كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

ووقف به عند ما جهله قال في المثل السائر وهو أول ما ينبغي إثبات معرفته على أنه ليس مختصا بهذا العلم خاصة بل بكل علم لا بل ينبغي معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي ليأمن معرة اللحن قال صاحب الريحان والريعان ولم يزل الخلفاء الراشدون بعد النبي يحثون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها إذ هي من الدين بالمكان المعلوم والمحل المخصوص قال عثمان المهري أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء ويذكر فيها تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة وكان لخالد بن يزيد بن معاوية أخ فجاءه يوما فقال إن الوليد بن عبد الملك يعبث بي ويحتقرني فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره وعبد الملك مطرق فرفع رأسه وقال ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) الآية فقال خالد ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) الآية فقال عبد الملك أفي عبد الله تكلمني وقد دخل علي فما أقام لسانه لحنا فقال خالد أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان فقال خالد وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد في كلام كثير طويل ليس هذا موضع ذكره
وقال الرشيد يوما لبنيه ما ضر أحدكم لو تعلم من العربية ما يصلح به لسانه أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته ومن كلام مالك بن أنس الإعراب حلي اللسان فلا تمنعوا ألسنتكم حليها ولله در أبي

سعيد البصري حيث يقول
( النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن )
( وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن )
قال صاحب الريحان والريعان واللحن قبيح في كبراء الناس وسراتهم كما أن الإعراب جمال لهم وهو يرفع الساقط من السفلة ويرتقي به إلى مرتبة تلحقه بمن كان فوق نمطه وصنفه قال وإذا لم يتجه الإعراب فسد المعنى فإن اللحن يغير المعنى واللفظ ويقلبه عن المراد به إلى ضده حتى يفهم السامع خلاف المقصود منه وقد روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ ( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) بجر رسوله فتوهم عطفه على المشركين فقال أو بريء الله من رسوله فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية على أن الحسن قد قرأها بالجر على القسم وقد ذهب على الأعرابي فهم ذلك لخفائه وقرأ آخر ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) برفع الأول ونصب الثاني فوقع في الكفر بنقل فتحة إلى ضمة وضمة إلى فتحة فقيل له يا هذا إن الله تعالى لا يخشى أحدا فتنبه لذلك وتفطن له وسمع أعرابي رجلا يقول أشهد أن محمدا رسول الله بفتح رسول الله فتوهم أنه نصبه على النعت فقال يفعل ماذا وقال رجل لآخر ما شانك بالنصب فظن أنه يسأله عن شين به فقال عظم في وجهي وقال رجل لأعرابي كيف أهلك بكسر اللام وهو يريد السؤال عن أهله فتوهم أنه يسأل عن كيفية هلاك نفسه فقال صلبا ودخل رجل

على زياد بن أبيه فقال إن أبونا مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله فقال زياد للذي أضعته من كلامك أضر عليك مما أضعته من مالك وقيل لرجل من أين أقبلت فقال من عند أهلونا فحسده آخر حين سمعه وظن ذلك فصاحة فقال أنا والله أعلم من أين أخذها من قوله ( شغلتنا أموالنا وأهلونا ) فأضحك كل منهما من نفسه قال صاحب الريحان والريعان وكان من يؤثر عقله من الخلفاء يعاقب على اللحن وينفر من خطإ القول ولا يجيز أن يخاطب به في الرسائل البلدانية ولا أن يوقف به على رؤوسهم في الخطب المقامية قال وهو الوجه فأنديتهم مطلب الكمال ومظان الصواب في إحكام الأفعال فكيف في إحكام الأقوال قال ابن قادم النحوي وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي وهو أمير فأحضرني فلم أدر ما السبب فلما قربت من مجلسه تلقاني كاتبه على الرسائل ميمون بن إبراهيم وهو على غاية الهلع والجزع فقال لي بصوت خفي إنه إسحاق ومر غير متلبث حتى رجع إلى إسحاق فراعني ما سمعت فلما مثلت بين يديه قال كيف يقال وهذا المال مال أو وهذا المال مالا فعلمت ما أراد ميمون الكاتب فقلت له الوجه وهذا المال مال ويجوز وهذا المال مالا فأقبل إسحاق على ميمون كاتبه بغلظة وفظاظة ثم قال الزم الوجه في كتبك ودع ما يجوز ورمى بكتاب كان في يديه فسألت عن الخبر فإذا بميمون قد كتب عن إسحاق إلى المأمون وهو ببلاد الروم وذكر مالا حمله إليه فقال وهذا المال مالا فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته تكاتبني باللحن ويقال إنه لم يتجاوز موضع اللحن في قراءة الكتاب فقامت

عند إسحاق فكان ميمون الكاتب بعد ذلك يقول لا أدري كيف أشكر ابن قادم بقى علي روحي ونعمتي ووقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عماله فيه لحن في لفظه فكتب إلى عامله قنع كاتبك هذا سوطا معاقبة على لحنه قال أحمد بن يحيى كان هذا مقدار أهل العلم وبحسبه كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل قال صاحب الريحان والريعان فكيف لو أبصر بعض كتاب زماننا هذا قلت قد قال ذلك في زمانه هو وفي الناس بعض الرمق والعلم ظاهر وأهله مكرمون وإلا فلو عمر إلى زماننا نحن لقال ( تلك أمة قد خلت )
ثم المرجع في معرفة النحو إلى التلقي من أفواه العلماء الماهرين فيه والنظر في الكتب المعتمدة في ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين
واعلم أن كتب النحو من المبسوطات والمختصرات والمتوسطات أكثر من أن يأخذها الحصر ومن الكتب المعتمدة في زماننا عند أبناء المشرق المفصل للزمخشري والكافية لابن الحاجب وعند المصريين كتب ابن مالك كالتسهيل والكافية الشافية والألفية وغير ذلك من كتب ابن مالك وغيرها
قال أبو جعفر النحاس وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلمي العربية جهلا وتعديا حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن القاسم بن مخيمرة قال النحو أوله شغل وآخره بغي قال وهذا كلام لا معنى له لأن أول الفقه شغل وأول الحساب شغل وكذا أوائل العلوم أفترى الناس تاركين العلوم من

أجل أن أولها شغل قال وأما قوله وآخره بغي إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو وآستحقر من يلحن فهذا موجود في غيره من العلوم من الفقه وغيره في بعض الناس وإن كان مكروها وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل فهذا كلام محال فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن وهي لغة النبي وكلام أهل الجنة أهل السماء ثم قال بعد كلام طويل وقد كان الكتاب فيما مضى أرغب الناس في علم النحو وأكثرهم تعظيما للعلماء حتى دخل فيهم من لا يستحق هذا الاسم فصعب عليه باب العدد فعابوا من أعرب الحساب وبعدت عليهم معرفة الهمزة التي ينضم وينفتح ما قبلها أو تختلف حركتها وحركة ما قبلها فيكتبون يقرؤه بزيادة ألف لا معنى لها في كلام آخر يتعلق بالهجاء ليس هذا موضع لذكره أما التعمق في الإعراب والمبالغة فيه فإن حكمه في الاستكراه حكم التقعر في الغريب وقد كانوا يذمون من يتعاناه ويسخرون بمن يتعاطاه قال الأصمعي خاصم عيس بن عمر النحوي رجلا إلى بلال بن أبي بردة فجعل عيسى يشبع الإعراب ويتعمق في الألفاظ وجعل الرجل ينظر إليه فقال له القاضي لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليه من تركه الإعراب فلا تتشاغل به واقصد بحجتك وخاصم نحوي نحويا آخر عند بعض القضاة في دين عليه فقال أصلح الله القاضي لي على هذا درهمان فقال خصمه والله أصلحك الله إن هي إلا ثلاثة دراهم ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهما فهذا وشبهه قد صار مذموما والمتشبث به ملوما ولذلك كان بعض الكتاب لشدة اقتداره على الإعراب يعرب كلامه ولا يخيل إلى السامع أنه يعرب فإن عرض مع التعمق في الإعراب لحن كان

ذلك أبلغ في الشناعة وأجدر بتوجه اللوم على صاحبه والسخرية من المتكلم به وقد قال الجاحظ إن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتشديق والتمطيط والجهورية والتفخيم وقال وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طريق السابلة وبقرب مجامع الأسواق وعلى الجملة فالنحو لا يستغنى عنه ولا يوجد بد منه إذ هو حلي الكلام وهو له كما قيل كالملح في الطعام قال في المثل السائر والجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجهل به نفسه لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون باللغة فوجب اتباعهم ولذلك لم ينظم الشاعر شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة قال ولذلك لم يكن اللحن قادحا في نفس الكلام لأنه إذا قيل جاء زيد راكب بالرفع لو لم يكن حسنا إلا بأن يقال جاء زيد راكبا بالنصب لكان النحو شرطا في حسن الكلام وليس كذلك فتبين أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته وإنما وإنما الغرض أمر وراء ذلك وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من المنثور مع ما حكي أن اللحن وقع لجماعة من الشعراء المتقدمين في شعرهم كقول أبي نواس في محمد الأمين
( يا خير من كان ومن يكون ... إلا النبي الطاهر المأمون ) فرفع المستثنى من الموجب وكقول المتنبي
( أرأيت همة ناقتي في ناقة ... نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا )
( تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا )
( وتكرمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه وليس مسكا أذفرا ) فجمع في حالة التثنية لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان وقد قال ركباتها
واعلم أن اللحن قد فشا في الناس والألسنة قد تغيرت حتى صار

التكلم بالإعراب عيبا والنطق بالكلام الفصيح عيا قلت والذي يقتضيه حال الزمان والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي الشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة حتى حكي أن الفراء مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو دخل يوما على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه فقال جعفر بن يحيى يا أمير المؤمنين إنه قد لحن فقال الرشيد للفراء أتلحن يا يحيى فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد كلامه وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الإعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام وملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظا حسنا فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها التي وضعت لها ويذهب استطابتهم إياها قال واللحن من الجواري الظراف ومن الكواعب النواهد ومن الشواب الملاح ومن ذوات الخدور أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد كما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن فإذا أسنت واكتهلت سئم ذلك الاستملاح قال وممن استملح اللحن في النساء مالك بن أسماء فقال في بعض نسائه

( أمغطى مني على بصري للحب ... أم أنت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذه هو مما ... تشتهيه الأسماع يوزن وزنا )
( منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا )
والناس في ذلك كله بحسب البلاد وأهلها ألا ترى أن العرب وإن تغيرت ألسنتهم بمخالطة من عداهم فإنهم لا يخلو كلامهم من موافقة الإعراب في بعض الكلام والجري على قواعد العربية خصوصا عرب الحجاز وأهل البادية منهم وقد قال الجاحظ في أثناء كلامه ولأهل المدينة ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة وعبارة جيدة واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر منهم في النحو غالب

المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب في علم العربية
)
واعلم أن انتفاع الكاتب بالنحو من وجهين أحدهما الإعراب وما يلحق به ومن أهم ما يعتنى به من ذلك النسب لكثرة استعماله في الألقاب ونحوها وكذلك العدد فإنه مما يقع فيه اللبس على المبتدىء ومحل ذلك كله كتب النحو الثاني فيما يقع الكاتب فيه بطريق العرض فيحتاج من ذلك إلى معرفة النحاة ومشاهير أهل العربية كأبي الأسود الدؤلي وسيبويه والفراء وأبي علي وأبي عثمان المازني وغيرهم من المتقدمين

وابن عصفور وابن مالك وابن معطي وغيرهم من المتأخرين وكذلك أسماء كتبهم المشهورة في هذا الفن من المبسوطات والمختصرات من كتب المتقدمين والمتأخرين ومصطلحاتهم التي اصطلحوا عليها من ذكر الاسم والفعل والمعرفة والنكرة والمبتدأ والخبر والحال والتمييز وألقاب الإعراب من الرفع والنصب والجر والجزم وغير ذلك مما تجري به عباراتهم ويدور على ألسنتهم في استعمالاتهم من قولهم ضرب زيد عمرا ونحو ذلك ليدرج ما عن له من ذلك في خلال كلامه حيث احتاج إليه في التواقيع والمكاتبات وغيرها
قال في التعريف في وصية نحوي وهو زيد الزمان الذي يضرب به المثل وعمرو الأوان وقد كثر من سيبوبه الملل ومازني الوقت لكنه لم يستبح الإبل وكسائي الدهر الذي لو تقدم لما اختار غيره الرشيد للمأمون وذو السؤدد لا أبو الأسود على أنه ذو السابقة والأجر الممنون وهو

ذو البر المأثور والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لحسوده إلا الجزم وهو ذو الأبينة التي لا يفصح عن مثلها الإعراب ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم ثلاث ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث فليتصد للإفادة وليعلمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة وليكن للطلبة نجما به يهتدى وليرفع بتعليمه قدر كل حبر يكون حبرا له وهو المبتدأ وليقدم منهم كل من صلح للتبريز واستحق أن ينصب إماما بالتمييز وليورد من موارده أعذب النطاف وليجر إليه كل مضاف إليه ومضاف وليوقفهم على حقائق الأسما ويعرفهم دقائق البحوث حتى اشتقاق الاسم هل هو من السمو أو من السما وليبين لهم الأسماء العجمية المنقولة والعربية الخالصة ويدلهم على احسن الأفعال لا ما يتشبه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة وليحفظهم المثل وكلمات الشعراء ولينصب نفسه لحد أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف ومع هذا كله فليترفق بهم فما بلغ أحد علما بقوة ولا غاية بعسف
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من جملة توقيع مدرس ولأنه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء والعربي الذي كان لرقاب الفضلاء ابن مالك فإن قريبه أبو البقاء

وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في رسالة اقترحت عليه في هذا الباب وهي حرس الله نعمة مولاي ولا زال كلم السعد من اسمه وفعله وحرف قلمه يأتلف ومنادى جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف ولا عدم مستوصل الرزق من براعته التي لا تقف الوصل ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود ومن فضله وظله كل مقصور وممدود ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد ولا عدوه إلا بلام الجحود هذه المفاوضة إليه أعزه الله تفهمه أنا بلغنا أن فلانا أضمر سيدنا له فعلا غدا به منتصبا للمكايد ومعتلا وليس موصولا كالذي بصلة وعائد وما ذاك إلا لأن معرفتها داخلها التنكير وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير ونعوت صحبته تكررت فجاز قطعها بسبب ذلك التكرير وسيدنا يعلم بالعلمية المدكون من الإنافة وما لإضافته إلى جلالته من الانتماء الذي يجب أن يكون لأجله عيشه به خفضا على الإضافة وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة وآية لا تكلف تعليما على وصول لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه والحرف ليست له علامة وحاش لله أن يصبح معرب إحسانه مبينا وأن نزيل كرمه يكون للنكرات بأي محكيا أو أن يأتي سيدنا بالماضي من الأفعال في معنى الاستقبال أو أن يجعل بدل غلطه الإبدال للاشتمال أو يدغم من مودته مظهرا أو أنه لا يجعل لمبتدأ محبته مخبرا أو أن لا يكون له من أبنية تدبير سيدنا مصدرا ولا برح سيدنا نسيج وحده في أموره ولا زال حلمه يتناسى الهفوات لا يشتغل مفعوله عن فعله بضميره

النوع الرابع المعرفة بالتصريف
ويجب على الكاتب المعرفة به ليعرف أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها فيتصرف فيها بالجمع والتصغير والنسبة إليها وغير ذلك لأنه إذا أراد جمع الكلمة أو تصغيرها أو النسبة إليها ولم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها ضل حينئذ عن السبيل ونشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن
قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتظهر لك فائدة ذلك ظهورا واضحا فيما إذا قيل للنحوي الجاهل بعلم التصريف كيف تصغر لفظة اضطراب فإنه يقول ضطيريب ولا يلام في ذلك لأنه الذي تقتضيه صناعة النحو لأن النحاة يقولون إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته منها نحو قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمرش ولفظة منطلق على خمسة أحرف وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف وحذفت النون وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضا فإذا بنى النحوي على هذا الأصل فإما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء وهذه الحروف غير الألف ليست من حروف الزيادة فلا تحذف بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الأصلي فيصغر لفظة اضطراب حينئذ على ضطيريب ولم يعلم النحوي أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه فيقال ضتيريب فإن هذا مما لا يعمله إلا التصريفي والنحاة وأطلقوا ما أطلقوه من ذلك اتكالا منهم على تحقيقه من علم التصريف إذ كل من النحو والتصريف علم

منفرد برأسه فتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف إلى معرفة ذلك كتكليفه ما ليس من علمه
قال فثبت بما ذكر أن علم التصريف مما يحتاج إليه لئلا يغلط في مثل ذلك قال ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا قد قال في معايش معائش بالهمز وهذه اللفظة مما لا يجوز همزه بإجماع من علماء العربية لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا يكون عينا نحو سفائن ولم يعلم نافع الأصل في ذلك فأخذ عليه وعيب عليه من أجله وذلك أنه اعتقد أن معيشة على وزن فعيلة تجمع على فعائل ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة لأن أصل هذه الكلمة من عاش لكن أصلها عيش على وزن فعل ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء نحو يعيش ثم تنتقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش ثم يبني من يعيش مفعول فيقال معيوش به كما يقال مسيور به ثم يخفف ذلك بحذف الواو فيقال معيش به كما يقال مسير به ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف إن نافعا لم يدر ما العربية
وحكى أبو جعفر النحاس أن عبيد الله بن سليمان نظر في بعض كتب الكتاب فإذا فيه حرف مصلح هو وقد لهوت عن جباية الخراج فاغتاظ وقال لا يحكه غيري فحكه فأصلحه وقد لهيت بالياء بدل الواو قال وحكي عن

أحمد بن إسرائيل مع تقدمه في الكتابة أنه قال وكانت رسومهم مساناة ثم صارت مشاهرة ثم صارت مياومة ثم صارت مساعاة فأخطأ وكان يجب أن يقول مساوعة قال في المثل السائر وكثيرا ما يقع أهل العلم في مثل هذه المواضع فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطلاع لهم عليها وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يقع الغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا قال وقد وقع الغلط لأبي نواس فيما هو أظهر من ذلك وهو قوله في صفة الخمر
( كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب )
فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وإنما يجوز حذفهما من فعلى التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وهاهنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام وكان الصواب أن يقال كأن الصغرى والكبرى أو كأن صغراها وكبراها فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته وغلط أبو تمام أيضا في قوله
( بالقائم الثامن المستخلف اطأدت ... قواعد الملك ممتدا لها الطول )
فقال اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد وكذلك اتطدت في البيت فإنه وطد يطد كما يقال وعد يعد فإذا بني منه افتعل قيل اتطدت ولا يقال اطأد وأما غير المقيس فقولهم في وجاه تجاه وقالوا تكلان وأصله الواو لأنه من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان ثم قال إن المخطىء في التصريف أندر وقوعا من المخطىء في النحو لأنه قلما تقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها والمعصوم من عصمه الله والكلام في تصرف الكاتب في التصريف على ما تقدم في النحو

النوع الخامس المعرفة بعلوم المعاني والبيان والبديع وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
اعلم أنه لما كانت صناعة الكتابة مبنية على سلوك سبل الفصاحة واقتفاء سنن البلاغة وكانت هذه العلوم هي قاعدة عمود الفصاحة ومسقط حجر البلاغة اضطر الكاتب إلى معرفتها والإحاطة بمقاصدها ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب وإنشاء الجواب جاريا في ذلك على قوانين اللغة في التركيب مع قوة الملكة على إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء من الخطب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها وخلوها عن اللكن وتأدية المطلوب بها وتكميل الأقاويل الشعرية نثرا كانت أو نظما في بلوغها غايتها وتأدية ما هو مطلوب بها وأنها كيف تتعين بحسب الأغراض لتفيد ما يحصل بها من التخيل الموجب لانتقال النفس من بسط وقبض والشيء يذكر بضده فيذكر المحاسن بالذات والعيوب بالعرض
قال أبو هلال العسكري فإن صاحب العربية إذا أخل بطلب هذه العلوم وفرط في التماسها فاتته فضيلتها وعلقت به رذيلة فوتها وعفى على جميع محاسنه وعمى سائر فضائله لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء ولفظ حسن وآخر قبيح وشعر نادر وآخر بارد بان جهله وظهر نقصه وإذا أراد أن ينشىء رسالة أو يضع قصيدة وقد فاتته هذه العلوم مزج الصفو بالكدر وخلط الغرر بالعرر فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل وكذلك إذا أراد تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم وتخطى هذه ساء اختياره وقبحت آثاره فأخذ الرديء المردود وترك الجيد

المقبول فدل على قصور فهمه وتأخر معرفته مع ما في هذه العلوم الثلاثة من الوسيلة إلى فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله اللذين منهما يستمد الكاتب شريف المعاني ويستعير فصيح الألفاظ بل منهما تستفاد سائر العلوم وتقتبس نفائس الفضائل قال وقبيح لعمري بالفقيه المؤتم به والقارىء المقتدى بهديه والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته وتمام آلته في مجادلته وشدة شكيمته في حجاجه وبالعربي الصليب والقرشي الصريح أن لا يعرف فهم إعجاز كتاب الله إلا من الجهة التي يعرفها منها الزنجي والنبطي وأن يستدل بما يستدل به الجاهل الغبي
على أن الشيخ بهاء الدين السبكي رحمه الله قد ذكر في شرح تلخيص المفتاح أن أهل مصر لا يحتاجون إلى هذه العلوم وأنهم يدرونها بالطبع فقال في أثناء خطبته أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم والفهم المستقيم والأذهان التي هي أرق من النسيم وألطف من ماء الحياة في المحيا الوسيم أكسبهم النيل تلك الحلاوة وأشار إليهم بأصابعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلا عن الأغمار الأعمار ويرون في مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار
( والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من طبعه لم ينتفع بصقال )
فيالها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب ولم يزحف إليها بعدو

عيدية ولا بلحاق لاحق وانسكاب سكاب فلذلك صرفوا هممهم إلى العلوم التي هي نتيجة أو مادة لعلم البيان كاللغة والنحو والفقه والحديث وتفسير القرآن ثم قال وأما أهل بلاد الشرق الذين لهم اليد الطولى في العلوم ولا سيما العلوم العقلية والمنطق فاستوفوا هممهم الشامخة في تحصيله واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا عنها بملء سجلهم وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم فلذلك عمروا منه كل دارس وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنها الحارس وبلغوا عنان السماء في طلبه ولو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم وظهر من مشكاة بلاد الغرب المصباح فكأنما حيل بينه وبينهم وأدارت المنون على قطبهم الدوائر فتعطلت بوفاته من علومه أفواه المحابر وبطون الدفاتر وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة رحمهم الله من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته ومحض النصح فنشر على أعطاف العاري بردته ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة ولا رأينا بعد أن انطمست تلك الشموس المشرقة واندرست طبقة تحري الفرقة ولم يبق إلا رسوم هي من فضائلهم مسترقة من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقة ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال وافق شن طبقه بل ركدت بينهم

في هذا الزمان ريحه وخبت مصابيحه وناداهم الأدب سواكم أعني ورب كلمة تقول دعني
( وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا بلاء )
فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل وآذن بالتحول
( وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالرأي أن يتحولا )
وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار وأنشد من نادى من تلك الديار
( أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب بي الركاب ولا أمامي )
ولقد أحسن رحمه الله في بيان السبب والتعويل في انجبال أهل مصر على هذا العلم على علاقة الصهر والنسب حيث قال في أوائل خطبته في أثناء الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما خفقت للبلاغة راية مجد في بني غالب بن فهر وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر لما لهم من نسب وصهر
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل وهذه العلوم وان لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب والطبع السليم والقريحة المطاوعة والفكرة المنقحة والبديهة المجيبة والروية المتصرفة لكن العالم بها متمكن من أزمة المعاني وصناعة الكلام يقول عن علم ويتصرف عن معرفة وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان ويصوغ الكلام بترتيب
وحقيق ما قاله فإن الأديب والكاتب العاريين عن هذه العلوم قاصران عن أدنى رتب الكمال يحيدان ولا يدريان كيف يجيبان فلو سئل كل منهما

عن علة معنى استحسنه أو لفظ استحلاه أو تركيب استجاده لم يقدر على الإتيان بدليل على ذلك
وقد حكى الإمام عبد القادر الجرجاني قال ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له إني أجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس في أي موضع قال وجدت العرب تقول عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد فقال له أبو العباس لا بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم إن عبد الله لقائم جواب على إنكار منكر قيامه فما أحار المتفلسف جوابا فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره وإن كان من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه بالقلوب غير الذوق الصحيح كما قال الشاعر
( شيء به فتن الورى غير الذي ... يدعى الجمال ولست أدري ما هو )
لكن الغالب في الكلام أن يعلم سبب تحسينه وتعليل مواد تمكينه ويجاب عن العلة في انحطاطه وارتفاعه ويذكر المعنى في ارتقائه من حضيض القول إلى يفاعه
قلت وهذا العلم وإن شحن أئمة الكتاب كما قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين والوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل

السائر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل فإنه ليس مختصا بفن الكتابة بل هو آلة لكل كلام اقتضى البلاغة كما أن المنطق آلة لكل العلوم العقلية التي يحتاج منها إلى تصحيح الفكر
وقد أكثر الناس من المصنفات فيه كالرماني والجرجاني وغيرهما وأكثر اعتماد أهل الزمان فيه على تلخيص المفتاح للقاضي جلال الدين القزويني فأغنى ما وضع فيه عن إيراده هنا

المقصد الثاني في كيفية انتفاع الكاتب بهذه العلوم
غير خاف أنه إذا مهر فيها وعرف طرقها أتى في كلامه بالسحر الحلال وصاغ من ألفاظه ومعانيه ما يقضي له بالفصاحة التامة والبلاغة الكاملة من وجوه تحقيق الكلام وتحسينه وتدبيجه وتنميقه وإذا فاتته هذه العلوم أو كان ناقصا فيها نقصت صناعته بقدر ما ينقص من ذلك ثم كما يحتاج إلى هذه العلوم بطريق الذات كذلك يحتاج إليها بطريق العرض من جهة المعرفة بالبلغاء الذين يضرب بهم المثل في البلاغة كقس بن ساعدة وسحبان وائل وعمرو بن الأهتم ونحوهم من بلغاء العرب وابن

المقفع ونحوه من المحدثين وكما قيل في عي باقل وهو رجل انتهى به العي إلى أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فسأله سائل في الطريق وهو ممسك الظبي بكم اشتريته فلم يحسن التعبير عن أحد عشر ففرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه مشيرا إلى أحد عشر فتفلت الظبي وفر هاربا وكمعرفة أئمة الصناعة كالجرجاني والرماني وكذلك المعرفة بالأسماء التي اصطلح عليها أهلها من الفصل والوصل والتشبيه كما تقدم والمقابلة والمطابقة وغير ذلك من أنواعها
أما احتياجه إلى المعرفة بأسماء البلغاء ولغة أهل الصناعة فلأنه ربما احتاج إلى تفضيل بعض من يكتب له ممن ينسب مثله إلى البلاغة فيفضله بمساواته لبليغ من البلغاء أو إمام من أئمة الصنعة كما كتب الوزير ضياء الدين بن الأثير في ذم كاتب هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد وسحبان وائل عنده وكما قال بعضهم يهجو ضيفا له
( أتانا وما داناه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل )
( فما زال عند اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل )
ومما أتى على ذكر جماعة من أهل هذا الشأن قولي في كلام قليل جاء ذكره في آخر رسالة كتبت بها في تقريظ المقر الفتحي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهو على أني أستقيل من التقصير في إطرائه والتعرض في مدحه لما لا أنهض بأعبائه فلو أن الجاحظ نصيري وابن المقفع ظهيري وقس بن ساعدة يسعدني وسحبان وائل ينجدني وعمرو بن الأهتم يرشدني لكان اعترافي بالتقصير أبلغ مما آتيه وإقراري بالقصور أولى مما أخفيه من توالي طوله وأياديه

وأما احتياجه إلى معرفة ألفاظ أهل الصناعة فلأنه ربما ورى بها في تفاصيل كلامه ونحو ذلك كما كتب الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي على البديعية التي نظمها عيسى العالية الشاعر مضاهيا بها بديعية الصفي الحلي فقال
وبعد فقد وقفت على هذه المعجزة التي أحيا بها عيسى ميت البديع وجود ما شاء فيها من التصريع والترصيع ورقم لأعطافها حلل التوشيح والتوشيع ونظم لأجياد أبياتها فرائد المعاني المستخرجة من بحر فكره على يد يراعه المريع وقلدها من درر لفظه بما هو أزهى من زهر الزهر على نهر المجرة وهالات البدور وشنف المسامع منها بما هو أبهى من النور في العيون وأوقع من الشفاء في الصدور وأولج الليل في النهار بما طرس به الطروس وأطلع في ذلك الليل من ناصع معانيه نجوما تزهي على الشموس وأودع المهارق شذورا تزيف ذهب الأصائل وتسفر عن وجوه حسان تفوق ابتسام ثغور الأزاهر بين الخمائل وسلك في البديع طريقة

مثلى أظهر فيها من شهد ألفاظه وجواهر معانيه ما حلا وحلى ولم يدع للحلي في بهجتها محلا وأحسن التذييل والترشيح والتهكم عليه من غير التفات لما أهمله ولم يتعرض إليه وعادت المعاني تأوي من حسن تصرفه إلى ركن شديد وتحوي بشبا أقلامه كل ما رامه من تأبيد التأييد وتلقي مقاليدها منه إلى ملي بحسن التحيل والتحول في نظمه ونثره وتحكم لمن حكم له بكمال وصفه ووصف كماله بأنه نسيج وحده وفريد عصره وأجرى في حلبة البديع جياد أقلامه فحاز قصب الرهان وأصفى لها موارد النفس فارتوت واستخرجت من ظلماته جواهر البيان ونطقت بما هو المألوف من غرائب حكمه الحسان وتأملتها فوجدتها قد أجاد فيها براعة المطلع وبالغ في تحسين المنزع والمقطع ودخل جنان الجناس فاجتنى من قطوفها الدانية ما راق واطردت له أنهارها فاستطرد منها في أعلى الطباق وقابل وجوه حورها أحسن المقابلة آمنا فيها من الاشتراك والمماثلة وأوضح الفروق بين التورية والإبهام والتوجيه والاستخدام وأبان في التتميم نقص أبي تمام وأوجب في إبهامه عقد الخناصر على نظمه وفوض بنزاهته التسليم له وطلب سلمه ولم يقنع بما فيه الاكتفاء من التذييل والتذنيب بل أتى في الاستدارك على من تقدمه بالعجب العجيب معتمدا في تكميل مقاصده الاقتصار والإيجاز ولو ادعى الإعجاز على الحقيقة لا المجاز لجاز وتحققت أن ليس له في هذا الفن مقاو ولا مقاوم ولا مساو ولا مساوم فكم جلب من بحر براعته درة أشرقت في ليالي الفترة المسودة وكم حلب من ثدي يراعته درة لها ألف زبدة وكم بلغ الناظر من وصف بيانه مجمع

البحرين وسمع ورأى من فصله الجزل وفضله الجزيل ما هو عين المراد ومراد العين وكم جلا من عرائس أفكاره وابتكاره صباح الوجوه الصباح وخفق في الخافقين لمقاصده وبصائره جناح النجاح قد أصبحت كلماته لخصور الفرائد مناطق ولبدور الفوائد مشارق ولطلائع أسرار المباني آلات ولمطالع أقمار المعاني هالات وقد وقعت حين وقفت على بديعيته هذه بين داءين كل منهما الأخطر وبين أمرين أمرين كل منهما الأعسر إن لم أكتب عليها شيئا فقد أخللت بالفرض الواجب وإن كتبت فقد فضحت نفسي وعرضتها للمعايب ولكني رحت على ظلعي متحاملا وغدوت على حسب طاقتي في هذا الباب قائلا
( عاش البديع وكان ميتا وانثنى ... بادي المحاسن زاهيا محروسا )
( أحياه عيسى نجل حجاج وكم ... من ميت أحياه قدما عيسى )

النوع السادس حفظ كتاب العزيز وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك في كتابته
قال في حسن التوسل ولا بد للكاتب من حفظ كتاب الله تعالى وإدامة قراءته وملازمة درسه وتدبر معانيه حتى لا يزال مصورا في فكره دائرا على لسانه ممثلا في قلبه ليكون ذاكرا له في كلامه وكل ما يرد عليه من الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها ويفتقر إلى قيام قواطع الأدلة عليها ( فلله الحجة البالغة ) وكفى بذلك معينا له على قصده ومغنيا له عن

غيره قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال جل وعز ( تبيانا لكل شيء ) قال في المثل السائر كان بعضهم يقول لو ضاع لي عقال لوجدته في القرآن الكريم قال في حسن التوسل وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه وعجز الإنس والجن عن الإتيان بسورة من مثله كما حكي أن سائلا سأل بعض العلماء أين تجد في كتاب الله معنى قولهم الجار قبل الدار قال في قوله تعالى ( ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) فطلبت الجار قبل الدار ونظائر ذلك كثيرة
وقد اختلف في جواز الاستشهاد بالقرآن الكريم في المكاتبات ونحوها فذهب أكثر العلماء إلى جواز ذلك ما لم يحل عن لفظه ولم يتغير معناه فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله كتب في كتابه إلى هرقل ( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) إلى قوله مسلمون وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر بن الخطاب ( ولكل امرىء ما اكتسب من الإثم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) على ما سيأتي في ذكر عهود الخلفاء عن الخلفاء إن شاء الله تعالى وكتب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في آخر كتاب إلى معاوية وقد علمت مواقع سيوفنا في جدك وخالك وأخيك ( وما هي من الظالمين ببعيد ) وقال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) وكتب

إلى عامل من عماله بعد البسملة ( قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) وقال الحسن بن علي لمعاوية حين نازعه في الخلافة ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) ويروى عن ابن عباس مثله وكتب الحسن إلى معاوية أما بعد فإن الله بعث محمدا رحمة للعالمين وكافة للناس أجمعين ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي إلى المنصور في صدر كتاب ( طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) إلى قوله ( ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) ولم يزل العلماء وفضلاء الكتاب يستشهدون بالقرآن الكريم في مكاتباتهم في القديم والحديث من غير نكير وذلك كله دليل الجواز ونقل عن الحسن البصري ما يدل على كراهة ذلك حيث بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية فقال أنسي نفسه حين كتب إلى عبد الملك بن مروان بلغني أن أمير المؤمنين عطس فشمته من حضر فرد عليهم ( يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) قال في حسن التوسل وإذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون إنكاره على الحجاج لكونه أنكر على غيره ما فعله هو وذهب بعضهم إلى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز الاستشهاد به إلا فيما يضاف إلى الله سبحانه مثل قوله ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وقوله ( بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله تعالى

قال في المثل السائر وإذا ضمنت الآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها فلا شبهة فيما يصير للكلام من الفخامة والجزالة والرونق قال في حسن التوسل ومن شرف الاستشهاد بالقرآن الكريم إقامة الحجة وقطع النزاع وإذعان الخصم في في حسن التوسل وأين قول العرب القتل أنفى للقتل لمن أراد الاستشهاد في هذا المعنى من قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) وقد روي أن الحجاج قال لبعض العلماء أنت تزعم أن الحسين من ذرية رسول الله فأتني على ذلك بشاهد من كتاب الله تعالى وإلا قتلتك فقرأ عليه ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ) فعيسى ابن بنته فأسكت الحجاج وأيضا فإن الآية الواحدة تقوم في بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطولة والأدلة القاطعة
فمن أخصر ما وقع في ذلك وأبلغ أنه كان على الروم بهرقلة في أيام الرشيد امرأة منهم وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير فلما نشأ فوضت الأمر إليه فعاث وأفسد وخاشن الرشيد فخافت على ملك الروم فقتلت ولدها فغضب الروم لذلك فخرج عليها رجل منهم يقال له يقفور فقتلها واستولى على الملك وكتب إلى الرشيد أما بعد فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه ووضعت نفسها موضع الرخ وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك فلما قرأ الكتاب قال للكتاب أجيبوا عنه فأتوا بما لم يرتضه وكان الرشيد خطيبا شاعرا فكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى يقفور

كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام على من اتبع الهدى
ثم خرج في جمع له لم يسمع بمثله فتوغل في بلاده وفتك وسبى فأوقد يقفور في طريقه نارا شديدة فخاضها محمد بن يزيد الشيباني وتبعه الناس حتى صاروا من ورائها فلما رأى يقفور أنه لا قبل له به صالحه على الجزية يؤديها عن رأسه وعن سائر أهل مملكته
وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعده ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فلم يعجبه مما كتبوا شيئا فقال لبعضهم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع ( وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ) هذا مع ما ينسب إليه المعتصم من ضعف البصر بالعربية كما تقدم في الكلام على اللغة ولا يستكثر مثل ذلك على الطبع السليم والرجوع إلى سلامة العنصر وطيب المحتد
ومثل ذلك في الجواب وأخصر منه أن الأدفونش ملك الفرنج بالأندلس كتب إلى يعقوب بن عبد المؤمن أمير المسلمين بالأندلس بخط وزير له يقال له ابن الفخار باسمك اللهم فاطر السموات والأرض والصلاة على السيد المسيح ابن مريم الفصيح أما بعد فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب أني أمير الملة النصرانية كما أنك أمير الملة الحنيفية وقد علمتم ما هم عليه رؤساء جزيرة الأندلس من التخاذل والتواكل والإخلاد إلى الراحة وأنا أسومهم الخسف وأخلي منهم الديار وأجوس البلاد وأسبي الذراري وأقتل الكهول والشبان لا يستطيعون دفاعا ولا يطيقون امتناعا فلا عذر لك في التخلف عن نصرهم وقد أمكنتك يد القدرة وأنتم تعتقدون أن الله عز و جل فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم والآن خفف الله عنكم وعلم

أن فيكم ضعفا فلتقاتل عشرة منكم الواحد منا ثم بلغني أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة الإقبال وتماطل نفسك عاما بعد عام وأراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ولست أدري إن كان الجبن أبطأك أو التكذيب بما أنزل عليك ربك ثم حكي لي أنك لا تجد إلى الجواز سبيلا لعلة لا يجوز لك التفخم به معها فأنا أقول ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن تفي لي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهن وترسل إلي بجملة من عبيدك بالمراكب والشواني وأجوز بحملتي إليك وأبارزك في أعز الأماكن عليك فإن كانت لك فغنيمة وجهت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك وأستوجب سيادة الملتين والحكم على الدينين والله تعالى يسهل ما فيه الإرادة ويوفق للسعادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره
فكتب رحمه الله جوابا على أعلى كتابه ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )
ونظير ذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتابا يعدد فيه مواقفه في إقامة دعوة بني العباس بمصر فكتب جوابه من ديوان الخلافة ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين )

المقصد الثاني في كيفية استعمال آيات القرآن الكريم
واعلم أن تضمين الكلام بعض آي القرآن الكريم ينقسم عند أهل البلاغة إلى قسمين
أحدهما الاستشهاد بالقرآن الكريم وهو أقلهما وقوعا في الكلام ودورانا في الاستعمال وهو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن الكريم وينبه عليه مثل قول الحريري في مقاماته فقلت وأنت أصدق القائلين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وقول أبي إسحاق في عهد لملك عن خليفة بعد الأمر بالتقوى والحث عليها فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه وطهارة ذيله وصحة مروءته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصا من الشبهة ومخرجا من الحيرة فقد قال الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) وقد قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال عز اسمه ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) إلى آي كثيرة حضنا بها على كرم الخلق وأسلم الطرق فالسعيد من نصبها رأي ناظره والشقي من نبذها وراء ظهره وأشقى منه من يحث عليها وهو صادف عنها فأجاب إليها وهو بعيد منها وله ولأمثاله يقول الله عز و جل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وأكثر مشي الصابي في كتابه على هذا الأسلوب

من الاستشهاد والتنبيه على آي القرآن في خلال كلامه دون الإشارة إليه والاقتصار على اقتباس معناه
ومن ذلك قول علاء الدين بن غانم من خطبة قدمة كتب بها لمظفر الدين موسى بن أقوش وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه نحمده على توفيقه الذي ساد به من ساد وسما وأصاب بتفويقه بمعونة ربه طير السما فحسن أن يتلى ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )
ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة فقد نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فأخبر تعالى أنه علم بالقلم حيث وصف نفسه بالكرم إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه وإيذانا بأن منحها من أوفر جوده وفائض ديمه وقال جلت قدرته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فأقسم بالقلم وما سطرته الأقلام وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام وقال جلت عظمته ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) فجعل الكتابة من وصف الكرام كما قد جاء فعلها عن جماعة الأنبياء عليهم السلام وإنما منعها النبي معجزة قد بين

الله تعالى سببها حيث ذكر أخبارهم بقوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها )
وقولي من هذه المقامة في التعبير عن المقر البدري بن فضل الله
قلت حسبك قد دلني عليه عرفه وأرشدني إليه وصفه وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (
وقولي في اختتام هذه المقامة معبرا عن المقر البدري المشار إليه فلما تحققت أني قد أثبت في ديوانه وكنت من جملة غلمانه رجعت القهقرى عن طلب الكسب وتساوى عندي المحل والخصب فاستغنيت بنظري إليه عن الطعام والشراب وتحققت أن نظرة منه ترقيني إلى السحاب وتلوت بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
وقولي في بيعة خليفة أنشأتها بعد ذكر تحليف أهل البيعة وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام والشهود والحكام وجعلوا الله على ما يقولون وكيلا فاستحق عليهم الوفاء بقوله تعالى ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) وهو يرغبون

إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور ويلجأؤن إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )
وقولي في بيعة أخرى والله يجعل أنتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا )
الثاني الاقتباس وهو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن ولا ينبه عليه كقوله في خطبة التعريف نحمده على فواضل زادت محاسن العلوم وعرفت تفاوت درجات الأولياء إذ قالوا ( وما منا إلا مقام معلوم ) وقوله بعد ذلك وسماء الشبيبة بضحى المشيب قد تجلت والنفس قد ( ألقت ما فيها وتخلت )
وقول ابن نباتة السعيد في بعض خطبه فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ما لكم لا تسمعون ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) وقوله يوم يبعث الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونوا ( شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا )
وقول غيره أتظنون أنكم دون غيركم مخلدون ( كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون )

وقول الحريري فلم يكن إلا ( كلمح البصر أو هو أقرب ) حتى أنشد فأعرب وقوله ( أنا أنبئكم بتأويله ) وأميز صحيح القول من عليله
وقول ضياء الدين بن الأثير في فصل من كتاب في مدح الجود وذم البخل وقد علم أن المال الذي يختزن كالماء الذي يحتقن فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتناع مواهبه وأي فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب وتفل به الخطوب ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب ومن بسط يده فيه ثم قبضها بخله فإنه يقف دون الرجال مغمورا ويقعد عن نيل المعالي محسورا وإذا أدركته منيته مضى وكأنه لم يكن شيئا مذكورا وقوله في وصف كاتب له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تمهله ( وأتت به قومها تحمله ) ولم تعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله
وقول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي من عهد السلطان وجمع بك شمل الأمة بعد أن ( كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون ( وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله )

وهم كارهون وقوله من عهد السلطان الملك المنصور لاجين وجعل عدوه وإن أعرض بجيوش الرعب محصورا وكفاه بالنصر على الأعداء التوغل في سفك الدماء ( فلم يسرف في القتل إنه كان منصورا ) وقوله في خطبة صداق في وصف نكاح وأحيا به الأمم وقد قضى دينهم وجمع بين متفرقين ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) وقوله من توقيع بإمامة صلاة وليعلم أنه في المحراب مناجيا لربه واقفا بين يدي من يحول بين المرء وقلبه
وقولي في خطبة هذا الكتاب في الإشارة إلى فتح الديار المصرية فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار وكانوا ( أحق بها وأهلها ) وقولي في المقامة المتقدمة الذكر قال إذن قد تعلقت من الصنعة بأسبابها وأتيت البيوت من أبوابها وقولي فيها قلت قد بانت لي علومها فما رسومها قال إن أعباءها لباهظة حملا وإنها لكبيرة إلا ولكن سأحدث لك ذكرا وأنبئك بما لم تحط به خبرا وقولي في المفاخرة بين السيف والقلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء

الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام )
وربما اقتصر على التلويح والإشارة خاصة كقول القاضي الفاضل فيما كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الديوان العزيز ببغداد في الاستصراخ وتهويل أمر الفرنج ( رب إني لا أملك إلا نفسي ) وها هي في سبيلك مبذولة وأخي وقد هاجر إليك هجرة يرجوها مقبولة
وقول ضياء الدين بن الأثير في وصف غبار الحرب وعقد العجاج سقفا فانعقد وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد وزينت بنجوم الصعاد ففيها ما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله والطريق في استنباط المعاني من القرآن الكريم واستعمال الآيات في خلال الكلام أن تعمد إلى سورة من القرآن وتأخذ في تلاوتها وكلما مر بك معنى أثبته في ورقة مفردة

حتى تنتهي إلى آخرها ثم تأخذ في استعمال تلك المعاني التي ظهرت وإدخالها في خلال الكلام وكلما عاودت التلاوة وكررتها ظهر لك من المعاني ما لم يظهر لك في المرة التي قبلها
ولتعلم أن الآية الواحدة قد تقع في الاستعمال على عدة وجوه يورده الناثر في معنى ثم ينقله لمعنى آخر غيره كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) فقال في دعاء كتاب وصل كتاب من الحضرة السامية أحسن الله أثرها وأعلى خطرها وقضى من العلياء وطرها وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها ثم أبرزه في معنى آخر فقال أكرم النعم ما كان فيه ذكرى للعابدين وتقدمه إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير وتجلو ظلمة الخطب بإيضاح المنير فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ثم نقله إلى معنى آخر فقال من تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء وقد علم أن أمير المؤمنين أدنى مجلسه من سمائه وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه ورفعه حتى ودت الشمس لو كانت من أترابه والقمر لو كان من ندمائه وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته ولا الآمال أن تطوف حول كعبته ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته فليزدد إعجابا بما نالته من مواطىء أقدامه ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه
قال في حسن التوسل والناس في استخراج المعاني من القرآن

الكريم واستعمالها في الكلام على قدر طبقاتهم وتفاوت درجاتهم فمفرط في الحسن ومفرط وفوق كل ذي علم عليم
قلت وكما يحتاج الكاتب إلى حفظ كتاب الله تعالى والعلم بتفسيره ليقتبس من معانيه كذلك يحتاج إلى معرفة العلوم المختصة به كالعلم بالقراءات السبع والشواذ ومعرفة رجالها ومن اشتهر منهم وعرف بجودة القراءة ومعرفة أعيان المفسرين ورؤوسهم ليماثل بأفاضلهم ويقايس بأعيانهم في خلال ما يعرض له من الكلام مطابقا لذلك كما قال في التعريف في وصية مقرئ في القسم الثالث من الكتاب وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه وصلاح قربه وصباح القبول المؤذن له برضا ربه وليجعل سوره له أسوارا وآياته تظهر بين عينيه أنوارا وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشواذ ولا يرتد دون غاية لإقصار ولا يقف فبعد أن أتم لم يبق بحمد الله إحصار وليتوسع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القراء السبعة أئمة الأمصار وليبذل للطلبة الرغاب وليشبع فإن ذوي النهمة سغاب ولير الناس ما وهبه الله من الاقتدار فإنه احتضن السبع ودخل الغاب وليتم مباني ما أتم ابن عامر وأبو عمرو له التعمير ولفه الكسائي في كساه ولم يقل جدي ابن كثير وحم به لحمزة أن يعود ذاهب الزمان وعرف أنه لا عاصم من أمر

الله يلجأ معه إليه وهو الطوفان وتدفق يتفجر علما وقد وقفت السيول الدوافع وضر أكثر قراء الزمان لعدم تفهيمهم وهو نافع وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب وهو يعلم ما من الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النعماء ووصل سببه منه يحبل الله الممتد من الأرض إلى السماء فليقدر حق هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم والإنصاف إذا سئل فعلم الله لا يتناهى وفوق كل ذي علم عليم

النوع السابع الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية على قائلها أفضل الصلاة
والسلام وفيه مقصدان
المقصد الأول في بيان وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قال في حسن التوسل لا بد للكاتب من حفظ الكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم وخصوصا في السير والمغازي والأحكام وتأمل فصاحتها والنظر في معرفة معانيها وغريبها وفقه ما لا بد من معرفته من أحكامها لينفق منها على سعة ويستشهد بكل شيء في موضعه ويحتج بمكان الحجة ويستدل بموضع الدليل ويتصرف عن علم بموضوع اللفظ ومعناه ويبني كلامه على أصل لا يزلزل ويسوق مقاصده إلى سبيل لا يضل عنه فإن الدليل على المقصد إذا استند إلى النص قويت فيه الحجة وسلم له الخصم وأذعن له المعاند والفصاحة والبلاغة

إذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أوتي جوامع الكلم وقال أنا أفصح من نطق بالضاد
وقد كان الصدر الأول من الصحابة والتابعيين رضي الله عنهم يحتجون بالحديث ويستدلون به في مواطن الخلاف والنزاع فينقاد الجموح ويستسهل الصعب وقد رجع الأنصار يوم السقيفة إلى حديث الأئمة من قريش حيث رواه لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأذعنوا له وبايعوه بعد ما اجتمعوا إلى سعد بن عبادة وقالوا منا أمير ومنكم أمير على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله ورجع عمر رضي الله عنه لحديث النهي عن دخول بلد الطاعون فعاد إلى المدينة بعد أن قارب الشام حين بلغه أن به الطاعون وقال علي رضي الله عنه في حق الأنصار لو زالوا لزلت معهم لقول رسول الله أزول معكم حيث ما زلتم
ثم الذي أشار إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الأحاديث التي ينبغي للكاتب حفظها الأحاديث المتعلقة بالفقه وأحكامه كقوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والخراج بالضمان وجرح العجماء جبار ولا يغلق الرهن والمنحة مردودة والعارية مؤداة والزعيم غارم ولا وصية لوارث ولا قطع في ثمر ولا كثر ولا قود إلا بحديدة والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها ولا تعقل العاقلة عمدا ولا

عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا طلاق في إغلاق والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا والجار أحق بصقبه والطلاق بالرجال والعدة بالنساء وكنهيه في البيوع عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة والمعاومة والثنيا وعن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف وعن بيع الغرر وبيع المواصفة وعن الكاليء بالكاليء وعن تلقي الركبان وما أشبه ذلك ليغتني بحفظها وتدبر معانيها عن إطالات الفقهاء
قلت والتحقيق أن حاجة الكاتب لا تختص بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه بل تتعلق بما هو أعم من ذلك خصوصا الحكم والأمثال والسير وما

أشبه ذلك مما يكثر الاستشهاد به في الكتابة والاقتباس من معانيه قال في المثل السائر وينبغي أن يكون أول ما يحفظه من الأخبار ما تضمنه كتاب الشهاب في المواعظ والآداب للقضاعي فإنه كتاب مختصر وجميع ما فيه يستعمل لأنه يتضمن حكما وآدابا فإذا حفظته وتدربت باستعماله حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخل وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها من كتب الحديث وتأخذ ما تحتاج إليه وأهل مكة أخبر بشعابها قال والذي تأخذه إن أمكنك درسه وحفظه فهو المراد لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة وإن كان لك محفوظات كثيرة كالقرآن الكريم ودواوين كثيرة من الشعر وما ورد من الأمثال السائرة وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه وما يأتي ذكره فعليك بمداومة المطالعة للأخبار والإكثار من استعمالها في كلامك حتى ترتقم على خاطرك فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته وسهل عليك أن تأتي به ارتجالا فتأمل ذلك واعمل به ثم قال وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر تدخل كلها في الاستعمال وما زلت أواظب مطالعته مدة تزيد على عشر سنين فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة وصار محفوظا لا يشذ منه عني شيء

المقصد الثاني في بيان كيفية استعمال الأحاديث والآثار في الكتابة
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير واعلم أن أكثر الأحاديث تدخل في الاستعمال ولا يخرج عنه إلا القليل النادر ولقد دار بيني وبين بعض علماء

الأدب في هذا الأسلوب كلام فاستوعره واستنكره وقال هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسير من الأخبار النبوية فقلت لا بل يتهيأ في الأكثر منها فقال قد ورد عن النبي أنه اختصم إليه في جنين فقضى على من أسقطه بغرة عبد أو أمة فأين تستعمل هذا فأفكرت فيما ذكره ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام وأودعته فيه وهو قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه ولا انتصب رأس إلا على بدنه ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته وصاحب الرسن أحق برسنه وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثاثة وقلمه بغاثة لا يستنسر وأي بطش لبغاثة وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سبل ثلاثة هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد أو سحبان وائل عنده وإذا كشف خاطره وجد بليدا لا يخرج عن العمه والكمه وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمة وكثيرا ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء فلما أوردته عليه ظهرت أمارة الحسد على صفحات وجهه مع إعجابه به واستغرابه فيه إياه
ثم قال وقد ورد عن رسول الله هذا الحديث وهو لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال فهذا أين يستعمل من المكاتبات فترويت

في قوله ترويا يسيرا ثم قلت هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة وأمليت عليه الكتاب فجاء هذا الحديث في فصل منه وهو إذا أفاض الخادم في وصف ولائه نكصت همم الأولياء عن مقامه وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه فقد أصبح وليس بقلبه سوى الولاء والإيمان فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة والملائكة لا تدخل بيتا فيه تمثال ولا صورة فليعول الديوان العزيز منه على سيف من سيوف الله يفري بلا ضارب ويسري بلا حامل ولا يسل إلا بيد حق ولا يغمد إلا في ظهر باطل وليعلم أن كرشه وعيبته في تضمن الأسرار وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار فلما رأى هذا الفصل بهت له وعجب منه قال ولم أقنع بايراد الحديث الذي ذكر حتى أضفت إليه حديثا آخر وهو قول النبي الأنصار كرشي وعيبتي
ثم تضمين الكلام شيئا من الأحاديث على ما تقدم في القرآن الكريم فينقسم إلى الاستشهاد والاقتباس على ما تقدم

فأما الاستشهاد فهو أن يضمن الكلام شيئا من الحديث وينبه عليه كقول أبي إسحاق الصابي في وصية عهد من خليفة السلطان وأن يقوم بما يعقده الرجل من عرض المسلمين فإن ذمته ذمة جميع المؤمنين وقد قال رسول الله المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم
وكما كتب بعض الكتاب في صدر كتاب لديوان الخلافة والحمد لله على أن صار إلى أمير المؤمنين ميراث الطاهرين من آبائه وخصه بما حاز له من جزيل الفضل وحبائه وحقق للدولة العباسية وعد النبي إذ يقول لعمه العباس رضوان الله عليه ألا أبشرك يا عم بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة وكقوله من عهد آخر وأمره أن يضع الرصد على من يختار في الحمالة من أباق العبيد والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم إلى أن قال وأن يعرفوا اللقط ويتبعوا أثرها ويشيعوا خبرها فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه ولم يعترض فيها عليه والله جل وعز يقول ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ورسول الله يقول ضالة المؤمن حرق النار إلى غير ذلك من الاستشهادات
وأما الاقتباسات فهو أن يضمن الكلام شيئا من الحديث ولا ينبه عليه
فمن ذلك ما ذكره الحريري في مقاماته من قوله وكتمان الفقر زهاده وانتظار الفرج بالصبر عباده وقوله شاهت الوجوه وقبح الهكع ومن يرجوه

وقد أكثر الوزير ضياء الدين بن الأثير من هذا الباب
فمن ذلك قوله في دعاء كتاب أعاذ الله أيامه من الغير وبين بخطر مجده نقص كل خطر وجعل ذكره زادا لكل ركب وأنسا لكل سمر ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أخذ ذلك من قوله في وصف نعيم الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنقله إلى الدعاء
ومن ذلك ما ذكره في النصر على العدو في مواطن القتال وهو أخذنا بسنة رسول الله في النصر الذي نرجوه ونبذنا في وجه العدو كفا من التراب وقلنا شاهت الوجوه فثبت الله ما تزلزل من أقدامنا وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا أخذ المعنى الأول من حديث غزوة حنين وأن النبي أخذ قبضة من التراب وألقى بها في وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه وأخذ المعنى الثاني من حديث عزوة بدر وذلك أن رجلا من المسلمين لاقى رجلا من المشركين وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتا قبل أن يصل إليه وسمع الرجل المسلم صوتا من فوقه وهو يقول أقدم حيزوم فجاء النبي فأخبره فقال ذلك من مدد السماء الثالثة
ومن ذلك ما ذكره في ضيق مجال الحرب وهو وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور وتصافحت الغرر بالغرر والصدور بالصدور واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها وتبوئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها أخذ ذلك من قول النبي الجنة تحت ظلال السيوف
ومن ذلك ما ذكره في وصف بعض البلاد الوخمة وهو ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة مجموع لها بين حر مكة ولأواء المدينة إلا

أنها لم يؤمن حرها من الخطفة ولا نقلت حماها إلى الجحفة أخذ المعنى الأول من قوله من صبر على حر مكة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنة والمعنى الثاني من قوله في دعائه للمدينة اللهم حببها إلينا كما حببت إلينا مكة وانقل حماها إلى الجحفة ورشح ذلك بمعنى قوله تعالى ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) حيث قال إلا أنها لم يؤمن حرها من الخطفة
ومن ذلك ما ذكره في وصف كريم وهو فأغنى بجوده إغناء المطر وسما إلى المعالي سمو الشمس وسار في منازلها مسير القمر ونتج من أبكار فضائله ما إذا ادعاه غيره قيل للعاهر الحجر أخذ ذلك من قول النبي الولد للفراش وللعاهر الحجر إلى غير ذلك من مقتبساته المستكثرة واستنباطاته التي هي غير قاصرة ولا مستنكرة
ومن ذلك ما ذكرته أنا في المفاخرة بين السيف والقلم وهو وبدأ القلم فتكلم ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم فقال باسم الله تعالى أستفتح وبحمده أتيمن وأستنجح إذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم وكل كلام لا يفتتح بحمد الله فأساسه غير محكم أخذت ذلك من قوله كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أو بحمد الله فهو أجذم على اختلاف الرواية في ذلك

واعلم أنه كما يحتاج الكاتب إلى حفظ الأحاديث والآثار بطريق الذات للاستشهاد بها والاقتباس من معانيها على ما تقدم بيانه كذلك يحتاج إلى المعرفة بأنواع الحديث وأقسامها كالصحيح والحسن والمرسل والمرفوع والمسند والمتصل والمنقطع ونحو ذلك وكذلك المعرفة بأسماء الرجال والمشاهير من المحدثين كالبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وغيرهم ليورد ما يحتاج إليه من ذلك في غضون كلامه عند احتياجه إليه في كتابة ما يتعلق بذلك من توقيع محدث ونحوه كما قال في التعريف في وصية لمحدث في قسم الوصايا من الكتاب وقد أصبح بالسنة النبوية مضطلعا وعلى ما جمعه طرق أهل الحديث مطلعا وصح الصحيح أن حديثه الحسن وأن المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كل ذي لسن وأن مسنده هو المأخوذ عن العوالي وسماعه هو المرقص منه طول الليالي وأن مثله لا يوجد في نسبه المعرق ولا يعرف مثله للحافظين ابن عبد البر بالمغرب وخطيب بغداد بالمشرق وهو يعرف مقدار طلب الطالب فإنه طال ما شد له النطاق وسعى له سعيه وتجشم المشاق ورحل له يشتد به حرصه والمطايا مزمومه وينبهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهمومه ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به فروجها فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرب وليبسط للأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرب وليسفر لهم صباح قصده عن النجاح وليفتق لهم من عقوده الصحاح وليوضح لهم الحديث وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السير الحثيث وليؤتهم مما وسع الله عليه فيه المجال ويعلمهم ما يجب

تعليمه من المتون والرجال ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل والتوجيه والتعليل والصحيح والمعتل الذي تتناثر أعضاؤه سقما كالعليل وغير ذلك مما لرجال هذا الشأن به عناية وما ينقب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرد رواية ومثله ما يزاد حلما ولا يعرف بمن رخص في حديث موضوع أو كتم علما وسيأتي ذكر هذه الوصية في موضعها إن شاء الله تعالى
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة من جملة توقيع لبعض مدرسي الشام ولأنه الحافظ الذي أحيا ذكر ابن نقطة بعد ما دارت عليه الدوائر وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب بعساكر

النوع الثامن الإكثار من حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء وفيه
مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
قال أبو جعفر النحاس وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الحكم بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم بها يتميز الكلام وبها يخاطب الخاص والعام وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة وعلى طريق الخطباء مشت الكتاب وقد قال أبو هلال العسكري رحمه الله في الصناعتين والرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا

تقفية وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل قال والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة
واعلم أنه كان للعرب بالخطب والنثر غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد قال ولولا أن خطبة قس ابن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو أن النبي هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها ما تميزت عما سواها
قلت وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح القصل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المقام

فمن خطبهم في الجاهلية خطبة كعب بن لؤي جد النبي فيما ذكره أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل وهي اسمعوا وعوا وتعلموا تعلموا وتفهموا تفهموا ليل ساج ونهار صاج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين كل ذلك إلى بلاء فصلوا أرحامكم وأصلحوا أموالكم فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتا نشر الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا تفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ثم قال
( نهار وليل واختلاف حوادث ... سواء علينا حلوها ومريرها )
( يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها )
( صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقد ما يستحيل مريرها )
( على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها )
ثم قال
( يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا )
ومن ذلك خطبة قس بن ساعدة الأيادي بسوق عكاظ فيما نقله أصحاب السير عن إخبار النبي عنه وهي أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرساة وأرض مدحاة وأنهار مجراة إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه إن لله دينا هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه إنكم لتأتون من الأمر منكرا ويروى أن قسا أنشأ بعد ذلك يقول

( في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر )
( ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر )
( لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر )
( أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر )
قال صاحب الأوائل يروى أن سول الله قال يعرض هذا الكلام يوم القيامة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة
ومن ذلك خطبة أبي طالب حين خطب النبي خديجة وهي الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوازن بأحد إلا رجحه ولا يعدل بأحد إلا فضله وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه مثلها وما كان من صداق ففي مالي وله نبأ عظيم وخبر شائع
ومن خطب النبي أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية وجالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة طوبى لمن زكت وحسنت خليقته وطابت سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة

ومن خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب وهي ألا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك الملك إذا ملك زهده الله جل وعز فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الاشفاق وإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظله حاسبه الله جل ثناؤه وأشد حسابه وأقل عفوه وسترون بعدي ملكا عضوضا وأمة شحاحا ودما مباحا وإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت السنن فالزموا المساجد واستشيروا القرآن وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد التناظر
ومن خطب عمر رضي الله عنه أيها الناس إنه أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده ألا وإنه قد خيل إلي أن أقواما يقرأون القرآن يريدون ما عند الناس ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي بين أظهرنا فقد رفع الوحي وذهب النبي فإنما أعرفكم بما أقول لكم ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا به عليه ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها لملقة وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية إن هذا الحق ثقيل مريء وإن الباطل

خفيف وبيء وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا
ومن خطب عثمان رضي الله عنه وقد أنكروا عليه تقديم بني أمية على غيرهم
أما بعد فإن لكل شيء آفة وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أمورا قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقما ودمغكم حتى لا يجتريء أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا وأقرب ناصرا وأجدر إن قال هلم أن يجاب هل تفقدون من حقوقكم وأعطياتكم شيئا فإني إلا أفعل في الفضل ما أريد فلم كنت إماما إذن أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمرا أجهله ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه
ومن خطب علي كرم الله وجهه حين بويع بالخلافة إن الله أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر فخذوا بالخير ودعو الشر الفرائض أدوها إلى الله تؤديكم إلى الجنة إن الله حرم حرما غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وسدد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب فأدوا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تذكركم تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بالناس أخراهم اتقوا الله عباد الله في

عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض
ومن خطب الحسن بن علي رضي الله عنه اعلموا أن الحلم زين والوقار مودة والصلة نعمة والإكثار صلف والعجلة سفه والسفه ضعف والقلق ورطة ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالطة أهل الفسوق ريبة
ومن خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بصفين أيها الناس إن الحرب صعبة وإن السلم من ومبرة ألا وقد زبنتنا الحرب وزبناها وألفتنا وألفناها فنحن بنوها وهي أمنا أيها الناس استقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء المضلة والبدع المردية ولست أراكم تزدادون بعد الوصاة إلا استجراء ولن أزداد بعد الإعذار والحجة عليكم إلا عقوبة وقد التقينا نحن وأنتم عند السيف فمن شاء فليتحرك أو يتقهقر وما مثلي ومثلكم إلا كما قال ابن قيس بن رفاعة الأنصاري
( من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصلى بنار كريم غير غدار )
( أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهيي وإنذاري )
ومن خطب عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير مصر وقد بلغه عن أهلها أمور أن صعد المنبر وقال يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعا عليكم فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الأمراء والعتب على

السلف والخلفاء فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم فإن حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم وزجرة منا قد مجتها قلوبكم ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى
ومن خطب زياد بن أبيه حين قدم إلى البصرة أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور التي ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر والعدد غير قليل والجمع غير مفترق ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغضون على النكر كل امرىء منكم يرد عن سفيهه صنع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرفوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدما وإحراقا إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير

ضعف وشدة في غير عنف وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمطيع بالعاصي حتى يلقى الرجل أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل ذلك لم أناظره فاستأنفوا أموركم وراعوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمنا صحتكم لنا
فقام إليه عبد الله بن الأهتم وقال أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب قال كذبت ذاك نبي الله داود
ومن خطب عبد الملك بن مروان لما قتل عمرا الاشدق بن سعيد بن العاص إرموا بأبصاركم نحو أهل المعصية واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة ولا تكونوا أغفالا من حسن الاعتبار فتنزل بكم جائحة السطوات وتجوس خلالكم بوادر النقمات وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدا رفاتا وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا فإياي من قول قائل ورشقة جاهل فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعوة فأصمم تصميم

الحسام المطرور وأصول صيال الحنق الموتور وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب وهدل خائب والتوب مقبول والإحسان مبذول لمن عرف رشده وأبصر حظه فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم ولتكن أهل الطاعة يدا على أهل الجهل من سفهائكم واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها فإنكم من ذلك بين فضيلتين عاجل الخفض والدعة وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه وأمدكم بحسن معزته وحفظه انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم ولا مكدرة عليكم
فخرج القوم من عنده بدارا كلهم يخاف أن تكون السطوة به
ومن خطب الحجاج بن يوسف الثقفي عنده قدومه الكوفه أميرا على العراق يا أهل العراق أنا الحجاج بن يوسف
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى اضع العمامة تعرفوني ) والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى يا أهل العراق ما يغمز جانبي كتغماز التنين ولا يقعقع لي بالشنان وقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وأجريت من الغاية وإن أمير المؤمنين عبد الملك نثر

كنانته بين يديه فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأشدها مكسرا فوجهني إليكم ورماكم بي يا أهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في منام الضلال وسننتم سنن الغي وايم الله لألحونكم لحو العود ولأقرعنكم قرع المروة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل إني والله لا أحلف إلا صدقت ولا أعد إلا وفيت إياي وهذه الزرافات وقال وما يقول وكان وما يكون وما أنتم وذاك يأهل العراق إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأتاها وعيد القرى من ربها فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا
واعلموا أن ليس مني الإكثار والإهذار ولا مع ذلك النفار ولا الفرار إنما هو انتضاء هذا السيف ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى يذل الله لأمير المؤمنين عزتكم ويقيم له أودكم وصعركم ثم إني وجدت الصدق من البر ووجدت البر في الجنة ووجدت الكذب من الفجور ووجدت الفجور في النار وإن أمير المؤمنين أمرني أن أعطيكم أعطياتكم وأشخصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين وقد أمرت لكم بذلك وأجلتكم ثلاثا وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به ويستوفيه مني لئن

تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه وأنهبن ماله ثم التفت إلى أهل الشام فقال أنتم البطانة والعشيرة والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر وإنما أنتم كما قال الله تعالى ( وضرب الله مثلا كلمة طيبة ) الآية والتفت إلى أهل العراق فقال والله لريحكم أنتن من ريح الأبخر وإنما أنتم كما قال الله ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) الآية
ومن خطبه لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم
أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لبه ساء أدبه إن الحزم والعزم سكنا في وسطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه
ولعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وابنه المأمون من خلفاء بني العباس

وغيرهم من خلفاء الدولتين وأمرائهم خطب فائقة وبلاغات معجبة رائقة يضيق هذا الكتاب عن إيرادها وقد أوردنا من ذلك ما فيه كفاية للبيب ومقنع للأريب
ومن خطب أبي بكر بن عبد الله أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام وقد بلغه عن قوم من أهل المدينة أنهم ينالون من أصحاب رسول الله ويسعفهم آخرون على ذلك
أيها الناس إني قائل قولا فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه ومن لم يعه فلا يعد من ذمامها إن قصرتم عن تفصيله فلن تعجزوا عن تحصيله فأرعوه أبصاركم وأوعوه أسماعكم وأشعروه قلوبكم فالموعظة حياة والمؤمنون إخوة وعلى الله قصد السبيل ولو شاء لهداكم أجمعين فأتوا الهدى تهتدوا واجتنبوا الغي ترشدوا وأنيبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها جعلنا الله وإياكم ممن يتبع رضوانه ويجتنب سخطه فإنا نحن به وله وإن الله بعث محمدا بالدين واختاره على العالمين واختار له أصحابا على الحق وزراء دون الخلق اختصهم به وانتخبهم له فصدقوه ونصروه وعزروه ووقروه فلم يقدموا إلا بأمره ولم يحجموا إلا عن رأيه وكانوا أعوانه بعهده وخلفاء من بعده فوصفهم فأحسن وصفهم وذكرهم فأثنى عليهم

فقال وقوله الحق ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ) إلى قوله ( مغفرة وأجرا عظيما ) فمن غاظوه كفر وخاب وفجر وخسر وقال الله جل وعز ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) إلى قوله ( ربنا إنك رءوف رحيم ) فمن خالف شريطة الله عليه لهم وأمره إياه فيهم فلا حق له في الفيء ولا سهم له في الإسلام في آي كثيرة من القرآن فمرق مارقة من الدين وفارقوا المسلمين وجعلوهم عصين وحزبوا أحزابا أشابات وأوشابا فخالفوا كتاب الله فيهم فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم مالي أرى عيونا خزرا ورقابا صعرا وبطونا بجرى شجى لا يسيغه الماء وداء لا يشرب فيه الدواء أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين كلا والله بل هو الهناء والطلاء حتى يظهر العذر ويبوح السر ويضح العيب ويشوس الجيب فإنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى ويحكم إني لست أتاويا أعلم ولا بدويا أفهم قد حلبتكم أشطرا وقلبتكم أبطنا وأظهرا فعرفت أنحاءكم وأهواءكم وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسروا الكفر في قلوبهم فضربوا بعض أصحاب رسول الله ببعض وولدوا الروايات فيهم وضربوا الأمثال ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا

يأذنون لهم ويصغون إليهم مهلا مهلا قبل وقوع القوارع وطول الروائع هذا لهذا ومع هذا فلست أعتنش آئبا ولا تائبا عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام فأسروا خيرا وأظهروه واجهروا به وأخلصوه وطالما مشيتم القهقرى ناكصين وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظة بين يدي نقمة ولست أدعوكم إلى هوى يتبع ولا إلى رأي يبتدع إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى فمن أجاب فإلى رشده ومن عمي فعن قصده فهلم إلى الشرائع الجدائع ولا تولوا عن سبيل المؤمنين ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ( بئس للظالمين بدلا ) إياكم وبنيات الطريق فعندها الترنيق والترهيق وعليكم بالجادة فهي أسد وأورد ودعوا الأماني فقد أودت من كان قبلكم وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( ولله الآخرة والأولى ) ( ولا تفتروا على الله الكذب فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ) ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )
ومن خطب خالد بن عبد الله أمير البصرة أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم واشتروا الحمد بالجود ولا تكسبوا بالمطل

ذما ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم فلا تملوا النعم فتحولوها نقما واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوها قبيحا تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار أيها الناس إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة وأوصل الناس من وصل من قطعه ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
ومن خطب قطري بن الفجاءة خطبته المشهورة في ذم الدنيا والتحذير عنها وهي
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور لا تدوم نصرتها ولا تؤمن فجعتها غرارة ضرارة وخاتلة زائلة ونافذة بائدة أكالة غوالة لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا )

مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا ولم تصله غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء وحرية إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة وأي جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب وأوبا فإن آتت امرأ من غصونها ورقا أرهقته من نوائبها تعبا ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف غرارة غرور ما فيها فانية فان من عليها لا خير في شيء من زادها إلا التقوى من أقل منها استكثر مما يؤمنه ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينه كم واثق بها قد فجعته وذي حكم ثنته إليها قد صرعته وذي احتيال فيها قد خدعته وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا وذي نخوة قد ردته ذليلا ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم سلطانها دول وعيشها رنق وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام قطافها سلع حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم منيعها بعرض اهتضام وملكها مسلوب وعزيزها مغلوب وسليمها منكوب وجارها محروب مع أن وراء ذلك سكرات الموت وهول المطلع

والوقوف بين يدي الحكم العدل ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعمارا وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا وأشد عتودا تعبدوا للدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب بل أرهقتهم بالقوادح وضعضعتهم بالنوائب وعقرتهم بالفجائع وقد رأيتم تنكرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق إلى الأبد إلى آخر الأمد هل زودتهم إلا السغب وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون يقول الله جل ذكره ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) بئست الدار لمن أقام فيها فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها الأبد فإنما هي كما وصفها الله تعالى باللعب واللهو وقد قال الله تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين )
إلى غير ذلك من خطب خلفاء الدولتين وأمرائهم مما يطول القول بإيراده ويخرج الكتاب بذكره عن حده

المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب في الخطب
قد تقدم في أول المقصد الأول من هذا النوع قول أبي هلال العسكري إن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا

تقفية والمشاكلة في الفواصل وان الخطب يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة وحينئذ فإذا أراد الكاتب نقل الخطبة إلى الرسالة أمكنه ذلك فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الخطب البليغة وعلم مقاصد الخطابة وموارد الفصاحة ومواقع البلاغة وعرف مصاقع الخطباء ومشاهيرهم اتسع له المجال في الكلام وسهلت عليه مستوعرات النثر وذللت له صعاب المعاني وفاض على لسانه في وقت الحاجة ما كمن في ذلك بين ضلوعه فأودعه في نثره وضمنه في رسائله فاستغنى عن شغل الفكر في استنباط المعاني البديعة ومشقة التعب في تتبع الألفاظ الفصيحة التي لا تنهض فكرته بمثلها ولو جهد ولا يسمح خاطره بنظيرها ولو دأب إن الخطب جزء من أجزاء الكتابة ونوع من أنواعها يحتاج الكتاب إليها في صدور بعض المكاتبات وفي البيعات والعهود والتقاليد والتفاويض وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وما لعله ينشئه من خطبة صداق أو رسالة أو نحو ذلك وكذلك يعرف مصاقع الخطباء ومشاهير الفصحاء والبلغاء كقس بن ساعدة الإيادي الذي تقدمت خطبته آنفا في صدر الخطب وسحبان الوائلي وهو رجل من بني وائل لسن بليغ يضرب به المثل في البيان وغيرهما ممن يضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة ومن ينسب إلى العي والغباوة كباقل وهو رجل من العرب اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فقيل له بكم اشتريته ففتح كفيه وفرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر ولم يحسن التعبير عنها فانفلت الظبي فضرب به المثل في العي فإذا عرف البليغ وغير البليغ وعالي الرتبة وسافلها وعرض حينئذ بذكر من أراد منهم مقايسا للفاضل بمثله وللغبي بنظيره كما قال القاضي الفاضل في بعض رسائله في

جواب كتاب ورد عليه من بعض إخوانه
فأما شوقه لعبده فالمولى قد أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان وسحب ذيل العي على سحبان
وكما قال الشيخ ضياء الدين أحمد القرطبي من رسالة كتب بها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يصف رسالة وردت منه عليه إن كلمها يميس في صدورها وأعجازها وتنثال عليها أعراض المعاني بين إسهابها وإيجازها فهي فرائد ائتلفت في أبكار الوائلي والإيادي
النوع التاسع مما يحتاج إليه الكاتب من حفظ جانب جيد من مكاتبات الصدر الأول ومحاوراتهم ومراجعاتهم وما ادعاه كل منهم لنفسه أو لقومه والنظر في رسائل المتقدمين من بلغاء الكتاب وفيه ثلاثة مقاصد

المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى معرفة ذلك
أما حفظ مكاتبات الصدر الأول ورسائلهم فلأنها مع مبتدع البلاغة وكنز الفصاحة غير ملابسة لطريقة الكتاب في أكثر الأمور فيستعان بحفظها

على مواقع البلاغة ولا يطمع الخاطر بالاتكال على إيراد فصل منها برمته لمخالفته لأسلوب الكتاب في أكثر الأمور
وأما النظر في رسائل البلغاء من فضلاء الكتاب فلما في ذلك من تنقيح القريحة وإرشاد الخاطر وتسهيل الطرق والنسج على منوال المجيد والاقتداء بطريقة المحسن واستدراك ما فات والاحتراز مما أظهره النقد ورد ما بهرجه السبك واقتصر على النظر فيها دون حفظها لئلا يتكل الخاطر على ما يأتي بأصله مما ليس له فيتشبع بما لم يعط فيكون كلابس ثوبي زور اللهم إلا أن يريد بحفظها المحاضرة دون الإنشاء فإن اللائق به الحفظ دون غيره

المقصد الثاني في ذكر شيء من مكابتات الصدر الأول يكون مدخلا إلى معرفة
ما يحتاج إلى حفظه من ذلك
أما مكاتباتهم المشتملة على المجاوره والمراجعة فمنها ما كتب به معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زمن المشاجرة بينهما وهي
أما بعد فإن الله اصطفى محمدا وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واختار له من المسلمين أعوانا أيده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة والخليفة الثالث فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر وتنفسك الصعداء وإبطائك على الخلفاء وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتى تبايع

وأنت كاره ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمك عثمان وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك به في قرابتته وصهره فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت عليه الناس حتى ضربت إليه آباط الإبل وشهر عليه السلاح في حرم الرسول فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة لا تؤدي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل بر أقسم قسما صادقا لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهين الناس عنه ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ضنين إيواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك وعضدك وأنصارك فقد بلغني أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ثم نحن أسرع الناس إليك وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف والذي نفس معاوية بيده لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله
فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جواب ذلك
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا لدينه وتأييده إياه بمن أيده به من أصحابه فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا فكنت كناقل التمر إلى هجر أو داعي مدرة إلى النضال وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان فذكرت أمرا إن تم

اعتزلك كله وإن نقص لم يلحقك قله وما أنت والفاضل والمفضول والسائل والمسؤول وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حن قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ألا تربع على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواع عن القصد ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوما استشهدوا في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء وخصه رسول الله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحد منا ما فعل بواحد منهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين ولولا ما نهي عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا لم يمنعنا قديم عزنا ومديد طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب فإسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا تدفع كتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله سبحانه وتعالى ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقوله تعالى ( إن أولى الناس

بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك فتكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ولعمر الله لقد أردت أن تذم فحمدت وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولا مرتابا في يقينه وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح لك من ذكرها
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه كلا والله لقد علم الله المعوقين منكم والقابلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا فإن يكن الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار

متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين أو بالسيوف مخوفين
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل سيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شديد زحامهم ساطع قتامهم مسربلين سرابيل الموت أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم قد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية قد علمت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك ( وما هي من الظالمين ببعيد )
وكما كتب أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس وهو يومئذ خليفة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط حين بويع له بالخلافة وخرج على المنصور يريد انتزاعها منه من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد ( فإنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) ولك ذمة الله وعهده وميثاقه وحق نبيه محمد إن تبت من قبل أن يقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وجميع شيعتك وأن أعطيك ألف ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضي

لك ما شئت ما الحاجات وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه وإن شئت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأيمان ما أحببت والسلام
فأجابه محمد بن عبد الله بما نصه
من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد أما بعد ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أن الحق حقنا وأنكم إنما أعطيتموه بنا ونهضتم فيه بسعينا وحطتموه بفضلنا وأن أبانا عليا عليه السلام كان الوصي والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وإنا بنو أم أبي رسول الله فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم فأنا أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا لم تلدني العجم ولم تعرق في أمهات الأولاد وإن الله عز و جل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم محمد ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما وأكثرهم جهادا علي بن أبي طالب ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى إلى القبلة ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين

وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن رسول الله ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين فما زال الإله يختار لي حتى اختار لي في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذابا يوم القيامة فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حدا من حدود الله تعالى أو حقا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك وأنت أحرى بقبول الأمان مني فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو أأمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان مسلم والسلام
فأجابه المنصور من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الحفاة والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة والأولياء وقد جعل الله تعالى العم أبا وبدأ به على الوالد الأدنى فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف عليه السلام ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب )
ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا وعمومته أربعة فأجاب اثنان أحدهما أبي وكفر اثنان أحدهما أبوك
وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قدر الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه

وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة بنت الحسين وأن هاشما ولد عليا مرتين وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين فخير الأولين والآخرين رسول الله ولم يلده هاشم إلا مرة واحدة ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة
وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله فإن الله عز و جل قد أبى ذلك فقال ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) ولكنكم قرابة ابنته وإنها قرابة ذريته غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤم فكيف تورث الإمامة من قبلها ولقد ظلمها أبوك من كل وجه فأخرجها تخاصم ومرضها سرا ودفنها ليلا فأبى الناس إلا تقديم الشيخين ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله فأمر بالصلاة غيره ثم أخذ الناس رجالا فلم يأخذوا أباك فيهم ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها وبايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه ثم بايع معاوية بعده وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالا من غير حله فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه
وأما قولك إن الله أختار لك في الكفر فجعل أبوك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار سترد فتعلم ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وأما قولك إنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وإنك

أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا وقدمت نفسك على من هو خير منك أولا وآخرا وأصلا وفصلا فخرت على إبراهيم بن رسول الله وعلى والد ولده فانظر ويحك أين تكون من الله تعالى غدا وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ولقد كان خيرا من جدك حسن بن حسن ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك وجدته أم ولد ثم ابنه جعفر وهو خير منك ولدته أم ولد ولقد علمت أن جدك عليا حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به فاجتمعا عل خلعه ثم خرج عمك الحسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه ثم أتوا بكم على الأقتاب من غير أوطية كالسبي المجلوب إلى الشأم ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أديار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة فمنعناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنا بما ذكرنا من فضل علي قدمناه على حمزة والعباس وجعفر كل أولئك مضوا سالمين سلما منهم وابتلي أبوك بالكرماء ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم وكانت للعباس دون إخوته فنازع فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها وتوفي رسول الله وليس من عمومته أحد حيا إلا العباس فكان وارثه دون بني عبد المطلب فطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء فقد ذهب بفضل القديم والحديث ولولا العباس أخرج إلى بدر كرها لمات عماك طالب وعقيل جوعا أو يتجشمان جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم ثم فدى عقيلا يوم بدر فقد مناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وحزنا شرف الآباء

وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه ووضعناكم حيث لم تضعوا أنفسكم والسلام
ومن مكاتبات ملوك الفرس البلغاء ما كتب به ارسطوطاليس إلى الاسكندر إنه إنما تملك الرعية بالإحسان إليها وتظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك بعنفك واعلم أنه إنما تملك الأبدان فاجمع إليها القلوب بالمحبة واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت أن تفعل فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه يوصيه بالرعية كتابا فيه ليكن من تختاره لولايتك رجلا كان في وضيعة فرفعته وذا شرف كان مهملا فاصطنعته ولا تجعله أمرأ أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا أحد ممن يقع بقلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته وإياك أن تستعمله ضريعا غمرا كثيرا إعجابه بنفسه قليلا تجربته في غيره ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه
ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه أيضا إن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما وإن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وإن رضاك بركة مفيدة على من رضيت عنه وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك فاحترس في غضبك من قولك أن يخطىء ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب جرما وتعفو حلما
ومما كتب به أردشير إلى رعيته من أردشير المؤيد ملك الملوك وارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين والأساورة الذين هم حفظة البيضة والكتاب الذين هم زين المملكة وذوي الحروب الذين هم عمدة البلد السلام عليكم فإنا نحمد إليكم الله سالمين وقد وضعنا عن

رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها ونحن مع ذلك كاتبون بوصية لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحتكروا فيشملكم القحط وتزوجوا القرائب فإنه أمس للرحم وأثبت في النسب ولا تعدوا هذه الدنيا شيئا ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها
وأما رسائلهم ومخاطباتهم فمن ذلك رسالة الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين تلكأ عن مبايعته على لسان أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه مع ما انضم إلى ذلك من كلام أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وما كان من جواب علي عنها
قال أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي ببغداد فتصرف في الحديث كل متصرف وكان غزير الرواية لطيف الدراية فجرى حديث السقيفة فركب كل مركبا وقال قولا وعرض بشيء ونزع إلى فن فقال هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجواب علي عنها ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة فقال الجماعة لا والله فقال هي والله من بنات الحقائق ومخبآت الصنادق ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته فكتبها عني بيده وقال لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين وإنها لتدل على علم وحلم وفصاحة ونباهة وبعد غور وشدة غوص فقال له العباداني أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها أسمعناها فنحن أوعى لك من المهلبي وأوجب ذماما عليك فاندفع وقال

حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح قال سمعت مولاي أبا عبيدة يقول لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها فدفع الله شرها ويسر خيرها بلغ أبا بكر عن علي تلكؤ وشماس وتهمم ونفاس فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة وتشتعل الجمرة وتتفرق ذات البين فدعاني بحضرته في خلوة وكان عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحده فقال يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك ولقد كنت من رسول الله بالمكان المحوط والمحل المغبوط ولقد قال فيك في يوم مشهود لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ولم تزل للدين ملتجا وللمؤمنين مرتجا ولأهلك ركنا ولإخوانك ردءا قد أردتك لأمر خطر مخوف وإصلاحه من أعظم المعروف ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق وأعسر منه وأغلق والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك فتأت له أبا عبيده وتلطف فيه وانصح لله عز و جل ولرسوله ولهذه العصابة غير آل جهدا ولا قال حمدا والله كالؤك وناصرك وهاديك ومبصرك إن شاء الله امض إلى علي واخفض له جناحك واغضض عنده صوتك واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه وقل له البحر مغرقة والبر مفرقة والجو أكلف والليل أغدف والسماء جلواء والأرض صلعاء والصعود

متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف رءوف والباطل عنوف عسوف والعجب قداحة الشر والضغن رائد البوار والتعريض شجار الفتنة والقحة ثقوب العداوة وهذا الشيطان متكىء على شماله متحيل بيمينه نافخ خصييه لأهله ينتظر الشتات والفرقة ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة عنادا لله عز و جل أولا ولآدم ثانيا ولنبيه ودينه ثالثا يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور ويمني أهل الشرور يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر لا منجى منه إلا بعض الناجذ على الحق وغض الطرف عن الباطل ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد والآكد فالآكد وإسلام النفس لله عز و جل في ابتغاء رضاه ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه ولقد أرشدك من أفاء ضالتك وصافاك من أحيا مودته بعتابك وأراد لك الخير من آثر البقاء معك ما هذا الذي تسول لك نفسك ويدوي به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويسري فيه ظعنك ويتراد معه نفسك وتكثر عنده صعداؤك ولا يفيض به لسانك أعجمة بعد إفصاح أتلبيس بعد إيضاح أدين غير دين الله أخلق غير خلق القرآن أهدي غير هدي النبي أمثلي تمشي له الضراء وتدب له الخمر أم مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان وما هذه الوعوعة باللسان إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز و جل ولرسوله وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا هجرة إلى الله عز و جل ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان

الشبيبة غافل عما يشيب ويريب لا تعي ما يراد ويشاد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك وعندها حط رحلك غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي ونقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صابها ونشرج عيابها ونحكم آساسها ونبرم أمراسها والعيون تحدج بالحسد والأنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والشفار تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحا ولا عند الصباح مساء ولا ندفع في نحر امرىء إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ مرادا إلا بعد الإياس من الحياة عنده فادين في جميع ذلك رسول الله بالأب والأم والخال والعم والمال والنشب والسبد واللبد والهلة والبلة بطيب أنفس وقرة أعين ورحب أعطان وثبات عزائم وصحة عقول وطلاقة أوجه وذلاقة ألسن هذا مع خفيات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا ولولا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلا كيف وفؤادك مشهوم وعودك معجوم والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك وجعل مرادك بين يديك وعن علم أقول ما تسمع فارتقب زمانك وقلص أردانك ودع التقعس والتجسس لمن لا يظلع لك إذا خطا ولا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض والنفوس

فيها مض وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا وماؤها العذب فلا تحل أجاجا والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي
ولقد شاورني رسول الله في الصهر فذكر فتيانا من قريش فقلت أين أنت من علي فقال إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه فقلت له متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء ولا لوجاء فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك وكنت إذا ذاك خيرا لك منك الآن لي ولئن كان عرض بك رسول الله في هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم فالحكم مرضي والصواب مسموع والحق مطاع ولقد نقل رسول الله إلى الله عز و جل وهو عن هذه العصابة راض وعليها حذر يسره ما سرها ويسوءه ما ساءها ويكيده ما كادها ويرضيه ما أرضاها ويسخطه ما أسخطها أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة أتظن أنه ترك الأمة سدى بددا عباهل مباهل طلاحى مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد ولا ضابط ولا حائط ولا ساقي ولا واقي ولا هادي ولا حادي كلا والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى

وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه وجدع أنف الفتنة في ذات الله وتفل في عين الشيطان بعون الله وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز و جل
وبعد فهذه المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة ودار جامعة وإن استقالوني لك وأشاروا عندي بك فأنا واضع يدي في يدك وصائر إلى رأيهم فيك وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون وكن العون على مصالحهم والفاتح لمغالقهم والمرشد لضالتهم والرادع لغوايتهم فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى والتناصر على الحق ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن
وبعد فالناس فارفق بهم واحن عليهم ولن لهم ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم واترك ناجم الحقد حصيدا وطائر الشر واقعا وباب الفتنة مغلقا فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع والله على ما نقول شهيد وبما نحن عليه بصير
قال أبو عبيدة فلما تأهبت للنهوض قال عمر رضي الله عنه كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول فوقفت وما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا وقال لي قل لعلي الرقاد محلمة والهوى مقحمة وما منا إلا له مقام معلوم وحق مشاع أو مقسوم ونبأ ظاهر أو مكتوم وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفا وقارب البعيد تلطفا ووزن كل شيء بميزانه ولم يخلط خبره بعيانه ولم يجعل فتره مكان شبره دينا كان أو دنيا ضلالا كان أو هدى ولا خير في علم مستعمل في جهل ولا خير في معرفة

مشوبة بنكر ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان والذنب وكل صال فبناره وكل سيل إلى قراره وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق وقد جدع الله بمحمد أنف كل ذي كبر وقصم ظهر كل جبار وقطع لسان كل كذوب فماذا بعد الحق إلا الضلال ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك ما هذا الشجا المعترض في مداج أنفاسك ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه بالشحناء والنكر ولسنا في كسروية كسرى ولا في قيصرية قيصر تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا ودريئة لرماحنا ومرمى لطعاننا وتبعا لسلطاننا بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة وثمرة حكمة وأثرة رحمة وعنوان نعمة وظل عصمة بين أمة مهدية بالحق والصدق مأمونة على الرتق والفتق لها من الله قلب أبي وساعد قوي ويد ناصرة وعين باصرة أتظن ظنا يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها أو متسلطا عليها أتراه جل عقودها وأحال عقولها أتراه جعل نهارها ليلا ووزنها كيلا ويقظتها رقادا وصلاحها فسادا لا والله سلا عنها فولهت له وتطامن لها فلصقت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه حباه الله بها وعاقبة بلغه الله إليها ونعمة سربلة جمالها ويد أوجب الله عليه شكرها وأمة نظر الله به إليها والله أعلم بخلقه وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة ولا يجحد

حقك فيما آتاك الله ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك وقرب أمس من قرابتك وسن أعلى من سنك وشبيبة أروع من شبيبتك وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع ولا تخرج منها ببازل ولا هبع ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله وعلاقة نفسه وعيبة سره ومفزع رأيه ومشورته وراحة كفه ومرمق طرفه وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرته مغنية عن الدليل عليه ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة ولكنه أقرب منك قربة والقرابة لحم ودم والقربة نفس وروح وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون ومهما شككت في ذلك فلا تشك أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع لك غدا والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك فإن يك في الأمد طول وفي الأجل فسحة فستأكله مريئا أو غير مريء وستشربه هنيئا أو غير هنيء حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك يمض إهابك ويعرك أديمك ويزري على هديك هنالك تقرع السن من ندم وتجرع الماء ممزوجا بدم وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها ورددت إلى حالتك التي استغويتها ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه وغيب هو شاهده وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها وهو الولي الحميد الغفور الودود
قال أبو عبيدة فتمشيت متزملا أنوء كأنما أخطو على رأسي فرقا من الفرقة وشفقا على الأمة حتى وصلت إلى علي رضي الله عنه في خلاء

فابتثثته بثي كله وبرئت إليه منه ورفقت به فلما سمعها ووعاها وسرت في مفاصله حمياها قال حلت معلوطه وولت مخروطه وأنشأ يقول
( إحدى لياليك فهيسي هيسي ... لا تنعمي الليلة بالتعريس )
نعم يا أبا عبيدة أكل هذا في نفس القوم ويحسون به ويضطبعون عليه قال أبو عبيدة فقلت لا جواب لك عندي إنما أنا قاض حق الدين وراتق فتق المسلمين وساد ثلمة الأمة يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي وقرارة نفسي
فقال علي رضي الله عنه والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصدا للخلاف ولا إنكارا للمعروف ولا زراية على مسلم بل لما قد وقذني به رسول الله من فراقه وأودعني من الحزن لفقده وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدا إلا جد علي حزنا وذكرني شجنا وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرق رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله وسلم لعلمه ومشيئته وأمره ونهيه على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع ولا عن الحق الذي سبق إلي دافع وإذ قد أفعم الوادي بي وحشد النادي من أجلي فلا مرحبا بما أساء أحدا من المسلمين وسرني وفي النفس كلام لولا سابق عقد وسالف

عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي وعنده أحتسب ما نزل بي وإني غاد إلى جماعتكم مبايع صاحبكم صابر على ما ساءني وسركم ( ليقضي الله أمرا كان مفعولا )
قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غره ولم أختزل شيئا من حلوه ومره وبكرت غدوة إلى المسجد فلما كان صباح يومئذ وإذا علي مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه وقال خيرا ووصف جميلا وجلس زميتا واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرما له مستأثرا لما عنده
فقال علي رضي الله عنه ما قعدت عن صاحبكم كارها ولا أتيته فرقا ولا أقول ما أقول تعلة ولئني لأعرف منتهى طرفي ومحط قدمي ومنزع قوسي وموقع سهمي ولكن قد أزمت على فأسي ثقة بربي في الدنيا والآخرة
فقال له عمر رضي الله عنه كفكف غربك واستوقف سربك ودع العصي بلحائها والدلاء على رشائها فإنا من خلفها وورائها إن قدحنا أورينا وإن متحنا أروينا وإن قرحنا أدمينا ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت وزعمت أنك قعدت في كن بيتك لما وقذك به رسول الله

من فقده فهو وقذك ولم يقذ غيرك بل مصابه أعظم وأعم من ذلك وإن من حق مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه وموازرة أوليائه ومعاونتهم وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله والرأفة على خلق الله وبذل ما يصلحون به ويرشدون عليه وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك وأي حق لط دونك قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرا وجهرا وتقلبت عليه بطنا وظهرا فهل ذكرت أو أشارت بك أو وجدت رضاهم عنك هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر أو أومأ بعينه أو هم في نفسه أتظن أن الناس ضلوا من أجلك وعادوا كفارا زهدا فيك وباعوا الله تحاملا عليك لا والله لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالوا إن عليا ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من غيره وينكر على من يعقد الخلافة فأنكرت عليهم ورددت القول في نحرهم حيث قالوا إنه ينتظر الوحي ويتوكف مناجاة الملك فقلت ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد أكان الأمر معقودا بأنشوطه أو مشدودا بأطراف ليطه كلا والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت ولا شوكاء إلا وقد تفتحت ومن أعجب شأنك قولك ولولا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها وهور ليلها وغور سيلها وأبدل منها الروح والريحان والهدى والبرهان وزعمت أنك ملجم ولعمري إن من اتقى الله

وآثر رضاه وطلب ما عنده أمسك لسانه وأطبق فاه وجعل سعيه لما وراه
فقال علي رضي الله عنه مهلا يا أبا حفص والله ما بذلت وأنا أريد نكثه ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولا عنه وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق واحتضن الشقاق وفي الله سلوة عن كل حادث وعليه التوكل في جمع الحوادث ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فسيح اللبان فصيح اللسان فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الإصر ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه
قال أبو عبيدة رضي الله عنه فانصرف علي وعمر رضي الله عنهما وهذا أصعب ما مر علي بعد رسول الله
ومن ذلك كلام عائشة رضي الله عنها في الانتصار لأبيها
يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقواما يتناولون أبا بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى أزفلة من الناس فلما حضروا أسدلت أستارها وعلت وسادها ثم قالت أبي وما أبيه أبي والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات الله عز و جل حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه

ويستهزئون به ( الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت قسيها وفوقت سهامها وانتثلوه غرضا فما فلوا له صفاه ولا قصفوا له قناة ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله لنبيه ما عنده فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله وأجلب بخيله ورجله واضطرب حبل الإسلام ومرج عهده وماج أهله وبغي الغوائل وظنت رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها ولات حين الذين يرجون وأنى والصديق بين أظهرهم فقام حاسروا مشمرا فجمع حاشيتيه ورفع قطريه فرد رسن الإسلام على غربه ولم شعثه بطبه وانتاش الدين فنعشه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب لله در أم حملت به ودرت عليه لقد أوجدت به ففنخ الكفرة ودبخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها فقاءت أكلها ولفظت خبأها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها ثم وزع فيها فيأها وودعها كما صحبها

فأروني ماذا ترتؤون وأي يومي أبي تنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه إذ نظر لكم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئا قالوا اللهم لا
ومن ذلك كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي رضي الله عنه
يروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش البارقية برحلها وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشر شرا فلما ورد عليه كتابه وركب إليها فأقرأها الكتاب فقالت أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه يجازيني بقولك في بالخير خيرا وبالشر شرا فما عندك قالت يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية فأنزلها مع حريمه ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته قال لها وعليك السلام يا أم الخير وبالرغم منك دعوتيني بهذا الاسم قالت مه يا أمير المؤمنين فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ( ولكل أجل كتاب ) قال صدقت فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك قالت لم أزل في عافية وسلامة حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق قال معاوية بحسن نيتي ظفرت بكم قالت يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تردي عاقبته قال ليس هذا أردنا أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر قالت لم أكن والله زورته قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالا

غير ذلك فعلت قال لا أشاء ذلك ثم التفت إلى أصحابه فقال أيكم يحفظ كلام أم الخير فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد قال هاته قال نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الظفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول
( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) إن الله قد أوضح الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة فإلى أين تريدون رحمكم الله أفرارا عن أمير المؤمنين أم فرارا من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتدادا عن الحق أما سمعتم الله عز و جل يقول ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول
قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوصي الوفي والصديق الأكبر إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس
ثم قالت ( قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) صبرا معشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من

دينكم وكأني بكم غدا قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنة نزل في النار أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأبي ابنيه خلق من طينته وتفرع عن نبعته وخصه بسره وجعله باب مدينته وأعلم بحبه المسلمين وأبان ببغضه المنافقين فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة اللذات وهو مفلق الهام ومكسر الأصنام إذ صلى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وفرق جمع هوازن فيالها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا وردة وشقاقا وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقال معاوية والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك
قالت والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه قال هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان قالت وما عسيت أن أقول فيه استخلفه الناس وهم كارهون وقتلوه وهم راضون فقال إيها يا أم الخير هذا والله أصلك الذي تبنين عليه قالت

لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا ما أردت بعثمان نقصا ولقد كان سباقا إلى الخيرات وإنه لرفيع الدرجة قال فما تقولين في طلحة بن عبيد الله قالت وما عسى أن أقول في طلحة أغتيل من مأمنه وأتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله الجنة قال فما تقولين في الزبير قالت يا هذا لا تدعني كرجيع الضبع يعرك في المركن قال حقا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك قالت وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه وقد شهد له رسول الله بالجنة ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشا تحدث أنك من أحلمها أن تسعني بفضل حلمك وأن تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها قال نعم وكرامة قد أعفيتك وردها مكرمة إلى بلدها
ونحو ذلك كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضا
يروى أنها ذكرت عند معاوية يوما فقال لجلسائه أيكم يحفظ كلامها قال بعضهم نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال فأشيروا علي في أمرها فأشار بعضهم بقتلها فقال بئس الرأي أيحسن بمثلي أن يقتل أمرأة ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة فلما دخلت على معاوية قال مرحبا بك وأهلا قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك قالت بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة قال كيف كنت في مسيرك قالت ربيبة بيت أو طفلا ممهدا قال بذلك أمرناهم أتدرين فيم بعثت إليك قالت وأني لي بعلم ما لم أعلم وما يعلم الغيب إلا الله عز و جل قال ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين بصفين تحضين الناس على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك قالت يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولن يعود ما ذهب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر قال لها معاوية أتحفظين كلامك يومئذ قالت لا والله ولقد أنسيته قال لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين

أيها الناس ارعووا وارجعوا إنكم أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها ولا تسلس لقائدها إن المصباح لا يضيء في الشمس والكواكب لا تنير مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد ألا من استرشد أرشدناه ومن سألنا أخبرناه
أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبرا يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة التقوى ودمغ الحق باطله فلا يجهلن أحد فيقول كيف العدل وأنى ليقضي الله أمرا كان مفعولا ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ولهذا اليوم ما بعده والصبر خير في عواقب الأمور إيها لحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين
ثم قال لها يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه قالت أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك من بشر بخير وسر جليسه قال ويسرك ذلك قالت نعم سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته اذكري حاجتك قالت يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا ومثلك من أعطى من غير مسألة وجاد من غير طلبة قال صدقت وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا
وقريب من ذلك كلام عكرشة بنت الأطرش يوم صفين أيضا
يروى أنها دخلت على معاوية متوكئة على عكاز لها فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست فقال لها معاوية الآن صرت عندك أمير المؤمنين قالت نعم إذ لا علي حي قال ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة لا يحزن من قطنها ولا يهرم من سكنها ولا

يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين على حقهم إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة دعاهم إلى الباطل فأجابوه واستدعاهم إلى الدنيا فلبوه فالله الله عباد الله في دين الله وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفىء نور الحق هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تقصع قصع البعير
ثم قال فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش فإن كدت لتفلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدرا مقدورا فما حملك على ذلك قالت يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته قال صدقت فاذكري حاجتك قالت كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا وقد فقدنا ذلك فيما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة قال معاوية يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتق وبحور تتدفق قالت سبحان الله والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضرارا لغيرنا وهو علام الغيوب قال معاوية هيهات يا أهل العراق نبهكم علي فلن تطاقوا ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافهم
والشاهد في هذه الحكايات كلام هؤلاء النسوة مع ما فيها من المراجعات والمخاطبات والمقاولات والمحاورات الصالحة للاستشهاد

للفصل المتقدم قبل ذلك وهذا باب متسع لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه وفيما ذكرنا مقنع
ومن ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أرسل إلى معاوية بالشام كتابا صحبة صعصعة بن صوحان فسار به حتى أتى دمشق فأتى باب معاوية فقال لآذنه أستأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبالباب جماعة من بني أمية فأخذته النعال والأيدي لقوله أمير المؤمنين وكثرت عليه الجلبة فاتصل ذلك بمعاوية فأذن له فدخل علية فقال السلام عليك يا بن أبي سفيان هذا كتاب أمير المؤمنين فقال معاوية أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك ثم اعترضه معاوية في الكلام وأراد أن يستخبره ليعرف طبعا أم تكلفا فقال له ممن الرجل قال من نزار قال وما كان نزار قال كان إذا غزا انكمش وإذا لقى افترش وإذا انصرف احترش قال فمن أي أولاده أنت قال من ربيعة قال وما كان ربيعة قال كان يطيل النجاد ويعول العباد ويضرب ببقاع الأرض العماد قال فمن أي أولاده أنت قال من جديلة قال وما كان جديلة قال كان في الحرب سيفا قاطعا وفي المكرمات غيثا نافعا وفي اللقاء لهبا ساطعا قال فمن أي أولاده أنت قال من عبد القيس قال وما كان عبد القيس قال كان حسنا أبيض وهابا يقدم لضيفه ما وجد ولا يسأل عما فقد كثير المرق طيب العرق يقوم للناس مقام الغيث من السماء قال ويحك يا ابن صوحان فما تركت لهذا الحي من قريش مجدا ولا فخرا قال بلى والله يا بن أبي سفيان تركت لهم مالا يصلح إلا لهم

تركت لهم الأحمر والأبيض والأصفر والسرير والمنبر والملك إلى المحشر ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها قال صدقت يا ابن صوحان إن ذلك لكذلك فعرف صعصعة ما أراد فقال ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد بعدتم عن أنف المرعى وعلوتم عن عذب الماء قال ولم ذلك ويلك يا ابن صوحان فقال الويل لأهل النار ذلك لبني هاشم قال قم فأخرجوه فقال صعصعة الوعد بيني وبينك لا الوعيد من أراد المناجزة يقبل المحاجزة فقال معاوية لشيء ما سوده قومه ووددت أني من صلبه ثم التفت إلى بني أمية هكذا فقال هكذا فلتكن الرجال
ومن ذلك ما روي أن سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له ائتمنك أبي واصطنعك حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى فما جازيت أبي بآلائه حتى قدمت هذا علي وجعلت له الأمر دوني وأومأ إلى يزيد والله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه ولأنا خير منه فقال له معاوية أما ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة وكان من شكري إياه أن طلبت بدمه حتى كابدت أهوال البلاء وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلت تلك الأمور ولست لنفسي باللائم في التشمير ولا الزاري عليها في التقصير
وذكرت أن أباك خير من أبي هذا وأشار بيده إلى يزيد فصدقت لعمر الله لعثمان خير من معاوية أكرم كريما وأفضل قديما وأقرب إلى محمد رحما وذكرت أن أمك خير من أمه فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة

من بني كلب وذكرت أنك خير من يزيد فو الله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة عليها رجال مثل يزيد فقال له يزيد مه يا أمير المؤمنين أبن أخيك استعمل الدالة عليك واستعتبك لنفسه واستزاد منك فزده وأجمل له في ردك وأحمل على نفسك ووله خراسان بشفاعتي وأعنه بمال يظهر به موروثه فولاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد
ومن ذلك ما يروى أن زيد بن منبه قدم على معاوية فشكا إليه دينا لزمه فأعطاه ستين ألف درهم وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلى أخي زيد بن منبه وهو يومئذ عامل بمصر فقال له معاوية الحق بصهرك يعني عتبة فقدم عليه مصر فقال إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لحج السراب أخرى موقرا من حسن الظن بك وهاربا من دهر قطم ودين أزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولا فقال عتبة مرحبا بك وأهلا إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد وأخذ ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة معه وأنا رافع إليك يدي بيد الله فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية
ومن ذلك ما يحكى أن عبد العزى بن زرارة وفد على معاوية وهو سيد أهل الوبر فلما أذن له وقف بين يديه وقال يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرجاء إليك ولم أجد معولا إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل ويسوقني إليك بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقط فقال معاوية فاحطط عن راحلتك رحلها
وخرج عبد العزى هذا مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة وأبوه زرارة عند

معاوية فهلك هناك فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك فقال معاوية لزرارة أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال بل ابنك قال للموت ما تلد الوالدة أخذ بعضهم هذا المعنى فقال
( وللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن )
ومن ذلك ما يروى أن مروان بن الحكم وهو وال على المدينة في خلافة معاوية حبس غلاما من بني ليث في جناية جناها بالمدينة فأتته جدة الغلام وهي سنان بنت جشمية بن خرشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت له فعرفها فقال مرحبا بابنة جشمية ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتمينا وتحضين علينا عدونا قالت يا أمير المؤمنين إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما ظاهرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا يشتمون بعد عفو وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال صدقت نحن كذلك فكيف قولك
( عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد )
( يا آل مذحج لا مقام فشمروا ... إن العدو لآل مذجع يقصد )
( هذا علي كالهلال تحفه ... وسط السماء من الكواكب أسعد )
( خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا )
( ما زال مذ شهد الحروب مظفرا ... والنصر فوق لوائه ما يفقد )
قالت قد كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة
( إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديا مهديا )
( فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا )
( قد كنت بعد محمد خلفا لنا ... أوصى إليك بنا وكنت وفيا )
( واليوم لا حلف يؤمل بعد ... هيهات نأمل بعده إنسيا )

قالت يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظنناه فحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المسلمين حبا قال وإنك لتقولين ذلك قالت سبحان الله والله ما مثلك من مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلبنا كان علي والله أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك قال ممن قالت مروان وسعيد بن العاص قال وبم استحققت ذلك عندك قالت بسعة حلمك وكريم عفوك قال وإنهما يطمعان في ذلك قالت هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان قال لقد قاربت فما حاجتك قالت يا أمير المؤمنين إن مروان تبنك في المدينة تبنك من لا يريد منها البراح لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة يتبع عورات المؤمنين حبس ابن أبني فأتيته فقال كيت وكيت فأسمعته أخشن من الحجر وألقمته أمر من الصبر ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا قال صدقت لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه قالت يا أمير المؤمنين وأنى بالرجعة وقد نفد زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة موطاة وخمسة آلاف درهم
ومن ذلك ما روي أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون يقال لها الدارمية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فجىء بها فقال ما حالك يا ابنة حام قالت لست لحام أدعى

إن عبتني أنا امرأة من بني كنانة قال صدقت أتدرين لم أرسلت إليك قالت لا يعلم الغيب إلا الله بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتيني وواليتيه وعاديتيني قالت أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال لا أعفيك قالت أما إذا أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق وواليت عليا على عقد ما له من الولاية وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى قال ولذلك أنتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك قالت يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال لابي قال يا هذه أربعي فإنا لم نقل إلا خيرا إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت قال لها فهل رأيت عليا قالت لقد كنت رأيته قال كيف كنت رأيتيه قالت رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك قال لها فهل سمعت كلامه قالت نعم والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطست من الصداء قال صدقت فهل لك من حاجة قالت وتفعل إذا سألتك قال نعم قالت تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها قال تصنعين بها ماذا قالت اغذي بألبانها الصغار واستحبي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي قالت ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا سبحان الله أودونه فأنشأ معاوية يقول

( إذا لم أعد بالحلم مني إليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم )
( خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم )
ثم قال أما والله لو كان عليا ما أعطاك منها شيئا قالت والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين
ومن ذلك ما يروى أن أم البراء بنت صفوان استأذنت على معاوية فأذن لها فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع برود تسحبها ذراعا قد لاثت على رأسها كورا كالمنسف وجلست فقال لها معاوية كيف أنت يا ابنة صفوان قالت بخير يا أمير المؤمنين قال كيف حالك قالت كسلت بعد نشاط قال شتان بينك اليوم وحين تقولين
( يا زيد دونك صارما ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوار )
( أسرج جوادك مسرعا ومشمرا ... للحرب غير معود لفرار )
( أجب الإمام وذب تحت لوائه ... والق العدو بصارم بتار )
( يا ليتني أصبحت لست قعيدة ... فأذب عنه عساكر الفجار )
قالت قد كان ذلك ومثلك من عفا عما سلف ( ومن عاد فينتقم الله منه ) قال هيهات أما والله لو عاد لعدت ولكنه اخترم منك قالت أجل والله إني لعلى بينة من ربي وهدى من أمري قال كيف كان قولك حين قتل قالت أنسيته قال بعض جلسائه هو والله حين تقول
( يا للرجال لعظم هول مصيبة ... فدحت فليس مصابها بالحائل )
( الشمس كاسفة لفقد إمامنا ... خير الخلائق والإمام العادل )

( حاشى النبي لقد هددت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعا للباطل )
فقال معاوية قاتلك الله فما تركت مقالا لقائل أذكرى حاجتك قالت أما الآن فلا وقامت فعثرت فقالت تعس شانيء علي فقال زعمت أن لا قالت هو كما علمت فلما كان من الغد بعث إليها بجائزة وقال إذا ضيعت الحلم فمن يحفظه
ومن ذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي عدي بن أرطاة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما وكانا غير راغبين في القضاء فقال إياس أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وأبن سيرين وكان القاسم يأتي الحسن وأبن سيرين وإياس لا يأتيهما فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به فقا له لا تسأل عني ولا عنه فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا فما أشير عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي قال له إياس إنك جئت برجل فوقفت به على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما كان قال له عدي أما إذ فهمتها فأنت لها فاستقضاه
ومن ذلك ما حكاه صاحب العقد عن زياد عن مالك بن انس قال

خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس اتقوا الله فقام إليه رجل من عرض الناس فقال أذكرك الذي ذكرتنا به فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية سمعا لمن ذكر بالله وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأما أنت فو الله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس أختها فإن الموعظة علينا نزلت وفينا أنبثت ثم رجع إلى مكانه من الخطبة
ومن ذلك ما يحكى عن الربيع قال كنا وقوفا على رأس المنصور وقد طرحت للمهدي بن المنصور وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور وكان قد رشحه أن يوليه بعض أمره فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومواضعهم فتكلم فأجاد فمد المنصور يده إليه ثم قال يا بني وأعتنقه ونظر في وجوه أصحابه هل فيهم أحد يذكر مقامه ويصف فضله فكلهم كره ذلك وهاب المهدي فقام شبة بن عقال التميمي فقال لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين ما أفصح لسانه وأحس بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقة وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه وهو كما قال زهير بن أبي سلمى
( يطلب شأو امرأين قدما حسنا ... بذا الملوك وبذا هذه السوقا )
( هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا )
( أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا )

قال الربيع فأقبل علي بعض من حضر وقال والله ما رأيت مثل هذا تخلصا أرضى أمير المؤمنين ومدح الغلام وسلم من المهدي فالتفت إلي المنصور وقال يا ربيع لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم
ومن ذلك ما حكي أن رجلا دخل على المهدي ولي عهد المنصور فقال يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين المنصور شتمني وقذف أمي فإما أمرتني أن أحلله وإما عوضتني فاستغفرت له قال ولم شتمك قال شتمت عدوه بحضرته فغضب فقال ومن عدوه الذي غضب لشتمه قال إبراهيم بن عبد الله بن حسن قال إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذب وعن عرضه دفع وما أساء من انتصر لابن عمه قال فإنه كان عدوه قال فلم ينتصر للعداوة إنما انتصر للرحم فأسكت الرجل فلما ذهب ليولي قال لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى قال نعم فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم
ومن ذلك ما حكي أن المنصور قال لبعض قواده صدق الذي قال أجع كلبك يتبعك فقال له أبو العباس الطوسي أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يلوح له غيرك رغيفا فيتبعه ويدعك
ومن ذلك ما يحكى أنه وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان وفيهم محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي وكان أعظمهم قدرا وأكبرهم سنا فقال أصلح الله أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فيك وأقلت وأكثرت وأطنبت وما بلغ قائلهم قدرك ولا

أحصى مطنبهم فضلك وإن أذنت في القول قلت قال قل وأوجز قال تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى وزينك بالتقوى وجمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال هاتها قال كبرت سني ودق عظمي ونال الدهر مني فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسرى وينفي فقري قال وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك قال ألف دينار وألف دينار وألف دينار فأطرق هشام طويلا ثم قال هيهات يا ابن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل ما سألت فقال أما إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك لمجلسك فإن تعطنا فحقنا أديت وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك قال فألف دينار لماذا قال أقضي بها دينا قد حم قضاؤه وحناني حمله وأضر بي أهله قال فلا بأس تنفس كربة وتؤدي أمانة وألف دينار لماذا قال أزوج بها من بلغ من ولدي قال نعم المسلك سلكت أغضضت بصرا وأعففت ذكرا وروجت نسلا وألف دينار لماذا قال أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي وأستعين بفضلها على نوائب دهري وتكون ذخرا لمن بعدي قال فإنا قد أمرنا لك بما سألت قال فالمحمود الله على ذلك وخرج فقال هشام ما رأيت رجلا أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه وإنا لنعرف الحق إذا نزل ونكره الإسراف والبخل وما نعطي تبذيرا ولا نمنع تقتيرا وما نحن إلا خزان الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإن أذن أعطينا وإذا منع أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلا ولا رددنا سائلا فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا فقالوا يا أمير المؤمنين لقد تكلمت فأبلغت وما بلغ في كلامه ما قصصت فقال إنه مبتدى وليس المبتدي كالمقتدي

والحكايات والأخبار في ذلك كثيرة والإطناب يخرج عن المقصود ويؤدي إلى الملال وفيما ذكرنا من ذلك مقنع والله أعلم

المقصد الثالث في كيفية تصرف الكاتب في مثل هذه المكاتبات والرسائل
غير خاف على من تعاطى صناعة النثر والنظم أنه لا يستقل أحد باستخراج جميع المعاني بنفسه ولا يستغني عن النظر في كلام من تقدمه لاقتباس ما فيه من المعاني الرائقة والألفاظ الفائقة مع معرفة ترتيب أهل كل زمن واصطلاحهم فينسج على منوالهم أو يقترح طريقة تخالفهم وتوارد الكتاب والشعراء على المعاني غير مجهول فإن التوارد يقع في الشعر الذي هو مبني على أصل واحد من وزن وقافية فإنه إذا وقف على المعنى وترتيب الكلام عرف كيف ينسج الكلام مثل أن يكتب في تهنئة بمولود قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها ورسخت عروقها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم وذخيرة نفيسة لذوي الإقبال فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية والولاية الكافية وقد بلغني الخبر بحدوث الولد المبارك والفرع الطيب الذي عمر أفنية السيادة وأضحك مطلع السعادة فتباشرت بذلك وابتهجت به فجعله الله برا تقيا سعيدا حميدا يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم وأيمن به عددك وكثر به ذريتك وأوزعك الشكر عليه وأجارك فيه من الثكل برحمته
فيأخذ آخر المعنى ويورده بألفاظ أخرى فيقول قد جعلك الله من شجرة زكت غصونها وفرع شرفت منابته فالنمو فيها نعمة كاملة السعادة وغبطة شاملة السرور فتولى فضله عليك بالحفاظ الراعي والدفاع الكالي وقد اتصل بي خبر السليل الرضي والولد الصالح الذي حدد فوائد السيادة وثبت أساس الرفعة فاغتبطت به واستبشرت جعله الله تعالى ولدا ميمونا ونجلا سعيدا يسلك مناهج سلفه ويحذو في المحاسن حذوهم وزاد به في ثروتك وأراك فيه غاية أملك وسرك بوجوده وأسعدك برؤيته

فالمعنى والفصل واحد والألفاظ مختلفة وكذلك ما يجري هذا المجرى وما في معناه
قلت ولا ينهض بمثل ذلك إلا من رسخت في صنعة الكتابة قدمه وامتزج بأجزاء الفصاحة والبلاغة لحمه ودمه وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن الكريم فإن القصة الواحدة تتكرر فيه مرارا في سور متعددة ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في الأخرى مع استيفاء حد البلاغة ونهاية أمد الفصاحة ولذلك قل من سلك هذا المنهج أو ارتقى هذه الذروة وقد أتى علي بن حمزة بن طلحة في كتابه الاقتداء بالأفاضل من ذلك بالعجب العجاب فإنه قد استحسن كلام الخطيب ابن نباتة الفارقي والأمير قابوس الخراساني والوزير أبي القاسم المقري والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي الذين هم رؤساء الكتابة وأئمة الخطابة من الرسائل والعهود البديعة والخطب الموجزة الرائقة فجرد معانيها من ألفاظها واخترع لها ألفاظا غير ألفاظها مع زيادة تنميق ومراعاة ترصيف على أتم نظام وأحسن التئام

وهاتان نسختا كتابين الأولى منهما كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه جوابا عن كتاب وصل إليه عن أخيه عضد الدولة يخبره بمولود ولد له والثانية عارض بها علي بن حمزة المذكور أبا إسحاق الصابي في ذلك بألفاظ أخرى مع اتحاد المعنى
فأما التي كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة إلى عضد الدولة فهي
وصل كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالخبر السار للأولياء الكابت للأعداء في الولد الحبيب الأثير والسيد المقيل الخطير الذي زاد الله به في عددنا وجدد نعمه عندنا وحقق فيه آمالنا والآمال لنا فأخذ ذلك مني مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج وسألت الله تعالى أن يختصه بالبقاء الطويل والعمر المديد وأن يجعل مواهبه لسيدي الأمير نامية بنموه ناشية بنشوه ليكون كل يوم من أيامه ممدا له من فضله عادة وواعدا له من غده بزيادة ومحدثا لديه منحة تتضاعف إلى ما سبق من أمثالها ومجددا له عازمة تتلو ما سلف من أشكالها وأن يريه إياه غرة في وجه دولته ووارثا بعد سالفه البقاء لمنزلته قائما للملك قيامه وسادا منه مكانه ويهب له بعد الأكابر النجباء السابقين أترابا من الإخوة لاحقين تابع منهم من مباراة المتبوع وشافع من مجاراة المشفوع في فائدة تقدم بمقدمه وعائدة ترد بمورده ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها أو فترة يخترم زمانها أو نائبة تشوبها أو تنغصها أو رزية تثلمها أو تنقصها إلا أنها الأمد الأبعد والعمر الأطول ثم تفضي به غضارة هذه الدار الدنيا إلى قرارة الدار الأخرى مبوأ أوفى مراتبها مبلغا أقصى مبالغها حالا أرفع درجاتها مختصا بأنعمها مبتهجا بها مستثمرا ما قدمه لصالح سعيه

ومستوفيا ما أفاءه عليه متجره الرابح وآثاره البادية لإنفاقه في أيام نظري التي استشعرت نورا من سنائه وآنست جمالا من بهائه وثابت مصالحها ببركته وتوافت خيراتها بيمنه واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه وأسبابها ناجمة إلي بمنجمه فلو استطعت أن أكون مكان كتابي هذا مشافها بالتهنئة لسيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه ومقبلا لبساطه لكنت أولى عبيده بالمسارعة إلى بابه وأحقهم بالمبادرة إلى فنائه لأنني معوق عن تلك الخدمة بخدمة أنافيها من قبله ومقيم بهذه الحضرة إقامة المتصرفين تحت أمره وقد وفيت نعمة الله تعالى الواهب منه أيده الله تعالى ما يقرعين الولي ويقذي عين العدو ويطرفها حقها من الشكر الممتري للمقام والمزيد بدوام العز والتأييد وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقبولا عنه ونافعا له وعائدا عليه وعلينا بطول العمر وبباهي النشو والنماء وأن يعرف سيدي الأمير عضد الدولة أيده الله بركة مولده ويمن مورده ويبقيه حتى يراه والأمراء السابقين أيدهم الله تعالى آباء أمثالهم وأشياخ ذريتهم مبلغا في كل منهم أفضل ما رشحته له أمانيه وأعلى ما انبسطت آماله فيه بقدرته وأنا أتوقع الكتاب بما يقرر عليه اسم الأمير السيد وكنيته أعلاها الله تعالى لأستأنف إقامة الرسم في مكاتبته وتأدية الفرض في خدمته وسيدي عضد الدولة أطال الله بقاءه أعلى عينا فيما يراه بمطالعتي بذلك وبكل ما يوليه الله من مستأنف نعمه ويجدده له في حادث مواهبه له لآخذ بحظي منهما فأضرب بسهمي فيهما وتصريفي بين أمره ونهيه وتشريفي بعوارض خدمته إن شاء الله تعالى

وأما التي عارضها بها علي بن حمزة بن طلحة فهي
وصلني كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالبشرى المبتسمة عن ناجذ السعد الآنف والنعمى المنتسمة عن صبا المجد المتضاعف التي أشرقت مطالع الإقبال عن محياها وتضوعت نفحات درك الآمال عن رياها وصدقت من الأولياء ظنونهم المرتقبة وانتخبت من الأعداء عيونهم المرتعبة بالولد النجيب الخطير الأمير الحبيب الظهير المجيد المعمر المقيل المؤمر الذي كثر الله به عددنا معشر أهليه وعددنا بما نرتقبه منه ونراعيه وهو تكرمة تحقق ظنونا بماله نرتجيه وما نؤمله من السعادة المقبلة فيه فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي وتملكتني بهجة ثوت في مراجع قلبي وطفقت مبتهلا وتضرعت متوسلا إلى ذي العرش المجيد الفعال لما يريد أن يجمع له بين العمر المديد والجد السعيد كفاء ما قرن له بين المجد العتيد والملك الوطيد وأن يجعل تحيات أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد مترادفة الأمداد مبشرة بنجباء الأولاد يربى آنفها على السالف بسعده ويلهي عن تالدها الطارف بعلو مجده وأن يريه إياه على مفرق دولته وغرة تشرق في جبهة ذريته وناهضا بأعباء مملكته وقائما بنصرة دعوته حتى يرى أولاد أولاده جدودا مظفرا سعيدا وأن يتبعه أترابا من الإخوة النجباء الأماجد السعداء متجارين في حلبات علو الهمم متبارين في مزيات إيلاء النعم ليتزايد ازدحام وفود السعادة في عتبات بابه ويترافد اقتحام جنود الإقبال رحيب جنابه ويحرس لديه ما خوله من مواهبه وأياديه ويحفظ عليه ما به فضله من مناقبه ومعاليه ويقيه من كيد عاند إذا عند ويحميه من شر حاسد إذا حسد وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى وأن يجعل سعيه في مصالح عباده مشكورا ونظره في مناحج بلاده مبرورا وأن يغادر متاجر بره وتقواه رابحه كما جعل خواطر سره ونجواه صالحه فرياض الأيام بعدله نواضر ونواظر الأنام إلى فضله نواظر ومصالحهم بيمنه وبركته موافيه وبراعتهم بهمته

وسعادته مواتيه وإني لأعتقد أن مقيلي في أفياء السعادة ونيلي كل مأمول وإرادة وتوفيقي فيما أوفق فيه بما أعتمده وآتيه جدول من تيار فضله وسعادته منوط العرى بسمو همته وأود أن أكون عوضا عن كتابي هذا إليه وخطابي الوارد آنفا عليه لأسعد بلألاء غرته وأحظى بالأشرف من خدمته أدام الله أيام دولته لأني أجدر عبيده بالمهاجرة إلى بابه وأولى خدمه بالمبادرة إلى جنابه ولولا تحملي أعباء خدمته التي طوقنيها وكوني نائبه لدى هذه الحضرة فيها ثاويا بأوامره ونواهيه في مغانيها لما شق غباري من أم ذراه ولا اتبع آثاري مسرع رام لقياه ولقد قمت بالواجب علي للنعمة أيده الله المنزلة إلي والموهبة بمقدمه كلأه الله المكملة لدي التي أضحت بها نواجذ المخلص ضاحكة مستبشرة وأمست بسببها وجوه الكاشحين عابسة مستبسرة من وافر شكر يمتري المزيد وعتق الإماء والعبيد والصدقة الدارة على التأبيد وأنا أرغب إلى الله تعالى رغبة متوسل إليه آمل بما لديه أن يجعل بركة كل خير درت به أخلافه وكرت لأجله أحلافه عائدة عليه وميامنه ثائبة إليه مؤذنة بتعميره ملكا حلاحلا لا يلقى مؤملوه ليم فضله ساحلا وأن يمد لسيدي عضد الدولة في البقاء ويمتعه به وبسابقيه من إخوته الأمراء ويريه فيهم وفيه قصوى ما تسمو إليه هممه وأمانيه وإني لمتوكف لما يصلني من كتاب ينبيء عن اسمه الكريم وكنيته لأعتمد ما أستوجبه في خدمته ومكاتبته وسيدي عضد الدولة أدام الله علاه ولي ما يستصوبه ويراه من الأمر بمكاتبتي بذلك وبمتجددات النعم وأوانف المواهب الغالية القيم لآخذ وافر سهمي من السرور وجزيل قسمي من الجذل والحبور وتصريفي بين أمره الممتثل المطاع ونهيه المقابل بالاتباع إن شاء الله تعالى

النوع العاشر الاستكثار من حفظ الأشعار الرائقة خصوصا أشعار العرب وما توفرت دواعي العلماء بها على اختياره كالحماسة والمفضليات والأصمعيات وديوان هذيل وما أشبه ذلك وفهم معانيها واستكشاف غوامضها والتوفر على مطالعة شروحها ويلتحق بذلك شعر المولدين من العرب وهم الذين كانوا في أول الإسلام كجرير والفرزدق والأخطل وغيرهم وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المفلقين من المحدثين كأبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري وابن الرومي والمتنبي ونحوهم
وفيه مقصدان

المقصد الأول في بيان أحتياج الكاتب إلى ذلك
أما شعر العرب والمولدين فلما في ذلك من غزارة المواد وصحة الاستشهاد وكثرة النقل وصقل مرآة العقل وانتزاع الأمثال والاحتذاء في اختراع المعاني على أصح مثال والاطلاع على أصول اللغة وشواهدها والاضطلاع من نوادر العربية وشواردها وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء قال محمد بن سلام عن بعض مشايخه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر وذكر صاحب الريحان والريعان عن سعيد بن المسيب أنه قال كان أبو بكر وعمر وعلي يجيدون الشعر وعلي أشعر الثلاثة قال وكان عمر بن الخطاب يقول أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها بين يدي حاجته يستعطف بها الكريم ويستنزل

بها اللئيم وقد ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أو غيره من بعض الأئمة الأربعة أنه كان يحفظ ديوان هذيل وأما قول الشافعي رضي الله عنه
( ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد )
فإنه يريد من صرف همته إلى الشعر بحيث صار شأنه وديدنه وهو المعني بقوله لأن يملأ أحدكم جوفه قيحا خير من أن يملأه شعرا أي أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه وقد قال إن من الشعر لحكمة وكان عمر رضي الله عنه يسمع البيت يعجبه فيكرره مرات كما ذكره الجاحظ وغيره وقد ذكر أبو البركات بن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء في ترجمة أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول بن حسان الأنباري أنه كان فقيها عالما واسع الأدب وتقلد القضاء لعدة من الخلفاء ثم حكى عن ولده أبي طالب أنه قال كنت مع والدي في جنازة بعض أهل بغداد من وجوه الناس وإلى جانبه أبو جعفر الطبري فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه وينشده أشعارا ويروي له أخبارا فداخله الطبري في ذلك ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وأعجبوا بها وتعالى النهار وافترقنا فقال لي أبي يا بني من هذا الشيخ الذي داخلنا في المذاكرة فقلت يا سيدي كأنك لم تعرفه فقال لا فقلت هذا أبو جعفر الطبري فقال إنا لله ما أحسنت عشرتي معه فقلت كيف يا سيدي قال ألا نبهتني في الحال فكنت أذاكره بغير تلك المذاكرة هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم ما ذاكرته بحسبها ومضت على ذلك مدة فحضرنا في حق آخر وجلسنا وإذا

بالطبري قد دخل إلى الحق فقلت له أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلا فأومأ إليه بالجلوس عنده فعدل إليه وجلس إلى جانبه وأخذ يجاريه فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتا قال أبي هاتها يا أبا جعفر إلى آخرها فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها وكلما ذكر شيئا من السير قال أبي هذا كان في قصة فلان ويوم بني فلان مر يا أبا جعفر فيه فربما مر فيه وربما تلعثم فيمر أبي في جميعه ثم قمنا فقال لي أبي الآن شفيت صدري
وأما أشعار المحدثين فللطف مأخذهم ودوران الصناعة في كلامهم ودقة توليد المعاني في أشعارهم وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة وخصوصا المتنبي الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم وكثر

الاستشهاد
بشعره حتى قل من يجهله فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبر معانيها ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها فاستعملها في محلها ووضعها في أماكنها على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها
المقصد الثاني في كيفية استعمال الشعر في صناعة الكتابة
إعلم أن للكاتب في استعمال الشعر في كتابته ثلاث حالات
الحالة الأولى
الاستشهاد
وهو أن يورد البيت من الشعر أو البيتين أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقا لمعنى ما تقدم من النثر ولا يشترط فيه أن ينبه عليه بقال ونحوه كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن والأحاديث النبوية فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام فلا يحتاج إلى التنبيه عليه وأكثر ما

يكون ذلك من المكاتبات الإخوانيات مثل ما كتب به القاضي الفاضل إلى بعض إخوانه يستوحش منه ويتشوق إليه
( فيا رب إن البين أضحت صروفه ... علي ومالي من معين فكن معي )
( على قرب عذالي وبعد أحبتي ... وأمواه أجفاني ونيران أضلعي )
هذه تحية القلب المعذب وسريرة الصبر المذبذب وظلامة عزم السلو المكذب أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها الزفير أوارها والدموع شرارها والشوق أثارها وفي الفؤاد ثارها
( لو زارني منكم خيال هاجر ... لهدته في ظلمائه أنوارها )
أسفا على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار ومباسم الثغور والأوطار وتذكرا لأوقات عذب مذاقها وامتد بالأنس رواقها وزوجت بكرها ودوعب ذكرها
( والله ما نسيت نفسي حلاوتها ... فكيف أذكر أني اليوم أذكرها )
ومذ فارقت الجناب لا زال جنا جنابه نضيرا وسنا سنائه مستطيرا وملكه في الخافقين خافق الأعلام وعزه على الجديدين جديد الأيام لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سويداء خاطري
( ولم يبق في الأحشاء إلا صبابة ... من الصبر تجري في الدموع البوادر )
وأسأله المناب بشريف الجناب وأداء فرض تقبيل الأرض حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة وفضل الظل غير منسوخ بهجيره ويبشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره

( تظاهر في الدنيا بأشرف ظاهر ... فلم نر أنقى منه غير ضميره )
( كفاني فخرا أن أسمى بعبده ... وحسبي هديا أن أسير بنوره )
( فأي أمير ليس يشرف قدره ... إذا ما دعاه صادقا بأميره )
وإنني في السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدي تهاني تملأ يدي ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي
( عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ... وما هو مثل الورد في قصر العهد )
وأنا أترقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمة وترد نفس عن موارد الماء حائمة
بل ربما كان كل المكاتبة أو جلها شعرا وقد يكون صدر المكاتبة شعرا وذيلها نثرا وبالعكس وقد يكون طرفاها نثرا وأوسطها شعرا وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب ويسوق إليه التركيب وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي
( ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار أما مكاتبات الملوك الآن فقل أن تستعمل فيها الأشعار أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام ويسوق إليه سياق الكلام على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم وعند

مطالعة كلامهم والوقوف على رسائلهم ترى من أصناف الاستشهادات ما يروقك نظره ويطربك سمعه

الحالة الثانية
التضمين
وهو أن يضمن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة أما تضمين البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة فمثل ما كتب به القاضي الفاضل
وصل من الحضرة
( كتاب به ماء الحياة ونقعه الحيا ... فكأني إذ ظفرت به الخضر )
فوقفت عنده منه على
( عقود هي الدر الذي أنت بحره ... وذلك ما لا يدعي مثله البحر )
ورتعت منه في
( رياض يد تجني وعين وخاطر ... تسابق فيها النور والزهر والثمر )
وكرعت منه في حياض
( تسر مجانيها إذا ما جنى الظما ... وتروي مجاريها إذا بخل القطر )
وما زلت منه أنشده
( كأني سار في سريرة ليلة ... فلما بدا كبرت إذ طلع الفجر )
ووافى على ما كنت أعهد
( فخلت بأن العين من سحب كفه ... فمن ذا ومن ذا فيه ينتثر الدر )
واسترجع فائت الدماء من مورده
( وما كان عندي بعد ذنب فراقه ... بأني أرى يوما به بعد الدهر )

ونفس عن النفس بأبيض أثماده وعين العين بأسود إثمده
( به لهما سبح طويل فهذه ... على خاطر برد وفي خطر بدر )
وجدد إليه أشواقا جديدها
( يمر به ثوب الجديدين دائما ... فيبلى ولا يبلى وإن بلي الدهر )
وذكر أياما لا يزال يستعيدها
( وهيهات أن يأتي من الأمر فائت ... فدع عنك هذا الأمر قد قضي الأمر )
وأما تضمين نصف البيت فمثل قول القاضي الفاضل
( وصل كتاب مولاي بعدما ... أجاب المنادي للصلاة فأعتما )
( فلما استقر لدي ... تجلى الذي من جانب البدر أظلما )
( فقرأته ... بعين إذا استمطرتها أمطرت دما )
( وساءلته ... فساءلت مصروفا عن النطق أعجما )
( ولم يرد جوابا ... وماذا عليه لو أجاب المتيما )
( ورددته قراءة ... فعوجلت دون الحلم أن أتحلما )
( وحفظته ... كما يحفظ الحر الحديث المكتما )
( وكررته ... فمن حيث ما واجهته قد تبسما )
( وقبلته ... فقبلت ذرا في العقود منظما )
( وقمت له ... فكنت بمفروض المحبة قيما )
( وأخلصت لكاتبه ... وليس على حكم الحوادث محكما )
( ولم أصدقه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما )

( وأرخت وصوله ... فكان لايدي الوسائم موسما )
( وشفيت به غليل ... فؤاد أمنيه وقد بلغ الظما )
( وداويت عليل ... حشا ضر ما فيه من النار ضرما )
( فأما تلك الأيام التي ... حماها على اللوم المقام على الحما )
( والليالي العذاب التي ... ملأت بحور الليل بيضا وأنجما )
( وأرسلت الزفرة ... فلو صافحت رضوى لرض وهدما )
( وأسبلت العبرة ... كما أنشأ الأفق السحاب المديما )
( وخطبت السلوة ... فأسأل معدوما وآمل معدما )
( فأما الشكر فإنما ... أفض به مسكا عليه مختما )
( وأقوم منه بفرض ... أراني به دون البرية أقوما )
( وأوفي واجب فرض ... وكيف توفي الأرض فرضا من السما )
وربما ركبت القرينة الكاملة على البيت أو نصف البيت كما كتب به القاضي الفاضل أيضا
( ورد كتاب الحضرة بعد أن عددت ... )
( الليالي ليلة بعد ليلة الطلوع صديعه ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا )
( وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء ... )
( لفصل ربيعه ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا )
( واستروحت إلى نسيم سحره ... إذا الصيف ألقى في الديار المراسيا )
( ومددت يدي لاقتطاف ثمره ... فلله ما أحلى وأحمى المجانيا )
( ووقفت على شكواه من زمانه ... فبت لشكواه من الدهر شاكيا )
( وعجبت لعمى اللحظ عن مكانه ... وقد جمع الرحمن فيه المعانيا )
( وتوقعت له دولة يعلو بها الفضل ... إذا هز من تلك اليراع عواليا )

( ورتبة يرتقي صهوتها بحكم العدل ... فرب مراق يعتددن مهاويا )
( وإلى الله أرغب في إطلاع سعوده ... زواهر في أفق العلاء زواهيا )
( وفي إنهاض عثرات جدوده ... فقد عثرت بعد النهوض العواليا )
وربما ركب نصف البيت على نصف القرينة كما ذكرت في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان السيف في مخاطبته للقلم وهو وأنت وإن ذكرت في التنزيل وتمسكت من الامتنان بك في قوله ( علم بالقلم ) بشبهة التفضيل فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله لكني قد نلت من هذه الرتبة أسنى المقاصد وشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد وحلاني من كفه شرفا لا يزول حليه أبدا وقمت بنصره في كل معترك فسل جنينا وسل بدرا وسل أحدا فركبت نصف بيت البردة على نصف قرينة وما ذكرته في الرسالة التي كتبتها للمقر الفتحي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهو قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه ولا يتطلع الزمان إلى نزعه وانتهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف وحلت الرياسة بغنائه فاستغنت به عن السوى وأناخت السيادة بفنائه فألقت عصاها واستقر بها النوى
وقد يضمن الكاتب بعض القرينة نصف بيت ثم يستطرد فيذكر أبياتا كاملة الأجزاء على نمط أنصاف الأبيات التي يوردها كما فعل الشيخ ضياء الدين أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي في رسالته للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد تغمدهما الله برحمته في قوله
( وينهى ورود عذرائه التي ... لها الشمس خدن والنجوم ولائد )

( وحسنائه التي ... لها الدر لفظ والدراري قلائد )
( ومشرفته التي ... لها من براهين البيان شواهد )
( وكريمته التي ... لها الفضل ورد والمعالي موارد )
( وآيتها الكبرى التي دل فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد )
( وأنك سيف سله الله للهدى ... وليس لسيف سله الله غامد )
وقد يخالف بين قوافي أنصاف الأبيات التي يمزجها ببعض القرائن كما يخالف بين فواصل القرائن كما في قول البديع الهمذاني
( أنا لقرب دار مولاي ... كما طرب النشوان مالت به الخمر )
( ومن الارتياح إلى لقائه ... كما انتفض العصفور بلله القطر )
( ومن الامتزاج بولائه ... كما التقت الصهباء والبارد العذب )
( ومن الابتهاج بمزاره ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب )
إلى غير ذلك من فنون الامتزاج التي يزاوج فيها بين المنثور والمنظوم وينتهي فيها الكاتب إلى ما يبلغ به القرد المحتوم
أما تضمين بعض أبيات العرب في بعض قصائد المحدثين كما فعل القاضي الأرجاني في قوله من قصيدة مدح بها بعض الوزراء
( وأهد إلى الوزير المدح يجمل ... لك المرباع منها والصفايا )
( ورافق رفقة رحلوا إليه ... فأبوا بالنهاب وبالسبايا )
( وقل للراحلين إلى ذراه ... ألستم خير من ركب المطايا )
( ولا تسلك سوى طرقي فإني ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا )

فإن ذلك من وظيفة الشاعر لا الكاتب وإن كان الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله قد أشار في كتابه حسن التوسل إلى التمثيل بذلك لما نحن بصدده

الحالة الثانية
الحل
وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيحلها من عقل الشعر ويسبكها في كلامه المنثور فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأخبار النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام وخصوصا أشعار العرب فإنها ديوان أدبهم ومستودع حكمهم وأنفس علومهم في الجاهلية به يفتخرون وإليه يحتكمون فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه غزرت لديه المواد وترادفت عليه المعاني وتواردت على فكره فيسهل عليه حينئذ حلها ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة قال صاحب الريحان والريعان وهو شأن حذاق الكتاب في زماننا وفيه من الجمال فنون
منها أنه يدل على حفالة أدب المجيد واتساع الحفظ والتيسير والتأتي لسبك اللفظ
ومنها أنه ليس يشهر منها إلا النادر للغاية في الحسن فهي إذا حلت يحاورها المنشىء بما يناسب حسنها في البراعة وهذا كثير في هذه الصناعة قال في المثل السائر وإنما جعل المنظوم مادة للمنثور بخلاف العكس لأن الأشعار أكثر والمعاني فيها أغزر قال وسبب ذلك أن العرب الذين هم أهل الفصاحة كان جل كلامهم شعرا ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرا ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) ثم

جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر ثم استمر الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر فلذلك صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار قال في حسن التوسل والحل باب متسع على المجيد مجاله وتتصرف في كلام العارف به رويته وارتجاله
قال صاحب الريحان والريعان وأول من فك رقاب الشعر وسرح مقيده إلى النثر عبد الحميد الأكبر كاتب بني أمية إلى انقضاء خلافتهم قال وربما رامه غير المطبوع المتصرف فعقده وأفسده كما قال القائل وبعضهم يحل فيعقد قال وكيفية الحل أن يتوخى هذا البيت المنظوم وحل فرائده من سلكه ثم ترتيب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحظره الوزن ولا اضطرته القافية ويبرزها في أحسن سلك وأجمل قالب وأصح سبك ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إذا أمكن ذلك من غير كلفة ويتخير لها القرائن وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة فيفرض له من حاصل فكره أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء فإن كان نسيبا وتأتى له أن يجعله مديحا فليفعل وكذلك غيره من الأنواع وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها فمتى قصرت ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحل وعد معيبا وإذا حل اللفظ فلا يتصرف بتقديم وتأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة تدبير الفصاحة واجتناب ما ينقص المعنى أو يحط رتبته
قال وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه ولا حجر على المتصرف فيه
ثم حل الأبيات الشعرية واستعمالها في النثر على ثلاثة أضرب

الضرب الأول أن يأخذ الناثر البيت من الشعر فينثره بلفظه وهو أدنى مراتب
الحل
قال في المثل السائر وهو عيب فاحش إذ لم يزد في نثره على أنه أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير قال ومثله كمن أخذ عقدا قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده وكان يقوم عذره في ذلك لو نقله عن كونه عقدا إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه وأيضا فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء
وبالجملة فحل الشعر بلفظه لا يخرج عن حالين
الحال الأول أن يكون الشعر مما يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها وله في حله طريقان
الطريق الأول أن يحله بالتقديم والتأخير من غير زيادة في لفظه كما ذكر صاحب الصناعتين عن بعض الكتاب أنه حل قول البحتري
( أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها ... فما الغافل المغرور فيها بعاقل )
( يرجي الخلود معشر ضل سعيهم ... ودون الذي يرجون غول الغوائل )
( إذا ما حريز القوم بات وماله ... من الله واق فهو بادي المقاتل )
فقال في نثرها أطل تهوين شأن الدنيا وجفوتها فما المغرور الغافل فيها بعاقل ويرجو معشر ضل سعيهم الخلود وغول الغوائل دون ما يرجون وإذا بات حريز القوم وماله من الله واق فهو بادي المقاتل فلم يزد في ألفاظها شيئا
الطريق الثاني أن يحله بزيادة على لفظه كما حكى الجاحظ عن قليب المعتزلي أنه سمع منشدا ينشد للعتبي
( أفلت بطالته وراجعه ... حلم وأعقبه الهوى ندما )

( ألقي عليه الدهر كلكله ... وأعاره الإقتار والعدما )
( فإذا ألم به أخو ثقة ... غض الجفون ومجمج الكلما )
فنثرها فقال يستعطف بعض الملوك على رجل من أهله جعلني الله فذاك ليس هو اليوم كما كان إنه وحياتك أفلت بطالته إي والله وراجعه حلمه وأعقبه وحقك الهوى ندما أحنى الدهر عليه والله بكلكله فهو اليوم إذا رأى أخا ثقة غض بصره ومجمج كلامه فزاد في نثره ألفاظا على ألفاظ الشعر
ونحو ذلك ما حكاه ضياء الدين بن الأثير عن بعض العراقيين أنه نثر قول بعض شعراء الحماسة
( وألد ذي حنق علي كأنما ... تغلي عداوة صدره في مرجل )
( أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل )
فقال في نثره فكم لقي ألد ذا حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل فكواه فوق ناظريه وأكبه لفمه ويديه
الحال الثاني أن يكون الشعر مما لا يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها فيحتاج في نثره إلى الزيادة فيه والنقص منه وتغيير بعض ألفاظه حتى يستقيم كقول الشاعر
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم )
فإن المصراع الثاني من البيت لا يمكن حله بالتقديم والتأخير لأنك تقول في المصراع الأول فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف ولا يمكن ذلك في المصراع الثاني حتى تزيد فيه أو تنقص منه فتقول مثلا فؤاد الفتى نصف

ولسانه نصف على ما تقدم ثم تقول وصورته من اللحم والدم فضلة لا غناء بها دونهما ولا معول عليها إلا معهما
قال في الصناعتين وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور شائع ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واحد وليس ذلك بقبيح إلا إذا اتفق لفظاهما إلا أن أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز ومعنى قوله فلم يبق إلا صورة اللحم والدم داخل في قوله لسان الفتى نصف ونصف فؤاده والمصراع الثاني تذييل للمصراع الأول قال فإذا أردت أن تحله حلا مقنصرا بغير لفظه قلت الإنسان شطران لسان وجنان وقريب من ذلك قول أبي نواس
( ألا يا ابن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى )
فإن المصراع الأول يمكن حله بأن تقول ألا يا ابن الذين بادوا وفنوا فيكون مستقيما أما المصراع الثاني فإنه إن قدم فيه أو أخر بأن قيل ما ذهبوا لتبقى أما والله فإنه لا يستقيم فتحتاج في نثره إلى تغيير وزيادة فتقول ألا يا ابن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا ونأوا أما والله ما ظعنوا لتقيم ولا راموا لتريم ولا موتوا لتحيا ولا فنوا لتبقى قال في الصناعتين وفي هذه الألفاظ طول وليس بضائر على ما تقدم قال وإن أردت اختصاره قلت أما والله إن الموت لم يصبك في أبيك إلا ليصيبك فيك

الضرب الثاني وهو أعلى من الضرب الأول أن ينثر المنظوم ببعض ألفاظه ويغرم
عن البعض ألفاظا أخر ويحسن ذلك في حالين
الحال الأول أن يكون في الشعر ألفاظ لا يقوم غيرها من الألفاظ مقامها بأن تكون مثلا سائرا أو جارية مجرى المثل كقول بعض شعراء الحماسة

( لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا )
فإن لفظ بني اللقيطة لا يقوم غيره من الألفاظ مقامه لكونه علما على قوم مخصوصين فيحتاج الناثر أن يبقيه بلفظه كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله في نثر البيت المذكور لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة ولكني أحمي الهمل وأفوت الأمل وأقول سبق السيف العذل وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ونحوه
الحال الثاني أن يكون في البيت لفظ رائق قد أخذ من الفصاحة بزمامها وأحاط من البلاغة بجوانبها فيبقيه على حاله ويقرنه بلفظ يماثله ويوازنه قال في المثل السائر وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشاكلة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاستهداف للطعن قال وهو عندي أصعب منالا من نثر الشعر بغير لفظه لأنه يسلك مضيقا لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة بخلاف نثر الشعر بغير لفظه فإن ناثره يتصرف فيه على حسب ما يراه ولا يكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته ومثل لذلك بقول أبي تمام في وصف قصيدة له
( حذاء تملأ كل أذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد )
ثم قال فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت وأشهر فلو قال قائل لمن هذا قيل وهل يخفى القمر وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة ولم يخش عليه سرقة إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة فبقي لفظ تملأ كل أذن حكمة وأتى معها بما يناسبها من الألفاظ

الحسنة الرائقة ونحو ذلك ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي أنه يؤاخي القرينة المحلولة بمثلها من عنده كما فعل هو في تقليد من التقاليد فقال فكم مل ضوء الصبح مما يغيره ثم قال وظلام النقع مما يثيره وقال أيضا وفل حديد الهند مما يلاطمه ثم قال والأجل مما يسابقه إلى قبض النفوس ويزاحمه والقرينتان الأولتان نصفا بيتين للمتنبي فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها قال وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة

الضرب الثالث وهو أعلى من الضربين الأولين أن يأخذ المعنى فيكسوه ألفاظا
من عنده ويصوغه بألفاظ غير ألفاظه
قال في المثل السائر وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول
ولتعلم أن الأبيات الشعرية في حلها بالمعنى لها حالان
الحال الأول أن يكون البيت الشعر مما يتسع المجال لناثره في نثره فيورده بضروب من العبارات قال ابن الأثير وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه )
فهذا البيت يتصرف في نثره في وجوه من المعاني وقد نثر ابن الأثير هذا البيت فقال لا تعذل المحب فيما يهواه حتى تطوي القلب على ما طواه ونثره على وجه آخر فقال إذا اختلفت العينان في النظر فالعدل ضرب من الهذر وكذلك قول المتنبي أيضا
( إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه )

نثره ابن الأثير فقال القتيل بسيف العيون كالقتيل بسيف المنون غير أن ذلك لا يجرد من غمده ولا يقاد صاحبه بعمده فزاد على المعنى الذي تضمنه البيت عدم القود بالعمد ونثره على وجه آخر فقال دم المحب ودم القتيل متفقان في التشبيه والتمثيل ولا تجد بينهما بونا سوى أنهما يختلفان لونا قال وهذا أحسن من الأول
وعلى هذا النهج يجري قول ابن الرومي في وصف الحديث
( وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز )
نثره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في وصف السيوف فقال وكفى السيوف فخرا أنها للجنة ظلال وإلى النصر مآل وإذا كان من بيان الحديث سحر فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السحر الحلال ثم نقله إلى وصف الأسنة فقال حسب ألسنة الاسنة شرفا أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها وأن بث أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى ملال وإذا لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل فليس في الحديث سحر حلال ثم نقله إلى وصف البلاغة فقال البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهرا وتحيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهرا لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز فيتأول في حله وإذا كان في الحديث ما هو عقلة للمستوفز فهذا أنشوطة نشاط البليغ وحل عقال عقله ونقله إلى وصف الكتابة فقال خطه شرك العقول وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرئي المكتوب عن فصاحة المسموع المقول ولو لم يكن البيان سحرا لما تجسدت منه في طرسه هذه الدرر ولو لم يكن بعض السحر حلالا لما انجلى ظلام النفس عما يهتدى به من هذه الأوضاح والغرر
الحال الثاني أن يكون البيت الشعر مما يضيق المجال فيه فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه وذلك قليل بالنسبة إلى ما يتسع في حله المجال قال في

المثل السائر وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا فذا فمن ذلك قول أبي تمام الطائي من قصيدة
( تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... بها الليل إلا وهي من سندس خضر )
فإن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب بين الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة فإن ثياب القتلى حمر وثياب الجنة خضر
قال ابن الأثير فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لم يمكن فيجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه لأنه يتصدى لنثره بألفاظه فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسنا رائقا وقد نثر هذا البيت فقال لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها فبدل أحمر ثوبه بأخضره وكأس حمامه بكأس كوثره قال وهذا من الحسن على غاية يكون كمدحسودها من جملة شهودها ومن ذلك قول أبي الطيب
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
فإن أبا الطيب بنى بيته على واقعة مخصوصة وذلك أن حصنا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وخربوه فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه وجدد بناءه وهزم الروم ونصب جملة من جثث القتلى على السور فنظم أبو الطيب في هذا قصيدا أوله
( على قدر أهل العز تأتي العزائم ... ) ولما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات فشرح صورة الحال في ارتجاع الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم وهذا لا يمكن تبديل لفظه فيجب على الناثر حسن الصنعة في حله ونثره وقد نثره ابن الأثير أيضا فقال سرى إلى حصن

كذا مستعيدا منه سبية نزعها العدو اختلاسا وأخذها مخادعة لا افتراسا فما نزلها حتى استقادها ولا نازلها حتى استعادها فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم ثم قال وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه فمن شاء أن ينثر شعرا فلينثر هكذا وإلا فليترك ثم نقله إلى معنى آخر وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة
( بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم )
( وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم )
ثم نثرهما فقال بناها والأسنة في بنائها متخاصمة وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة وما أجلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليها تمائم من الرؤوس والأجساد ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه قال وهذا أحسن من الأول وأتم معنى ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال بناها ودون ذاك البناء شوك الأسل وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدمت رؤوس عن أعناق وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله
قلت وكما ينبغي الإكثار من حفظ الأشعار على ما تقدم ليوردها في خلال كلامه استشهادا وتضمينا أو يحلها ويقتبس معانيها في نثره على ما تقدم بيانه كذلك ينبغي له معرفة المشاهير من الشعراء الطائري السمعة من شعراء الجاهلية كامريء القيس بن حجر والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وأوس

بن حجر وزهير بن أبي سلمى والأفوه الأودي والمتلمس والأعشى وعلقمة بن عبدة وعمرو بن كلثوم والمرقش والنمر بن تولب ومهلهل وطفيل الغنوي وعروة بن الورد وقيس بن الخطيم والشماخ بن ضرار وعنترة والسموأل بن عاديا ومن جرى مجراهم
ومن المخضرمين وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام جميعا كحسان بن ثابت رضي الله عنه ولبيد بن أبي ربيعة وكعب بن زهير وزيد الخيل الطائي والنابغة الجعدي وأمية بن أبي الصلت والحطيئة

وعمرو بن معدي كرب والزبرقان بن بدر التميمي والعباس بن مرداس السلمي والخنساء بنت عمرو بن الشريد ومن في معناهم
ومن المولدين وهم الذين ولدوا من العرب في الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل والقطامي والكميت بن زيد الأسدي والمساور بن هند وعدي بن الرقاع وكثير عزة وعمر بن أبي ربيعة والراعي وابن مقبل وابن مفرغ وليلى الأخيلية ومن انخرط في سلكهم
ومن المحدثين وهم الذين أتوا بعد المولدين كإبراهيم بن هرمة وابن أذينة وأبي نواس وأبي العتاهية وطفيل الكناني وسلم

الخاسر وابن ميادة وصالح بن عبد القدوس وأبي عيينة والعباس بن الأحنف والعتابي وأشجع السلمي والعكوك وابن أبي زرعة الدمشقي وأبي الشيص والحمدوني والعتبي ودعبل الخزاعي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وإبراهيم بن إسحاق الموصلي وأبي علي البصير وأبي تمام الطائي وأبي عبادة البحتري

وأبي الطيب المتنبي وابن بسام والسري الموصلي وأبي الفتح كشاجم وأبي الفتح العبسي وأبي الفرج الببغا وابن الساعاتي وابن قلاقس والوأواء الدمشقي والعفيف التلمساني وابنه وابن سنا الملك وابن شمس الخلافة وابن

النبيه والصفي الحلي ونحوهم
ومعرفة الفرسان منهم كامريء القيس وخفاف بن ندبة والزبرقان بن بدر وعنترة وعمرو بن معدي كرب ودريد بن الصمة
ومن كان منهم راجلا يسعى على رجليه كسليك بن السلكة وابن براقة وتأبط شرا والشنفرى وغيرهم
ومن تقدم منهم في نوع من الشعر كمعرفة طفيل الغنوي بوصف الخيل وأمية بن أبي الصلت في أمر الآخرة وذكر الحرب وعمر بن أبي ربيعة في وصف النساء وعتيبة بن مرداس بمراكب الإبل وكثير في الأمثال والفرزدق في الأخبار وجرير في المعاني

ومعرفة من هو أكثرهم حفظا كالأغلب الشاعر قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة ومعرفة أي القبائل كانت الشعراء فيها أكثر كهذيل فقد قيل إنه كان فيها أربعون شاعرا مفلقا كلهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس وأي قبيلة كان الشعر فيها أقل كشيبان وكلب فقد قيل إنه ليس في الدنيا قبيلة أقل شعراء منهما وإنه ليس لكلب في الجاهلية شاعر قديم على أنها مثل شيبان أربع مرات
وقد ذكر ابن رشيق في عمدته عن عبد الله بن سلام الجمحي وغيره أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة فكان منهم مهلهل بن ربيعة وهو خال امرىء القيس بن حجر ويقال إنه أول من قصد القصائد والمرقشان الأكبر والأصغر وطرفة بن العبد وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والمتلمس والأعشى والمسيب بن علس وغيرهم ثم تحول الشعر إلى قيس فكان منهم النابغتان الذبياني والجعدي وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب ولبيد والحطيئة والشماخ ثم استقر الشعر في تميم فكان منهم أوس بن حجر ولم يتقدمه أحد حتى كان النابغة وزهير فأخملاه

قلت والمراد أن الشعر غلب في هذه القبائل وظهر فيها وكان فيها الشعراء المجيدون وإلا فالشعر موجود في قبائل العرب قبل ذلك كحمير وكهلان من اليمن بل في عاد وثمود على ما تشهد به كتب السير والأخبار فإذا عرف الكاتب ذلك استعان به في المساواة بمن شاء منهم في التقريظات والتفضيل عليه كما كتبت في تقريظ شاعر فامرؤ القيس يغرق في مقياس معانيه والنابغة الذبياني يقصر عن أن يبلغ مدى شأوه أو يدانيه وزهير يقتطف زهرات البلاغة من أفانينه وأوس بن حجر ينسج على منواله ويأتم بقوانينه وطفيل الغنوي يتطفل على موائد شعره وطرفة بن العبد يقصر عنه في شيوع ذكره والأعشى يعشو إلى ضوء ناره وعمرو بن كلثوم يسعى إلى بابه ويقف بفناء داره وكثير في أمثاله لا يعد من أمثاله وجرير في مفاخره يتمسك من الفخار بأذياله والفرزدق في أوصافه يقلبه ما بين يمينه وشماله فلو رآه عبد الملك بن مروان لاختاره على الأخطل أو اجتمع مع أبي نواس لدى الأمين لقال هذا هو المقدم الأفضل أو أدركه أبو تمام لاعترف له بالتمام أو بصر به أبو عبادة لقال أنا له عبد وغلام أو عاصره المتنبي لاعترف بفضله أو ابن الساعاتي لقال لا يأتي الزمان دون قيام الساعة بمثله ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى
وكذلك ينبغي أن يعرف مصطلح أهل العروض الذي هو ميزان الشعر مثل الوتد والسبب والفاصلة والعروض والضرب وأسماء البحور من الطويل والمديد والبسيط وأخواتها وألقاب الزحاف كالخبن والخبل والقبض وغيرها ليدخلها تضاعيف كلامه عند احتياجه إلى ذلك

كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في أول ألفيته في العروض
( الحمد لله المليك الغافر ... ذي الطول والفضل المديد الوافر )
( سبحانه ماذا يقول البارع ... في كامل ليس له مضارع )
( ورزقه في عدله بسيط ... وعلمه بخلقه محيط )
وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضا

النوع الحادي عشر الإكثار من حفظ الأمثال وفيه مقصدان
المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك
اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نثرا ونظما والنظر في الكتب المصنفة في ذلك كأمثال الميداني والمفضل ابن سلمة الضبي وحمزة الأصبهاني وغيرهم وكذلك أمثال المولدين الواردة في أشعارهم كالأمثال الواردة في شعر جرير والفرزدق ونحوهما إلى غير ذلك من الأمثال الواردة نثرا ونظما والنظر في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم كأبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي فحكم ما ورد من الأمثال في شعر المولدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية أما في شعر المولدين

فلجريهم على أسلوب العرب وركوب جادتهم وأما المحدثين فللطافة مأخذهم واستطراف ما يأتون به مما يجري مجرى النثر والنظم من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوان عن العرب وغيرهم فيستشهد به في موضعه ويورده في مكانه عارفا بأصل ذلك وما بني عليه وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالة عليها معبرة عن المراد بها بأخصر لفظ وأوجزه ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة لما فهم من هذه الألفاظ القلائل تلك الوقائع المطولات وأما الأمثال الواردة نثرا فإنها كلمات مختصرة تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة كما تقدمت الإشارة إليه وليس في كلامهم أوجز منها ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوح بها على المعاني تلويحا صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا وحيث كانت بهذه المكانة لا ينبغي الإخلال بمعرفتها قال صاحب العقد والأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم ونطق بها في كل زمان على كل لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسر شيء كسيرها ولا عم عمومها حتى قالوا أسير من مثل قال الشاعر
( ما أنت إلا مثل سائر ... يعرفه الجاهل والخابر )
وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) وقال تعالى ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) الآية وقال ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) الآية

وقال ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) الآية وقال ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) إلى غير ذلك من آي القرآن
وضرب رسول الله الأمثال فقال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرجوا فالصراط الإسلام والستور حدود الله والأبواب محارم الله والداعي القرآن إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال الرسول ما تقدم من الكلام على القرآن الكريم والأخبار
ثم هي على ضربين قريب الفهم بظهور معناه وكثرة دورانه بين الناس وبعيد الفهم لخفائه وقلة دورانه بين الناس فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم عند الصباح يحمد القوم السرى وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل والحث عليه وأول من أرسله مثلا خالد بن الوليد رضي الله عنه قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقة من العراق إلى الشام وقولهم ساء سمعا فأساء إجابة وأول من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوج صفية بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنسا فرآه الأخنس بن شريق الثقفي معه فقال من هذا فقال سهيل ابني فقال الأخنس حياك الله يا بني أين أمك فقال لا والله ما أمي ثم انطلقت إلى بيت أم حنظلة تطحن دقيقا فقال أبوه ساء سمعا فأساء إجابة فلما رجعا

قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا فقالت إنما ابني صبي وأنت لا تحبه فقال أشبه امرؤ بعض بزه فأرسلها مثلا والبعيد من الفهم مثل قولهم إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عنادا والأصل في ذلك كما ذكره المفضل بن سلمة الضبي أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس فقالت طائفة تطلع الشمس والقمر يرى وقالت طائفة يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكما فقال واحد منهم إن قومي يبغون علي فقال الحكم إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر فجرت مثلا ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا فكان يصير معنى المثل إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم
وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال ومن ذلك أمثال الميداني وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب كأمثال الضبي والقمي وغيرها
وأما الأمثال الواردة نظما فهي كلمات استحسنت في الشعر وطابقت وقائع عامة جارية بين الناس فتداولها الناس وأجروها مجرى الأمثال النثرية وقد روي أن النبي كان يتمثل بقول طرفة

( ويأتيك بالأخبار من لم تزود ... )
وهو نصف بيت مجموعه
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
ويروى أنه كان يخرجه عن الوزن ويحيله عن طريق الشعر فكان يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار فرارا من قول الشعر المنزه عنه مقامه العلي وشرفه الرفيع لكن ثبت في الصحيح أنه قال أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... )
والمحرم عليه إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمى بالغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع في الفقه فراجعه هناك ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
ثم قال لمن هذا فقيل له للنابغة فقال ذاك أشعر شعرائكم والمثل السائر فيه في قوله أي الرجال المهذب وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرجاني

( تأمل منه تحت الصدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا )
يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم في الزوايا خبايا وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامة الشائعة بينهم وقول ابن عبد ربه
( قالوا شبابك قد ولى فقلت لهم ... هل من جديد على كر الجديدين )
( صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين )
( واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فربما ضاقت الدنيا بإثنين )
وقول الآخر
( وعاد من أهواه بعد القلى ... شقيق روح بين جسمين )
( وأصبح الداخل ما بيننا ... كساقط بين فراشين )
( قد ألبس البغضاء من ذا وذا ... لا يصلح الغمد لسيفين )
( ما بال من ليست له حاجة ... يكون أنفا بين عينين )
قال الأصمعي ولم أجد في شعر شاعر بيتا أوله مثل وآخره مثل إلا ثلاثة أبيات بيت الحطيئة
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
وبيتا امريء القيس
( وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب )
( وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب )

قال صاحب العقد ومثل هذا كثير في القديم والحديث ولا أدري كيف أغفل القديم منه الأصمعي ومنه
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... )
البيت المتقدم وهو من أشرف الأبيات وأعظمها بابا
وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات فكما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم تمثل بقولهم إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان وحكاية هذا المثل أنهم قالوا اصطحب أسد وثور أحمر وثور أبيض وثور أسود في أجمة فقال الأسد للأحمر والأسود هذا الأبيض يفضحنا بلونه ويطمع فينا من يقصدنا فلو تركتماني آكله أمنا فضيحة لونه فأذنا له في ذلك فأكله ثم قال للأحمر هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت ظنك من يراك أسدا مثلي فدعني آكله فسكت عنه فأكله ثم قال للثور الأحمر لم يبق إلا أنا وأنت وأريد أن آكلك فقال إن كنت فاعلا ولا بد فدعني أصعد تلك الهضبة وأصيح ثلاثة أصوات فقال افعل ما تريد فصعد وصاح ثلاثة أصوات ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض فجرت مثلا
ويحكي أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة فقال على المنبر يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنحن لا نحبكم وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرة فأنتم لا تحبوننا فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة

( كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال غبا وظاهره )
( فلما رأى أن قد تثمر ماله ... وأثل موجودا وسد مفاقره )
( أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره )
( فلما وقاها الله ضربة فأسه ... ولله عين لا تغمض ناظره )
( فقال تعالي نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره )
( فقالت يمين الله أفعل إنني ... رأيتك سخريا يمينك فاجره )
( أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره )
وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان وهي أن أخوين هبطا بغنمهما واديا يرعيان فيه فخرجت حية من تحت الصفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياما فقال أحدهما لا بد من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز فنهاه أخوه فلم يقبل فخرجت فضربها بفأس في يده فشجها وشدت عليه فقتلته فدفنه أخوه مقابلها فلما خرجت قال لها هل لك أن نتعاهد على المودة وعدم الأذية وتعطيني ذلك الدينار كل يوم فقالت لا قال ولم قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي وكلما ذكرت الشجة التي في رأسي لا أصفو لك

المقصد الثاني في كيفية استعمال الأمثال في الكتابة
فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الأمثال السائغ استعمالها انقادت إليه معانيها وسيقت إليه ألفاظها في وقت الاحتياج إلى نظائرها من

الوقائع والأحوال فأودعها في مكانها واستشهد بها في موضعها والطريق في استعمالها في النثر كما في حل الأشعار واستعمالها إلا أن الأمثال لا يجوز تبديل ألفاظها ولا تغيير أوضاعها لأنها بذلك قد عرفت واشتهرت
فما استعمله أهل الصناعة من الأمثال المنثورة وأوردوه في كلامهم قول المقر الشهابي ابن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة ولأنه أحق بني الزهراء بما أبقته له آباؤه وألقته إليه من حديث قصي جده الأقصى أبناؤه وهو أجدر من طهر هذا المسجد من أشياء تنزه أن يلحق به فحش عابها وشنعاء هو يعرف كيف يتتبعها وأهل مكة أخبر بشعابها فاستعمل المثل السائر في قوله وأهل مكة أخبر بشعابها وقد وقع هذا المثل في كلامه أحسن موقع وجاء على أجمل نظام لأنه قد أتى به في مكانه اللائق به ومحله المخصوص بوصفه وقد نقله الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله فاستعمله في غير هذا المعنى فجاء منحطا عن هذه الدرجة وقاصرا عن رتبتها فقال في وصية خطيب ووصايا هذه الرتبة متشعبة وهو كأهل مكة أخبر بشعابها وأحوالها مترتبة وهو على كل حال أدرب وأدرى بها إلا أنه قد ظرف بذكر الجناس الاشتقاقي في قوله متشعبة مع قوله بشعابها
ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في خطبة تقليد بفتوة عن ملك ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نور شريعته جلي وجاه شفاعته ملي وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وهذا على ما هو شائع على الألسنة وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافرا اسمه مرحب فشق البيضة على رأسه نصفين وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقهما كذلك وخلص السيف بينهما فغاص في الأرض شبرين إلا أن المعروف عند المحدثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبي اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ولعله أعطاه عليا رضي الله عنه بعد ذلك

ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان القلم وهو أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وكريمها المبجل وعالمها المهذب فالقرينة الأولى فيها مثلان وأول من قالهما الحباب بن المنذر الأنصاري يوم السقيفة حين اجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة يوم مات النبي في سقيفة بني ساعدة وأرادوا تأميره فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وقال الحباب بن المنذر منا أمير ومنكم أمير إلى أن كان من كلامه هذان المثلان والجذيل تصغير جذل واحد الأجذال وهي أصول الشجر العظام وكانت العرب إذا جربت الإبل نصبت لها جذلا في باطن الوادي تحتك فيه فلذلك قال جذيلها المحكك أراد أنه يستشفى برأيه كما تستشفي الإبل بالحك في ذلك الجذل والعذق بفتح العين النخلة بحملها وكان من عادتهم أن النخلة الكريمة يبنى حولها بناء يمنعها من السقوط فذلك هو الترجيب أراد أنه كريم في قومه عزيز عليهم وما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم أيضا على لسان السيف وهو فالشمس من شعاعي في خجل والليل من ضوئي في وجل وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل ففي القرينة الأخيرة مثلان أحدهما فات ما ذبح وهو مثل يضرب لمن طلب الشيء بعد فواته وأصله أن بعض الملوك رأى مع أعرابي بازيا فأعجبه فأرسل في طلبه قاصدا فأتى الأعرابي ولم يكن عنده ما يضيفه به فذبح البازي وطبخه وقدمه إليه غير عالم بقصده فلما فرغ من أكله ذكر للأعرابي أمر البازي وما كان من طلب الملك له فقال فات ما ذبح إنك أتيتني ولم يكن عندي ما أضيفك به فذبحت البازي وطبخته وهو الذي قدمته إليك والمثل الثاني سبق السيف العذل وهو مثل لمن يلوم على فعل شيء بعد وقوعه وفوات أمره
ومما حل من الأمثال الواردة نظما واستعمل في النثر قول القاضي شهاب الدين بن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة أيضا

في الوصية على وفود الحجيج وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمنا وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق بر الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامنا فليأخذ بمن أطاع من عصى وليردع كل مفسد ولا سيما العبيد فإن العبد لا يردعه إلا العصا فقوله فإن العبد لا يردعه إلا العصا يشير به إلى قول ابن دريد في مقصورته
( واللوم للحر مقيم رادع ... والعبد لا يردعه إلا العصا )
وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل ولعله كان مثلا سائرا قبل أن ينظمه ابن دريد
ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللسان وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب ومن وجد الإحسان يريد البيت المشهور
( ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا ... )
وقد أتى فيه بالاكتفاء فزاد في كلامه حسنا وطلاوة
وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور فاقتضى علو الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم وأن يتصل أمس الإقبال باليوم وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي مدارس آيات خلت من تلاوه
ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدين

غانم وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه الحمد لله الذي ظفر المظفر بإصابة الواجب من الطير ووفر من السعادة حظ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير وخفر من أسراه إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبره كل خير أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم عند الصباح يحمد القوم السرى وقد تقدم أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه
ومما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثرا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع ومن إذا قام فريدا عد بألف من فرائد الرجال تنظم وإذا أقبل في سواد طيلسانه قيل جاء السواد الأعظم فاستعمل المثل السائر في قولهم السواد الأعظم يريدون الجم الغفير وهو من أمثال المحدثين وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السواد على ما جرت به العادة وإن كان خلاف السنة كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله من أصحابنا الشافعية
ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم وهو وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى فاستعملت المثل في قولهم المؤمن لا يكون حبلى وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضا فتجلو ويروق موقعها ويستظرف كما قال القاضي الأرجاني
( تأمل منه تحت الصدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا )

النوع الثاني عشر معرفة أنساب الأمم من العرب والعجم
ويحتاج إليه الكاتب في المكاتبات لأنه بصدد أن يكتب عن ملكه إلى أمير قبيلة من العرب أو ملك أمة من الأمم فما لم يكن عارفا بأنسابها كان قاصرا فيما يكتبه من ذلك ومن غريب ما وقع في ذلك أن ملك البرنو من ملوك السودان كتب كتابا إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق يذكر فيه أن المجاورين لهم من عرب جذام قد أغاروا عليهم وسبوا جماعة من نسائهم وذراريهم وباعوهم بالديار المصرية وما حولها ثم قال ونحن من ذرية سيف بن ذي يزن العربي القرشي فخلط القحطانية بالعدنانية لأن سيف بن ذي يزن من بقايا التبابعة من حمير من القحطانية وقريش من العدنانية وناهيك بذلك عيبا أن لو وقع من كاتب معتبر
ويشتمل الغرض منه على ثلاثة مقاصد
المقصد الأول معرفة عمود النسب النبوي من النبي إلى آدم من حيث إن سائر
الأنساب تتعلق به وترجع في القرب والبعد إليه
وها أنا أورده على ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وتبعه عليه ابن هشام في سيرته إذ كان عمدة في هذا الباب فأقول هو محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام ابن تارح وهو آزر بن أرغو بن فالغ

ابن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليهم السلام ابن يرد بن مهليل بن قينن بن تاتش بن شيث بن آدم عليه السلام
قال النووي والأتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنان وليس فيما بعده إلى آدم طريق صحيح وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام خلاف كثير قال القضاعي في عيون المعارف في أحكام الخلائف وقد روي أن النبي قال لا تجاوزوا معد بن عدنان كذب النسابون ثم قرأ وقرونا بين ذلك كثيرا ولو شاء أن يعلمه لعلمه قال والصحيح أنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه

المقصد الثاني في أنساب العرب وفيه مهيعان
المهيع الأول في أمور تجب معرفتها قبل الخوض في النسب
وأول ما تجب معرفته من ذلك من يقع عليه لفظ العرب قال الجوهري العرب جيل من الناس وهم أهل الأمصار والأعراب سكان البادية والنسبة إلى العرب عربي وإلى الأعراب أعرابي والتحقيق إطلاق لفظ العرب على الجميع وأن الأعراب نوع من العرب ثم اتفقوا على تنويع العرب إلى نوعين عاربة ومستعربة فالعاربة هم العرب الأول الذين فهمهم الله اللغة العربية ابتداء فتكلموا بها قال الجوهري وقد يقال فيهم العرب العرباء والمستعربة هم الداخلون في العربية بعد العجمية قال الجوهري وربما قيل لهم المتعربة وقد اختلف في العاربة والمستعربة فذهب ابن إسحاق والطبري إلى أن العاربة هي عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل والعمالقة وعبد ضخم وجرهم الأولى ومن في معناهم والمستعربة بنو قحطان بن عابر

ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وبنو إسماعيل عليه السلام لأن لغة عابر وإسماعيل كانت سريانية أو عبرانية فتعلم بنو قحطان العربية من العاربة ممن كان في زمانهم كعاد ونحوهم وتعلم إسماعيل العربية من جرهم من بني قطحان النازلين على إسماعيل وأمه بمكة وذهب آخرون منهم المؤيد صاحب حماه إلى أن بني قحطان هم العاربة وأن المستعربة هم بنو إسماعيل فقط والذي رجحه صاحب العبر الأول
ثم قد قسم المؤرخون العرب أيضا إلى بائدة وغيرها فالبائدة هم الذين بادوا ودرست آثارهم كعاد وثمود وطسم وجديس وغير البائدة هم الباقون في القرون المتأخرة بعد ذلك من القحطاينة كطيء ولخم وجذام ونحوهم ومن العدنانية كفزارة وسليم وقريش ومن في معناهم ثم قد عد الماوردي وغيره طبقات أنساب العرب ست طبقات
الطبقة الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد الذي تنسب إليه القبائل كعدنان ويجمع على شعوب وسمي شعبا لأن القبائل تتشعب منه
الطبقة الثانية القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر وتجمع على قبائل وسميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها وربما سميت القبائل جماجم
الطبقة الثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة وتجمع على عمائر وعمارات
الطبقة الرابعة البطن وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم وتجمع على بطون وأبطن

الطبقة الخامسة الفخذ وهي ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ويجمع على أفخاذ
الطبقة السادسة الفصيلة بالصاد المهملة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب وتجمع على فصائل فالفخذ يجمع الفصائل والبطن تجمع الأفخاذ والعمارة تجمع البطون والقبيلة تجمع العمائر والشعب يجمع القبائل قال النووي وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة قال الجوهري وعشيرة الرجل رهطه الأدنون وحكى أبو عبيدة عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب على القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ وبالجملة فأكثر ما يدور على الألسنة من الطبقات الست المذكورة القبيلة ثم البطن وقل أن تذكر العمارة والفخذ والفصيلة وربما عبروا عن كل من الطبقات الست بالحي إما بالعموم مثل أن يقال حي من العرب وإما على الخصوص مثل أن يقال حي من بني فلان
ومما يجب على الناظر في الأنساب أن يعرف عشرة أمور
الأول قال الماوردي إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبا والعمائر قبائل يعني وتصير البطون عمائر والأفخاذ بطونا والفصائل أفخاذا والحادث من النسب بعد ذلك فصائل
الثاني قد ذكر الجوهري أن القبيلة هم بنو أب واحد وقال ابن حزم جميع قبائل العرب راجعة إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل وهي تنوخ والعتق وغسان فإن كل قبيلة منهم من عدة بطون وذلك أن تنوخا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين فسموا بتنوخ أخذا من التتنخ وهو المقام والعتق جمع اجتمعوا على النبي فظفر بهم فأعتقهم فسموا بذلك وغسان عدة بطون من الأزد نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به

الثالث تخصيص الرجل من رجال العرب بانتساب القبيلة إليه دون غيره من قومه بأن يشهر اسمه بهم لرياسة أو شجاعة أو كثرة ولد أو غيره فتنسب بنوه وسائر أعقابه إليه وربما انضم إلى النسبة إليه غير أعقابه من عشيرته كإخوته ونحوهم فيقال فلان الطائي فإذا أتى من عقبه من اشتهر منهم أيضا بسبب من الأسباب المتقدمة نسبت إليه بنوه وجعلت قبيلة ثانية فإذا اشتمل النسب على طبقتين فأكثر كهاشم وقريش ومضر وعدنان جاز لمن في الدرجة الأخيرة من النسب أن ينسب إلى الجميع فيجوز لبني هاشم أن ينسبوا إلى هاشم وإلى قريش وإلى مضر وإلى عدنان فيقال في أحدهم الهاشمي والقرشي والمضري والعدناني بل قال الجوهري إن النسبة إلى الأعلى تغني عن النسبة إلى الأسفل فإذا قلت في النسبة إلى كلب بن وبرة الكلبي استغنيت أن تنسبه إلى شيء من أصوله وذكر غيره أنه يجوز الجمع في النسب بين الطبقة العليا والطبقة السفلى ثم بعضهم يرى تقديم العليا على السفلى مثل أن يقال القرشي العدوي وبعضهم يرى تقديم السفلى على العليا فيقال العدوي القرشي
الرابع قد ينضم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف والموالاة فينسب إليهم فيقال فلان حليف بني فلان أو مولاهم
الخامس إذا كان الرجل من قبيلة ثم دخل في قبيلة أخرى جاز أن ينسب إلى قبيلته الأولى وأن ينسب إلى القبيلة الثانية التي دخل فيها وأن ينسب إليهما جميعا مثل أن يقال التميمي ثم الوائلي أو الوائلي ثم التميمي وما أشبه ذلك
السادس القبائل في الغالب تسمى باسم أبي القبيلة كربيعة ومضر والأوس والخزرج وما أشبه ذلك وقد تسمى القبيلة باسم الأم كخندف وبجيلة ونحوهما وقد تسمى باسم خاصة خصت أصل تلك القبيلة ونحو ذلك وربما وقع النسب على القبيلة لحدوث سبب كغسان حيث نزلوا على

ماء باليمن كسعد والحارث وغيرهما
السابع أسماء القبائل في اصطلاح العرب على خمسة أضرب
أولها أن يطلق على القبيلة لفظ الأب كعاد وثمود ومدين ومن شاكلهم وبذلك ورد القرآن الكريم ( وإلى عاد وإلى ثمود وإلى مدين ) يريد بني عاد وبني ثمود وبين مدين ونحو ذلك وأكثر ما يكون ذلك في الشعوب والقبائل العظام بخلاف البطون والأفخاذ ونحو ذلك
وثانيها أن يطلق على القبيلة لفظ البنوة فيقال بنو فلان وأكثر ما يكون ذلك في البطون والأفخاذ
وثالثها أن يرد ذكر القبيلة بلفظ الجمع مع الألف واللام كالطالبيين والجعافرة ونحوهما وأكثر ما يكون ذلك في المتأخرين دون غيرهم
ورابعها أن يعبر عنها بآل فلان كآل ربيعة وآل فضل وآل مر وآل علي وما أشبه ذلك وأكثر ما يكون ذلك في الأزمنة المتأخرة لا سيما في عرب الشام في زماننا والمراد بالآل الأهل
وخامسها أن يعبر عنها بأولاد فلان ولا يوجد ذلك إلا في المتأخرين من أفخاذ العرب على قلة كقولهم أولاد زعازع وأولاد قريش ونحو ذلك
الثامن أسماء غالب العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه إما من الحيوان المفترس كأسد ونمر وإما من النبات كنبت وحنظلة وإما من الحشرات كحية وحنش وإما من أجزاء الأرض كفهر وصخر ونحو ذلك
التاسع الغالب على العرب تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء ككلب وحنظلة ومرة وضرار وحرب وما أشبه ذلك وتسمية عبيدهم بمحبوب

الأسماء كفلاح ونجاح ونحوهما والمعنى في ذلك ما حكي أنه قيل لأبي الدقيش الكلابي لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو مرزوق ورباح فقال إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا يريد أن الأبناء معدة للأعداء فاختاروا لهم شر الأسماء والعبيد معدة لأنفسهم فاختاروا لأنفسهم خير الأسماء
العاشر إذا كان في القبيلة اسمان متوافقان كالحارث والحارث وأحدهما من ولد الآخر أو بعده في الوجود عبروا عن الوالد أو السابق منهما بالأكبر وعن الولد أو المتأخر منهما بالأصغر وربما وقع ذلك في الأخوين إذا كان أحدهما أكبر من الآخر

المهيع الثاني في معرفة تفاصيل أنساب العرب
واعلم أن العرب على قسمين
القسم الأول العرب البائدة
وهم الذين بادوا ودرست آثارهم وانقطعت تفاصيل أخبارهم إلا القليل والمشهور منهم قبائل
القبيلة الأولى عاد وهو بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم بالأحقاف بين اليمن وعمان من البحرين إلى

حضرموت والشحر وهم الذين بعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام فلم يؤمنوا فأهلكهم بالريح كما ورد به القرآن الكريم
القبيلة الثانية ثمود وهم بنو ثمود بن جاثر ويقال كاثر بالكاف بدل الجيم ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم بالحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال مراعاة لطول أعمارهم بعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام فلم يؤمنوا فأهلكهم الله بصيحة من السماء كما ورد به القرآن الكريم
القبيلة الثالثة العمالقة وهم بنو عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح وهم أمة عظيمة يضرب بهم المثل في الطول والجثمان قال الطبري وتفرقت منهم أمم في البلاد فكان منهم أهل عمان والبحرين والحجاز وملوك العراق والجزيرة وجبابرة الشام وفراعنة مصر
القبيلة الرابعة طسم وهم بنو طسم قال ابن الكلبي وهم بنو طسم ابن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وذكر الجوهري أنهم من عاد قال وكانت منازلهم الأحقاف باليمن وذكر في العبر أن ديارهم كانت باليمامة وكان هلاكهم بالحرب بينهم وبين إخوانهم جديس الآتي ذكرهم
القبيلة الخامسة جديس وهم بنو جديس بن إرم بن سام بن نوح وقال الطبري جديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم بجوار طسم المقدم ذكرهم وكان هلاكهم بالحرب بينهم وبين المذكورين أيضا
القبيلة السادسة عبد ضخم وهم بنو عبد ضخم بن إرم بن سام بن نوح قال في العبر كانوا يسكنون الطائف فهلكوا فيمن هلك قال ويقال إنهم أول من كتب بالخط العربي

القبيلة السابعة جرهم الأولى قال ابن سعيد وهم قبيلة من العرب كانوا على عهد عاد فبادوا
القبيلة الثامنة مدين وهم بنو مدين بن إبراهيم عليه السلام وهم أمة كبيرة قبائل وشعوب وكانت ديارهم ديار عاد وأرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من عشيرة قوم لوط بعث الله إليهم شعيبا فلم يؤمنوا

القسم الثاني من العرب الباقية أعقابهم على تعاقب الزمان
وأكثر من تدعو حاجة الكاتب إلى معرفته من بقي أعقابه منهم متفرقة في أقطار الأرض إلى الآن وهم على ثلاثة أضرب
الضرب الأول العرب العاربة
قال الجوهري ويقال فيهم العرب العرباء وهم بنو قحطان بن عابر ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام وهم عرب اليمن والمشهور منهم شعبان
الشعب الأول جرهم بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء وهم بنو جرهم بن قحطان وهم غير جرهم الأولى المقدم ذكرها في جملة العرب البائدة
وكانت منازلهم أولا اليمن ثم انتقلوا إلى الحجاز فنزلوه فأقاموا به حتى كان من نزول إسماعيل عليه السلام مع أبيه مكة ما كان فنزلوا عليه بمكة واستوطنوها على ما سيأتي ذكره في الكلام على العرب المستعربة إن شاء الله تعالى

الشعب الثاني يعرب وهم بنو يعرب بن قحطان المقدم ذكره ويقال إن العرب إنما سميت عربا به وهو أصل عرب اليمن الذين أقاموا به ومنه تناسلوا فولد له يشجب وولد يشجب سبأ ومنه تفرعت جميع قبائلهم
ومرجع المشهور فيه إلى قبيلتين
القبيلة الأولى حمير وهم حمير بن سبأ بكسر الحاء واسمه العرنجج وقد ذكر ابن الكلبي أنه كان لحمير عشرة أولاد من عقبه وكان غالب وجل قبائل حمير من ابنيه الهميسع ومالك ملوك اليمن وكانت بلادهم مشارف اليمن فظفار وما حولها ولحمير بقايا موجودون إلى الآن ومنه غالب قبائل قضاعة ومنه غالب قبائل حمير وهو قضاعة بن مالك بم عمروا بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير وقيل قضاعة بن مالك بن حمير وذهب بعض النسابة إلى أن قضاعة من العدنانية الآتي ذكرهم قال السهيلي والصحيح أن أم قضاعة وهي جكرة مات عنها مالك بن حمير وهي حامل فتزوجها معد بن عدنان فولدت قضاعة على فراشه فتبناه فنسب إليه قال المؤيد صاحب حماه وكان قضاعة مالكا لبلاد الشحر وقبره بجبل الشحر موجود ولقضاعة بقايا إلى الآن ينسب إليهم وإليهم ينسب القضاعي المصري صاحب كتاب الشهاب في المواعظ والآداب في الحديث وخطط مصر وغيرهما
والمشهور من قضاعة سبعة أحياء
الحي الأول بلي بفتح الباء وهم بنو بلي بن عمرو بن الحافي ابن قضاعة ولهم بقايا بالديار المصرية بصعيدها الأعلى منهم بنو ناب وغيرهم وبقايا بالحجاز وغيرهما والنسبة إليهم بلوي بزيادة واو مكسورة قبل ياء النسب

الحي الثاني جهينة بضم الجيم وفتح الهاء والنون وهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة وهي قبيلة عظيمة ولهم بقايا ببلاد الصعيد من الديار المصرية وبالحجاز وغيرهما والنسبة إليهم جهني بحذف الياء بعد الهاء
الحي الثالث كلب وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان ابن عمران بن الحافي بن قضاعة ومنهم حارثة الكلبي أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله
قال صاحب حماه وكان بنو كلب في الجاهلية ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام قال ابن سعيد ومنهم الآن خلق عظيم على خليج القسطنطينية مسلمون قال في مسالك الأبصار وبشيزر وحلب وبلادها وتدمر والمناظر أقوام منهم والنسبة إليهم كلبي
الحي الرابع عذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وهم بنو عذرة بن سعيد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم ابن الحافي بن قضاعة وإلى عذرة هؤلاء ينسب العشق والتتيم ومنهم عروة ابن خزام صاحب عفراء أحد المتيمين وجميل صاحب بثينة ومن أحسن ما يحكى أنه قيل لرجل منهم ما بال العشق يقتلكم يا بني عذرة قال لأن فينا جمالا وعفة وقيل لآخر منهم ما بال الرجل منكم يموت في هوى امرأة إنما ذلك ضعف فيكم يا بني عذرة فقال أما والله لو رأيتم النواظر الدعج تحتها المباسم الفلج وفوقها الحواجب الزج لاتخذتموها اللات والعزى ولهم بقايا بالدقهلية والمرتاحية من الديار المصرية وبقايا بالشام أيضا

الحي الخامس بهراء بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وألف بعد الراء المهملة وهم بنو بهراء بن عمرو بن الحافي بن قضاعة ومنهم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم منهم المقداد بن الأسود أحد أصحاب رسول الله ويقال إن خالد بن برمك من آل بهراء قال في العبر وكانت منازلهم شمالي منازل بلي من الينبع إلى عقبة أيلة ثم جاور بحر القلزم منهم خلق كثير وانتشروا ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر وكثروا هناك وغلبوا على بلاد النوبة وهم يحاربون الحبشة إلى الآن
الحي السادس بنو نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة وكانت منازلهم باليمن وإليهم كتب النبي كتابه المشهور وكان منهم طائفة بالشام أيضا فيما ذكره أبو عبيد ومن مشاهير نهد الصقعب قال صاحب حماه وكان رئيسا في الإسلام
الحي السابع جرم وهم بنو جرم واسمه علاف بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة قال الحمداني ومنهم بنو جشم وبنو قدامة وبنو عوف قال في العبر ومنهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قلت ووهم القاضي ولي الدين بن خلدون فجعلهم هم الذين ببلاد غزة وقد تقدم أن أولئك هم جرم طيىء لا جرم قضاعة وعد صاحب حماه

في تاريخه منهم تنوخ بفتح التاء المثناة فوق وضم النون وخاء معجمة في الآخر قال الجوهري ولا تشدد نونه والتحقيق ما قاله أبو عبيد أنهم ثلاثة أبطن من القحطانية نزار والأحلاف قال وسموا بذلك لأنهم حلفوا على المقام بمكان بالشام والتتنخ المقام قال ابن سعيد ومن الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة ودوس الذين تتنخوا بالبحرين قال صاحب حماه وكان بينهم وبين اللخميين ملوك الحيرة حروب ولتنوخ بقايا بالمعرة من بلاد الشام فيما ذكره الحمداني
القبيلة الثانية من القحطاينة كهلان بفتح الكاف وسكون الهاء وهم بنو كهلان بن سبإ قال أبو عبيد وشعوبهم كلها متشعبة من زيد بن كهلان وكانوا متداولين الملك باليمن مع بني حمير انفرد بنو حمير بالملك وبقيت بطون كهلان على كثرتها تحت ملكهم قال في العبر ثم تقاصر ملك حمير وبقيت الرياسة على العرب بالبادية لبني كهلان وهم أحياء كثيرة
والمشهور منهم أحد عشر حيا
الحي الأول الأزد بفتح الهمزة وسكون الزاي وبالدال المهملة قال أبو عبيد ويقال بالسين بدل الزاي قال الجوهري بالزاي أفصح وهم بنو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان وهم من أعظم الأحياء وأكثرهم بطونا وقد قسم الجوهري الأزد إلى ثلاثة أقسام
أحدهما أزد شنوءة وهم بنو نصر بن الأزد وشنوءة لقب لنصر غلب على بنيه
الثاني أزد السراة بإضافة أزد إلى السراة بالسين المهملة وهو موضع بأطراف اليمن نزل به فرقة منهم فعرفوا به

الثالث أزد عمان بإضافة أزد عمان بفتح العين المهملة وتشديد الميم وهي مدينة بالبحرين نزلها قوم منهم فعرفوا بها وللأزد بقايا ببلاد الشام بزرع وبصرى فيما قاله في مسالك الأبصار
ثم الأزد بطون كثيرة منها غسان بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة ونون في الآخر قال أبو عبيد وهم بنو جفنة والحارث وهو محرق وثعلبة وهو العنقاء وحارثة ومالك وكعب وخارجة وعوف ابن عمرو بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق ويقال البهلول بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وإنما سموا غسان لماء نزلوا عليه اسمه غسان فشربوا منه فسموا به قال في العبر وهو على القرب من بلاد اليمن قال أبو عبيد وفي ذلك يقول بعض الأنصار
( إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان )
ولغسان هؤلاء كان ملك العرب بالشام بعد سليح المقدم ذكرهم إلى أن كان آخرهم جبلة بن الأيهم الذي أسلم في زمن عمر ثم ارتد ولحق ببلاد الكفر وقد ذكر في مسالك الأبصار أن لهم بقايا ببلاد الشام بالبلقاء واليرموك وحمص ومنها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكانت منازلهم يثرب ومنهم كانت أنصار

النبي ولهم بقايا كثيرة متفرقة بالمشرق والمغرب وقد ذكر الحمداني أن منهم جماعة بمنفلوط من صعيد مصر من عقب حسان بن ثابت وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما
الحي الثاني من كهلان طيىء بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن الطاعة وهي الإيغال في المرعى وهم بنو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان والنسبة إليهم طائي وإليهم ينسب حاتم الطائي المشهور بالكرم وأبو تمام الطائي الشاعر المشهور وهم كثير قال في العبر وكانت منازلهم باليمن فخرجوا منها على إثر خروج الأزد عند تفرقهم بسيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز على القرب من بني أسد ثم غلبوا بني أسد على جبلي أجأ وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلى طييء إلى الآن ثم افترقوا في أول الإسلام زمن الفتوحات في الأقطار ولهم بطون كثيرة منهم ثعل بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة ولام في الآخر وهم بنو ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال أبو عبيد ومنهم البيت والعدد قال صاحب حماه ومنهم زيد الخيل
ومنها جديلة بفتح الجيم وكسر الدال وسكون الياء وفتح اللام وهاء في الآخر ذكرهم الجوهري ولم يرفع نسبهم ثم قال وجديلة أمهم عرفوا بها وهي جديلة بنت سبيع بن عمرو من حمير

ومنها نبهان بفتح النون وسكون الباء الموحدة ونون بعد الألف وهم بنو نبهان واسمه سودان بن عمرو بن الغوث بن طيىء
ومنها بولان بفتح الباء الموحدة وسكون الواو ونون بعد اللام ألف وهم بنو بولان واسمه غصين بن عمرو بن الغوث بن طيىء ومنهم الثلاثة نفر الذين يقال إنهم وضعوا الخط العربي على ما سيأتي ذكره في الكلام على الخط فيما بعد إن شاء الله
ومنها هناء وهم بنو هناء بن عمرو بن الغوث بن طيء
ومنهم إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النعمان بن المنذر
ومنها سدوس بضم السين والدال المهملتين وسين مهملة في الآخرة وهم بنو سدوس بن أصمع من بني سعد بن نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيء
ومنهم جعفر بن عطية الذي يقول
( مدحت نسيبي جعفرا إن جعفرا ... تحلب كفاه الندى وأنامله )
ومنها سلامان بفتح السين المهملة ونون في الآخر وهم بنو سلامان بن ثعل بن الغوث بن طيء
ومنها بحتر بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وضم التاء المثناة فوق وراء مهملة في الآخر وهم بنو بحتر بن عتود بن عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء منهم أبو عبادة البحتري الشاعر الإسلامي المشهور
ومنها زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة تحت ودال مهملة في الآخر وهم بنو زبيد بن معن بن عمرو بن عنيز بن سلامان بن عمرو بن الغوث بن طيء قال ابن سعيد وزبيد هؤلاء هم

الذين ببرية سنجار من الجزيرة الفراتية وهم الذين ذكرهم المقر الشهابي بن فضل الله وسماهم زبيد الاحلاف
ومنها سنبس بضم السين المهملة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسين مهملة في الآخر وهم بنو سنبس بن معاوية بن جرول بن ثعل ابن عمرو بن الغوث بن طيء وقد ذكر الحمداني أن منهم طائفة بثغر دمياط وأنه كان لهم شأن أيام الخلفاء الفاطميين وعد منهم ثلاثة بطون وهم الخزاعلة وعيد وجموح والإمرة في زماننا هذا فيهم في الخزاعلة في بني يوسف بمدينة سخا من الأعمال الغربية قال الحمداني ومنهم طائفة بالبطائح من بلاد العراق
ومنها جرم بفتح الجيم وسكون الراء وميم في الآخر وهم بنو ثعلبة ابن عمرو بن الغوث بن طيء وقال الحمداني جرم اسم أمه غلب عليه وهي جرم بنت الغوث بن طيء وهؤلاء هم جرم الذين ببلاد غزة من البلاد الشامية قال الحمداني وكانوا متفقين مع ثعلبة بالشام على تدافع الفرنج عن المسلمين فلما فتح السلطان صالح الدين البلاد دخلت طائفة منهم مصر وبقي بقاياهم بمكانهم ببلاد غزة وقد ذكر الحمداني منهم ثلاثة بطون وهم شمجان وقمران وجيان ثم قال والمشهور من جرم الآن جذيمة ويقال إن لهم نسبا في قريش وزعم بعضهم أنها ترجع إلى مخزوم وقيل بل من جذيمة بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ثم قال وجذيمة هؤلاء هم آل عوسجة وآل أحمد وآل محمود ثم قال ومنهم أسلم وشبل ورضيعة ونيور والقذرة والأحامدة والرفثة وكور

وموقع ومنهم من بني غوث العاجلة والعادلة وبنو تمام وبنو جميل وبنو مقدام وآل نادر ومنهم من بني غوث بنو بها وبنو خولة وبنو هرماس وبنو عيسى وبنو سهيل وأرضهم الداروم وجاورهم قوم من زبيد يعرفون ببني فهيد ثم اختلطوا بهم
ومنها ثعلبة وضبطه معروف وهم بنو ثعلبة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء وهم رعيان درما وزريق ابني عوف بن ثعلبة وقيل ابنا ثعلبة واسم درما عمرو ودرما اسم أمه غلب عليه قال الحمداني وكانوا مع جرم بالشام يدا مع الفرنج على المسلمين فلما فتح السلطان صلاح الدين البلاد انتقلت طائفة منهم إلى مصر ونزلوا أطراف بلاد الشرقية من بطون درما سلامة والأحمر وعمرو وقصير وأويس وشبل والحنابلة والمراونة والحيانيون ومن بطون زريق بها بنو وهم والطليحيون ومن الطليحيين آل حجاج وآل عمران وآل حفصان والمصافحة ومن بني زريق أيضا الصبيحيون ومن الصبيحيين الغيوث والزموت والروايات والنمورة والشمخيين والسعالي والرمالي والمعامرة والسنديون والبحابحة والعقيليون والمساهرة والمعافرة ومنهم أيضا العليميون قال الحمداني وكان مقدمهم قديما عمرو بن عسيلة أمر بالبوق والعلم ومن العليميين القمعة والرياحين والغوفة قال الحمداني وكان فيهم رجال ذو ذكر ونباهة خدموا الدول وعضدوا الملوك وقاموا ونصروا ومنهم من أمر بالبوق والعلم ومن بطون ثعلبة هؤلاء أيضا الجواهرة
ومنها غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء المثناة تحت وهاء في الآخر وهم بنو غزية بن أفلت بن ثعل بن عمرو بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال الحمداني وهم بالشام والعراق والحجاز وفيما بين العراق والحجاز قال في العبر وفيهم الإمارة في العراق إلى الآن ولهم صولة عظيمة وهم بطون كثيرة فمن بطونهم البطنين وأفخاذهم آل دعيج وآل روق وآل رفيع وآل سرية

وآل مسعود وآل تميم وآل شرود ومن بطونهم الأجود وأفخاذهم آل منيع وآل سنيد وآل منال وآل أبي الحزم وآل علي وآل عقيل وآل مسافر هذا ما ذكره الحمداني وزاد في مسالك الأبصار عن نصر بن برجس المشرقي وأولاد الكافرة وساعدة وبني جميل وآل أبي مالك قال في المسالك وديار آل أجود منهم الرخيمية والرقبي والفردوس ولينة والحدق وديار آل عمرو بالحوف وديار بقاياهم النصيف والكمن واليحموم والأم والمعينة ويليهم ساعدة وديارهم من الحضر إلى برية زرود إلى سقارة إلى البقعاء إلى التيب إلى الساسة إلى حضر
ومنها لام وهم بنو لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن بجيلة ابن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيء قال ابن سعيد ومساكنهم المدينة النبوية وما حولها وقال الحمداني ديارهم جبل أجأ وسلمى ثم قال وظفير من لام ومنازلهم الظعن قبالة المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
ومنها آل ربيعة عرب الشام وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دغفل بن جراح بن شبيب بن مسعود بن حرب بن السكن بن ربيع بن علقى بن حوط بن عمرو بن خالد بن معبد بن عدي بن أفلت بن سلسلة بن غنم بن ثوب بن معن بن عتود بن عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء قال في مسالك الأبصار وتقول بنو ربيعة الآن إنهم من ولد جعفر بن يحيى بن

خالد بن برمك من العباسة بنت المهدي أخت الرشيد ويزعمون أنه كان يحضر مع الرشيد مجلسه الخاص وأنه كلمه في تزويجها ليحل له نظرها لاجتماعهما بمجلسه فعقد له عليها بشرط أن لا يطأها فعانقها على حين غفلة من الرشيد فحملت منه بولد كان ربيعة هذا من ولده قال ويقول في نسبه إنه ربيعة بن سالم بن شبيب بن حازم بن علي بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ويزعمون أن نكبة البرامكة كانت بسبب ذلك ثم قال وأصلهم إذا نسبوا إليه أشرف لهم لأنهم من سلسلة بن عنيز بن سلامان بن طيء وهم كرام العرب وأهل البأس والنجدة والبرامكة وإن كانوا قوما كراما فإنهم قوم عجم وشتان بين العرب والعجم وقد شرف الله تعالى العرب أن بعث منهم محمدا وأنزل فيهم كتابه وجعل فيهم الخلافة والملك وابتز بهم ملك فارس والروم ونزع بأسنتهم تاج كسرى وقيصر وكفى بذلك شرفا لا يطاول وفخرا لا يتناول وذكر في التعريف نحوه قال في العبر وكانت رياسة طيء في أيام الفاطميين لبني الجراح ثم صارت لآل ربيعة قال الحمداني وكان ربيعة هذا قد نشأ في أيام الأتابك زنكي وابنه نور الدين الشهيد صاحب الشام ونبغ بين العرب وولد له أربعة أولاد وهم فضل ومرا وثابت ودغفل ومنهم تفرعت بطون آل ربيعة ثم المشهور من آل ربيعة الآن ثلاثة بطون وهم آل فضل وآل مرا وآل علي فآل فضل هم بنو فضل بن ربيعة وآل مرا بنو مرا بن ربيعة وأما آل علي فمن آل فضل أيضا وهم بنو علي بن حديثة بن عقبة بن فضل المقدم ذكره وقد صارت آل فضل أيضا بعد ذلك بيوتا أرفعها قدرا بيت عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة بن عقبة بن فضل قال في مسالك الأبصار وفيهم الإمرة دون سائر آل فضل قال ثم صار آل عيسى بيوتا بيت مهنا بن

عيسى وبيت فضل بن عيسى وبيت حارث بن عيسى وبيت محمد بن عيسى وبيت هبة بن عيسى وسيأتي الكلام على تقسيم الإمرة فيهم في الكلام على عرب الشام في المسالك والممالك إن شاء الله
الحي الثالث من كهلان مذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وجيم في الآخر وهم بنو مذحج واسمه مالك بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان هكذا قاله أبو عبيد وقال الجوهري مذحج بن يحابر بن مالك بن زيد بن كهلان وقد ذكر الحمداني أنهم إنما سموا مذحجا لشجرة تحالفوا عندها اسمها مذحج فسموا باسمها ثم لمذحج بطون كثيرة
منها خولان بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو ونون بعد اللام ألف وهم بنو خولان بن مالك وهو مذحج وإليهم ينسب أبو إدريس الخولاني قال في العبر وبلاد خولان في بلاد اليمن من شرقيه قال وقد افترقوا في الفتوحات وليس منهم اليوم ذرية إلا باليمن ثم قال وهم غالبون على أهله
ومنها جنب بفتح الجيم وسكون النون وباء موحدة في الآخر وهم بنو منبه والحارث والغلي وسبحان وشمران وهفان بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مذحج قال أبو عبيد وسموا بجنب لأنهم جانبوا عمهم صداء وحالفوا سعد العشيرة وحالفت صداء بني الحارث بن كعب ومن جنب معاوية الخير الجنبي صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل
ومنها سعد العشيرة وهم بنو سعد العشيرة بن مذحج وسمي بذلك

لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلثمائة رجل فكان إذا سئل عنهم يقول هؤلاء عشيرتي دفعا للعين عنهم فقيل له سعد العشيرة ثم من بطون سعد العشيرة أوذ بفتح الهمزة وسكون الواو وذال معجمة في الآخر وهم بنو أوذ بن صعب بن سعد العشيرة وإليهم ينسب الأفوه الأوذي الشاعر المشهور ومن بطون سعد العشيرة أيضا جعفي بضم الجيم وسكون العين المهملة وكسر الفاء وياء مثناة تحت في الآخر وهم بنو جعفي بن سعد العشيرة والنسبة إليهم جعفي على مثل لفظه وإليهم ينسب الإمام البخاري بالموالاة فيقال الجعفي مولاهم ومن بطون سعد العشيرة زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة تحت ودال مهملة في الآخر وهم بنو منبه بن صعب بن سعد العشيرة وتعرف زبيد هؤلاء بزبيد الأكبر وهم زبيد الحجاز قال في مسالك الأبصار وعليهم درك الحاج المصري من الصفراء إلى الجحفة ورابغ ومن زبيد هؤلاء بطن تعرف بزبيد الأصغر وهم بنو منبه الأصغر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه الأكبر قال أبو عبيد ومن زبيد هؤلاء عمرو بن معدي كرب
ومنها النخع بفتح النون وسكون الخاء المعجمة وعين مهملة في الآخر وهم بنو النخع واسمه جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج قال أبو عبيد وسمي النخع لأنه انتخع عن قومه أي بعد ومنهم الأشتر النخعي أحد تابعي أصحاب رسول الله وهو الذي ولاه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مصر وكتب له بها عهدا على ما سيأتي ذكره في

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39