كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

الإنشاء الشريف بألأبواب السلطانية
وهي على خمسة أنواع

النوع الأول ولايات أرباب السيوف وهم على ثلاثة أصناف
الصنف الأول النواب من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف وغالب من يكتب له منهم بالبلاد الشامية ومضافاتها كنواب السلطنة بدمشق وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك ومقدمي العسكر بغزة وسيس

ونواب القلاع بالمدن العظام ذوات القلاع الرفيعة القدر كالنائب بقلعة دمشق والنائب بقلعة حلب والنائب بقلعة صفد أما طرابلس وحماة فليس بهما قلعة وكذلك النيابات الصغار المضافة إلى القواعد الكبار كالقدس الشريف وحمص ومصياف من مضافات دمشق وقلعة المسلمين والرحبة والبيرة والرها وشيزر وعين تاب وبهستا وملطية وآياس

والأبلستين وأذنة وطرسوس من مضافات حلب واللاذقية وحصن عكار من مضافات طرابلس وما يجري مجرى ذلك على ما سيأتي بيانه مفصلا في مواضعه إن شاء الله تعالى
أما دونها من النيابات فإن نواب السلطنة بالمملكة يستقلون بالتولية فيها
قلت والضابط في ذلك أن كل نيابة كان نائبها تقدمة ألف فولايتها عن السلطان بمرسوم شريف من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وكل ولاية كان نائبها جنديا أو مقدم حلقة فولايتها عن نائب السلطنة بالمملكة التي هي مضافة إليها بتوقيع كريم من ديوان الإنشاء بها وكل نيابة كان نائبها أمير طبلخاناه او عشرة ربما ولى فيها السلطان وربما ولى فيها نائب السلطنة

إلا أن تولية السلطان لنواب الطبلخاناه أغلب وتولية نواب السلطنة لنواب العشرة أغلب
أما الديار المصرية فإنه كان يكتب فيها أولا لولاة الوجهين القبلي والبحري جريا على ما كان الأمر عليه في زمن الخلفاء الفاطميين وكذلك والي الإسكندرية قبل أن تستقر نيابة وواليا الولاة بالوجهين قبل أن يستقرا نيابتين في جماعة اخرى من أرباب الوظائف كالنائب الكافل وأتابك الجيوش كإستادار وأميراخور ومقدم المماليك وواليي مصر والقاهرة ثم صارت الكتابة لذوي الوظائف من أرباب السيوف قاصرة على النائب الكافل إذا كان موجودا والنواب المستجدين بالإسكندرية والوجهين القبلي والبحري وبطل ما عدا ذلك مما كان يكتب وكأن المعنى فيه القرب من مقرة السلطان والكتابة

إنما تقع في الغالب مع البعد لتكون حجة للمتولي على بعد المدى ولا ينتقص ذلك بما يكتب للخلفاء والملوك في الحضرة فإن ذلك من الأمور العامة التي يخاف انتقاضها أو جحودها إذ مثل ذلك لا يجوز في الولايات عن السلطان لأنه متى شاء عزل من ولاه
الصنف الثاني ولاية أمراء العربان وهؤلاء لاحظ لهم في الكتابة بالولاية بالديار المصرية الآن وربما يكتب لأمرائهم بالمملكة الشامية كأمير آل فضل وأمير آل مرا وأمير آل علي ومقدم جرم وكذلك أمير مكة المشرفة وأمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والنائب بالينبع من البلاد الحجازية والمعنى في اختصاص من بعد منهم ما تقدم في الكلام على أرباب السيوف مع ضعف شأن عرب الديار المصرية وعدم الاهتمام بأمرهم
الصنف الثالث ولاية المقدمين على الطلوائف كمقدمي التركمان والأكراد والجبلية بالبلاد الشامية وأتابك طائفة الإسماعيلية بقلاع

الدعوة وحاكم البندق ونحوهم وهذه الطوائف ممن يكتب له إلى الآن أما حاكم البندق فإنه لم يعهد له كتابة من ديوان الإنشاء بمصر والشام على أن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر وصيته في التعريف ولعله ممن كان يكتب له في زمانه أو قبله ثم ترك وإنما يكون ذلك يحسب اعتناء السلطان بشأن البندق وعدمه كما في لباس الفتوة وأنه ربما اعتنى به بعض الملوك فكتب له ثم ترك

النوع الثاني ولاية أرباب الأقلام وهم صنفان
الصنف الأول أرباب الوظائف الدينية وهم على ثمانية أضرب
الضرب الأول أكابر القضاة بأقطار المملكة كقضاة القضاة بالحضرة السلطانية بالديار المصرية وثغر الإسكندرية وكذلك قضاة القضاة بدمشق

وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك وقضاة العسكر بالديار المصرية أما القضاة بالنيابات الصغار المضافات إلى دمشق وحلب ونحوهما فولايتهم إلى قضاة القضاة بها وقضاة العسكر بدمشق وحلب وما في معناهما إلى النواب بتلك الممالك
الضرب الثاني المفتون بدار العدل بالديار المصرية أما المفتون بدار العدل بالممالك الشامية فولايتهم إلى نائبها
الضرب الثالث أكابر المحتسبين كمحتسبي مصر والقاهرة أما الممالك الشامية فلا يولي فيها إلا نوابها
الضرب الرابع أكابر المدرسين في عامة العلوم بأماكن مخصوصة كالزاوية الخشابية بالجامع العتيق بمصر والمدرسة الصلاحية بتربة

الإمام الشافعي بالقرافة ونحو ذلك بأقطار المملكة من مدرسي الفقه والحديث والتفسير وغير ذلك من العلوم الدينية
الضرب الخامس أكابر الخطباء بجوامع مخصوصة بأقطار المملكة كجامع الناصري بقلعة الجبل والجامع الأموي بالشام ونحوهما
الضرب السادس وكلاء بيت المال بالديار المصرية وغيرها
الضرب السابع المتحدثون على الوظائف المعتبرة كنقابة الأشراف ومشيخة الشيوخ فما كان بالديار المصرية فولايته من السلطان وتوقيعه من

ديوان الإنشاء وما كان منها بالممالك الشامية فولايتها إلى نواب السلطنة بها
الضرب الثامن المتحدثون على جهات البر العامة المصلحة كنظر الأحباس وأنظار البيمارستانات ونحوها فما كان منها بالديار المصرية كنظر الأحباس والبيمارستان المنصوري وما أشبه ذلك فتوليته إلى نوابها ما لم يكن لها ناظر خاص فيكون ذلك مختصا به

الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية
ودواوينها على ثلاثة أضرب
الضرب الأول دواوين المال وأرباب الخدم بها ممن تكتب ولاياتهم

من ديوان الإنشاء إما ناظر أو وزير أو صاحب ديوان أو شهادة أو استيفاء فأما الوزارة فلا يصرح بها إلا للوزير بالأبواب السلطانية وربما صرح بها لوزير دمشق إذا وليها من ارتفعت مرتبته وإلا عبر عنه بناظر المملكة
وأما النظر فكنظر الدواوين المعبر عنه بنظر الدولة ونظر الخاص ونظر الخزانة الكبرى ونظر البيوت والحاشية ونظر بيت المال ونظر الإصطبلات السلطانية ونظر دار الضيافة والأسواق ونظر خزائن

السلاح ونظر البهار والكارمي ونظر الأهراء ونظر المواريث الحشرية ونظر ثغر الإسكندرية المحروس وغير ذلك من وظائف الأنظار بالديار المصرية وكذلك نظر المملكة بدمشق إذا لم يصرح لمتوليه بالوزارة ونظر المملكة بحلب ونظر المملكة بطرابلس ونظر المملكة بحماة ونظر المملكة بصفد ونظر المملكة بسيس ونظر المملكة بغزة ونظر المملكة بالكرك
وأما صحابة الديوان فكصحابة ديوان الجيش وصحابة ديوان الخاص ونحو ذلك

وأما الشهادة فكشهادة الخزانة الكبرى وشهادة خزانة الخاص ونحوهما
وأما الاستيفاء فكاستيفاء الصحبة واستيفاء الدولة واستيفاء الخاص ونحو ذلك ولاحظ لغير النظار من دواوين الأموال بالممالك الشامية من صاحب ديوان ولا شاهد ولا مستوف في الكتابة بالولاية من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بل ولايتها من نواب الممالك الشامية بتواقيع من دواوين الإنشاء بها
الضرب الثاني دواوين الجيوش بالديار المصرية وغيرها من الممالك الشامية وأرباب الخدم بها لا يخرجون عن ناظر وصاحب ديوان وشاهد ومستوف

والذين يولون عن السلطان منهم وتكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء الشريف ناظر الجيش بالأبواب السلطانية وناظر الجيش بدمشق وناظر الجيش بحلب وناظر الجيش بطرابلس وناظر الجيش بحماة وناظر الجيش بصفد وناظر الجيش بغزة وناظر الجيش بسيس وناظر الجيش بالكرك وصاحب ديوان الجيش بالأبواب السلطانية والشهود والمستوفون بها أما من عدا هؤلاء من نظار الجيش وأصحاب الدواوين والشهود بالممالك الشامية فولايتهم إلى نواب السلطنة بها
الضرب الثالث دواوين الإنشاء وأرباب الخدم بها لا يخرجون عن كاتب سر وكاتب دست وكاتب درج
والذين يولون عن السلطان من كتاب هذه الدواوين وتكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء السلطاني صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وصاحب ديوان الإنشاء بدمشق وصاحب ديوان المكاتبات بحلب وصاحب ديوان المكاتبات بطرابلس وصاحب ديوان المكاتبات بحماة وصاحب ديوان المكاتبات بصفد وكاتب الدرج بسيس وكاتب الدرج بغزة وكاتب الدرج بالكرك وكاتب الدرج بالإسكندرية وكتاب الدست وكتاب الدرج بالأبواب السلطانية أما كتاب الدست وكتاب الدرج بالممالك الشامية فإلى نوابها بتواقيع من دواوين الإنشاء بها

النوع الثالث ولايات أرباب الوظائف الصناعية
كالأطباء والكحالين والجرائحية ومن جرى مجراهم من سائر أرباب الوظائف التي هي من تتمة نظام الملك فما كان منها بالأبواب السلطانية فولايته عن السلطان بتوقيع من ديوان الإنشاء السلطاني وما كان منها بالممالك الشامية فولايته إلى نواب السلطنة بها
النوع الرابع ولايات زعماء أهل الذمة وهي ضربان
الضرب ألأول ولاية بطاركه النصارى من اليعاقبة والملكانية
الضرب الثاني ولاية رئيس اليهود الحاكم على طوائفهم
النوع الخامس ما لا يختص بطائفة ولا يندرج تحت نوع
كصغار الأمور التي يكتب فيها لكل فرد فرد إما ابتداء وإما بالحمل على ما بيده من ولاية سابقة من نائب أو قاض او ناظر وقف أو غير ذلك مما لا ينحصر كثرة

قلت وربما ولى السلطان في بعض الوظائف بالممالك الشامية مما تختص توليته بنواب السلطنة إذا كانت الوظيفة وضيعة المنزلة وأدركت المولى عنايته وربما ولى بعض نواب السلطنة ما تختص توليته بالسلطان إذا عظمت رتبة النائب وارتفعت منزلته خصوصا إذا كان نظام المملكة محلولا وأمرها مضطربا

الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الخامسة
في بيان ما تجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في حسن التوسل يجب على الكاتب أن يراعي في ذلك أمورا
منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال أو قدر النعمة أو لقب صاحب الولاية أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيا من هذه الأحوال ولا بعيدا منها ولا مباينا لها ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق القصد من أول الخطبة إلى آخرها
ومنها أن يراعي المناسبة وما تقتضيه الحال فلا يعطي أحدا فوق حقه ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله ويراعي أيضا مقدار النعمة والرتبة فيكون وصف المنة بها على مقدار ذلك
ومنها أن لا يصف المتولي بما يكون فيه تعريض بذم المعزول وتنقيص له فإن ذلك مما يوعز الصدور ويورث الضغائن في القلوب ويدل على ضعف الآراء في اختيار الأول مع إمكان وصف الثاني بما يحصل به

المقصود من غير تعريض بالأول
ومنها أن يتخير الكلام والمعاني فإنه مما يشيع ويذيع ولا يعذر المقصر في ذلك بعجلة ولا ضيق وقت فإن مجال الكلام متسع والبلاغة تظهر في القليل والكثير
قلت ومنها أن يحرص الكاتب على أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأول أو الثاني ولا يؤخرها عن ذلك ومما كان يراعى في ذلك أن تكون الخطبة من أولها إلى آخرها على روي واحد في السجع وكذلك الدعاء في أول صغار التواقيع والمراسيم المبتدأة بلفظ رسم بخلاف ما بعد ذلك إلى آخر ما يكتب فإنه يتفق فيه روي السجعتين والثلاث فما حولها ثم يخالف رويها إلى غيره ولايكلف الكاتب الإتيان بجميعها على روي واحد وعلى ذلك كانت طريقة فحول الكتاب بالدولة التركية كالقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي والمقر الشهابي بن فضل الله ومن عاصرهم إلا في القليل النادر فإنه ربما وقع لبعضهم مخالفة روي الخطبة وإلى هذا قد جنح غالب كتاب ديوان الإنشاء في زماننا ومالوا إليه لما في التزام الروي الواحد في جميع الخطبة من التكلف وعسر التلفيق على من يتعاناه
ثم الكلام فيما يكتب في الولاية قد يكون جميعه بلفظ الغيبة مثل أن يقال عهد إليه بكذا او قلده كذا أو فوض إليه كذا أو أن يستقر في كذا ونحو ذلك ثم يقال وأمره بكذا او ونحن نوصيه بكذا او فعليه بكذا وما

أشبه ذلك وقد يكون جميعه بلفظ الخطاب مثل أن يقال وقد عهد إليك بكذا أو قلدك كذا أو فوض إليك كذا ثم يقال ونحن نوصيك بكذا أو فعليك بكذا ونحوه وقد يصدر بلفظ الغيبة ثم يلتفت منها إلى الخطاب وقد يصدر بلفظ الخطاب ثم يلتفت منه إلى الغيبة بحسب ما يؤثره الكاتب وتؤدي إليه بلاغته مما ستقف على تنويعه في خلال كلامهم في أصناف الولايات الآتية في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة الخامسة في بيان ما يقع به
التفاوت في رتب الولايات وذلك من سبعة أوجه
الوجه الأول الألقاب وهي على ثلاثة أنواع
النوع الأول ألقاب الخلفاء
وسبيلها الاختصار دون البسط اكتفاء بما هو ظاهر من أبهة الخلافة وعلو مقام الإمامة إذ هي الزعامة العظمى والرتبة التي هي أعلى الرتب وأسمى
وهي صنفان
الصنف الأول ألقاب الخلفاء أنفسهم وغاية ما ينعت به الإمام وأمير المؤمنين
الصنف الثاني ألقاب أولياء العهد بالخلافة وألقابهم نحو السيد الجليل وذخيرة الدين ونحو ذلك على ما سيأتي بيانه في عهود الخلفاء عن الخلفاء
النوع الثاني ألقاب الملوك وهي صنفان أيضا
الصنف الأول ألقاب السلطان نفسه والكتاب تارة يبتدئونها بالسلطان

وتارة يبتدئونها بالمقام ولكل منهما نعوت تخصه وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على عهود الملوك عن الخلفاء إن شاء الله تعالى
الصنف الثاني ألقاب أولياء العهد بالملك والملوك المنفردين بولاية صغار البلدان عن السلطان الأعظم وهي لا تفتتح إلا بالمقام ليس إلا ولها نعوت تخصها يأتي الكلام عليها في الكلام على عهودهم أيضا

النوع الثالث ألقاب ذوي الولايات الصادرات عن السلطان من أرباب الوظائف
الواقعة في هذه المملكة
وقد تقدم في الكلام على الألقاب في مقدمة الكتاب أن أصول الألقاب المستعملة في ذلك خمسة ألقاب على الترتيب وهي المقر ثم الجناب ثم المجلس ثم مجلس مضافا كمجلس الأمير ومجلس القاضي

ومجلس الشيخ ومجلس الصدر ثم الاقتصار على المضاف إليه وحذف المضاف كالامير والقاضي والشيخ والصدر ويلتحق بذلك لأهل الذمة الحضرة وحضرة الشيخ والشيخ مجردا عن حضرة وتقدم في الفصل الأول من هذا الباب أن أرباب الولايات خمسة أنواع أرباب السيوف وأرباب الأقلام وأرباب الوظائف الصناعية وزعماء أهل الذمة ومن لا يختص بطائفة لصغرهم وجميع هذه الأنواع على اختلاف أصنافهم لا يخرجون عن الألقاب المتقدمة وقد تقدم الكلام على هذه الألقاب ونعوتها لمن يكاتب عن الأبواب الشريفة السلطانية من أرباب الوظائف مستوفى في المكاتبات إلا أنه قد يولى عن السلطان من لم يؤهل للمكاتبة عنه كأكثر أرباب الوظائف من حملة الأقلام وغيرهم فاحتيج إلى تعريف مراتب الألقاب لكل نوع من أرباب الولايات
فأما أرباب السيوف فأعلى ألقابهم المقر وأدناها مجلس الأمير ثم الأمير مجردا عن مجلس
وأما أرباب الوظائف الصناعية فأعلى ألقابهم المجلس وأدناها مجلس

الصدر ثم الصدر مجردا عن مجلس
وأما من لا يختص بطائفة لصغره فيقتصر فيه على لقب التعريف وهو فلان الدين إن عظم وإلا اقتصر على اسمه خاصة
وأما زعماء أهل الذمة فأعلى ألقابهم الحضرة ثم حضرة الشيخ ثم الشيخ مجردا عن حضرة
واعلم أن كل من كانت له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم فلقب ولايته ونعوته كما في مكاتبته غير أنه يزاد في آخر النعوت المركبة ذكر اسمه العلم ونسبته إلى السلطان كالناصري والظاهري ونحوهما إن كان ممن ينتسب إليه بنيابة ونحوها ثم إن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء نقل ذلك الدعاء من أول المكاتبة إلى ما بعد اسمه والنسبة إلى السلطان في الولاية كما إذا كانت مكاتبته أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم فإنه يدعى له عقيب اسمه والنسبة إلى السلطان إن كانت بأعز الله تعالى أنصاره وكذلك في البواقي
وإن كانت مكاتبته تفتتح بغير الدعاء كصدرت هذه المكاتبة ونحو ذلك فإنه يدعى له في الولاية عقب الاسم والنسبة إلى السلطان إن كانت بما يدعى له في مكاتبته في آخر الألقاب كما إذا كان من أرباب السيوف ومكاتبته صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي أو المجلس السامي بالياء فإنه يدعى له بمثل أدام الله سعادته وأدام الله رفعته ونحو ذلك وإن لم تكن له مكاتبة عن الأبواب السلطانية كتب له في الولاية ما يناسبه من اللقب

والنعوت ثم يذكر اسمه والدعاء له إن كان مستحقا للدعاء وسيأتي لقب كل ذي ولاية من الأنواع الخمسة المتقدمة الذكر ونعوته عند ذكر ولايته فيما بعد إن شاء الله تعالى
ثم للألقاب في الولايات محلان
أحدهما الطرة ويقتصر فيها على اللقب من المقر أو الجناب أو المجلس أو مجلس مضافا وما بعده من النعوت إلى اللقب المميز للوظيفة كالأميري والقضائي ونحوهما ثم يذكر لقبه الخاص به وهو الفلاني أو فلان الدين ثم يذكر اسمه وانتسابه إلى السلطان إن كان على ما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى
الثاني في أثناء الولاية وهناك تستوفى النعوت ويؤتى بما في الطرة في ضمنه إلا أنه يجعل لقب التعريف وهو الفلاني أو فلان الدين بين النعوت المفردة والمركبة فاصلا بينهما

الوجه الثاني ألفاظ إسناد الولاية إلى صاحب الوظيفة ولها ست مراتب
الأولى لفظ العهد مثل أن يقال أن يعهد إليه وهي خاصة بالخلفاء والملوك
الثانية لفظ التقليد مثل أن يقال أن يقلد كذا ويكون مع المقر الكريم والجناب الكريم
الثالثة لفظ التفويض مثل أن يقال أن يفوض إليه كذا ويختص بالجناب لأرباب السيوف وكذلك الجناب والمجلس العالي لأرباب الأقلام
قلت وكتاب زماننا يستعملونها مع المقر أيضا ولا يستعملون لفظ

يقلد في التقاليد لتوهمهم الاكتفاء بلفظ تقليد عنها ولم يعلموا ان يقلد فوق يفوض كما تقدم على أن المقر الشهابي بن فضل الله قد صرح بذلك في التعريف كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
الرابعة لفظ الاستقرار والاستمرار مثل أن يقال أن يستقر في كذا أو يستمر في كذا ولفظ يستقر مختص بالمستجد ولفظ يستمر مختص بالمستقر ويكونان مع المجلس السامي بالياء والمجلس السامي بغير ياء لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم أما المجلس العالي فإن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء مثل أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي كنائب السلطنة بالكرك فإنه يقال فيه أن يفوض إليه وإن كانت مكاتبته تفتتح بصدرت هذه المكاتبة كنائب القدس ونحوه فإنه يقال فيه أن يستقر
الخامسة لفظ الترتيب مثل أن يقال أن يرتب في كذا ويكون مع مجلس مضافا مثل مجلس الأمير ومجلس القاضي ونحوهما وربما استعملت مع السامي بغير ياء
السادسة لفظ التقدم مثل أن يقال أن يقدم فلان على الطائفة الفلانية ونحو ذلك
قلت وهاتان المرتبتان أعني السادسة والخامسة قد ذكرهما المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف فقال وقد يقال أن يرتب وأن يقدم وهما موجودان في كتابة معاصريه بمصر والشام أما كتاب زماننا فقد رفضوهما جملة وأضربوا عن استعمالهما بكل حال واكتفوا عنهما بالمرتبة الرابعة وهي لفظ الاستقرار والواجب إثباتهما لتفاوت ما بين المراتب على أن استعمال لفظ يرتب موجود في كلامهم بكثرة ولفظ يقدم لم يستعملوه إلا في النزر اليسير والله أعلم وهذه اللفاظ تقع في الطرة وفي أثناء الكلام على حد واحد

الوجه الثالث الافتتاحات وهي راجعة إلى اربع مراتب
المرتبة الأولى الافتتاح بلفظ هذه بيعة أو هذا ما عهد ونحو ذلك في البيعات والعهود على المذهب القديم او بالحمد لله ويقع الابتداء به في العهود والبيعات إذا ابتدىء العهد أو البيعة بخطبة على ما عليه استعمال أهل زماننا وكذلك في التقاليد لأرباب السيوف والأقلام والمراسيم المكبرة لأرباب السيوف والتواقيع الكبار لأرباب الأقلام
المرتبة الثانية الافتتاح بأما بعد حمد الله ويقع الابتداء به في المرتبة الثانية من أرباب المراسيم المكبرة من أصحاب السيوف والمرتبة الثانية من أرباب التواقيع من أصحاب الأقلام
المرتبة الثالثة الافتتاح برسم بالأمر الشريف ويقع الافتتاح به في المرتبة الثالثة لأرباب التواقيع والمراسيم من سائر أرباب الولايات
المرتبة الرابعة ما كان يستعمل من الافتتاح بأما بعد فإن كذا أو من حسنت طرائقه وحمدت خلائقه فإنه احق وما أشبه ذلك كما أشار إليه في التعريف إذ كان الان قد رفض وترك على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وقد كان ذلك يستعمل فيما تقدم لأرباب السيوف والأقلام جميعا
الوجه الرابع تعدد التحميد في الخطبة أو في أثناء الكلام واتحاده
فقد قال في التعريف في الكلام على عهود الملوك للملوك وكلما كثرت التحميدات في الخطب كان أكبر لأنها تدل على عظم قدر النعمة

وذكر في الكلام على عهود الخلفاء عن الخلفاء أنه ينتهي في التحميد إلى سبعة

الوجه الخامس الدعاء وله ثلاثة مواضع
الموضع الأول في طرة الولاية بعد ذكر ما يكتب في الطرة من ألقابه ولا يزاد فيه على دعوة واحدة تناسبه
الموضع الثاني في أثناء الولاية بعد استيفاء الألقاب وذكر الاسم وهو ما في الطرة من الدعوة المناسبة له بغير زائد على ذلك
الموضع الثالث في آخر الولاية بالإعانة ونحوها قال في التثقيف وأقلها دعوتان وأكثرها أربع قال في التعريف ومن استصغر من المولين لا يدعى له في آخر ولايته
ثم قد تقدم في المكاتبات أن الدعاء مع تنزيه الله تعالى كأعز الله تعالى أنصار المقر وضاعف الله تعالى نعمة الجناب ونحو ذلك أعلى من حذفه كأدام الله سعده وأعزه الله ونحو ذلك ولا شك أنه في الولايات كذلك

الوجه السادس طول الكلام وقصره فكلما عظمت الوظيفة وارتفع قدر صاحبها كان
الكلام فيها أبسط
قال في حسن التوسل ويحسن أن يكون الكلام في التقاليد منقسما أربعة أقسام متقاربة المقادير فالربع الأول في الخطبة والربع الثاني في ذكر موقع الإنعام في حق المقلد وذكر الرتبة وتفخيم امرها والربع الثالث في أوصاف المولى وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت وسمعة وشجاعة إن كان نائبا ووصف الرأي والعدل وحسن التدبير والمعرفة بوجوه الأموال وعمارة البلاد وصلاح الأحوال وما يناسب ذلك إن كان وزيرا وكذلك في كل رتبة بحسبها والربع الرابع في الوصايا
قال في التعريف والذي اختاره اختصار مقدار التحميدة التي في الخطبة والخطب مطلقا وإطالة ما بعد ذلك والإطناب في الوصايا اللهم إلا لمن جل قدره وعظم أمره فإن الأولى الاقتصار في الوصايا على أهم الجمليات ويعتذر في الاقتصار بما يعرف من فضله ويعلم من علمه ويوثق به من تجربته ومن هذا ومثله قال والكاتب في هذا كله بحسب ما يراه ولكل واقعة مقال يليق بها ولملبس كل رجل قدر معروف لا يليق به غيره وفي هذا غنى لمن عرف وكفاية لمن علم على أن المقر الشهابي تابع في ذلك القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله فإنك إذا تأملت تقاليده وتواقيعه وجدتها كلها كذلك ولكل وجه ظاهر فإن المطول للخطبة لا

يخليها من براعة الاستهلال المناسبة للحال والمقصر لها مراع لزيادة الإطناب في الوصف
قلت ولا يخفى أن ما ذكراه في التقاليد يجيء مثله في العهود لجريها على موجبها من مول ومولى
اما إذا كانت الولاية بيعة فإنه يجعل موضع الوصايا ذكر التزام الخليفة البر والإحسان للخلق ووعد النظر في أمور الرعية وصلاح احوالهم وذكر التحليف للخليفة أو له وللسلطان إن كان معه سلطان قام بعقد البيعة له على الوفاء بالعهد والدخول تحت الطاعة قال في حسن التوسل والأمر الجاري في ذلك على العادة معروف لكنه قد تقع أشياء خارجة عن العادة فيحتاج الكاتب فيها إلى حسن التصرف على ما يقتضيه الحال وذكر من ذلك تقليدا أنشأه لمتملك سيس وتقليدا كتبه بالفتوة وسيأتي ذكر ذلك مع ما شاكله في مواضعه إن شاء الله تعالى

الوجه السابع قطع الورق
واعلم أن الولايات من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بجملتها ينحصر قطع الورق فيها في خمسة مقادير لا يتعداها
أحدها قطع البغدادي الكامل وهو مختص بالبيعات والعهود مطلقا على أي الافتتاحات كان
الثاني قطع الثلثين من المنصوري وهو لأجل الولايات السلطانيات لأرباب السيوف وبعض أرباب الأقلام ولا يفتتح فيها إلا بالحمد
الثالث قطع النصف منه وهو لما دون ذلك ولا يفتتح فيه إلا بالحمد أيضا

الرابع قطع الثلث منه وهو لما دون ذلك
واعلم أنه إذا ولي صاحب وظيفة تستحق قطع النصف وظيفة أخرى تستحق قطع العادة فإنه يراعى مقدار صاحبها ويزاد على مقدار العادة إلا أنه لا يبلغ مبلغ رتبة وظيفته العليا بل ينبغي أن يتوسط بينهما فيكتب له في قطع الثلث لتكون رتبة بين رتبتين فتحصل مراعاة تعظيمه من حيث الزيادة على قطع العادة ومراعاة قدر الوظيفة من حيث إنها لم تبلغ شأو وظيفته العليا أما إذا ولي منحط القدر وظيفة تستحق القطع الكبير فإنه يكتب له فيه وتكون توليته لها رفعا إلى درجتها
الخامس قطع العادة وهو أصغرها والأصل أن يفتتح فيه بلفظ رسم بالأمر الشريف وربما علت رتبة صاحب الولاية ولم يؤهل للكتابة في قطع الثلث فيكتب له فيه أما بعد حمد الله وهو قليل الاستعمال فإن استعمل أما بعد فإن كذا أو إن أولى أو إن أحق ونحو ذلك كتب في قطع العادة أيضا

الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات وفيه فصلان
الفصل الأول في معناها
البيعات جمع بيعة وهي مصدر بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة ومعناها المعاقدة والمعاهدة وهي شبيهة مشبهة بالبيع الحقيقي قال أبو السعادات ابن الأثير في نهايته في غريب الحديث كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره ويقال بايعه وأعطاه صفقة

يده والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه
وقد عظم الله تعالى شأن البيعة وحذر من نكثها بقوله خطابا للنبي ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) وأمر بمبايعة المؤمنات في قوله تعالى ( يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) وبايع النبي الصحابة رضوان الله عليهم بيعتين

الفصل الثاني في ذكر تنويع البيعات وهي نوعان
النوع الأول بيعات الخلفاء وفيها سبعة مقاصد
المقصد الأول في أصل مشروعيتها
فالأصل في ذلك بعد الإجماع ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما توفي رسول الله اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال الحباب بن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير

فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر بل نبايعك فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله فأخذ عمر بيده فبايعه وبايع الناس
وهذه أول بيعة بالخلافة كانت في الإسلام ولكن لم ينقل أنه رضي الله عنه كتب له مبايعة بذلك ولعل ذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا بايعوا لا يجحدون البيعة بعد صدورها بخلاف ما بعد ذلك

المقصد الثاني في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرعية
وهي خكسة أسباب
السبب الأول موت الخليفة المنتصب من غير عهد بالخلافة لأحد بعده كما في قصة الصديق المتقدمة بعد وفاة النبي أو بتركها شورى في جماعة معينة كما فعل عمر رضي الله عنه عند وفاته حيث تركها شورى في ستة علي بن ابي طالب والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم
السبب الثاني خلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع فتحتاج الأمة إلى مبايعة إمام يقوم بأمورها ويتحمل بأعبائها
السبب الثالث أن يتوهم الخليفة خروج ناحية من النواحي عن الطاعة فيوجه إليهم من يأخذ البيعة له عليهم لينقادوا لأمره ويدخلوا تحت طاعته
السبب الرابع أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد كما كانت الخلفاء الفاطميون تفعل في خلافتهم بمصر وكانوا يسمون البيعة سجلا

كما كانوا يسمون غيرها بذلك
السبب الخامس أن يأخذ الخليفة المنتصب البيعة على الناس لولى عهده بالخلافة بأن يكون خليفة بعده إمضاء لعهده كما فعل معاوية رضي عنه في أخذه البيعة لولده يزيد

المقصد الثالث في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة البيعة أمورا
منها أن يأتي في براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم الخليفة أو لقبه كفلان الدين أو لقب الخلافة كالمتوكل أو المستكفي أو مقتضى الحال الموجب للبيعة من موت أو خلع ونحوهما او غير ذلك مما يجري هذا المجرى
ومنها أن ينبه على شرف رتبة الخلافة وعلو قدرها ورفعة شأنها وأنها الغاية التي لا فوقها والدرجة التي لا بعدها وأن كل رتبة دون رتبتها وكل منصب فرع عن منصبها ومنها أن ينبه على مسيس الحاجة إلى الإمام ودعاية الضرورة إليه وأنه لا يستقيم أمر الوجود وحال الرعية إلا به ضرورة وجوب نصب الإمام بالإجماع وإن شذ عنه الأصم فخالف ذلك
ومنها أن يشير إلى أن صاحب البيعة استوعب شروط الإمامة واجتمعت فيه ويصفه منها بما يعز وجوده ويمتدح بحصوله كالعلم

والشجاعة والرأي والكفاية بخلاف ما لا يعز وجوده ولا يمتدح به وإن كان من الشروط كالحرية والذكورة والسمع والبصر ونحو ذلك فإن الوصف بذلك لا وجه له
ومنها أن ينبه على أفضلية صاحب البيعة وتقدمه في الفضل واستيفاء الشروط على غيره ليخرج من الخلاف في جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل
ومنها أن ينبه على أن المختارين لصاحب البيعة ممن يعتبر اختياره من أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم على الوجه المعتبر
ومنها أن ينبه على تعيين المختارين للبيعة إن كان الإمام الأول نص عليهم إذ لا يصح الاختيار من غير من نص عليه كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه
ومنها أن ينبه على جريان عقد البيعة من المختارين ضرورة أنه إن انفرد شخص بشروط الإمامة في وقته لم يصر إماما بمجرد ذلك
ومنها أن ينبه على سبب خلع الخليفة الأول إن كانت البيعة مترتبة على خلع إذ لا يصح خلع الإمام القائم بلا سبب
ومنها أن ينبه على قبول صاحب البيعة العقد وإجابته إليه إذ لا بد من قبوله
ومنها أن ينبه على أن القبول وقع منه بالاختيار لأنه لا يصح الإجبار على قبولها اللهم إلا أن كان بحيث لا يصلح للإمامة غيره فإنه يجبر عليها بلا خلاف
ومنها أن ينبه على وقوع الشهادة على البيعة خروجا من الخلاف في أنه هل يشترط الإشهاد على البيعة أم لا

ومنها أن ينبه على أنها لم تقترن ببيعة في الحال ولا مسبوقة باخرى إذ لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد إقليماهما خلافا للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني حيث جوز نصب إمامين في إقليمين
ومنها أن ينبه على أنه بمجرد البيعة تجب الطاعة والانقياد إليه ويجب على كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه وطاعته فيما وافق حكم الشرع وإن كان جائزا
ومنها أن يعزي في الخليفة الميت ويهنيء بالمستقر إن كانت البيعة مبنية على موت خليفة وأن يبين سبب خلع الخليفة الأول إن كانت مرتبة على خلع
أما التعزية والتهنئة بموت الأول فعليه جرى عامة الكتاب إلا أنه يختص في عرفهم بما إذا كان الخليفة الأول شديد القرب من الثاني كأبيه وأخيه وابن عمه
وكان الأولون يتعانون ذلك في خطاب الخلفاء بالتهنئة بالخلافة بعد أقاربهم وقد روي أن عطاء بن أبي صيفي دخل على يزيد بن معاوية فهنأه بالخلافة وعزاه في أبيه فقال
رزئت بأمير المؤمنين خليفة الله وأعطيت خلافة الله قضى معاوية

نحبه فغفر الله ذنبه ووليت الرياسة وكنت أحق بالسياسة فاحتسب عند الله جليل الرزية واشكره على جزيل العطية وعظم الله في معاوية أجرك وأحسن على الخلافة عونك
وتعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح فقالت
يا امير المؤمنين احتسب الصبر وقدم الشكر فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين وأعظم عليك المنة في الحادثين سلبك خليفة الله وأفادك خلافة الله فسلم فيما سلبك واشكر فيما منحك وتجاوز الله عن أمير المؤمنين وخار لك فيما ملكك من امر الدنيا والدين
وأما التعريف بسبب الخلع فلأنه لا يصح خلع الإمام بغير موجب للخلع
ومنها أن يشير إلى ذكر السلطان القائم بالبيعة إن كان القائم بها سلطانا على ما استقرت عليه قاعدة الكتاب في ذلك
ومنها أن ينبه على أن من استخلف في البيعة من وجوه الدولة وأعيان المملكة إن جرى حلف ويذكر صفة حلفهم وما التزموه من الأيمان المؤكدة والمواثيق المغلظة

المقصد الرابع في بيان مواضع الخلافة التي يستدعي الحال كتابة المبايعات
فيها
وهي أربعة أمور
أحدها موت الخليفة المتقدم عن غير عهد لخليفة بعده وهو موضوعها

الأصلي الذي عليه بنيت
الثاني أن يعهد الخليفة إلى خليفة بعده ثم يموت العاهد ويستقر المعهود إليه بالخلافة بالعهد بعده فتؤخذ له البيعة العامة على الرعية إظهارا لوقوع الإجماع على خلافته والاتفاق على إمامته
الثالث أن تؤخذ البيعة للخليفة بحضرة ولايته ثم تنفذ الكتب إلى الأعمال لأخذ البيعة على أهلها فيأخذ كل صاحب عمل له البيعة على أهل عمله
الرابع أن يعرض للخليفة خلل في حال خلافته من ظهور مخالف أو خروج خارجي فيحتاج إلى تجديد البيعة له حيث وقع الخلاف
ولكل من هذه الأحوال ضرب من الكتابة يحتاج فيه إلى بيان السبب الموجب لأخذ تلك البيعة

المقصد الخامس في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء وفيها أربعة مذاهب
المذهب الأول أن تفتتح المبايعة بلفظ تبايع فلانا أمير المؤمنين خطابا
لمن تؤخذ عليه البيعة
ويذكر ما يقع عليه عقد المبايعة ويأتي بما سنح من أمر البيعة ثم يذكر الحلف عليها وعلى ذلك جرى مصطلح كتاب خلفاء بني أمية ثم خلفاء بني العباس بعدهم ببغداد
واعلم أنه قد تقدم في المقصد الأول من هذا الفصل أنه لم ينقل أنه كتب للصديق رضي الله عنه ولا لمن ولي الخلافة بعده من الصحابة من غير عهد بيعة
ولما كانت خلافة بني أمية وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان وأقام الحجاج ابن يوسف على إمارة العراق وأخذ في أخذ البيعة لعبد الملك بالعراق رتب أيمانا

مغلظة تشتمل على الحلف بالله تعالى والطلاق والعناق والأيمان المحرجات يحلف بها على البيعة واشتهرت بين الفقهاء بأيمان البيعة واطرد امرها في الدولة العباسية بعد ذلك وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب
وهذه نسخة مبايعة ذكرها أبو الحسين بن إسحاق الصابي في كتابه غرر البلاغة وهي
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع واختيار وتبرع وإيثار وإعلان وإسرار وإظهار وإضمار وصحة من نغل وسلامة من غير دغل وثبات من غير تبديل ووقار من غير تأويل واعتراف بما فيها من اجتماع الشمل واتصال الحبل وانتظام الأمور وصلاح الجمهور وحقن الدماء وسكون الدهماء وسعادة الخاصة والعامة وحسن العائدة على أهل الملة والذمة على أن عبد الله فلانا أمير المؤمنين عبد الله الذي اصطفاه وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحق وموجبة على الخلق وموردة لهم موارد الأمن وعاقدة لهم معاقد اليمن وولايته مؤذنة لهم بجميل الصنع ومؤدية بهم إلى جزيل النفع وإمامته الإمامة التي اقترن بها الخير والبركة والمصلحة العامة المشتركة وأمل فيها قمع الملحد الجاحد ورد الجائر الحائد ووقم العاصي الخالع وعطف الغازي المنازع وعلى أنك ولي أوليائه وعدو أعدائه من كل داخل في الجملة وخارج عن الملة وحائد عن الدعوة ومتمسك بما يدليه عن إخلاص من رأيك وحقيقة من وفائك لا تنقض ولا تنكث ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع ولا تداجي ولا تخاتل علانيتك مثل نيتك

وقولك مثل طويتك وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على مر الأيام وتطاولها وتغير الأحوال وتنقلها واختلاف الأزمان وتقلبها على أنك في كل ذلك من أهل الملىة الإسلامية ودعاتها واعوان الدولة العباسية ورعاتها لا يداخل قولك مواربة ولا مداهنة ولا تعترضه مغالطة ولا تتعقبه مخالفة ولا تخيس به امانة ولا تغله خيانة حتى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك وفيا بعهدك إذ كان مبايعو ولاة الأمور وخلفاء الله تعالى في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك وأصفيت فيها سريرة قلبك والتزمت القيام بها ما طال عمرك وامتد أجلك عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما أخذه على أنبيائه ورسله وملائكته وحملة عرشه من أيمان مغلظة وعهود مؤكدة ومواثيق مشددة على أنك تسمع وتصغي وتطيع ولا تعصي وتعتدل ولا تميل وتستقيم ولا تحيد وتفي ولا تغدر وتثبت ولا تتغير فمتى زلت عن هذه المحجة حاقرا لأمانتك ورافعا لديانتك فجحدت الله تعالى ربوبيته وأنكرته وحدانيته وقطعت عصمة محمد وجذذتها ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها ولقيت الله يوم الحشر إليه والعرض عليه مخالفا لأمره وخائنا لعهده ومقيما على الإنكار له ومصرا على الإشراك به وكل ما حلله الله لك محرم عليك وكل ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك وارتجاعك ما أعطيته في قولك من مال موجود ومذخور ومصوغ ومضروب وسارح ومربوط وسائم ومعقول وأرض وضيعة وعقار وعقده ومملوك وامة صدقة على المساكين محرمة على مر السنين وكل امرأة لك تملك شعرها وبشرها وأخرى تتزوجها بعدها طالق ثلاثا بتاتا طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيه ولا مثنوية وعليك الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة

حاسرا حافيا راجلا ماشيا نذرا لازما ووعدا صادقا لا يبرئك منها إلا القضاء لها والوفاء بها ولا قبل الله منك توبة ولا رجعة وخذلك يوم الاستنصار بحوله وأسلمك عند الاعتصام بحبله وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا وسردتها سردا صحيحا وأخلصت فيها سرك إخلاصا مبينا وصدقت فيها عزمك صدقا يقينا والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيتك والطوية فيها طويته دون طويتك وأشهدت الله على نفسك بذلك وكفى بالله شهيدا يوم تجد كل نفس عليها حافظا ورقيبا
وهذه نسخة بيعة أخرى من هذا الأسلوب أوردها ابن حمدون في تذكرته وربما وافق فيها بعض ألفاظ البيعة السابقة وهي
تبايع الإمام أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع وإيثار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك وانشراح صدرك وصحة عزيمتك طائعا غير مكره ومنقادا غير مجبر مقرا بفضلها مذعنا بحقها معترفا ببركتها ومعتدا بحسن عائدتها وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافة واجتماع الكلمة من الخاصة والعامة ولم الشعث وامن العواقب وسكون الدهماء وعز الأولياء وقمع الأعداء على أن فلانا عبد الله وخليفته المفترض طاعته والواجب على الأمة إقامته وولايته اللازم لهم

القيام بحقه والوفاء بعهده لا تشك فيه ولا ترتاب به ولا تداهن في أمره ولا تميل
وأنك ولي وليه وعدو عدوه من خاص وعام وقريب وبعيد وحاضر وغائب متمسك في بيعته بوفاء العهد وذمة العقد سريرتك مثل علانيتك وظاهرك فيه وفق باطنك على أن أعطيت الله هذه البيعة من نفسك وتوكيدك إياها في عنقك لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك واستقامة من عزمك واستمرار من هواك ورأيك على أن لا تتأول عليه فيها ولا تسعى في نقض شيء منها ولا تقعد عن نصره في الرخاء والشدة ولا تدع النصر له في كل حال راهنة وحادثة حتى تلقى الله مؤذنا بها مؤديا للأمانة فيها إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض ( إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
عليك بهذه البيعة التي طوقتها عنقك وبسطت لها يدك وأعطيت فيها صفقتك وما شرط عليك فيها من وفاء وموالاة ونصح ومشايعة وطاعة وموافقة واجتهاد ومتابعة عهد الله إن عهد الله كان مسؤولا وما اخذ الله تعالى على أنبيائه ورسله عليهم السلام وعلى من اخذ من عباده وكيدات مواثيقه ومحكمات عهوده وعلى أن تتمسك بها ولا تبدل وتستقيم ولا تميل وإن نكثت هذه البيعة أو بدلت شرطا من شروطها او عفيت رسما من رسومها أو غيرت حكما من احكامها معلنا أو مسرا او محتالا أو متأولا او زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يحقر الأمانة ولا يستحل الغدر والخيانة ولا يستجيز حل العقود فكل ما تملكه من عين او ورق أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع او صرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتدة والأموال المدخرة

صدقة على المساكين محرم عليك أن ترجع من ذلك إلى شيء من مالك بحيلة من الحيل على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب أو مخرج من مخارج الأيمان وكل ما تعتده في بقية عمرك من مال يقل خطره او يجل فتلك سبيله إلى أن تتوفاك منيتك أو يأتيك أجلك وكل امرأة لك اليوم وأخرى تتزوجها بعدها مدة بقائك طالق ثلاثا بتاتا طلاق الحرج والسنة لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافيا حاسرا راجلا لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا وخذلك يوم تحتاج إليه وبرأك من حوله وقوته وألجأك إلى حولك وقوتك والله عز و جل بذلك شهيد وكفى به شهيدا
وهذه نسخة اخرى من هذا الأسلوب اوردها أبو الحسين الصابي في غرر البلاغة وهي
تبايع أمير المؤمنين بقوة من بصيرتك وصحة من سريرتك وصفاء من عقيدتك وصدق من عزيمتك على الرضا به والوفاء له والإخلاص في طاعته والاجتهاد في مناصحته وعقد النية على موالاته وبذل القدرة في ممالاته وأن تكون لأنصاره عونا ولأوليائه حزبا ولأعدائه حربا عارفين بما في ذلك من الحظ ومعترفين بما يلزم فيه من الحق ومحافظين على ما حرس الملة الإسلامية والدولة العباسية ثبت الله قواعدها واحكم معاقدها وزادها استمرارا على مر الدهور واستقرارا على كر العصور وعزا على تنقل الأمور واشتدادا على تغلب المقدور فإن خالفت ذلك مسرا أو معلنا وحلت عنه مظهرا او مبطنا وحللت عقوده ناكثا أو ناقضا وتأولت فيه محاولا للخروج منه

واستثنيت عليه طالبا للرجوع عنه فبرأني الله من حوله وقوته وسلبني ما وهب من فضله ونعمته ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته وخلاني من يديه يوم الفزع الأكبر لديه وحنث كل يمين حلفها المسلمون على قديم الأيام وحديثها والتناهي في تأكيدها وتشديدها وأعروها من لباس الشبهة وأخلوها من دواعي المخاتلة وهذه اليمين يميني أوردتها على صدق من نيتي وصحة من عزيمتي واتفاق من سري وعلانيتي وسردتها سردا متتابعا من غير فصل وتلفظت بها تلفظا من غير قطع والنية فيها نية فلان على حضور منه وغيب وبعد وقرب وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها وكفى بالله شهيدا على من أشهده وحسيبا على من اجترأ على إخفار عهده ونقض عقده
قلت فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين أتي في المبايعة بصيغة التثنية او ثلاثة فأكثر أتي بصيغة الجمع
ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدمة ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم كما يفعل الآن في تحليف من يحلف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك

المذهب الثاني مما يكتب في بيعات الخلفاء
أن تفتتح المبايعة بلفظ من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني إلى اهل دولته ونحو ذلك بالسلام عليهم ويؤتى بما سنح من الكلام ثم يقال أما بعد فالحمد لله ويؤتى على وصفه بشريف المناقب واستحقاقه للخلافة واستجماعه لشروطها وما يجري هذا المجرى ثم

ينخرط في سلك البيعة ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطان أو وزير عظيم أو نحو ذلك ويذكر من امر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السلك
وهذه نسخة بيعة من هذا الأسلوب لولي عهد بعد موت العاهد كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين ليس فيها تعرض لذكر الوزير القائم بها وهي
من عبد الله ووليه أبي فلان فلان بن فلان الإمام الفلاني بأمر الله تعالى أمير المؤمنين إلى من يضمه نطاق الدولة العلوية من أمرائها وأعيانها وكبرائها وأوليائها على اتساع شعوبهم وعساكرها على اختلاف ضروبهم وقبائل عربها القيسية واليمنية وكافة من تشمله أقطارها من اجناس الرعية الأمير منهم والمأمور والمشهور منهم والمغمور والأسود والأحمر والأصغر والأكبر وفقهم الله وبارك فيهم
سلام عليكم فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فالحمد لله مولي المن الجسيم ومبدي الطول العميم ومانح جزيل الأجر بالصبر العظيم مفيد النعم المتشعبة الفنون ومدني المهج المتعالية لتناول المنون ومبيد الأعمار ومفنيها وناشر الأموات ومحييها والفاتح إذا استغلقت الأبواب والقائل ( لكل أجل كتاب ) الذي لا يغير ملكه مرور الغير ولا يصرف سلطانه تصرف القدر ولا يدرك قدمه وأزليته ولا ينفد بقاؤه وسرمديته مسلم الأنام للحمام ومصمي الأنفس بسهام

الاخترام ومورد البشر من المنية منهلا ما برحوا في رنقه يكرعون ولمره المشرق يتجرعون ومعزز ذلك بقوله ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )
والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاما وحفظ ببعثهم من الحق والهدى نظاما وجعل نبوة جدنا محمد لنبواتهم ختاما وعضد بوصية أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كمالا للدين وإتماما واستخلص من ذريتهما أئمة هادين إتقانا لصنعته وإحكاما وأقام الحجة على الأمم بأن أقام لكل زمان منهم إماما وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نور انبسط نور وتابع ظهور بدوره ليشرق طالع إثر غارب يغور رحمة شاملة للعالمين وحكمة تامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ولم يخل نبيا مع ما شرفه به من تناول وحيه وتلقيه ولا عصم إماما مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقيه من لقاء المنية ووداع الأمنية بل أجل لكل منهم أجلا مكتوبا وفسح له أمدا محصورا محسوبا لا يصرفه عن وصوله فضيلة ولا يصل إلى تجاوزه بقوة ولا حيلة قدرة محكمة الأسباب وعبرة واضحة لأولي الألباب وقضية أوضحها فرقانة الذي أقر بإعجازه الجاحدون إذ يقول مخاطبا لنبيه ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون )
والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها ما خوله فاخر تراثها وأصار له شرف ميراثها وجعله القائم بحقه والمرشد لخلقه والماحي بهداه ليلا من الضلال بهيما والحاوي بخلافته مجدا لا يزال ثناؤه عظيما ( ذلك الفضل من الله

وكفى بالله عليما )
يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمة الخلائق وخوله ما اختصهم به من الإمامة ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة ويستمده شكرا يوازي النعم التي أثبتت له على سرير الخلافة وسرها قدما وصبرا يوازن الفجيعة التي قل لها فيض المدامع دما
ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي فض بجهاده جموع الإلحاد وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد وصدع بما أمر به حتى عم التوحيد ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد ولم يزل مبالغا في مرضاة ربه حريصا على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه حتى استأثر به وقبضه ويدله من الدنيا شرف جواره وعوضه وأصاره إليه أفضل نبي بصر وبشر وأحيا دين الله وأنشر وعلى أبيه امير المؤمنين علي بن أبي طالب إمام الأمة وأبي الأئمة وقدوة السعداء وسيد الشهداء وعاضد الدين بذي الفقار ومن لم يزل الحق إلى ذبه شديد الافتقار صلى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذريتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السنة وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة
وإن الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين كان وليا لله شرفه الله واستخلصه وأفرده بإمامة عصره وخصصه وفوض إليه امر خلافته وأحله محلا تقع مطارح الهمم دون علوه وإنافته فقام بحق الله ونهض وعمل بأمره فيما سن وفرض وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه وصرف الأمور بأزمة التدبير وخزائمه وبالغ في الذب عن أشياع الملة واجتهد في جهاد أعداء القبلة ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله ووفر على ما يحظي عند الله قوله

وعمله ولم يترك في مرضاة خالقه مشقة إلا احتملها ولا روية إلا صرفها في إرشاد خلقه وأعملها حتى بلغ الغاية المحدودة واستكمل الأنفاس المعدودة وأحسن الله له الاختيار وآثر له النقلة من هذه الدار والزلفى بسكنى دار القرار والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمة الأطهار فسار إليه طاهر السريرة جميل المذهب والصورة مستوجبا بسعيه أفضل رضوانه ممهدا بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه
وأمير المؤمنين يحتسب عند الله هذه الرزية التي عظم بها المصاب وعظم عند تجرعها الصاب وأضرمت القلوب نارا وأجرت الآماق دما ممارا وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق وكحلت الأجفان بالأرق وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها وقواعد الملة تضعف وتهي والخطوب الكارثة تصر ولا تنتهي فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما لأمره الذي لا يدفع وإذعانا لقضائه الذي لا يصد ولا يمنع
وكان الإمام الفلاني لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة ونص علي بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة وأفضى إلي بسرها المكنون وأودعني غامض علمها المصون وعهد إلي أن أشملكم بالعدل والإحسان والعطف والحنان والرحمة والغفران والمن الرائق الذي لا يكدره امتنان وأن أكون لأعلام الهدى ناشرا وبما أرضى الله مجاهرا ولأحزاب القبلة مظافرا مظاهرا ولأعداء الملة مرغما قاهرا ولمنار التوحيد رافعا وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعا مع علمه بما خصصت به من كرم الشيم

وفطرت عليه من الخلال القاضية مصالح الأمم وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها
فتعزوا جميع الأولياء وكافة الأمراء وجميع الأجناد والحاضر من الرعايا والباد عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه وادخلوا في بيعته بصدور مشروحة نقية وقلوب على محض الطاعة مطوية ونيات في الولاء والمشايعة مرضية وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضية وامير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظة بالإقبال دائمة الكمال صافية من الأكدار معضودة بمواتاة الأقدار ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدين والدنيا قواما وأقامه للبرية سيدا وإماما فاعلموا هذا واعملوا به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا
وهذه نسخة بيعة كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي بعد وفاة ابن عمه الآمر بأحكام الله قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي اقتصر

فيها على تحميدة واحدة وعزى بالخليفة الميت ثم انتقل إلى مقصود البيعة وهي
من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى كافة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم وأميرهم ومأمورهم وكبيرهم وصغيرهم وأحمرهم وأسودهم وفقهم الله وبارك فيهم
سلام عليكم فإن امير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فالحمد لله اللطيف بعباده وبريته الرؤوف في أقداره وأقضيته المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته ذي النعم الفائضة الغامرة والمنن المتتابعة المتظاهرة والآلاء المتوالية المتناصرة القائل في محكم كتابه ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) مدبر أرضه بخلفائه الذين هم زينة للدنيا وبهجة وهادي خلقه بأوليائه لئلا يكون للناس على الله حجة فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير و ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير )
يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفة دون أهل زمانه وأوجب ثواب

المستجيبين له بكفالته وضمانه وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه وأوزعه الشكر على ما استرعاه إياه من امر هذه الأمة ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمة وكشفه بإمامته من أفجع نائبه وأفظع ملمة
وصلى الله على جدنا محمد رسوله الذي أخبر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته وتداولوا البشرى بما يستقبل من زمانه وبعثه وذكروه فيما أتوا به من كل كتاب اوحاه الله وأنزله واعترفوا بأنه أفضل من كل من نبأه الله وأرسله فيسر الله سبحانه ما كان مرتقبا من ظهوره وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره وبعثه جلت قدرته إلى الأمة بأسرها قاطبة وجعل ألسنة الأغماد مجادلة لمن خالف شرعه مخاطبة فكان لآية الكفر ماحيا وفي مصالح البرية ساعيا وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا إلى أن لمعت آيات الحق وسطعت وانحسمت مادة الباطل وانقطعت وظهر من آياته ما كبر له المخبتون واشتهرمن معجزاته ما خصم به المتعنتون وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله ( إنك ميت وإنهم ميتون ) فحينئذ نقله الله إلى ما أعد له من جناته وخصه بشرف الشفاعة في يوم مجازاته وصدقه وعده فيما بوأه من النعيم المقيم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أولى الناس بالنبي وأول من اتبعه من ذوي قرابة وأجنبي وابن عمه الذي اختصه بمؤاخاته وجعله خليفة على كافة الناس بعد وفاته وتحمل بأمر الله فيما ولاه وأولاه وخطب الناس في حجة الوداع فقال من كنت مولاه فعلي مولاه وعلى آلهما الكرام الأبرار وعترتهما المصطفين الأخيار وهداة المسلمين وقدوتهم وأمراء المؤمنين وأئمتهم الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا وسلك الحاضرون منهم

سنن أسلافهم الذين فرطوا واقتفوا آثارهم في السياسة فما قصروا ولا فرطوا ولم يزل كل منهم عاملا من ذلك بما حسن أيامه فاعلا في أمر الدين ما رفع مناره ونشر أعلامه حتى اختار الله له ما عنده فنص على من أقامه الاستحقاق مقامه وسلم عليهم أجمعين سلاما لا انقضاء لأمده ولا انقطاع لمدده فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيء بيده
وإن الحق إن خفي حينا فلا بد لهلاله من الإبدار وانبساط النور وإن الشمس إن توارت بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظهور وإن حسن الصبر إلى أن يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور قال الله عز و جل في كتابه الذي هدانا به ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )
وإن الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عز و جل وشاه لا يخلي الأرض من نور يستضيء به الساري في الليل البهيم ولا يدع الأمة بلا إمام يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم فهو جل وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلا أو يترك الخلق هملا وقد قال ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ) بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم ويهديهم بالأئمة إلى التوفر على عمل ما ألزمهم وكلفهم فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النظام والأرض إذا أظلمت لفقد إمام أضاءت وأشرقت لقيام إمام وقد علم الكافة أن حجة الله في أرضه والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه والمحسن إلى البرية بيعثه على المصالح وحضه الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبيا ورفعه من إرث النبوة مكانا عليا واستخلفه على خلقه فكان

للفضل باسطا ولراية العدل ناشرا وجعله لشمل المحاسن جامعا ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشرا لم يزل ناظرا في البعيد والقريب عاملا في سياسة الأمة عمل المجتهد المصيب مستقصيا حرصه في المحافظة على إعزاز الملة مستنفدا جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة باذلا من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحد من خاصته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلة حتى استوفى مدته الموهوبة واستوعب غايته المكتوبة وناله من القضاء ما اخرجه من الدنيا سعيدا وأقدمه على الله شهيدا وأصاره إلى ما أعد له من نعيم لا يريد به بديلا ولا يطلب عليه مزيدا وكان انتقاله إلى جوار ربه تبارك وتعالى كانتقال أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بغيا من الكافرين واغتيالا وقد كان يذكر ما يعلمه من حق أمير المؤمنين تارة مجاهرا وتارة مخافتا إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابرا متهافتا وأفصح بما كان مستبهما مستعجما وصرح بما لم يزل في كشفه ممرضا وعن إفصاحه محجما وذلك لما ألفاه أشرف فرع من سنخ النبوة ورآه أكرم في فخارة الأبوة وعلمه أبيه الأمير أبي القاسم عمه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظ وأوفر كفل كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سماه ولي عهد المسلمين وتضمن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين وثبت في طرز الأبنية وكتب الابتياعات والأشرية وعلمته الكافة علما يقينا ظلت فيه غير مرتابة ولا ممترية وفي ضمن ذلك باطن لا يعقله إلا العالمون ولا ينكره إلا من قال فيهم ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ) وذلك أن أمير المؤمنين الغرض والمقصد والبغية والمطلب وله عهد بالتلويح

والإشارة وإليه أوحى بالنص وإن لم يفصح فيه بالعبارة وكان والده الأمير أبو القاسم قدس الله روحه بمنزلة الأشجار التي يتأنى بها إلى أن يظهر زهرها والأكمام التي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها والزرجونة التي نقلت الماء إلى العنقود والسحابة التي حملت الغيث فعم نفعه أهل السهول والنجود ومما يبين ذلك ويوضحه ويحققه ويصححه وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة وتشهد البصائر أن النعمة به على الإسلام متتابعة متجددة أن الأمرين إذا تشابها من كل الجهات وكانت بينهما مدد متطاولات متباعدات فالسابق منهما يمهد للتالي والأول أبدا رمز على الثاني ولا خلاف بين كافة المسلمين في أن الله تعالى أمر جدنا محمدا بعقد ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم وأمير المؤمنين علي ابن عمه وكان له حينئذ عم حاضر وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذ غض وعوده ناضر وكذلك أن أمير المؤمنين هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين وقد نص مع حضور عمومته عليه وفعل ما فعل نده رسول الله اقتداء به وانتهاء إليه وكان أبو علي المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه جعل ابنه عبد الرحيم إلياس ولي عهد المسلمين وميزه بذلك على كافة الناس أجمعين ونقش اسمه في السكة وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكة وألبسه شدة الوقار المرصعة بالجوهر واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقي المنبر وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفى من خواص اوليائه وفي الشفاعة لهم بمتقبل مناجاته ومسموع دعائه مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة ولا يبلغ درجة الإمامة وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله صلى الله عليه هو الذي خلق لها وحين حمل أعباءها أقلها وما استثقلها وإنما تحت ذلك معنى لطيف غامض وسر عن جمهور الناس مستتر وبرقه لأولي البصائر وامض وهو أن مكنون الحكمة ومكتوم علم الأمة يدلان على أن الإمام المنصور أبا علي سيفعل فيمن

يستخلفه بعده مثل فعل النبي وقد علم الإمام الحاكم عليه السلام أن المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله لأن ولده حاضر والمقصود من لا ولد له فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيسا لما سيكون ونقلا للنفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطمأنينة والسكون فلما أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة التي جعلها واجبا له حقا ووافق جده عليه السلام وكان لقبه من لقبه مشتقا ظهر المنكتم ووضح المستتر وعاد التعريض تصريحا والتمريض تصحيحا والرمز إبانة والنص على أمير المؤمنين أمانة فاقتدى بجده رسول الله في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيته وكشف عما أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدس الله لطيفته فتساوى الخاص والعام في معرفته ثم حله أمير المؤمنين محل نفسه في الجلوس على الأسمطة وعمل لأوليائه ورعيته في ذلك بالقضايا المحيطة ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله وإذ قد تبين هذا الأمر الواضح الجلي وتساوى في علمه الشانيء والولي وعلم هو ما خص الله به أمير المؤمنين من الإمامة وازاله عن العقول من ضباب متكاثف وغمامة وشمله به من فضله ورافته ونصبه فيه من منصب خلافته التي أيدها بوليه ووزيره وعضدها بصفيه وظهيره السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظي الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل وصرف به عن مملكته محذور الصروف والغوائل وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصا جمع فيه أسباب

المناقب والفضائل وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل ودلت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه وحكمت سنته العادلة أن كل مدح لا يبلغ ثناؤه وكل وصف لا يقع إلا دونه والله يضاعف نعمه عنده ولديه ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه وهذا يحقق أن الإسلام قد أحدث له قوة وتمكينا وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيمانا واستبصارا ويقينا فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحة صدوركم طيبة نفوسكم مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه متقربين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتبعون في فعلهم ويقع الإجماع بمثلهم ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيما وعن الصغائر متجاوزا كريما وبالكافة رؤوفا رفيقا وعلى الرعايا عطوفا شفيقا وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السيرة ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرفكم بركة إمامته ويمن خلافته وأن يجعلها ضامنة بلوغ المطالب كافلة لكافتكم بسعادة المباديء والعواقب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المذهب الثالث أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله ثم يؤتى بالبعدية ويتخلص إلى المقصود وقد يذكر السلطان القائم بها وقد لا يذكر وعلى ذلك كانت تكتب بيعات خلفاء بني أمية بالأندلس ومن ادعى الخلافة ببلاد المغرب
وهذه نسخة بيعة كتب بها طاهر الأندلسي في أخذ البيعة على أهل

دانية من الأندلس للرشيد بن المأمون الأموي وهو منتصب في الخلافة لخلف توهمه من الرعية اقتصر فيها على تحميدة واحدة وليس فيها تعرض لسلطان قائم بعقدها وهي
الحمد لله الذي أسبغ إنعامه باطنا وظاهرا وسوغ إفضاله هاملا وهامرا وأعجز عن وصف إحسانه ناظما وناثرا وقهر الخلق ناهيا وآمرا وتعالى جده فلا ترى له مضاهيا ولا مظاهرا ولا موازيا ولا موازرا ونصر الحق وكفى به وليا وكفى به ناصرا وجعل جد المطيع صاعدا وجد العصي عاثرا وحذر من الخلاف باديا وحاضرا وماضيا وغابرا
نحمده سبحانه على نعمه حمد من أصبح لعلق الحمد ذاخرا ونشكره على مننه ولن يعدم المزيد منه شاكرا ونضرع إليه أن يجعل حظنا من بركة الاعتصام وافرا ووجه نيتنا في الانتظام سافرا وأن يمنح اولياءه النصر ظاهرا والفتح باهرا وأعداءه الرعب شاجيا والرمح شاجرا ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر له بالوحدانية صاغرا وأضحى لأوامره ممتثلا ولنواهيه محاذرا ونسأله أن يجعل حزب الإيمان ظافرا ويمده بنصره طالبا للثار ثائرا وصلى الله على سيدنا محمد رسوله الذي انتخبه من صفوة الصفوة كابرا فكابرا وجعله بالفضيلة اولا وبالرسالة آخرا فأيقظ بالدعاية ساهيا وناسيا وسكن بعد الإبانة منافيا ومنافرا وأذهب بنوره ليلا من الجهالة ساترا وقام بجهاد الكفرة ليثا خادرا وباشر بنفسه المكاره دارعا وحاسرا وشهد بدرا مبادرا وحنينا منذرا بالخبر ناذرا وظهر عليهم في كل المشاهد غالبا وما ظهروا نادرا وعلى آله وأصحابه الذين منهم صاحبه وخليفته المعلومة رأفته أبو بكر الذي اقتحم لهول الردة مصابرا وسل في قتال الروم أهل الجلد والشدة سيفا باترا ومنهم

القوي في ذات الله عمر الذي أصبح به ربع الإسلام عامرا ولم يخش في الله عاذلا ولم يرج غادرا ومنهم الأصدق حياء عثمان ملاقي البلوى صابرا والخفر الذي لم ير للأذمة خافرا ومنهم أقضاهم علي الذي قاتل باغيا وكافرا وبات لخوف الله ساهرا وB الإمام المهدي الذي أطلعه نورا باهرا وبحرا للعلم زاخرا وأتى به والضلال يجر رسنه سادرا والباطل يثبت وينفي واردا وصادرا فجدد رسم الحق وكان داثرا وقام بآرائه علما هاديا وقرما هادرا وعن الخلفاء الراشدين المرشدين من أصبح حائدا عن الحق جائرا المجاهدين خاتلا بالعهد خاترا
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الإمامة للناس عصمة ومنجاة من ريب الالتباس ونعمة بها تتمهد عمارة الأرض ويتجد صلاح الكل والبعض ولولاها ظهر الخلل واختلط المرعي والهمل وارتكبت المآثم واستبيحت المحارم واستحلت المظالم وانتقم من المظلوم الظالم وفسد الائتلاف وافترق النظام وتساوى الحلال والحرام فاختار لأمرهم رعاة أمرهم بالعدل فعدلوا وبالتواصل في ذات الله والتقاطع فقطعوا في ذات الله ووصلوا وعدلوا بين أهليهم وأقربيهم فيما ولوا ونهضوا بأعباء الكفاية والحماية واستقلوا وألزمهم الأتفاق والإنقياد وحظر عليهم الإنشقاق والعناد فملكوا بأزمة العقل قياد الأمور وأشرقت بسيرتهم المباركة أقاصي المعمور وشاهد الناس فواضل إمامهم وتبينوا من سيرتهم العادلة علو محلهم في الخلائف ومقامهم ولم يطرق في مدتهم للإسلام جناب ولا اقتحم له باب وأنى وسيوفهم تقطر من دماء الأعداء وبلادهم ساكنة الدهماء والكفرة بالرعب المخامر والداء العياء

وأهل الإيمان يجرون ذيول العزائم وعبدة الصلبان يعثرون في ذيل الهوان الدائم إلى أن عدمت الأرض منهم بحارها الزواخر وأنوارها البواهر ورأت بعدهم العيون الفواقيء والمتون الفواقر واكفهر وجه اللأواء وتفرقت الفرق بحسب الأهواء وسفكت الدماء وركبت المضلة العمياء واحتقبت الجوائر وأهمل الشرع والشعائر ثم إن الله تعالى أذن في كشف الكرب وأطلع بالغرب نورا ملأ الدلو إلى عقد الكرب وهو النور الذي أضاء للبصائر والأبصار وطلع على الآفاق طلوع النهار وذخرت أيامه السعيدة لدرك الثار وكلفت به الخلافة وطال بها كلفه وقام بالإمامة مثل ما قام بها الخلفاء الراشدون سلفه وذلك هو الخليفة الإمام أمير المؤمنين الرشيد بالله ابن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين وخلد في عقبهم الإمامة إلى يوم الدين وهو الأسد الهصور ومن أبوه المأمون وجده المنصور العريق في الخلافة والحقيق بالإمامة والإنافة فجمع ما افترق ونظم الأمور ونسق ومنع الحوزة أن تطرق والملة أن تفترق أو تفرق
وهذه نسخة بيعة كتب بها أبو المطرف بن عميرة الأندلسي بأخذ البيعة على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر بالله العباسي قام

بعقدها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود صاحب الأندلس ثم أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه وأن يكون ابنه ولي عهده بعده وهي
الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا وأرسل السماء مدرارا وسخر ليلا ونهارا وقدر آجالا وأعمارا وخلق الخلق أطوارا وجعل لهم إرادة واختيارا وأوجد لهم تفكرا واعتبارا وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا
نحمده حمد من يرجو له وقارا ونبرأ ممن عانده استكبارا وألحد في آياته سفاهة واغترارا وصلى الله على سيدنا محمد الشريف نجارا السامي فخارا فرفع الله من شريعته للأمة منارا وأطفأ برسالته للشرك نارا حتى علا الإسلام مقدارا وعز جارا ودارا وأذعن الكفر اضطرارا واستسلم ذلة وصغارا فمضى وقد ملأ البسيطة أنوارا وعمها بدعوته أنجادا وأغوارا وأوجب لولاة العهد بعده طاعة وأتمارا فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا مختارا ورسولا اجتباه اختصاصا وإيثارا صلى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا صلاة نواليها إعلانا وإسرارا ونرجو بها مغفرة ربنا إنه كان غفارا

أما بعد فإن المستأثر بالدوام اللطيف بالأنام أنشأهم على التغاير والتباين واضطرهم إلى التجاور والتعاون وجعل لهم مصلحة الإشتراك ومنفعة الألتحام والاشتباك طريقا إلى الأفضل في حياتهم والأسعد لغاياتهم وبعث النبيين مرغبين ومحذرين ومبشرين ومنذرين فأدوا عنه ما حمل وبينوا ما حرم وحلل وكان أعمهم دعوة وأوثقهم عروة وأعلاهم في المنزلة عنده ذروة وأعطفهم للقلوب وهي كالحجارة أو أشد قسوة المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود وشفاعة اليوم المشهود ولواء الحمد المعقود صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل صلاة تفضي إلى الظل الممدود وتبلغنا من شفاعته أفضل موعود بعثه الله للأحمر والأسود والأدنى والأبعد فصدع بأمره وظلام الليل غير منجاب والداعي إلى الله غير مجاب وأهل الجاهلية كثير عددهم شديد جلدهم بعيد في الضلالة والغواية أمدهم فسلك من هدايتهم سبيلا وصبر لهم صبرا جميلا يحب صلاحهم وهم العدو ويلين لهم إذا جد بهم العتو ويجهد في أظهار دينه ولدين الله الظهور والعلو حتى انقادوا بين سابق سبقت له السعادة ولاحق تداركته المشيئة والإرادة ولما رفعت راية الإسلام وشفعت حجة الكتاب حجة الإسلام ودعي الناس إلى التزام الأحكام ونهوا عن الاستقسام بالأزلام أخبتوا إلى الرب المعبود وأشفقوا من تعدي الحدود ووعظوا في الأيمان والعهود فأتمروا للشرع حين أمر وخافوا وخامة من إذا عاهد غدر فكان الرجل يدع الخوض فيما لا يعلمه ويترك حقه لأجل يمين تلزمه وشرعت الأيمان في كل فن بحسب المحلوف عليه وعلى قدر الحاجة إليه فواحدة في المال لحق الأداء وأربع مخمسة عند ملاعنة النساء وخمسون انتهي إليها في أحكام الدماء فتوثق للحدود على مقاديرها وجرت أمور

العبادات والمعاملات على أفضل تقديرها وقبض رسول الله والعدل قائم والشرع على القوي والضعيف حاكم والرب جل جلاله بما تخفي الصدور عالم وقام بعده الخلفاء الأربعة أركان الدين وأعضاد الحق المبين يحملون الناس على سننه الواضح وينفذون أمور المصالح ويتفقهون في الأحكام وقوفا مع الظاهر وترجيحا للراجح وكانوا يتوقفون في بعض الأحيان ويطلبون للشبه وجه البيان ويستظهرون على تحقيق كثير من الوقائع بالأيمان حتى كان علي كرم الله وجهه يستثبت في الدراية ويستحلف الراوي على الرواية وما أنكر ذلك أحد ولا أعوزه من الشرع مستند رضي الله عنهم أئمة بالعدل قضوا وعلى سبيله مضوا والسيرة الجليلة تخيروا وارتضوا وعن سيد الأنام ومستنزل در الغمام عم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام الحامي الحدب والمعقل الأشب والغيث الهامل المنسكب أبي الفضل العباس بن عبد المطلب وعن الفائزين بالرتبة الكريمة والصحبة القديمة والمناقب العظيمة بدور الظلام وبحور الحكم وصدور أندية الفضل والكرم وسائر صحابه عليهم السلام الذين أسلموا على عمره وأسلفوا جدا في نصره وأدركوا من بركة عيانه وزمانه ما لا مدرك لحصره كرم الله مآبهم وأجزل ثوابهم وشكر لهم صبرهم واحتسابهم فلقد عقدوا نية الصدق عند قيامهم لأداء فريضة الإطاقة واستباحوا صلاة الشكر حين رفعوا حدث الردة وأراقوا سؤر الشرك وقد استحق بنجاسته الإراقة وابتزوا كسرى زينته فأبرزوها على سراقة فرأوا عيانا ما أخبر به سيد المرسلين وملكوا ما زوي له منها فاطلع عليه بحقه المبين وذهبوا فأظلمت الأرض من بعدهم وتنكرت المعارف لفقدهم واختلط الهمل والمرعي وتشابه الصريح والدعي وثارت الفتن من كل

جانب وصارت الحقوق نهبة كل ناهب ولما برحت العهود وتعديت الحدود بلغ الوقت المحدود وطلعت ببياض العدل الرايات السود تحتها سادات الناس وذادة موقف الباس وشهب اليوم العماس ونجب البيت الكريم من بني العباس فأعادوا إلى الأمر رونقه ونفوا عن الصفو رنقه وحموا حرم المسلمين وأحيوا سنة ابن عمهم سيد المرسلين فأصبحت الأمور مضبوطة والثغور محوطة والسبل آمنة والرعية في ظل العدل والأمن ساكنة وكان الناس قبلهم قد ركبوا الصعب والذلول وامتطوا الحزن والسهول فوثقوا منهم بطاعتهم واستحلفوهم على بيعاتهم ذلك بأنهم ألزموهم منها واجبا على القطع لازما بإلزام الشرع ووجدوا لمصلحة الارتباط بالأيمان شواهد من الآثار المنقولة والأصول المقبولة ومن أعطى من نفسه كل ما عليها وراعى جملة المصالح وكل ما تطرق إليها فكيف لا يكون في سعة من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية الداخل في أقسام المصالح المرعية كما سلف من الأئمة المهتدين آباء أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ابن عم سيدنا وسيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
لما دعا الناس بالمملكة الفلانية حماها الله إلى حجتهم القوية وإمرتهم الهاشمية مجاهد الدين بسيف أمير المؤمنين جمال الإسلام مجد الأنام تاج خواص الإمام فخر ملوكه شرف أمرائه المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود أسعد الله أيامه ونصر أعلامه وقام لذلك متوحدا المقام الكريم مشمرا عن ساعد التصميم

ماضيا على الهول مضاء الحسام القاضب غاضبا لأمر الله ورضاه على غاية هذا الغاضب مالت إليه الأجياد وانثالت عليه البلاد فانتظمها مدينة مدينة وجعل التوكل على الله سبحانه شريعة منيعة وذريعة معينة وتقدم أيده الله بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملة قاطبة للقائم بأمر الله سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أبي جعفر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين وكان له في ذلك المرام السعيد والمقام الحميد والقدم الذي رضي إبداءه وإعادته المبديء المعيد وخاطب الديوان العزيز النبوي خلد الله شرفه متضرعا لوسائل خدمته متعرضا لعواطف رحمته وبعث رسوله على أصدق رجاء في القبول وأثبت أمل في الإسعاف بالمأمول وأثناء هذه الإرادة القويمة والسعادة الكريمة تفاوض أهل البلاد في توثيق عقدهم للسلطان فلان المشار إليه الذي هو حكم من أحكام الإجماع المنعقد وأصل أفضى إليه نظر الناظر واجتهاد المجتهد إذ أجالوا الأمر فيما يزيده وثاقه ويكسو وجهه على الأيام بشرا وطلاقة ويجعل القلوب مطمئنة برسوخه في الأعقاب وثبوته على الأحقاب فلم يروا رأيا أسد ولا عملا أحصف وأشد من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد الدين سيف أمير المؤمنين على أن يكون ولي عهدهم مدة والده مد الله في حياته وأميرهم عند الأجل الذي لا بد من موافاته فأمضى لهم ذلك من اتفاقهم وأثبتوا على ما شرطته بيعته في أعناقهم وبعد ذلك أتى صولة الإسلام وصلة دار السلام وورد رسول مثابة الجلالة ونيابة الرسالة وملتزم الملائك ومعتصم الممالك ومعه الكتاب الذي هو نص أغنى عن القياس بل هو نور يمشي به في الناس وأدى إلى السلطان فلان المشار إليه من تشريف الديوان العزيز النبوي ما وسمه من الفخار بأجل وسمه وقلده السيف الصارم وسماه باسمه فتلاقى السيفان المضروب والضارب واشتبه الوصفان الماضي

والقاضب وبرزت تلك الخلع فابيض وجه الإسلام من سوادها ووضع الكتاب فكادت المنابر تسعى إليه شوقا من أعوادها وقرئت وصايا الإمام على الأنام فعلموا أنها من تراث الرسالة وقالوا كافل الإسلام جدد له بهذا الصقع الغربي حكم الكفالة وسمعوا من التقدم بإنصافهم والتهمم بمواسطهم وأطرافهم جملا عفروا لها الجباه جودا بالجهد وسجدوا للشكر والحمد فأدركوا من بركة المشاهد أثبت شرف وأبقاه ورأوا حقيقة ما كادت الأوهام تزول عن مرقاه وازدادوا يقينا بفضل ما صاروا إليه ورأوا عيانا يمن ما بايعوا عليه فتوافت طوائفهم المتبوعة وجماهيرهم المجموعة بدارا إلى المراضي الشريفة وبناء على وصايا عهد الخليفة أن يجددوا البيعة لمجاهد الدين سيف أمير المؤمنين تولى الله عضده ولابنه الواثق بالله المعتصم به أنهضه الله بإمرته بعده ولم تعد أن تكون الزيادة الطارئة شرطا في تقرير الإمرة المؤداة وإثباتها أو جارية مجرى السنن التي يؤمر المصلي بالإعادة عند فواتها فأعادوا بيعته أداء للفريضة ورجاء للفضيلة واستندوا إلى الإشارات الجليلة بعد الاستخارات الطويلة ورأوا أن يأخذوا بها عادة البيعات العباسية واتخاذ حكم الأصل طريق الإلحاقات القياسية فبايعوا على تذكر بيعة أكدوها بالعهود المستحفظة ووثقوها بالأيمان المغلظة وبادروا بها نداء مناديهم وأعطوا على الإصفاق بها صفقة أيديهم
ولما انتهى ذلك إلى الملإ من أهل فلانة وجهاتها رأوا أن يحلف من سبق ويصدقوا النية مع من صدق ويعقدوا ما عقدوا على ما صرح به العهد الشريف ونطق فحضر منهم العلماء والصلحاء والأجناد والوزراء والفقهاء والكافة على تباينهم في المراتب وتفاوتهم في المناصب واختلافهم في المواطن والمكاسب فأمضوها بيعة كريمة المقاصد سليمة المعاقد عهدها محكم

وعقدها مبرم وموجبها طاعة وسمع والتقيد بها سنة وشرع ويعمرون بها أسرارهم ويفنون عليها أعمارهم ويدينون بها في عسر ويسر وربح وخسر وضيق ورفاهية ومحبة وكراهية تبرعوا بذلك كله طوعا واستوفوه فصلا فصلا ونوعا نوعا وعاهدوا عليها الذي يعلم السر وأخفى وأضمروا منها على ما أبر على الظاهر وأوفى وتقبلوا من الوفاء به ما وصف الله به خليله إذ قال ( وإبراهيم الذي وفى ) وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم وبما أخذه على أنبيائه الكرام من العهود المؤكدة والمواثيق المشددة على أنهم إن حادوا عن هذه السبيل وانقادوا لداعي التحريف والتبديل فهم براء من حول الله وقوته إلى حولهم وقوتهم تاركون ذمته الوافية لذمتهم والأيمان كلها لازمة لهم على مذهب إمام دار الهجرة وطلاق كل امرأة في ملك كل واحد منهم لازم لهم ثلاثا وأيما امرأة تزوجها في البلاد الفلانية فطلاقها لازم له كلما تزوج واحد منهن واحدة خرجت طالقا ثلاثا وعلى كل واحد منهم المشي إلى بيت الله الحرام على قدميه محرما من منزله بحجة كفارة لا تجزيء عن حجة الإسلام وعبيدهم وأرقاؤهم عتقاء لاحقون بأحرار المسلمين وجميع أموالهم عينا وعرضا حيوانا وأرضا وسائر ما يحويه المتملك كلا وبعضا صدقة لبيت مال المسلمين حاشى عشرة دنانير كل ذلك على أشد مذاهب الفتوى وألزمها لكلمة التقوى وأبعدها من مخالفة الهوى والظاهر والفحوى أرادوا بذلك رضا الخلافة الفلانية والفلانية بلقبي السلطنة للسلطان وولده المأخوذ لهما البيعة بعد بيعته وأشهدوا الله على أنفسهم وكفى بذلك اعتزاما والتزاما وشدا لما أمر به وإحكاما و ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) وهم يرفعون دعاءهم إلى الله تضرعا واستسلاما ويسألونه عصمة وكفاية افتتاحا

واختتاما اللهم إنا قد أنفذنا هذا العقد اقتداء واهتماما وقضينا حقه إكمالا وإتماما وأسلمنا وجهنا إليك إسلاما فعرفنا من خيره وبركته نماء ودواما واكلأنا بعينك حركة وسكونا ويقظة ومناما و ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) إنك أنت الله منتهى الرغبات ومجيب الدعوات وإله الأرض والسموات
وهذه نسخة بيعة مرتبة على موت خليفة أنشأتها على هذه الطريقة لموافقتها رأي كتاب الزمان في افتتاح عهود الملوك عن الخلفاء بالحمد لله كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وتعرضت فيها إلى قيام سلطان بعقدها لمطابقة ذلك لحال الزمان وهي
الحمد لله الذي جعل الأمة المحمدية أبذخ الأمم شرفا وأكرمها نجارا وأفضلها سلفا وجعل رتبة الخلافة أعلى الرتب رتبة وأعزها كنفا وخص الشجرة الطيبة من قريش بأن جعل منهم الأئمة الخلفا وآثر الأسرة العباسية منها بذلك دعوة سبقت من ابن عمهم المصطفى وحفظ بهم نظامها على الدوام فجعل ممن سلف منهم خلفا
نحمده على أن هيأ من مقدمات الرشد ما طاب الزمان به وصفا وجدد من رسوم الإمامة بخير إمام ما درس منها وعفا وأقام للمسلمين إماما تأرج الجو بنشره فأصبح الوجود بعرفه معترفا
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص تمسك بعهدها فوفى وأعطاها صفقة يده للمبايعة فلا يبغي عنها مصرفا وأن محمدا عبده ورسوله الذي تدارك الله به العالم بعد أن أشفى فشفى ونسخت آية دينه

الأديان وجلا بشرعته المنيرة من ظلمة الجهل سدفا وجعل مبايعه مبايعا لله يأخذه بالنكث ويوفيه أجره على الوفا صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وعترته الشرفا وB أصحابه الذين ليس منهم من عاهد الله فغدر ولا واد في الله فجفا خصوصا من جاء بالصدق وصدق به فكان له قرابة وصفوة الصفا والمرجوع إليه في البيعة يوم السقيفة بعدما اشرأبت نحوها نفوس كادت تذوب عليها أسفا والقائم في قتال أهل الردة من بني حنيفة حتى استقاموا على الحنيفية حنفا ومن استحال دلو الخلافة في يده غربا فكان أفيد عبقري قام بأمرها فكفى وعمت فتوحه الأمصار وحملت إليه أموالها فلم يمسكها إقتارا ولم يبذر فيها سرفا ومن كان فضله لسهم الاختيار من بين أصحاب الشورى هدفا وجمع الناس في القرآن على صحيفة واحدة وكانت قبل ذلك صحفا ومن سرى إليه سر أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فغدا يجر من ذيل الفخار سجفا واستولى على المكارم من كل جانب فحاز أطرافها طرفا طرفا وعلى سائر الخلفاء الراشدين بعدهم ممن سلك سبيل الحق ولطريق الهدى اقتفى صلاة ورضوانا يذهبان الداء العضال من وخامة الغدر ويجلبان الشفا ويرفعان قدر صاحبهما في الدنيا ويبوئان منتحلهما من جنات النعيم غرفا
أما بعد فإن عقد الإمامة لمن يقوم بأمر الأمة واجب بالإجماع مستند

لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطماع وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع إذ العباد مجبولون على التباين والتغاير مطبوعون على التحالف والتناصر مضطرون إلى التعاون والتجاور مفتقرون إلى التعاضد والتوازر فلا بد من زعيم يمنعهم من التظالم ويحملهم على التناصف في التداعي والتحاكم ويقيم الحدود فتصان المحارم عن الانتهاك وتحفظ الأنساب عن الاختلاط والاشتراك ويحيمي بيضة الإسلام فيمنع أن تطرق ويصون الثغور أن يتوصل إليها أو يتطرق ليعز الإسلام دارا ويطمئن المستخفي ليلا ويأمن السارب نهارا ويذب عن الحرم فتحترم ويذود عن المنكرات فلا تغشى بل تصطلم ويجهز الجيوش فتنكأ العدو وتغير على بلاد الكفر فتمنعهم القرار والهدو ويرغم أنف الفئة الباغية ويقمعها ويدغم الطائفة المبتدعة ويردعها ويأخذ أموال بيت المال بحقها فيطاوع ويصرفها إلى مستحقها فلا ينازع لا جرم اعتبر للقيام بها أكمل الشروط وأتم الصفات وأكرم الشيم وأحسن السمات
وكان السيد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة وولي الإمامة أبو فلان فلان العباسي المتوكل على الله مثلا أمير المؤمنين سلك الله تعالى به جدد آبائه الراشدين هو الذي جمع شروطها فوفاها وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها ورامت به أدنى مراتبها فبلغت إلى أغياها وتسور معاليها فرقي إلى أعلاها واتحد بها فكان صورتها ومعناها وكانت الإمامة قد تأيمت ممن يقوم بأعبائها وعزت خطابها لقلة أكفائها فلم تلف لها بعلا يكون لها قرينا ولا كفئا تخطبه يكون لديها مكينا إلا الإمام الفلاني المشار إليه فدعته لخطبتها وهي بيت عرسه ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) فأجاب خطبتها ولبى دعوتها لتحققه رغبتها إليه وعلمه بوجوب إجابتها عليه إذ هو شبلها الناشىء بغابها وغيثها المستمطر من سحابها بل هو أسدها الهصور وقطب فلكها الذي عليه تدور ومعقلها الأمنع الحصين وعقدها الأنفس

الثمين وفارسها الأروع وليثها الشهير وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير وتلادها العليم بأحوالها والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها وترجمانها المتكلم بلسانها وعالمها المتفنن في أفنانها وطبيبها العارف بطبها ومنجدها الكاشف لكربها
وحين بلغت من القصد سولها ونالت بالإجابة منه مأمولها وحرم على غيره أن يسومها لذلك تلويحا أو يعرج على خطبتها تعريضا وتصريحا احتاجت إلى ولي يوجب عقدها وشهود تحفظ عهدها فعندها قام السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها خلد الله سلطانه ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه فانتصب لها وليا وأقام يفكر في أمرها مليا فلم يجد أحق بها منه فتجنب عضلها فلم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها فجمع أهل الحل والعقد المعتزين للاعتبار والعارفين بالنقد من القضاة والعلماء وأهل الخير والصلحاء وأرباب الرأي والنصحاء فاستشارهم في ذلك فصوبوه ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه فاستخار الله تعالى وبايعه فتبعه أهل الاختيار فبايعوا وانقادوا لحكمه وطاوعوا فقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشهود فلزمت ومضى حكمها على الصحة وانبرمت ولما تم عقدها وطلع بصبح اليمن سعدها التمس المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه أعلى الله شرف سلطانه ورفع محله وقرن بالتوفيق في كل أمر عقده وحله أن يناله عهدها الوفي ويرد منها موردها الصفي ليرفع بذلك عن أهل الدين حجبا ويزداد من البيت النبوي قربا فتعرض لنفحاتها من مقراتها وتطلب بركاتها من مظناتها ورغب إلى أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين أن يجدد له بعهد السلطنة الشريفة

عقدا ويأخذ له على أهل البيعة بذلك عهدا ويستحلفهم على الوفاء لهما بما عاهدوا والوقوف عندما بايعوا وعاقدوا ليقترن السعدان فيعم نوءهما ويجتمع النيران فيبهر ضوءهما فلباه تلبية راغب وأجابه إجابة مطلوب وإن كان هو الطالب وعهد إليه في كل ما تقتضيه أحكام إمامته في الأمة عموما وشيوعا وفوض له حكم الممالك الإسلامية جميعا وجعل إليه أمر السلطنة المعظمة بكل نطاق وألقى إليه مقاليدها وصرفه فيها على الإطلاق وأقامه في الأمة لعهد الخلافة وصيا وجعله للإمامة بتفويض الأمر إليه وليا ونشر عليه لواء الملك وقلده سيفه العضب وألبسه الخلعة السوداء فابيض من سوادها وجه الشرق والغرب وكتب له بذلك عهدا كبت عدوه وزاد شرفه وضاعف سموه وطولب أهل البيعة بالتوثيق على البيعتين بالأيمان فأذعنوا واستحلفوا على الوفاء فبالغوا في الأيمان وأمعنوا وأقسموا بالله جهد أيمانهم بعد أن أشهدوا الله عليهم في إسرارهم وإعلانهم وأعطوا المواثيق المغلظة المشددة وحلفوا بالأيمان المؤكدة المعقدة على أنهم إن أعرضوا عن ذلك أو أدبروا وبدلوا فيه أو غيروا او عرجوا عن سبيله أو حادوا أو نقصوا منه او زادوا فكل منهم بريء من حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوته وخارج من ذمته الحصينة إلى ذمته وكل امرأة في نكاحه او يتزوجها في المستقبل فهي طالق ثلاثا بتاتا وكلما راجعها فهي طالق طلاقا لا يقتضي إقامة ولا ثباتا وكل مملوك في ملكه أو يملكه في المستقبل حر لاحق بأحرار المسلمين وكل ما ملكه أو يملكه من جماد وحيوان صدقة عليه للفقراء والمساكين وعليه الحج إلى بيت الله الحرام والوقوف بعرفة وسائر المشاعر العظام محرما من دويرة أهله ماشيا حاسرا عن رأسه وإن كان به أذى حافيا يأتي بذلك في ثلاثين حجة متتابعة على التمام لا تجزئه واحدة منها عن حجة الإسلام وإهداء مائة بدنة للبيت العتيق كل سنة

على الدوام وعليه صوم جميع الدهر إلا المنهي عنه من الأيام وأن يفك ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفر في كل عام يمين كل منهم في ذلك على نية أمير المؤمنين وسلطان المسلمين في سره وجهره وأوله وآخره لا نية للحالف في ذلك في باطن الأمر ولا في ظاهره لا يوري في ذلك ولا يستثنى ولا يتأول ولا يستفتي ولا يسعى في نقضها ولا يخالف فيها ولا في بعضها متى جنح إلى شيء من ذلك كان آثما وما تقدم من تعقيد الأيمان له لازما لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولا يجزئه عن ذلك كفارة أصلا كل ذلك على أشد المذاهب بالتخصيص وأبعدها عن التساهل والترخيص وأمضوها بيعة ميمونة باليمن مبتدأة بالنجح مقرونة وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام والشهود والحكام وجعلوا الله تعالى على ما يقولون وكيلا فاستحق عليهم الوفاء بقوله عزت قدرته ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة بيعة مرتبة على خلع خليفة أنشأتها على هذه الطريقة أيضا وتعرضت فيها لذكرالسلطان القائم بها على ما تقدم في البيعة المرتبة على موت خليفة وهي

الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة للناس وأمنا وأقام سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا وشد لها بالعصابة القرشية أزرا وشاد منها بالعصبة العباسية ركنا وأغاث الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى وجمع قلوبهم عليه فلم يستنكف عن الانقياد إليه أعلى ولا أدنى ونزع جلبابها عمن شغل بغيرها فلم يعرها نظرا ولم يصغ لها أذنا وصرف وجهها عمن أساء فيها تصرفا فلم يرفع بها رأسا ولم يعمر لها مغنى
نحمده على نعم حلت للنفوس حين حلت ومنن جلت الخطوب حين جلت ومسار سرت إلى القلوب فسرت ومبار أقرت العيون فقرت وعوارف أمت الخليقة فتوالت وما ولت وقدم صدق ثبتت إن شاء الله في الخلافة فما تزلزلت ولا زلت
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا من درك الشكوك كالئة ولمهاوي الشبه دارئه وللمقاصد الجميلة حاوية ولشقة الزيغ والارتياب طاوية وأن محمدا عبده ورسوله الذي نصح الأمة إذ بلغ فشفى عليلها وأوردها من مناهل الرشد ما أطفأ وهجها وبرد غليلها وأوضح لهم مناهج الحق ودعاهم إليها وأبان لهم سبل الهداية ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ) صلى الله عليه وعلى آله أئمة الخير وخير الأئمة ورضي عن أصحابه اولياء العدل وعدول الأمة صلاة ورضوانا يعمان سائرهم ويشملان أولهم وآخرهم سيما الصديق الفائز بأعلى الرتبتين صدقا وتصديقا والحائز قصب السبق في الفضيلتين علما وتحقيقا ومن عدل الأنصار إليه عن سعد بن عبادة بعد ما أجمعوا على تقديمه وبادر المهاجرون إلى بيعته اعترافا بتفضيله وتكريمه والفاروق الشديد في الله بأسا واللين في الله جانبا والموفي للخلافة حقا والمؤدي للإمامة واجبا والقائم في نصرة الدين حق القيام حتى عمت فتوحه الأمصار مشارق ومغاربا وأطاعته العناصر الأربعة إذ

كان لله طائعا ومن الله خائفا وإلى الله راغبا وذي النورين المعول عليه من بين سائر أصحاب الشورى تنويها بقدره والمخصوص بالاختيار تفخيما لأمره من حصر في بيته فلم يمنعه ذلك عن تلاوة كتاب الله وذكره وشاهد سيوف قاتليه عيانا فقابل فتكاتها بجميل صبره وأبي الحسن الذي أعرض عن الخلافة حين سئلها واستعفى منها بعد ما اضطر إليها وقبلها وكشف له عن حقيقة الدنيا فما أم قبلتها بقلبه ولا ولى وجهه قبلها وصرح بمقاطعتها بقوله يا صفراء غري غيري يا بيضاء غري غيري لما وصلها من وصلها وسائر الخلفاء الراشدين بعدهم الناهجين نهجهم والواردين وردهم
أما بعد فإن للإمامة شروطا يجب اعتبارها في الإمام ولوازم لا يغتفر فواتها في الابتداء ولا في الدوام وأوصافا يتعين إعمالها وآدابا لا يسع إهمالها من أهمها العدالة التي ملاكها التقوى وأساسها مراقبة الله تعالى في السر والنجوى وبها تقع الهيبة لصاحبها فيجل وتميل النفوس إليها فلا تمل فهي الملكة الداعية إلى ترك الكبائر واجتنابها والزاجرة عن الإصرار على الصغائر وارتكابها والباعثة على مخالفة النفس ونهيها عن الشهوات والصارفة عن انتهاك حرمات الله التي هي أعظم الحرمات والموجبة للتعفف عن المحارم والحاملة على تجنب الظلامات ورد المظالم والشجاعة التي بها حماية البيضة والذب عنها والاستظهار بالغزو على نكاية الطائفة الكافرة والغض منها والقوة بالشوكة على تنفيذ الأوامر وإمضائها وإقامة الحدود واستيفائها ونشر كلمة الحق وإعلائها ودحض كلمة الباطل وإخفائها وقطع مادة الفساد وحسم أدوائها والرأي المؤدي إلى السياسة وحسن التدبير والمغني في كثير من الأماكن عن مزيد الجد والتشمير والمعين في خدع الحرب ومكايده والمسعف في مصادر كل أمر وموارده
هذا وقد جعلنا الله أمة وسطا ووعظنا بمن سلف من الأمم ممن تمرد وعتا أو تجبر وسطا وعصم أمتنا أن تجتمع على الضلال وصان جمعنا عن الخطل في الفعال والمقال وندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسوغ

لأئمتنا الاجتهاد في النوازل والأحكام فاجتهادهم لا ينكر خصوصا في شأن الإمامة التي هي آكد أسباب المعالم الدينية وأقواها وأرفع المناصب الدنيوية وأعلاها وأعز الرتب رتبة وأغلاها وأحقها بالنظر في أمرها وأولاها وكان القائم بأمر المسلمين الآن فلان بن فلان الفلاني ممن حاد عن الصراط المستقيم وسلك غير النهج القويم ومال عن سنن الخلفاء الراشدين فأدركه الزلل وقارف المآثم فعاد بالخلل فعاث في الأرض فسادا وخالف الرشد عنادا ومال إلى الغي اعتمادا وأسلم إلى الهوى قيادا قد انتقل عن طور الخلافة وعزيز الإنافة إلى طور العامة فاتصف بصفاتهم واتسم بسماتهم فمنكر يجب عليه إنكاره قد باشره وصديق سوء يتعين عليه إبعاده قد وازره وظاهره إن سلك فسبيل التهمة والارتياب أو قصد أمرا نحا فيه غير الصواب منهمك على شهواته منعكف على لذاته متشاغل عن أمر الأمة بأمر بنيه وبناته الجبن رأس ماله وعدم الرأي قرينه في أفعاله وأقواله قد قنع من الخلافة باسمها ورضي من الإمامة بوسمها وظن أن السودد في لبس السواد فمال إلى الحيف وتوهم أن القاطع الغمد فقطع النظر عن السيف
ولما اطلع الناس منه على هذه المنكرات وعرفوه بهذه السمات وتحققوا فيه هذه الوصمات رغبوا في استبداله وأجمعوا على خلعه وزواله فلجأوا إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني بالألقاب السلطانية إلى آخرها نصر الله جنوده وأسمى جدوده وأرهف على عداة الله حدوده ففوضوا أمرهم في ذلك إليه وألقوا كلهم عليه فجمع أهل الحل والعقد منهم ومن تصدر إليهم الأمور وترد عنهم فاستخاروا الله تعالى وخلعوه من ولايته وخرجوا عن بيعته وانسلخوا عن طاعته وجردوه من خلافته تجريد السيف من القراب وطووا حكم إمامته كطي السجل للكتاب وعندما تم هذا الخلع وانطوى حكمه على البت والقطع التمس الناس إماما يقوم بأمور الإمامة فيوفيها ويجمع شروطها ويستوفيها فلم يجدوا لها أهلا ولا بها احق وأولى وأوفى بها وأملى من السيد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة وولي الإمامة أبي

فلان فلان العباسي الطائع لله مثلا أمير المؤمنين لا زال شرفه باذخا وعرنينه الشريف شامخا وعهد ولايته لعهد كل ولاية ناسخا فساموه بيعتها فلبى وشاموا برقه لولايتها فأجاب وما تأبى علما منه بأنها تعينت عليه وانحصرت فيه فلم تجد أعلى منه فتعدل إليه إذ هو ابن بجدتها وفارس نجدتها ومزيل غمتها وكاشف كربتها ومجلي غياهبها ومحمد عواقبها وموضح مذاهبها وحاكمها المكين بل رشيدها الأمين فنهض المقام الشريف السلطاني الملكي الفلاني المشار إليه قرن الله مقاصده الشريفة بالنجاح وأعماله الصالحة بالفلاح وبدر إلى بيعته فبايع وأتم به من حضر من أهل الحل والعقد فتابع وقابل عقدها بالقبول فمضى ولزم حكمها وانقضى واتصل ذلك بسائر الرعية فانقادوا وعلموا صوابه فمشوا على سننه وما حادوا وشاع خبر ذلك في الأمصار وطارت به مخلقات البشائر إلى سائر الأقطار فتعرفوا منه اليمن فسارعوا إلى امتثاله وتحققوا صحته وثباته بعد اضطرابه واعتلاله واستعاذوا من نقص يصيبه بعد تمامه لهذا الخليفة وكماله فعندها أبانت الخلافة العباسية عن طيب عنصرها وجميل وفائها وكريم مظهرها وجادت بجزيل الإمتنان وتلا لسان كرمها الوفي على وليها الصادق ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) فجدد له بالسلطنة الشريفة عهدا وطوق جيده بتفويضها إليه عقدا وجعله وصيه في الدين ووليه في أمر المسلمين وقلده أمر الممالك الإسلامية وألقى إليه مقاليدها وملكه أزمتها وحقق له مواعيدها وعقد له لوائها ونشر عليه أعلامها وصرفه فيها على الإطلاق وفوض إليه أحكامها وألبسه الخلعة السوداء فكانت لسؤدده شعارا وأسبغ عليه رداءها

فكان له دثارا وكتب له العهد فسقى المعاهد صوب العهاد ولهج الأنام بذكره فاطمأنت العباد والبلاد وعندما تم هذا الفصل وتقرر هذا الأصل وأمست الرعايا بما آتاهم الله من فضله فرحين وبنعمته مستبشرين طولب أهل البيعة بما يحملهم على الوفاء ويمنع بيعتهم من التكدر بعد الصفاء من توثيق عقدها بمؤكد أيمانها والإقامة على الطاعة لخليفتها وسلطانها فبادروا إلى ذلك مسرعين وإلى داعيه مهطعين وبالغوا في المواثيق وأكدوها وشددوا في الأيمان وعقدوها وأقسموا بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور في البدء والإعادة على الوفاء لهما والموالاة والنصح والمصافاة والموافقة والمشايعة والطاعة والمتابعة يوالون من والاهما ويعادون من عاداهما لا يقعدون عن مناصرتهما عند إلمام ملمة ولا يرقبون في عدوهما إلا ولا ذمة جارين في ذلك على سنن الدوام والاستمرار والثبوت واللزوم والاستقرار على أن من بدل منهم من ذلك شرطا أو عفى له رسما أو حاد عن طريقه أو غير له حكما أو سلك في ذلك غير سبيل الأمانة أو استحل الغدر وأظهر الخيانة معلنا أو مسرا في كله أو بعضه متأولا أو محتالا لإبطاله أو نقضه فقد بريء من حول الله المتين وقوته الواقية وركنه الشديد وذمته الوافية إلى حول نفسه وقوته وركنه وذمته وكل امرأة في عصمته الآن أو يتزوجها مدة حياته طالق ثلاثا بصريح لفظ لا يتوقف على نية ولا يفرق فيه بين سنة ولا بدعة ولا رجعة فيه ولا مثنوية وكل مملوك في ملكه أو يملكه في بقية عمره من ذكر أو أنثى حر من أحرار المسلمين وكل ما هو على ملكه أو يملكه في بقية عمره إلى آخر أيامه من عين أو عرض صدقة للفقراء والمساكين وعليه الحج إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة بثلاثين عمرة راجلا حافيا حاسرا لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطنا ولا ظاهرا وإهداء مائة بدنة في كل حجة

منها في عسرته ويسرته لا تجزئه واحدة منها عن حجة الإسلام وعمرته وصوم الدهر خلا المنهي عنه من أيام السنة وصلاة ألف ركعة في كل ليلة لا يباح له دون أدائها غمض ولا سنة لايقبل الله منه صرفا ولا عدلا ولا يؤجر على شيء من ذلك قولا ولا فعلا متى ورى في ذلك أو استثنى أو تأول أو استفتى كان الحنث عليه عائدا وله إلى دار البوار قائدا معتمدا في ذلك أشد المذاهب في سره وعلانيته على نية المستحلف له دون نيته وأمضوها بيعة محكمة المباني ثابتة القواعد كريمة المساعي جميلة المقاصد طيبة الجنى جليلة العوائد قاطعة البراهين ظاهرة الشواهد وأشهدوا على أنفسهم بذلك من حضر مجلس هذا العقد من قضاة الإسلام وعلمائه وأئمة الدين وفقهائه بعد أن أشهدوا الله عليهم وكفى بالله شهيدا وكفى به للخائنين خصيما ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) إن شاء الله تعالى
المذهب الرابع مما يكتب في بيعات الخلفاء أن يفتتح البيعة بلفظ هذه البيعة ويصفها ويذكر ما يناسب ثم يعزي بالخليفة الميت ويهنيء بالخليفة المستقر ويذكر في حق كل منهما ما يليق به من الوصف على نحو مما تقدم
وهذه النسخة بيعة أنشأها المقر الشهابي بن فضل الله على ما رأيته في الجواهر الملتقطة المجموعة من كلامه للإمام الحاكم بأمر الله أبي

القاسم أحمد بن أبي الربيع سليمان المستكفي بالله ابن الإمام الحاكم بأمر الله بعد موت أبيه
وذكر القاضي تقي الدين بن ناظر الجيش في دستوره أنه إنما عملها

تجربة لخاطره وهي مرتبة على موت خليفة
ونصها بعد البسملة الشريفة ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان وبيعة رضا تشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن بيعة يلزم طائرها العنق وتحوم بشائرها على الأفق وتحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق بيعة تصلح لنسبها الأمة وتمنح بسببها النعمة وتؤلف بها الأسباب وتجعل بينهم مودة ورحمة بيعة تجري بها الرفاق وتتزاحم بها زمر الكواكب على حوض المجرة للوفاق بيعة سعيدة ميمونة بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة بيعة صحيحة شرعية بيعة ملحوظة مرعية بيعة تسابق إليها كل نية وتطاوع كل طوية وتجمع عليها أشتات البرية بيعة يستهل بها الغمام ويتهلل البدر التمام بيعة متفق على الإجماع عليها والإجتماع لبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع وانعقدت صحتها بمن سمع لله وأطاع وبذل في تمامها كل امريء ما استطاع وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقر الخصم وانقطع النزاع وتضمنها كتاب كريم يشهده المقربون ويتلقاه الأئمة الأقربون
( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) وإلينا ولله الحمد وإلى بني

العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل وأصحاب الكلام فيما قل وجل وولاة الأمور والأحكام وأرباب المناصب والحكام وحملة العلم والأعلام وحماة السيوف والأقلام وأكابر بني عبد مناف ومن انخفض قدره وأناف وسراوات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس وخاصة الأئمة وعامة الناس بيعة ترسى بالحرمين خيامها وتخفق على المأزمين أعلامها وتتعرف عرفات ببركاتها وتعرف بمنى أيامها ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر وتؤم ما بين الركن والمقام والمنبر ولا يبتغى بها إلا وجه الله الكريم وفضله العميم لم يبق صاحب سنجق ولا علم ولا ضارب بسيف ولا كاتب بقلم ولا رب حكم ولا قضاء ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء ولا إمام مسجد ولا خطيب ولا ذو فتيا يسأل فيجيب ولا من بين جنبتي المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب ولا من يجتهد في رأي فيخطيء أو يصيب ولا متحدث بحديث ولا متكلم بقديم وحديث ولا معروف بدين وصلاح ولا فرسان حرب وكفاح ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح ولا ضارب بصفاح ولا ساع على قدم ولا طائر بغير جناح ولا مخالط للناس ولا قاعد في عزلة ولا جمع كثرة ولا قلة ولا من يستقل بالحوزاء لواؤه ولا يقل فوق الفرقد ثواؤه ولا باد ولا حاضر ولا مقيم ولا سائر ولا أول ولا آخر ولا مسر في باطن ولا معلن في ظاهر ولا عرب ولا عجم ولا راعي إبل ولا غنم ولا صاحب أناة ولا إبدار ولا ساكن في حضر وبادية بدار ولا صاحب عمد ولا جدار ولا ملجج في البحار الزاخرة والبراري القفار ولا من يتوقل صهوات الخيل ولا من يسبل على العجاجة الذيل ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل ولا من تظله السماء وتقله الأرض ولا من تدل عليه

الأسماء على اختلافها وترتفع درجات بعضهم على بعض حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها ومن الله عليه وهداه إليها وأقر بها وصدق وغض لها بصره خاشعا وأطرق ومد إليها يده بالمبايعة ومعتقده بالمتابعة رضي بها وارتضاها وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )
والحمد لله الذي نصب الحاكم ليحكم بين عباده وهو أحكم الحاكمين والحمد لله الذي أخذ حق آل بيت نبيه من أيدي الظالمين والحمد لله رب العالمين ثم الحمد لله رب العالمين ثم الحمد لله رب العالمين والحمد لله رب العالمين
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه وعوضه عن دار السلام بدار السلام ونقله فزكى بدنه عن شهادة السلام بشهادة الإسلام حيث آثره ربه بقربه ومهد لجنبه وأقدمه على ما أقدمه من يرجوه لعمله وكسبه وخار له في جواره رقيقا وجعل له على صالح سلفه طريقا وأنزله ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) الله أكبر ليومه لولا مخلفه كادت تضيق الأرض بما رحبت وتجزى كل نفس بما كسبت وتنبيء كل سريرة بما أدخرت وما خبت لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح لقد اضطرب مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح لقد غاضت البحار لقد غابت الأنوار لقد غالب البدور ما يلحق الأهلة من المحاق ويدرك البدر من السرار نسفت الجبال نسفا وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى ( وجاء ربك والملك صفا

صفا ) لقد جمعت الدنيا أطرافها وأزمعت على المسير وجمعت الأمة لهول المصير وزاغت يوم موته الأبصار ( إن ربهم بهم يومئذ لخبير )
وبقيت الألباب حيارى ووقفت تارة تصدق وتارة تتمارى لا تعرف قرارا ولا على الأرض استقرار ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى )
ولم يكن في النسب العباسي ولا في جميع من في الوجود لا في البيت المسترشدي ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقرة غير ولود من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها وسر طوياتها إلا واحد وأين ذلك الواحد هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار وتراث أجداده ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار وهو ابن المنتقل إلى ربه وولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأنام فرد الأيام وواحد وهكذا في الوجود الإمام وأنه الحائز لما زررت عليه جيوب المشارق والمغارب والفائز بملك ما بين الشارق والغارب الراقي في صفيح السماء هذه الذروة المنيفة الباقي بعد الأئمة الماضين رضي الله عنهم ونعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة المتضع لله وهو من بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة الذي تصفح السحاب نائله والذي لا يغره عاذره ولا يغيره عاذله والذي - طويل - ( تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله ) والذي - طويل - ( لا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا ورق الدنيا عن الدين شاغله )

والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال ناصره وقام قائمه ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف بأنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه نائب الله في أرضه والقائم بمقام رسول الله وخليفته وابن عمه وتابع عمله الصالح ووارث علمه سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أحمد أبو العباس الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أيد الله تعالى ببقائه الدين وطوق بسيفه رقاب الملحدين وكبت تحت لوائه المعتدين وكتب له النصر إلى يوم الدين وكف بجهاده طوائف المفسدين وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعليه كانوا يعملون ونصر أنصاره وقدر اقتداره وأسكن في قلوب الرعية سكينته ووقاره ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولحق بدار الحق أسلافه ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة وخلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره وخليفة يغالب مربد الليل بأنواره ووارث بني بمثله ومثل أبيه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي مقتف على آثاره ونسي ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله بلا نزاع اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود وجمع الناس له ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف ولم يربأ معه وقد مد يده طائعا بمن مدها وقد تكلف واجتمعوا على رأي واحد واستخاروا الله تعالى فيه فخار وناهيك بذلك من مختار وأخذت يمين تمد إليها الأيمان ويشد بها الإيمان وتعطى عليها المواثيق وتعرض أمانتها على كل فريق حتى تقلد كل

من حضر في عنقه هذه الأمانة وحط يده على المصحف الكريم وحلف بالله العظيم وأتم إيمانه ولم يقطع ولم يستثن ولم يتردد ومن قطع من غير قصد أعاد وجدد وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت هذه البيعة له ونية من حلف له وتذمم بالوفاء في ذمته وتكفله على عادة أيمان البيعة بشروطها وأحكامها المرددة وأقسامها المؤكدة بأن يبذل لهذا الإمام المفترضة طاعته الطاعة ولا يفارق الجمهور ولا يظهر عن الجماعة انجماعه وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتب وأذنوا لمن يكتب عنهم حسب ما يشهد به بعضهم على بعض ويتصادق عليه أهل السماء والأرض بيعة تم بمشيئة الله تمامها وعم بالصوب الغدق غمامها ( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) ووهب لنا الحسن ثم الحمد لله الكافي عبده الوافي وعده الموافي لمن يضاعف على موهبه حمده ثم الحمد لله على نعم يرغب أمير المؤمنين في ازديادها ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بأمدادها ويرأب بها ما آثر فيما أثر مماليكه ما بان من مباينة أضدادها
نحمده والحمد لله ثم الحمد لله كلمة لا نمل من تردادها ولا نبخل بما يفوق السهام من سدادها ولا نظل إلا على ما يوجب كثرة أعدادها وتيسير إقرار على أورادها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتقايس دم الشهداء ومد مدادها وتتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها وتتجانس رقومها المذبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وعلى جماعة آله من سفل من أبنائها ومن سلف من أجدادها وB الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

وبعد فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله تعالى من ميراث النبوة ما كان لجده ووهبه من الملك السليماني عن أبيه مالا ينبغي لأحد من بعده وعلمه منطق الطير بما تتحمله حمائم البطائق من بدائع البيان وسخر له من البريد على متون الخيل ما سخر من الريح لسليمان وآتاه من خاتم الأنبياء ما أمده به أبوه سليمان وتصرف وأعطاه من الفخار ما أطاعه به كل مخلوق ولم يتخلف وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد وينفض على كحل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد ويمد ظله على الأرض فكل مكان حله دار ملك وكل مدينة بغداد وهو في ليله السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر الجواد يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام وصالح الأعمال مما يتحلى به الإمام ويقدم التقوى أمامه ويقرن عليها أحكامه ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس ومن لا يحمل أمره طائعا على العين حمله بالسيف غصبا على الرأس ويعجل أمير المؤمنين بما يشفي به النفوس ويزيل به كيد الشيطان إنه يؤوس ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكن يسوس وأمير المؤمنين يشهد الله وخليفته عليه أنه أقر كل امريء من ولاة الأمور الإسلامية على حاله واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله على اختلاف طبقات ولاة الأمور وتفرقهم في الممالك والثغور برا وبحرا سهلا ووعرا وشرقا وغربا وبعدا وقربا وكل جليل وحقير وقليل وكثير وصغير وكبير وملك ومملوك وأمير وجندي يبرق له سيف شهير ورمح طرير ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب ومن له يد تبقى في إنشاء وتحقيق حساب ومن يتحدث في بريد وخراج ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج ومن في الدروس والمدارس والربط والزوايا والخوانق ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق وسائر أرباب المراتب

وأصحاب الرواتب ومن له في مال الله رزق مقسوم وحق مجهول او معلوم واستمرار كل أمر على ما هو عليه حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه فما زاد تأهيله زاد تفضيله وإلا فأمير المؤمنين لا يريد سوى وجه الله ولا يحابي أحدا في دين ولا يحامي عن أحد في حق فإن المحاماة في الحق مداجاة على المسلمين وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه معتبر مستمر بما شكر الله على نعمه وهكذا يجازى من شكر ولا يكدر على أحد موردا نزه الله به نعمه الصافية عن الكدر ولا يتأول في ذلك متأول ولا من فجر النعمة أو كفر ولا يتعلل متعلل فإن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه من الغير وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق وأن تضرب باسمهما النقود المتعامل بها على الإطلاق ويبتهج بالدعاء لهما عطف الليل والنهار ويصرح منه بما يشرق به وجه الدرهم والدينار وتباهي به المنابر ودور الضرب هاتيك ترفع اسمهما على أسرة مهودها وهذه على أسارير نقودها وهذه تقام بسببها الصلاة وتلك تدام بها الصلات وكلاهما تستمال به القلوب ولا يلام على ما تعيه الآذان وتوعيه الجيوب وما منهما إلا من تحدق بجواره الأحداق وتميل إليه الأعناق وتبلغ به المقاصد ويقوى بهما المعاضد وكلاهما أمره مطاع من غير نزاع وإذا لمعت أزمة الخطب طار للذهب شعاع ولولاهما ما اجتمع جمع ولا انضم ولا عرف الأنام بمن تأتم فالخطب والذهب معناهما واحد وبهما يذكر الله قيماء المساجد ولولا الأعمال ما بذلت الأموال ولولا الأموال ما وليت الأعمال ولأجل ما بينهما من هذه النسبة قيل إن الملك له السكة والخطبة وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا الجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب ويتداوله

كل بعيد وقريب وإن الله أمر بأوامر ونهى عن نواه وهو رقيب وتستفزع الأولياء لها السجايا وتتضرع الخطباء فيها بنعوت الوصايا وتكمل بها المزايا ويتكلم بها الواعظ ويخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا وتسمر بها السمار ويترنم الحادي والملاح ويروق شجوها في الليل المقمر ويرقم على جنب الصباح وتعطر بها مكة بطحاءها وتحيا بحديثها قباه ويلقنها كل أب فهم ابنه ويسأل كل ابن أن يجيب أباه وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين رشد وعليكم بينة وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا بها ما قبل الله أعمالها ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها وأخذها دون بين أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتفاق وأحسن لكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق ولم يبق على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله ويعمل بما ينتفع به من يجيء أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده ويزيد على كل من تقدم ويقيم فروض الحج والجهاد وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد وأمير المؤمنين يقيم على عباده موسم الحج في كل عام ويشمل سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام ويجهز السبيل على عادته ويرجو أن يعود إلى حاله الأول في سالف الأيام ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما البيت المقدس ساكب الغمام ويقوم بقومة قبور الأنبياء صلوات الله عليهم أين كانوا وأكثرهم في الشام والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها وقويم سننها وستزيد في أيام أمير المؤمنين بمن انضم إليه وبما يتسلمه من بلاد الكفار ويسلم على يديه

واما الجهاد فيكتفي باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بأموره المقلد عنه جميع ما وراء سريره وأمير المؤمنين قد وكل إليه خلد الله سلطانه عناء الأيام وقلده سيفه الراعب بوارقه ليسله واجده على الأعداء وإلا سل خباله عليهم في الأحلام ويؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا وانتزاع مابأ بأيديهم من بلاد الإسلام فإنه حقه وإن طال عليه المدى وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا ولا يكف عمن يظفر به منهم قتلا وأسرا ولا يفك أغلالا ولا إصرا ولا ينفك يرسل عليهم في البحر غربانا وفي البر من الخيل عقبانا يحمل فيهما كل فارس صقرا ويحمي الممالك ممن يحوز أطرافها بإقدام ويتخول أكنافها الأقدام وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور وما يحتاج إليه من آلات القتال وما تجتاح به الأعداء ويعجز عنه المحتال وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود ومرابض الأسود والجناح الممدود ويتفقد أحوالهم بالعرض بما لهم من خيل تعقد بالعجاج ما بين السماء والأرض وما لهم من زرد مصون وبيض مسها ذائب ذهب فكانت كأنها بيض مكنون وسيوف قواضب ورماح لكثرة طعنها من الدماء خواضب وسهام تواصل القسي وتفارقها فتحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها تطييب قلوبكم وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم وماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع

المطهر ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر
واما جزئيات الأمور فقد علمتم بأن فيمن تقلد عن أمير المؤمنين غنى عن مثل هذه الذكرى وفتى حق لا يشغل بطلب شيء فكرا وفي ولاة الأمور ورعاة الجمهور ومن هو سداد عمله ومداد أمله ومراد من هو منكم معشر الرعايا من قبله وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين ومن خولكم وأنتم وهم فيما منكم إلا من استعرف أمير المؤمنين وتمشى في مراضي الله على خلقه وينظر ما هو عليه ويسير بسيرته المثلى في طاعة الله في خلقه وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين وله عليكم أداء النصيحة وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة وقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رأفته ولزم حكم بيعته وألزم طائره في عنقه ويستعمل كل منكم في الوفاء ما أصبح به عليما ( ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
هذا قول أمير المؤمنين وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد وما سوى هذا فهو فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد وهو يعمل في ذلك كله ما تحمد عاقبته من الأعمال ويحمل منه ما يصلح به الحال والمال وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال ويستعيذ بالله من الإهمال ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان ويحمد الله وهو من الخلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان والله تعالى يمتع أمير المؤمنين بما وهبه ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه ولا يزال على أسرة العلياء قعوده ولباس الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا ردى مهديه ولا ذهب رشيده

المقصد السادس فيما يكتب في آخر البيعة
إذا انتهى إلى آخر البيعة شرع في كتابة الخواتم على ما تقدم فيكتب

إن شاء الله تعالى ثم يكتب التاريخ ثم الذي يقتضيه قياس العهود أنه يكتب المستند عن الخليفة فيكتب بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي مثلا أعلاه الله تعالى وكأن الخليفة الذي عقدت له البيعة هو الذي أذن في كتابتها
قلت ولو أسقط المستند في البيعات فلا حرج بخلاف العهود لأنها صادرة عن مول وهو العاهد فحسن إضافة المستند إليه بخلاف البيعة فإنها إنما تصدر عن أهل الحل والعقد كما تقدم ويكتفى في المستند عنهم بكتابة خطوطهم في آخر البيعة كما سيأتي ثم بعد كتابة المستند إن كتب تكتب الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الكلام على الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب
ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد والشهود على البيعة
فأما من تولى عقد البيعة من أهل الحل والعقد فيكتب بايعته على ذلك وكتب فلان بن فلان ويدعو في خلال ذلك قبل اسمه بما يناسب مثل أن يقال بايعته على ذلك قدس الله خلافته أو زاد في شرفه أو زاد الله في اعتلائه وما أشبه ذلك
وأما الشهود على البيعة فالواجب أن يكتب كل منهم حضرت جريان عقد البيعة المذكورة وكتب فلان بن فلان كما يكتب الشاهد بجريان عقد النكاح ونحوه ولا بأس أن يدعو في رسم شهادته قبل كتابة اسمه بما يناسب مثل قرنها الله تعالى باليمن أو بالسداد أو عرف الله المسلمين بركتها وما أشبه ذلك

المقصد السابع في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة والقلم الذي تكتب به
وكيفية كتابتها وصورة وضعها
واعلم أن البيعات لم تكن متداولة الاستعمال لقلة وقوعها فلم يكن لها

قطع ورق ولا تصورير متعارف فيتبع ولكنه يؤخذ فيها بالقياس وعموم الألفاظ
فأما قطع ورقها فقد تقدم في الكلام على مقادير قطع الورق نقلا عن محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة أن قطع البغدادي الكامل للخلفاء والملوك ومقتضى ذلك أن البيعات تكتب فيه وهو قياس ما ذكره المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف من أن للعهود قطع البغدادي الكامل على ما سيأتي ذكره
قلت لكن سيأتي في الكلام على عهود الخلفاء أنها الآن قد صارت تكتب في قطع الشامي الكامل وبينهما في العرض والطول بون كبير على ما تقدم بيانه في الكلام على قطع الورق وحينئذ فينبغي أن تكون كتابة البيعات في قطع الشامي مناسبة لما تكتب فيه عهود الخلفاء الآن
وأما القلم الذي يكتب به فبحسب الورق الذي يكتب فيه فإن كتبت البيعة في قطع البغدادي كانت الكتابة بقلم مختصر الطومار إذ هو المناسب له وإن كتبت في قطع الشامي كانت الكتابة بقلم الثلث الثقيل إذ هو المناسب له
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها فقياس ما هو متداول في كتابة العهود وغيرها أنه يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي تكتب به البيعة سطورا متلاصقة لا خلو بينها ممتدة في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير

هامش ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي ذكره ويترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضا من غير كتابة لتصير بوصل الطرة سبعة أوصال ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاته تكاد تلحق الوصل الذي فوقه بهامش عريض عن يمينه قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول البيعة ملاصقا لها ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر جريا على قاعدة العهود وإن لم تكن علامة تكتب كما يخلى بيت العلامة في بعض المكاتبات ولا يكتب فيه شيء ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة في بقية الوصل الذي فيه البسملة ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في أثناء السطر الأول أو الثاني ثم يسترسل في كتابة بقية البيعة ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش كما سيأتي في العهود ويستصحب ذلك إلى آخر البيعة فإذا انتهى إلى آخرها كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم بيانه في الفواتح والخواتم في مقدمة الكتاب ثم يكتب من بايع من أهل الحل والعقد خطوطهم ثم الشهود على البيعة بعدهم
وإن كانت الكتابة في القطع الشامي فينبغي أن ينقص عدد أوصال البياض الذي بين الطرة والبسملة وصلين فتكون خمسة وينقص الهامش فيكون قدر ثلاثة أصابع على ما يقتضيه قانون الكتابة
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا لها بالطرة التي أنشأتها لذلك والبيعة الثانية من البيعتين اللتين أنشأتهما
بياض بأعلى الدرج بقدر إصبع
هذه بيعة ميمونة باليمن مبتدأة بالسعد مقرونة لمولانا السيد الجليل الإمام

النبوي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أمير المؤمنين ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر العباسي زاد الله تعالى شرفه علوا وفخاره سموا قام بعقدها السلطان السيد الأعظم والشاهنشاه المعظم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق خلد الله تعالى سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه بمجمع من أهل الحل والعقد والاعتبار والنقد من القضاة والعلماء والأمراء ووجوه الناس والوزراء والصلحاء والنصحاء وإمضائها على السداد والنجح والرشاد على ما شرح فيه
بياض ستة أوصال
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة وأمنا وأقام

بيت العلامة
تقدير شبر
هامش سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا وشد منها بالعصابة
تقدير ربع ذراع
القرشية أزرا وشاد منها بالعصبة العباسية ركنا وأغاث تقدير ربع ذراع
الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى ثم يأتي على الكلام إلى آخر البيعة على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا )
إن شاء الله تعالى
كتب في الثاني من جمادى الأولى مثلا
سنة إحدى وتسعين وسبعمائة
بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي مثلا أعلاه الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل

بايعته على ذلك بايعته على ذلك بايعته على ذلك
قدس الله تعالى خلافته زاد الله تعالى في شرفه زاد الله تعالى في اعتلائه
وكتب وكتب وكتب
فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان
حضرت حضرت حضرت
جريان عقد جريان عقد جريان عقد
البيعة المذكورة البيعة المذكورة البيعة المذكورة
قرنها الله تعالى قرنها الله تعالى عرف الله المسلمين
باليمن والبركة بالسداد بركتها
وكتب وكتب وكتب
فلان بن فلان فلان بن فلان فلان بن فلان

النوع الثاني من البيعات بيعات الملوك
واعلم أن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر في التعريف أن من قام من الملوك بغير عهد ممن قبله لم تجر العادة بأن تكتب لهم مبايعة وكأنه يريد اصطلاح بلاد المشرق والديار المصرية أما بلاد المغرب فقد جرت عادة مصطلحهم بكتابة البيعات لملوكهم وذلك أنه ليس عندهم خليفة يدينون له يتقلدون الملك بالعهد منه بل جلهم أو كلهم يدعي الخلافة فهم يكتبون البيعات لهذا المعنى

وهذه نسخة بيعة من هذا النوع كتب بها للسلطان أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي الحجاج بن نصر بن الأحمر الأنصاري صاحب حمراء غرناطة من الأندلس مفتتحة بخطبة على قاعدتهم في بيعات الخلفاء على ما تقدم ذكره وربما تكرر الحمد فيها دلالة على عظم النعمة من إنشاء الوزير أبي عبد الله محمد بن الخطيب صاحب ديوان إنشائه على ما رأيته في ديوان ترسله وهي
الحمد لله الذي جل شانا وعز سلطانا وأقام على ربوبيته الواجبة في كل شيء خلقه برهانا الواجب الوجود ضرورة إذ كان وجود ما سواه إمكانا الحي القيوم حياة أبدية سرمدية منزهة عن الابتداء والانتهاء فلا تعرف وقتا ولا

تستدعي زمانا العليم الذي يعلم السر وأخفى فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا أحاط بها علما وأدركها عيانا القدير الذي ألقت الموجودات كلها إلى عظمته يد الخضوع استسلاما له وإذعانا المريد الذي بمشيئته تصريف الأقدار واختلاف الليل والنهار فإن منع منع عدلا وإن منح منح إحسانا شهد تداول الملوك بدوام ملكه ودل حدوث ما سواه على قدمه وأثنت ألسنة الحي والجماد على مواهبه وقسمه وفاض على عوالم السماء والأرض بحر جوده العميم النوال من قبل السؤال وكرمه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ويثني على نعمه سرا وإعلانا فهو الله الذي لا إله إلا هو ليس في الوجود إلا فعله ألا له الخلق والأمر وإليه يرجع الأمر كله وسع الأكوان على تباينها فضله وقدر المواهب والمقاسم عدله منعا ومنحا وزيادة ونقصانا
والحمد لله الذي بيده الاختراع والإنشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء سبق في مكنون غيبه القضاء وخفيت عن خلقه الأسباب وعميت عليهم الأنباء وعجزت عقولهم أن تدرك منها كنها أو تكشف منها بيانا
والحمد لله الذي رفع قبة السماء ما اتخذ لها عمادا وجعل الأرض فراشا

ومهادا وخلق الجبال الراسية أوتادا ورتب أوضاعها أجناسا متفاضلة وأنواعا متباينة متقابلة فحيوانا ونباتا وجمادا وأقام فيها على حكمة الإبداع دلائل باهرة الشعاع وأشهادا وجعل الليل والنهار خلفة والشمس والقمر حسبانا وقدر السياسة سياجا لعالم الإنسان يضم منه ما انتشر ويطوي من تعديه ما نشر ويحمله على الآداب التي ترشده إذا ضل وتقيمه إذا عثر وتجبره على أن يلتزم السنن ويتبع الأثر لطفا منه شمل البشر وحنانا
ولما عمر الأرض بهذا الجنس الذي فضله وشرفه ووهب له العقل الذي تفكر به في حكمته حتى عرفه وبما يجب لربوبيته الواجبة وصفه جعلهم درجات بعضها فوق بعض فقرا وغنى وطاعة وعصيانا واختار منهم سفرة الوحي وحملة الآيات وأرسل فيهم الرسل بالمعجزات وعرفهم بما كلفهم من الأعمال المفترضات ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) يوم اعتبار الأعمال واعتبار الحسنات ونصب العدل والمجازاة في يوم العرض عليه قسطاسا وميزانا
نحمده وله الحمد في الأولى والآخرة ونثني على مواهبه الجمة وآلائه الوافرة ونمد يد الضراعة في موقف الرجاء والطماعة إلى المزيد من مننه

الهامية الهامرة ونسأله دوام ألطافه الخافية وعصمه الظاهرة واتصال نعمه التي لا نزال نتعرفها مثنى ووحدانا ونشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة نجدها في المعاد عدة واقية ووسيلة للأعمال الصالحة إليه راقية وذخيرة صالحة باقية ونورا يسعى بين أيدينا ويكون على الرضا والقبول فينا عنوانا ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا النبي العربي القرشي الهاشمي عبده ورسوله الذي اصطفاه واختاره ورفع بين النبيين والمرسلين مقداره وطهر قلبه وقدس أسراره وبلغه من رضاه اختياره وأعطاه لواء الشفاعة يقفو آدم ومن بعده من الأنبياء الكرام آثاره وجعله أقرب الرسل مكانة وأرفعهم مكانا رسول الرحمة ونور الظلمة وإمام الرسل الأئمة الذي جمع له بين مزية السبق ومزية التتمة وجعل طاعته من العذاب المقيم أمانا صاحب الشفاعة التي تؤمل والوسيلة التي إلى الله بها يتوسل والدرجة التي لم يؤتها الملك المقرب ولا النبي المرسل والرتبة التي لم يعطها الله سواه إنسانا انتخبه من أشرف العرب أما وأبا وأزكى البرية طينة وأرفعها نسبا وابتعثه إلى كافة الخلق عجما وعربا وملأ بنور دعوته البسيطة جنوبا وشمالا ومشرقا ومغربا وأنزل عليه كتابه الذي آمنت به الجن لما سمعته وقالوا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا ) تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وتبيانا فصدع بأمر من اختار ذاته الطاهرة واصطفاها وأدى أمانة الله ووفاها ورأى الخلائق على شفى المتالف فتلافاها وتتبع أدواء الضلال فشفاها ومحا معالم الجهل وعفاها وشاد للخلق في الحق بنيانا مؤيدا بالمعجزات التي حجحها تقبل وتسلم

فمن جذع لفراقه يتألم وجماد بصدق نبوته يتكلم وجيش شكا الظمأ ففجر لديه المعين منه بنانا وأي معجزة ككتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه فهو اليم والعلوم النافعة كلها مذانبه وأفق الحق الذي تهدي في ظلمات البر والبحر كواكبه والحجة البالغة التي أصبحت بين الحق والباطل فرقانا فأشرقت الأرض بنور ربها وآياته وتمت كلمة الله صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وبلغ ملك أمته ما زوي له من أقطار المعمور وجهاته حتى عمر من أكناف البسيطة وأرياف البحار المحيطة وهادا وكثبانا ونقلت كنوز كسرى بعز دعوته الغالبة وظفرت بفلج الخصام أيدي عزائمها المطالبة وأصبح إيوان فارس مجر رماح العرب العاربة وقذفت قيصر من ذوابلها بالشهب الثاقبة حتى فر عن مدرته الطيبة آئبا بالصفقة الخائبة وخلصت إلى فسطاط مصر بكتائبها المتعاقبة فلا تسمع الآذان في إقامتهم إلا إقامة وأذانا ولا دليل أظهر من هذا القطر الأندلسي الغريب الذي خلصت إليه سيوفها أثباج البحار على بعد المراحل ونزوح الديار وتكاثف العمالات واختلاف الأمصار ومنقطع العمارة بأقصى الشمال ومحط السفار طلعت عليه كلمة الله طلوع النهار واستوطنته قبائل العرب الأحرار وأرغمت فيه أنوف الكفار ضرابا في سبيل الله وطعانا
ولما استقام الدين وتمم معالم الإيمان الرسول الأمين وظهر الحق المبين وراق من وجه الملة الحنيفية السمحة الجبين وأخذ المسالك والمآخذ

الإفصاح والتبيين وتقررت المستندات المعتمدات سنة وقرآنا أشهره الوحي بالرحلة عن هذه الدار والانتقال إلى محل الكرامة ودار القرار وخيره الملك فاختار الرفيق الأعلى موفقا إلى كرم الاختيار ووجد صحبه رضي الله عنهم في الاستخلاف بعده والإيثار حججا مشرقة الأنوار أطلقت بالحق يدا وأنطقت بالصدق لسانا صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وأسرته الطاهرة وعصابته وأنصاره وأصهاره وقرابته الذين كانوا في معاضدته إخوانا وعلى إعلاء إمرة الحق أعوانا نجوم الملة وأقمارها وغيوثها الهامية وبحارها وسيوف الله التي لا تنبو شفارها وأعلام الهدى التي لا تبلى آثارها ودعائم الدين التي رفعت منه على البر والتقوى أركانا
وحيا الله وجوه حي الأنصار بالنعيم والنضرة اولي البأس عند الحفيظة والعفو عند القدرة والراضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ويذهبوا برسول الله فنعمت المنقبة والأثرة الحائزون ببيعة الرضوان فضلا من الله ورضوانا ووزراؤه وظهراؤه في كل أمر وخالصته يوم أحد وبدر لم يزالوا صدرا في كل قلب وقلبا في كل صدر يصلون دونه كل جمر ويفدونه بنفوسهم في كل سر وجهر ويعملون في إعلاء دينه بيضا عضابا وسمرا لدانا صلاة لا تزال سحائبها ثرة وتحية دائمة مستمرة ما لهجت الألسن بثنائهم

ووقفت المفاخر على عليائهم وتعلمت المواهب من آلائهم وقصرت المحامد على مسمياتهم وأسمائهم وكان حبهم على الفوز بالجنة ضمانا
ونسألك اللهم لهذا الأمر النصري الذي سببه بسببهم موصول وهم لفروعه السامية أصول فيالها من نصول خلفتها نصول أنجزت وعد النصر وهو ممطول وأحيت ربوع الإيمان وهي طلول نصرا عزيزا وفتحا مبينا وتأييدا على أعدائك وتمكينا وملكا يبقى في الأعقاب وأعقاب الأعقاب وسلطانا وأعنا اللهم على ما أوجبت له من مفروض الطاعة وتأدية الحق بجهد الاستطاعة واعصمنا بإيالته العادلة من الإضاعة واحملنا من مرضاته على سنن السنة والجماعة واجعلها كلمة باقية في عقبه إلى قيام الساعة ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا )
أما بعدما افتتح به من تحميد الله وتمجيده والثناء الذي تتعطر الأندية بترديده فإن من المشهور الذي يعضده الوجود ويؤيده والمعلوم الذي هو كالشمس ضل من ينكره او يجحده والذائع بكل قطر توريه رواة الأنباء وتسنده ما عليه هذا الملك النصري الحمى الأنصاري المنتمى الذي يصيب شاكلة الحق إذا رمى ويعم العباد والبلاد غيثة مهما همى من أصالة الأعراق وكرم الأخلاق والفضل الباهر الإشراق والجهاد الذي هو سمر الركب وحديث الرفاق وإن قومه الملوك الكرام إن فوخروا بنسب ذكروا سعد بن عبادة ومجده أو كوثروا بعدد غلبوا بالله وحده أو استنصروا فرجوا كل شدة واستظهروا

من عزهم الموهوب وصبرهم على الخطوب بكل عدد وعدة دارهم الثغر الأقصى ونعمت الدار وشعارهم لا غالب إلا الله ونعم الشعار زهاد إذا ذكر الدين أسود إذا حميت الميادين جبال إذا زحفت الصفوف بدور إذا أظلمت الزحوف غيوث إذا منع المعروف أفراد إذا ذكرت الألوف إن بويعوا فالملائكة وفود وحملة العلم وحملة السلاح شهود وإن ولدوا فالسيوف تمائم والسروج مهود وإن أصحروا للعدو فالظلال بنود وجنود السبع الطباق جنود وإن أظلم الليل أسهروا جفونهم في حياطة المسلمين والجفون رقود
وإن هذا القطر الذي انتهى سيل الفتح الأول إلى ناحيته وأحيلت قداح الفوز بالدعوة الحنيفية على الأقطار فأخذ الإسلام بناصيته كان من فتحه الأول ما قد علم حسب ما سطر ورسم وإن موسى بن نصير وفتاه حل من فرضه مجازه محل موسى وفتاه وحل الإسلام منه دار قرار وخطة خليقة بارتياد واختيار وبلدا لا يحصى خيره ولا يفضله بشيء من المزية ما عدا الحرمين غيره وامتدت الأيام حتى تأنس العدو لروعته وخف عليه ما كان من صرعته وقدح فأورى وأعضل داؤه واستشرى وصارت الصغرى التي كانت الكبرى فلولا أن الله عمد الدين منهم بالعمدة الوثيقة حماة الحقيقة

وأئمة الخليقة وسلالة مفتتحي اليمامة ومفتتحي الحديقة لأجهز النصل واجتث من الدين الفرع والأصل لكنهم انتدبوا إلى إمساك الدين بها انتدابا ووصلوا للإسلام أسبابا وتناولها منهم صقر قبيل الخزرج ذو الحسام المضرج والثناء المؤرج أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر أمير المسلمين المنتدب لإقامة سنة سيد المرسلين قدوة الملوك المجاهدين نضر الله وجهه وتقبل جهاده وشكر دفاعه عن حوزة الإسلام وجلاده فأقشعت الظلمة وتماسكت الأمة وكف العدو وأقصر ورأى الإسلام بمن استنصر واستبصر في الطاعة من استبصر وهبت بنصر الله العزائم وكثرت على العدو الهزائم وتوارثوا ملكها ولدا عن أب مستندين إلى عدل وبذل وبسالة وجلالة وحسب تتضح في أفق الجلال نجوم سيرهم هادية للسائرين وتفرق من سطواتهم في الله أسود العرين إلى أن قام بالأمر وسطى سلكهم وبركة ملكهم الخليفة الواجب الطاعة بالحق على الخلق الشهير الجلالة والبسالة في الغرب والشرق أمير المسلمين بواجب الحق ساحب أذيال العفاف والطهارة السعيد الإيالة والإمارة البعيد الغارة من ذعر العدو لبأس حسامه وذخر الفتح الهني لأيامه صدر الملوك

المجاهدين وكبير الخلفاء العادلين البعيد المدى في حماية الدين السعيد الشهيد أبو الوليد ابن المولى الهمام الأوحد الرفيع الممجد الطاهر الظاهر الأعلى الرئيس الكبير الجليل المقدس الأرضى أبي سعيد بن أبي الوليد بن نصر فأحيا رحمه الله معالم الكتاب والسنة وجلى بنور عدله غياهب الدجنة وأعز الإسلام وحماه ورمى ثغرة الكفر فأصماه قدس الله روحه الطيب وسقى لحده من الرحمة الغمام الصيب وأورث الملك الجهادي من ولده خير ملك قبلت منه كف واستدار به موكب للجهاد ملتف وشمخ بخدمته أنف وسما إلى مشاهدته طرف وتأرج من ذكره عرف وجرى إلى بابه حرف مولانا الملك الهمام الخليفة الإمام من أشرق بنور إيالته الإسلام وتشرفت بوجوده الليالي والأيام بدر الملك وشمسه وسر الزمان الذي قصر عن يومه أمسه الذي اشتهر عدله وبهر فضله وظهرت عليه عناية ربه وكان الخضوع له في سلمه وحربه مولانا أمير المسلمين وقدوة الملوك المجاهدين والأئمة العارفين السعيد الشهيد الطاهر الظاهر الأوحد الهمام الخليفة الإمام أبو الحجاج رفع الله درجته في أوليائه وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من أنبيائه وشهدائه فوضحت المسالك وبانت وأشرقت المعاهد وازدانت وشمل الصنع الإلهي واللطف الخفي أقطار هذه الأمة حيث كانت ولما اختار الله له ما عنده وبلغ الأمد الذي

قدره سبحانه لحياته وحده وقبضه إليه مستغفرا لذنبه مطمئنا في الحالة التي أقرب ما يكون العبد فيها من ربه كأنما تأهب للشهادة فاختار مكانها وزمانها وطهر بالصوم نفسه التي كرم الله شانها وطيب روحها وريحانها فوقعت آراء أرباب الشورى التي تصح الإمامة باتفاقها وتنعقد بعقد ميثاقها من أعلام العلم بقاعدة ملكه غرناطة حرسها الله تعالى التي غيرها لها تبع وحماة الإسلام الذين في آرائهم للدين والدنيا منتفع وخلصان الثقات ووجوه الطبقات على مبايعة وارث ملكه بحقه الحائز في ميدان الكمال وإحراز ما للإمامة من الشروط والخلال خصل سبقه كبير ولده وسابق أمده ووارث ملكه ووسطى سلكه وعماد فسطاطه وبدر الهالة من بساطه مولانا قمر العلياء ودرة الخلفاء وفرع الشجرة الشماء التي أصلها ثابت وفرعها في السماء الذي ظهرت عليه مخايل الملك ناشئا ووليدا واستشعرت الأقطار به وهو في المهد أمانا وتمهيدا واستشرف الدين الحنيف فأتلع جيدا واستأنف شبابا جديدا ناصر الحق وغياث الخلق الذي تميز بالسكينة والوقار والحياء المنسدل الأستار والبسالة المرهوبة الشفار والجود المنسكب الأمطار والعدل المشرق الأنوار وجمع الله فيه شروط الملك والاختيار مولانا وعمدة ديننا ودنيانا السلطان الفاضل والإمام العادل والهمام الباسل الكريم الشمائل شمس الملك وبدره وعين الزمان وصدره أمير المسلمين وقرة أعين المؤمنين أبو عبد الله وصل الله

أسباب سعده كما حلى أجياد المنابر بالدعاء لمجده وجعل جنود السماء من جنده ونصره بنصره العزيز فما النصر إلا من عنده ورأوا أن قد ظفرت بالعروة الوثقى أيديهم وأمن في ظل الله رائحهم وغاديهم ودلت على حسن الخواتم مباديهم فتبادروا وانثالوا وتبختروا في ملابس الأمن واختالوا وهبوا إلى بيعته تطير بهم أجنحة السرور ويعلن انطلاق وجوههم بانشراح الصدور واجتمع منهم طوائف الخاصة والجمهور ما بين الشريف والمشروف والرؤساء أولي المنصب المعروف وحملة العلم وحملة السيوف والأمناء ومن لديهم من الألوف وسائر الكافة أولي البدار لمثلها والخفوف فعقدوا له البيعة الوثيقة الأساس السعيدة بفضل الله على الناس البريء عهدها من الارتياب والالتباس الحائزة شروط الكمال الماحية بنور البيان ظلم الإشكال الضمينة حسن العقبى ونجح المال على ما بويع عليه رسول الله ومن له من الصحابة والآل وعلى السمع والطاعة وملازمة السنة والجماعة فأيديهم في السلم والحرب ردء ليده وطاعتهم إليه خالصة في يومه وغده وأهواؤهم متفقة في حالي الشدة والرخاء وعقودهم محفوظة على تداول السراء والضراء أشهدوا عليها الله وكفى بالله شهيدا وأعطوا صفقات أيمانهم تثبيتا للوفاء بها وتأكيدا وجعلوا منها في أعناقهم ميثاقا وثيقا وعهدا شديدا والله عز و جل يقول ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) ومن أصدق من الله وعدا أو

وعيدا وهم قد بسطوا أيديهم يستنزلون رحمة الله بالإخلاص والإنابة وصرفوا وجوههم إلى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة يسألونه خير ما يقضيه والسير على ما يرضيه
اللهم بابك عند تقلب الأحوال عرفنا ومن بحر نعمك العميمة اغترفنا وعفوك ستر من عيوبنا كل ما اجترحنا السيئات واقترفنا ومن فضلك أغنيتنا وبعينك التي لا تنام حرستنا وحميتنا فانصر حينا وارحم ميتنا وأوزعنا شكر ما أوليتنا واجعل لنا الخير والخيرة فيما إليه هديتنا
اللهم إن قطرنا من مادة الإسلام بعيد وقد أحدق بنا بحر زاخر وعدو شديد وفينا أيم وضعيف وهرم ووليد وأنت مولانا ونحن عبيد اللهم من بايعناه في هذا العقد فأسعدنا بمبايعته وطاعته وكن له حيث لا يكون لنفسه بعد استنفاد جهده في التحفظ واستطاعته وكف عنه كف عدوك وعدوه كلما هبت به رياح طماعته يا من يفرده العبد بضراعته ويعوذ بحفظه من إضاعته
اللهم أد عنا حقه فإنا لا نقوى على أدائه وتول عنا شكر ما حمدناه من سيرته وسيرة آبائه واحمله من توفيقك على سوائه
اللهم إنا إليه ناظرون وعن أمره صادرون ولإنجاز وعدك في نصر من ينصرك منتظرون فأعنه على ما قلدته وأنجز لديننا على يديه ما وعدته فما فقد شيئا من وجدك ولا خاب من قصدك ولا ضل من اعتمدك آمين آمين يا رب العالمين

وكتب الملأ المذكورون أسماءهم بخطوط أيديهم في هذا الكتاب شاهدة عليهم بما التزموه دنيا ودينا وسلكوا منه سبيلا مبينا وذلك في الثاني والعشرين لشوال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة
قلت وقد أخبر آخر هذه البيعة بأن المبايعين للسلطان تؤخذ خطوط أيديهم في كتاب البيعة شاهدة عليهم بما بايعوا عليه والظاهر أن كتابة البيعة عندهم كما في مكاتباتهم في طومار واحد كبير متضايق السطور وأنه ليس له طرة بأعلاه كما في كتابة المصريين

الباب الثالث من المقالة الخامسة في العهود وفيه فصلان
الفصل الأول في معنى العهد
العهد لفظ مشترك يقع في اللغة على ستة معان
أحدها الأمان ومنه قوله تعالى ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم )
الثاني اليمين ومنه قوله تعالى ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم )
الثالث الحفاظ ومنه قوله حسن العهد من الإيمان
الرابع الذمة ومنه قوله لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده
الخامس الزمان ومنه قولهم كان ذلك على عهد فلان

السادس الوصية ومنه قوله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) وهو المراد هنا
قال الجوهري ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة

الفصل الثاني في بيان أنواع العهود وهي ثلاثة أنواع
النوع الأول عهود الخلفاء عن الخلفاء ويتعلق النظر به من ثمانية أوجه
الوجه الأول في أصل مشروعيتها
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل لعمر عند موته ألا تعهد فقال أأتحمل أمركم حيا وميتا إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله فأثبت استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بذلك مشيرا إلى ما روي أنه لما اشتد بأبي بكر الصديق رضي الله عنه الوجع أرسل إلى علي وعثمان ورجال من المهاجرين والأنصار فقال قد حضر ما ترون ولا بد من قائم بأمركم فإن شئتم استخرتم لأنفسكم وإن شئتم استخرت لكم قالوا بل اختر لنا فأمر عثمان فكتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما سيأتي ذكره فقال عمر لا أطيق القيام بأمور

الناس فقال أبو بكر هاتوا سيفي وتهدده فانقاد عمر ثم دخل عليه طلحة فعاتبه على استخلاف عمر فقال إن عمر والله خير لكم وأنتم شر له والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني وقد وكفت عينك تريد أن تفتنني عن ديني وتردني عن رأيي قم لا أقام الله رجلك والله لئن بلغني أنك غمصته وذكرته بسوء لألحقنك بحمضات قنة حيث كنتم تسقون ولا تروون وترعون ولا تشبعون وأنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج
قال العسكري الحمضات جمع حمضة ضرب من النبت والقنة أعلى الجبل
قال الماوردي وكان استخلاف أبي بكر رضي الله عنه عمر باتفاق من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا
وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى ستة وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص وتركها شورى بينهم فدخلوا فيها وهم أعيان العصر وأشراف الصحابة رضوان الله عليهم

الوجه الثاني في معنى الاستخلاف
قال البغوي رحمه الله في كتابه التهذيب في الفقه الاستخلاف أن

يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعده قال ولو أوصى بالإمامة فوجهان لأنه يخرج بالموت عن الولاية فلا يصح منه تولية الغير واستشكل الرافعي رحمه الله هذا التوجيه بكل وصية وبأن ما ذكره من جعله خليفة بعده إن أريد به استنابته فلا يكون ذلك عهدا إليه بالإمامة وإن أريد جعله إماما في الحال فهو إما خلع نفس العاهد وإما اجتماع إمامين في وقت واحد وإن أريد جعله خليفة أو إماما بعد موته فهو الوصية من غير فرق
قلت وهذا جنوح من الرافعي رحمه الله إلى صحة الخلافة بالوصية أيضا كما تصح بالاستخلاف

الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة العهد بالخلافة أمورا
منها براعة الاستهلال بذكر ما يتفق له من معنى الخلافة والإمامة واشتقاقهما وحال الولاية ولقب العاهد والمعهود إليه ولقب الخلافة إلى غير ذلك مما سبق بيانه في الكلام على البيعات
ومنها أن ينبه على شرف رتبة الخلافة وعلو قدرها ورفعة شأنها ومسيس الحاجة إلى الإمام ودعاية الضرورة إليه ونحو ذلك مما سبق في البيعات أيضا
ومنها أن ينبه على اجتماع شروط الإمامة في المعهود إليه من حين

صدور العهد بها من العاهد فقد قال الماوردي إنه تعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه من وقت العهد حتى لو كان المعهود إليه صغيرا أو فاسقا وقت العهد وبالغا عدلا عند الموت لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته قال الرافعي رحمه الله وقد يتوقف في هذا قال النووي رحمه الله في الروضة لا توقف والصواب ما قاله الماوردي
ومنها أن ينبه على اجتهاد العاهد وتروي نظره في حقية المعهود إليه فقد قال الماوردي وإذا أراد الإمام أن يعهد بالإمامة فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها فإذا تعين له الاجتهاد في أحد عهد إليه
ومنها أن يشير إلى تقدم الاستخارة على العهد وان استخارته أدته إلى المعهود إليه فإن الاستخارة أمر مطلوب في كل أمر خصوصا أمر المسلمين وعموم الولاية عليهم فإن اختيار الله للخلق خير من اختيارهم لأنفسهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
ومنها أن ينبه على أن عهده إليه بعد مشورة أهل الاختيار ومراجعتهم في

ذلك وتصويبهم له خروجا من الخلاف فقد حكى الرافعي رحمه الله وجهين فيما إذا كان المعهود إليه أجنبيا من العاهد ليس بولد ولا والد هل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة له وتفويض العهد إليه ولا يستشير فيه أحدا أصحهما الجواز لأن العهد إلى عمر رضي الله عنه لم يوقف على رضا الصحابة رضوان الله عليهم ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ
وحكى الماوردي في جواز انفراد العاهد بالبيعة فيما إذا كان المعهود إليه والدا أو ولدا ثلاثة مذاهب
أحدها ما اقتصر الرافعي رحمه الله على نسبته إلى الماوردي ومقتضى كلامه ترجيحه أنه يجوز الانفراد بعقدها للولد والوالد جميعا لأنه أمير للأمة نافذ الأمر لهم وعليهم فغلب حكم المنصب على حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقا على أمانته ولا سبيلا إلى معارضته
والثاني أنه لا يجوز انفراده بها لولد ولا والد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها فيصح منه حينئذ عقد البيعة لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم والشهادة والحكم ممتنعان من الولد والوالد للتهمة لما جبل عليه من الميل إليهما
والثالث أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده دون ولده لأن الطبع إلى الولد أميل فأما عقدها لأخيه وغيره من الأقارب والمناسبين فكعقدها للأجانب في جواز الانفراد بها
ومنها أن ينبه على العلم بحياة المعهود إليه ووجوده إن كان غائبا فقد قال الماوردي إنه لو عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصح عهده وإن كان معلوم الحياة صح ويكون موقوفا على قدومه
ومنها أن ينبه على أن المعهود إليه منصوص عليه بمفرده أو وقع العهد شورى في جماعة وأفضت الخلافة إلى واحد منهم بإخراج الباقين أنفسهم منها

أو اختيار أهل الحل والعقد أحدهم إذ يجوز للخليفة أن يعهد إلى اثنين فأكثر من غير تقديم البعض على البعض ويختار أهل الاختيار بعد موته واحدا ممن عهد إليه فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها شورى في ستة فقال الأمر إلى علي وبإزائه الزبير بن العوام وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقاص فلما توفي عمر رضي الله عنه جعل الزبير أمره إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف فخرج منها ثلاثة وبقيت شورى في عثمان وعلي ثم بايع علي عثمان والمعنى في الشورى أنه لا يجوز أن تجعل الإمامة بعد العاهد في غير المعهود إليهم
ومنها أن ينبه على عدد المعهود إليهم وترتيبهم إن كان قد رتب الخلافة في أكثر من واحد إذ يجوز أن يعهد إلى اثنين فأكثر على الترتيب فلو رتب الخلافة في ثلاثة مثلا فقال الخليفة بعدي فلان فإذا مات فالخليفة بعده فلان فإن مات فالخليفة بعد فلان جاز وكانت الخلافة منتقلة إليهم على ما رتبها ففي صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله استخلف على جيش مؤتة زيد بن حارثة وقال إن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا فتقدم زيد فقتل فأخذ الراية جعفر وتقدم فقتل فأخذ الراية

عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل فاختار المسلمون بعد خالد بن الوليد قال الماوردي وإذا جاز ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة قال وقد عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر
فعهد سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك وأقره عليه من عاصره من الناس ومن لا تأخذه في الله لومة لائم
ورتبها الرشيد في ثلاثة من بنيه الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن من غير مشورة من عاصره من فضلاء العلماء
ولو قال العاهد عهدت إلى فلان فإن مات فلان بعد إفضاء الخلافة إليه فالخليفة بعده فلان لم تصح خلافة الثاني ولم ينعقد عهده بها لأنه لم يعهد إليه في الحال وإنما جعله ولي عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأول وقد يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها منبرما
ومنها أن ينبه على أن صدور العهد في حال نفوذ أمر العاهد وجواز تصرفه فإنه لو أراد ولي العهد قبل موت العاهد أن يرد ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز لأن الخلافة لا تستقر إلا بعد موت المستخلف وكذا لو قال جعلته ولي عهد إذا أفضت الخلافة إلي لم يجز لأنه ليس في الحال بخليفة فلم يصح عهده بالخلافة
ومنها أن ينبه على قبول المعهود إليه العهد فإنه إذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه كان العهد موقوفا على قبول

المعهود إليه فإن قبل صح العهد وإلا فلا حتى لو امتنع من القبول بويع غيره والعبرة في زمن القبول بما بين عهد العاهد وموته على الأصح لتنتقل عنه الإمامة إلى المعهود إليه مستقرة بالقبول المتقدم وقيل إنما يكون القبول بعد موت العاهد لأنه الوقت الذي يصح فيه نظر المعهود إليه
ومنها أن يورد من وصايا العاهد للمعهود إليه ما يليق به وقد ذكر الماوردي أن الذي يلزمه من أمور الأمة عشرة أشياء
أحدها حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة وأنه إن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من الخلل والأمة ممنوعة من الزلل
الثاني تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم
الثالث حماية البيضة والذب عن الحرم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال
الرابع إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك
الخامس تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما أو يسفكون فيها لمسلم او معاهد دما
السادس جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في

الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله
السابع جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير حيف ولا عسف
الثامن تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير
التاسع استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأحوال لتكون الأعمال بالكفاة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة
العاشر أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة فقد يخون الأمين ويغش الناصح وقد قال تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) فلم يقتصر الله تعالى على التفويض دون المباشرة بل أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه وقد قال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ولله در محمد بن يزداد وزير المأمون حيث قال مخاطبا له - بسيط

( من كان حارس دنيا إنه قمن ... أن لا ينام وكل الناس نوام )
( وكيف ترقد عينا من تضيفه ... همان من أمره حل وإبرام )
وحينئذ فيجب على الكاتب أن يضمن هذه الأمور العشرة في وصايا المعهود إليه وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف في وصية ولي العهد بالخلافة ومن في معناه من الملوك وولاة عهدهم هذه الأمور ممتزجة بأمور أخرى من مهمات الملك وحسن تدبيره وسياسته
قلت إنما يحسن إيراد هذا كله في وصايا ولاة العهد إذا كان الأمر على ما كانت الخلافة عليه أولا من عموم التصرف أما الآن فالواجب أن يقتصر في وصاياهم على حسن التأتي في العهد بالسلطنة لمن يقوم بأعبائها وأن يكون ما تقدم مختصا وصايا الملوك في العهود عن الخلفاء

الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة وهو تلخيص ما يتضمنه العهد
وهذه نسخة طرة أنشأتها لينسج على منوالها وهي
هذا عهد إمامي قد علت جدوده وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده وفصلت الجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بالخلافة المقدسة لولده السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين

أبي الفضل العباس بلغه الله فيه غاية الأمل وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أمير المؤمنين وقد فعل على ما شرح فيه

الوجه الخامس فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب
وهو كما سيأتي في الطريقة الثانية من المذهب الأول مما يكتب في متن العهد من كلام المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أنه يقال فيه الأمير السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي فلان فلان وفي المذهب الثالث فيما كتب به للمستوثق بن المستكفي ما يوافقه وقد تقدم أنه لايقع في ألقابهم إطناب ولا تعدد ألقاب فليقتصر على ذلك أو ما يشابهه
الوجه السادس فيما يكتب في متن العهد وفيه ثلاثة مذاهب
المذهب الأول أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ هذا
مثل هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا عهد من فلان لفلان أو هذا كتاب أكتتبه فلان لفلان ونحو ذلك
وللكتاب فيه طريقتان
الطريقة الأولى طريقة المتقدمين
وهي أن لا يأتي بخطبة في أثناء العهد ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أو يتعرض لذلك باختصار ثم يأتي بالوصايا ثم يختمه بالسلام أو بالدعاء أو بغير ذلك مما يناسب وعلى ذلك كانت عهود السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اتباعا للصديق رضي الله عنه فيما كتب به لعمر بن الخطاب كما تقدمت الإشارة إليه في الاستشهاد

ونسخته فيما رواه البيهقي في السنن واقتصر عليه الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذلك ظني به وإن بدل أو غير فلا علم لي بالغيب والخير أردت بكم ولكل امريء ما اكتسب من الإثم ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل عن المدائني أنه حين دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه لكتابة العهد بالخلافة بعده قال اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا نازحا

عنها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وقد استخلف ثم دهمته غشية فكتب عثمان عمر بن الخطاب فلما أفاق قال أكتبت شيئا قال نعم عمربن الخطاب قال رحمك الله أما إنك لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها أكتب قد استخلف عمر بن الخطاب ورضيه لكم فإن عدل فذلك ظني به ورأيي فيه وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت والخير أردت ولا أعلم الغيب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
وعلى هذه الطريقة كتب عهد عمر بن عبد العزيز بالخلافة عن سليمان بن عبد الملك ثم من بعده إلى اخيه يزيد بن عبد الملك
وهذه نسخته فيما ذكره ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء
هذا ما عهد به عبد الملك سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين عهد أنه يشهد لله عز و جل بالربوبية والوحدانية وأن محمدا عبده ورسوله بعثه إلى محسني عبادة بشيرا وإلى مذنبيهم نذيرا وأن الجنة والنار مخلوقتان حقا خلق الجنة رحمة وجزاء لمن أطاعه والنار نقمة وجزاء لمن عصاه وأوجب العفو جودا وكرما لمن عفا عنه وأن إبليس

في النار وأن سليمان مقر على نفسه بما يعلم الله من ذنوبه وبما تعلمه نفسه من معصية ربه موجبا على نفسه استحقاق ما خلق من النقمة راجيا لنفسه ما خلق من الرحمة ووعد من العفو والمغفرة وأن المقادير كلها خيرها وشرها مقدورة بإرادته مكونة بتكوينه وأنه الهادي فلا مغوي ولا مضل لمن هداه وخلقه لرحمته وأنه يفتن الميت في قبره بالسؤال عن دينه ونبيه الذي أرسل إلى أمته لا منجى لمن خرج من الدنيا إلى الآخرة من هذه المسألة إلا لمن استثناه عز و جل في علمه وسليمان يسأل الله الكريم بواسع فضله وعظيم منه الثبات على ما أسر وأعلن من معرفة حقه وحق نبيه عند مسألة رسله والنجاة من هول فتنة فتانيه ويشهد أن الميزان يوم القيامة حق يقين يزن سيئات المسيئين وحسنات المحسنين ليري عباده من عظيم قدرته ما أراده من الخير لعباده بما لم يكونوا يحتسبون وأن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه يومئذ فأولئك هم الخاسرون وأن حوض محمد رسول الله يوم المحشر والموقف للعرض حق وأن عدد آنيته كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ أبدا وسليمان يسأل الله بواسع رحمته أن لا يرده عن حوض نبيه عطشان وأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة بعد نبينا والله يعلم بعدهما حيث الخير وفيمن الخير من هذه الأمة وأن هذه الشهادة كلها المذكورة في عهده هذا يعلمها الله من سره وإعلانه وعقد ضميره وأنه بها عبد ربه في سالف أيامه وماضي عمره وعليها أتاه يقين ربه وتوفاه أجله

وعليها يبعث بعد موته إن شاء الله وأن سليمان كانت له بين هذه الشهادة بلايا وسيئات لم يكن له عنها محيد ولا بد جرى بها المقدور من الرب النافذ إلى اتمام ما حد فإن يعف ويصفح فذاك ما عرف منه قديما ونسب إليه حديثا وتلك صفته التي وصف بها نفسه في كتابه الصادق وكلامه الناطق وإن يعاقب وينتقم فبما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد وأن سليمان يحرج على من قرأ عهده هذا وسمع ما فيه من حكمة أن ينتهي إليه في أمره ونهيه بالله العظيم ومحمد رسوله الكريم وأن يدع الإحن المضغنة ويأخذ بالمكارم المدجنة ويرفع يديه إلى الله بالضمير النضوح والدعاء الصحيح والصفح الصريح يسأله العفو عني والمغفرة لي والنجاة من فزعي والمسألة في قبري لعل الودود أن يجعل منكم مجاب الدعوة بما من الله علي من صفحه يعود إن شاء الله وأن ولي عهد سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وصاحب أمره بعد موته في جنده ورعيته وخاصته وعامته وكل من استخلفني الله عليه واسترعاني النظر فيه الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن عمي لما بلوت من باطن أمره وظاهره

ورجوت الله بذلك وأردت رضاه ورحمته إن شاء الله من بعده تسلم إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان إن لقي بعده فإني ما رأيت منه إلا خيرا ولا اطلعت له على مكروه وصغار ولدي وكبارهم إلى عمر إذ رجوت أن لا يألوهم رشدا وصلاحا والله خليفتي عليهم وعلى جماعة المؤمنين والمسلمين وهو أرحم الراحمين واقرأوا عهدي عليكم السلام ورحمة الله ومن أبى أمري هذا أو خالف عهدي هذا وأرجو أن لا يخالفه أحد من أمة محمد فهو ضال مضل يستعتب فإن أعتب وإلا فإني لمن صاحب عهدي فيهم بالسيف السيف والقتل القتل فإنهم مستوجبون لهم وهم لهيبته ملقحون والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله القديم الإحسان
تم ذلك والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله
وعلى نحو من ذلك كتب المأمون العباسي عهد علي بن موسى العلوي المعروف بالرضي بالخلافة بعده

وهذه نسخته فيما ذكر صاحب العقد
هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده
أما بعد فإن الله عز و جل اصطفى الإسلام دينا واصطفى له من عباده رسلا دالين عليه وهادين إليه يبشر أولهم بآخرهم ويصدق تاليهم ماضيهم حتى انتهت نبوة الله إلى محمد على فترة من الرسل ودروس من العلم وانقطاع من الوحي واقتراب من الساعة فختم الله به النبيين وجعله شاهدا لهم ومهيمنا عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) فأحل وحرم ووعد وأوعد وحذر وانذر وأمر به ونهى عنه لتكون له الحجة البالغة على خلقه و ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ) فبلغ عن الله رسالته ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ثم بالجهاد والغلظة حتى قبضه

الله إليه واختار له ما عنده صلى الله عليه فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد الوحي والرسالة جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة وإتمامها وعزها والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي تقام بها فرائض الله وحدوده وشرائع الإسلام وسننه ويجاهد بها عدوه فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله وأمن السبل وحقن الدماء وصلاح ذات البين وجمع الألفة وفي إخلال ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم واختلاف ملتهم وقهر دينهم واستعلاء عدوهم وتفرق الكلمة وخسران الدنيا والآخرة فحق على من استخلفه الله في أرضه وأتمنه على خلقه أن يؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ويعدل فيما الله واقفه عليه وسائله عنه ويحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده فإن الله عز و جل يقول لنبيه داود عليه السلام ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) وقال عز و جل ( فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال لو ضاعت سخلة بجانب الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها وايم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه الموقوف على عمله فيما بين الله وبينه لمتعرض لأمر كبير وعلى خطر عظيم فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة وبالله الثقة وإليه المفزع والرغبة في التوفيق مع العصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة والفوز من الله بالرضوان والرحمة وأنظر الأئمة لنفسه وأنصحهم في دينه وعباده وخلافته في أرضه من عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه عليه السلام في

مدة أيامه واجتهد وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده وينصبه علما لهم ومفزعا في جمع ألفتهم ولم شعثهم وحقن دمائهم والأمن بإذن الله من فرقتهم وفساد ذات بينهم واختلافهم ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم فإن الله عز و جل جعل العهد بالخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله وألهم خلفاءه من توسيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة وشملت منه العافية ونقض الله بذلك مر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة والرفض للفتنة ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقتها وثقل محملها وشدة مؤونتها وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله منها فأنصب بدنه وأسهر عينه وأطال فكره فيما فيه عز الدين وقمع المشركين وصلاح الأمة ونشر العدل وإقامة الكتاب والسنة ومنعه ذلك من الخفض والدعة بهني العيش علما بما الله سائله عنه ومحبة أن يلقى الله مناصحه في دينه وعباده ومختارا لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقه مناجيا لله بالاستخارة في ذلك ويسأله إلهامه ما فيه رضاه وطاعته في ليله ونهاره ومعملا في طلبه والتماسه من أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره ومقتصرا فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته حتى استقصى أمورهم بمعرفته وابتلى أخبارهم مشاهدة وكشف ما عندهم مساءلة فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه وبلاده من البيتين جميعا

علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما رأى من فضله البارع وعلمه الناصع وورعه الظاهر وزهده الخالص وتخليه من الدنيا وتسلمه من الناس وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشئا وحدثا ومكتهلا فعقد له بالعقد والخلافة إيثارا لله والدين ونظرا للمسلمين وطلبا للسلامة وثبات الحجة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين
ودعا امير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه فبايعوه مسرعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك به رحما وأقرب قرابة وسماه الرضي إذ كان رضيا عند أمير المؤمنين
فبايعوا معشر بيت امير المؤمنين ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين الرضي من بعده على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده بيعة مبسوطة إليها أيديكم منشرحة لها صدوركم عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من نصاحته في رعايتكم وحرصه على رشدكم وصلاحكم راجين عائده في ذلك في جمع ألفتكم وحقن دمائكم ولم شعثكم وسد ثغوركم وقوة دينكم ورغم عدوكم واستقامة أموركم وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين فإنه الأمر إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه عرفتم الحظ فيه إن شاء الله تعالى
وعلى هذه الطريقة كتب الوزير أبو حفص بن برد عهد الناصر لدين

الله عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر العامري عن المؤيد بالله هشام بن الحكم الأموي الخليفة بالأندلس وهذه نسخته
هذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهد الله عليه من نفسه خاصة وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أنعم

النظر وأطال الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه وملجأ تنعطف عليه أن يكون يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها ويغمص عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الأمر إليه ويعول في القيام به عليه ويستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد اطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله جل جلاله بما يرضيه وبعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب عالما أن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح وموقنا أن لا وسيلة إليه أزكى من الدين الخالص فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده لفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ونقاوته من المأمون الغيب الناصح الجيب النازح على كل عيب ناصرالدولة أبي المطرف عبد

الرحمن بن المنصور بن أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين أيده الله ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات سابقا في الحلبات مستوليا على الغايات جامعا للمأثرات يجذب بضبعه إلى أرفع منازل الطاعة ويسمو بعينيه إلى أعلى درج النصيحة ومن كان المنصور أباه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبيل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالعه من مكنون العلم ووعاه من مخزون الأثر يرى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص بتحقيق ما أسنده أبو هريرة أن النبي لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا صرح إليه في تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا

راضيا مجتهدا متخيرا غير محاب له ولا مائل بهوادة إليه ولا شرك نصح الإسلام وأهله فيه وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها أن رأى ذلك في بقاء أمير المؤمنين أعزه الله بعده وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه ولم يشترط فيه مثنوية ولا خيارا وأعطى على الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه محمد وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول أشهد الله على ذلك والملائكة ( وكفى بالله شهيدا ) وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله وقبوله ما قلده وإلزامه نفسه ما ألزمه وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وثلثمائة وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم بذلك

الطريقة الثانية طريقة المتأخرين من الكتاب
أن يأتي بالتحميد في أثناء العهد ويأتي من ألقاب ولي العهد بما يناسب

على الاختصار وعليها اقتصر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف فقال واعلم أن عهود الخلفاء عن الخلفاء لم تجر عادة من سلف من الكتاب أن يستفتحها إلا بما يذكر وهو
هذا ما عهد به عبد الله ووليه فلان أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين عهد إلى ولده أو إلى أخيه الأمير السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي فلان فلان أيده الله بالتمكين وأمده بالنصر المبين وأقر به عين أمير المؤمنين ثم ينفق كل كاتب بعد هذا على قدر سعته ثم يقول
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويصلي على نبيه محمد ويخطب في ذلك خطبة يكثر فيها التحميد وينتهي فيه إلى سبعة ثم يأتي بعد ذلك بما يناسب من القول يصف فكر الذي يعهد فيمن بعده ويصف المعهود إليه بما يليق من الصفات الجليلة ثم يقول عهد إليه وقلده بعده جميع ما هو مقلده لما رآه من صلاح الأمة أو صلاح الخلق بعد أن استخار الله تعالى في ذلك ومكث مدة يتدبر ذلك ويروي فيه فكره وخاطره ويستشير أهل الرأي والنظر فلم ير أقوم منه بأمور الأمة ومصالح الدنيا والدين ومن هذا ومثله ثم يقال إن المعهود إليه قبل ذلك منه ويأتي في ذلك بما يليق من محاسن العبارة وأحاسن الكلام
قلت ولم أظفر بنسخة عهد على هذا الأسلوب الذي ذكره المقر

الشهابي وقد انشأت عهدا على الطريقة التي أشار إليها امتحانا للخاطر لأن يكون عن الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي الفتح بكر خليفة العصر لولده العباس ليكون أنموذجا ينسج على منواله
ومن غريب الاتفاق أني أنشأته في شهور سنة إحدى وثمانمائة امتحانا للخاطر كما تقدم وضمنته هذا الكتاب وتمادى الحال على ذلك إلى أن قبض الله تعالى الإمام المتوكل قدس الله تعالى روحه في سنة ثمان وثمانمائة فأجمع أهل الحل والعقد على مبايعته بالخلافة فبايعوه وحقق الله تعالى ما أجراه على اللسان من إنشاء العهد باسمه في الزمن السابق ثم دعتني داعية إلى التمثل بين يديه الشريفتين في مستهل شهر ذي القعدة الحرام سنة تسع وثمانمائة فقرأته عليه من أوله إلى آخره وهو مصغ له مظهر الابتهاج به وأجاز عليه الجائزة السنية ثم أنشأت له رسالة وضمنته إياها وأودعت بخزانته العالية عمرها الله بطول بقائه
وهذه نسخته
هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأول جميل الأوسط حميد الآخر تشهد به حضرات الأملاك وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملوك الأرض ملائكة السماء وتسري بنشره القبول إلى الأقطار فتنشر له بكل ناحية علما وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجما وترقص من فرحها الأنهار فتنقطها شمس النهار بذهب الأصيل على صفحات الماء عهد به عبد الله ووليه أبو عبد الله محمد المتوكل على الله امير المؤمنين إلى ولده السيد الجليل عدة الدين وذخيرته وصفي أمير المؤمنين من ولده وخيرته المستعين بالله أبي الفضل العباس بلغ الله فيه أمير المؤمنين غاية الأمل وأقر به عين الخلافة العباسية كما أقر به عين أبيه وقد فعل
أما بعد فالحمد لله حافظ نظام الإسلام وواصل سببه ورافع بيت الخلافة وماد طنبه وناظم عقد الإفمامة المعظمة في سلك بني العباس وجاعلها

كلمة باقية في عقبه
والحمد لله الذي عدق أمر الأمة منهم بأعظمهم خطرا وأرفعهم قدرا وأرجحهم عقلا وأوسعهم صدرا وأجزلهم رأيا وأسلمهم فكرا
والحمد لله الذي أقر عين أمير المؤمنين بخير ولي وأفضل ولد وشد أزره بأكرم سيد وأعز سند وصرف اختياره إلى من إذا قام بالأمر بعده قيل هذا الشبل من ذاك الأسد
والحمد لله الذي جمع الآراء على اختيار العاهد فما قلوه ولا رفضوه وجبل القلوب على حب المعهود إليه فلم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه
والحمد لله الذي جدد للرعية نعمة مع بقاء النعمة الأولى وأقام لأمرالأمة من بني عم نبيه المصطفى الأولى بذلك فالأولى واختار لعهد المسلمين من سبقت إليه في الأزل إرادته فأصبح في النفوس معظما وفي القلوب مقبولا
والحمد لله الذي أضحك الخلافة العباسية بوجود عباسها وأطاب بذكره رياها فتعطر الوجود بطيب أنفاسها ورفع قدره بالعهد إليه إلى أعلى رتبة منيفة وخصه بمشاركة جده العباس في الاسم والكنية ففاز بمالم يفز به قبله منهم ستة وأربعون خليفة
والحمد لله الذي أوجب على الكافة طاعة أولي الأمر من الأئمة وألزمهم الدخول في بيعة الإمام والانقياد إليه ولو كان عبدا أسود فكيف بمن أجمع على سؤدده الأمة واوضح السبيل في التعريف بمقام الآل والعترة النبوية ( ثم لا

يكن أمركم عليكم غمة )
يحمده أمير المؤمنين على ما منحه من طيب أرومة سمت أصلا وزكت فرعا وحباه من شرف محتد راق نظرا وشاق سمعا ووصله به من نعم آثرت نفاعا واثرت نفعا ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثونها كالخلافة كابرا عن كابر ويوصي بها أبدا الأول منهم الآخر ويؤذن قيامهم بنصرتها أنهم معدن جوهرها النفيس ونظام عقدها الفاخر ويشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي خص عمه العباس بكريم الحباء وشريف الإنافة ونبه على بقاء الأمر في بنيه بقول ضل من أظهر عناده أو أضمر خلافة حيث أسر إليه ألا أبشرك يا عم بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تعم بركتها الولد والوالد ويشمل معروفها المعهود إليه ويعرف شرفها العاهد ويعترف بفضلها المقر ولا يسع إنكارها الجاحد ما نوه بذكر الخلافة العباسية على أعواد المنابر وخفقت الرايات السود على عساكر المواكب ومواكب العساكر وسلم تسليما كثيرا
هذا وكل راع مسؤول عن رعيته وكل امريء محمول على نيته مخبر بظاهره عن جميل ما أكنه في صدره وما أسره في طويته والإمام منصوب للقيام بأمر الله تعالى في عباده مأمور بالنصيحة لهم جهد طاقته وطاقة اجتهاده مطلوب بالنظر في مصالحهم في حاضر وقتهم ومستقبله وبدء أمرهم ومعاده ومن ثم اختلفت آراء الخلفاء الراشدين في العهد بالخلافة وتباينت مقاصدهم وتنوعت اختياراتهم بحسب الاجتهاد واختلفت مواردهم فعهد الصديق إلى عمربن الخطاب رضي الله عنه متثبتا وتركها عمر شورى في ستة وقال أتحمل أمركم حيا وميتا وأتى رضي الله عنه لكل من المذهبين بما أذعن له

الخصم وسلم فقال إن أعهد فقد عهد من هو خير مني أبو بكر وإن ترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله فأخذ الخلفاء في ذلك بسنتهما ومشوا فيه على طريقتهما فمن راغب عن العهد وراغب فيه وعاهد إلى بعيد وآخر إلى ابنه أو اخيه كل منهم بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده وتقوى عليه عزيمته ويترجح لديه اعتماده
ولما كان أمير المؤمنين أحسن الله مآبه قد نور الله عين بصيرته وخصه بطهارة سره وصفاء سريرته وآتاه الله الملك والحكمة وأقامه لمصالح الرعية وصلاح أمر الأمة وعلمه مما يشاء فكان له من علم الفراسة أوفر قسم واصطفاه على أهل عصره وزاده بسطه في العلم والجسم فلا يعزم أمرا إلا كان رشادا ولا يعتمد فعلا إلا ظهر سدادا ولا يرتئي رأيا إلا ألفي صوابا ولا يشير بشيء إلا حمدت آثاره بداية ونهاية واستصحابا ومع ذلك فقد بلا الناس وخبرهم وعلم بالتجربة حالهم وخبرهم واطلع بحسن النظر على خفايا أمورهم وما به مصلحة خاصتهم وجمهورهم وترجح عنده جانب العهد على جانب الإهمال ورأى المبادرة إليه أولى من الإمهال ولم يزل يروي فكرته ويعمل رويته فيمن يصلح لهذا الأمر بعده وينهض بأعبائه الثقيلة وحده ويتبع فيه سبله ويسلك طرائقه ويقتفي في السيرة الحسنة أثره ويشيم في العدل بوارقه ويقبل علىالأمر بكليته ويقطع النظر عما سواه ويتفرغ له من كل شاغل فلا يخلطه بما عداه
وقد علم أن الأحق بأن يكون لها حليفا من كان بها خليقا والأولى بأن يكون لها قرينا من كان بوصلها حقيقا والأجدر أن يكون لديها مكينا من اتخذ معها يدا وإلى مرضاتها طريقا والأليق بمنصبها الشريف من كان بمطلوبها مليا والأحرى بمكانها الرفيع من كان بمقصودها وفيا والأوفق لمقامها العالي من كان خيرا مقاما وأحسن نديا وكان ولده السيد الأجل أبو الفضل المشار إليه هو الذي وجهت الخلافة وجهها إلى قبلته وبالغت في طلبه وألحت في خطبته

على أنه قد أرضع بلبانها وربي في حجرها وأنتسب إليها بالبنوة فضمته إلى صدرها وكيف لا تتشبث بحباله وتتعلق بأذياله وتطمع في قربه وتتغالى في حبه وتميل إلى أنسه وتراوده عن نفسه وهو كفؤها المستجمع لشرائطها المتصف بصفاتها ونسيبها السامي إلى أعاليها الراقي على شرفاتها إذ هو شبلها الناشيء في آجامها بل أسدها الحامي لحماها ومجيرها الوافي بذمامها وفارسها المقدم في حلبة سباقها ووارثها الحائز لجميع سهامها وحاكمها الطائع لأمرها ورشيدها المأمون على سرها وناصرها القائم بواجبها ومهديها الهادي إلى أفضل مذاهبها قد التحف من الخلافة بردائها وسكن من القلوب في سويدائها وتوسمت الآفاق تفويض الأمر إليه بعد أبيه فظهر الخلوق في أرجائها واتبع سيرة أبيه في المعروف واقتفى أثره في الكرم وتشبه به في المفاخر ومن يشابه أبه فما ظلم وتقبل الله دعاء أبيه فوهب له من لدنه وليا وأجاب نداءه فيه فمكن له في الأرض وآتاه الحكم صبيا فاستوجب أن يكون حينئذ للمسلمين ولي عهدهم واليا على أمورهم في حلهم وعقدهم متكفلا بالأمر في قربه وبعده معينا لأبيه في حياته خليفة له من بعده وأن يصرح له بالإستخلاف ويوضح ويتلو عليه بلسان التفويض ( اخلفني في قومي وأصلح ) واقتضت شفقة أمير المؤمنين ورأفته ورفقه بالأمة ورحمته أن ينصب لهم ولي عهد يكون بهذه الصفات متصفا ومن بحره الكريم مغترفا ومن ثمار معروفه المعروف مقتطفا ولمنهله العذب واردا وعلى بيته الشريف وسائر الأمة بالخير عائدا فلم يجد من هو مستكمل لجميعها مستوعب لأصولها وفروعها وهو بمطلوبها املى وعلى قلوب الرعية احلى وللغليل أشفى وبالعهد الجميل أوفى من ولده المشار إليه فاستشار في ذلك أهل الحل والعقد من قضاته وعلمائه وامرائه ووزرائه وخاصته وذويه وأقاربه وبنيه

وأعيان أهل العصر وعامته وجمهوره وكافته فرأوه صوابا ولم يعرهم فيه ظنه ولا مسترابا ولا وجد أحد منهم إلى باب غيره طريقا ولا إلى طريق غيره بابا فاستخار الله تعالى فيه فأقبل خاطره الشريف عليه وكرر الاستخارة فلم يجد عنه محيدا إلا إليه
فلما رأى أن ذلك أمر قد انعقد عليه الإجماع قولا وفعلا وعدم فيه المحالف بل لم يكن أصلا حمد الله تعالى وأثنى عليه وسأله التوفيق ورغب إليه وجدد الاستخارة وعهد إليه بأمر الأمة وقلده ما هو متقلده من الخلافة المقدسة بعده على عادة من تقدمه من الخلفاء الماضين وقاعدة من سلف من الأئمة المهديين وفوض إليه ما هو من أحكامها ولوازمها وأصولها ومعالمها من عهد ووصاية وعزل وولاية وتفويض وتقليد وانتزاع وتخليد وتفريق وجمع وإعطاء ومنع ووصل وقطع وصلة وإدرار وتقليل وإكثار جزئيها وكليها وخفيها وجليها ودانيها وقاصيها وطائعها وعاصيها تفويضا شرعيا تاما مرضيا جامعا لأحكام الولاية جمعا يعم كل نطاق ويسري حكمه في جميع الآفاق ويدخل تحته سائر الأقاليم والأمصار على الإطلاق لا يغير حكمه ولا يمحى رسمه ولا يطيش سهمه ولا يأفل نجمه
قبل المعهود إليه اعلى الله مقامه ذلك بمحضر من القضاة والحكام والعلماء الأعلام ولزم حكمه وانبرم وكتب في سجلات الأفلاك وارتسم وحملت رسائله مع برد السحاب فطافت به على سائر الأمم وهو إبقاء الله مع ما طبعت عليه طباعه السليمة وجبلت عليه سجاياه الشريفة وأخلاقه الكريمة قد تلقى عن أمير المؤمنين من شريف الآداب ما غذي به في مهده وتلقف منه من حسن الأدوات ما يرويه بالسند عن أبيه وجده مما انطبع في صفاء ذهنه الصقيل وانتقش في فهمه واختلط من حال طفوليته بدمه ولحمه

وعظمه حتى صار طبعا ثانيا وخلقا على ممر الزمان باقيا واجتمع لديه الغريزي فكان أصلا ثابتا وفرعا على ذلك الأصل القوي نابتا لكن أمير المؤمنين يوصيه تبركا ويشرح له ما يكون به إن شاء الله متمسكا والمرء إلى الأمر بالخير مندوب ووصية الرجل لبنيه مطلوبة فقد قال تعالى ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب )
فعليك بمراقبة الله تعالى فمن راقب الله نجا واجعل التقوى رأس مالك ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) والجأ إلى الحق فقد فاز من إلى الحق لجا وكتاب الله هو الحبل المتين والكتاب المبين والمنهج القويم والسبيل الواضح والصراط المستقيم فتمسك منه بالعروة الوثقى واسلك طريقته المثلى واهتد بهديه فلا تضل ولا تشقى وسنة نبيه محمد عليك بالاقتداء بأفعالها الواضحة والإصغاء لاثار أقوالها الشارحة عالما بأن الكتاب والسنة أخوان لا يفترقان ومتلازمان بحبل التباين لا يعتلقان والبلاد والرعايا فحطهما بنظرك ما استطعت وتثبت في كل قطع ووصل فأنت مسؤول عن كل ما وصلت وقطعت والآل والعترة النبوية ففهما حق القرابة منك ومن رسول الله الذي أشرقت به واعلم أنك إذا أكرمت أحدا منهم فإنما أكرمته بسببه واتبع في السيرة سيرة آبائك الخلفاء الراشدين لا تزغ عنها ولا تعمل إلا بها وبما هو إن استطعت خير منها واقف في المعروف آثارهم المقدسة لتحوي من المآثر ما حووا واحذ حذوهم في طريقهم المباركة وابن المجد كما بنوا وأحي من العمل سنة سلفك المصطفين الأخيار واحرص ان تكون من الأئمة الذين يظلهم الله تحت عرشه ( يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) وأسلف خيرا تذكر به على ممر

الليالي وينتظم ذكره في عقود الأيام كما تنتظم في السلك اللآلي وليكن قصدك وجه الله ليكون في نصرتك فإن من كان الله تعالى في نصرته لايبالي ولتعلم حق اليقين أن حسنة الإمام تضاعف بحسب ما يترتب عليها من المصالح أو يتجدد بسببها وسيئته كذلك فمن سن سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها ودر مع الحق كيف دار ومل معه حيث مال واعلم بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ولا تخطر ببالك أن هذا الأمر انتهى إليك بقوة او يغرك ما قدمناه من الثناء عليكم فالتأثر بالمدح يخل بالمروة ولا تتكل على نسبك فمن أطاع الله أدخله الجنة ولو كان عبدا حبشيا ومن عصاه أدخله النار ولو كان هاشميا قرشيا واستنصر الله ينصرك واستعن به يكن لك عونا وظهيرا واستهده يهدك ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) وكن من الله خائفا ومن مكره من المشفقين فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
هذا عهد أميرالمؤمنين إليك ووصيته تملى عليك ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) والله تعالى يبلغه منك أملا ويحقق فيك علما ويزكي بك عملا والاعتماد على الخط المقدس الإمامي المتوكلي أعلاه الله تعالى أعلاه حجة فيه إن شاء الله تعالى
المذهب الثاني أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ من فلان إلى فلان كما يكتب في المكاتبات ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسبه مما يقتضيه الحال من ذكر الولاية ووصف المتولي واختيار المولي له ونحو ذلك
ثم قاعدة كتابهم أنهم يأتون بعد ذلك بالتحميد في أثناء العهد

وهذه نسخة عهد من ذلك كتب بها عن الحافظ لدين الله الفاطمي لولده حيدرة بأن يكون ولي عهد الخلافة بعده وليس فيها تعرض لتحميد أصلا وهو
من عبد الله ووليه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين إلى ولده ونجله وسلالته الطاهرة ونسله والمجمع على شرفه والعامل بمرضاة الله في قوله وفعله وعقده وحله الأمين أبي تراب حيدرة ولي عهد أمير المؤمنين عليه السلام
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فإن الله تعالى لبديع حكمته ووسيع رحمته استودع خلفاءه من خلقه وبرأه واستكفى أمناءه من صوره وذرأه ورتبهم مرتبة النفوس من الأجساد ونزلهم بمنزلة الضياء من الأزناد وجعلهم مستخدمين لأفكارهم في مصالح البرية التي غدت في أمانهم وحصلت في ضمانهم فظلت في ذمامهم وسعدت في عز مقامهم وظل أيامهم لأنهم نصبوا للنظر فيما جل

ودق وتعبوا لراحة الكافة تعبا صعب وعظم وشق وكان ذلك سرا من أسرار الحكمة وضربا من أفضل تدبير الأمة إذ لو ساوى بين الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس لاختلط الخصوص بالعموم ولم يبق فرق بين الإمام والمأموم
وقد استخلص الله أمير المؤمنين من أشرف أسرة وأكرم عصابة وأيده في جميع آرائه بالحزامة والجزالة والأصالة والإصابة وقضى لأغراضه أن يكون السعد لها خادما وحتم لمقاصده أن يصاحبها التوفيق ولا ينفك لها ملازما وجمع له ما تفرق في الخليقة من المفاخر والمناقب وألهمه النظر في حسن الخواتم وحميد العواقب
ولما كان ولي عهد أمير المؤمنين أكبر أبناء أمير المؤمنين والمنتهي لأشرف المراتب من تقادم السنين وقد استولى على الفخر باكتسابه وانتسابه وتصدت له مخطوبات الرتب ليحوزها باستحقاقه واستيجابه وله من فضيلة ذاته ما يدل على النبإ العظيم وعليه من أنوار النبوة ما يهتدي به الساري في الليل البهيم وحين حوى تالد الفخر وطارفه ولم يستغن بالقديم عن الحديث ولا بالحديث عن القديم والصفات إذا اختلفت أربابها لا تقع إلا دونه والثواب الجزيل مما أعده الله للذين يخلصون فيه ويتولونه وليفخر بأن خص من العناية الملكوتية بالحظ الأجزل وليتسمح على البرايا ليكون ممدوحا بالكتاب المنزل وليبذخ فإن وصفه لا تبلغ غايته وإن استخدمت فيه الفكر وليبجح فإن فضله لا يدرك حقيقة إلا إذا تليت السور فأمتعه الله بمواهبه لديه وأمتع أمير المؤمنين به وأجرى أموره عاجلا وآجلا بسببه
رأى أمير المؤمنين أن يختصه بولاية عهد أمير المؤمنين تمييزا له بهذا

النعت الشريف وسموا به إلى ما يجب لمجده الشامخ ومحله المنيف واقتداء بأسلافه الأئمة الأطهار فيما يشرفون به أبناءهم الأكرمين وتخصيصا له بما يبقى فخره على متجدد الأزمان ومتطاول السنين وأمر أمير المؤمنين أن يتخير من رجال دولته ووجوه أجناده وشيعته طائفة يكون إليه انتماؤها وإلى شرف هذا النعت انتسابها واعتزاؤها فتوسم بالطائفة العهدية وتحظى إذا أخلصت في الولاية بالسعادة الدائمة الأبدية وتظل موقوفة على خدمته متصرفة على أوامره وأمثلته منتهية في طاعته إلى أغراضه ومآربه وملازمة للازم المتعين من ملازمة الخدمة في مواكبه والله تعالى يجعل ما رآه أمير المؤمنين من ذلك كافلا بالخيرات ضامنا لشمول المنافع وعموم البركات إن شاء الله تعالى والسلام على ولي عهد أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته
وهذه نسخة بولاية العهد من خليفة لولده بالخلافة على هذه الطريقة من إنشاء القاضي الفاضل أتى فيها بالتحميد بعد التصدير ثلاث مرات وهي
من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني إلى فلان الفلاني والصلاة والسلام على النبي على نحو ما تقدم في العهد قبله
أما بعد فالحمد لله الذي استحق الحمد بفضله وأجرى القضاء على ما أراده ووسع الجرائم بعفوه وعدله وصرف المراحم بين قوله وفعله واعلى منار الحق وأرشد إلى أهله واختار الإسلام دينا وعصم المعتلقين بحبله وأوضح سبل النجاة بما أوضح لسالكيه من سبله وتعالى علاه إلى

الصفات فلم يوصف بمثل قوله ( ليس كمثله ) وتنزه عن اشتراك التشبيهات في كل جليل الوصف مستقله وغير مستقله علم ما اشتملت عليه خطرات الأسرار وأشارت إليه نظرات الأبصار وانفرجت عنه غمرات الأخطار وأخفته سترات الظلماء وباحت به جهرات الأنوار ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )
والحمد لله الذي جعل الدين عنده الإسلام فمن ابتغى غيره ضل المنهج وأبعد المعرج واستلقح المخدج وغلط المخرج وفارق النور الأبلج وركب الطريق الأعوج وأتى يوم القيامة باللسان الملجلج ومن أسلم وجهه إليه فاز بالسعي النجيح وحاز المتجر الربيح وورد المورد الأحمد ويمم القصد الأقصد ووجد الجد الأسعد وسلك المنهج الأرشد فهو العروة الوثقى والطريقة المثلى والدرجة العليا وأمر به خير المرسلين المنعوت في سير الأولين المبعوث بالحق المبين والقائم رسولا في الأميين والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم والداعي الذي من أجابه وآمن به غفر له ما تقدم من ذنبه وأجير من عذاب أليم والمستقل بالعبء العظيم بفضل ما منح من الخلق العظيم والممدوح بقوله ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )
والحمد لله الذي وصل النبوة بالإمامة وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة وخصها بالخصائص التي لا تنبغي إلا لتام الكرامة وأجار بها خلقه من متالف الطامة وبوادي الندامة وهدى بشرف مقامه إلى دار المقامة واسترد بأنوار تدبيره من ظلام الباطل الطلامة وأحسن بما أجراه من نظره النظر

للخاصة والعامة ( إن هذا لهو الفضل المبين )
يحمده أمير المؤمنين أن رفعه إلى ذلك المحل المنيف واستعمر به المقام الشريف وأظهر كلمة الدين الحنيف ونفى عنه تغالي التعمق وتجديف التحريف وبين بموافقة توفيق هديه طريق التكليف وأمده بمواد إلهية تشتهر فتستغني عن التعريف وتتصل فتقطع مواد التكييف
ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي نسخ بشريعته الشرائع وهذب بهدايته المشارع ولأيده بالحجج القواطع والأنوار السواطع وجعل من ذريته جبال الله القوارع ومن مشكاته نجوم الهدى الطوالع وعدقت صنائعه بالله إذا افتخرت المنعمون بالصنائع وعلى أخيه وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المخصوص بأخوته وأبي الثقلين من عترته والسابق إلى الإسلام فهو بعده أبو عذرته وإلى تفريج الكرب عن وجهه في الحرب فهو ابن بجدته وعلى الأئمة من ذريتهما مصابيح الظلمات ومفاتيح الشكوك المبهمات والممنوحين من شرف السمات ما جل عن المسامات والممدوحين بفضل الجاه في الأرضين والسموات
وإن الله بحكمته البديعة ورحمته الوسيعة أقام الخلفاء لخلقه قواما وبحقه قواما وجعل نار الحوادث بنورهم بردا وسلاما وجعل لهم الهداية بأمره لزاما واستصرف بهم عن الخلق عذاب جهنم ( إن عذابها كان غراما ) فهم أرواح والخلائق أجسام وصباح والمسالك أظلام وثمرات والوجود أكمام وحكام والحقائق أحكام يسهرون في منافع الأنام وهم نيام وينفردون بوصب النصب ويفردونهم بلذات الجام ويهتدون بهداياتهم إلى ما تدق عنه

حوائط الأفهام ولا يدرك إلا بوسائط إلهام وقد اصطفى الله الأمير من تلك الأسرة ورقاه شرف تلك المنابر وملك تلك الأسرة وأنار بمقامه نجوم السعادة المستسرة واستخدم العالم لأغراضه وسدد كل سهم في رميه إلى أغراضه وأقرض الله قرضا حسنا فهو واثق بحسن عواقب إقراضه وافترض طاعته في خلقه فالسعيد من تلقى طاعة أمير المؤمنين بافتراضه وأمضى أوامره على الأيام فما يقابلها صرف من صروفها باعتراضه وأدار الحق معه حيث دار وكشف له ما استجن تحت أستار الأقدار ووقف الخيرة والنصرة على آرائه وراياته فهو المستشار والمستخار وألهمه أن يحفظ للأمة غدها كما حفظ لها يومها وأن يجري لها موارد توفيق الارتياد ولا يطيل حومها وأن يجعل المؤمن على ثلج من الصدور وفلج من الظهور ويودع عندها برد اليقين بالإشارة إلى مستودع النور ويجعلها على شريعة من الأمر فتتبعها ويحلها بمنزلة الخصب فترتبعها ويعلم ندي خيره ليكون غايتها ومفزعها ويعرفها من تنتظره فتتخذه مآلها ومرجعها ويقتدي في ذلك بسيد المرسلين في يوم الغدير ويشير إلى من يقوم به المشير مقام البشير
ولما كنت حافظ عهد أمير المؤمنين والسيد الذي لابد أن يتوج به السرير والنجم الذي لا بد أن نستطيل إلى أنواره ونستطير والذخيرة التي ادخرها الله لنيل كل خطر ودفع كل خطير والسحاب الذي فيه الثج المطير والنجم المنير والرجم المبير وقد تجلت لك أوجه الكرامات وتبدت وتبرجت لك مخطوبات المقامات وتصدت وطلبتك كفؤا لنيل عقيلتها وسكنى معقلها فما تعدت وأدت إليك لطائف فهمك من أسرار الحقائق ما أدت وعرفت من سيماك هدي النبوة واجتمع لك مزية الشرفين من الطرفين الأبوة والبنوة وأخذت كتاب الحكمة ومصون العصمة بقوة وأجرت القلوب التي بعوارض الشك ممنوة وآثرت العقائد التي بنواقض العقد مملوة وغدت وجوه الأنام بأيامك مجلوة وتوافقت الألسن على مدحك ولا مثل ما مدحت من الآيات المتلوة وكنت بحيث تذهب بالأهوال المسلوة وتقبل بالآمال المرجوة ولو أن ركبا

ضل لهداه نورك في الليل البهيم ولو أن ذكرك شذ لتبدى في الآيات والذكر الحكيم ولو انك طلعت على الأولين لما تساءلوا ولا اختلفوا في النبإ العظيم ولو أن قديما علا فوق كل حديث لقام لك الحديث مقام القديم ولو أن جميع الأنام في صعيد واحد لصعدت دونهم المقام الكريم ولو أن يدك البيضاء تجسمت للناظرين لأعدت آية موسى الكليم ولو أن هدايتك الغراء تنسمت للذاكرين لأحييت بها العظام وهي رميم ولو أن علومك انتشرت بين العلماء لتلوا ( وفوق كل ذي علم عليم ) ولو أن ليلة ولادتك رصدتها البصائر رأت كيف يفرق فيها كل أمر حكيم والصفات إذا احتفل أربابها وقفت لك عبيدا والأيام إذا كانت ظروفا لفضائلك كان كل يوم منها للعبيد عيدا والأنساب إذا عددتها كان الجد سعيدا فلتفخر قبل السير بأن أمليت عليها السور وأبشر بأن المنتظر من فضل الله لك فوق ما تعجله النظر واشمخ بأن سادة القبائل مضر وأنك بعد أمير المؤمنين سيد مضر وابذخ بأنك عوض من كل من غاب وما عنك عوض في كل من حضر وابجح بأنك قد اهلت لأمر أبى الله له إلا أولي العزم والخطر واشكر الله على نعمة خلقك لها بقدر ومزية لا يوفي حقها من أضمر فأغرق أو نطق فشكر وقل ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) وقل ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه )
فإليك هذا الأمر يصير وأنت له والله لك نعم المولى ونعم النصير وتأهب له في درجته التي لا ينالها باع قصير ولا يمتطيها إلا من اختاره الله على علم من أهل الثقلين ولو أن بعضهم لبعض ظهير ولا ترى لها أهلا إلا من أراه الله من

آياته أنه هو السميع البصير وفاوض أمير المؤمنين في مشكلات الأمر ولا ينبئك مثل خبير واقتد منه بمن هو في أهل دهره وصي الوصي ونظير النذير واهتد بنوره الذي هو بالنور البائن دون الخلق بشير وسر إذا استعملك الله فيهم بما رأيت أمير المؤمنين به فيهم يسير وادع الله بأن ييسر على يدك مناجحهم إن ذلك على الله يسير واعرف ما آثرك الله به من أنه لم يجعل ليدك كفؤا إلا ذا الفقار ولا لقدمك كفؤا إلا المنبر والسرير وتحدث بنعمة الله وإجرائها فأمير المؤمنين اليوم عليك أمير وأنت غدا على المؤمنين أمير ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه )
وأما العدل وإفاضته والجور وإغاضته والصعب ورياضته والجدب وترويضه والخطب وتفويضه والجهاد ورفع علمه والذب عن دين الله وحفظ حرمه والأمر بالمعروف ونشر ردائه والنهي عن المنكر وطي اعتدائه وإقامة الحد بالصفح والحد والمساواة في الحق بين المولى والعبد وبث دعوة الله في كل غور من البلاد ونجد وأمر عباد الله إن عباد الله في زمنك الرغد فذلك عهد الأئمة الراشدين وهو إليك من أمير المؤمنين عهد مؤكد العقد وهو سنة فضل الخلفاء التي لا تجد لها تحويلا ومعنى العهد الذي أمر الله بالوفاء به فقال ( إن العهد كان مسئولا )
وهل يوصى البحر بتلاطم أمواجه وتدافع أفواجه وبتزاخر عجاجه وهل يحض البدر المنير على أن ينير سراجه ويطلع ليتضح للسالك منهاجه أو ينبه على هدايته إذا تهادته أبراجه وعليك من سرائر أنوار الله ما يغنيك أن توصى ولديك من ظواهر لطائف الله ما تميز به عن الخلق إذ أضحيت به مخصوصا ومن شواهد اختيار الله ما تظاهرت عليك آياته نصوصا فبسلام الله يحييك المؤمنون وبالاعتلاق بعصمة ولائك في يوم الفزع الأكبر يأمنون والله منجز

لك وعده كما أنجزه لمن جعلهم أئمة لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون والله سبحانه يهدي إليك تحية من عنده مباركة طيبة ويسدي إلى مقام شرفك سحابة رحمة غدقة صيبة ويجعل ما رآه أمير المؤمنين من ولايتك عهده وكفالتك للأمة بعده للمسرات ناظما وللمساءات حاسما وللبركات جامعا وللباطل خافضا وللحق رافعا وأمر أمير المؤمنين أن يعين على رجال من اولياء دولته ووجوه شيعته وأنصار سريته عدة يكون إليك اعتزاؤها وبك اعتزازها وببابك العالي إقامتها وإلى جنابك انحيازها فتكون موسومة بالعبودية ومتعرضة بالولاء للسعادة الأبدية فتمتثل على ما تمثله من المراسم وتتصرف على ما تصرفها عليه من العزائم وتكون أبدا لما ينفذ عنك من أحكام الهبات والمكارم وتقوم من ملازمة الخدمة في مواكبك بما هو لكل خادم فرض لازم وتسارع في مطالبك إلى ما يسارع إليه الحازم وتجود يا سماء الإنعام بالغدق الساجم وتقدر لها من الواجبات والزيادات ما تقتضيه همم المكارم تبذل في الخدمة الاجتهاد وتنافس فيما تستمد به الحظوة بحضرته والإحماد وعرضها من الإحسان الجم للازدياد وبلغها المراد بما تبلغ بها من المراد لتتشرف بأن تكون تحت ركابه العالي متصرفة وتفتخر بأن تكون أنسابها باسمه العالي متشرفة إن شاء الله تعالى
المذهب الثالث أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة ب الحمد لله ثم يأتي بالبعدية ويأتي بما يناسب الحال على نحو ما تقدم وعليه عمل أهل زماننا مع الاقتصار على تحميدة واحدة والاختصار في القول
وهذه نسخة أوردها علي بن خلف من إنشائه في كتابه مواد البيان لترتيب الكتابة في زمن الفاطميين وهي

الحمد لله معز دينه بخلفائه الراشدين ومرتب حقه بأوليائه الهادين الذي اختار دين الإسلام لصفوته من بريته وخص به من استخلصه من أهل طاعته وجعله حبله المتين ودينه الذي أظهره على كل دين وسبيله الأفسح وطريقه الأوضح وابتعث به نبيه محمدا فصدع بأمره وأعلن بذكره والناس في فترة الضلالة وغمرة الجهالة فلما أنجز في نصرة حقه وتأييده لسعداء خلقه قبضه إليه محمود الأثر طيب الخبر وقام بخلافته من انتخبه من طهره عترته وأودعهم حكمته وكفلهم شريعته فاقتفوا سبيله واتبعوا دليله كلما قبض منهم سلفا إلى مقر مجده اصطفى خلفا للإمامة من بعده
يحمده أمير المؤمنين أن أفضى إليه بتراث الإمامة والرسالة وهدى به كما هدى بجده من الزيغ والضلالة واختصه بميراث النبوة والخلافة ونصبه رحمة للكافة وأتم نعمته عليه كما أتمها على آبائه وأجزل حظه من حسن بلائه وأعانه على ما استرعاه ووفقه فيما ولاه وأنهضه بإعزاز الملة وإكرام الأمة وإماتة البدع وإبطال المذهب المخترع وإحياء السنن والاستقامة على لاحب السنن ووهبه من بنيه وذريته مؤازرين على ما حمله من أعباء خلافته ومظاهرين على ما كلفه من إمعان النظر في بريته
ويسأله الصلاة على محمد خاتم أنبيائه والخيرة من خلصائه الذي شرفه بختام رسله وإقرار نيابته في أهله صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه وباب حكمته علي بن أبي طالب وصية في أمته وعلى الأئمة الطهرة من ذريته مناهج رحمته وسرج هدايته وسلم تسليما
وإن الله تعالى جعل الخلافة للكافة عصمة ولأهل الإيمان رحمة تجمع كلمتهم وتحفظ ألفتهم وتصلح عامتهم وتقيم فرائضه وسننه فيهم

وتمد رواق العدل والأمنة عليهم وتحسم أسباب الكفر والنفاق وتقمع أهل العناد والشقاق ولذلك وصل الله حبل الإمامة وجعلها كلمة باقية في عقب أوليائه إلى يوم القيامة
ولما نظر أمير المؤمنين بعين اليقين واقتبس من الحقيقة قبس الحق المبين عرف ما بنيت عليه الدنيا من سرعة الزوال ووشك التحول والانتقال وأن ما فوض الله إليه من خلافته لا بد أن ينتقل عنه إلى أبنائه الميامين كما انتقل إليه عن آبائه الراشدين فلم يغتر بمواعيدها المحال وأضرب عما تخدع به من الأماني والآمال وأشفق على من كفله الله بسياسته وحمله رعايته من أهل الإسلام المعتصمين بحبل دعوته المشتملين بظل بيعته عند تقضي مدته ونزوعه إلى آخرته في الوقت المعلوم بالأجل المحتوم من انتشار الكلمة وانبتات العصمة وانشقاق العصا وإراقة الدما واستيلاء الفتن وتعطيل الفروض والسنن فنظر لهم بما ينظم شملهم ويصل حبلهم ويزجر ظلمتهم ويجمع كلمتهم ويؤلف أفئدتهم ورأى أن يعهد إلى فلان ولده لأنه قريعه في علمه وفضله وعقيبه في إنصافه وعدله والملموح من بعده والمرجو ليومه وغده ولما جمع الله له من شروط الإمامة وكمله له من أدوات الخلافة وجبله عليه من الرحمة والرأفة وخصه به من الرصانة والرجاحة والشجاعة والسماحة وآتاه من فصل الخطاب وجوامع الصواب ومحاسن الآداب ووقاية الدين والغلظة على الظالمين واللطف بالمؤمنين بعد أن قدم استخارة الله تعالى فيه وسأله توفيقه لما يرضيه ووقف فكره على اختياره ولم يكن باختياره مع إيثاره ويلوح في شمائله ويستوضح في مخايله أنه الولي المجتبى والخليفة المصطفى الذي يحمي الله به ذمار الحق ويعلي بسلطانه شعار الصدق وأنه سبحانه قد أفضى إليه بما أفضى به إلى الخلفاء من قبله وأفاض عليه من الكامنات ما أفاضه على أهله وبعد أن عاقده وعاهده على مثل ما عاهده عليه آباؤه من تقوى الله تعالى وطاعته واستشعار خيفته ومراقبته والعمل بكتابه وسنته وإقامة

حدود الله التي حدها بفروضه التي وكدها والاقتداء بسلفه الراشدين في المكافحة عن الدين والمسامحة عن أوزار المسلمين وبسط العدل على الرعية والحكم بينهم بالسوية وإنصاف المظلوم من الظلوم وكف يد المغتصب الغشوم وصرف ولاة الجور عن أهل الإسلام وتخير من ينظر بينهم في المظالم والأحكام وان لا يولي عليهم إلا من يثق بعدالته ويسكن إلى دينه وأمانته ولا يفسح لشريف في التعدي على مشروف ولا يقوى في التسلط على مضعوف وأن يحمل الناس في الحقوق على التساوي ويجريهم في دولته على التناصف والتكافي ويأمر حجابه ونوابه بإيصال الخاصة والعامة إليه وتمكينهم من عرض حوائجهم ومظالمهم عليه ليعلموا الولاة والعمال أن رعيته على ذكر منه وبال فيتحاموا التثقيل عليهم والإضرار بهم
وأشهد عليه بكل ما شرطه وحدده والعمل بما يحمد إليه فيما تقلده
على أنه غني عن وصية وتبصير وتنبيه وتذكير إلا أن محمدا سيد المرسلين يقول لعلي صلى الله عليهما أرسل عاقلا إلا فأوصه
فبايعوا على بركة الله تعالى طائعين غير مكرهين برغبة لا برهبة وبإخلاص لا بمداهنة بيعة رضا واختيار وانقياد وإيثار بصحة من نياتكم وسلامة من صدوركم وصفاء من عقائدكم ووفاء واستقامة فيما تضعون عليه أيمانكم ليعرفكم الله من سبوغ النعمة وشمول الحبرة وحسن العاقبة واتفاق الكلمة ما يقر نواظركم ويبرد ضمائركم ويذهب غل صدوركم ويعز جانبكم ويذل مجانبكم فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله
وقد يغني هذا الكتاب الذي ذكرناه مغنى العهد فلا يحتاج إلى عهد
وعلى ذلك كتب عن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن

الحاكم بأمر الله أحمد عهد ولده المستوثق بالله بركة بالخلافة بعده
وهذه نسخته
الحمد لله الذي أيد الخلافة العباسية بأجل والد وأبر ولد ولد وجعلها كلمة باقية في عقبة والسند كالسند وآواهم من أمرهم إلى الكهف فالكهف وإن تناهى العدد وزان عطفها بسؤدد سواد شعارهم المسجلة أنوارهم ولا شك أن النور في السواد وعدق بصولتهم النبوي معجزها كل مناد
نحمده على ما من به من تمام النعمة فيهم ونزول الرحمة بتوافيهم ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة محضة الإخلاص كافلا محضها بالفكاك من أسر الشرك والخلاص ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بما أوضح سبل الرشاد وقمع أهل العناد والشفيع المشفع يوم التناد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا انقضاء لها ولا نفاد وسلم تسليما كثيرا

وبعد فإن أمير المؤمنين وذكر اسمه يعتصم بالله في كل ما يأتي ويذر مما جعل الله له من التفويض ويشير إلى الصواب في كل تصريح منه وتعريض وإنه شد الله أزره وعظم قدره استخار الله سبحانه وتعالى في الوصية بما جعله الله له من الخلافة المعظمة المفخمة الموروثة عن الآباء والجدود الملقاة إليه مقاليدها كما نص عليه ابن عمه في الوالد من قريش والمولود لولده السيد الأجل المعظم المكرم فلان سليل الخلافة وشبل غابها ونخبة أحسابها وأنسابها أجله الله وشرفه وجمل به عطف الأمانة وفوفه لما تلمحه فيه من النجابة اللائحة على شمائله وظهر من مستوثق إبداء سره فيه بدلائل برهانه وبرهان دلائله وأشهد على نفسه الكريمة صانها الله تعالى مولانا أو سيدنا أمير المؤمنين من حضر من حكام المسلمين قضاة قضاتهم وعلمائهم وعدولهم بمجلسه الشريف أنه رضي أن يكون الأمر في الخلافة المعظمة الذي جعله الله له الآن لولده السيد الأجل فلان بعد وفاته فسح الله في أجله وعهد بذلك إليه وعول في أمر الخلافة عليه وألقى إليه مقاليدها وجعل بيده زمام مبدئها ومعيدها وصى له بذلك جزئيه وكليه وغامضه وجليه وصية شرعية بشروطها اللازمة المعتبرة وقواعدها المحررة أشهد عليه بذلك في تاريخ كذا
الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد ولي الخلافة عن الخليفة ومايكتبه الخليفة في بيت العلامة ومايكتب في ذيل العهد بعد إتمام نسخته من قبول المعهود إليه وشهادة الشهود على العهد
أما ما يكتب في المستند فينبغي أن يكون كما يكتب في عهود الملوك عن الخلفاء على نحو ما تقدم في البيعات وهو أن يكتب بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي الفلاني بلقب الخلافة أعلاه الله تعالى أو نحو ذلك من الدعاء

وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة فينبغي أن يكتب عهدت إليه بذلك لأنه اللفظ الذي ينعقد به العهد
ولو كتب فوضت إليه ذلك كما يكتب الخليفة في عهد السلطان الآن على ما سيأتي كفى ذلك والأليق بالمقام الأول
وأما ما يكتب في ذيل العهد بعد تمام نسخته فالمنقول فيه عن المتقدمين ما كتب به علي الرضي تحت عهد المأمون إليه بالخلافة وهو
الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وصلواته على نبيه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين
أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر إن امير المؤمنين عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره فوصل أرحاما قطعت وأمن أنفسا فزعت بل أحياها وقد تلفت وأغناها إذ افتقرت متبعا رضا رب العالمين لا يريد جزاء من غيره وسيجزي الله الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى إن بقيت بعده فمن حل عقدة أمر الله بشدها أو فصم عروة أحب الله إيثاقها فقد أباح حريمه وأحل محرمه إذ كان بذلك زاريا على الإمام منتهكا حرمة الإسلام بذلك جرى السالف فصبر منهم على الفلتات ولم يعترض بعدها على العزمات خوفا على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تنتهز وباقية تبتدر
وقد جعلت لله تعالى على نفسي إن استرعاني على المسلمين وقلدني خلافته العمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وبسنة رسول الله وأن لا اسفك دما حراما ولا أبيح فرجا ولا مالا إلا ما سفكته حدوده وأباحته فرائضه وأن أتخير الكفاة جهدي

وطاقتي
جعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا يسألني الله عنه فإنه عز و جل يقول ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )
فإن أحدثت أو غيرت أو بدلت كنت للغير مستحقا وللنكال متعرضا وأعوذ بالله من سخطه وإليه أرغب في التوفيق لطاعته والحول بيني وبين معصيته في عامة المسلمين والخاصة والحضر يدلان على ضد ذلك ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين )
لكنني امتثلت رضاه والله يعصمني وإياه وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيدا
وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه والفضل بن سهل وسهل بن الفضل ويحيى بن أكثم وبشر بن المعتمر وحماد بن النعمان في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين
ثم كتب فيه من حضر من هؤلاء وهذه صورة كتابتهم
فكتب الفضل بن سهل وزير المأمون ما صورته
رسم أمير المؤمنين اطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه بحرم سيدنا رسول الله بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد

ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم وسائر الأولياء والأجناد وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين ( وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ) وكتب الفضل بن سهل في التاريخ المعين فيه
وكتب عبد الله بن طاهر ما صورته أثبت شهادته فيه بتاريخه عبد الله بن طاهر بن الحسين
وكتب يحيى بن أكثم القاضي ما صورته شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها وكتب بخطه بالتاريخ
وكتب حماد بن النعمان ما صورته شهد حماد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه وكتب بيده بتاريخه
وكتب بشر بن المعتمر ما صورته شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر وكتب بخطه بالتاريخ

قلت وعلى نحو ما تقدم من كتابة المعهود إليه بالقبول وشهادة الشهود على العهد ينبغي أن يكون العمل أيضا في زماننا ليجتمع خط العاهد بالتفويض على ما تقدم وشهادة الشهود ولو اقتصر المعهود إليه في الكتابة على قوله قبلت ذلك كان كافيا وإن كان أميا اكتفي بشهادة الشهود

الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء والقلم الذي يكتب
به وكيفية كتابتها وصورة وضعها
أما قطع الورق فمقتضى قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل وأن عهود الخلفاء تكتب في البغدادي كما هو مستعمل في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
وهو مقتضى ما تقدم في الكلام على قطع الورق في مقدمة الكتاب نقلا عن محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة أن القطع الكامل للخلفاء
قلت وقد أخبرني من يوثق به أنه وقف على عهد المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر والد المتوكل على الله أبي عبد الله محمد خليفة العصر وهو مكتوب في قطع الشامي الكامل وأنه كتب عهد المتوكل على ظهره بخط الشهود دون كاتب إنشاء وكأنهم لما تقهقرت الخلافة وضعف شأنها وصار

الأمر إلى الملوك المتغلبين على الخلفاء تنازلوا في كتابة عهودهم من قطع كامل البغدادي إلى قطع الشامي
وهذا هو المناسب للحال في زماننا
وأما القلم الذي يكتب به فالحكم فيه ما تقدم في البيعات وهو إن كتب العهد في قطع البغدادي كتب بقلم مختصر الطومار
وإن كتب في قطع الشامي كتب بقلم الثلثين الثقيل
وأما كيفية الكتابة وصورة وضعها فعلى ما تقدم في كتابة البيعات وهو أن يبتدأ بكتابة الطرة في أول الدرج بالقلم الذي يكتب به العهد سطورا متلاصقة ممتدة في عرض الدرج من أوله إلى آخره من غير هامش
ثم إن كانت الكتابة في قطع البغدادي الكامل جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء فيترك بعد الوصل الذي فيه الطرة ستة أوصال بياضا من غير كتابة ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث يلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول العهد ملاصقا لها ثم يخلي مكان بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة
ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأول أو الثاني ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش
فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الفواتح والخواتم
ثم يكتب المعهود إليه والشهود بعد ذلك
وإن كتب في قطع

الشامي فعلى ما تقدم في البيعات من أنه ينبغي أن يقتصر في أوصال البياض على خمسة أوصال ويكون الهامش قدر ثلاثة أصابع
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا فيها بالطرة التي أنشأتها على ما تقدم ذكره في العهد الذي أنشأته على لسان الإمام المتوكل على الله خليفة العصر لولده العباس وهو العهد الأخير من المذهب الأول من عهود الخلفاء عن الخلفاء
بياض بأعلى الدرج ( ابتداء العرض ) تقدير إصبع
هذا عهد إمامي قد علت جدوده وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده وفصلت بالجواهر قلائده ونظمت بنفيس الدر عقوده من عبد الله ووليه الإمام المتوكل على الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح ابي بكر بالخلافة المقدسة لولده السيد الجليل ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين أبي الفضل العباس بلغه الله تعالى فيه غاية الأمل وأقر به عين الأمة كما أقر به عين أبيه وقد فعل على ما شرح فيه
بياض ستة أوصال
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأول
عهدت إليه بذلك ( صورة خط الخليفة )
وكتب فلان بن فلان ( بيت العلامة تقدير شبر ) ( تقدير ربع ذراع )
( جميل الأوسط حميد الآخر ... تشهد به حضرات الأملاك )
( والباقي بالشرح ) وترقمه كف الثريا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملائكة الأرض ملائكة السما وتسري بنشره القبول إلى الأقطار

هامش فتنشر له بكل ناحية علما وتطلع به سعادة الجد من ملوك العدل في كل أفق نجما
ثم يأتي على الكلام إلى آخر العهد على هذا النمط إلى أن ينتهي إلى قوله فيه والله تعالى يبلغه منك أملا ويحقق فيك علما ويزكي بك عملا
إن شاء الله تعالى
كتب في اليوم الأول من المحرم
سنة إحدى وثمانمائة
بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي المتوكلي
أعلاه الله تعالى
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل ( صورة خط المعهود إليه )
قبلت ذلك وكتب فلان ولي عهد أمير المؤمنين ( صورة خط شهود العهد )
شهد على العاهد والمعهود إليه فيه زادهما الله شرفا وكتب فلان بن فلان وكذا بقية الشهود

النوع الثاني عهود الخلفاء للملوك ويتعلق النظر به من سبعة أوجه
الوجه الأول في أصل مشروعيتها
والأصل فيها ما رواه ابن إسحاق وغيره أنه لما رجع وفد بني الحرث بن كعب إلى قومهم باليمن بعد وفود هم على رسول الله قبل وفاته بأربعة أشهر بعث إليهم رسول الله بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم
وكتب له كتابا

عهد فيه عهده وأمره فيه أمره على ما سيأتي ذكره في أول نسخ العهود الواردة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
فقد فوض النبي أمر اليمن في حياته إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه وذلك أصرح دليل وأقوم شاهد لما نحن فيه

الوجه الثاني في بيان معنى الملك والسلطنة اللتين يقع العهد بهما
قد تقدم في الكلام على الألقاب نقلا عن الفروق في اللغة للعسكري أن الملك أخص من السلطنة لأن الملك لا يطلق إلا على الولاية العامة والسلطنة تطلق على أنواع الولايات حتى أن الفقهاء يعبرون عن القاضي ووالي البلد في أبواب الفقه بالسلطان
ثم تفويض الخليفة الأمور في البلاد والأقاليم إلى من يدبرها ويقوم بأعبائها على ثلاثة أقسام
القسم الأول وهو أعلاها وزارة التفويض وهو أن يستوزر الخليفة من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده وينظر فيها على العموم
وعلى ذلك كانت السلطنة في زمن الخلفاء الفاطميين بمصر على ما سيأتي ذكره
قال الماوردي في الأحكام السلطانية ولا يمتنع جواز مثل ذلك لأن كل ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة

جميعة إلا بالاستنابة ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر به على نفسه ولنفسه فيكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل قال وتعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده
وقد تقدم بيان شروط الإمامة في الكلام على البيعات
ثم قال وكل ما صح من الإمام صح من وزير التفويض إلا في ثلاثة أشياء
أحدها ولاية العهد
فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير
الثاني أن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير
الثالث أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام
وتفارق هذه الوزارة الخلافة في عموم النظر فيما عدا ذلك من وجهين
أحدهما مختص بالإمام وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبير الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه لأن تدبير الأمة إليه موكول وعلى اجتهاده محمول
والثاني مختص بالوزير وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد لئلا يصير بالاستبداد كالإمام
أما وزارة التنفيذ فسيأتي الكلام عليها في تقليد الوزارة إن شاء الله تعالى

القسم الثاني إمارة الاستكفاء
وهي التي تنعقد عن اختيار من الخليفة وتشتمل على عمل محدود ونظر معهود بأن يفوض الخليفة إليه إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله ونظرا في المعهود من سائر أعماله فيصير عام النظر فيما كان محدودا من عمل ومعهودا من نظر
قال الماوردي فينظر فيما إليه في تدبير الجيش وترتيبه في النواحي وتقدير أرزاقهم إن لم يكن الإمام قد قدرها وإدرارها عليهم إن كان الإمام قدرها وكذلك النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام وجباية الخراج وقبض الصدقات والعمل فيهما وتفريق ما يستحق منهما وحماية الحريم والذب عن البيضة ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل وإقامة الحدود في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين والإمامة في الجمع والجماعات بالقيام بها والاستخلاف عليها وتسيير الحجيج من عمله ومن يمر عليه من غير عمله وجهاد من يليه من العدو وقسم الغنائم في المقاتلة وأخذ خمسها لأهل الخمس
وله أن يتخذ وزير تنفيذ لا وزير تفويض
وعلى هذا كانت الأمراء والعمال في الأقاليم والأمصار من ابتداء الإسلام إلى أن تغلب المتغلبون على الأمر واستضعف جانب الخلفاء
قال الماوردي ويعتبر في هذه الإمارة ما يعتبر في وزارة التفويض من الشروط إذ ليس بين عموم الولاية وخصوصها فرق في الشروط المعتبرة فيها
القسم الثالث إمارة الاستيلاء
وهي أن يقلده الخليفة الإمارة على بلاد ويفوض إليه تدبيرها فيستولي عليها بالقوة فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير والخليفة

بإذنه ينفذ أحكام الدين لتخرج عن الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة نافذ التصرف في حقوق الملة وأحكام الأمة
وهذا ما صار إليه الأمر بعد التغلب على الخلفاء والاستبداد بالأمر بالغلبة والقوة
قال الماوردي وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه واحكامه ففيه من حفظ قوانين الشرع وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز
قال والذي يتحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشريعة سبعة أشياء يشترك في التزامها الخليفة المولي والأمير المستولي ووجوبها في جهة المستولي أغلظ
أحدها حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتدبير أمور الأمة ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظا وما تفرع عنها من الحقوق محروسا
والثاني ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد في الدين وينتفي بها مأثم المباينة له
والثالث اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ليكون المسلمون يدا على من سواهم
والرابع أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة والأحكام والأقضية

فيها نافذة لا تبطل بفساد عقودها ولا تسقط بخلل عهودها
الخامس أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها ومعطيها
السادس أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق فإن جنب المؤمن حمى إلا من حقوق الله تعالى وحدوده
السابع أن يكون للأمة في حفظ الدين وازع عن محارم الله تعالى يأمر بحقه إن أطيع ويدعو إلى طاعته إن عصي
ثم قال فإن كملت فيه شروط الاختيار المتقدمة كان تقليده حتما استدعاء لطاعته ودفعا لمشاقته ومخالفته وصار بالإذن له نافذا لتصرف في حقوق الملة وأحاكم الأمة وجرى على من استوزره أو استنابه أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه
وإن لم تكمل فيه شروط الاختيار جاز له إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته وكان نفوذ تصرفاته في الحقوق والأحكام موقوفا على أن يستنيب الخليفة له من تكاملت فيه الشروط
قال وجاز مثل هذا وإن شذ عن الأصول لأن الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة

قلت ومملكة الديار المصرية من حين الفتح الإسلامي وهلم جرا إلى زماننا دائرة بين هذه الأقسام الثلاثة لا تكاد تخرج عنها فكانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها ويتصرف في أمورها قاصر الولاية عليها واقف عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان
فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم وعظمت كلمتهم عندهم صارت سلطنتها وزارة تفويض
وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة كالملوك الآن أو قريب منهم
وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ وهو أول من لقب بالملك منهم فيما ذكره المؤيد صاحب حماة في تاريخه
والملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز ثم العاضد
والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضا قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس ببغداد
ولا نكر في تسمية الوزير ملكا فقد قيل في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ) إن المراد بالملك الوزير لا الملك نفسه
ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيوب وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده
وكان الرشيد قد لقب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان ولم يأخذ الناس في التلقيب به
فلما تغلب الملوك بالشرق على الخلفاء واستبدوا عليهم صار لقب السلطان سمة لهم

مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف كشرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة وعز الدولة ونحو ذلك
وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة وصارت الوزارة عن السلطان معدوقة بقدر مخصوص من التصرف
وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك مع اصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك وهي على ذلك إلى زماننا إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس
على أن في السلطنة الآن شبها من وزارة التفويض فإن الخليفة يفوض إليه في تقليده تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العام لا يستثنى منها شيئا
وغير هذه

المملكة وإن كان خارجا عن يده فهو داخل في عموم ولايته حتى لو غلب على شيء منها أو فتحه لم يحتج فيه إلى تولية جديدة من الخليفة
ولا مانع لذلك فسيأتي في الكلام على المناشير أنه يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح وإذا جاز ذلك في الإقطاع ففي هذا أولى
وحينئذ فتكون سلطنة الديارالمصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء

الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه
واعلم أنه يجب على الكاتب مراعاة أمور
منها براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم السلطان أو لقبه الخاص مثل فلان الدين او لقبه بالسلطنة مثل الناصر والظاهر ونحوهما أو غير ذلك مما يدل على ما بعده قبل الإتيان به كما تقدم في البيعات وعهود الخلفاء
ومنها التنبيه على شرف السلطنة وعلو رتبتها ووجوب القيام بأمر الرعية وتحمل ذلك عن الخليفة
ومنها الإشارة إلى اجتهاد الخليفة وإعمال فكره فيمن يقوم بأمر الأمة وأنه لم يجد بذلك أحق من المعهود إليه ولا أولى به منه فيصفه بالصفات الجميلة ويثني عليه بما يليق بمقام الملك
ومنها الإشارة إلى جريان لفظ تنعقد به الولاية من عهد أو تقليد أو تفويض وقبول ذلك ووقوع الإشهاد على الخليفة بالعهد
ومنها إيراد ما يليق بالمقام من الوصية بحسب ما يقتضيه الحال من علو رتبة الخلافة وانخفاضها مبينا لما يلزمه القيام به من حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة وتنفيذ الأحكام وإنصاف المظلوم من الظالم وحماية البيضة والذب عن الحرم وإقامة الحدود

وتحصين الثغور وجهاد أعداء الله وغزوهم وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع من غير حيف ولا عسف وتقدير العطاء وصرف ما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير في وقت الحاجة إليه واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء للأعمال والأموال ومباشرة الأمور بنفسه وتصفح الأحوال إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بالإمامة من إقامة موسم الحج وتأمين الحرم الشريف وإكرام ضرائح الأنبياء وبيت المقدس وتحرير مقادير المعاملات وغير ذلك مما يقتضيه أمر المملكة

الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة وهو نمطان
النمط الأول ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين
وكان الخليفة هو الذي يكتب بيده
وهذا أمر وإن كان قد ترك فالمعرفة به خير من الجهل خصوصا وقد أثبت المقر الشهابي بن فضل الله عهدي أسد الدين شيركوه وابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب بالوزارة

عن العاضد في جملة عهود الملوك على ما سيأتي ذكره وسنوردهما في جملة عهود الملوك عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى
فمن ذلك ما كتب به العاضد في طرة عهد أسد الدين شيركوه المتقدم ذكره وهو
هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقليد أمانة رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلا لحمله والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا )
ومن ذلك ما كتب به العاضد أيضا في طرة العهد المكتتب عنه بالوزارة للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قبل استقلاله بالسلطنة وهو
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك فأوف بعهدك ويمينك وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك ولمن مضى بجدنا رسول الله أحسن أسوة ولمن بقي بقربنا أعظم سلوة ( تلك الدار

الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
النمط الثاني مايكتب في طرة عهود الملوك الآن
وهو قريب مما كان يكتب أولا مما تقدم ذكره إلا أنه يبدل فيه لفظ الوزارة بالملك والسلطنة ويكون الذي يكتبه هو الذي يكتب العهد دون الخليفة
ثم هو بحسب ما يؤثره الكاتب ممايدل على صدر العهد على ما يقتضيه الحال
وهذه نسخة طرة عهد كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في نسخة عهد أنشأه للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة سبع عشرة وسبعمائة وهو
هذا عهد شريف تجددت مسرات الإسلام بتجديده وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده ووفد اليمن والإقبال على الخليفة بوفوده وورد الأنام مورد الأمان بوروده من عبد الله ووليه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد خلد الله سلطانه ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدس الله روحه

تم الجزء التاسع يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر وأوله

الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء وهو نمطان
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين
وآله وصحبه والتابعين وسلامه
وحسبنا الله ونعم الوكيل

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء وهو نمطان

النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن
وهو أن يقتصر على ما يلقب به الملك أو يكنى به من ديوان الخلافة ثم يقال مولى أمير المؤمنين ولا يزاد على ذلك
كما كتب أبو إسحاق الصابي في عهد فخر الدولة بن بويه عن الطائع لله
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين
وإلى هذا أشار في التعريف بقوله على أن لهذا ضابطا كان في قديم

الزمان وهو أنه لا يكتب للرجل إلا ما كان يلقب به من ديوان الخلافة بالنص من غير زيادة ولا نقص

النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان
وقد حكى في التعريف في ذلك مذهبين
الأول أن يكتب فيها السلطان السيد الأجل الملك الفلاني مع بقية ما يناسب من الألقاب المفردة والمركبة كما كتب القاضي الفاضل في عهد أسد الدين شيركوه الآتي ذكره عن العاضد الفاطمي
من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل الملك المنصور سلطان الجيوش ولي الأمة فخر الدولة أسد الدين كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبي الحرث شيركوه العاضدي
وعلى هذه الطريقة بزيادة ألقاب كتب ابن القيسراني في العهد للملك الناصر محمد بن قلاوون قدس الله روحه ونحو ذلك
قال في التعريف

وأنا إلى ذلك أجنح وعليه أعمل
الثاني أن يكتب المقام الشريف أو الكريم أو العالي مجردا عنهما
ويقتصر على المفردة دون المركبة
كما كتب به الصاحب فخر الدين بن لقمان في عهد الظاهر بيبرس بعد ذكر أوصافه ومناقبه ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه ا لله تعالى وأعلاه
قلت وربما أبدل المتقدمون المقام في هذه الحالة بالمقر وأتى بالألقاب من نحو ما تقدم
وكما كتب به القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في عهد المنصور قلاوون بعد استيفاء مناقبه وأوصافه وذكر إعمال الفكر والروية في أختياره وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه الله أن يكون للمقر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري أجله الله ونصره وأظفره وأقدره وأيده وأبده

كل ما فوضه الله لمولانا أمير المؤمنين ونحو ذلك
وبقي مذهب ثالث وهو أن يأتي بنظير ألقاب المذهب الأول مقتصرا على الألقاب المفردة دون المركبة
وعلى ذلك جرى الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد الذي كتب به معارضة لعهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الآتي ذكره فقال بعد ذكر مناقبه وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل السيد الكبير العالم العادل صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب
ولم يتعرض لحكايته في التعريف
على أن أبن الأثير إمام هذا الفن وحائز قصب السبق فيه ومقالته مما يحتج بها ويعول عليها
فإن قيل لعله في التعريف أراد مذاهب كتاب زمانه فالجواب أن حكاية المذهب الثاني عن المتأخرين يؤذن بأن المراد متقدمو الكتاب ومتأخروهم

الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود وفيه ثلاثة مذاهب
المذهب الأول وعليه عامة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين
أن يفتتح العهد بلفظ هذا مثل هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا ما أمر به فلان فلانا أو هذا عهد من فلان لفلان أو هذا كتاب اكتتبه فلان لفلان وما أشبه ذلك

وللكتاب فيه طريقتان

الطريقة الأولى طريقة المتقدمين
وهي أن لا يأتي بتحميد في أثناء العهد في خطبة ولا غيرها ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أصلا أو يتعرض إلى ذلك باختصار ثم يقول فقلده كذا وكذا ويذكر ما فوض إليه ثم يقول وأمره بكذا حتى يأتي على آخر الوصايا ثم يقول في آخره هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك ويأتي بما يناسب ذلك ويختمه بقوله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أو والسلام عليك أو بغير ذلك من الألفاظ المناسبة على أختلاف طرقهم في ذلك وتباين مقاصدهم
وعلى هذا النهج وما قاربه كانت عهود السلف فمن بعدهم تأسيا بالنبي فيما كتب به لعمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كما تقدمت الأشارة إليه في الاستشهاد لأصل عهود الملوك عن الخلفاء
وهذه نسخته بعد البسملة فيما ذكره أبن هشام وغيره
هذا بيان من الله ورسوله ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )
عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون
وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم

به ويعلم الناس القرءان ويفقههم فيه وينهى الناس فلا يمس القرءان إنسان إلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ويبشر الناس بالجنة وبعملها وينذر الناس النار وعملها ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته وما أمر الله به والحج الأكبر الحج الأكبر والحج الأصغر هو العمرة وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه وينهى الناس ان يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعواهم إلى الله عز و جل وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع

والسجود والخشوع ويغلس بالصبح ويهجر بالظهر حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء والعشاء أول الليل
وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها
وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر
وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياه
وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله تعالى التي أفترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له
وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فإنه له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا
صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
وعلى نحو ذلك كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عهد

مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر وهو من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التقوى وسياسة الملك
وهذه نسخته فيما ذكره ابن حمدون في تذكرته
هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه فإنه جل أسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه
وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويزعها عند الجمحات فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله
ثم أعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم
وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح
فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الانتصاف منها فيما أحبت وكرهت
وأشعر قلبك بالرحمة للرعية والمحبة لهم

واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك
وقد أستكفاك أمرهم وأبتلاك بهم ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ولا تقولن إني أمرؤ آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومهلكة في الدين وتقرب من الغير
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك
وإياك ومساماة الله تعالى في عظمته والتشبه به في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب
وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكرا عند الإعطاء وأبطأ عذرا عند المنع وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة
فليكن صغوك لهم وميلك معهم وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوبا الوالي أحق بسترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك منها
فاستر العورة ما أستطعت يستر الله ما تحب ستره من عيبك
أطلق عن الناس عقدة كل حقد وأقطع عنهم سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يضح لك ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانا يضعفك عن الأمور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل أصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن

لك معونة وأحنى عليك عطفا وأقل لغيرك إلفا فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم لك بمر الحق وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع
وألصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرة
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة
( وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد )
( عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد )
( وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود )
وعلى ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عن الخليفة الطائع لله إلى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه في جمادى الأولى سنة ست وستين وثلثمائة
وهذه نسخته
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين حين عرف غناءه وبلاءه وأستصح دينه ويقينه ورعى قديمه وحديثه وأستنجب عوده ونجاره
وأثنى عز الدولة أبو منصور بن معز الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين

أيده الله عليه وأشار بالمزيد في الصنعية إليه وأعلم أمير المؤمنين أقتداءه به في كل مذهب ذهب فيه من الخدمة وغرض رمى إليه من النصيحة دخولا في زمرة الأولياء المنصورة وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة وتصرفا على موجبات البيعة التي هي بعز الدولة أبي منصور منوطة وعلى سائر من يتلوه ويتبعه مأخوذة مشروطة فقلده الصلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة بكور همذان وأستراباذ والدينور وقرميسين والإيغارين وأعمال أذربيجان وأران والسحانين وموقان
واثقا منه باستبقاء النعمة واستدامتها والإستزادة بالشكر منها والتجنب لغمطها وجحودها والتنكب لإيحاشها وتنفيرها والتعمد لما مكن له الحظوة والزلفى وحرس عليه الأثرة والقربى بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح والولاء الصريح والغيب الأمين والصدر السليم والمقاطعة لكل من قاطع العصبة وفارق الجملة والمواصلة لكل من حمى البيضة وأخلص النية والكون تحت ظل أمير المؤمنين وذمته ومع عز الدولة أبي منصور وفي حوزته والله جل اسمه يعرف أمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض وسداد الرأي فيما

رفع وخفض ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة محجوبة عن موارد الندامة وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة والجنة الحصينة والطود الأرفع والمعاذ الأمنع والجانب الأعز والملجأ الأحرز وأن يستشعرها سرا وجهرا ويستعملها قولا وفعلا ويتخذها ردءا دافعا لنوائب القدر وكهفا حاميا من حوادث الغير فإنها أوجب الوسائل وأقرب الذرائع وأعودها على العبد بمصالحه وأدعاها إلى سبل مناجحه وأولاها بالاستمرار على هدايته والنجاة من غوايته والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها وتردي مردياتها وفي آخرته حين تروع رائعاتها وتخيف مخيفاتها
وأن يتأدب بآداب الله في التواضع والإخبات والسكينة والوقار وصدق اللهجة إذا نطق وغض الطرف إذا رمق وكظم الغيظ إذا أحفظ وضبط اللسان إذا أغضب وكف اليد عن المآثم وصون النفس عن المحارم
وأن يذكر الموت الذي هو نازل به والموقف الذي هو صائر إليه ويعلم أنه مسئوول عما اكتسب مجزي بما ترمك واحتقب ويتزود من هذا الممر لذاك المقر ويستكثر من أعمال الخير لتنفعه ومن مساعي البر لتنقذه ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها ويزدجر عن السيئات قبل أن يزجر عنها ويبتدئ بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيته فلا يبعثهم على ما يأتي ضده ولا ينهاهم عما يقترف مثله ويجعل ربه رقيبا عليه في خلواته ومروءته مانعة له من شهواته فإن أحق من غلب سلطان الشهوة وأولى من صرع أعداء

الحمية من ملك أزمة الأمور واقتدر على سياسة الجمهور وكان مطاعا فيما يرى متبعا فيما يشاء يلي على الناس ولا يلون عليه ويقتص منهم ولا يقتصون منه فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه وطهارة ذيله وصحة سريرته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصا من الشبهة ومخرجا من الحيرة فقد قال تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )
وقال عز من قال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وقال ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) إلى آي كثيرة حضنا بها على أكرم الخلق وأسلم الطرق فالسعيد من نصبها إزاء ناظره والشقي من نبذها وراء ظهره وأشقى منه من بعث عليها وهو صادف عنها وأهاب إليها وهو بعيد منها وله ولأمثاله يقول الله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متبعا وطريقا موقعا ويكثر من تلاوته إذا خلا بفكره ويملأ بتأمله أرجاء صدره فيذهب معه فيما أباح وحظر ويقتدي به إذا نهى وأمر ويستبين ببيانه إذا استغلقت دونه المعضلات ويستضيء بمصابيحه إذا غم عليه في المشكلات فإنه عروة الإسلام الوثقى ومحجته الوسطى ودليله المقنع وبرهانه المرشد والكاشف لظلم الخطوب والشافي من مرض القلوب والهادي لمن ضل والمتلافي لمن زل فمن لهج به فقد فاز وسلم ومن لهي عنه فقد خاب وندم قال الله تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل

من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأمره أن يحافظ على الصلوات ويدخل فيها في حقائق الأوقات قائما على حدودها متبعا لرسومها جامعا فيما بين نيته ولفظه متوقيا لمطامح سهوة ولحظة منقطعا إليها عن كل قاطع لها مشغولا بها عن كل شاغل عنها متثبتا في ركوعها وسجودها مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها موفرا عليها ذهنه صارفا إليها همه عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه لا تستتر دونه خائنة الأعين وما تخفي الصدور
فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها ويستمع باستماعها ولا يتعدى فيه مسائل الأبرار ورغائب الأخيار من استصفاح واستغفار واستقالة واسترحام واستدعاء لمصالح الدين والدنيا وعوائد الآخرة والأولى فقد قال تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) وقال تعالى ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية بعد التقدم في فرشها وكسوتها وجمع القوام والمؤذنين والمكبرين فيها واستسعاء الناس إليها وحضهم عليها آخذين الأهبة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39