت به أوطانه وقذفته دياره لا مال له ولا حال ولا عشيرة ولا رجال فقبلته أحسن قبول وبلغت به في الإحسان ما يزيد على السول وغمرته من الإنعام ما يقصر عن اقتراحه كل أمل وجعلته فواضلها يقلب الطرف بين الخيل والخول وكانت أموره كل يوم في نمو وزيادة وأحواله توفي على البغية والإرادة إلى أن جرت نوبة اقتضى التدبير في وقتها أن عدقت به الوزارة ونيطت به السفارة فوسوس له خاطره ما زخرفه البطر وزينه وصوره الشيطان وحسنه وأظهر ما ظهرت أماراته ووضحت أدلته وعلاماته فاستدعى قبيله وأسرته وجنسه وعشيرته بمكاتبات منه سرية وخطوط عثر عليها بالأرمنية فكانوا يصلون أول أول إلى أن اجتمع منهم عشرون ألف رجل من فارس وراجل ومن جملتهم ابنا أخيه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39