كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي

الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد ولي العهد بالسلطنة وما يكتبه
السلطان في بيت العلامة وما يكتب في ذيل العهد
أما ما يكتب في مستند العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة فكغيره من سائر الولايات من التقاليد وغيرها وهو أنه يكتب في المستند حسب المرسوم الشريف كما يكتب في المكاتبات التي هي بتلقي كاتب السر على ما تقدم ذكره في بابه ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه واسم أبيه
وأما ما يكتب في ذيل العهد وشهادة الشهود على السلطان بالعهد فمثل أن يكتب شهدت على مولانا السلطان الملك الفلاني العاهد المشار إليه فيه خلد الله ملكه أو خلد الله سلطانه وما أشبه ذلك من الدعاء بما نسب إليه فيه من العهد بالسلطنة الشريفة إلى ولده المقام الشريف العالي السلطاني الملكي الفلاني وعلى المعهود إليه أعز الله أنصاره بقبول العهد المذكور وكتب فلان بن فلان
الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية كتابته
وصورة وضعه في الورق
أما قطع ورقه فمقتضى إطلاق المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في البغدادي أيضا
قلت وهو المناسب لعظمة السلطنة وشماخة قدرها إذ الملك إلى ولي العهد آثل وللدخول تحت أمره صائر خصوصا إذا كان المعهود اليه ولدا أو أخا وحينئذ فيكتب بمختصر قلم الطومار لمناسبته له على ما تقدم في غير موضع
وأما كيفية كتابته وصورة وضعها في الورق فهو أن يخلي من أعلى الدرج

قدر إصبع بياضا ثم يكتب في وسطه بقلم دقيق ما صورته الاسم الشريف كما يكتب في التقاليد وغيرها على ما سيأتي ثم يبتديء بكتابة الطرة بالقلم الذي يكتب به العهد من أول عرض الورق من غير هامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطرة ثم يترك ستة أوصال بياضا من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطرة ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه بهامش عن يمين الورق قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أول العهد ملاصقا لها ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك عن الخلفاء ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة ويسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند ثم الحمدلة والصلاة على النبي والحسبلة على ما تقدم في الفواتح والخواتم ثم يكتب شهود العهد بعد ذلك
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا له بالطرة التي أنشأتها لذلك وبالعهد الذي أنشأه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون بالعهد بالسلطنة لولده الملك الصالح علاء الدين علي وهي
هذا عهد شريف جليل قدره رفيع ذكره علي فخره متبلج صبحه ضوي فجره من السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس خلد الله تعالى سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطاني الملكي السعيدي بلغه الله تعالى فيه غاية الآمال وحقق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال على ما شرح فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرف سرير الملك منه بعليه وحاطه منه بوصية وعضد منصورة بولاية عهد صالحه وأسمى حاتم جوده
بمكارم حازها بسبق عديه وأبهج خير الآباء من خير الأبناء بمن سمو أبيه منه بشريف الخلق وأبيه

وغذى روضه بمتابعة وسميه وبمسارعة وليه
نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر إلى أن يأتي إلى قوله ولا يخاف دركا ولاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه
إن شاء الله تعالى
كتب في
سنة
حسب المرسوم الشريف
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل

النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار
البلدان
ويتعلق النظر به من أربعة أوجه
الوجه الأول في بيان أصل ذلك وأول حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله
عنها
قد تقدم في المكاتبات في الكلام على مكاتبة صاحب حماة أن ذلك مما كان في الدولة الأيوبية ثم في الدولة التركية في الأيام المنصورية قلاوون والأيام الناصرية محمد بن قلاوون ثم بطل ذلك وذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حين استولى على البلاد الشامية مع الديار المصرية بعد موت السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فرق أقاربه في ولاية الممالك الشامية كدمشق وحلب وحمص وغيرها وأستمرت
وكان السلطان صلاح الدين قد ولى حماة لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فبقيت بيده حتى توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فوليها بعده ابنه المنصور ناصر الدين محمد وبقي بها حتى توفي سنة سبع عشرة

وستمائة فوليها ابنه الناصر قليج أرسلان فبقي بها إلى أن انتزعها منه أخوه المظفر في سنة ست وعشرين وستمائة وأقام بها إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة
فوليها ابنه المنصور محمد فبقي بها إلى أن غلب هولاكو ملك التتار على الشام وقتل من به من بقايا الملوك الأيوبية فهرب المنصور إلى مصر وأقام بها إلى أن سار المظفر قطز صاحب مصر إلى الشام وانتزعه من يد التتار وصار الشام مضافا إلى مملكة الديار المصرية فرد المنصور إلى حماة فبقي بها حتى توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فولى المنصور قلاوون ابنه المظفر شادي مكانه وكتب له بها عهدا عنه فبقي بها حتى توفي سنة ثمان وتسعين وستمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية بعد لاجين فولى الملك الناصر قراسنقر أحد أمرائه نائبا فلما اتستولى غازان ملك التتار على الشام كان العادل كتبغا بعد خلعه من سلطنة الديار المصرية نائبا بصرخد فأظهر في قتال التتار قوة وجلادة فولاه الملك الناصر حماة وحضر هزيمة التتار مع الملك الناصر سنة اثنتين وسبعمائة ورجع إلى حماة فمات بها فولى الملك

الناصر مكانه سيف الدين قبجق نائبا ثم نقله إلى حلب وولى أسندمر كرجي نيابة حماة مكانه
ولما رجع السلطان الملك الناصر من الكرك نقل أسندمر كرجي من حماة إلى حلب وولى المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي ابن المظفر عمر مكانه بحماة سنة ست عشرة وسبعمائة على عادة من تقدمه من الملوك الأيوبية فبقي بها إلى أن توفي سنة ثنتين وثلاثين وسبعمائة فولى الملك الناصر ابنه الأفضل محمدا مكانه فبقي بها حتى مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة احدى وأربعين وسبعمائة واستقر في السلطنة بعده ابنه المنصور أبو بكر وقام بتدبير دولته الأمير قوصون
فكان أول ما أحدث عزل الأفضل بن المؤيد عن حماة وولى مكانه بها الأمير قطز نائبا
وسار الأفضل إلى دمشق فأقام بها حتى توفي بها سنة ثنتين وأربعين وسبعمائة وهو آخر من وليها من بني أيوب
وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في مسالك الأبصار أن سلطانها كان يستقل بإعطاء الإمرة والإقطاعات وتولية القضاة والوزراء وكتاب السر وكل الوظائف وتكتب المناشير والتواقيع من جهته
ولكنه لا يمضي أمرا كبيرا في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفة كبيرة حتى يشاور صاحب مصر وهو لا يجيبه إلا أن الرأي ما يراه
ومن هذا ومثله
قال وإن كان سلطانا حاكما وملكا متصرفا فصاحب مصر هو المتصرف في تولية وعزل من أراد ولاه ومن أراد عزله
قلت وكان للمملكة بذلك زيادة أبهة وجمال لكون صاحبها تحت يده من هو متصف باسم السلطنة يتصرف فيه بالولاية والعزل
على أن هذا القسم لم يتعرض له المقر التقوى بن ناظر الجيش في التثقيف لخلو المملكة الآن عن

مثله وإنما أشار إليه المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في التعريف حيث قال وأما ما يكتب للملوك عن الملوك مثل ولاة العهود والمنفردين بصغار البلدان فإنه لا تستفتح عهودهم إلا بالخطب
وذلك أن حماة كانت في زمنه بأيدي بني أيوب على ما تقدم ذكره ولذلك قال في مسالك الأبصار ومما في حدود هذه المملكة ممن له اسم سلطان حاكم وملك متصرف صاحب حماة

الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد وهو على ضربين
الضرب الأول ما يكتب في الطرة وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد
وهذه نسخة عهد كتب بها المقر الشهابي بن فضل الله عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للملك الأفضل محمد ابن المؤيد عماد الدين إسماعيل بسلطنة حماة أيضا في رابع صفر سنة أثنتين وثلاثين وسبعمائة
وهو آخر من ملكها من بني أيوب وهي
الحمد لله الذي أقربنا الملك في أهلة أهله وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن له شبيه في فضله ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا ما يلحق به كل فرع بأصله ويظهر به رونق السيف في نصله
نحمده على ما أفاض بمواهبنا من النعم الغزار وأدخل في طاعتنا الشريفة من ملوك الأقطار وزاد عطايانا فأضحت وهي ممالك وأقاليم وأمصار ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أفلح من مات من ملوك الإسلام عليها

وحرض بها في الجهاد على الشهادة حتى وصل إليها ومد يده لمبايعتنا على إعلائها فسابقت الثريا ببسط يديها ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شرف من تسمى باسمه أو مت بالقربى إلى نسبه وصرف في الأرض من تمسك من رعاية الأمة بسببه وأكرم به كريم كل قوم وجعل كلمة الفخار كلمة باقية في عقبه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ناح الحمام لحزنه ثم غنى من طربه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإننا ولله الحمد ممن نحفظ بإحساننا كل وديعة ونتقبل لمن أقبل من الملوك على سؤال صدقاتنا الشريفة كل ذريعة ونتكفل لمن مات على ولائنا بما لو رآه في ولده لسره ما جرى وعلم أن هذا الذي كان يتمنى أن يعيش حتى يبصر هذا اليوم ويرى وكان السلطان الملك المؤيد عماد الدين قدس الله روحه هو بقية بيته الشريف وآخر من حل من ملوكهم في ذروة عزه المنيف ولم يزل في طاعتنا الشريفة على ما كان من الحسنى عليه ومن المحاسن التي لقي الله بها ونور إيمانه يسعى بين يديه فوهبنا له من المملكة الحموية المحروسة ما كان قد طال عليه سالف الأمد ورسمنا له بها عطية باقية للوالد والولد فلما قارب انقضاء أجله وأشرف على ما قدمه إلى الله وإلينا من صالح عمله لم يشغله ما به عن مطالعة أبوابنا الشريفة والتذكار بولده وتقاضي صدقاتنا العميمة بما كان ينتظره قمره المنير لفرقده وورد من جهة ولده المقام الشريف العالي الولدي السلطاني الملكي الأفضلي الناصري أعز الله أنصاره ما أزعج القلوب بمصابه في أبيه وأجرى العيون على من لا نقع له على شبيه فوجدنا من الحزن عليه ما أبكى كل سيف دما وأن كل رمح يقرع سنه ندما وتأسفنا على ملك كاد يكون من الملائك وأخ كريم أو أعز من ذلك وسلطان عظيم طالما ظهر شنب بوارقه في ثغور الممالك وقمنا من الحزن في مشاركة أهله بالمندوب ثم قلنا لكم في ولده العوض ولا ينكر لكم الصبر يا آل أيوب

فاقتضت مراسمنا المطاعة أن نرقيه إلى مقامنا العالي ونعقد له من ألوية الملك ما تهتز به أطراف العوالي ونركبه من شعار السلطنة بما تتجمل به مواكبه وتمتد به عصائبه وتميس من العجب وتمتد رقابها بالرقبة السلطانية جنائبه تنزيها لخواطركم الكريمة علينا عن قول ليت وتنويها بقدر بيتكم الذي رفع لكم إسماعيل به قواعد البيت لما نعلمه من المقام العالي الملكي الأفضلي الناصري أمتع الله ببقائه من المناقب التي استحق بها أن يكون له عليكم الملك والعزائم التي قلد بها من الممالك ما تجول به الجياد وتجري به الفلك مع ماله من الكرم الذي هو أوفى من العهاد بعهده والفضل الذي اتصل به ميراث الأفضلية عن جده والجود الذي جرى البحر معه فاحمرت من الخجل صفحة خده والوصف الذي لم يرض بالجوزاء واسطة لعقده والعدل الذي أشبه فيه أباه فما ظلم والعلم الذي ما خلا به بابه من طلب إما لهدى وإما لكرم ولم يخرج من كفالة والده إلا إلى كفالتنا التي أظلته بسحبها وحلت سماء مملكته بشهبها وخاطبناه كما كنا نخاطب والده رحمه الله بالمقام الشريف وأجريناه في ألقابه مجرى الولد زيادة له في التشريف وصرفنا أمره في كل ما كان لملوك أهله فيه تصريف وسنرشده إلى أوضح طريقة ويقوم مقام أبيه أو ليس الناصر هو أبو الأفضل حقيقه ورسمنا بطلبه إلى ما بين أيدينا الشريفة لنجدد له في نظرنا الشريف ما يتضاعف به سعوده ويزداد صعوده ويتماثل في هذا البيت الشاهنشاهي أبناؤه وآباؤه وجدوده لتعمل معه صدقاتنا الشريفة ما هو به جدير وترفعه إلى أعز مكان من صهوة المنبر والسرير وتكاثر به كل سلطان وما هو إلا جحفل يسير لتشيد به أركان هذا البيت الكريم وتحيا عظامه وهي في اللحود عظم رميم وتعرف الناس أن عنايتنا الشريفة بهم تزيد على ما عهدوه لجدهم القديم من سمينا الملك الناصر القديم فخرجت المراسيم الشريفة العالية المولوية السلطانية الملكية الناصرية لا زالت الملوك تتقلد مننها في أعناقها ولا

برحت الممالك من بعض مواهبها وإطلاقها أن يقلد هذا السلطان الملك الأفضل أدام الله نصره من المملكة الحموية وبلادها وأمرائها وأجنادها وعربها وتركمانها وأكرادها وقضاياها وقضاتها ورعاياها ورعاتها وأهل حواضرها وبواديها وعمرانها وبراريها جميع ما كان والده رحمه الله يتقلده وبسيفه وقلمه يجريه ويجرده من كل قليل وكثير وجليل وحقير وفي كل مأمور به وأمير يتصرف في ذلك جميعه ويقطع إقطاعاتها بمناشيره ويولي وظائفها بتواقيعه وينظر فيها وفي أهلها بما يعلم أن له ولهم فيه صلاحا ويقيم من هيبة سلطانه ما يغنيه أن يعمل أسنة ويجرد صفاحا
وليحكم فيها وفيمن هو فيها بعدله ويجمع قلوب أهلها على ولائه كما كانوا عليه لأبيه من قبله وليكن هو وجنوده وعساكره أقرب في النهوض إلى مصالح الإسلام من رجع نفسه وأمضى في العزائم مما يشتبه بها من سيفه وقبسه
وأما بقية ما يملى من الوصايا أو يدل عليه من كرم السجايا فهو بحمد الله تعالى غريزة في طباعه ممتزج به من زمان رضاعه وإنما نذكره ببعض ما به يتبرك ونحضه على أتباع أبيه فإنها الغاية التي لا تدرك والشرع الشريف أهم ما يشغل به جميع أوقاته وتقوى الله فما ينتصر الملك إلا بتقاته والفكرة في مصالح البلاد والرعايا فإنها مادة نفقاته واستكثار الجنود فإنهم حصنه المنيع في ملاقاته ومبادرة كل مهم في أول ميقاته وولايات الأعمال لا يعتمد فيها إلا على ثقاته وإقامة الحدود حتى لا ينصت في تركها إلى رقي رقاته ورعاية من له على سلفه خدمة سابقة واستجلاب الأدعية الصالحة لنا وله فإنها للسهام مسابقة وليمض في الأمور عزمه فإنه مذرب ويبسط العدل والإحسان فإنه بهما إلينا يتقرب وليأخذ بقلوب الرعايا فإنها تتقلب وليكرم وفادة الوفود ليقف بهم لنجاح

مقاصدهم على باب صحيح مجرب وليجتهد في الجهاد ويتيقظ والسيف مكتحل الجفن بالرقاد ويهتم فإن الهمم العالية تقوم بها عوالي الصعاد ويقوم البريد فإن في تقويمه بقاء الملك وعمارة البلاد وليقف عند مراسمنا الشريفة لتهديه إلى سبيل الرشاد ويحسن سلوكه ليطرب بذكره كل أحد ويترنم كل حاد وغير هذا من كل ما عهدنا والده سقى الله عهده له سالكا ولأزمة أموره الجميلة مالكا مما لا يحتاج مما نعرفه من سيرته المثلى إلى شرحه ولا يدل نهاره الساطع على صباحه صبحه وليبشر بما جعل له من فضلنا العميم ويتمسك بوعدنا الشريف أن هذه المملكة له ولأبنائه وأبناء أبنائه ما وجد كفء من نسبهم الصميم والله تعالى يمدك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيد من تأييده والإعتماد على الخط الشريف أعلاه إن شاء الله تعالى

الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد وما يكتبه
السلطان في بيت العلامة
والحكم في ذلك على ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة وهو أن يكتب في مستند العهد حسب المرسوم الشريف كما في غيره من الولايات ويكتب السلطان في بيت العلامة أسمه من غير زيادة
قلت ولا يكتب فيه شهادة على السلطان كما يكتب في عهود أولياء العهد بالسلطنة لأن العهد بالسلطنة العظمى شبيه بالبيعة والشهادة فيها مطلوبة للخروج من الخلاف على ما تقدم في موضعه والعهد بولاية سلطنة بعض الأقاليم شبيه بالتقليد والشهادة في التقاليد غير مطلوبة وذلك أن السلطنة لا تنتهي إلى ولي العهد إلا بعد موت العاهد وربما جحد بعض الناس العهد إليه وولاية بعض البلدان إنما تكون والسلطان المولي منتصب فلا يؤثر الجحود فيها

الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية الكتابة
وصورة وضعها في الورق
أما قطع الورق فمقتضى عموم قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف إن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في قطع البغدادي أيضا
قلت والذي يقتضيه القياس أن تكون كتابته في الورق البغدادي لمعنى السلطنة ولكن في قطع دون القطع الكامل لنقصان رتبة هذه السلطنة عن السلطنة العظمى ألا ترى مكاتبة صاحب مملكة إيران كانت في زمن القان أبي سعيد تكتب في قطع البغدادي الكامل كما ذكره في التعريف وغيره ومكاتبة صاحب مملكة بيت بركة المعروفة بمملكة أزبك من مملكة توران تكتب له في قطع البغدادي بنقص أربعة أصابع مطبوقة كما ذكره في التثقيف لانحطاط رتبته عن رتبة القان أبي سعيد على ما تقدم ذكره في المكاتبات
وأما قلمه الذي يكتب به فينبغي إن كتب في قطع البغدادي الكامل أن يكون بمختصر قلم الطومار كما في غيره من العهود التي تكتب في القطع الكامل
وإن كتب في دون الكامل فينبغي أن يكون القلم دون ذلك بقليل
وأما صورة وضعه في الورق فعلى ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة من غير فرق وهو أن يكتب في رأس الدرج بقلم دقيق الأسم الشريف ثم يبتديء بكتابة الطرة في عرض الورق من غير هامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطرة ثم يخلي ستة أوصال بياضا ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة ثم يكتب سطرا من أول العهد ملاصقا للبسملة ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر على ما تقدم ويكتب السطر الثاني على سمت السطر الذي تحت البسملة ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويكون بين كل سطرين قدر ربع ذراع على قاعدة العهود
فإذا أنتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ ثم المستند ثم الحمد لله والصلاة على النبي ثم

الحسبلة
وتكون كتابته من غير نقط ولا شكل كسائر العهود
قلت ولو وسع ما بين سطوره ونقطت حروفه وشكلت لما فيه من معنى التقاليد لكان به أليق
وهذه صورة وضعه في الورق ممثلا لها بالطرة التي أنشأتها في معنى ذلك والعهد الذي أنشأه المقر الشهابي بن فضل الله للملك الأفضل محمد بن الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل آخر ملوك بني أيوب بها وهي
هذا عهد شريف عذبت موارده وحسنت بحسن النية فيه مقاصده وعاد على البرية باليمن عائده
من السلطان الأعظم ناصر الدنيا والدين الملك الناصر أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد قلاوون خلد الله تعالى ملكه وجعل الأرض بأسرها ملكه للمقام الشريف العالي السلطاني الملكي الأفضلي محمد إبن المقام العالي المؤيدي إسماعيل أعز الله تعالى أنصاره وأحمد آثاره بالسلطنة الشريفة بحماة المحروسة وأعمالها على أكمل العوائد وأتمها وأجمل القواعد وأعمها على ما شرح فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي أقر بنا الملك في أهلة أهله وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن لهم شبيه في فضله ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا من يلحق به كل فرع بأصله ويظهر به رونق السيف في نصله
الى أن يأتي إلى قوله في آخره والله تعالى يمدك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيد من تأييده والإعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه

إن شاء الله تعالى
هامش كتب في
سنة
حسب المرسوم الشريف
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه
حسبنا الله ونعم الوكيل

الباب الرابع من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب
من أصحاب السيوف والأقلام وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء وفيه خمسة أطراف
الطرف الأول فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله
عليهم
وكان الرسم في ذلك أن يفتتح العهد بلفظ هذا ما عهد أو هذا عهد من فلان لفلان ويؤتى على المقصد إلى آخره
ويقال فيه أمره بكذا وأمره بكذا
والأصل في ذلك ما كتب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأمرائه الذين وجههم لقتال أهل الردة وعليه بنى من بعده
وهذه نسخته
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام
عهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره
وأمره بالجد في أمر الله تعالى ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم

بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم فمن أجاب إلى أمر الله عز و جل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن له عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به
ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمه لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلا الإسلام فمن أجابه وأقر به قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عز و جل عليه قتل فيهم كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه مبلغناه وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول
وهذه نسخة عهد كتب به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين ولاه القضاء
أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك وانفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عونك
والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز

بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى
والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر والجزاء فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما

ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام
قلت هذا ما ذكره ابن عبد ربه في العقد
ويقع في بعض المصنفات ابتداؤه من عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد
ووقع في مسند البزار أن أوله اعلم أن القضاء فريضة محكمة مع تغيير بعض الألفاظ وتقديم بعض وتأخير بعض

الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أمية
كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب عن مروان بن محمد لبعض من ولاه
أما بعد فإن أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي المتسكع في حيرة الجهالة وظلم الفتنة ومهاوي الهلكة ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادا وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافا وبدلوا نعمة الله كفرا واستحلوا دماء أهل سلمه جهلا أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك وعوام شؤونك ودخائل أحوالك ومصطرف

تنقلك عهدا يحملك فيه أدبه ويشرع لك به عظته وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مختصا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك
ولولا ما أمر الله تعالى به دالا عليه وتقدمت فيه الحكماء آمرين به من تقديم العظة والتذكير لأهل المعرفة وإن كانوا أولي سابقة في الفضل وخصيصاء في العلم لاعتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إياك وتفضيله لك بما رآك أهله في محلك من أمير المؤمنين وسبقك إلى رغائب أخلاقه وانتزاعك محمود شيمه واستيلائك على مشابه تدبيره
ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم أو لقنوه إلهاما من تلقائهم ولم نصبهم تعلموا شيئا من غيرهم لنحلناهم علم الغيب ووضعناهم بمنزلة قصر بها عنهم خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته في فردانيته وسابق لاهوتيته احتجابا منه لتعقب في حكمه وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته على سابق مشيئته ولكن العالم الموفق للخير المخصوص بالفضل المحبو بمزية العلم وصفوته أدركه معانا عليه بلطف بحثه وإذلال كنفه وصحة فهمه وهجر سامته
وقد تقدم أمير المؤمنين إليك آخذا بالحجة عليك مؤديا حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك وما ينظر به الوالد المعني الشفيق لولده
وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل قبيح يهش له طمع وأن يعصمك من كل مكروه حاق بأحد وأن يحصنك من كل آفة استولت على امرىء في دين أو خلق وأن يبلغه فيك أحسن مالم يزل يعوده و يريه من آثار نعمة الله عليك سامية بك

إلى ذروة الشرف متبحبحة بك بسطة الكرم لائحة بك في أزهر معالي الأدب مورثة لك أنفس ذخائر العز والله يستخلف عليك أمير المؤمنين ويسأل حياطتك وأن يعصمك من زيغ الهوى ويحضرك داعي التوفيق معانا على الإرشاد فيه فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو
اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا وركب أخطارها قاصدا إلى سعة عاقبتها وأمن سرحها وشرف عزها وأنها لا تعار بسخف الخفة ولا تنشأ بتفريط الغفلة ولا يتعدى فيها بامريء حده وربما أظهرت بسطة الغي مستور العيب
وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها من غير تعب البحث في طلبها ولا متطاول لمناولة ذروتها بل تأثلت منها أكرم نبعاتها واستخلصت منها أعتق جواهرها ثم سموت إلى لباب مصاصها وأحرزت منفس ذخائرها فاقتعد ما أحرزت ونافس فيما أصبت
واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع

أمورك مؤثرا لها وإضمار طاعته منطويا عليها وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرا له مرتبطا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال أو غفلة ضياع أو سنة تهاون أو جهالة معرفة فإن ذلك أحق مابدىء به ونظر فيه معتمدا عليه بالقوة والآلة والعدة والإنفراد به من الأصحاب والحامة فتمسك به لاجئا إليه واعتمد عليه مؤثرا له والتجىء إلى كنفه متحيزا إليه فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة وأجزله ثوابا وأعوده نفعا وأعمه صلاحا أرشدك الله لحظك وفهمك سداده وأخذ بقلبك إلى محموده
ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه ويظهر منك السلامة في إشراقه من نفسك نصيبا تجعله له شكرا على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة جوارح وعافية بدن وسبوغ نعم وظهور كرامة
وأن تقرأ فيه من كتاب الله تبارك وتعالى جزءا تردد رأيك في آية وترتل لفظك بقراءته وتحضره عقلك ناظرا في محكمه وتتفهمه مفكرا في متشابهه فإن في القرآن شفاء الصدور من أمراضها وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعة وضياء معالم النور تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات وخصم العقل
واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك لأنها

خدع إبليس وخواتل مكره ومصايد مكيدته فاحذرها مجانبا لها وتوقها محترسا منها واستعذ بالله عز و جل من شرها وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لاونية فيه وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه ومضاءة صارمة لا أناة معها ونية صحيحة لا خلجة شك فيها فإن ذلك ظهري صدق لك على ردعها عنك وقمعها دون ما تتطلع إليه منك فهي واقية لك سخطة ربك داعية إليك رضا العامة عنك ساترة عليك عيب من دونك فازدن بها متحليا وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها وتوق عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها وتقصر بك دون شأوها فإن المؤونة إنما اشتدت مستصعبة وفدحت باهظة أهل الطلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سمو القدر بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها حتى فرط أهل التقصير في بعض أمورهم فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها فنسبوا إلى التفريط ورضوا بذل المنزل فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل عمهين عن درج الشرف ساقطين دون منزلة أهل الحجا فحاول بلوغ غاياتها محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع محصنا أعمالك من العجب فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة حارسا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها من حيث أتت الغفلة وانتشر الضياع ودخل الوهن
فتوق

غلوب الآفات على عقلك فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا وحال الرأي وفحص النظر فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين متحرزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها من ذلك أن تملك أمورك بالقصد وتداري جندك بالإحسان وتصون سرك بالكتمان وتداوي حقدك بالإنصاف وتذلل نفسك بالعدل وتحصن عيوبك بتقويم أودك وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي
وأناتك فوقها الملال وفوت العمل ومضاءتك فدرعها روية النظر واكنفها بأناة الحلم وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة وصمتك فانف عنه عي اللفظ وخف سوء القالة واستماعك فأرعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر وعطاءك فامهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب وتحرز فيه من السرف واستطالة البذخ وامتنان الصنيعة وحياءك فامنعه من الخجل وبلادة الحصر وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط وتعمد بها أهل الإستحقاق وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض وأقم به أود الدين واستئناسك فامنع منه البذاء وسوء المناقثة وتعهدك أمورك فحده أوقاتا وقدره ساعات لا تستفرغ قوتك ولا تستدعي سآمتك وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام وفرحاتك فاشكمها عن البطر

وقيدها عن الزهو وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع وحذراتك فامنعها من الجبن واعمد بها الحزم ورجاءك فقيده بخوف الفائت وامنعه من أمن الطلب
هذه جوامع خلال دخال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه وتصاريف حويلة فأحكمها عارفا بها وتقدم في الحفظ لها معتزما على الأخذ بمراشدها والإنتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من خاصة أهل بيتك وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فصالها بين فراسن البزل منها وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي وعين المشورة مأمون النصيحة منطوي الضمير على الطاعة
ثم أحضرهم من نفسك وقارا يستدعي لك منهم الهيبة واستئناسا يعطف إليك منهم المودة وإنصاتا يفل إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم ولا يغلبن عليك هواك فيصرفك عن الرأي ويقتطعك دون الفكر
وتعلم أنك وإن خلوت بسر فالقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك وإن استترت بربما ولعل وما أرى إذاعة ذلك وأعلم بما يرون

من حالات من ينقطع به في تلك المواطن
فتقدم في إحكام ذلك من نفسك واسدد خلله عنك فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجو المنتظر فيك
وإياك أن يغمز فيك أحد من حامتك وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغا إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه ولا تخلو من لائمته ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرا أو علن باديا ولن يجترئوا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولا لها وترخيصا لهم في الإفاضة بها
ثم إياك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة ويتسرع نحوها ذوو الجهالة ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يذيعونه وطعنا في حق يجحدونه مع ما في ذلك من نقص الرأي ودرن العرض وهدم الشرف وتأثيل الغفلة وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصلد فإذا قدح لاح شرره وتلهب وميضه ووقد تضرمه وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقدا وأعلى كمونا وأسرع إليه بالعيب وتطرق الشين منها لمن كان في مثل سنك من أغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم تقع عليهم سمات الأمور ناطقا عليهم لائحها ظاهرا فيهم وسمها ولم تمحضهم شهامتها مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم ولم يبلغ بهم الصيت في الحنكة مستمعا يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي ومواد أبصار أهل الحسد

ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أبطال الذرع ونخوة الشرف والتيه وعيب الصلف فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين عقولهم في مواطن جمة وأنحاء مصطرفة منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة فمن مقلقل شخصه بكثرة الإلتفات عن يمينه وشماله تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتضاحك إليه والإيجاف في السير مرحا وتحريك الجوارح متسرعا يخال أن ذلك أسرع له وأحث لمطيته فلتحسن في ذلك هيأتك ولتجمل فيه دعتك وليقل على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر غير ملتفت إلى محدث ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والإستنهاض فإن حسن مسايرة الوالي واتداعه في تلك الحالة دليل على كثير من عيوب أمره ومستتر أحواله
واعلم أن أقواما يتسرعون إليك بالسعاية ويأتونك على وجه النصيحة
ويستميلونك بإظهار الشفقة ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم

منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة ولا معروف بتهمة ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لإيتاغ دينك ويحملك على رعيتك بما لا حقيقة له عندك ويلحمك أعراض قوم لا علم لك بدخلهم إلا بما أقدم به عليهم ساعيا وأظهر لك منهم منتصحا
وليكن صاحب شرطتك المتولي لإنهاء ذلك هو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم ثم لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة فإن كان صوابا نالتك خيرته وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل أو فرطة سعى بها كاذب فنالت الساعي منهما أو المظلوم عقوبة أو بدر من واليك إليه عقوبة ونكال لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط وخلوت من موضع الذم فيه محضرا إليه ذهنك وصواب رأيك وتقدم إلى من تولي ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه أن لا يقدم على شيء ناظرا فيه ولا يحاول أخذ أحد طارقا له ولا يعاقب أحدا منكلا به ولا يخلي سبيل أحد صافحا عنه لإصحار براءته وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره وينهي إليك قضيته على جهة الصدق ومنحى الحق ويقين الخبر فإن رأيت

عليه سبيلا لمحبس أو مجازا لعقوبة أمرته بتولي ذلك من غير أدخاله عليك ولا مشافهة لك منه فكان المتولي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلا أو كان مما قرف به خليا كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره فتوليت أجر ذلك واستحققت ذخره وأنطقت لسانه بشكرك وطوقت قومه حمدك وأوجبت عليهم حقك فقرنت بين خصلتين وأحرزت حظوتين ثواب الله في الآخرة ومحمود الذكر في الدنيا
ثم وإياك أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك أو حاجة يبدهك بطلبها حتى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له فيعرضها عليك منهيا لها على جهة الصدق عنها وتكون على معرفة من قدرها فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها أذنت له في طلبها باسطا له كنفك مقبلا عليه بوجهك مع ظهور سرورك بما سألك وفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس وإن كرهت قضاء حاجته وأحببت رده عن طلبته وثقل عليك إجابته إليها وإسعافه بها أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها فخفت عليك في ذلك المؤونة وحسن لك الذكر ولم ينشر عنك تجهم الرد وينلك سوء القالة في المنع وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك وعلم ما قدم له عليك وجهة

ماهو مكلمك به وقدر ماهو سائلك إياه إذا هو وصل إليك فأصدرت رأيك في حوائجه وأجلت فكرك في أمره واخترت معتزما على إرادتك في جوابه وأنفذت مصدور رويتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك وعلمه بوصول حاله إليك فرفعت عنك مؤونة البديهة وأرخيت عن نفسك خناق الروية وأقدمت على رد جوابه بعد النظر وإجالة الفكر فيه فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك دفعته عنك دفعا جميلا ومنعته جوابك منعا وديعا ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة عليه ومنعه من الوصول إليك فإن ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب صارفا عنك مؤونتها ومسهلا عليك مستصعبها
احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه إن حل بك أو حادث إن طرأ عليك وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى وتستعضده في موهم النازل وتتعقب به أمورك في التدبير فإن احتجت إلى مادة من عقلك وروية من فكرك أو انبساط من منطقك كان انحيازك إلى ظهريك مزدادا مما أحببت الامتياح منه والامتيار وإن استدبرت من أمورك بوادر جهل أو مضى زلل أو معاندة حق أو خطل تدبير كان ما احتجنت إليه من

رأيك عذرا لك عند نفسك وظهريا قويا على رد ما كرهت وتخفيفا لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر وحصنا من غلوب الآفات عليك واستعلائها على أخلاقك
وامنع أهل بطانتك وخاصة خدمك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة والتقرب إليك بالسعاية والإغراء من بعض ببعض أو النميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة فإن ذلك أبلغ بك سموا إلى منالة الشرف وأعون لك على محمود الذكر وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير
واملك نفسك عن الإنبساط في الضحك والانفهاق وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله فإن ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل وخروج من انتحال اسم الفضل وليكن ضحكك تبسما أو كشرا في أحايين ذلك وأوقاته وعند كل رائع مستخف مطرب وقطوبك إطراقا في مواضع ذلك وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم وتملك عليها بادرة الجهل
إذا كنت في مجلس ملئك وحيث حضور العامة مجلسك فإياك والرمي بنظرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة عندك من حشمك وليكن نظرك مقسوما في الجميع وإراعتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة ووقار حسن وحضور فهم مجتمع وقلة تضجر بالمحدث ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوادك متوجها بنظر ركين وتفقد محض فإن وجه إليك أحد منهم نظره محدقا أو رماك ببصره ملحا فاخفض عنه إطراقا جميلا باتداع وسكون

وإياك والتسرع في الإطراق والخفة في تصريف النظر والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقا بنظره
واعلم أن تصفحك وجوه جلسائك وتفقدك مجالس قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب وذكاء الفطنة وانتباه السنة فتفقد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك عالما بمواضعهم من مجلسك ثم اعد بهم عن ذلك سائلا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك وعاقتهم بالتخلف عنك
إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير وتعرف منه لين طاعة وتشرف منه على صحة رأي وتأمنه على مشورتك فإياك والإقبال عليه في كل حادث يرد عليك والتوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك وأن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أن بك حاجة إليه موحشة أو أن ليس بك عنه غنى في التدبير أو أنك لا تقضي دونه رأيا إشراكا منك له في رويتك وإدخالا منك له في مشورتك واضطرارا منك إلى رأيه في الأمر يعروك فإن ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك فانفها عن نفسك خائفا لاعتلاقها ذكرك واحجبها عن رويتك قاطعا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك أو غلوبهم عليها منك
واعلم أن للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر ولكل أمر غاية تحيط بحدوده وتجمع معالمه فابغها محرزا لها ورمها طالبا لنيلها وإياك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها أو التفريط في طلبها
إن شاء الله تعالى
إياك والإغرام عن حديث ما أعجبك أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال أو

القطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عما ليس منه فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها ولكن أنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أن قد فهمت حديثه وأحطت معرفة بقوله فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجب من حديثه بالتبسم والإغضاء فأجزى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب
إياك وأن يظهر منك تبرم بطول مجلسك أو تضجر ممن حضرك وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه فإن ذلك سخف شائن وخفة مردية وجهالة بادية وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام والترك لفضوله والإغرام بالزيادات في منطقك والترديد للفظك من نحو ااسمع وافهم عني وياهناه وألا ترى أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل الشائنة لذوي الحجا في المنطق المنسوبة إليهم بالعي المردية لهم بالذكر
وخصال من معايب الملوك والسوقة عنها غبية النظر إلا من عرفها من أهل الأدب وقلما حامل لها مضطلع بها صابر على ثقلها آخذ لنفسه بجوامعها فانفها عن نفسك بالتحفظ منها واملك عليها اعتيادك إياها معتنيا بها منها كثرة

التنخم والتبصق والتنخع والثؤباء والتمطي والجشاء وتحريك القدم وتنقيض الأصابع والعبث بالوجه واللحية أو الشارب أو المخصرة أو ذؤابة السيف أو الإيماض بالنظر أو الإشارة بالطرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته أو السرار في مجلسك أو الاستعجال في طعمك أو شربك وليكن طعمك متدعا وشربك أنفاسا وجرعك مصا وإياك والتسرع إلى الإيمان فيما صغر أو كبر من الأمور والشتيمة بقول يا ابن الهناة أو الغميزة لأحد من خاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك فإن ذلك كله مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه وتحمل عليك معايبه وينالك شينه وينتشر عليك سوء النبإ به فاعرف ذلك متوقيا له واحذره مجانبا لسوء عاقبته
استكثر من فوائد الخير فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة واصبر على كظم الغيظ فإنه يورث الراحة ويؤمن الساحة وتعهد العامة بمعرفة دخلهم وتبطن أحوالهم واستثارة دفائنهم حتى تكون منها على رأي عين ويقين خبرة فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم وتقيم أودهم وتعلم جاهلهم وتستصلح فاسدهم فإن ذلك من فعلك بهم يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقي لك لسان الصدق في العاقبة ويحرز لك ثواب الآخرة ويرد عليك

عواطفهم المستنفرة منك وقلوبهم المتنحية عنك
قس بين منازل أهل الفضل في الدين والحجا والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والخمول عند مباهاة النسب وانظر بصحبة أيهم تنال من مودته الجميل وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرفة بك فاعتمد عليهم مدخلا لهم في أمرك وآثرهم بمجالستك لهم مستمعا منهم وإياك وتضييعهم مفرطا وإهمالهم مضيعا
هذه جوامع خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين مفسرا وجمع لك شواذها مؤلفا وأهداها إليك مرشدا فقف عند أوامرها وتناه عن زواجرها وتثبت في مجامعها وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشرف وأعلى درج الذكر وتأثل سطر العز والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد وتتابع المزيد وبلوغ الأمل وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها وعافية يحلك أكنافها ونعمة يلهمك شكرها فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد منه تمام الصالحات وهو مؤتي الحسنات عنده مفاتيح الخير وبيده الملك وهو على كل شيء قدير
فإذا أفضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم وأخذت أهبة قتالهم فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها وثقتك التي تأمل النجاة بها وركنك الذي ترتجي منالة الظفر به وتكتهف به لمعالق الحذر تقوى الله مستشعرا لها بمراقبته

والإعتصام بطاعته متبعا لأمره مجتنبا لسخطه محتذيا سنته والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده أو تعدي شرائعه متوكلا عليه فيما صمدت له واثقا بنصره فيما توجهت نحوه متبرئا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز راغبا فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو المسلمين أكلبهم عليه وأظهره عداوة لهم وأفدحه ثقلا لعامتهم وآخذه بربقهم وأعلاه عليهم بغيا وأظهره عليهم فسقا وفجورا وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم وفتحه عليهم مؤونة وكلا والله المستعان عليهم والمستنصر على جماعتهم عليه يتوكل أمير المؤمنين وإياه يستصرخ عليهم وإليه يفوض أمره وكفى بالله وليا وناصرا ومعينا وهو القوي العزيز
ثم خذ من معك من تباعك وجندك بكف معرتهم ورد مشتعل جهلهم وإحكام ضياع عملهم وضم منتشر قواصيهم ولم شعث أطرافهم وتقييدهم عمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة وعفاف الطعمة ودعة الوقار وهدي الدعة وجمام المستجم محكما ذلك منهم متفقدا لهم تفقدك إياه من نفسك
ثم أصمد لعدوك المتسمي بالإسلام الخارج من جماعة أهله

المنتحل ولاية الدين مستحلا لدماء أوليائه طاعنا عليهم راغبا عن سنتهم مفارقا لشرائعهم يبغيهم الغوائل وينصب لهم المكايد أضرم حقدا عليهم وأرصد عداوة لهم وأطلب لغرات فرصهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من دين الله إلى الفتنة مخترعا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خسارا وتخسيرا وضلالا وتضليلا بغير هدى من الله ولا بيان ساء ما كسبت له يداه وما الله بظلام للعبيد وساء ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء والله من ورائه بالمرصاد ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
حصن جندك وأشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه وارج نصره وتنجز موعوده متقدما في طلب ثوابه على جهادهم معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم فإن طاعتك إياه فيهم ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهل لك وعوره وعاصمك من كل سبة ومنجيك من كل هوة وناعشك من كل صرعة ومقيلك من كل كبوة وداريء عنك كل شبهة ومذهب عنك لطخة كل شك ومقويك بكل أيد ومكيدة ومعزك في كل معترك قتال ومؤيدك في كل مجمع لقاء وكالئك عند كل فتنة مغشية وحائطك من كل شبهة مردية والله وليك وولي أمير المؤمنين فيك والمستخلف على جندك ومن معك

اعلم أن الظفر ظفران أحدهما وهو أعم منفعة وأبلغ في حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة وأتمه عافية وأعوده عاقبة وأحسنه في الأمور موردا وأعلاه في الفضل شرفا وأصحه في الروية حزما وأسلمه عند العامة مصدرا ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة ويمن النقيبة واستنزال طاعة ذوي الصدوف بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب ومبارزة الفرسان في معترك الموت وإن ساعدتك طلوق الظفر ونالك مزيد السعادة في الشرف ففي مخاطرة التلف مكروه المصائب وعضاض السيوف وألم الجراح وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة أبطالها
على أنك لا تدري لأي يكون الظفر في البديهة ومن المغلوب بالدولة ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك وأشهرهما صيتا في بدو تدبيرك ورأيك وأجمعهما لألفة وليك وعدوك وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل متلك وأقواهما شكيمة في حزمك وأبعدهما من وصم عزمك وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك وأجزلهما ثوابا عند ربك
وابدأ بالإعذار إلى عدوك والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعز الألفة آخذا بالحجة عليهم متقدما بالإنذار لهم باسطا أمانك لمن لجأ إليك منهم داعيا لهم إليه بألين لفظك وألطف حيلك متعطفا برأفتك عليهم مترفقا بهم في دعائك مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم

وإحاطة الهلكة بهم منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار تعدهم إعطاء كل رغبة يهش ليها طمعهم في موافقة الحق وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم موطنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك قابلا توبة نازعهم عن الضلالة ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصرته إياه من حقك وطاعتك بفضل المنزلة وإكرام المثوى وتشريف الجاه وليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب في مثله الصادف عنك المصر على خلافك ومعصيتك ويدعو إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلا وأنجى له من العقاب آجلا وأحوطه على دينه ومهجته بدءا وعاقبة فإن ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم ويعتضد به في تقديمه الحجة إليهم معذرا أو منذرا إن شاء الله
ثم أذك عيونك على عدوك متطلعا لعلم أحوالهم التي يتقبلون فيها ومنازلهم التي هم بها ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح وأقودها لرضاهم إلى العافية وأسهلها لاستنزال طاعتهم ومن أي الوجوه مأتاهم أمن قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد أو الترغيب والإطماع متثبتا في أمرك متخيرا في رويتك مستمكنا من رأيك مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن وخبطتهم التجربة ونجذتهم الحروب متشزنا في حربك آخذا بالحزم في سوء الظن معدا

للحذر محترسا من الغرة كأنك في مسيرك كله ونزولك أجمع مواقف لعدوك رأي عين تنتظر حملاتهم وتتخوف كراتهم معدا أقوى مكايدك وأرهب عتادك وأنكأ جدك وأجد تشميرك معظما أمر عدوك لأعظم مما بلغك حذرا يكاد يفرط لتعد له من الإحتراس عظيما ومن المكيدة قويا من غير أن يفثأك ذلك عن إحكام أمورك وتدبير رأيك وإصدار رويتك والتأهب لما يحزبك مصغرا له بعد استشعار الحذر واضطمار الحزم وإعمال الروية وإعداد الأهبة فإن ألفيت عدوك كليل الحد وقم الحزم نضيض الوفر لم يضرك ما اعتددت له من قوة وأخذت له من حزم ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه وتسرعا إلى لقائه
وإن ألفيته متوقد الحرب مستكثف الجمع قوي التبع مستعلي سورة الجهل معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعرا ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعا كنت لأخذك بالحزم واستعدادك بالقوة غير مهين الجند ولا مفرط في الرأي ولا متلهف على إضاعة تدبير ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك وخوفا يقلقك
ومتى تغتر بترقيق المرققين وتأخذ بالهوينى في أمر عدوك لتصغير المصغرين ينتشر عليك رأيك ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك وإهمال للحزم في جندك وتضييع له وهو ممكن الإصحار رحب المطلب قوي العصمة فسيح المضطرب مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم وضبط مراكزهم لما

يرون فيه من استنامتك إلى الغرة وركونك إلى الأمن وتهاونك بالتدبير فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف وضياع الأحكام ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره ولا يدفع مخوفه
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت به ظنا وأتاك غيره بخلافه أو أن تكذبه فيه فترده عليه ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول أو خرج جاسوسك الأول متقدما قبل وصول هذا من عند عدوك وقد أبرموا لك أمرا وحاولوا لك مكيدة وأرادوا منك غرة فازدلفوا إليك في الأهبة ثم انتقض بهم رأيهم وأختلف عنه جماعتهم فأرادوا رأيا وأحدثوا مكيدة وأظهروا قوة وضربوا موعدا وأموا مسلكا لمدد أتاهم أو قوة حدثت لهم أو بصيرة في ضلالة شغلتهم فالأحوال بهم متنقلة في الساعات وطوارق الحادثات
ولكن ألبسهم جميعا على الانتصاح وارضخ لهم بالمطامع فإنك لن تستعبدهم بمثلها وعدهم جزالة المثاوب في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوك والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم والإستكثار من العدة واجعلهم أوثق من تقدر عليه وآمن من تسكن إلى ناحيته ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا وتأتيهم من حيث أمنوا وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا وتستعد لهم بمثل ما حذروا

واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك وربما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشوا عدوك وغشوك ونصحوا عدوك وكثيرا ما يصدقونك ويصدقونه فلا تبدرن منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك واستنزل نصائحهم بالمياحة والمنالة وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه أو رددته عليه رد المكذب به المتهم له المستخف بما أتاك منه فتفسد بذلك نصيحته وتستدعي غشه وتجتر عداوته
واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك ويكون هو الموجه لهم والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم
واعلم أن لعدوك في عسكرك عيونا راصدة وجواسيس متجسسة وأنه لن يقع رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به وسيحتال لك كاحتيالك له ويعد لك كإعدادك فيما تزاوله منه ويحاولك كمحاولتك إياه فيما تقارعه عنه فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه فيعد له المراصد ويحتال له بالمكايد
فإن ظفر به فأظهر عقوبته كسر ذلك ثقات عيونك وخذلهم عن تطلب الأخبار من معادنها واستقصائها من عيونها واستعذاب اجتنائها من ينابيعها حتى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثقة ولا المعاينة لقطا لها بالأخبار الكاذبة والأحاديث المرجفة
واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا فإنك لا تأمن تواطؤهم عليك وممالأتهم عدوك واجتماعهم على غشك وتطابقهم على كذبك وإصفاقهم على خيانتك وأن

يورط بعضهم بعضا عند عدوك فأحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك وقوام تدبيرك وعليهم مدار حربك وهو أول ظفرك فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به تنل أملك من عدوك وقوتك على قتاله واحتيالك لإصابة غراته وأنتهاز فرصه إن شاء الله
فإذا أحكمت ذلك وتقدمت في إتقانه واستظهرت بالله وعونه فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك وأظهرهم نصيحة لك وأنفذهم بصيرة في طاعتك وأقواهم شكيمة في أمرك وأمضاهم صريمة وأصدقهم عفافا وأجزأهم غناء وأكفاهم أمانة وأصحهم ضميرا وأرضاهم في العامة دينا وأحمدهم عند الجماعة خلقا وأعطفهم على كافتهم رأفة وأحسنهم لهم نظرا وأشدهم في دين الله وحقه صلابة ثم فوض إليه مقويا له وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا حامدا منه الإبتلاء وليكن عالما بمراكز الجنود بصيرا بتقدم المنازل مجربا ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة له نباهة في الذكر وصيت في الولاية معروف البيت مشهور الحسب وتقدم إليه في ضبط معسكره وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره ثم حذره أن يكون منه إذن لجنوده في الإنتشار والاضطراب والتقدم لطلائعك فتصاب لهم غرة يجتريء بها عدوك عليك ويسرع إقداما إليك ويكسر من إياد جندك ويوهن من قوتهم فإن الصوت في إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك مقو لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك وتوهينهم تدبيرك فحذره ذلك وتقدم إليه فيه ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم فيعمهم أزله

ويشملهم ضنكه وتسوء عليهم حاله وتشتد به المؤونة عليهم وتخبث له ظنونهم وليكن موضع إنزاله إياهم ضاما لجماعتهم مستديرا بهم جامعا لهم ولا يكون منبسطا منتشرا متبددا فيشق ذلك على أصحاب الأحراس وتكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته
وأوعز إليه في أحراسه وتقدم إليه فيهم كأشد التقدم وأبلغ الإيعاز ومره فليول عليهم رجلا ركينا مجربا جريء الإقدام ذاكي الصرامة جلد الجوارح بصيرا بمواضع أحراسه غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهية والسعة وتقدم العسكر والتأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه
واعلم أن مواضع الأحراس من معسكرك ومكانها من جندك بحيث الغناء عنهم والرد عليهم والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقا أو أرادهم خاتلا ومراصدها المنسل منها والآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظها من العيون والجواسيس من عدوهم
واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصرامة بمؤامرتك في كل أمر حادث وطاريء إلا في المهم النازل والحدث العام فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك واستوليت على محصول ضميره في طاعتك وأجهد نفسه في ترتيبك وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك وكان ثقتك وردأك وقوتك ودعامتك وتفرغت أنت لمكايدة عدوك مريحا

لنفسك من هم ذلك والعناية به ملقيا عنك مؤونة باهظة وكلفة فادحة إن شاء الله
وأعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام ولا بمثل محله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود فليكن من توليه القضاء في عسكرك من ذوي الخير في القناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجتريء على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصاف فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت بادي الوقار محتسبا للخير
ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملته وأعنه على ما وليته فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة إن حسنت نيته وصدقت رويته وصحت سريرته وسلط حكم الله على رعيته مطلقا عنانه منفذا قضاء الله في خلقه عاملا بسنته في شرائعه آخذا بحدوده وفرائضه
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته فيهم فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه
ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة حماة كفاة قد صلوا بالحرب وذاقوا

سجالها وشربوا مرار كؤوسها وتجرعوا غصص درتها وزبنتهم بتكرار عواطفها وحملتهم على أصعب مراكبها وذللتهم بثقاف أودها
ثم انتقهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك وتوخ في انتقائك ظهور الجلد وشهامة الخلق وكمال الآلة
وإياك أن تقبل من دوابهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة فإنهن أسرع طلبا وأنجى مهربا وألين معطفا وأبعد في اللحوق غاية وأصبر في معترك الأبطال إقداما وخذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة النسج متقاربة الحلق متلاحمة المسامير وأسوق الحديد مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم
ويلمق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس واقية الجنن مستديرة الطبع مبهمة السرد وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة واستدارة التقبيب واستواء الصوع معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم والمعلم مخشي محذور له بديهة رادعة وهيبة هائلة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسنونة الشحذ مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية

الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولا عابها أمت الصوغ ولا شانها خفة الوزن ولا فدح حاملها بهور الثقل قد أشرعوا لدن القنا طوال الهوادي مقومات الأود زرق الأسنة مستوية الثعالب وميضها متوقد وسنخها متلهب معاقص عقدها منحوتة ووصوم أودها مقومة وأجناسها مختلفة وكعوبها جعدة وعقدها حبكة شطبة الأسنان مموهة الأطراف مستحدة الجنبات دقاق الأطراف ليس فيها التواء أود ولا أمت وصم ولا بها مسقط عيب ولا عنها وقوع أمنية مستحقبي كنائن النبل وقسي الشوحط والنبع أعرابية التعقيب رومية النصول مسمومة الصوغ ولتكن سهامها على خمس

قبضات سوى النصول فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد سامطين حقائبهم على متون خيولهم مستخفين من الآلة والأمتعة والزاد إلا ما لا غناء بهم عنه
وأحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتابك فإنك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم وفرطت حيث الرأي ووقفت دون عزم الروية ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة وناله فساد المداهنة وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدة ولا حصنا يدرئون به ويكتهفون بموضعه
والطلائع حصون المسلمين وعيونهم وهم أول مكيدتك وعروة أمرك فليكن اعتناؤك بهم وانتقاؤك إياهم بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت مشهور الاسم ظاهر الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته وتنكب لقاؤه أمين السريرة ناصح الجيب قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين الطاعة وخالص المودة وركانة الصرامة وغلوب الشهامة واستجماع القوة وحصافة التدبير ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعذاب ضمائرهم وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم وتمد من اطماعهم سوى أرزاقهم في العامة فإن ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها كبتا لمحادك وأشجاها غيظا لعدوك ومن يكن في الثقة والجلد والبأس

والطاعة والقوة والنصيحة والعدة والنجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به يضع عنك مؤونة الهم ويرخ من خناقك روع الخوف وتلتجيء إلى أمر منيع وظهر قوي ورأي حازم تأمن به فجآت عدوك وغرات بغتاتهم وطوارق أحداثهم ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم فانتخبهم رأي عين وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك وحصانة كهوفتك وقوة سيارة عسكرك
وإياك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة أو تحتمله على هوادة أو تقدمه لأثره أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح فتشتد عليهم مؤونة أنفسهم ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم ويشتغلون به عن عدوهم إن دهمهم منه رائع أو فجأهم منه طليعة فتفقد ذلك محكما له وتقدم فيه آخذا بالحزم في إمضائه أرشدك الله لإصابة الحظ ووفقك ليمن التدبير وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل وأكبته لعدوك وأشجاه لهم وأردعه لعاديتهم
ول دراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروفا بالنجدة ذا سن وتجربة لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة له بصيرة بالحق نافذة تقدمه ونية صادقة عن الإدهان تحجزه واضمم إليه عدة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس وإذكاء العيون وحفظ الأطراف وشدة الحذر ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم كل قائد بإزاء مكانه وحيث منزله قد سد ما بينه وبين صاحبه بالرماح

شارعة والترسة موضونة والرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع خائفة طوارق العدو وبياته ثم مره فليخرج كل ليلة قائدا في أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرا على غلوة أو اثنتين من عسكرك منتبذا عنك محيطا بمنزلك ذاكية أحراسه قلقة التردد مفرطة الحذر معدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه متفرقين في اختلافهم كردوسا كردوسا يستقبل بعضهم بعضا في الإختلاف ويكسع تال متقدما في التردد واجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبا معروفة وحصصا مفروضة لا تعر منها مزدلفا منك بمودة ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة إن شاء الله تعالى
فوض إلى أمراء أجنادك وقواد خيلك أمور أصحابهم والأخذ على قافية أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والإتباع لأمرهم والوقوف عند نهيهم وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها والأعمال التي استنجدتهم لها والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم فإن ذلك مفسدة للجند مفثأة للقواد عن الجد والإيثار للمناصحة والتقدم في الاحكام
واعلم أن في استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع

على أعمالك واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي وأوعز إلى القواد أن لا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل وتثقيف أود فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة حد في قطع أو إفراط في ضرب أو أخذ مال أو عقوبة في شعر فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم توجب لهم عليك الحجة بتضييع إن كان منهم لأمرك أو خلل إن تهاونوا به من عملك أو عجز إن فرط منهم في شيء مما وكلتهم به أو أسندته إليهم ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم وإفسادك إياهم عليك وعليهم فانظر في ذلك نظرا محكما وتقدم فيه برفقك تقدما بليغا وإياك أن يدخل حزمك وهن أو يشوب عزمك إيثار أو يخلط رأيك ضياع والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر وكان من عسكرك مقتربا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته فتأهب أهبة المناجز وخذ اعتداد الحذر وكتب خيولك وعب جندك وإياك والمسير إلا في مقدمة وميمنة وميسرة وساقة قد شهروا الأسلحة ونشروا البنود والأعلام وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال واستعدوا للقاء ملتجئين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم وليكن ترحلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم قد عرف كل قائد منهم أصحابه مواقفهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها غير مخلين بما استنجدوا له ولا متهاونين بما أهيب بهم إليه حتى تكون عساكرك في منهل

تصل إليه ومسافة تختارها كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدو وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها في مراكزها ومعرفتها بمواضعها إن ضلت دابة من موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها فردت إليه هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضا في العامة وإنصافا من نفسه للرعية وأخذا بالحق في المعدلة مستشعرا تقوى الله وطاعته آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال وشبيها بك في الشرف وعديلا في الموضع ومقاربا في النسب ثم أكثف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واعمده بالسلاح ومره بالتعطف على ذوي الضعف من جندك ومن أزحفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترحله إلا لمجهود سقما أو لمطروق بآفة جائحة
ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا وأنهه مغلظا في الشدة على من مر به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك شادا لهم أسرا وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا وموجههم إليك فتنهكهم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة

واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه وصرامة تؤمنك مهانته ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته لم يأمن أمير المؤمنين تسلل الجند عنك لواذا ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم والشدة على من اجترمه منهم فأوشك ذلك في وهنك وخذل من قوتك وقلل من كثرتك
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك جليدا ماضيا عفيفا صارما شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة في خمسين فارسا يحشر إليك جندك ويلحق بك من تخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنهك لهم والتنكيل بهم
وليكن بعقوتك في المنزل الذي ترحل عنه والمنهل الذي تتقوض منه مفرطا في النفض له والتتبع لمن تخلف عنك به مشتدا في أهل المنزل وساكنه بالتقدم موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم وإخراجهم عن مكامنهم وإيعاد العقوبة الموجعة والنكال المبسل في الأشعار والأبشار واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا أو ستر موضعه أو أخفى محله وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد والمحاباة لذي قرابة والإختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة ولتكن فرسانه منتخبين في القوة معروفين بالنجدة عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وجبب الإستجنان متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهيج إن بدههم أو كمين إن يظهر لهم وإياك أن تقبل منهم في دوابهم إلا فرسا قويا أو برذونا وثيجا فإن ذلك

من أقوى القوة لهم وأعون الظهري على عدوهم إن شاء الله
ليكن رحيلك إبانا واحدا ووقتا معلوما لتخف المؤونة بذلك على جندك ويعلموا أوان رحيلهم فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه ويطمئن ذوو الرأي إلى إبان الرحيل ومتى يكن رحيلك مختلفا تعظم المؤونة عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة
إياك أن تظهر استقلالا أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه حتى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك آخذا بجنبتي فوهته بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر أو مفاجأة من طليعة للعدو إن رأت منكم نهزة أو لمحت عندكم غرة ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك واقية حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم سرتم على تعبئتكم بسكون ريح وهدو حملة وحسن دعة
فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأهله والمعرفة بمرافقه ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله ويستثير لك علم دفينه ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه لتعلم كيف احتماله لعسكرك وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه وهل لك إن أردت مقاما به أو مطاولة عدوك أو مكايدته فيه قوة تحملك ومدد يأتيه فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه وقلة

مياهه وانقطاع مواده إن أردت بعدوك مكيدة أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوك ولم تجد إلى المحاربة والاخطار سبيلا وإن أقمت به أقمت على مشقة وحصر وفي أزل وضيق فاعرف ذلك وتقدم فيه
فإن أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي وكلت بالناس فوقفت خيله متنحية من معسكرك عدة لأمر إن غالك ومفزعا لبديهة إن راعتك فقد أمنت بحمد الله وقوته فجأة عدوك وعرفت موقعها من حرزك حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دبابتك من معسكرك دراجة ودبابا محيطين بعسكرك وعدة إن احتجت إليها
ولتكن دبابات جندك أهل جلد وقوة قائدا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوبا بينهم فإذا غربت الشمس ووجب نورها أخرج إليهم صاحب تعبئتك أبدالهم عسسا بالليل في أقرب من مواضع دبابي النهار يتعاور ذلك قوادك جميعا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان إن شاء الله
إياك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك إذا وضعت الأثقال وحطت أبنية أهل العسكر لم يمدد طنب ولم يرفع خباء ولم ينصب بناء حتى تقطع لكل قائد ذرعا معلوما من الأرض بقدر أصحابه فيحفروه عليهم خندقا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك طارحين لها دون اشتجار الرماح ونصب الترسة لها بابان قد وكلت

بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز وموضع تلك الخيل وكانوا البوابين والأحراس لذينك الموضعين قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما
واعلم أنك إذا كنت في خندق أمنت بإذن الله وقوته طوارق عدوك وبغتاتهم فإن راموا تلك منك كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه وتقدمت في الإعداد له ورتقت مخوف الفتق منه وإن تكن العافية استحقيت حمد الله عليها وارتبطت شكره بها ولم يضررك أخذك بالحزم لأن كل كلفة ونصب ومؤونة إنفاق ومشقة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة إن شاء الله
فإن ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعا في ليلك فليلفك حذرا مشمرا عن ساقك حاسرا عن ذراعك متشزنا لحربك قد تقدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين ودبابتك في أوقاتها التي قدر لك وطلائعك حيث أمرك وجندك على ما عبأ لك قد خطرت عليهم بنفسك وتقدمت إلى جندك إن طرقهم طارق أو فاجأهم عدو أن لا يتكلم منهم أحد رافعا صوته بالتكبير مغرقا في الإجلاب معلنا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدو طارقا وليشرعوا رماحهم ناشبين بها في وجوههم ويرشقونهم بالنبل مكتنين بأترستهم لازمين لمراكزهم غير مزيلي قدم عن موضعها ولا متجاوزين إلى غير مركزهم وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون لتعرف موضع عدوك من معسكرك فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد بحضرتك وتدس إليهم النشاب والرماح

وإياك وأن يشهروا سيفا يتجالدون به
وتقدم إليهم أن لا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم والنشاب راشقين به وجوههم قد ألبدوا بالأترسة وأستجنوا بالبيض وألقوا عليهم سوابغ الدروع وجباب الحشو فإن صد العدو عنهم حاملين على جهة أخرى كبر أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى وبقية العسكر سكوت والناحية التي صد عنها العدو لازمة مراكزهم منتطقة الهدو ساكنة الريح ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم
وإياك أن تخمد نار رواقك وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها وأوقدها حطبا جزلا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك فيسكن نافر قلوبهم ويقوى واهي قوتهم ويشتد منخذل ظهورهم ولا يرجمون بك الظنون ويجعلون لك آراء السوء ويرجفون بك آناء الخوف وذلك من فعلك راد عدوك بغيظه لم يستفلل منك ظفرا ولم يبلغ من نكايتك سرورا
وإن انصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدة وكتيبة منتخبة وقدرت على أن تركب بهم أكساءهم وتحملهم على سننهم فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك وأولو النجدة من حماتك فإنك ترهق عدوك وقد أمن من بياتك وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بأبواب معسكره والضبط لمحارسه عليك موهنة حماتهم لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد قد عقر الله فيهم وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم وكسر من أماني ضلالهم ورد من

مستعلي جماحهم
وتقدم إلى من توجهه في طلبهم وتتبعه أكساءهم في سكون الريح وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل واستنصار الله عز و جل بألسنتهم وقلوبهم سرا وجهرا بلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم وينتهزوا فرصتهم ثم ليشهروا السلاح وينتضوا السيوف فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي والمستميت المقاتل وقليل ما هم عند تلك الحمية وفي ذلك الموضع
ليكن أول ما تتقدم به في التهيؤ لعدوك والإستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصرامة ممن قد اعتاد طراد الكماة وكشر عن ناجذه في الحرب وقام على ساق في منازلة الأقران ثقف الفروسية مجتمع القوة مستحصد المريرة صبورا على هول الليل عارفا بمناهزة الفرص لم تمهنه الحنكة ضعفا ولا بلغت به السن كلالا ولا أسكرته غرة الحداثة جهلا ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفا جريئا على مخاطرة التلف مقدما على ادراع الموت مكابرا لمهيب الهول متقحما مخشي الحتوف خائضا غمرات المهالك برأي يؤيده الحزم ونية لا يخالجها الشك وأهواء مجتمعة وقلوب مؤتلفة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم أعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيل وأسلحتهم سوابغ الدروع

وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجوهر وصافي الحديد المتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد أو تبتية يمانية الطبع رقاق المضارب مسمومة الشحذ مشطبة الضريبة ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة ومخارزها بالتجليد مضاعفة محملها مستخف وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة مختلفة الأجناس محكمة العمل مقومة التثقيف ونصول النبل مسمومة وعملها مصيصي وتركيبها عراقي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والتجنيح والإستدارة ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السية سهلة الإنعطاف مقربة الإنحناء ممكنة المرمى واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود ومعاطفها غير مقتربة المواتاة ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك له صيت في الرياسة وقدم في السابقة وأولية في المشايعة وتقدم إليه في ضبطهم وكف معرتهم واستنزال نصائحهم واستعداد طاعتهم واستخلاص ضمائرهم وتعاهد كراعهم وأسلحتهم معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامة جندك واجعلهم عدة لأمر إن حزبك أو طارق إن أتاك ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك فليكونوا كرجل واحد في التشمير والترادف وسرعة الإجابة فإنك عسيت أن لا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الروعة والمباغتة إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة بل ذلك كذلك
فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدتك وقوتك بعوثا قد وظفتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولا

وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد كان معدا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك فقطع البعث عليهم عند ما يرهقك
وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة وجهت منهم إرادتك أو ما ترى قوتك إن شاء الله
وكل بخزائنك ودواوينك رجلا ناصحا أمينا ذا ورع حاجز ودين فاضل وطاعة خالصة وأمانة صادقة واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها مع خزانتك وحولها وتقدم إليه في حفظها والتوقي عليها واتهام كل من تسند إليه شيئا منها على إضاعته والتهاون به والشدة على من دنا منها في مسير أو ضامها في منزل أو خالطها في منهل
وليكن عامة الجند والجيش إلا من استخلصت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها في المسير والمنزل فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفظ لها وذب عنها وحياطة دونها وقوة على من أراد انتهابها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير وإنما همتهم الشر فإياك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع أو يجد سبيلا إلى اغتيالها ومرزأتها إن شاء الله
اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة وأبعدها صيتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحزم الروية وحسن السيرة ولطف الحيلة فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل لا بالقتال وأخطار التلف وأدسس إلى عدوك وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث وضع عنهم الإحن واقطع اعناقهم بالمطامع واستدعهم بالمثاوب

وأملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدوائر وأصارتهم إليك الرواجع وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جواب كتب لهم إليك وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده بمنزلة التهمة ومحل الظنة فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم وتشتيت جماعتهم وإحن قلوبهم وسوء الظن من واليهم بهم فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا باتهامه إياهم فإن بسط يده فقتلهم وأولغ سيفه في دمائهم وأسرع الوثوب بهم أشعرهم جميعا الخوف وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأموك بالطلب وإن كان متأنيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم ويستدعي الطمع ذوي الشره منهم وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم إن شاء الله
إذا تدانى الصفان وتواقف الجمعان واحتضرت الحرب وعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله والتوكل على الله عز و جل والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك وأن يعزم لك على الرشد المنجي والعصمة الكالئة والحياطة الشاملة
ومر جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم ولا يظهروا تكبيرا إلا في الكرات والحملات وعند كل زلفة يزدلفونها فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم وليكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي واكفنا شوكته المستحدة وأيدنا بملائكتك الغالبين واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين

وليكن في معسكرك المكبرون في الليل والنهار قبل المواقعة وقوم موقوفون يخصونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم ويذكرونهم الجنة ودرجاتها ونعيم أهلها وسكانها ويقولون أذكروا الله يذكركم واستنصروه ينصركم والتجئوا إليه يمنعكم وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبئة جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التعبئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك فافعل إن شاء الله تعالى
أيدك الله بالنصر وغلب لك على القوة وأعانك على الرشد وعصمك من الزيغ وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وكتب سنة تسع وعشرين ومائة

الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض
الخلافة العباسية من بغداد
وهو على أربعة أنواع
النوع الأول ما كان يكتب لوزراء الخلافة
وكان رسمهم فيه أن يفتتح بلفظ أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بثلاث تحميدات وربما اقتصر على تحميدة واحدة
وعلى ذلك كانت تقاليد وزرائهم من

أرباب السيوف والأقلام
وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها العلاء بن موصلايا عن القائم بأمر الله للوزير فخر الدولة بن جهير في شهور سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وهو
أما بعد فالحمد لله ذي الآلاء الصافية الموارد والنعماء الصادقة الشواهد والطول الجامع شمل أسباب المنح الشوارد ذي القدرة المصرفة على حكمها مجاري القدر والمشيئة الحالية بالنفاذ في حالتي الورد والصدر المذل بجميل صنعه أعناق المصاعب المديم بكريم لطفه من امتداد ذوائب النوائب الذي جل عن إدراك صفاته بعد أو حد ودل بباهر آياته على كونه الفرد الولي بكل شكر وحمد سبحانه وتعالى عما يصفون
والحمد لله الذي اختص محمدا بالرسالة واجتباه وحباه الكرامة بما أشرق له مطلع الجلال واختاره وبعثه لإظهار كلمة الحق بعد أن مد الضلال رواقه فلم يزل بإعزاز الشرع قائما ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسما لا ينحرف عن مقاصد الصواب ولا يميل ولا يخلي مطايا جده في تقوية الدين مما يتابع فيه الرسيم والذميل إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشكوك وجلا وأجلى مسعاه عن كل ما أودع نفوس أحلاف الباطل وجلا ومضى وقد أضاء للإيمان

هلال أمن سراره وانتضى لإبادة الشرك حساما لا ينبو قط غراره فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتخبين صلاة يتصل الأصيل فيها بالغدو وترى قيمتها في الأجر وافية العلو والغلو
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أحق به وأولى وأنار له من مطالع العز ما أسدى به كل نعمة وأولى وأحله من شرف الإمامة بحيث عنت لطاعته أعناق الرقاب الصعاب وأذعنت له القلوب بالإنطواء على الولاء الفسيح الرحاب والشعاب وجعل أيامه بالنضارة آهلة المغاني متقابلة أسماؤها في الحسن بالمعاني فما يجري فيها إلا ما الصواب في فعله كامن والحظ بابتهاج سبله كائن إبانة عن اقتران الرشد بعزائمه في حالتي العقد والحل واقتراب مرام كل ما يحل من الصلاح في الدهر أفضل المحل
ثم إنه يرى من إقرار الحقوق في نصابها وإمرار حبال التوفيق في جانبها من الأطماع الممتدة إلى اغتصابها ما يعرب عن الإهتداء إلى طرق الرشد والاقتداء بمن وجد ضالة المراد حين نشد ويقصد من تجديد العوارف عند كل عالم بقدرها في الزمان عارف ما يحلو جنى ثمره في كل أوان ويحدو انتشار خبره على إعانة كل فكر في وصفه عنوان فيتناقل الرواة ذكر ذلك غورا ونجدا وتلقى الهمم العلية ادخار الجمال به أنفع من كل قنية وأجدى استمرارا على شاكلة تحلت بالكرم وحلت من الجلال في القلل والقمم وحلت آثارها في إيلاء نفيس المنح وجزيل القسم
ولما غدا منصب الوزارة موقوفا على الذين طالما جزوا بهممهم نواصي الخطوب وحازوا بذممهم المنال في مقاصد استشهدوا بها على إحراز كل فضيلة واستدلوا وكفوا بكفايتهم أكف الفساد وردوا وحازوا الفعال في كل ما سعوا له

وجدوا وخلا الزمان ممن ينهض بعبء هذا الأمر الجسيم وتصبح أنباؤه فيه ذكية الأرج والنسيم لم يبق غيرك ممن يستحق التخييم في عراصه والتحكيم في اجتناء الفخر منه واستخلاصه وكان القدر سبق بانفصالك عن الخدمة لا لضعف سريرة ولا لقوة جريرة ولا لكدر سيرة وكيف وأنت المتفرد بالكمال والمتجرد في كل مقام سلم حد تقربك فيه من حادث الكلال ولك في الدولة الحقوق التي اعتدت لك من وقع الاستزادة مجنا والمواقف التي اغتذت من درة الإحماد بما أين الظئر لها وأنا والمقاصد التي أعدمت منك البدل ولا انحرف لك منها مسعى عن مناهج الإصابة ولا عدل وتمكنت فيها من عنان التوفيق بما لا يجاري سيفك فيه قط ولا يحسن له حال المسرى إليه المحط والآثار التي أثارت من كوامن الرضا أفضل ما يذخر ويقتنى وأنارت من دلائل الزلفى ما ينتجز به وعد المنى ويقتضى لكن كان ذلك مسطورا في الكتاب وليتبين أنه لا عوض عنك في الإستحقاق للأمر والإستيجاب لم يوجد لهذه الرتبة كفؤا سواك ولا ينزهها عن العطل غير رائق حلاك فرأى أمير المؤمنين تسليم مقاليدها إليك إذ كنت أحق بها وأهلها وممن يجمع بعد الشتات شملها فطوقك من قلائدها ما هو بأعطافك ألصق وبتمام أوصافك أليق لتدرع من عز الوزارة جلبابا لا تخلق الأيام له جدة ولا تزال السعود بما يؤول إلى دوام مدته ممتدة وترتضع من لبان خلالها ما يقضي لك بأن تقف نفسها عليك وتقف آمال الأمثال دون ما انتهت الغاية فيه إليك وتعتمد فيما عدقه بك منها وناطه ووفاك فيه حقوق النظر واشتراطه بحكم توحدت في إحراز أدواتها التي لا يبلغ أحد لك منها مدى ولم يمد طامع إلى مساجلتك فيها يدا ما يرضي الله تعالى ويرضيه ويخص ذكرك بالطيب

ويحيطه فتفوز فوزا كبيرا وتعيد الساعي في إدراك شأوك ظالعا حسيرا
ثم إنه شفع هذه المنحة التي قمصك مجاسد فخرها بالوجوب وعوضك فيها الدهر بحادث البشر عن سابق القطوب بإيصالك إلى حضرته وإدنائك من سدته ومناجاتك بما يتيح لك امتطاء غارب المجد وصهوته والإحتواء على خالص السعد وصفوته وحبائك من صنوف التشريفات التي تروق حلى خلالها وتتوق الآمال إلى إدراكها ومنالها وصفت الكرامات التي وفت المنى بها بعد مطالها ونفت القذى عن مقل مغضوضة بسوء فعال الأيام ومقالها بما يوطيء عقبك الرجال ويضيق على من يحاول مجاراتك المسرح والمجال ولم يقتنع بذلك في حق النعمى التي أعداك فيها على الغير وأغداك منها في ظل من الأمن البادي الأوضاح والغرر حتى ألحق بسماتك تاج الوزراء تنويها بذكرك في الزمان وتنبيها على اختصاصك لديه بوجاهة الرتبة والمكان فصار مكروه الأمور في محبوبها سببا وخبت نار كل من سعى في تضليل النظام وجيفا وخببا حتى الآملون أن يجعلوا تخت الخلافة زمنا وتصبح رباعه بعد النضارة دمنا ليعقبهم ذاك نيل ما وصلت إليه الإمضاء لهذا العزم
وبالجملة فالسآمة واقعة من تتابع هذه الشكاوى وقد كان الأحب أن لا يضمن الكتب النافذة سوى تعهد الأنباء لا زال عرفها أرجا من سائر الأرجاء والنواحي
لكن تأتي مجاري الأقدار ودواعي الاضطرار إلى ما يرنق ماء الإرادة والإيثار والآن فقد بلغ الماء وجلب من عدم الصبر الحناء ولم يبق غير هزة دينية منك تكشف بها هذه المعرة وتتحف منها أمير المؤمنين بما يتم لديه أكمل المسرة فقم في ذلك مقام مثلك

وإن كان لا نظير لك يوجد تحظ بما يمضي لك فيه استحقاق كل الحمد ويوجب إن شاء الله تعالى
وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها عن المسترشد فيما أظن لبعض وزرائه وهي
أما بعد فالحمد لله المنفرد بكبريائه المتفضل على أوليائه مجزل النعماء وكاشف الغماء ومسبغ العطاء ومسبل الغطاء ومسني الحباء ومسدي الآلآء الذي لا تؤوده الأعباء ولا تكيده الأعداء ولا تبلغه الأوهام ولا تحيط به الأفهام ولا تدركه الأبصار ولا تتخيله الأفكار ولا تهرمه الأعوام بتواليها ولا تعجزه الخطوب أذا ادلهمت لياليها عالم هواجس الفكر وخالق كل شيء بقدر مصرف الأقدار على مشيئته ومجريها ومانح مواهبه من أضحى بيد الشكر يمتريها حمدا يصوب حياه ويعذب جناه وتتهلل أسرة الإخلاص من مطاويه ويستدعي المزيد من آلائه ويقتضيه
والحمد لله الذي استخلص محمدا من زكي الأصلاب وانتخبه من أشرف الأنساب وبعثه إلى الخليقة رسولا وجعله إلى منهج النجاة دليلا وقد بوأ الشرك بوار الذل وقضاه وشهر عضب العز وانتضاه والأمم عن طاعة الرحمن عازفة وعلى عبادة الأوثان عاكفة فلم يزل بأمر ربه صادعا وعن التمسك بعرا الضلال الواهية وازعا وإلى ركوب محجة الهدى داعيا وعلى قدم

الإجتهاد في إبادة الغواية ساعيا حتى أصبح وجه الحق منيرا مشرقا وعوده بعد الذبول أخضر مورقا ومضى الباطل موليا أدباره ومستصحبا تتبيره وبواره وقضى بعد أن مهد من الإيمان قواعده وأحكم آساسه ووطائده وأوضح سبل الفوز لمن اقتفاها ولحب طريقها بعد ما دثرت صواها فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين صلاة متصلا سح غمامها مسفرا صبح دوامها
والحمد لله على أن حاز لأمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أجدر بحيازة مجده وأولى بفيض عده ووطأ له من الخلافة المعظمة مهادا أحفزته نحوه حوافز ارتياحه وجذبته إليه أزمة راعه والتياحه إلى أن أدرك من ذلك مناه وألقى الإستقرار الذي لا يريم عصاه عضد دولته بالتأييد من سائر أنحائه ومراميه وأعراضه ومغازيه حتى فاقت الدول المتقادمة إشراقا وأعطتها الحوادث من التغير عهدا وفيا وميثاقا وأضحت أيامه أدامها الله حالية بالعدل أجيادها جالية في ميادين النضارة جيادها وراح الظلم دارسة أطلاله مقلصا سرباله قد أنجم سحابه وزمت للرحلة ركابه فما يستمر منها أمر إلا كان صنع الله سبحانه مؤيده والتوفيق مصاحبه أنى يمم ومسدده وهو يستوزعه جلت عظمته شكر هذه النعمة ويستزيده بالتحدث بها من آلائه الجمة ويستمد منه المعونة في كل أرب قصده وأمه وشحذ لانتحائه عزمه وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب

ولما كانت الوزارة قطب الأمور الذي عليه مدارها وإليه إيرادها وعنه إصدارها وخلا منصبها من كاف يكون له أهلا وينظم من شماله شملا أجال أمير المؤمنين فيمن يختار لذ لك فكره وأنعم لأهل الاصطفاء لهذه المنزلة نظره حتى صرح محض رأيه عن زبدة اختيارك وهداه صائب تدبيره إلى أقتراحك وإيثارك وألقى إليك بالمقاليد وعول في دولته القاهرة على تدبيرك السديد وناط بك من أمر الوزارة ما لم يلف له سواك مستحقا ولا لنسيم استيجابه مسترقا علما بما تبديه كفايتك المشهورة وإيالتك المخبورة من تقويم ما أعجز مياده وإصلاح ما استشرى فساده واستقامة كل حال وهي عمادها وأصلت على كثرة الإفتداح زنادها وتثبتا لما تبسم عنه الأيام من آثار نظرك المعربة عن أحتوائك على دلائل الجزالة واستيلائك على مخايل الأصالة اللذين تنال بهما غايات المعالي وتفرع الذرى والأعالي
ثم إن أمير المؤمنين بمقتضى هذه الدعاوى اللازمة وحرمات جدك وأبيك السالفة المتقادمة التي استحصدت في الدار العزيزة قوى أمراسها وأدنت منك الآن ثمرة غراسها رأى أن يشيد هذه العارفة التي تأرج لديك نسيمها وبدت على أعناق فخرك رسومها وجادت رباعك شآبيبها وضفت عليك جلابيبها بما يزيد أزرك اشتدادا وباع أملك طولا وامتدادا فأدناك من شريف حضرته مناجيا ومنحك من مزايا الأيام ما يكسبك ذكرا في الأعقاب ساريا وعلى الأحقاب باقيا وأفاض عليك من الملابس الفاخرة ما حزت به أوصاف الجمال وجمع لك أباديد

الآمال وقلدك من الفخر ما يدوم على مر الزمان ويبقى وأمطاك صهوة سابح يساوي الرياح سبقا ووسمك بكذا وكذا في ضمن التأهيل للتكنية إبانة عن جميل معتقده فيك ورعاية لوسائلك المحكمة المرائر وأواخيك
وأمرك بتقوى الله التي هي أحصن المعاقل وأعذب المناهل وأنفع الذخائر يوم تبلى السرائر وأن تستشعرها فيما تبديه وتخفيه وتذره وتأتيه فإنها أفضل الأعمال وأوجبها وأوضح المسالك إلى الفوز برضا الله وألحبها وأجلب الأشياء للسعادة الباقية وأجناها لقطوف الجنان الدانية عالما بما في ذلك من نفع تتكامل أقسامه وتتفتح عن نور الصلاح الجامع أكمامه قال الله جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ) وقال تعالى حاضا على تقواه ومخبرا عما خص به متقيه وحباه وكفى بذلك داعيا إليها وباعثا عليها ( إن الله يحب المتقين )
وأمرك أن تتوخى المقاصد السليمة وتأتيها وتتوخم الموارد الوخيمة وتجتويها وأن تتبع بالحزم أفعالك وتجعل كتاب الله تعالى إمامك الذي تهتدي به ومثالك وأن تكف من نفسك عند جماحها وإبائها وتصدها عن متابعة أهوائها وتثني عند احتدام سورة الغضب عنانها وتشعرها من حميد الخلائق ما يوافق إسرارها فيه إعلانها فإنها لم تزل إلى منزلة السوء المردية داعية وعن سلوك مناهج الخير المنجية ناهية قال الله تعالى ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما

رحم ربي إن ربي غفور رحيم )
وأمرك أن تتخير للخدمة بين يديك من بلوت أخباره واستشففت أسراره فعلمته جامعا أدوات الكفاية موسوما بالأمانة والدراية قد عركته رحا التجارب عرك الثفال وحلب الدهر أشطره على تصاريف الأحوال ليكون أمر ما يولاه على منهج الاستقامة جاريا وعن ملابس الخلل والارتياب عاريا فلا يضع في مزلقة قدما ولا يأتي ما يقرع سنه لأجله ندما وأن تمنح رعايا أمير المؤمنين من بشرك ما يعقل شوارد الأهواء ويلوي إليك بأعناق نوافرها اللائي اعتصمن بالجماح والإباء مازجا ذلك بشدة تستولي حميا رهبتها على القلوب وتفل مرهفات بأسها صرف الخطوب من غير إفراط في استدامة ذلك يضيق نظامها به ويغريها اتصاله باستشعار وعر الخطأ واستيطاء مركبه
وأمرك أن تعذب مورد الإحسان لمن أحمدت بلاءه وتحققت غناءه واستحسنت أثره وارتضيت عيانه وخبره وتسدل أسمال الهوان على من بلوت فعله ذميما وألفيته بعراص الإساءة مقيما وإلى رباعها الموحشة مستأنسا مستديما كيلا لكل أمريء بصاعه واتباعا لما أمر الله باتباعه وتجنبا للإهمال الجاعل المحسن والمسيء سواء والمعيدهما في موقف الجزاء أكفاء فإن في ذلك تزهيدا لذوي الحسنى في الإحسان وتتابعا لأهل الإساءة في العدوان ولولا ما فرضه الله على أمير المؤمنين من إيجاب الحجة والفكاك من ربقة الاجتهاد ببلاغ المعذرة لثنى عنان الإطالة مقتصرا واكتفى ببعض القول مختصرا ثقة

بامتناع سدادك ونهاك أن يراك صواب الفعل حيث نهاك واستنامة إلى ما خولك الله من الرأي الثاقب المطلع من خصائص البديهة على محتجب العواقب
فارتبط يا فلان هذه النعمى التي جادت ديمها مغانيك وحققت الأيام بمكانتها أمانيك بشكر ينطق به لسان الإعتراف فيؤمن وحشي النعم من النفار والانحراف واسلك في جمال السيرة والإقتداء بهذه الأوامر المبينة المذكورة جددا يغري بحمدك الألسنة ويعرب عن كونك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والله يصدق مخيلة أمير المؤمنين فيك ويوزعك شكر ما أولاك ويوليك ويجعل الصواب غرضا لنبال عزائمه ويذود عن دولته القاهرة كتائب الخطوب بصوارم السعد ولهاذمه ويصل أيامه الزاهرة بالخلود ويبسط على أقاصي الأرض ظله الممدود ما استهل جفن الغيث المدرار وابتسمت ثغور النوار إن شاء الله تعالى

النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما
كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف وهو على ضربين
الضرب الأول العهود وهي أعلاها رتبة
وطريقتهم فيها أن تفتتح بلفظ هذا ما عهد عبد الله ووليه فلان أبو فلان الإمام الفلاني إلى فلان الفلاني حين عرف منه ويذكر بعض مناقبه وربما تعرض لثناء سلطان دولته عليه
ثم يقال فقلده كذا وكذا ثم يقال وأمره بكذا ويأتي بما يناسب من الوصايا ثم يقال فتقلد كذا وكذا ثم يقال هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك أو نحو ذلك ولا يؤتى فيه بتحميد

في أول العهد ولا في أثنائه كما تقدم في عهود الخلفاء للملوك

عهود أرباب السيوف وهي عدة ولايات
منها النظر في المظالم
وهذه نسخة عهد كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله إلى الحسين ابن موسى العلوي بتقليد المظالم بمدينة السلام وهي
هذا ما عهد عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين إلى الحسين بن موسى العلوي حين اجتمع فيه شرف الأعراق والأخلاق وتكامل فيه يمن النقائب والضرائب وعرف أمير المؤمنين فيه فضل الكفاية والغناء ورشاد المقاصد والأنحاء في سالف ما ولاه إياه من أعماله الثقيلة التي لم يزل فيها محمود المقام مستمرا على النظام مصيب النقض والإبرام سديد الإسداء والإلحام زائدا على المزايدين راجحا على الموازين فائتا للمحاذين مبرا على المبارين فقلده النظر في المظالم بمدينة السلام وسوادها وأعمالها وما يجري معها ثقة بعلمه ودينه واعتمادا على بصيرته ويقينه وسكونا إلى أن الأيام قد زادته تحليما وتهذيبا والسن قد تناهت به تحنيكا وتجريبا وأن صنيعة أمير المؤمنين مستقرة منه عند أكرم أكفائها وأشرف أوليائها برحمه المتاء الدانية وحرمته الشامخة العالية ومعرفته الثاقبة الداعية إلى التفويض إليه الباعثة على التعويل عليه وأمير المؤمنين يستمد الله في ذلك أحسن ما عوده من

هداية وتسديد ومعونة وتأييد وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي الجنة الحصينة والعصمة المتينة والسبب المتصل يوم انقطاع الأسباب والزاد المبلغ إلى دار الثواب وأن يستشعرها فيما يسر ويعلن ويعتمدها فيما يظهر ويبطن ويجعلها إمامه الذي ينحوه ورائده الذي يقفوه إذ هي شيمة الأبرار والأخيار وكان أولى من تعلق بعلائقها وتمسك بوثائقها لمفخره الكريم ومنصبه الصميم واستظلاله مع أمير المؤمنين بدوحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله التي يكتنان في فنائها ويأويان إلى أفيائها وحقيق على من كان منزعه وإليها مرجعه أن يكون طيبا زكيا طاهرا نقيا عفيفا في قوله وفعله
نظيفا في سره وجهره قال الله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بتلاوة القرآن وتأمل ما فيه من البرهان وأن يجعله نصبا لناظره ومألفا لخاطره فيأخذ به ويعطي ويأتمر له وينتهي فإنه الحجة الواضحة والمحجة اللائحة والمعجزة الباهرة والبينة العادلة والدليل الذي من اتبعه سلم ونجا ومن صدف عنه هلك وهوى قال الله عز من قائل ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره أن يجلس للخصوم جلوسا عاما ويقبل عليهم إقبالا تاما ويتصفح ما يرفع إليه من ظلاماتهم وينعم النظر في أسباب محادثاتهم فما كان طريقه طريق المنازعة المتعلقة بنظر القضاة وشهادات العدول رده إلى المتولي للحكم وما كان طريقه الغصوب المحتاج فيها إلى الكشف والفحص والاستشفاف

والبحث نظر فيه نظر صاحب المظالم وانتزع الحق ممن غصب عليه واستخلصه ممن امتدت له يد التعدي والتغرر إليه وأعاده إلى مستحقه وأقره عند مستوجبه غير مراقب كبيرا لكبره ولا خاصا لخصوصه ولا شريفا لشرفه ولا متسلطنا لسلطانه بل يقدم أمر الله جل ذكره في كل ما يأتي ويذر ويتوخى رضاه فيما يورد ويصدر ويكون على الضعيف المحق حدبا رؤوفا حتى ينتصر وينتصف وعلى القوي المبطل شديدا غليظا حتى ينقاد ويذعن قال الله جل وعز ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأمره أن يفتح بابه ويسهل حجابه ويبسط وجهه ويلين كنفه ويصبر على الخصوم الناقصين في بيانهم حتى تظهر حجتهم وينعم النظر في أقوال أهل اللسن والبيان منهم حتى يعلم مصيبهم فربما أستظهر العريض المبطل بفضل بيانه على العاجز المحق لعي لسانه وهنالك يجب أن يقع التصفح على القولين والاستظهار للأمرين ليؤمن أن يزول الحق عن سننه ويزور الحكم عن طريقه قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
وأمره بأن لا يرد للقضاة حكما يمضونه ولا سجلا ينفذونه ولا يعقب ذلك بفسخ ولا يطرق عليه النقض بل يكون لهم موافقا مؤازرا ولأحكامهم

عاضدا ناصرا إذ كان الحق واحدا وإن اختلفت المذاهب إليه فإذا وجد القصة قد سيقت والحكومة قد وقعت فليس هناك شك يوقف عنده ولا ريب يحتاج إلى الكشف عنه وإذا وجد الأمر مشتبها والحق ملتبسا والتغرر مستعملا والتغلب مستجازا نظر فيه نظر الناصر لحق المحقين الداحض لباطل المبطلين المقوي لأيدي المستضعفين الآخذ على أيدي المعتدين قال الله عز و جل ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )
وأمره أن يستظهر على معرفته بمشاورة القضاة والفقهاء ومباحثة الربانيين والعلماء فإن اشتبه عليه أمر استرشدهم وإن عزب عنه صواب استدل عليه بهم فإنهم أزمة الأحكام وإليهم مرجع الحكام وإذا اقتدى بهم في المشكلات وعمل بأقوالهم في المعضلات أمن من زلة العاثر وغلطة المستاثر وكان خليقا بالأصالة في رأيه والإصابة في أبحاثه وقد أمر الله تقدست أسماؤه بالمشاورة فعرف الناس فضلها وأسلكهم سبلها بقوله لرسوله صلى الله عليه و سلم وعلى آله ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره أن يكتب لمن توجب له حق من الحقوق إلى صاحب الكوفة بالشد على يده والتمكن له منه وقبض الأيدي عن منازعته وحسم الأطماع في معارضته إذ هو مندوب لتنفيذ أحكامه ومأمور بإمضاء قضاياه ومتى أخذ أحد من الخصوم إلى مكاذبة في حق قد حكم عليه به أخذ على يده وكفه عن

عدوانه ورده إلى حكم الله الذي لا يعدل عنه قال الله عز و جل ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك قد أرشدك وذكرك وهداك وبصرك فكن إليه منتهيا وبه مقتديا واستعن بالله يعنك واستكفه يكفك
وكتب الناصح أبو الطاهر في تاريخ كذا
ومنها نقابة الطالبيين وهي المعبر عنها الآن بنقابة الأشراف
وهذه نسخة عهد بنقابة الطالبيين كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى الشريف أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي الموسوي مضافا إليها النظر في المساجد وعمارتها واستخلافه لوالده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحج بالناس في سنة ثمانين وثلثمائة وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى محمد بن الحسين بن موسى العلوي حين وصلته به الأنساب وقرنت لديه الأسباب وظهرت دلائل عقله ولبابته ووضحت مخايل فضله ونجابته ومهد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهد عند أمير المؤمنين من

المحل المكين ووصفه به من الحلم الرزين وأشار به من رفع المنزلة وتقديم الرتبة والتأهيل لولاية الأعمال وتحمل الأعباء والأثقال وحيث رغبه فيه سابقة الحسين أبيه في الخدمة والنصيحة والمشايعة الصحيحة والمواقف المحمودة والمقامات المشهودة التي طابت بها أخباره وحسنت فيها آثاره وكان محمد متخلقا بخلائقه وذاهبا على طرائقه علما وديانة وورعا وصيانة وعفة وأمانة وشهامة وصرامة وتفردا بالحظ الجزيل من الفضل الجميل والأدب الجزل والتوجه في الأهل والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه والإبرار على قرنائه وأضرابه فقلده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار شرقا وغربا وبعدا وقربا وأختصه بذلك جذبا بضبعه وإنافة بقدره وقضاء لحق رحمه وترفيها لأبيه وإسعافا له بإيثاره فيه إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم وتسيير الحجيج في أوان المواسم والله يعرف أمير المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبر وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين وسيما الصالحين وعصمة عباد الله أجمعين وأن يعتقدها سرا وجهرا ويعتمدها قولا وفعلا فيأخذ بها ويعطي ويريش ويبري ويأتي ويذر ويورد ويصدر فإنها السبب المتين والمعقل الحصين والزاد النافع يوم الحساب والمسلك المفضي إلى دار الثواب وقد حض الله أولياءه عليها وهداهم في محكم كتابه إليها فقال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وقال تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )

وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظبا وتصفحه مداوما ملازما والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرم ونقض وأبرم وأثاب وعاقب وباعد وقارب فقد صحح الله برهانه وحجته وأوضح منهاجه ومحجته وجعله فجرا في الظلمات طالعا ونورا في المشكلات ساطعا فمن أخذ به نجا وسلم ومن عدل عنه هلك وهوى وندم
قال الله عز و جل ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشهوات وتتطلع إليه النزوات وأن يضبطها ضبط الحكيم ويكفها كف الحليم ويجعل عقله سلطانا عليها وتمييزه آمرا ناهيا لها فلا يجعل لها عذرا إلى صبوة ولا هفوة ولا يطلق منها عنانا عند ثورة ولا فورة فإنها أمارة بالسوء منصبة إلى الغي فالحازم يتهمها عند تحرك وطره وأربه واهتياج غيظه وغضبه ولا يدع أن يغضها بالشكيم ويعركها عرك الأديم ويقودها إلى مصالحها بالخزائم ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم كيما يعز بتذليلها وتأديبها ويجل برياضتها وتقويمها والمفرط في أمره تطمح به إذا طمحت ويجمح معها أنى جمحت ولا يلبث أن تورده حيث لا صدر وتلجئه إلى أن يعتذر وتقيمه مقام النادم الواجم وتتنكب به سبيل الراشد السالم وأحق من تحلى بالمحاسن وتصدى لاكتساب المحامد من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف ومنصبه المنيف واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة واستظل بأوراق الدوحة الفاخرة فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها والمثالب إن أسف إليها ولا سيما من كان مندوبا لسياسة غيره

ومرشحا للتقليد على أهله إذ ليس يفي بإصلاح من ولي عليه من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه وكان من أعظم الهجنة أن يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا يزدجر قال الله عز و جل ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بتصفح أحوال من ولي عليهم واستقراء مذاهبهم والبحث عن بواطنهم ودخائلهم وأن يعرف لمن تقدمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته ويوفيه حقه ورتبته وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم فإن ذلك يلزمه لشيئين أحدهما يخصه وهو النسب الذي بينه وبينهم والآخر يعمه والمسلمين جميعا وهو قول الله جل ثناؤه ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فالمودة لهم والإعظام لأكابرهم والإشبال على أصاغرهم واجب متضاعف الوجوب عليه ومتأكد اللزوم له ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداث لم يحتنكوا أو جذعان لم يقرحوا مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغض من أحسابهم عذلهم ونبههم ونهاهم ووعظهم فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم والمقصود إليه فيهم وإن أصروا وتتابعوا أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع من غير تطرق لأعراضهم ولا انتهاك لأحسابهم فإن الغرض منه الصيانة لا الإهانة

والإدالة لا الإذالة وإذا وجبت عليهم الحقوق أو تعلقت بهم دواعي الخصوم قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها بعد أن تثبت الجرائم وتصح وتبين وتتضح وتتجرد عن الشك والشبهة وتتجلى من الظن والتهمة فإن الذي يستحب في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصحة وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة
قال الله عز و جل ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره بحياطة هذا النسب الأطهر والشرف الأفخر عن أن يدعيه الأدعياء أو يدخل فيه الدخلاء ومن انتمى إليه كاذبا وانتحله باطلا ولم يوجد له بيت في الشجرة ولا مصداق عند النسابين المهرة أوقع به من العقوبة ما يستحقه ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه وشهره شهرة ينكشف بها غشه ولبسه وينزع بها غيره ممن تسول له مثل ذلك نفسه وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤا ولا مشاركها في شرفها وفخرها حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا ونظيرا موازيا فقد قال الله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بمراعاة متبتلي أهله ومتهجديهم وصلحائهم ومجاوريهم وأراملهم وأصاغرهم حتى يسد الخلة من أحوالهم ويدر المواد عليهم وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم وأن يزوج الأيامى ويربي اليتامى ويلزمهم المكاتب ليتلقنوا القرآن ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان ويتأدبوا بالآداب

اللائقة بذوي الأحساب فإن شرف الأعراق محتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرف نسبه وسخف أدبه إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعي ولا طلب ولا اجتهاد ولا دأب بل بصنع من الله عز و جل له ومزيد في المنة عليه وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية والإعتداد بما فيها من المزية وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب والترفع عن الرذائل والمثالب
وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم والأخذ للمظلوم من الظالم وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عاما ويتأمل ظلاماتهم تأملا تاما فما كان منها متعلقا بالحاكم رده إليه ليحمل الخصوم عليه وما كان طريقه طريق الغشم والظلم والتغلب والغصب قبض عنه اليد المبطلة وثبت فيه اليد المستحقة وتحرى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل ومجانبة للخذل فإن غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة وهي إقامة الحق ونصرته وإبانته وإنارته وإنما يختلف سبيلاهما في النظر إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر وليس له مع ذلك أن يرد لحاكم حكومة ولا يعل له قضية ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه ولا يتتبع ما يحكم به ويقضيه والله يهديه ويسدده ويوفقه ويرشده
وأمره أن يسير حجيج بيت الله إلى مقصدهم ويحميهم في بدأتهم وعودتهم ويرتبهم في مسيرهم ومسلكهم ويرعاهم في ليلهم ونهارهم حتى لا تنالهم شدة ولا تصل إليهم مضرة وأن يريحهم في المنازل ويوردهم المناهل ويناوب بينهم في النهل والعلل ويمكنهم من الارتواء والإكتفاء مجتهدا في الصيانة لهم ومعذرا في الذب عنهم ومتلوما على متأخرهم

ومتخلفهم ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم فإنهم حجاج بيت الله الحرام وزوار قبر الرسول عليه السلام قد هجروا الأوطان وفارقوا الأهل والإخوان وتجشموا المغارم الثقال وتعسفوا السهول والجبال يلبون دعاء الله عز اسمه ويطيعون أمره ويؤدون فرضه ويرجون ثوابه وحقيق على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرعا ويحوطهم متطوعا فكيف من تولى ذلك وضمنه وتقلده واعتنقه قال الله ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا )
وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها وأقطارها وأكنافها وأن يجبي أموال وقوفها ويستقصي جميع حقوقها وأن يلم شعثها ويسد خللها بما يتحصل من هذه الوجوه قبله حتى لا يتعطل رسم جرى فيها ولا تنقض عادة كانت لها وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها ويذكر اسمه بعده بأن عمرانها جرى على يديه وصلاحها أداه قول أمير المؤمنين إلى فعله فقد فسح له أمير المؤمنين بذلك تنويها باسمه وإشادة بذكره وأن يولي ذلك من قبله من حسنت أمانته وظهرت عفته وصيانته فقد قال الله تعالى ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره أن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال في الأمصار الدانية والبلاد القريبة والبعيدة من يثق به من صلحاء الرجال وذوي الوفاء والاستقلال وأن يعهد اليهم مثل الذي عهد إليه ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه ويستقري مع ذلك آثارهم ويتعرف أخبارهم فمن وجده محمودا أقره ولم يزله ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله واعتاض منه من ترجى الأمانة عنده وتكون الثقة معهودة منه وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرف فيما قرب منه وبعد

عنه من يزينه ولا يشينه وينصح له ولا يغشه ويجمله ولا يهجنه من الطبقة المعروفة بالظلف المتصونة عن النطف ويجعل لهم من الأرزاق الكافية والأجرة الوافية ما يصدهم عن المكاسب الذميمة والمآكل الوخيمة فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة قال الله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببينته عنده وتنكشف حجته له إلى أصحاب المعاون بالشد على يديه وإيصال حقه إليه وحسم الطمع الكاذب فيه وقبض اليد الظالمة عنه إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه والوقوف عند رسمه وحده
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك قد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك وهداك وأرشدك وجعلك على بينة من أمرك فاعمل به ولا تخالفه وانته إليه ولا تتجاوزه وإن عرض لك أمر يعجزك الوفاء به ويشتبه عليك وجه الخروج منه أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا وكنت إلى ما يأمرك به صائرا إن شاء الله تعالى
وكتب في مستهل شعبان سنة ثمانين وثلثمائة
ومنها ولاية الصلاة

وهذه نسخة عهد كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله لأبي الحارث محمد بن موسى العلوي الموسوي بتقليده الصلاة في جميع النواحي والأمصار والأطراف وتوقف عن إظهاره لرأي رآه في ذلك وهي
هذا ما عهد عبد الله إلى محمد بن موسى العلوي لما استكفاه النظر في نقابة الطالبيين فكفاه وتحمل ذلك العبء فأغناه وفات النظراء في الإستقلال والوفاء وبذ الأمثال في الإضطلاع والغناء جامعا إلى شرف الأحساب والأعراق شرف الآداب والأخلاق وإلى كرائم المفاخر والمناقب مكارم الطباع والضرائب على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده مستوليا من البراعة والنجابة والفراهة واللبابة على التي لا يبلغها الشيب المفارق فضلا عن البالغ المراهق وغايات تنقطع دونها أنفاس المنافسين وتتضرم عليها أحشاء الحاسدين لا سيما وقد أطت بأمير المؤمنين إليه شواجن الأرحام وعطفته على اصطناعه عواطف الآباء والأعمام واقتضت آثاره المحمودة وطرائقه الرشيدة أن يناوبه على رتبة لم يبلغها أحد من ولد أبيه ولم يفترع ذوائبها رجل دونه فقلده الصلاة بمدينة السلام في خمسة جوامعها فأولها الجامع الداخل في حريم أمير المؤمنين وجامع الرصافة وجامع المنصور وجامع براثى وجامع الكف الذي تولى أبوه إشادته وعمارته وحسنت آثاره في إنشائه وإعلائه وحيث سمت همته إليه وبذل المجهود في إنفاق الأموال الدثرة عليه واستنزل بذلك من الله أجزل إثابة المثابين وأوفر أجر المأجورين وجميع المنابر في شرق الأرض وغربها وبعيد الأقطار وقريبها وأمير المؤمنين يسأل الله حسن التسديد في ذلك وسائر مراميه وجميع مطالبه ومغازيه وجواري هممه التي يمضيها وسرايا عزماته التي

ينويها وأن يجعل النجاح قائدها وسائقها والصلاح أولها وآخرها وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي أحرز المعاقل وأحصن الجنن عند النوازل وأعظم ملجإ يلجأ إليه وآمن موئل يعول عليه وأن يعتقدها في خلوته وحفلته ويعتمدها في سره وعلانيته ويجعلها سببا يتبعه ولباسا يدرعه فينازع بها من نازعه ويوادع بها من وادعه فإنها أوكد الأسباب وأوصل القرب والأنساب وأولى الناس بالتمسك بحبلها والإشتمال بظلها من كان بأجل المناسب تعلقه وبأشرف الخلائق تخلقه قال الله سبحانه ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بتلاوة القرآن والمواظبة عليه والإدمان والإئتمار بما فيه من الأوامر والإزدجار عما تضمن من الزواجر وأن يجعله الإمام المتبع فيقفوه والطريق المهيع فيقصده وينحوه فإنه العلم المنجي من الغواية والدليل القائد إلى الهداية والنور الساطع للظلام إذا أشكل مشكل والحاكم القاضي بالحق إذا أعضل معضل قال الله ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بتهذيب لبه من جوامح الوساوس وتطهير قلبه من مطامح الهواجس وأن يتوقى اللحظة العارمة ويتجنب اللفظة المؤلمة عاصيا جواذب الخلاعة ومطيعا أوامر النزاهة حتى يستوي خافيه وعالنه ويتفق ظاهره وباطنه فعال من جعله إمام المسلمين إماما وقدمته الرعية أماما وكان إلى الله داعيا وله عن عباده مناجيا وبينهم وبين خالقهم وسيطا وعلى ما قلده من الصلاة بهم أمينا لتصح شروط صلاته ويقبل مرفوع دعواته قال الله عز و جل

( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين )
وأمره بالمحافظة على الصلوات وانتهاز فرصها من الأوقات والدخول فيها بالرقة والخشوع والتوفر بالإخبات والخضوع وحقيق على كل مستشعر شعار الإسلام ومتجلبب جلباب الإيمان أن يفعل ذلك مستوفيا شروطه ومستقصيا حدوده ورسومه فكيف بمن أقامه أمير المؤمنين مقامه في امتطاء غوارب المنابر وذراها ونصبه منصبه في أم الرعية أدناها وأقصاها
قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )
وقال ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
وأمره بالسعي في الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية وأن يخص أحدها بصلاته فيه وقصده له ويأمر خلفاءه على الصلاة بالافتراق في سائر الجوامع وباقي المنابر بعد الأمر بجمع المؤذنين والمكبرين وإحضار القوام والمرتبين في أتم أهبة وأجمل هيئة بقلوب مستشعرة للخشوع متصدية للدموع وألسن بالتسبيح والتقديس منطلقة وآمال في حسن الجزاء وجزيل الثواب منفسحة حتى تعبر ألسنتهم إذا افترعوا الخطب وافتتحوا الكلم عن مكنون ضمائرهم ومضمون سرائرهم فتجيء المواعظ بالغة والزواجر ناجعة قال الله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بمراعاة المساجد وتعهد الجوامع وسد خللها ولم شعثها فإنها

مقاوم عزه وفخره ومحاضر صيته وذكره ومراكز أعلام الدين الخافقة ومطالع شموس الإسلام الشارقة ومواقف الحق المشهودة وقواعد الإيمان الموطودة مما لا يتضعضع أحدها إلا تضعضع من أركان الإسلام له ركن ولا التات بعضها إلا التات من أعضاء الدين عضو قال الله عز و جل ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره في خطبته بكثرة التحفظ وعند افتتاحه واختتامه بطول التيقظ فإن العيون به منوطة والأعناق إليه ممدودة والمسامع فاغرة تتلقف ما يقوله والقلوب فارغة لحفظ ما يبديء وما يعيد فقليل الزلل في ذلك الموقف كثير وصغير الخطل في ذلك المقام كبير والله تعالى يسدده إلى المحجة الوسطى ويقف به على الطريقة المثلى بمنه
وأمره بالسكينة في انتصابه للصلاة الجامعة وتقدمه لقضاء الفروض اللازمة وأن يسكن في كل حد من حدودها في الركوع والسجود والقيام والقعود فإنه عليها محاسب وبما يلحق من يأتم به في جميعها مطالب وأن يفرع قلبه لما يتلوه من البيان ويرفع صوته بما يمر به من قوارع القرآن مرتلا لقراءته ومسترسلا في تلاوته ليشترك في سماعها الأقرب والأقصى وينتفع بمواعظها الأبعد والأدنى بعد إخلاص سره وانتزاعه وتسويته في الطهور بين باديه وخافيه وغائبه وحاضره فليس بالطاهر عند الله تعالى من يصيب بالماء أطرافه وأدرن بالخبائث شغافه قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )
وقال ( إن

الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
وأمره أن يقيم الدعوة على منابر أعماله القاصية والدانية والغائبة والحاضرة لأمير المؤمنين ثم للناهض عنه بالأعباء والقائم دونه في البأساء والضراء الذي غذي بلبان الطاعة وانقاد بزمام المتابعة بهاء الدولة ولولاة الأعمال من بعده الذين يدعى لهم على المنابر ما يكون منها على العادة الجارية فيها فإنها دعوة تلزم إقامتها وكلمة تجب إشادتها إذ كانت متعلقة بطاعة الله عز و جل وقد أوجبها الله تبارك وتعالى على كافة المسلمين وجميع المعاهدين إذ يقول وهو أصدق القائلين ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وعائدتها تعمهم وفائدتها تشملهم إذ كان صلاح الرعية مقرونا بصلاح راعيها وفساد الأمة منوطا بفساد واليها
وأمره باستخلاف من يرى استخلافه على الصلاة في الأقطار والأطراف والنواحي والبلدان وأن يختار من الرجال كل حسن البيان مصقع اللسان بليل الريق إذا خطب بليغ القول إذا وعظ
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك قد أعذر فيه وأنذر وهدى من الضلالة وبصر وأعلقك زمام رشدك وغيك وقلدك عنان هلكك وفوزك وخيرك في كلا الأمرين ووقفك إزاء الطريقين فإن سلكت أهداهما لم تلبث أن تعود غانما وإن ولجت أضلهما فغير بعيد أن تؤوب نادما واستعن بالله يعنك واستزده من الكفاية يزدك واستلبسه الهداية يلبسك واستد لله على نجاح المطالب يدللك إن شاء الله والحمد لله وحده
ومنها نظر الأوقاف

وهذه نسخة عهد من ذلك كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله للحسين بن موسى العلوي وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى الحسين بن موسى العلوي حين طابت منه العناصر ووصلته بأمير المؤمنين الأواصر جمع إلى شرف الأعراق الذي ورثه شرف الخلق الذي اكتسبه ووضحت آثار دينه وأمانته وبانت أدلة فضله وكفايته في جميع ما أسنده أمير المؤمنين إليه من الأعمال وحمله إياه من الأثقال فأضاف إلى ما كان ولاه من ذلك النظر في الوقوف التي كانت يد فلان فيها بالحضرة وسوادها ثقة بسداده وسكونا إلى رشاده وعلما بأنه يعرف حق الصنيعة ويرعى ما يستحفظه من الوديعة ويجري في المنهل الذي أحمده أمير المؤمنين منه ووكل إليه
والله يمد أمير المؤمنين بصواب الرأي فيما نحاه وتوخاه ويؤمنه في عاقبته الندم فيما قضاه وأمضاه وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي عماد الدين وشعار المؤمنين وأن يعتقدها في سره ونجواه ويجعلها الذخيرة لأولاه وأخراه ويتجنب الموانع المونية ويتوقى الموارد المردية ويغض طرفه عن المطامع المغوية ويذهب بنفسه عن المطارح المخزية فإنه أحق من فعل ذاك وآثره وأولى من اعتمده واستشعره بنسبه الشريف ومفخره المنيف وعادته المشهورة وشاكلته المأثورة وتلاوة كتاب الله الذي هو وعترة رسول الله الثقلان المخلفان في الأمة

وقد جمعته وآخرهما الأنساب وجمعته والثاني عصمة أولى الألباب وتوجهت حجة الله عليه بما يرجع من هذه الفضائل إليه وأنه غصن من دوحة أمير المؤمنين التي تحداها الله بالإنذار قبل الخلائق أجمعين إذ يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله ( وأنذر عشيرتك الأقربين )
وقد حض تبارك وتعالى على التقوى ووعد عباده عليها الزلفى فقال ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وأمره بالاشتمال على ما أسنده إليه أمير المؤمنين من هذه الوقوف مستنفدا طوقه في عمارتها مستفرغا وسعه في مصلحتها دائبا في استغلالها وتثميرها مجتهدا في تدبيرها وتوفيرها وأن يصرف فاضل كل وقف منها بعد الذي يخرج منه للنفقة على حفظ أصله واستدرار حلبه والمؤونة الراتبة للقوام عليه والحفظة له إلى أربابه الذي يعود ذلك عليهم في وجوهها التي سبل لها ووقف عليها واضعا جميع ذلك مواضعه موقعا له مواقعه خارجا إلى الله من الحق فيه مؤديا الأمانة إليه وأن يشهد على القابضين بما يقبضونه من وقوفهم ويكتب البراآت عليهم بما يستوفونه من أموالهم ويستظهر لنفسه بإعداد الشواهد والأدلة على ما ينفقه من أموال هذه الوقوف على مصالحه ويصرفه منها إلى أهلها ويخرجه منها في حقوقها وأبواب برها وسائر سبلها ووجوهها سالكا في ذلك مذهبه المعروف في أداء الأمانة واستعمال الظلف والنزاهة معقبا على من كان ناظرا فيها من الخونة الذين لم يرعوا عهدا ولم يتصونوا عن سحت المطاعم وظلم المآثم
وأمره باستكتاب كاتب معروف بالسداد مشهور بالرشاد معلوم منه

نصيحة الأصحاب والضبط للحساب وتفويض ديوان الوقوف وتدبيره إليه وتوصيته بصيانة ما يشتمل عليه من أصول الأعمال وفروعها وقليل الحجج وكثيرها وأن يحتاط لأربابها في حفظ رسومها ومعاملاتها وحراسة طسوقها ومقاسماتها حتى لا يستمر عليها حيف يبقى أثره ولا يتغير فيها رسم يخاف ضرره وأن ينصف الأكرة فيها والمزارعين وسائر المخالطين والمعاملين ولا يجشمهم حيفا ولا يسومهم خسفا ولا يغضي لهم عن حق ولا يسمح لهم بواجب خلا ما عادت السماحة به بزيادة عماراتهم وتأليف نياتهم واجتلاب الفائدة منهم والعائدة بهم فإنه مؤتمن في ذلك كله أمانة وعليه أن يؤديها ويخرج عن الحق فيها
وأمره بإختيار خازن حصيف قؤوم أمين يخزن حجج هذه الوقوف وسجلاتها وسائر دفاترها وحسباناتها فإنها ودائع أربابها عنده وواجب أن يحتاط عليها جهده فمتى شك في شرط من الشروط أو حد من الحدود أو عارض معارض أو شاغب مشاغب في أيام نظره وأيام من عسى أن تنقل ولاية هذه الوقوف إليه ويناط تدبيرها به دفع ما يحدث من ذلك بهذه الحجج التي هي معارف البرهان وقواعد البنيان وإليها المرجع في كل بينة تنصر وتقام وشبهة تدحض وتضام
هذا عهد أمير المؤمنين إليك ووثيقته الحاصلة في يديك فاتبع آثار أوامره وازدجر عن نواهيه وزواجره واستمسك به تنج وتسلم واعمل عليه تفز

وتغنم واسترشد الله يرشد واستهده يهدك واستعن به ينصرك وفوض إليه يعصمك إن شاء الله تعالى

الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد وهي لمن
دون أرباب العهود في الرتبة وليس لافتتاحها عندهم ضابط
وهذه نسخة تقليد بحماية الكوفة لأبي طريف بن عليان العقيلي من إنشاء أبي إسحاق الصابي وهي
قد رأينا تقليدك أطال الله بقاءك الحماية بالكوفة وأعمالها وما يجري معها ثقة بشهامتك وغنائك وسكونا إلى استقلالك ووفائك واعتقادا لاصطناعك واصطفائك وحسن ظن بك في شكر ما يسدى إليك ومقابلته بما يحق عليك من الأثر الجميل فيما تولاه والمقام الحميد فيما تستكفاه فتول أيدك الله ذلك مقدما تقوى الله ومراقبته ومستمدا توفيقه ومعونته واحرس الرعية في مساكنها والسابلة في مسالكها وادفع عن عملك ونواحيه أهل العيث جميعا واطلبهم طلبا شديدا واطرقهم في مكامنهم وتولج عليهم في مظانهم ونكل بمن تظفر به منهم نكالا تقيم به حكم الله عليهم وحدوده في أمثالهم وبالغ في ذلك مبالغة تخيف الظنين وتوجسه وتؤمن السليم وتؤنسه وراع الأكرة والمزارعين حتى ينبسطوا في معايشهم ويتصرفوا في مصالحهم وتتيسر عواملهم في عماراتها ومواشيهم في مسارحها ومتى طردت لأحد منهم طريدة أو امتدت إليهم يد عاتية ارتجعت ما أخذ له ورددته بعينه أو قيمة مثله وخفف عمن وليت عليه الوطأة وارفع عنهم المؤونة والكلفة وخذهم بالتناصف واقبضهم عن التظالم وامنع قويهم من تحيف المضعوف وشريفهم من استضامة المشروف وأولهم من عدلك وحسن سيرتك واستقامة طريقتك ما يتصل عليه شكرك ويطيب به ذكرك ويقتضي لك دوام الولاية وتضاعف العناية
واعلم بأنك فيما وليته من هذا الأمر متضمن للمال والدم ومأخوذ بكل ما

يهمك من ذمة ومحرم فليكن اجتهادك في الضبط والحماية واحتراسك من الإهمال والإضاعة بحسب ذلك واكتب بأخبارك على سياقتها وآثارك لأوقاتها ليتصل لك الإحماد عليها والمجازاة عنها إن شاء الله تعالى

النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما
كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام
وهي على ضربين
الضرب الأول العهود
ورسمها على نحو ما تقدم في عهود أرباب السيوف تفتتح بهذا ما عهد إلى آخر الترتيب المتقدم ذكره
وهذه نسخة عهد بولاية قضاء حاضرة بغداد وسائر الأعمال كتب به المسترشد بالله لقاضي القضاة أبي القاسم علي بن الحسين الزينبي وهي
هذا ما عهد عبد الله أبو منصور الفضل الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي لما تأمل طريقته وشحذ عقيدته وأحمد مذاهبه وارتضى ضرائبه وتكاثرت دواعيه وحسنت مساعيه ووجده عند الاختبار وفي مضمار الاعتبار راجعا إلى عقل رصين ودين متين وأمانة مشكورة ونزاهة مخبورة وورع ثمر المشرع عار من دنس المطمع وعلم توفر منه قسمه وأصاب فيه سهمه وحين راعى فيه موروث شرف

النسب إلى شرف العلم المكتسب مع ما سلف لبيته من الحرمات المرعية المتأكدة والقربات المرضية المتمهدة والسوابق المحكمة المرائر الحميدة المباديء والمصاير فقلده قضاء القضاة بمدينة السلام وسائر الأمصار في الآفاق والأقطار شرقا وغربا وبعدا وقربا إنافة به إلى ما أصبح له مستحقا واستمر استيجابه مسترقا وجذبا بضبعه إلى ما يتحقق نهوضه بأعبائه وحسن استقلاله به وغنائه واقتفاء لآثار الأئمة الراشدين في إيداع الودائع عند مستحقها وتفويض الأمور إلى أكفائها وأهلها لا سيما أولياء دولتهم وأغذياء نعمتهم الذين كشفت عن سجف خبرتهم التجارب ووردوا من الخلال الرشيدة أعذب المشارب وانتهجوا الجدد الواضح وتقبلوا الخلق الصالح والله سبحانه يقرن عزائم أمير المؤمنين بالخيرة في كل رأي يرتئيه وأمر يؤمه وينتحيه ويصدق مخيلته في كل حال يأتيها ويمضي عزمه فيها وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي لا يسعد أحد إلا بالتمسك بسببها ولا يشقى إلا مع إضاعتها فإنها الجناب المريع والمعقل المنيع والنجاة يوم الفزع الأكبر والعدة النافعة في المعاد والمحشر والعصمة الحامية من نزعات الشيطان ومخايله المنقذة من أشراكه وحبائله وبها تمحص الأوزار وتنال الأوطار وتدرك المآرب وتنجح المطالب قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )
وأمره باستشعار خشية الله سبحانه في قوله وفعله واختلاف أطواره وأحواله وتذكر ما هو قادم عليه ووافد إليه ( يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ) فلا يقوده الهوى إلى إتباع شهوة أو إجابة

داعي هفوة أو صبوة إلا كان الخوف قادعه والحذار مانعه ان يجعل التواضع والوقار شيمته والحلم دأبه وخليقته فيكظم غيظه عند احتدام أواره واضطرام ناره مجتنبا عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار ومتوخيا في كل حال للمقاصد السليمة الإيراد والإصدار وأن يتأمل أحوال غيره تأمل من جعلها لنفسه مثالا واتخذها لنسجه منوالا فما استحسنه منها فيأتيه وما كرهه فيجتويه غير ناه عما هو من أهله ولا آمر بما هو مجانب لفعله قال الله جلت عظمته ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره بتلاوة كتاب الله مواظبا والإكثار من قراءته دائبا وأن يجعله إماما يقتفيه ودليلا يتبعه فيهديه ونورا يستضيء به في الظلمات وهاديا يسترشده عند اعتراض الشبهات وموئلا يستند إليه في سائر أحكامه وحصنا يلجأ به في نقضه وإبرامه عاملا بأوامره ومزدجرا بزواجره ومنعما نظره في محكم آياته وصادع بيناته ومعملا فكره في خوض غماره واستخراج غوامض أسراره فإنه الحق الذي لا يجور متبعه والمتجر الذي لا يبور مبتضعه والمنار الذي به يقتدى والمنهج الذي بأعلامه يهتدى والمصدر الذي تغرى به الأمور في ملبس الإشكال وتشرع معه الأحوال المستبهمة في ورود الوضوح السلسال وينبوع الحكمة الذي ضرب الله فيه الأمثال وفرق فيه بين الحرام والحلال والهداية والضلال قال الله سبحانه ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )
وأمره بدراسة السنن النبوية صلوات الله على صاحبها والاقتداء بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب إليها وحض عليها وتتبع ما يتداخلها من

الأخبار الجريحة والروايات غير الصحيحة والفحص عن طرقها وإسنادها وتمييز قويمها وميادها والبحث عن رواتها منحوزها وثقاتها فما ألفاه بريئا من الطعن آمنا من القدح والوهن عاريا من ملابس الشك والإرتياب عاطلا عن حلى الشبهة والإعتياب اتبعه واقتفاه وتمثله واحتذاه وكان به حاكما ولأدواء الباطل باتباعه حاسما وما كان مترجحا بين كفتي الشك واليقين ولم تبد فيه مخايل الحق المبين جعل الوقف حكمه وردع عن العمل به عزمه إلى أن يضح الحق فيه فيعتمد ما يوجبه ويقتضيه فإنه عليه السلام الداعي إلى الهدى والرحمة التي عصم الله بها من عوادي الردى والهادي الذي لم يفصل بين العمل بفرائض كتابه وسننه في قوله تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره بإقامة الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها والمبادرة إليها قبل فواتها والإتيان بشرائطها المحدودة وأركانها
وأمره بمجالسة العلماء ومباحثة الفقهاء ومناقشة ذوي البصيرة والفهم والفطنة والحزم ومشاورتهم في عوارض الأمور المشكلة وسوانح الأحكام المستبهمة المعضلة حتى يصرح محض رأيه وآرائهم عن زبدة الصواب وتنتج أفكارهم باستجمامها نظرا شافيا بالجواب رافعا عنه منسدل الحجاب وإن في ذلك ثلجا للصدور واستظهارا في الأمور واحترازا من دواعي الزلل واستمرار الخلل وأمنا من غوائل الانفراد وحطا للتعويل على الاستبداد فلرب ثقة أدت إلى خجل وأمن أفضى إلى وجل وما زالت الشورى مقرونة بالإصابة محكمة عرى الحق وأسبابه حارسة من عواقب الندم داعية إلى السلامة من زلة القدم

وقد أمر الله نبيه وأزلف محله لديه بالاستظهار بالمشاورة مع عظم خطره وشرف قدره فقال ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره أن يختار للحكم الأماكن الفسيحة الأرجاء الواسعة الفضاء وينظر في أمور المسلمين نظرا تفتر ثغور العدل فيه وتلوح خشية الله من مطاويه فيوصل إليه كافة الخصوم ويبرز لهم على العموم غير مشدد حجابه ولا مرتج دون المترافعين إليه بابه وأن يولي كلا من الإقبال عليه وحسن الإصغاء إليه ما يكون بينهم فيه مساويا ولهم في مجمع الموازاة حاويا ولا يعطي من ألتفاته إلى الشريف لشرفه وذي الشارة الحسنة من أجل ثوبه ومطرفه ما يمنعه من تقحمه العيون وتترجم في خموله الظنون فإن ذلك مطمع لذي الرواء في دفع الحق إذا وجب عليه والتماس الباطل وإن ضعفت الدواعي إليه مؤيس لذي الخمول من الانتصار لحقه وإن أسفر صبح يقينه ونطقت ألسنة أدلته فالناس وإن تباينوا في الأقدار والقيمة وتفاوتوا في الأرزاق المقسومة فالإسلام لهم مجتمع والحق أحق أن يتبع وهم عند خالقهم سواء إلا من ميزته التقوى وتمسك بسببها الأقوى قال الله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
وقال تعالى ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )
وأمره أن يتأمل أحوال المترافعين إليه والخصوم لديه ويتطلب ما وقع نزاعهم لأجله في نص الكتاب ويعدل إلى السنة عند عدمه من هذا الباب فإن

فقد من هذين الوجهين فليرجع إلى ما اختاره السلف المهتدون وأجمع عليه الفقهاء المجتهدون فإن لم يلف فيه قولا ولا إجماعا ولا وجد إليه طريقا مستطاعا أعمل رأيه واجتهاده وامتطى ركاب وسعه وجياده مستظهرا بمشورة الفقهاء في هذه الحال ومستخلصا من آرائهم ما يقع عليه الاتفاق الآمن الاعتلال ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل )
وأمره باستعمال الأناة عند الحكومات واستماع الدعاوى والبينات من غير سرعة تحدث خطلا ولا إفراط في التأني يورث مللا فإن الحق بين ذينك على شفا خطر وظهر غرر ولا سيما إذا كان أحد الخصمين منطيقا ينمق كلامه تنميقا فإنه يخلب ببلاغة نطقه مستمعه ويغطي وجه الباطل بألفاظه الموشعة فإذا اتفق لديه ما هذا سبيله شحذ له غرب فطنته وأرهف غرار فكره وبصيرته ومنح كلا من الإنصات ما يجتلي وجه النصف منيرا ويغدو لأشياع الجور مبيرا
وإن ذو اللسن روعه وأوهمه أن الحق معه بما يلفقه من كلام يقصر خصمه عن جوابه ويحصر عن جداله واستيفاء خطابه مع عدم البينة المشهودة وتعذر الحجة الموجودة استعاد كلامه واستنطقه واستوضح مغزاه وتحققه من غير إظهار إعجاب بما يذكره ولا اغترار بما يطويه وينشره ولا إصغاء يبدو أثر الرغائب من فحواه ولا اختصاص له بما يمنع صاحبه شرواه لئلا يولد ذلك له اشتطاطا ويحدث له انطلاقا في الخصومة وانبساطا حتى إذا ابتسم الحق وانتصر الصدق وفلج أحدهما بحجته ولحن ببينته أقر الواجب في نصابه وأداله من جنود الظلم وأحزابه وأمضى الحكم فيه باعتزام صادق ورأي محصد الوثائق غير ملتفت إلى مراجعة الخصوم وتشاجرهم وشكواهم

وتنافرهم اعتمادا للواجب وانتهاجا لجدد العدل اللاحب
قال الله تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وامره إذا انتدب للقضاء أن يفرغ باله ويقضي أمامه أوطاره وأشغاله ويخلي من أحوال الدنيا سره ويشرح لما هو بصدده صدره فلا تنزع نفسه إلى تحصيل مأرب ولا تتطلع إلى درك مطلب فإن القلب إذا اكتنفته شجونه وأحاطت به شؤونه كان عرضة لتشعب أفكاره وحمله على مركب اضطراره الجاري بضد إيثاره واختياره حريا بالتقصير عن الفهم والإفهام والضجر عند مشتجر الخصام
وأمره بالتثبت في الحدود والاستظهار عند إقامتها بمن يسكن إلى قوله من الشهود والاحتياط من عجل يحيل الحكم عن بيانه أو ريث يرجيه عند وضوحه وتبيانه وأن يتجافى عما لم يصرح له بذكره وشرحه ولا يسرع إلى تصديق ساع وإن تشبه بالناصحين في نصحه حتى يستبين له الحق فيمضيه عاملا بما يوجبه حكم الله فيه وأن يدرأ من الحدود ما اعترضت الشبهة دليله وكانت شواهده مدخولة ويقيم منها ما قامت شهوده ولم يمكن إنكاره وجحوده قال الله تعالى مكبرا لتجافيها ومعظما للتجوز فيها ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره بتصفح أحوال الشهود المعدلين المسموعة أقوالهم في أمور المسلمين وأحوال الدين ومواصلة البحث عن طرائقهم واستشفاف خلائقهم

مستخدما في ذلك سره وجهره وواصلا بعوان دأبه فيه بكره فمن علمه سليما في فعله غير ظنين في أصله متحريا في كسبه مرضيا في مذهبه حافظا لكتاب الله سبحانه متمسكا من علم الشريعة بما يلوي عن مهاوي الخطإ عنانه حاليا بالديانة المنيرة المطالع حاميا نفسه عن الإسفاف إلى دنايا المطامع حاويا من الظلف والأمانة والقدر والصيانة والاحتراس والتحفظ والتحرز والتيقظ ما تميز به على أشكاله وأترابه وطال مناكب أمثاله وأضرابه فقد كملت صفاته واقتضت تقديمه أدواته ووجب أن يمضي كونه عدلا ويجعله لقبول الشهادة أهلا ومن رآه عن هذه الخلال مقصرا وببعضها مستظهرا وكان موسوما بديانة مشكورة ونزاهة مأثورة رضي بذلك منه قانعا وحكم بقوله سامعا
ومن كان عن هذين الفريقين نائيا ولأحوالهم المبين ذكرها نافيا ألغى قوله مطرحا ورد شهادته مصرحا فإن هؤلاء الشهود أعوان الحق على انتصاره وحرب الباطل على تتبيره وبواره ومحجة الحاكم إلى قضائه ووزره الذي يستند إليه في سائر أنحائه فإذا أعذر في ارتيادهم واستفرغ وسعه في انتقادهم فقد خرج من عهدة الاجتهاد واستحق من الله جزاء المجتهد يوم التناد ومتى غرر في ذلك توجهت اللائمة عليه وكان قمنا بنسبة التقصير في الاحتياط إليه والله يتولى السرائر ويبلو خفيات الضمائر قال سبحانه ( ممن ترضون من الشهداء )
وقال أجل ذكره ( ستكتب شهادتهم ويسألون )
وأمره أن يكل أمور اليتامى في أملاكهم وأموالهم ومراعاة شؤونهم وأحوالهم إلى الثقات الأعفاء والكفاة الأتقياء الذين لا تستهويهم دواعي

الطمع ولا يوردهم الإسفاف موارد الطبع وأن يتتبع أمورهم ويتصفحها ويشارفها بنفسه ويستوضحها عالما أنه عما في أيديهم مسؤول فإن عذره في إهمال يتخلله غير مقبول وهو سبحانه يقول ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
وأن يوعز إليهم بالإنفاق على أربابها بالمعروف لينتهجوا فيها جدد القصد المألوف حتى إذا بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد وعلم وساغ لهم التصرف في نفوسهم ووثق منهم باستدرار معايشهم دفع إليهم أموالهم محروسة ووفاهم إياها كاملة غير منقوصة مستظهرا بالشهادة عليهم والبراءة منها بتسليمها إليهم اتباعا لقوله تعالى ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن انستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي فقدن الأولياء واعتدى عليهمن صرف الدهر وأساء وأضر بهن طول الإرمال وبدت عليهن آثار الخلة في الحال فينكحهن أكفاءهن من الرجال ويتم عقد نكاحهن على مهور الأمثال
وأمره بتفويض أمر الوقوف الجارية في نظره إلى من يأمنه ويختاره وتقرن بإعلانه في ارتضائه أسراره من أهل التجربة والحياء ذوي الاضطلاع والغناء فإنهم أقل إلى المطامع تشوفا وأبعد في عواقب الأمور نظرا وتلطفا وأن يوسع عليهم في الأرزاق فيوصلها إليهم مهنأة عند الوجوب والاستحقاق فبذلك يملك المرء نفسه ويستصلحها ويتجنب مواقف التهم ويطرحها وتجب عليه الحجة إن

ثلم أمانة أو قارف خيانة مستظهرا بترتيب المشرفين الذين خبر أحوالهم وسبر أفعالهم
وأن يتقدم إلى المستنابين قبله بالإنفاق عليها حسب الحاجة من محصولها حافظا بما تعمده من ذلك لأصولها وجباية ارتفاعها من مظانها والتماس حقوقها في أوانها وصرفها في وجوهها التي شرطها واقفوها وعين عليها أربابها وأهلوها غير مخل مع ذلك بالإشراف والتطلع ولا مهمل للفحص والتبلغ فمن ألفاه حميد الأثر ورضي العيان والخبر عول عليه وفوض مستنيما إليه ومن وجده قد مد إلى خيانة يده استبدل به وعزله جزاء بما فعله ( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما )
وأمره أن يستخلف على ما نأى عنه من البلاد من جمع إلى الوقار الحلم وإلى الدراية الفهم وإلى التيقظ الاستبصار والى الورع الاستظهار ممن لا يضيق بالأمور ذرعا ولا تحدث له مراجعة الخصوم ضجرا ولا تبرما ولا يتمادى في أسباب الزلة ولا يقصر عن الرجوع إلى الحق إذا اتضح له ولا يكتفي بأدنى معدلة عن بلوغ أقصاها ولا تتهافت نفسه على طاعة هواها ولا يرجيء الأخذ بالحجة عند انكشافها ولا يعجل بحكم مع اعتراض الشبهة واكتنافها ولا يستمليه إغراء ولا يزدهيه مدح وإطراء وأن يعهد بمثل ما عهد أمير المؤمنين إليه ويعذر في الإجهاد بإيجاب الحجة عليه ليبرأ من تبعة بادرة عساه يأتيها أو مزلقة تناديه فيهب ملبيا لداعيها قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره أن يمضي ما أمضاه الحكام قبله ولا يتعقب أحكامهم بتأويل مجتنبا

تتبع عثراتهم والبحث عن هفواتهم ومهما رفع إليه من ذلك مما الإجماع عليه موافق ولسان الكتاب والسنة به ناطق أمضاه وحكم به وإن كان مباينا لمذهبه فإن الحكومات كلها ماضية على اختلاف جهاتها مستمرة على تنافي صفاتها محمية عن التأويل والتعليل محروسة من التغيير والتبديل ما كان لها مخرج في بعض الأقوال أو وجد لها عند الفقهاء احتمال إلا أن يكون الإجماع منعقدا على ضدها آخذا بإلغائها وردها فيستفرغ في إيضاحها جهده وينفق في تلافيها من الإستطاعة وجده حتى يعيدها إلى مقرها من الواجب ويمضيها على الحق اللازب قال الله عز و جل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يتخذ كاتبا بالظلف موسوما وبأدق ما يناط به قؤوما خبيرا بما يسطره عالما بما يذكره عارفا بالشروط والسجلات وما يتوجه نحوها من التأويلات ويتداخلها من الشبه والتلبيسات مطلعا على أسرارها وعللها وتصاريف حيلها متحرزا في كل حال متنزها عن مذموم الفعال متخذا خشية الله شعارا مسبلا دون عصيانه من التقى أستارا فإنها نظاماته التي يرجع إليها ويده التي يبطش بها ويعول عليها ومتى لم يكن له من نفسه وازع ولا من عقله ودينه رادع لم يؤمن أن تدب عقاربه ليلا ويسحب على الغوائل والموبقات ذيلا فيعم الضرر بمكانه ويشرع أذاه إلى المسلمين حد سنانه
وأن يتخير حاجبا طاويا كشحه دون الأشرار جامعا لأدب الأخيار مدرعا جلباب الحياء طلق الوجه عند اللقاء سهل الجانب لينه مستشعر الخير متيقنه غير متجهم للناس ولا معاملهم بغير البشاشة والإيناس فإنه الباب إليه والمعتمد في لقائه عليه فلينتخبه أنتخاب من علم أن حسن الثناء خير زاد وأنفس ذخر وعتاد ورأى طيب

المحمدة أجمل كسب مراد وحظ مجسد مستفاد
ومتى كان عن هذه الخلال متخليا وبخلافها متحليا أعتاض عنه بمن هو أسلم غيبا وآمن ريبا وأنقى جيبا وأقل عيبا قال الله سبحانه ( وما كنت متخذ المضلين عضدا )
وأمره أن يتسلم ديوان القضاء وما فيه من الحجج والسجلات والوثائق والكفالات والمحاضر والوكالات بمحضر من العدول ليكونوا له مشاهدين وعليه شاهدين وأن يجعل خزانها من يرتضيه باجتماع أدوات الخير فيه عاملا في حفظها بما تقتضيه الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال منها وأقررن بالعجز عنها متحريا من أمر يبوء معه بالأثام في دار المقام قال الله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )
وأمره بمراعاة أمر الحسبة فإنها أكبر المصالح وأهمها وأجمعها لنفع الناس وأعمها وأدعاها إلى تحصين أموالهم وانتظام أحوالهم وحسم مواد الفساد وكف يده عن الإمتداد وأن يتقدم إلى المستناب فيها بمداومة الإطلاع على كمية الأسعار والفحص عن مادة المخلوقات في الانقطاع والاستمرار ومواصلة الجلوس في أماكن الأقوات ومظانها ليكون تسعيرها بمقتضى زيادتها ونقصانها غير خارج في ذلك عن حد الاعتدال ولا مائل إلى ما يجحف بالفريقين من إكثار وإقلال وأن يراعي عيار المكاييل والموازين ليميز ذوي الصحة من المطففين فيقول لمن حسن اعتباره مر حي ويقابل من ساء اختباره بما يجعله لأمثاله رادعا حتى يزنوا بالقسطاس المستقيم ويتجنبوا التطفيف بقلب من إضمار

المعاودة سليم قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك وقفك فيه على منهج الصلاح وأعلقك منه إن اتبعته بأسباب النجاح وأدر به عليك خلف السعادة إن أمريته بيد القبول وجمع لك مع احتذائه بدائد المأمول وعطف لديك متى تمثلته شوارد السول وأوجدك ضالة متاعك إن أصغيت إليه سامعا مطيعا وأعاد إن ائتمرت بأوامره شمل أقوالك جميعا وأرادك مرعى النجاة إن نهضت بأعبائه مريعا لم يدخرك فيه شفيفا ولا حقرك إرشادا وتعريفا خلع به ربقة الأمانة عن عنق اجتهاده وأوضح لك ما يسأل غدا عن فعله واعتماده
فبادر إلى العمل به مسرعا وقم بالمجدود فيه مضطلعا واعلم أن لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة فاغضض عن مطامح الهوى طرفك واثن عن أضاليل الدنيا الغرارة عطفك واخش موقفا تشخص فيه الأبصار وتعدم الأعوان والأنصار يوم ينظر المرء ما قدمت يداه وتنقطع الوسائل إلا ممن أطاع الله واتقاه ينعم عوفك ويأمن يوم القيامة خوفك ومهما عرض لك من شبهة لم تلف مخرجا منها ولا صدرا عنها ولا وجدت لسقبها هناء ولدائها شفاء فطالع حضرة أمير المؤمنين بحالها مستعلما وأنهها إليه مستفتحا باستدعاء الجواب عما أصبح لديك مستغلقا مبهما يمددك منه بما يريك صبح الحق منبلجا وضيق الشك منفرجا عن علم عنده البحر كالقياس إلى أوشال الناس والله تعالى

يعضد آراء أمير المؤمنين بالصواب ويمده بالتوفيق في سائر الآراب ويقود لمراده أزمة جوامحها الصعاب ما أنجم سحاب وأثجم رباب بمنه وسعة فضله
وهذه نسخة عهد بولاية القضاء بسر من رأى كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله للقاضي أبي الحسين محمد ابن قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف حين ولاه القضاء بسر من رأى وغيرها وما أضيف إلى ذلك من أعمال الجزيرة وهي
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى محمد ابن قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد حين عرفت الفضيلة فيه وتقيد مذاهب أبيه ونشأ من حصنه في المنشأ الأمين وتبوأ من سببه ونسبه المتبوأ المصون ووجده أمير المؤمنين مستحقا لأن يوسم بالصنيعة والمنزلة الرفيعة على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده ساميا به في ذلك إلى مراتب أعيان الرجال التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال لما آنس من رشده ونجابته واستوضح من عقله ولبابته واسترجح من وقاره وحلمه واستغزر من درايته وعلمه وللذي عليه شيخه قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد من حصافة الدين وخلوص اليقين والتقدم على المتحلين بحليته والمنتحلين لصناعته والاستبداد عليهم بالعلم الجم والمعنى الفخم والافتنان في المساعي الصالحة التي يسود أحدهم بأحدها ويستحق التجاوز لهم من استوعبها بأسرها وبالثقة والأمانة والعفة والنزاهة التي صار بها علما فردا وواحدا فذا حتى تكلفها من

أجله من ليست من طبعه ولا سنخه فهو المحمود بأفعاله التي اختص بها وبأفعال غيره ممن حذاه فيها وبما نفق من بضائع الخير بعد كسادها وبالسابقة التي له في خدمة المطيع لله أولا ثم خدمة أمير المؤمنين ثانيا فإنها سابقة شائع خبرها وجميل أثرها قوية دواعيها متمكنة أواخيها وللمكانة التي خص بها من أمير المؤمنين ومن عز الدولة أبي منصور مولى أمير المؤمنين أيده الله ومن نصير الدولة الناصح أبي طاهر رعاه الله ومن عظماء أهل حوزتهم وأفاريق عوامهم ورعيتهم فلما صدق محمد فراسة أمير المؤمنين ومخايله واحتذى سجايا أبيه وشمائله وحصل له ما حصل من الحرمات المتأثلة والموات المتأصلة أحرز من الأثرة على قرب المدى ما لا يحرزه غيره على بعد المرمى واستغنى أمير المؤمنين فيه عن طول التجربة والإختبار وتكرر الإمتحان والاعتبار فقلده الحكم بين أهل سر من رأى وتكريت والطبرهان والسن والبوازيج ودقوقا وخانيجار والبندنيجين وبوحسابور والراذانين ومسكن وقطربل ونهربوق والدبين وجميع الأعمال المضافة إلى ذلك والمنسوبة إليه وشرفه بالخلع والحملان وضروب الإنعام والإحسان وكان فيما أعطاه من هذا الصيت والمجد ونحله إياه من المفخر العد مبتغيا ما كسبه من الله الرضا والزلفى والسلامة في الفاتحة والعقبى وراعيا لما يوجبه لقاضي قضاته عبيد الله بن أحمد من الحقوق التي أخفى منها أكثر مما أبدى وأمسك عن أضعاف ما أحصى وذاهبا على آثار الأئمة المهديين والولاة المجتهدين في إقرار ودائعهم عند المرشحين لحفظها المضطلعين بحملها من أولاد أوليائهم وذرية نصحائهم إذ كان لا بد للأسلاف أن تمضي وللأخلاف أن تنمي

كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيما والنبات الذي ينجم رطبا فيصير هشيما فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر واستحلى الثمر وتعمد بالعرف من طاب منه الخبر وحسن منه الأثر وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى تسديدا تحمد عائدته وتدر عليه مادته ويتولاه في العزائم التي يعزمها والأمور التي يبرمها والعقود التي يعقدها والأغراض التي يعتمدها وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره باعتماد التقوى فإنها شعار أهل الهدى وأن يراقب الله مراقبة المتحرز من وعيده والمتنجز لمواعيده ويطهر قلبه من موبقات الوساوس ويهذبه من مرديات الهواجس ويأخذ نفسه بمآخذ أهل الدين ويكلفها كلف الأبرار المؤمنين ويمنعها من أباطيل الهوى وأضاليل المنى فإنها أمارة بالسوء صبة إلى الغي صادة عن الخير صادفة عن الرشد لا ترجع عن مضارها إلا بالشكائم ولا تنقاد إلى منافعها إلا بالخزائم فمن كبحها وثناها نجاها ومن أطلقها وأمرجها أرداها
وأولى من جعل تقوى الله دأبه وديدنه والخيفة منه منهاجه وسننه من أرتدى رداء الحكام وأمر ونهى في الأحكام وتصدى لكف الظالم ورد المظالم وإيجاب الحدود ودرئها وتحليل الفروج وحظرها وأخذ الحقوق وإعطائها وتنفيذ القضايا وإمضائها إذ ليس له أن يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا يزدجر ويأتي مثل ما ينهى عنه وينهى عما يأتي مثله بل هو محقوق بأن يصلح ما بين جنبيه قبل أن يصلح ما رد أمره إليه وأن يهذب من نيته ما يحاول أن يهذب من رعيته قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين )

وأمره بالإكثار من تلاوة القرآن الواضح سبيله الراشد دليله الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا ومن أعرض عنها زل وغوى وأن يتخذه إماما يهتدي بآياته ويقتدي ببيناته ومثالا يحذو عليه ويرد الأصول والفروع إليه فقد جعله الله حجته الثابتة الواجبة ومحجته المستبينة اللاحبة ونوره الغالب الساطع وبرهانه الباهر الناصع وإذا ورد عليه معضل أو غم عليه مشكل اعتصم به عائذا وعطف عليه لائذا فبه يكشف الخطب ويذلل الصعب وينال الأرب ويدرك المطلب وهو أحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله فينا ونصبهما معلما بعده لنا قال الله تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما )
وقال تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بالمحافظة على الصلوات وإقامتها في حقائق الأوقات وأن يدخل فيها أوان حلولها بإخلاص من قلبه وحضور من لبه وجمع بين لفظه ونيته ومطابقة بين قوله وعمله مرتلا للقراءة فيها مفصحا بالإبانة لها متثبتا في ركوعها وسجودها مستوفيا لحدودها وشروطها متجنبا فيها جرائر الخطأ والسهو وعوارض الخطل واللغو فإنه واقف بين يدي جبار السماء والأرض ومالك البسط والقبض والمطلع على خائنة كل عين وخافية كل صدر الذي لا تحتجب دونه طوية ولا تستعجم عليه خبية ولا يضيع أجر محسن ولا يصلح عمل مفسد وهو القائل عز و جل ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )

وأمره بالجلوس للخصوم وفتح بابه لهم على العموم وأن يوازي بين الفريقين إذا تقدما إليه ويحاذي بينهما في الجلوس بين يديه ويقسم لهما أقساما متماثلة من نظره وأقساطا متعادلة من كلمه فإنه مقام توازن الأقدام وتكافؤ الخواص والعوام لا يقبل على ذي هيئة لهيئته ولا يعرض عن دميم لدمامته ولا يزيد شريفا على مشروف ولا قويا على مضعوف ولا قريبا على أجنبي ولا مسلما على ذمي ما جمعهما التخاصم وضمهما التحاكم
ومن أحس منه بنقصان بيان أو عجز عن برهان أو قصور في علم أو تأخر في فهم صبر عليه حتى يستنبط ما عنده ويستشف ضميره وينقع بالإقناع غلته ويزيح بالإيضاح علته
ومن أحس منه بلسن وعبارة وفضل من بلاغة أعمل فيما يسمعه منه فكره وأحضره ذهنه وقابله بسد خلة خصمه والإبانة لكل منهما عن صاحبه ثم سلط على أقوالهما ودعاويهما تأمله وأوقع على بيناتهما وحججهما تدبره وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذا يعلمان به أن الحق مستقر مقره وأن الحكم موضوع موضعه فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة وأن يأخذ نفسه مع ذلك بأطهر الخلائق وأحمدها وأهدى السجايا وأرشدها وأن يقصد في مشيه ويغض من صوته ويحذف الفضول من لفظه ولحظه ويخفف من حركاته ولفتاته ويتوقر من سائر جنباته وجهاته ويتجنب الخرق والحدة ويتوقى الفظاظة والشدة ويلين كنفه من غير مهانة ويرب هيبته في غير غلظة ويتوخى في ذلك وقوفا بين غايتيه وتوسطا بين طرفيه فإنه يخاطب أخلاطا من الناس مختلفين وضروبا غير متفقين ولا يخلو فيهم من الجاهل الأهوج والمظلوم المحرج والشيخ الهم والناشيء الغر والمرأة الركيكة والرجل الضعيف النحيزة وواجب عليه أن يغمرهم بعقله ويشملهم بعدله ويقيمهم على الاستقامة بسياسته ويعطف عليهم بحلمه ورياسته وأن يجلس وقد نال من

المطعم والمشرب طرفا يقف به عند أول الكفاية ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها وعوارض البشرية بأسرها لئلا يلم به من ذلك ملم أو يطيف به طائف فيحيلانه عن جلده ويحولان بينه وبين سدده وليكن همه إلى ما يقول ويقال له مصروفا وخاطره على ما يرد عليه ويصدر عنه موقوفا قال الله تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأمره إذا ثبت عنده حق من الحقوق لأحد من الخصوم أن يكتب له متى التمس ذلك صاحب المعونة في عمله بأن يمكنه منه ويحسم المعارضات فيه عنه ويقبض كل يد تمتد إلى منازعته أو تتعدى إلى مجاذبته فقد ندب الله الناس إلى معاونة المحق على المبطل والمظلوم على الظالم إذ يقول عز و جل ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
وأمره أن يستصحب كاتبا دربا بالمحاضر والسجلات ماهرا في القضايا والحكومات عالما بالشروط والحدود عارفا بما يجوز وما لا يجوز غير مقصر عن القضاة المستورين والشهود المقبولين في طهارة ذيله ونقاء جيبه وتصونه عن خبث المآكل والمطاعم ومقارفة الريب والتهم فإن الكاتب زمام الحاكم الذي إليه مرجعه وعليه معوله وبه يحترس من دواهي الحيل وكوامن الغيل وحاجبا سديدا رشيدا أديبا لبيبا لا يسف إلى دنية ولا يلم بمنكرة ولا يقبل رشوة ولا يلتمس جعالة ولا يحجب عنه أحدا يحاول لقاءه في وقته

والوصول إليه في حينه وخلفاء يرد إليهم ما بعد من العمل عن مقره وأعجزه أن يتولى النظر فيه بنفسه ينتخبهم من الأماثل ويتخيرهم من الأفاضل ويعهد إليهم في كل ما عهد فيه إليه ويأخذهم بمثل ما أخذ به ويجعل لكل من هذه الطوائف رزقا يكفه ويكفيه وقوتا يحجزه ويغنيه فليس تلزمهم الحجة إلا مع إعطائهم الحاجة ولا تؤخذ عليهم الوثيقة إلا مع إزاحة العلة فقد قال الله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره بإقرار الشهود الموسومين بالعدالة على تعديلهم وإمضاء القضاء بأقوالهم وحملهم على ظاهر السلامة وشعار الاستقامة وأن يعتمد مع هذا البحث عن أديانهم والفحص عن أماناتهم والإصغاء إلى الأحاديث عنهم من ثناء يتكرر أو قدح يتردد فإذا تواتر عنده أحد الأمرين ركن إلى المزكي الأمين ونبا عن المتهم الظنين فإنه إذا فعل ذلك اغتبط أهل الأمانة بأماناتهم ونزع أهل الخيانة عن خياناتهم وتقربوا إليه بما تنفق سوقه ويستحق به التوجه عنده واستمر شهوده وأمناؤه وأتباعه وخلفاؤه على المنهج الأوضح والمسلك الأنجح وتحصنت الأموال والحقوق وصينت الحرمات والفروج ومتى وقف لأحد منهم على هفوة لا تغفر وعثرة لا تقال أسقطه من عددهم وأخرجه عن جملتهم واعتاض منه من يحمد دينه ويرتضي أمانته قال الله تعالى ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )
وقال في الشهادة ( وأقيموا الشهادة لله )
وأمره بالضبط لما يجري في عمله من الوقوف الثابتة في ديوان حكمه

والتعويل فيها على الأمناء الثقات والحصفاء الكفاة المعروفين بالظلف والورع المتنزهين عن النطف والجشع والتقدم إليهم في حفظ أصولها وتوفير فروعها وتثمير غلالها وارتفاعها وصرفها إلى أهلها ومستحقها وفي وجوهها وسبلها ومطالبتهم بحساب ما يجري على أيديهم والاستقراء لآثارهم فيه وأفعالهم وأن يحمد منهم من كفى وكف ويذم من أضاع وأسف وينزل كلا منهم منزلته التي استحقها بعمله واستوجبها بأثره قال الله تبارك وتعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا )
وأمره بالاحتياط على أموال الأيتام وإسنادها إلى أعف وأوثق القوام والتقدم إلى كل طائفة بأن يجريهم مجرى ولده ويقيمهم مقام سلالته في الشفقة عليهم والإصلاح لشؤونهم والإشراف على تأديبهم وتلقينهم ما لا يسع المسلم جهله من الفرائض المفترضة والسنن المؤكدة وتخريجهم في أبواب معايشهم وأسباب مصالحهم والإنفاق عليهم من عرض أموالهم بالمعروف الذي لا شطط فيه ولا تبذير ولا تضييق ولا تقتير فإذا بلغوا مبالغ كمالهم وأونس منهم الرشد في متصرفاتهم أطلق لهم أموالهم وأشهد بذلك عليهم فقد جعله الله بما تقلده من الحكم خلفا من الآباء لذوي اليتم وصار بهذه الولاية عليهم مسؤولا عنهم ومجزيا عما سار به فيهم وأوصله من خير أو شر إليهم قال الله تعالى ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
وأمره بحفظ ما في ديوانه من الوثائق والسجلات والحجج والبينات

والوصايا والإقرارات فإنها ودائع الرعية عنده وواجب أن يحرسها جهده وأن يكلها إلى الخزان المأمونين والحفظة المتيقظين ويوعز إليهم بأن لا يخرجوا شيئا منها عن موضعه ولا يضيفوا إليها ما لم يكن بعلمه وأن يتخذ لها بيتا يحصرها به ويجعله بحيث يأمن عليه ليرجع متى احتاج الرجوع إليه فقد قال الله تعالى ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )
وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله ويشتبه عليه وجه الحكم فيه أن يرده إلى كتاب الله ويطلب به سبيل المخلص منه فإن وجده وإلا ففي الأثر عن رسول الله فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم والهداية والعلم فما زالت الأئمة والحكام من السلف الصالح وطراق السنن الواضح يستفتي واحد منهم واحدا ويسترشد بعض بعضا لزوما للاجتهاد وطلبا للصواب وتحرزا من الغلط وتوقيا من العثار قال الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )
وأمره أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله ولا يفسخه وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه ما كان داخلا في إجماع المسلمين وسائغا في أوضاع الدين فإن خرج عن الإجماع أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء حتى يصيروا مثله في إنكاره ويجتمعوا معه على إيجاب رده ثم ينقضه حينئذ نقضا يشيع ويذيع ويعود به الأمر إلى واجبه ويستقر معه الحق في نصابه قال الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك قد شرح به صدرك وأوضح به سبلك وأقام أعلام الهداية لك ولم يألك تبصيرا وتذكيرا ولم يدخرك تعريفا

وتوقيفا ولم يجعلك في شيء من أمرك على شبهة تعترضك ولا حيرة تعتاقك والله شاهد له بخروجه من الحق فيما وصى وعهد وعليك بقبولك ما قبلت مما ولى وقلد فإن عدلت واعتدلت وذلك خليق بك فقد فاز وفزت معه وإن تجانفت وزللت وذلك بعيد منك فقد ربح وخسرت دونه فلتكن التقوى زادك والإحتراس شعارك واستعن بالله يعنك واستهده يهدك واعتضد به يعضدك واستمد من توفيقه يمددك إن شاء الله تعالى
وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم كذا من رجب سنة ست وستين وثلثمائة
وهذه نسخة عهد بقضاء القضاة بحاضرة بغداد وسائر الأعمال شرقا وغربا كتب به عن الإمام الناصر لدين الله أحمد للقاضي محيي الدين أبي عبد الله محمد بن فضلان من إنشاء أستاد الدار عضد الدين بن الضحاك وهي
هذا ما عهد عبد الله وخليفته في العالمين المفترض الطاعة على الخلق أجمعين أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى محمد بن يحيى ابن فضلان حين سبر خلاله واستقراها واعتبر طرائقه واستبراها فألفاه رشيدا في مذاهبه سديدا في أفعاله وضرائبه موسوما بالرصانة حاليا بالورع والديانة مبرزا من العلوم في فنونها عالما بمفروض الشريعة المطهرة ومسنونها مدرعا ملابس العفاف قد أناف على أمثاله في بوارع الأوصاف فقلده قضاء القضاة في مدينة السلام وجميع البلاد والأعمال والنواحي والأمصار شرقا وغربا وبعدا

وقربا سكونا إلى ما علم من حاله واضطلاعه بالنهضة المنوطة به واستقلاله وركونا إلى قيامه بالواجب فيما أسند إليه ونهوضه بعبء ما يعول في حفظ قوانينه عليه واستنامة إلى حلول الإصطناع عنده ومصادفته منه مكانا تبوأه بالإستحقاق وحده والله تعالى يعضد آراء أمير المؤمنين بمزيد التوفيق في جميع الأمور ويحسن له الخيرة فيما يؤمه من مناظم الدين وصلاح الجمهور وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله تعالى في إعلانه وإسراره وتقمص شعارها في إظهار أمره وإضماره فإنها العروة الوثقى والذخر الأبقى والسعادة التي ما دونها فوز ولا فوقها مرقى وهي حلية الأبرار وسيما الأخيار والمنهج الواضح والمتجر الرابح والسبيل المؤدي إلى النجاة والخلاص يوم لا وزر ولات حين مناص وأنفع العدد والذخائر وخير العتاد يوم تنشر الصحف وتبلى السرائر يوم تشخص الأبصار وتعدم الأنصار ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) ولا ينجو من عذاب الله يومئذ إلا من كان زاده التقوى وتمسك منها بالسبب الأقوى قال الله تعالى ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )
وأمره أن يجعل كتاب الله إماما يهتدي بمناره ويستصبح ببواهر أنواره ويستضيء في ظلم المشكلات بمنير مصباحه ويقف عند حدود محظوره ومباحه ويتخذه مثالا يحتذيه ودليلا يتبع أثره فيهديه ويعمل به في قضاياه وأحكامه ويقتدي بأوامره في نقضه وإبرامه فإنه دليل الهدى ورائده وسائق النجح وقائده ومعدن العلم ومنبعه ومنجم الرشاد ومطلعه وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله في الأمة والذكر الذي جعله الله تعالى تبيانا لكل شيء

وهدى ورحمة فقال عز من قائل ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )
وأمره بانتزاع الآثار النبوية صوات الله على صاحبها وسلامه والإهتداء بشموسها التي تنجلي بها دجنة كل مشكل وظلامه والإقتداء بسنة الشريعة المتبوعة وتصفح الأخبار المسموعة والعمل منها بما قامت أدلة صحته من جميع جهاته واستحكمت الثقة بنقلته عنه عليه السلام ورواته وسلمت أسانيده من قدح ورجاله من ظنة وجرح فإنها التالية للقرآن المجيد في وجوب العمل بأوامره والانتهاء بروادعه وزواجره وهو عليه الصلاة و السلام الصادق الأمين الذي ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى وقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعته والعمل بكتابه والأخذ بسنته فقال عز من قائل ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره بمجالسة العلماء ومباحثة الفقهاء ومشاركتهم في الأمور المشكلة وعوارض الحكومات المعضلة لتستبين سبيل الصواب ويعرى الحكم من ملابس الشبه والإرتياب ويخلص من خطأ الإنفراد وغوائل الإستبداد فالمشورة باليمن مقرونة والسلامة في مطاويها مضمونة وقد أمر الله تعالى بها نبيه مع شرف منزلته وكمال عصمته وتأييده بوحيه وملائكته فقال سبحانه ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره بفتح بابه ورفع حجابه وأن يجلس للخصوم جلوسا عاما وينظر في

أمورهم نظرا حسنا تاما مساويا بينهم في نظره ولحظه وإصغائه ولفظه محترزا من ذي اللسن وجرأة جنانه متأنيا بذي الحصر عند إقامة برهانه فربما كان أحد الخصمين ألحن بحجته والآخر ضعيفا عن مقاومته هذا مقام الفحص والإستفهام والتثبت وإمضاء الأحكام ليسلم من خديعة محتال وكيد مغتال مائلا في جميع ذلك مع الواجب سالكا طريق العدل اللاحب غير فارق في إمضاء الحكم بين القوي والضعيف والمشروف والشريف والمالك والمملوك والغني والصعلوك قال الله تعالى ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا )
وقال سبحانه وتعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
وأمره أن يتصفح أحوال الشهود المسموعة أقوالهم في الحقوق والحدود المرجوع إلى أمانتهم المعمول بشهادتهم الذين بهم تقام الحجج وتدحض وتبرم الأحكام وتنقض وتثبت الدعاوى وتبطل وتمضى القضايا وتسجل مجتهدا في البحث عن طرائقهم وأحوالهم وانتقاد تصاريفهم وأفعالهم واستشفاف سجاياهم وعرفان مزاياهم مخصصا بالتمييز من كان حميد الخلال مرضي الفعال راجعا إلى ورع ودين متمسكا من الأمانة والنزاهة بالسبب المتين قال الله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم )
وأمره بالنظر في أمور اليتامى وأموالهم ومراعاة شؤونهم وأحوالهم وأن يرتب بسبب اتساق مصالحهم الثقات الأعفاء والأمناء الأتقياء ممن ظهرت ديانته وحسنت سريرته واشتهر بالظلف والعفاف والتنزه عن الطمع والإسفاف ويأمرهم بحفظها من خلل يتخللها ويد خائنة تدخلها وليكن عليهم

حدبا وفي فرط الحنو أبا وخلفا من آبائهم في الإشفاق عليهم وحسن الإلتفات إليهم فإنه عنهم مسؤول والعذر عند الله تعالى في إهمالهم غير مقبول وأن يأذن لهم في الإنفاق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير ولا تضييق ولا تبذير فإذا بلغ أحدهم النكاح وآنس منه أمارات الرشد والصلاح دفع ماله إليه وأشهد بقبضه عليه على الوجه المنصوص غير منقوص ولا منغوص ممتثلا أمر الله تعالى في قوله سبحانه ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي لا أولياء لهن من أكفائهن بمهور أمثالهن وأن يشمل ذوات الغنى والفقر منهن بعدله ويتحرى لهن المصلحة في عقده وحله
وأمره أن يستنيب فيما بعد عنه من البلاد ودنا وقرب منه ونأى كل ذي علم واستبصار وتيقظ في الحكم واستظهار ونزاهة شائعة وأوصاف لأدوات الإستحقاق جامعة ممن يتحقق نهوضه بذلك واضطلاعه ويأمن استزلاله وانخداعه وأن يعهد إليهم في ذلك بمثل ما عهد إليه ولا يألوهم تنبيها وتذكيرا وإرشادا وتبصيرا قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
وأمره بإمضاء ما أمضاه قبله الحكام من القضايا والأحكام غير متعقب أحكامهم بنقض ولا تبديل ولا تغيير ولا تأويل إذا كانت جائزة في بعض الأقوال ممضاة على وجه من وجوه الإحتمال غير خارقة للإجماع عارية من ملابس الإبتداع وإن كان ذلك منافيا لمذهبه فقد سبق حكم الحاكم به قال

الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يتخذ كاتبا قيما بشروط القضايا والسجلات عارفا بما يتطرق نحوها من الشبه والتأويلات ويتداخلها من النقص والتلبيسات متحرزا في كل حال متنزها عن ذميم الأفعال وأن يتخير حاجبا نقي الجيب مأمون المشهد والغيب مستشعرا للتقوى في السر والنجوى سالكا للطريقة المثلى غير متجهم للناس ولا معتمد ما ينافي بسط الوجه لهم والإيناس فإنه وصلتهم إليه ووجهه المشهود قبل الدخول عليه فلينتخبه من بين أصحابه وممن يرتضيه من أمثاله وأضرابه
وأمره بتسلم ديوان القضاء والحكم والإستظهار على ما في خزائنه بالإثبات والختم والاحتياط على ما به من المال والسجلات والحجج والمحاضر والوكالات والقبوض والوثائق والأثبات والكفالات بمحضر من العدول الأمناء الثقات وأن يرتب لذلك خازنا يؤدي الأمانة فيه ويتوخى ما توجبه الديانة وتقتضيه
وأمره بمراعاة أمر الحسبة فإنها من أكبر المصالح وأهمها وأجمعها لمنافع الخلق وأعمها وأدعاها إلى تحصين أموالهم وانتظام أحوالهم وأن يأمر المستناب فيها باعتبار سائر المبيعات فيها من الأقوات وغيرها في عامة الأوقات وتحقيق أسباب الزيادة والنقصان في الأسعار والتصدي لذلك على الدوام والاستمرار وأن يجري الأمر فيها بحسب ما تقتضيه الحال الحاضرة والموجبات الشائعة الظاهرة واعتبار الموازين والمكاييل وإعادة الزائد والناقص منها إلى التسوية والتعديل فإن اطلع لأحد من المتعاملين على خيانة في

ذلك وفعل ذميم أو تطفيف عدل فيه عن الوزن بالقسطاس المستقيم أناله من التأديب وأسباب التهذيب ما يكون له رادعا ولغيره زاجرا وازعا قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله تعالى عليك قد أولاك من صنوف النعم والآلاء وجزيل الكرم والحباء ما يوجب عليك الإعتراف بقدره واستيزاع شكره ووقف بك على محجة الرشاد وهداك إلى منهج الحق وسنن السداد ولم يألك تثقيفا وتبصيرا وتنبيها وتذكيرا فتأمل ذلك متدبرا وقف عند حدود أوامره ونواهيه مستبصرا واعمل به في كل ما تأتيه وتذره وتورده وتصدره وكن للمخيلة في ارتيادك محققا وللمعتقد فيك مصدقا تفز من خير الدارين بمعلى القداح وإحماد السرى عند الصباح وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل إن شاء الله تعالى

الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من
أصحاب الأقلام التواقيع
وطريقتهم فيها أن يفتتح التوقيع بلفظ أحق أو أولى أو أقمن من أفيضت عليه النعم أو من فوض إليه كذا أو من نوه بذكره ونحو ذلك من كان بصفة كذا وكذا ثم يقال ولما كان فلان بصفة كذا وكذا فوض إليه كذا وكذا أو أسند إليه كذا وكذا ونحو ذلك

وهذه نسخة توقيع بتدريس كتب به عن الإمام الناصر لدين الله للقاضي محيي الدين محمد بن فضلان بتدريس المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع عشرة وستمائة وهي
أحق من أفيضت عليه مجاسد النعم وجذب بضبعه إلى مقام التنويه وتقدم القدم من أسفر في أفضية الفضائل صباحه وانتشر في العالم علمه وأزهر مصباحه
ولما كان الأجل الأوحد العالم محيي الدين حجة الإسلام رئيس الأصحاب مفتي الفريقين مفيد العلوم أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان أدام الله رفعته ممن نظم فرائد المحامد عقده النضيد وأوى من العلم والعمل إلى ركن شديد وثبتت قدمه من الديانة على مستثبت راسخ وقرار مهيد رؤي التعويل في تفويض التدريس بالمدرسة النظامية إليه ثقة باضطلاعه واستقلاله وتبريزه في حلبات الاستباق على نظرائه وأمثاله وتراجع المساجلين له عن فوت غايته وبعد مناله وأسند إليه أدام الله رفعته النظر في أوقاف المدرسة المذكورة بأجمعها واعتماد ما شرطه الواقف في مصارفها وسبلها سكونا إلى كفايته وركونا إلى سداده وأمانته
ورسم له تقديم تقوى الله تعالى التي ما زال منتهجا لطرائقها متمسكا بعصمها ووثائقها وأن يشرح صدره للمتعلمين ولا تأخذه ضجرة من المستفيدين ولا تعدو عيناه عن جهلاء الطالبين ولا يتبرم بالمبالغة في تفهيم

المبتدي ولا يغفل عن تذكير المنتهي فإنه إذا احتمل هذه المشقة وأعطى كل تلميذ حقه كان الله تعالى كفيلا بمعونته بحسب ما يعلم من حرصه عليهم وإخلاص نيته
وليكن بسائر المتفقهة معتنيا رفيقا وعليهم حدبا شفيقا يفرع لهم من الفقه ما وضح وتسهل ويبين لهم ما التبس من غوامضه وأشكل حتى تستنير قلوبهم بأضواء علوم الدين وتنطق ألسنتهم فيها باللفظ الفصيح المبين وتظهر آثار بركاته في مراشده وتبين ولتتوفر همته في عمارة الوقوف واستنمائها والتوفر على كل ما عاد بتزايدها وزكائها بحيث يتضح مكان نظره فيها ويبلغ الغاية الموفية على من تقدمه ويوفيها ولا يستعين إلا بمن يؤدي الأمانة ويوفيها ويقوم بشرائط الاستحفاظ ويكفيها وهو أدام الله رفعته يجري من عوائد المدرسين والمتولين قبله على أوفى معهود ويسامي به إلى أبعد مرتقى ومقام محمود وأذن له في تناول إيجاب التدريس ونظر الوقوف المذكورة أسوة من تقدمه في التدريس والنظر في الوقوف على ما شرط الواقف في كل ورد وصدر واعتماد كل ما حده في ذلك ومثله من غير تجاوز

النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء
أهل الذمة
وطريقهم فيه أن يفتتح بلفظ هذا كتاب أمر بكتبه فلان أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين لفلان ثم يقال أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بتحميدة أو ثلاث تحميدات إن قصد المبالغة في قهر أهل الذمة بدخولهم تحت ذمة الإسلام وانقيادهم إليه ثم يذكر نظر الخليفة في صالح الرعية حتى أهل الذمة وأنه أنهي إليه حال فلان وسئل في توليته على طائفته فولاه عليهم للميزة على غيره من أبناء طائفته ونحو ذلك ثم يوصيه بما يناسبه من الوصايا

وهذه نسخة من ذلك كتب بها عن القائم بأمر الله لعبد يشوع الجاثليق من إنشاء العلاء بن موصلايا وهي
هذا كتاب أمر بكتبه عبد الله أبو جعفر عبد الله الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين لعبد يشوع الجاثليق الفطرك
أما بعد فالحمد لله الواحد بغير ثان القديم لا عن وجود زمان الذي قصرت صنيعة الأوهام عن إدراكه وحارت وضلت صنيعة الأفهام عن بلوغ مدى صفاته وحالت المتنزه عن الولد والصاحبة العاجزة عن إحاطة العلم به دلائل العقول الضافية الصائبة ذي المشيئة الحالية بالمضاء والقدرة الجارية عليها تصاريف القدر والقضاء والعظمة الغنية عن العون والظهير المتعالي بها عن الكفء والنظير والعزة المكتفية عن العضد والنصير ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )
والحمد لله الذي اختار الإسلام دينا وارتضاه وشام به عضب الحق على الباطل وانتضاه وأرسل محمدا منقذا من أشراك الضلة وكاشفا عن الإيمان ما غمره من الإشراك وأظله وبعثه ماحيا أثر الكفر من القلوب والأسماع وناحيا في اتباع أوامره ماجد في البدار إليه والإسراع وأدى ما حمله أحسن الأداء وداوى بمعجز النبوة من النفوس معضل الداء ولم يزل لأعلام الهدى

مبينا ولحبائل الغي حاسما مبينا إلى أن خلص الحق وصفا وغدا الدين من أضداده منتصفا واتضح للحائر سنن الرشد وانقاد الأبي باللين والأشد فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأئمة الراشدين وسلم تسليما
والحمد لله الذي استخلص أمير المؤمنين من أزكى الدوحة والأرومة وأحله من عز الإمامة ذروة للمجد غير مرومة وأصار إليه من تراث النبوة ما حواه بالاستحقاق والوجوب وأصاب به من مرامي الصلاح ما حميت شموسه من الأفول والوجوب وأولاه من شرف الخلافة ما استقدم به الفخر فلبى واستخدم معه الدهر فما تأبى ومنح أيامه من ظهور العدل فيها وأنتشاره ولقاح حوامل الإنصاف فيها ووضع عشاره ما فضل به العصور الخالية وظلت السير متضمنة من ذكرها ما كانت من مثله عارية خالية وهو يستديمه سبحانه المعونة على ما يقرب لديه ويزلف عنده ويستمد التوفيق الذي يغدو لعزائمه الميمونة أوفى العضد والعدة وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب
وأمير المؤمنين مع ما أوجب الله تعالى عليه من اختصاص رعاياه بأكنافه التي يمد عليهم رواقها ويرد بها إلى أغصان صلاحهم أوراقها ويلقي على أجيادهم عقودها ويقي رياح ائتلافهم ركودها يرى أن يولي أولي الإستقامة من أهل ذمته ضروب الرأفة وصنوفها وأقسام العاطفة الدافعة عنهم حوادث الغير

وصروفها بمقتضى عهودهم القوية القوى وأذمتهم التي يلزم أن يحافظ عليها أهل العدل والتقوى ويغتمدهم من الضرر الغامر والإجمام المضاهي الآنف منه الغابر بما يقبض يد الضيم وكفه ويفيض عليهم من الملاحظة كل ما حسم الضير دونهم وكفه وأن يحبوهم من الحياطة بما يحرس رسومهم المستمرة من أسباب الاختلال ويجريهم فيها على ما سنه السلف معهم من مألوف السجايا والخلال
ولما أنهي إلى حضرة أمير المؤمنين تمييزك عن نظرائك وتحليك من السداد بما يستوجب معه أمثالك المبالغة في وصفك وإطرائك وتخصصك بالأنحاء التي فت فيها شأو أقرانك وأفدت بها ما قصر معه مساجلك من أبناء جنسك أن يعدلك في ميزانك وما عليه أهل نحلتك من حاجتهم إلى جاثليق كافل بأمورهم كاف في سياسة جمهورهم مستقل بما يلزم القيام به غير مقل بما يتعين مثله في أدوات منصبه وأن كلا ممن يرجع إليه منهم لما تصفح أحوال متقدمي دينهم واستشف وأعمل الفكر في اختيار الأرجح منهم والأشف واتفقوا من بعد على إجالة الرأي الذي أفاضوا بينهم قداحه وراضوا به زند الاجتهاد إلى أن أورى حين راموا اقتداحه فلم يصادفوا من هو بالرياسة عليهم أحق وأحرى وللشروط الموجبة التقديم فيهم أجمع وأحوى وعن أموال وقوفهم أعف وأورع ومن نفسه لداعي التحري فيها أطوع وأتبع منك اختاروك لهم راعيا ولما شد نظامهم ملاحظا مراعيا وسألوا إمضاء نصهم عليك والإذن فيه

وإجراء الأمر فيما يخصك أسد مجاريه وترتيبك فيما أهلت له وحملت ثقله واختصاصك على من تقدمك من الأضراب بمزيد من الإرعاء والإيجاب وحملك وأهل نحلتك على الشروط المعتادة والرسوم التي إمضاء الشريعة لها أوفى الشهادة رأى أمير المؤمنين الإجابة إلى ما وجهت إليه فيه الرغبة واستخارة الله تعالى في كل عزم يطلق شباه ويمضي غربه مقتديا فيما أسداه إليك وأسناه من أنعمه لديك بأفعال الأئمة الماضين والخلفاء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين مع أمثالك من الجثالقة الذين سبقوا وفي مقامك اتسقوا وأوعز بترتيبك جاثليقا لنسطور النصارى بمدينة السلام وسائر البلاد والأصقاع وزعيما لهم وللروم واليعاقبة طرا ولكل من تحويه ديار الإسلام من هاتين الطائفتين ممن بها يستقر وإليها يطرا وجعل أمرك فيهم ممتثلا وموضعك من الرياسة عليهم متأثلا وأن تنفرد بالتقدم على هذه الطوائف أجمع ليكون قولك فيما يجيزه الشرع فيهم يقبل وإليك في أحوالهم يرجع وأن تتميز بأهبة الزعامة في مجامع النصارى ومصلياتهم عامة من غير أن يشركك فيها أو يشاكلك في النسبة الدالة عليها مطران أو أسقف للروم أو اليعاقبة لتغدو شواهد ولايتك بالأوامر الإمامية بادية للسامع والناظر وآثار قصورهم عن هذه الرتبة التي لم يبلغوها كافة للمجادل منهم والمناظر ومنعوا بأسرهم عن مساواتك في كل أمر هو من شروط الزعامة ورسومها والتزيي بما هو من علاماتها ووسومها إذ لا سبيل لأحدهم أن يمد في مباراتك باعه ولا أن يخرج عن الموجب عليه من الطاعة لك والتباعة وحملك في ذاك على ما يدل عليه المنشور المنشأ لمن تقدمك الممضى لك ولكل من يأتي بعدك المجدد بما حواه ذكر ما نطقت به المناشير المقررة في أيام الخلفاء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين لمن تقدمك في مقامك وأحرز سبق مغزاك ومرامك من كون المنصوب في الجثلقة إليه الزعامة على ما تضمه

ديار الإسلام من هذه الفرق جمعا والمنصوص عليه في التقدم الذي ليس لغيره من رياضه مرعى وتقدم أمير المؤمنين بحياطتك وأهل نحلتك في نفوسكم وأموالكم وبيعكم ودياركم ومقار صلواتكم وحراسة أموالكم واعتمادكم بأقسام الكلاءة على أجمل الرسم معكم وأن تحموا من نقض سنة رضية قررت لكم ودحض وتيرة حميدة استعملت في فرضكم وأن تقبض الجزية من رجالكم ذوي القدرة على أدائها بحسب ما جرت به عاداتكم دون النساء ومن لم يبلغ الحلم دفعة واحدة في السنة وتجروا في ذلك على السجية التي تناقلها الرواة وتداولتها الألسنة من غير تثنية ولا تكرير ولا ترنيق لمنهل المعدلة عندكم ولا تكدير وأن تحبى بالشد دائما وتقوية يدك على من نصبته في أمورهم ناظرا ولشملهم ناظما ويفسح لك في فصل ما يشجر بينهم على سبيل الوساطة لتقصد في ذاك ما يحسم دواعي الخلف ويطوي بساطه وأن تمضي تثقيفك لهم وأمرك فيهم أسوة ما جرى عليه الأمر مع من كان قبلك يليهم لتحسن معه السيرة العادلة عليهم بحفظ السوام المطابقة للشروط السائغة في دين الإسلام
وأمر بإنشاء هذا الكتاب مشتملا على ما خصك به وأمضى أن تعامل بموجبه فقابل نعمة أمير المؤمنين عندك بما تستوجبه من شكر تبلغ فيه المدى الأقصى وبشر لا يوجد التصفح له عندك قصورا ولا نقصا وواظب على الإعتراف بما أوليته من كل ما جملك وصدق ظنك وأملك واستزد الإنعام بطاعة تطوي عليها الجوانح وأدعية لأيامه تتبع الغادي منها بالرائح وتجنب التقصير فيما بك عدق وإليك وكل وعليك علق واحتفظ بهذا الكتاب جنة تمنع عنك

ريب الدهر وغيره وحجة تحمل فيها على ما يحمي ما منحته من كل ما شعثه وغبره وليعمل بهذا المثال كافة المطارنة والأساقفة والقسيسين والنصارى أجمعين وليعتمدوا من التباعة لك ما يستحقه تقديمك على الجماعة وليثقوا بما يغمرهم من العاطفة الحامية سربهم من التفريق والإضاعة إن شاء الله تعالى
وكتب في شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وأربعمائة

الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس
وكانوا يعبرون عما يكتب من ذلك بالظهائر والصكوك فالظهائر جمع ظهير وهو المعين سمي مرسوم الخليفة أو السلطان ظهيرا لما يقع به من المعاونة لمن كتب له
والصكوك جمع صك وهو الكتاب قال الجوهري وهو فارسي معرب والجمع أصك وصكاك وصكوك ثم تحامى المتأخرون منهم لفظ الصك لما جرى به عرف العامة من غلبة استعماله في أحد معنيي الاشتراك فيه وهو الصفع واقتصروا على استعمال لفظ الظهير
ولذلك حالتان
الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم
واعلم أنه لم يكن لهم مصطلح يقفون عند حده في الإبتداءات بل بحسب ما تقتضيه قريحة الكتاب فتارة يبتدأ بلفظ من فلان إلى فلان أو من

فلان إلى أهل فلانة أو إلى الأشياخ بفلانة أو يصلكم فلان بهذا الكتاب
وتارة يبتدأ بأما بعد حمد الله
وتارة يبتدأ بلفظ تقدم فلان بكذا
وتارة يبتدأ بلفظ مكتوبنا هذا وغير ذلك مما لا ينحصر
فمن الظهائر المكتتبة لأرباب السيوف عندهم ما كتب به بولاية ناحية وهي
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله لهم من الكرامة أتمها ومن الرعاية أوفاها وأسبغ عليهم برود نعمه الجزيلة وأصفاها
أما بعد حمد الله ميسر أسباب النجاح ومسني مرام الرشاد والصلاح والصلاة على سيدنا محمد رسوله نبي الرحمة والرفق والإسجاح وعلى آله وصحبه المتصفين بالقوة في ذات الله تارة وتارة بخفض الجناح والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين ذي الشرف الذي لم يزل بالهدى النبوي متوقد المصباح والدعاء للمقام الإماري بالنصر الذي يؤتي مقاليد الافتتاح والتأييد الماضي حد رعبه حيث لا يمضي غرار المهند وشبا الرماح فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سكون الأرجاء وهدوها وأجرى لكم بالصلاح رواح الأيام وغدوها من فلانة وللدولة العلية بركات تكاثر السحب في انسكابها وانسجامها وتقود الخيرات والمسرات في كل أوب بزمامها والحمد لله حمدا يقضي بوفور جزيلات النعم وجسامها
وإن الاهتمام بكم لمستبق على كل غرض جميل ومقدم فيما يحظيكم بكل بغية وتأميل وبحسب هذا لا يزال يختار لكم من الولاة كل مختار منتخب ولا يقدم عليكم إلا من ينتهي إلى أثيل حسب وكريم منتسب ولا يزال يداول موضعكم بين كل طريقة تتصل من حسن السير وسداد النظر بأمتن سبب وعلى هذا الأصل استخرنا الله وهو المستخار والذي يقضي ما يشاء ويختار في أن

قدمنا عليكم وولينا للنظر فيما لديكم من له التقدم في الإقدام والإضطلاع الثابت الأقدام وذلك فلان وآثرناكم به اعتناء بجانبكم واهتبالا وخصصناكم منه بمن يفسح في كل أثر حميد مجالا والمعتقد فيه أن يعمل على شاكلته بنباهة مكانه وأن يبذل في الإنتهاض والاكتفاء غاية وسعة وإمكانه وعليه أن يلازم تقوى الله العظيم في سره وعلنه ويجري على سبيل العدل وسننه ويشمر عن ساعده في الدفاع عن أحوازكم كل التشمير ويأخذ على أيدي أهل التعدي أخذا يقضي على الفساد وأهله بالتتبير ويقصد بكم سديد السعي ورشيد الرأي في الدقيق والجليل والصغير والكبير ويسوي في الحق بين الحافل والتافه والغني والفقير وعليكم أن تسمعوا وتطيعوا ولا تهملوا حق الامتثال والإئتمار ولا تضيعوا وأن تكونوا يده التي تبطش وأعوانه فيما يحاول من مستوفي المساعي المرضية ومستوعبها وأن تتعاونوا على التقوى والبر وتقفوا له عند النهي والأمر وتجتهدوا معه في مصالحكم كل الإجتهاد وتعتمدوا على ما رسمناه لكم أتم الاعتماد وستجدون من مواليكم إن شاء الله ما يوافق الظن به ويلائم العمل بحسب حسبه إن شاء الله تعالى والسلام
ومنها ما كتب به في ولاية ناحية أيضا وهي
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله تعالى كرامتهم بتقواه وعرفهم أحق النظر بمصالحهم وأحراه
وبعد فإنا كتبناه لكم كتب الله لكم أحوالا متصلة الصلاح حميدة الإختتام والإفتتاح من فلانة ونعم الله سبحانه موفورة الأقسام صيبة الغمام وقد اقتضى

ما نتوخاه من الإحتياط على جوانبكم ونعتمده من الإيثار لكم والإعتناء بكم أن نتخير للتقديم عليكم من نعلم منه الأحوال المرضية حقيقة ونحمد سيره فيما يحاوله وطريقه
ولما كان فلان ممن حمدت مقاصده وشكرت في المحاولات الإجتهادية عوائده وحسنت فيما نصرفه فيه مصادره وموارده رأينا والله القاضي فيما نذره ونأتيه بالتوفيق الذي يكون به انقيادالنجح وتأتيه أن نقدمه لحفظ جهاتكم وتأمين أرجائكم وجنباتكم ووصيناه أن يجتهد فيما قلدناه من ذلك كل الإجتهاد وينتهض في إذهاب الشر وإرهاب أهل الفساد وبأن يسلك فيما يتولاه من الأحكام سنن الحق ويجري على سبيل العدل والرفق ويدفع أسباب المظالم وينصف المظلوم من الظالم فإذا وافاكم فتلقوه بنفوس منبسطة وعقائد على العمل الصالح مرتبطة وكونوا معه على تمشية الحق يدا واحدة وفئة في ذات الله متعاونة متعاضدة بحول الله سبحانه
ومنها ما كتب به بإعادة وال إلى ناحية وهي
وإنا كتبناه إليكم كتبكم الله من المتعاونين على البر والتقوى وأعلقكم من طاعته بالحبل الأمتن الأقوى من فلانة والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والإستعانة به والتوكل عليه وقد صرفنا إليكم فلانا بعد أن أقام هنا شاهدا مشاهد للتعلم نافعة مباشرا من المذاكرة في الكتاب والسنة مجالس ضامنة لخير الدنيا والآخرة جامعة مطالعا لأحوال الموحدين أعزهم الله في مآخذهم الدينية ومقاصدهم المحيية لما درس من الملة الحنيفية فنال بذلك كله خيرا كثيرا وأحرز به حظا من السعادة كبيرا وظفر منه بما يكون له في كل ما ينظر فيه سراجا منيرا وقد أعدناه إلى الشغل الذي كان يتولاه لجهتكم حرسها الله ووصيناه بتقوى الله تعالى الذي لا يطلع على السرائر سواه وأن يكون بما شاهده مما تقدم ذكره مقتديا وبأنواره الساطعة التي لا يضل من اهتدى بها مهتديا ولا

يستند في شيء من أحكامه إلى من لا يقوم على عصمته دليل ولا جعل إليه تحريم ولا تحليل فأعينوه وفقكم الله على تمشية هذه المقاصد الكريمة أكرم إعانة واسلكوا من مظاهرته على الحق وموازرته على المسالك التي تستبين هنالكم أتم استبانة إن شاء الله تعالى
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الدينية ما كتب به في ولاية قاض وهو
أما بعد حمد الله رافع علم الحق لمن اهتدى وواضع ميزان القسط بالشريعة المحمدية الآخذة بالحجز عن مهاوي الردى ومؤيد الدين الحنيفي بمن ارتضى لتحديد حدوده وتجديد عهوده وهدى والصلاة على سيدنا محمد نبيه الكريم الذي أرسله إلى الناس كافة غير مستثن عليه من الخلق أحدا وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في نصره وإظهار أمره جددا والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين العباسي الأطيب عنصرا ومحتدا فإنا كتبناه إليكم كتبكم الله ممن اعتز بطاعته وتقواه واعتصم من حبله المتين بأوثقه وأقواه من فلانة وفضل الله سبحانه مديد الظلال وتوكلنا عليه عز وجهه ظهيرنا المعتمد به في كل حال وعمادنا الذي نقدمه فيما ندبره من الأعمال وإنكم من عنايتنا وموصول رعايتنا لبالمحل الأدنى ومن خاص نظرنا واهتمامنا لمن نكلف بشأنه كله ونعنى ونعتمد من ذلك بالأحسن فالأحسن فجزاء الذين أحسنوا الحسنى
وقد علمتم وصل الله كرامتكم أن الأحكام الشرعية هي ملاك الأمور ونظامها وعليها مدار الأعمال الدينية وبها تمامها وأنه لا يصلح لها إلا من تجرد عن هواه وآثر الحق على ما سواه واتبع حكم نبيه عليه السلام في كل ما عمله ونواه وتجمل بالدراية وحمل الرواية فكانتا أظهر حلاه واتسم بالعدل والاعتدال فيما وليه من ذلك أو تولاه وكان ممن أطلق الحق لسانه وقيد الورع يمناه وقد أمعنا النظر فيمن له من هذه الأوصاف أوفى نصيب ومن إن رمى عن قوس نظره الموفق كان سهمه المسدد مصيب لنخصكم به قاضيا في هذه الأحكام ونقدمه

للفصل بينكم في القضايا الشرعية حكما من صالحي الحكام فرأينا أهلا لذلكم ومحلا من اختبرت على النهج القويم أحواله وارتضيت فيما نيط به من ذلك أعماله وأقواله وشهد له الإختبار بالإنكفاف عن كل سابق وغائب وعن ارتكاب الثنيات إلى السنن اللاحب وذلكم فلان أدام الله كرامته وتوفيقه ويسر إلى مسالك النجاة مسلكه وطريقه فأنفذناه إليكم حكما مرضي السير وافر الحظ من المعارف المصورة للحق في أجمل الصور مكتفيا لما لديه من استقامة الأحوال عن الوصايا ما خلا التذكير والتنبيه والوصية بتقوى الله فهي التي تعصم العامل بها وتنجيه فقد وصى بها الله من اختاره من خلقه لإقامة حقه وارتضاه فقال تعالى ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله )
فتلقوه أدام الله كرامتكم بنفوس منبسطة وقلوب مبتهجة مغتبطة وأهواء على التظافر والتناصر في الحق مجتمعة مرتبطة وتعاونوا في ذات الله على الطاعة وكونوا في سبيل الله يدا واحدة فيد الله مع الجماعة واستعينوه سبحانه على الخير يعنكم واشكروا الله يؤتكم خيرا مما أخذ منكم وهو سبحانه يتولاكم بالحفظ الشامل ويستعملكم من طاعته وسلوك سبيل مرضاته بأنجى ما استعمل به عامل والسلام
ومنها ما كتب به أبو الحسن الرعيني في ولاية قاض وهي
من فلان إلى الأشياخ بفلانة أدام الله كرامتهم بتقواه واستعملهم فيما يحبه ويرضاه
أما بعد فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم حسناه وأوزعكم شكر ما خولكم

من نعماه ورحماه ومن مقاصد هذا الأمر العزيز أدامه الله ما يعلي يد الحق ويسميها ويسدد سهام العدل إلى أغراضها ومراميها ويتكفل بالجزاء لمن لاذ بأكناف الطاعة ونواحيها والحمد لله على نعمه التي لا نحصرها ولا نحصيها
والى ذلكم فإن فلانا لما تمكنت الثقة بجميل صفته واستنامت البصيرة إلى استحكام سنه ومعرفته وقد كان تقدم له من خدمة الأمر وأوليائه ما نجده مع الأيام وخرجه وخصصه من كريم الاستعمال بما استدناه إلى مراقي الذكاء واستدرجه رأينا والله المستعان أن نقدمه للنظر في قضاياكم الدينية وأحكامكم الشرعية بعد أن وصيناه بتقوى الله فقدمها وعرضنا عليه ما يعلمه ويلزمه من شروط الحكومة فالتزمها فلينهض إلى ما قدمناه على بركة الله تعالى مشمرا عن ساعد الحزم آخذا في كافة أموره بما يأخذه أولو العزم جاريا على السنن الواضح المعروف مسويا في الحق بين النبيه والخامل والشريف والمشروف محتسبا على إقامة فروض الدين أكرم احتساب مكتسبا من الأجر في ردع الظلم والباطل أفضل اكتساب راجيا في تمشية العدل على رغم من أباه ما يرجو المؤمن المحقق من زلفى وحسن مآب ولدينا من عقده على ذلك ما يحسن مقصده ويمكن في بسطة الحق مقعده فإذا وافاكم فاستبشروا بموافاته وقفوا عند ما يمضيه من لوازم الشرع وموجباته وتعاونوا على الخير تعاونا يجزل حظكم من فضل الله وبركاته فهو المؤمل في ذلك لارب سواه
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الديوانية ما كتب به أبو المطرف بن عميرة بولاية وزارة وهو
مكتوبنا هذا بيد فلان أدام الله علاءه وحفظ عنايته وغناءه يجد به مكان

العزة مكينا ومورد الكرامة عذبا معينا وسبيل الحرمة المتأكدة واضحا مستبينا ويتقلد وزارتنا تقلد تفويض وإطلاق ويلبس ما خلع عليه منها لبسه تمكن واستحقاق وينزل من رتبتها العليا منزلة شرفها ثابت وحماها باق ويسوغ الدار المخزنية التي يسكنها بفلانة تسويغا يملكه إياها أصح تمليك ويفرد فيها من غير تشريك إن شاء الله تعالى والسلام
ومنها ما كتب به أبو عبد الله بن الأبار في مشارفة ناحية وهو
عن إذن فلان يتقدم فلان للنظر في الأشغال المخزنية بفلانة موفيا ما يجب عليه من الإجتهاد والتشمير والجد الذي ارتسم في الإنماء والتثمير مصدقا ما قدر فيه من الانتهاض والاستقلال وقرر عنه من الأمانة التي رشحته وأهلته لأنبه الأعمال جاريا في ضبط الأمور المخزنية والرفق بجانب الرعية على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضية في عامة الشؤون والأحوال عاملا بما تقدمت به الوصية إليه وتأكدت الإشارة به عليه من تقوى الله في السر والعلن علما أن المرء بما قدمته يداه مرتهن
ومنها ما كتب به المذكور بإعادة مشارف إلى ناحية وهو
يعاد بهذا المكتوب فلان إلى خطة الإشراف بفلانة رافلا من ملابس التكرمة والحظوة في شفوفها مخلى بينه وبين النظر في ضروب الأشغال المخزنية وصنوفها فهو المعروف بالكفاية والاجتهاد الموصوف بحسن الإصدار

والإيراد وأولى الناس بالتزام النصيحة والازدياد من بضائع الأعمال الربيحة من كثرت النعم السلطانية لديه ودفع إلى الخطط ودفعت إليه فليتقلد هذه الخطة بحقها من الانتهاض والتشمير وتأدية الأمانة بالإنماء والتثمير وليتزود تقوى الله تعالى ليوم يسأل عن النقير والقطمير جاريا في أموره كلها على الطريقة السوية جامعا بين الاحتياط للمخزن والرفق بالرعية غير عادل في حال من الأحوال وفن من فنون الأعمال عن مقتضى هذه الوصية إن شاء الله تعالى

الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية
وقد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة أنه كان بها من وظائف أرباب السيوف الوزارة إذا كان الوزير صاحب سيف والنظر في المظالم وزم الأقارب ونقابة العلويين وزم الرجال والطوائف كالأموية والحافظية والأفضلية وغيرهم ممن تقدم ذكره في ترتيب دولتهم وولاية الشرطة وولاية المعاون والأحداث وولاية الحماية وولاية حفظ الثغور والإمارة على الحج والإمارة على الجهاد وولاية الأعمال وغير ذلك
ومن الوظائف قضاء

القضاة والدعوة إلى مذهبهم والنظر في الأوقاف والأحباس والنظر في المساجد وأمر الصلاة وغير ذلك
وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين

النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه
وكان من شأنهم أنهم يتعرضون في أثناء الولاية لإشارة الوزير بتولية المولى وثنائه عليه وربما أهملوا ذلك وكانوا يسمون جميع ما يكتب من ديوان الإنشاء سجلات وربما سموه عهودا وعليه يدل ما كتبه العاضد آخر خلفائهم في طرة سجل السلطان صلاح الدين بالوزارة هذا عهد لا عهد لوزير بمثله على ما تقدم ذكره في الكلام على عهود الملوك
ولهم فيها أربعة مذاهب
المذهب الأول أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير
وهو من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان بالألقاب المنعوت بها من ديوان الخلافة ويدعى له بدعوتين أو ثلاث ثم يقال سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويؤتى من وصف الخليفة ومدحه بما يناسب المقام
ثم هو بعد ذلك على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدم أما بعد فالحمد لله
ويؤتى من التحميد بما يناسب تلك الولاية ثم يؤتى بتحميدة ثانية وثالثة

وتكون الثالثة متعلقة بالنعم الشاملة لأمير المؤمنين ثم يقال وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من كذا وكذا ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة ويذكر أنه تصفح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلا هو ويذكر من صفته ما اتفق ذكره ثم يذكر تفويض الولاية إليه ويوصيه بما يناسب ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنن في العبارة واختلاف المعاني والألفاظ والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشيء وتؤدي إليه قريحته

الضرب الأول سجلات أرباب السيوف
وعلى ذلك كتب سجلات وزرائهم أصحاب السيوف القائمين مقام السلاطين الآن من لدن وزارة أمير الجيوش بدر الجمالي وزير المستنصر خامس خلفائهم والى انقراض دولتهم
وقد تقدم منها ذكر عهدي المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي ثم ابن أخيه الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد في جملة عهود الخلفاء والملوك حيث أشار في التعريف إلى عدهما من جملة عهود الملوك
ومن أحسنها وصفا وأبهجها لفظا وأدقها معنى ما كتب به الموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء عن العاضد المتقدم ذكره بالوزارة لشاور السعدي بعد أن غلبه ضرغام عليها ثم كانت له الكرة عليه
وهذه نسخته

من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل سلطان الجيوش ناصر الإسلام سيف الإمام شرف الأنام عمدة الدين أبي فلان فلان
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما
أما بعد فالحمد لله مانح الرغائب ومنيلها وكاشف المصاعب ومزيلها ومذل كل عصبة كلفت بالغدر والشقاق ومذيلها ناصر من بغي عليه وعاكس كيد الكائد إذا فوق سهمه إليه وراد الحقوق إلى أربابها ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيها وأولى بها ومسني الخير بتيسير أسبابه ومسهل الرتب بتمهيد طرقه وفتح أبوابه ومدني نائي الحظ بعد نفوره واغترابه ومطلع الشمس بعد المغيب ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب مبدع ما كان ويكون ومسبب الحركة والسكون محسن التدبير ومسهل التعسير ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )
والحمد لله الذي اختص أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالإستعلاء والظهور وذلل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور وآتاهم من التأييد كل بديع

مستغرب وأنالهم من كل غريب إذا أورد قصصه أطرب ومكنهم من نواصي الأعداء وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء وضمن لهم أحمد العواقب وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبتت لهم في صحائف الأيام أفضل المناقب وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله وتم غاية التمام كما أنه كان لرضا الله سبحانه وحسن ثوابه مآله ويمدهم في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين ويحظيهم من أنوار اليقين بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشك البهيم ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم ويريهم أن خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم
والحمد لله الذي استثمر من دوحة النبوة الأئمة الهادين وأقامهم أعلاما مرعدة في محجة الدين وبين بتبصيرهم الحقائق وورث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم وجعله محرز غاياتهم وجامع معجزاتهم وآياتهم وقضى لمن التحف بظل فنائه واشتمل بسابغ نعمه وآلائه وتمسك بطاعته واعتصم بولائه بالخلود في النعيم المقيم والحلول في مقام رضوان كريم ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
يحمده أمير المؤمنين على نعمه التي جعلته للبشر إماما وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكاما وجرد من عزمه في حياطة دين الله عضبا مرهفا حساما واستخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعة وإقداما وأحسنهم في تدبير أمورها قانونا ونظاما وأتمهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقدا واهتماما وأولاهم بأن لا يوجه عليه أحد في حق من حقوق الله ملاما وأجدرهم بأن يحل من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يلقى فيها تحية وسلاما ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر وغلب بالتأييد وقهر وأظهر

المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب سيف الله الذي شهره على الكفر وسله وكفله إعزاز الدين فأعظمه بجهاده وأجله وقرع بعزه صفاة الإلحاد فأزاله بعزه وأذله وقصد الأصنام وأرغم من استغواه الشيطان باتباعها وأضله وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين وهداة المتقين وموضحي سبيل الحق لأهل اليقين وموصلي الأنوار الدينية إلى بصائر المؤمنين صلاة تتكرر وتتردد وتدوم مدى الأيام وتتجدد
وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من المنصب الشريف وسما به إليه من المحل الشامخ المنيف وفوضه إليه من تدبير خلقه وأفرده به من اتباع أمره والقيام بحقه وناطه به من المحاماة عن الملة الحنيفية والاجتهاد في أن يشمل أهلها بالحالة السنية والعيشة الهنية وإعانته في إظهار شعارها وتأييده في إظهار علوها على الملك واقتدارها يبذل جهده في الاستعانة بمن تقوم به حجته عند الله بالاعتماد عليه ويتوثق لنفسه في اختيار من يقوم برضا الله في إسناد الأمور إليه ويحرص على التفويض لمن يكفي في التدبير وتحيط غاية نظره بالصغير من رجال الدولة والكبير تقربا إلى الله بالعمل فيما ولاه بما يرضيه وازدلافا باتباع أمره في كل ما ينفذه ويمضيه
وقد كان أمير المؤمنين تصفح أولياء دولته وعظماء مملكته وأكابر شيعته وأنصار دعوته فوجدك أيها السيد الأجل أكملهم فضلا وأقلهم مثلا وأتمهم في التدبير والسياسة إنصافا وعدلا وأحقهم بأن تكون لكل رياسة وسيادة أهلا ففوض إليك في أمور وزارته وعول عليك في تدبير مملكته وجمع لك النظر فيما وراء سرير خلافته فجرت الأمور بمقاصدك السعيدة على إيثار أمير

المؤمنين وإرادته واستمر أمر المملكة بمباشرتك على أحسن قانونه وعادته وشملت الميامن والسعود أتم اشتمال على تفصيله وجملته وانحسمت الأدواء وذلت بسطوتك الأعداء وزالت في أيامك المظالم والإعتداء وحسنت بأفعالك الأمور وظهر بك الصلاح وكان قبل وزارتك قليل الظهور فانبسطت الآمال واتسقت الأعمال وأقمع الضلال وأمنت الأهوال وخلصت من الرأي السقيم وحظيت بالملك العقيم وغدا جندها ورعاياها ببركة رأيك في النعيم المقيم
فلما رمقتك عين الكمال وألهب قلوب حسدتك ما أوتيته من تمام الخلال تكاثر من يحوك المكايد وتظافر عليك المنافس والمعاند ورنت إليك إساءة من عاملته بالإحسان وعدت عليك خيانة من ائتمنته أتم ائتمان وتم له المراد بوفائك وغدره وسلامة صدرك ومكره واتفاق ظاهرك وباطنك ومباينة سره لجهره فكان ماهونه في نفسه سلامة النفس وأكبر الولد ومنح في إسداده نعما لا تنحصر بعدد وأفظع ما كان فيه ما أصيب به ولدك الأكبر رضي الله عنه الذي أصيب وهو مظلوم ولو لم يصب لم يمتنع من الأجل المحتوم فربحت بما نالك ثوابا واستفتح لك الحظ من النصر على الباغي بابا واغتصب الغادر ما لا يستحق ورآه أمير المؤمنين بصورة المبطل ورآك بصورة المحق وهدتك السعادة إلى العمل بسيرة الأنبياء في الانحياز عن الأعداء والتباعد عن أهل الغي والاعتداء فانسللت من الغواة انسلال الصارم من غمده وتواريت من العتاة تواري النار في زنده وقطعت المفاوز مصاحبا للعفر والعين حتى حللت بربوة ذات قرار ومعين وإن أمير المؤمنين يمدك في ذلك بدعائه ويعدك لتدبير دولته

وقمع أعدائه ورآك وإن أبعدتك الضرورات عن بابه وأنأتك الحادثات عن جنابه أنك وزيره المكين وخالصته القوي الأمين الذي لا ينزع عنه شمس وزارته ولا يؤثر له غير سلطانه ومملكته
ولما وجهت إلى أعمال أمير المؤمنين بمن استصحبته راجيا من عدوك الانتصار قاصدا إدراك الثار وحللت بعقوته وخيمت في جهته فاتصلت بينكم الحروب وعز على كل منكما نيل المطلوب أنجدك أمير المؤمنين عند علمه ببلوغ الكتاب أجله واستيفاء الوقت المحدود مهله بإظهار ميله إليك وميله عن ضدك وأن قصده مباين لقصد المذكور موافق لقصدك فسبب ذا نصرك وخذلانه وتقويتك وإيهانه ولأمير المؤمنين في حاله عناية تسعدك ورعاية تؤيدك
فحين عدت إلى بابه عود الشموس إلى مشارقها قبلك أحسن قبول وتلقاك بتبليغ السول وكشف الغطاء عما كان يسره إليك ويضمره ويريده بك ويؤثره وجدد لك ما كنت تنظر فيه من الوزارة ومباشرة ما كان مردودا إليك من السفارة والظهارة لأنك أوحد ملوك العصر كمالا وأوسعهم في حسن التدبير مجالا وأشرفهم شيما بديعة وخلالا وأصلحهم آثارا وأعمالا وأتمهم سعادة وإقبالا وأكثرهم تقية لله تعالى وما زلت للمفاخر جامعا ولراية المجد رافعا ولذرى العلاء والسناء فارعا تزدان العصور بعصرك وتتجمل الدنيا ببقاء نهيك وأمرك وتتعجب الأفلاك العلية من سعة صدرك وتتضاءل الأقدار السامية لعظيم قدرك وكم لك من منقبة تجل أن يكفيها بديع الأقوال وتعظم أن يتمناها بديع الأقوال فالدولة العلوية بتدبيرك مختالة زاهية وأركان أعدائها وأضدادها بحزمك وعزمك واهية وسعادات من تضمه وتشتمل عليه متضاعفة غير منقطعة

ولا متناهية ولم تزل للإسلام سيفا قاطعا ماضيا وعلى الإلحاد سيفا مرهفا قاضيا تذود الشرك عن التوحيد وتصد الكفر عن الإيمان فيحيد مرغما ويبيد وكم لك في خدمة أئمة الهدى من مأثرة تؤثر فتبهج ويورد ذكرها فيغري بالثناء عليك ويلهج وتبذل في طاعتهم النفس والولد وتنتهي في مناصحتهم إلى الأمد الذي ليس بعده أمد فلذلك فزت بدعواتهم التي أعقبتك حسن العواقب وأحلتك المحل الذي لا تسموا إلى رقيه النجوم الثواقب فإذا رفعك أمير المؤمنين إلى منزلة سامية وجد محلك لديه عنها يجل ويسمو وإذا خصك بفضيلة ما صادف استحقاقك عنها يرتفع ويعلو وإذا استشف خصائصك وجدها بديعة الكمال يمتنع أن يدرك مثلها بحرص ساع أو ينال وقد توافقت الخواطر على أنك أوحد وزراء الدولة العلوية ظفرا ونظرا وأحسنهم في طاعتها ومخالصتها أثرا وأفضلهم خبرا وأطيبهم خبرا وقد جدد لك أمير المؤمنين اصطفاءك لوزارته واجتباءك لتدبير مملكته وجعلك الفرد المشار لك في دولته
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه المهمات الجسام وتسنم ما وطده لك من هذه الرتب العظام وتلق آلاءه بما يثبتك في جرائد الأبرار ويمنحك مصاحبة التوفيق في الإيراد والإصدار وباشر ما ناط إليك من كبير الأمور وصغيرها وجليل الأحوال وحقيرها وابسط يدك في تدبير دولته وأنفذ أوامرك في أرجاء مملكته واعن بما جعله لك من تدبير جيوشه الميامين وأوليائه المتقين وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين ورب أحوال جنوده ورعاياه أجمعين واعمل في ذلك بتقوى الله الذي ما برحت لك دأبا وطريقة وشيمة وخليقة وبها النجاة من النار والسلامة في دار القرار والفوز بمعنى الخلاص في يوم المناقشة والقصاص فالعارف من مهد بها مقامه في الآخرة تمهيدا وأحرز بها من الثواب في الآخرة مزيدا بقول الله في الكتاب الذي جعله في الإعجاز فريدا ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )

وراقب الله فيما ألقاه إليك فقد فوض إليك مقاليد البسط والقبض والرفع والخفض والولاية والعزل والقطع والوصل والتولية والتصريف والصرف والإمضاء والوقف والغض والتنبيه والإخمال والتنويه والإعزاز والإذلال والإساءة والإجمال والإبداء والإعادة والنقص والزيادة والإنعام والإرغام وكل ما تحدثه تصاريف الأيام وتقتضيه مطالب الأنام فهو إليك مردود وفيما عدق بنظرك معدود
وأما العدل ومد رواقه وإقامة مواسمه وأسواقه والإنصاف واتباع محجته والإعتماد على أحكامه وأقضيته وكف عوادي الجور والمظالم وحمل الأمر على قصد التصاحب والتسالم وإظهار شعار الدين في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين والدعوة الهادية وفتح أبوابها للمستجيبين وإعزاز من يتمسك بها من كافة المؤمنين والأموال والنظر فيها والأعمال أقاصيها وأدانيها فكل ذلك محرر في تقليد وزارتك الأول وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل
وأما أمراء الدولة الأكابر وصدورها الأماثل وأمراؤها الأعيان وأولياؤها الذين بسيوفهم تقام دعائم الإيمان فأنت شفيعهم في كل مكان ومعينهم الذي يبذل جهده بغاية الإمكان والجاهد لهم في النفع والصلاح والحريص على دفع ما يلم بكل منهم من الضرر والاجتياح ومازلت لهم في الأغراض بحضرة أمير المؤمنين مساعدا وعلى مايبلغهم الآراب حريصا جاهدا وتخصهم دائما بعنايتك وتمدهم برعايتك وتعمل لهم في الحاجات صائب رأيك فأجرهم على ما ألفوه من الاعتناء والإجمال وبلغهم من محافظتك نهايات الآمال فهم أبناء الملاحم ومصطلو لهب الجمر الجاحم ومصافحو الصفاح المرهفة

الضروب وملاعبو الرماح العاسلة ذات الكعوب ومعملو العتاق الأعوجية ومرسلو السهام المريشة المبرية
وأمير المؤمنين يعلم أنك بفضل فطرتك وثاقب فطنتك وما ميزك الله به من قديم حنكتك وتجربتك تغنى عن الوصايا وتنزه عن توسيع الشرح في القضايا وإنما أورد لك هذا النزر منها على جهة التيمن بأوامر الأئمة والتبرك بمراسيم هداة الأمة والله يحقق لأمير المؤمنين فيك الأمل ويوفقك في خدمته للقول والعمل ويعينك على إصلاح دولته واغتنام فرص طاعته وبذل الجهد والطاقة في مناصحته والاجتهاد في رفع منار دعوته ويؤيدك على أعداء مملكته ويرشدك إلى العمل بما يسبغ عليك لباس نعمته فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه وانته إلى موجبه وحكمه إن شاء الله تعالى
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته والتحميد
وعلى ذلك كتب الموفق بن الخلال أيضا عن العاضد بولاية ابن شاور السعدي نيابة الوزارة عن أبيه وتفويض الأمور إليه وهذه نسخته
من عبد الله ووليه بألقاب الخلافة إلى فلان بالنعوت اللائقة به
سلام عليك إلى آخر الصلاة على النبي على نحو ما تقدم في سجل الوزارة لأبيه
أما بعد فالحمد لله مؤيد الحقائق بأفضل الأنصار ومعز الممالك بأكمل ذوي النفاذ والاستبصار وجاعل الولد البار لوالده ركنا وسندا والنجل المختار لناجله نجدة ومددا مرتب الممالك على أفضل نظامها ومرقي الدول إلى المؤثر من إجلالها وإعظامها ليتضح للمتأملين فضل تأكد الأواصر ويستبين للناظرين

فصل تباين العناصر إبراما منه جل وعز لأسباب الحكمة وتوسيعا لسبيل الحنان والرحمة وشمولا لما يتتابع به إحسانه من المن الجسيم ( فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم )
والحمد لله معلي الدرجات ورافعها ومفيد الأمم ونافعها ومزيل البأساء ودافعها ومجيب الدعوات وسامعها ومضاعف المصالح وجامعها الذي وقف على الدولة العلوية أحسن السير وخصها فيمن تؤثر اصطفاءه بمساعدة القدر ويسر لها رائق التدبير بعد ملابسة الرنق والكدر وادخر لها من الأصفياء من تشرق الدنيا بأنواره وتزين الدهور بمحاسن آثاره وتسمو المفاخر بمفاخره ويتوالى الثناء على ما ابتكره من المكارم في أول نشئه وآخره ويتتابع الإحماد لمن يختاره ويجتبيه وتتضاءل أقدار الملوك إذا ذكر فضله وفضل أبيه وتسكن النفوس إلى تمام ورعه ودينه وينطق لسان الإجماع بصحة معتقده ويقينه
والحمد لله الذي شمل البرايا فضله وعم الخلائق عدله وأقرت العقول بأن إليه يرجع الأمر كله
يحمده أمير المؤمنين على نعمه الظاهرة التي أحظت دولته الظاهرة بمؤازرة البيت الجليل الشاوري وأيدت مملكته القاهرة بمحاماته عن حوزتها بالعضب المرهف والسمهري ويشكره على مننه التي استخلصت له منه أنصارا يرهفون في طاعته العزائم ويحقرون في إرادته العظائم فيذبون عن حوزته ولا يخافون في ذات الله لومة لائم ويسأله أن يصلي على جده محمد الداعي إلى الهدى والمبعوث إلى الخلائق وهم إذ ذاك سدى والمناضل في نصرة الإسلام بالأسرة والآل والمطرح عاجل الدنيا الفانية لآجل المآل وعلى أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أقام من دين الله منكر الأود وقام لنبي الله مقام النجل المرتضى والولد وقط من طواغيت الكفر شامخ الهام وأوضح غامض

التنزيل بما أفرده الله به من مزايا الإلهام وعلى الأئمة من ذريتهما أبناء الرسالة والإمامة والمختصين بإرث بيته المحبو بتظليل الغمامة والقائمين بنصرة الدين والمتفردين بإمرة المؤمنين
وإن أمير المؤمنين لما أقامه الله له من تمكين قواعد الدين واختاره لإيضاحه من إرشاد فرق المسلمين وأفضى به إليه من سر الإمامة المكنون وألقاه إليه من خفايا الإلهام الذي تستنبط من أنوارها علة ما كان ويكون وأمده من التأييد الذي يستأصل طواغيت النفاق بقوارع المهالك ويسلك بمرده أهل العناد أوعر السبل والمسالك وأنجده في كل الحالات بالألطاف الخفية التي تتكفل بإعلاء كلمته وتتضمن نصر أعلامه ونشر دعوته وآتاه جوامع المعارف والحكم وفرض طاعته على من دان بالتوحيد من جميع الأمم وألزم مقاصده وأنحاءه التوفيق وأوجب لها السعادة في كل جليل ودقيق يفوض أمره إلى الخالق ويفيض جوده وبره في الخلائق فلا يزال لأحوال دولته مراقبا ولا ينفك يفيد كل ما يتعلق بها نظرا ثاقبا فإذا لاحت له لائحة صلاح أو بدت لنظره مخيلة نجاح اجتهد في توسيع مجالها وحرض على حثها وقصد إعجالها والتمس للدولة اجتلابها وفتح إلى استدعاء النفع بابها لينمى الخير العميم في دولته ويتضاعف النفع الجسيم لرعيته وتكون كافة الخلق فيها بالأمنة والسكون مغمورين وبحسن صنيع الله بهم فرحين مسرورين
ولما تصفح أمير المؤمنين أحوال دولته وتأملها تأمل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته رأى أن للاه جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيه ووزيره وكافيه ووليه السيد الأجل بالنعوت والدعاء الذي قام بنصرته وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته وحالف التغرب والأسفار واستبدل من لين العيش بملاقاة السهام واللهاذم والشفار واتخذ ظهور الجياد عوضا من الحشايا ومنازلة الأبطال دأبا في الحنادس والبكر والعشايا وآثر

على لبس الغض المونق الجديد لباس اليلب ولأمات الحديد ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف والتهجم على كل مخشي مخوف حتى ذلل الأعداء وقمع الإعتداء وحسم الأدواء وألزم الدهر بعد خطئه الاستهواء وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزا وادخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزا وسير عنها في الآفاق أحسن الأحاديث وبين فضلها على غيرها في القديم من الدهر والحديث وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتى استخدم الموالي الموافق والمباين المنافق وكمل فضائله التي لا تحد ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعد بفضيلة تفوت الفضائل ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل وهي ما وجهه الله له من بنوة الأجل فلان الذي لم يزل للدولة عزا حاضرا ووليا ناصرا وعونا قاهرا ومجدا ظاهرا وجمالا باهرا
وما برح الله جل وعلا مراقبا ولرضاه وغفرانه طالبا قد جمع إلى كمال الدين وصحة اليقين المخالصة في طاعة أمير المؤمنين لا يفتر منذ مدة الطفولية عن درس القرآن ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران إن تصفحت محاسنه الدنيوية عد ملكا مهذبا وإن تأملت مناقبه الدينية حسب ملكا مقربا وكم له من منقبة تستنقص الغيوث وشجاعة تستجبن الليوث ومهابة ترد أحاديثها الجيوش على الأعقاب وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره وإذا استطالت الحوادث قصر طولها فأعجب تقريره فالدولة العلوية من ذبه في الحرم الآمن والخلافة العاضدية من ملاحظاته في تدبير يجمع أشتات الميامن فاجتماع المآثر قد وحده بشهادة الإجماع وتوالي المحامد قد أفرده بما شاع منه في الممالك وذاع تتحاسد عليه غر الأخلاق وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق فلا توجد خلة فضل بارع إلا وقد جمعها ولا مكنة جبر قارع إلا وهو الذي مهد

محجتها ووسعها ومقاماته في الجهاد والجلاد مقامات أوضحت الحقائق للأفهام وثبتت الدقائق تثبيتا يبقى على غابر الأيام وأعزت دعوة الدولة العلوية وأيدتها ونصرت أعلامها ونشرتها وأكتنفت بالتفضيل والإحسان رجالها وأزالت بالجد والتشمير أوجالها ومحت آثار عداتها بالسيوف وألفتهم عن النكايات المجحفة بوزع المنايا والحتوف
والحروب فمرباه في مهودها ومنشاه بين أسودها ورعاتها وقف على إضرامها وإخماد وقودها فإذا توردها توردها باسما متهللا وإذا اقتحم مضايقها تصرف فيها متوقفا متمهلا لا يحفل بأهوالها ولا يرى لقارعة من عظائم قوارعها وآلها وحسبك فتكاته في طغاة الكفار وقصد أولياء الدولة بالإظهار فإن الكفار حين نهدوا للنفاق واجتلبوا أشباههم من بعيد الآفاق وتهجموا على الأعمال فجأهم بعزمة من عزماته أقامت راية الدين وجعلتهم حصيدا خامدين وأفنت منهم الصناديد واصطلمتهم ببلايا تزيد على التعديد واجتحفتهم بالقتل والأسر والتفريق ورمتهم بدواه لا يقدر بشري على دفاعها ولا يطيق ولما التجأ طاغية الكفر إلى الحيرة وركد ورام الإعتصام بعروتها واجتهد واغتر بما معه من الجمع وكثرة العدد نهد إليه في الأبطال الأنجاد ونهض نحوه ثابتا للقراع والجلاد فأزاله عن مجثمه وذعره ذعرا شرده عن معلمه ورماه بالحراك بعد السكون والتعب الذي قدر باغتراره أن مثله لا يكون وكم له فتكة في أهل العمود ذللت جماحهم واستلبت أرواحهم وأعادت ليلا بالنقع صباحهم
وعند تمادي عتاة الكفار في الإصرار وجوسهم خلال الديار ونفثهم في وجوه الأذى والإضرار وطمعهم في اجتياح أهل الأعمال والأقطار عول أمير المؤمنين في استئصالهم على عزمه واعتضد بذبه وحسمه وجعل إليه التدبير

بالقاهرة المحروسة التي هي عمدة الإيمان والإسلام ودار هجرة الإمام ومعقل الخلافة منذ غابر الأيام وأطلق يده في رب جميع الأعمال وتأمينها من بوائق الأوجال فبث بالحضرة وبالأعمال من مهابته ما شرد الأوغار وسهل الأمصار ومحق الضلال وأذاقهم النكال فعم السكون والأمنة واستولت على الأعمال السياسة المستحسنة فحادت بنضرة الأيام وصلاح الوجود واغتبطوا من تدبيره بصعود الجدود ورتعوا من عنايته في عيش يضاهي عيش جنان الخلود فالبلاغات بأسرها لا تقوم بمدح ما أوتي من الفضائل ولا يوازي مجموعها منقبة من مناقبه التي أربى بها على الملوك الأواخر والأوائل والخصائص الملوكية بجملتها فيه جبلة وفطرة وإذا قيست نادرة من نوادر فضله بما تفرق في جميع الملوك كانت فضائله بمنزلة البحر ومجموع فضائل الملوك بمنزلة القطرة وقد طرز فضائله البديعة وخلاله السامية الرفيعة من موالاة أمير المؤمنين ومناصحة دولته بما تكفل بسعادة الدنيا والآخرة ونهايات مغانم الثواب الشريفة الفاخرة فليله ونهاره مصروفان إلى المجاهدة عن دولة أمير المؤمنين التي هي دولة التوحيد والمخلص فيها معرض لكل مقام سعيد فمحاسنه ترتفع عن قدر التقريظ والمديح ولا تقابل إلا بموالاة التسبيح
ولما أحمد أمير المؤمنين أثرهما في خدمته وشكر قصدهما في دولته وكان السيد الأجل قد بلغ إربه في الخلال وحل المحل الذي لا تتعاطاه جوامح الآمال وقدره يشرف عن كل تكريم وموضعه يتميز عن كل من جسيم ومنزلته تسمو عن كل تعظيم فأوصى أمير المؤمنين السيد الأجل أن يقرر له جميع خدمه ويسبغ عليه في المستأنف أضفى نعمه فإن محله يرتفع عن محل الخدم الجليلة ويسمو عن كل تصرف يسمه في الدولة بسمة جميلة ورأى أمير المؤمنين والسيد الأجل أن يعلن بإسناد النيابة عن والده في أمور المملكة إليه ويشهر أن ذلك معول فيه عليه ليخفف عن السيد الأجل أمير الجيوش أمر أثقالها

ويتحمل عنه تكليفه بعض أحوالها ترفيها للسيد الأجل عن التعب وتخفيفا من كثرة النصب على أن علو قدره الأجل لم يخله في وقت من الأوقات من مشاركة في التدبير ولا صده عن ممازجة في مهم كبير بل ما برحت يده في جميع أحوال الدولة جائلة وجلالة منصبه تقضي بأن تكون تصريفاته لجميع الأمور شاملة وتوقيعاته ماضية في الأموال والرجال والجهات والأعمال وأمير المؤمنين والسيد الأجل يستسعدان بأداته ويتتبعان في كل السياسات ما هو موافق لإراداته لما خصه الله به من المرامي الصائبة والمقاصد التي السعادة على ما يرد منها مواظبة وجبلة عليه من المحافظة على حسن المرجع وحميد العاقبة خرج أمر أمير المؤمنين إلى السيد الأجل بالإيغاز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك فتقلد ما قلدته من النيابة عن والدك فيما إليه من أمور مملكته وأحوال دولته معتمدا على تقوى الله التي بها نجاة أهل اليقين وفوز سعداء المتقين لقول الله عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
واحمل عن السيد الأجل والدك ما يؤثر أن تحمله عنه من الأثقال وتكفل ما يكلفك إياه من الأشغال ونفذ ما يختار أن تنفذه وأنجز ما يؤثر أن تنجزه وأمض ما يشير إليك بإمضائه من أساليب التوقيعات وفنون المهمات وقم في كل من أمور نيابتك المقام الذي يرضيه ويوجبه برك ويقتضيه وقد جعلك الله ميمون النقيبة مسعود الضريبة مكمل الأدوات مؤهلا لترقي الغايات لا تكبر عن مباشرتك كبيرة ولا تشف عن رتبتك رتبة خطيرة واجر على عادة والدك في حسن السياسة والتدبير والإجمال للأولياء لكما في كل صغير من الأمور وكبير
والوصايا متسعة الفنون كثيرة الشجون ولك من مزية الكمال وفضيلة

الجلال ومساعدة الإقبال والخبرة بالجهات والأعمال وطوائف الأولياء والرجال ما يعينك على استنباط دقائقها والعمل بحقائقها وسلوك أحسن طرائقها
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك فاعمل بأحكامه وأجر أمورك على نظامه وبالغ أيها السيد الأجل أمير الجيوش في شكر نعمة الله التي ألهمت الملوك إشاعة فضلك ورتبت السعود على اكتناف عقدك وحلك ومنحتك آية كليم الله فجعلت لك وزيرا من أهلك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وعلى ذلك كتب بعض كتابهم عن العاضد لرزيك بن الصالح طلائع بن رزيك بولاية المظالم وتقدمة العسكر في وزارة أبيه وهذه نسخته
من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني بلقب الخلافة أمير المؤمنين إلى فلان بلقبه وكنيته
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فالحمد لله الغامر بالطول والفضل الآمر بالإحسان والعدل موسع سبل الصلاح لبريته ومسبب أسباب النجاح لدينه الحنيف وملته وجاعل أبرار أوليائه ذخائر معدة لنفع الخلق ومصطفي سعداء أحبائه لإعلاء منار الشرع وإقامة قسطاس الحق وميسرهم للنهوض بالأعباء التي تتكفل بعضد الدولة

العلوية وتقوم ومجتبيهم للفضل بمرضاته فيما يقضي بإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم الذي تنقاد بمشيئته الأمور وتتصرف بإرادته الدهور ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويغدو فضله على عباده جسيما و ( لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما )
والحمد لله الذي أوضح بأنبيائه سبل الهدى للأنام وأنقذ بإرشادهم من عبادة الأوثان والأصنام وأقام باجتهادهم أحكام ما شرعه من الملل والأديان وأذهب بأنوارهم ماغمر الأمم من غياهب الظلم والعدوان وقفى على آثارهم بمن لا نبوة بعد نبوته ولا حجة أقطع من حجته ولا وصلة أفضل من وصلة ذخرها لأمته ولا ذرية أقوم بحق الله في حفظ نظام الإيمان من عترته وذريته
يحمده أمير المؤمنين على أن مكن له في الأرض وذخر شفاعته لذوي الولاء في يوم النشور والعرض وأورثه خصائص من مضى من أئمة الهدى آبائه وأفرده بمعجز التأييد الذي أضاءت الآفاق بمشرق أنبائه ويشكره على أن أنجد دولته بكفيل جدد جلبابها وظهير أحكم أسبابها ونصير بلغ بها في الولي والعدو مطالبها وآرابها واستنجب له من نجله خليلا يتلوه في الفضائل البارعة وناصرا يحاول في الذب عن حوزته عزما أمضى من السيوف القاطعة وعضدا يقوم له بإرضاء الخالق والمخلوق ومسعدا لا يألو جهدا في إيصال المستحقين إلى ما جعله الله لهم من الحقوق
ويسأله أن يصلي على جده محمد سيد من بلغ عن الله رسالة وأمرا وأفضل من دعا إلى توحيد بارئه سرا وجهرا وأكمل من جاهد عن دينه حتى ظهرت بعد الدروس جدته وقهرت إثر الخضوع عزته وانتشرت في المشارق والمغارب كلمته ودعوته صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب قسيمه في الشرف والأبوة وصديقه الأكبر فيما جاء به من النبوة والمكمل بالنص على إمامته الدين وخامس الخمسة الذين سادسهم الروح

الأمين وأبي الأئمة الأبرار والهازم بمفرده كل جيش جرار وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام محجة الهدى وأنوار سبل الإيمان التي بأنوارها يستبصر ويقتدى وأدلة منهاج النجاة وكاشفي غمم الشك إذا الظلم دجاه وسلم ومجد وتابع وردد
وإن أمير المؤمنين لما اصطفاه الله له من إرث سر الإمامة المصون المكنون وحق بيانه العظيم الذي بالخشوع لجلاله أفلح المؤمنون واختاره له من نشر لواء الحق ونصره وتأكيد أحكام الإنصاف ليحظى بعائدتها كافة أهل زمنه وعصره وألبسه إياه من تاج خلافته الذي أشرق لبصائر العارفين نوره الساطع وتجلى لأفهام الموقنين برهانه الصادع ودليله القاطع وأودعه من خفايا الحكم التي عذب سلسبيلها وبلغ إلى النعيم الخالد دليلها وسبيلها وكمله لأيامه من الإقبال الذي جعلها مواسم زاهية بهجة النصر المبين وأعياد ظفر تروق بتوالي إبادة العادلين عن الطاعة الناكبين وأوقاتا سعيدة تفيد الدين وأولياءه عزا واعتلاء وتوجب للإيمان وأنصاره اقتدارا واستيلاء وتسبغ عليهم كيفما تصرفت بهم الأحوال مننا ضافية وآلاء ويسره لعلمه من الإحاطة بكل مغيب مستور وأوجبه لأغراضه في كل ما يرومه من مظاهرة المقدور ومهده لحلوله من أشمخ منازل التطهير والتقديس وشرف به شيمه من كل خلق نبوي بارع نفيس وفضله به من الكرم الذي لا تزال سحبه تجود الأمم سرفا ولا تنفك غيوثه تجد لمن مطر به علاء وشرفا ولا برح وابله يعم بالنعم الغر الجسام ولا تكف سيوبه عن إفاضة المنن التي علت وغلت فلا تسامى ولا تسام وخص به إحسانه من المثابرة على إعظام المنائح للمستوجبين والمحافظة على إجزال المواهب للمزدلفين إليه بالأعمال الصالحة المتقربين يجهد آراءه في ارتياد من تتضاعف للبرية بالإستعانة بكماله أسباب المصالح وتتأكد للأمة بالتعويل على بارع فضله أحكام النجح

والمناجح وتقوم الحجة عند الله بالاعتضاد به فيما يقضي بنفع العباد ويسهل الاعتماد على ديانته بالنصح لله في الحاضر من بريته والباد وينطق شرف خلائقه بتوفره على إحراز مغانم البر والتقوى وتعرب طرائقه عن السعي الذي لا يقف في مرضاة ربه دون بلوغ الغاية القصوى وتدل أحواله على رعاية حقوق الله سبحانه في كل ما يفعل ويقول وتوضح أخباره حسن تأتيه في مصالح الأمم لما يعجز عن استنباطه رواجح العقول ويقتدح نظره أنوارا يستضاء بها في طرق السياسات الفاضلة ويفتتح فكره أبوابا تضحى بها الخليقة إلى الخيرات الكاملة واصلة ويبعثه حسن جبلته على أن يحتقر في إعانة البرايا عظائم المشاق ويدعوه كرم سجيته إلى أن يحنو على الرعايا حنو من يتوخاهم بالرحمة والإشفاق ويقوى بإعانته المستضعف قوة تحصنه من عدوى الاهتضام ويعز بملاحظته المستذل عزة تخرجه عن صورة المقهور المستضام ويقتفي الآثار الصالحية في عدل الطباع وحسن الشيم ويتبع السنن الغياثية في الإحسان إلى جميع الأمم ويقصد في اللطف بالصغير والكبير قصدها وينتحي نواجم الباطل فيعتمد اجتثاثها وحصدها ويكون تفويض أمير المؤمنين إليه توثقا عند خالقه وباريه واحتياطا لنفسه في استناد المهمات منه إلى من لا يدانيه مدان ولا يباريه وتتيمن الدولة العلوية بمباشرته للأحوال تيمنا يؤذن لها بإدراك كل مطلب بعيد وتستسعد بحسن سيرته استسعادا يقضي للمناجح بتمكين تبدي فيه وتعيد وتختال الأيام بما اجتلته من جواهر مفاخره وتزدان الأزمان بما توشحته من مناقبه التي حقرت الملوك في أول الدهر وآخره
وقد اكتنفتك أيها الأجل عنايات الله سبحانه واشتملت عليك وتتابعت مواد

اصطفائه واجتبائه إليك وأنالتك من كل فضل بارع غايته وأظهرت فيك لكل كمال رائع آيته وجمعت لك من معجزات المحاسن ما لولا مشاهدتك لوجب استحالة جمعه ولأنكر كل متدبر صدر حديثه عن صدر صدره أو ورود سمعه ويسر لك تمام السعد والإقبال الترقي إلى ذورة العلى التي يهاب النجم أن تمر ملاحظتها منه ببال وتأنقت الحظوظ في إعظام ما خولتك من الفضائل الباهرة فبالغت وتناهت وأغرقت فيما أتحفتك به من المحاسن النادرة فشرفت بك وتباهت حتى غدا جسيم ما قدم شرحه من الثناء وذكره وعظيم ما وجب منه نشره فتضوع أرجه ونشره نغبة من بحارها الزاخرة وشذرة من عقودها الفاخرة وقليلا من كثيرها الجسيم وضئيلا من جزيلها الذي استكمل خصائص التعظيم
واستثمر فأنت الجامع لمفترق الفضائل الملكية والفارع ذرى الجلال الذي أفردتك به المواهب الملوكية والممنوح أعلى رتب السيادة السارية إليك من أكرم الأصول والملموح بارتقاء هضاب المجد التي عجز ملوك الآفاق عن الانتهاء إليها والوصول والأوحد الذي بذ العظماء فعظم خطرا وقدرا والأروع الذي انقادت له الصعاب فرحب باعا وصدرا والعالم بالأمور الذي أصبح أعلم ملوك الأرض بأحسن التدبير وأدرى والمذكي بأنوار ذكائه في عاتم النوب سراجا وهاجا والمشمر في ذات الله فلا يوجد له على غير ما أرضاه معاجا والمبتكر من غرائب السياسات ما لا تزال محاسنه على مفرق الزمن تاجا والممجد اللهج بتمجيده كل مقول ولسان والمعجز كل متعاط وإن كان بليغا بديع الإحسان والممنوح المعرق في السيادة والمملكة والمبتدع المكارم أبكارا تجل عن أن يشابهه أحد فيها أو يشركه فآيات مجدك ظاهرة باهرة وغر خلائقك في اختراع المآثر وافتراعها ماهرة وإليك إيماء السعادة وإشاراتها والدسوت باعتلائك مناكبها تسامي السماء أرجاؤها ويتحقق في البحر الأعظم

بتصدرك فيها رجاؤها فلا كمال إلا ما أصبح إليك ينسب ولا جلال إلا ما يعد من خصائصك ويحسب ولم تزل لربك خاضعا ولشرفك متواضعا وأنوار الألمعية توضح لك من طرق الأمانة ما يعجز عن إدراكه قوي التجريب وتحكم لك من أحكام السياسة ما تقصر عن أقله فطن الحكماء الشيب وتبدي لك أسرار الأزمنة المتطاولة في إقبال سنك وتلين بتلطفات صلابة الخطوب مع نضارة غصنك وما برح ذكر أخبار صولتك وحديث ما أعظمه الله من فروسيتك وشجاعتك يوفر حلوم الأبطال في الملاحم إذا أطارها الذعر فطاشت ويسكن نفوس الأنجاد في الملاحم إذا أطارها الذعر فجاشت ويحدث للجبناء جرأة وإقداما ويجعل الكهام في الحروب مذلقا حساما فخيلاء الأعوجية زهو مما ترقبه من شرف امتطائك وصليل المشرفية ترنم بمطرب قصصك وأنبائك واهتزاز السمهرية جذل بما كفلتها من إشادة علائك وضمنتها من إبادة أعدائك وليس بغريب أن تفضل الأملاك وتطأ أخامص السماك وتختال في وشي الوصف البديع وتشرق أسرة محاسنك فتخجل ضوء الصبح الصديع وقد أكرمك الله مع فضل الخليقة والفطرة وكمال الخصائص التي غدا كل منها في بديع المعجزات ندرة ببنوة مغيث الأنام ومصلح الأيام وكفيل أمير المؤمنين وكافيه ومبريء ملكه من أسقام الحوادث وشافيه السيد الأجل الملك وتتمة النعوت والدعاء الذي انتضاه الله لكشف الغمم وارتضاه لتدبير الأمم وفضله على ملوك العرب

والعجم وشمخ علاؤه فتطامن له كل علي ودان وسمت مواطيء أقدامه فتمنت منالها مواطيء التيجان وحاز بالمساعي الفضل الباهر أجمع واستولى على بواهر الحكم بالنظر الثاقب والقلب الأصمع وأفرد بكمال عز أن تدركه الآمال أو يكون لاشتطاطها فيه مطمع أو مجال وغدا النصر المبين تابعا لعذب ألويته وحسن إقباله في كل موطن كفيل بإدبار العدو وتوليته وأجاب داعي الله إذ استنصر لآل بيت النبوة واستصرخ ولبى دعاءه تلبية تسطر أخبارها على ممر الزمان وتؤرخ وأجلى شياطين الضلال وقد تبعت في زعيمها الجاحد وثنا وصدها بالعزم المرهف عما أصرت عليه من منكر الإلحاد وثنى وبدلت سطاه جبابرة الطغاة من الأوطان بعدا وسحقا وأمتعتهم فتكاته من الأعداء الوافرة إفناء وسحقا وأذاقتهم حملات جيوشه وبال أمر من عاضد باطلا وعاند حقا وجعلتهم شفار سيوفه الباترة في التنائف حصيدا ورمت بالإرغام والإضراع معاطسهم وخدودهم بعد أن عمروا شما وصيدا وقصد بمواضيها أشلاءهم ودماءهم فألجم غروبها وسقى وكشف بلوامعها عن الدولة الفاطمية من معرتهم جنحا عاتما وغسقا وكفل أمورهم فأحسن الإيالة والكفالة وأعادها إلى أفضل ما تقدم لها من القوة والفخامة والجلالة ونظر أحوالها فقوم كل معوج وعدل كل مائل وحباها ملبس جمال تقبح عند بهجته ملابس الخمائل
ولما أباد عصب العناد عطف على الإجتهاد في الجهاد فجابت جحافله متقاذف الأقطار ونالت من الفتك بالكفرة في أقصى بلادها نهاية الأوطار وانتزعت منهم الحصون واستباحت الممنع المصون حتى أصارت جلدهم المشهور فشلا وفيض إقدامهم المذكور وشلا وشمل الأمة بسيرة عرفت

بالعدل والإحسان وأحظت الخلائق بالأمن المديد الظلال وأرضتهم بالعيش الرائق الزلال وأنالتهم من المطالب ما اتسعت لإدراكه خطا الآمال وجاد ففضح الغمائم ومن على ذوي الذنوب حتى كاد يتقرب إليه بالجرائم وأقال عثرات كبرت فلولا كرم سجتيه لم يرم الإقالة من خطرها رائم وأمده الله من معجزات البلاغة والبيان وغرائب الحكم البديعة الافتنان ما يستخف الأحلام بفرط الطرب والإفتان ولم يزل منذ كان يحمي سرح الدين ويضم نشر المؤمنين ويبذل نفسه الشريفة في نصرة الدولة العلوية بذل أكمل ناصر وأفضل معين وتكبر عظائم الخطوب فيكون عزمه أعظم وأكبر وتزهى الأيام بغر محاسنه وهو لا يزهى ولا يتكبر فقد عز جانب كماله عن أن يناهضه جهد المديح وارتفع محل جلاله فلا ينال تكييفه بإشارة ولا تصريح وعظم قدر مفاخره فلم يقابل إلا بموالاة التمجيد لخالقه والتسبيح ووجب على متصفح خصائصه الموالاة في التعظيم ولزوم منهج استيداع لا يبرح عنه ولا يريم ومبالغة قوله تعالى ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )
فبلغ الله أمير المؤمنين في إطالة مدته الآمال وأبقى لمدته باستمرار نظره الحظ والجمال وفتح له المشارق والمغارب بهممه العالية وعزائمه وجعل نواجم الإلحاد حصائد شفار صوارمه فافخر أيها الرجل بأصلك وفرعك كيف شيت وأبجح بما منحت منه وأوتيت ووال شكر خالقك على ما خولت وأوليت فما فخر بمثل فخرك ملك سميدع ولا تباهى الدهر لأحد بمثل ما تباهى في حقك ولا أبدع
ولما تكامل لك أيها الأجل بلوغ هذا الفضل الجسيم وتم ما منحته من المجد الحادث والقديم جدد أمير المؤمنين لك شعار التعظيم وكمل لديك المفاخر تكميل العقد النظيم وجعل الخير في إمرته لك عيانا وأقامك للدولة

الفائزية والمملكة الصالحية برهانا وجعلك لكافة المسلمين في أقطار الأرض سلطانا وطابق بين ما خصك به من السمات السنية وبين ما مكنه لك من المراتب العلية فاتخذك لدولته ناصرا وعضدا وانتخبك للإسلام مجدا وسندا وأحيا بمرافدتك أنصار الدين وشفى بنظرك صدور المؤمنين واستخلصك لنفسه النفيسة حميما وخليلا وبلغ بك إلى الغاية القصوى إعلاء وتبجيلا وشرفك بخلع بديعة من أخص ملابس الخلافة تروق محاسنها كل النواظر وتفوق بدائعها ما دبجه زهر الروض الناضر وقلدك سيفا يؤذن بالتقليد ويبشر بالنصر الدائم المزيد تتنافس في متنه وفرنده الجواهر ويستولي ناصعها على الباطن منه والظاهر وعززها بالتشريفات التي اكتنفتها البهجة والبهاء وبلغتها في العلى إلى الغاية التي ليس بعدها انتهاء وآثر أن تبسط يدك في التدبير ويعدق بك ما هو عنده بالمحل الكبير ويجمع لك من أشتات دولته ما لم يعرف لجمع مثله في سالف الزمن نظير ويسند إلى كمالك ما يعود النفع بصلاحه على المأمور من الأنام والأمير
ففاوض أيها السيد الأجل الملك الصالح والدك أدام الله قدرته وأعلى كلمته في ذلك مفاوضة أفضت إلى وقوع الإجماع على أنك أكمل ملوك دهرك دينا وأصحهم يقينا وأشرفهم نفسا وأخلاقا وأكرمهم أصولا وأعراقا وأمثلهم طريقة وأحسنهم سيرة وأنقاهم صدرا وأطهرهم سريرة وأشفهم جوهرا وأزكاهم ضريبة وأتقاهم لله سرا وعلنا وأولاهم بأن لا يصدر عنه من الأفعال إلا جميلا حسنا وأنك أفضل من عدق أمير المؤمنين بنظره أمر الدنيا والدين وأسند إلى ملاحظته أحوال أمراء الدولة ورجالها أجمعين وفوض مصالح المسلمين منه إلى التقي الأمين وأن السيد الأجل الملك الصالح أدام الله قدرته لما أخلص محله عند أمير المؤمنين بتتابع الإشادة وتفرد باستمرار المضاعفة بإذن الله تعالى والزيادة وأستولى على الأمد الأقصى في السمو لديه والتعالي وأنخفضت عن

ثراه ذرى أشمخ المعالي كان عند أمير المؤمنين الأول في الجلال وأنت ثانيه والسابق في الفخار وأنت تاليه ودل بفضلك على فضله دلالة الصبح على النهار والنماء على الإبدار والثمر الطيب على فضيلة الأصل والنجار فتبارك مولي المنن لأوليائه وحزبه القائل في محكم كتابه ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه )
وقرر لك أمير المؤمنين استشفاف أمور المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم والنظر في اسفهسلارية العساكر المؤيدة المنصورة إيثارا من أمير المؤمنين لأن يجعل لك خير الدنيا والآخرة ميسرا ويثبت لك في كل من أمور العاجلة والآجلة حديثا حسنا وأثرا ورتب ذلك لك ترتيبا يصحبه التوفيق ويلزمه
ويكمله السعد ويتممه ويحيط به اليمن والنجاح ويشتمل عليه الحظ والفلاح
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين شاكرا لأنعمه متمسكا بأسباب ولائه وعصمه جاريا على أحسن عاداتك في مراقبة الله وخيفته مستمرا على أفضل حالاتك في خشيته متبعا أوامره في العمل بتقواه وزاجرا للنفس عما تؤثره وتهواه يقول الله في كتابه المبين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين )
واعلم أن المظالم كنز من كنوز الرحمة وباب يتوصل منه إلى مصلحة الأمة ووسيلة يتوسل بها السعداء إلى خالقهم في استبقاء ما أسبغ عليهم من النعمة فاجلس لها جلوسا عاما ترفع فيه الحجاب وتيسر للوصول إليك عنده الأسباب وتأمر بتقريب المتظلمين وتوعز بإدنائهم لتسمع كلام الشاكين وتوفر على الأخذ بيد المستضعف القريع والحرمة التي لا تجد سبيلا للإنصاف ولا تستطيع وتتقدم بأن تحضر بين يديك النائب في الحكم العزيز الذي على فتياه

مدار أحكام الدين ومن تحتاجه من الموقعين والدواوين وتأمر بإحضار القصص وعرضها وتتأمل دعاوي المتظلمين في إبرامها ونقضها وتوقع على كل منها بما يقتضيه الشرع وأحكامه ويوجبه العدل ونظامه
وانظر في مشكل القصص نظرا يزيل إشكالها ويجعل إلى لوازم الشرع والحق مآلها وراع أمر المنازعات حتى تنتهي إلى الأواخر ولا يبقى فيها تأمل لمتأمل ولا نظر لناظر وتخرج أوامرك بإيصال كل ذي حق إلى حقه وكف كل متعد عن سلوك سبيل العدوان وطرقه وليكن الضعيف أقوى الأقوياء عندك إلى أن يصل إلى حقه موفرا والقوي أضعف الضعفاء حتى يخرج مما عليه طائعا أو مجبرا والشرع والعدل فهما قسطاسا الله في أرضه ومعينا على الحق من أراد العمل بواجب الحق وفرضه فخذ بهما وأعط بين العباد وأثبت أحكامهما فيما قرب وبعد من البلاد وساو بهما في الحقوق بين الأنام وصرف النصفة بحكمهما بين الخواص والعوام حتى ينتصف المشروف من الشريف والضعيف من ذي القوة العنيف والمغمور من الشهير والمأمور من الأمير والصغير من الكبير واستكثر بإغاثة عباد الله ذخائر الرضوان واستفتح بقيامك بحقوق الله فيهم أبواب الجنان واعمم بسعيد نظرك وتام تفقدك وملاحظاتك جميع صدور أولياء الدولة وكبرائها ومقدميها المطوقين وأمرائها وميز بها الأعيان ورجالها الظاهرة نجدتهم للعيان وتوخ الوجوه منهم بالإجلال والإكبار وتبليغ الأغراض والأوطار والتمييز الذي يحفظ نظام رتبهم وينيلهم من حراسة المنازل غاية أربهم والقهم مستبشرا كعادتك الحسنى واجر معهم في كرم الأخلاق على مذهبك الأسنى وعرفهم بإقبالك على مصالح أمورهم واتجاهك لصالح شؤونهم بركة اشتمالهم بفضلك والتحافهم بظلك واقصد من يليهم بما يبسط

آمالهم ويوسع في التكرمة مجالهم ويكسبهم عزة الإدناء والتقريب ويخصهم من إحفائك بأوفر سهم ونصيب وكافة الرجال فاحفظ نظامهم بحسن التدبير وأثر فيهم بجميل النظر أحسن التأثير وتوخهم بما يشد باهتمامك أزرهم ويصلح بتفقدك أمرهم ويقف على الطاعة سرهم وجهرهم وييسر لهم أسباب المصالح ويسهلها ويتمم لمطالبهم أحكام الميامن ويكملها وأصف لجميع ذكرهم من سابق في التقدمة وتال ومخلص في المشايعة وموال مناهل إحسان أمير المؤمنين الطامية الحمام المتعرضة مواردها العذبة لأدواء كافة الأنام فهم أنصار الدولة وأعوانها وأبناء الدعوة وخلصاؤها وشجعان المملكة وفرسانها ونجدة خلاصها عند أعتراض الكروب وسيوفها المذربة القاطعة الغروب وأسنتها المتوغلة من الأعداء في سويداء القلوب وحزبها الذي أذن الله بأنه الغالب غير المغلوب ولكل منهم منزله من التقديم وموضعه من الاشتمال بظل الطول العميم ومحله من الغناء ومكانه من الكفاية الذي بلغ إليه فسده
فرتب كلا من المقدمين في الموضع الجدير به اللائق وأوضح للموفقين أنوار مراشدك ليلحق بتهذيبك السكيت منهم بالسابق
والوصايا متسعة النطاق متشعبة الاشتقاق ولم يستوعب لك أمير المؤمنين أقسامها ولا حاول إتمامها للاستغناء بما لك من المعرفة التي غدت في استنباط حكم السياسات أكبر معين والفطرة النفيسة التي تمدك من كل فضيلة بأغزر معين ولا يزال يضيء لبصيرتك من أنوار السيد الأجل الملك الصالح أدام الله قدرته التي لا تبرح للبصائر لامعة ولمحاسن الأفعال وغررها جامعة ما تستعين بأضوائها على الغرض المطلوب من الإصابة وأكثر

هذا عهد أمير المؤمنين إليك وإنعامه عليك فتلقه من الشكر بما يكون للمزيد سببا مؤكدا ويغدو الإحسان معه مرددا مجددا وابذل جهدك فيما أرضى الله وأرضى إمام العصر وثابر على الأعمال التي تناسب فضائلك المتجاوزة حد الحصر والله يعضدك بالتوفيق ويمهد لك إلى السعادة أسهل طريق ويرهف في الحرب عزائمك ويمضي في الأعداء صوارمك ويضاعف لك مواد النصر والتأييد ويخص بناء مجدك بالإعلاء والتشييد إن شاء الله
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
قلت والذي يظهر أن مما كان يكتب في دولتهم على هذه الطريق سجلات كبار نياباتهم حال استفحال الدولة في مبادىء أمرها قبل خروج البلاد الشاسعة عنها واستقلاعها من أيديهم كدمشق ومضافاتها من البلاد الشامية قبل خروجها عنهم لبني أرتق في زمن المستنصر أحد خلفائهم وكأفريقية وما معها من بلاد الغرب قبل تغلب المعز بن باديس نائب المستنصر المتقدم ذكره بها وقطع الخطبة له وكجزيرة صقلية من جزائر البحر الرومي قبل تغلب رجار أحد ملوك الفرنج عليها وانتزاعها من أيديهم في زمن المستنصر المذكور أيضا فإن دمشق وأفريقية وصقلية كانت من أعظم نياباتهم وأجل ولاياتهم فلا يبعد أن تكون في كتابة السجلات عندهم من هذه الطبقة

المرتبة الثانية
من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن يفتتح السجل بالتصدير فيقال من عبد الله ووليه إلى آخر التصلية ثم يؤتى بالتحميد مرة واحدة ويؤتى في الباقي بنسبة ما تقدم إلا أنه يكون أخصر مما يؤتى به مع التحميدات الثلاث
ثم هي إما لأرباب السيوف أو لأرباب الأقلام من أرباب الوظائف الدينية والوظائف الديوانية
فأما السجلات المكتتبة لأرباب السيوف فمن ذلك نسخة سجل بولاية

القاهرة من هذه الرتبة لرفعة قدر متوليها حينئذ وهي
من عبد الله ووليه إلى آخره
أما بعد فالحمد لله رافع الدرجات ومعليها ومولي الآلاء ومواليها ومحسن الجزاء لمن أحسن عملا ومضاعف الحباء للذين لا يبغون عن طاعته حولا ومنيل أفضل المواهب ومخولها ومتمم النعمة على القائم بشكرها ومكملها متبع المنن السالفة بنظائرها وأشكالها والمجازي على الحسنة بعشر أمثالها وصلى الله على جدنا محمد رسوله الذي أقام عماد الدين الحنيف ورفعه وخفض بجهاده منار الإلحاد ووضعه وأرغم عبدة الصليب والأوثان ونشر في أقطار المملكة كلمة الإسلام والإيمان وكشف غياهب الضلال بأنوار الهدى اللامعة وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيف الحق الماضي المضارب وبحر العلم الطامي اللجج والعوارب ومعين الحكمة العذب المشارع والمخصوص بكل شرف باسق وفضل بارع وعلى آلهما سادة الأنام وحماة سرح الإسلام وموضحي حقائق الدين وقاهري أحزاب الملحدين وسلم ومجد وضاعف وجدد
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله من شرف المحتد والنجار وتوجه به من تيجان الإمامة المشرقة الأنوار وألقاه إليه من مقاليد الإبرام والنقض وأناله إياه من الخلافة في الأرض والشفاعة في يوم العرض وعدقه به من إيضاح سبل الهدى اللامعة وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة إلى الأنام وأطلعه عليه من أسرار الحكمة بمناجاة الإلهام وأقامه له من إعلاء منار الملة وتقويم عماد الحق وأمد به آراءه من العنايات الربانية فيما جل ودق

وأمضاه له في الأقطار من الأوامر والنواهي وأفرده به من الخصائص الشريفة التي يقصر عن تعديدها إسهاب الواصف المتناهي ويسره لإرادته من اقتياد كل أبي جامح وحببه إليه من استعمال السيرة المستدنية من المصالح كل بعيد نازح يضاعف بهاء أيامه باصطفاء ذوي الصفاء ويزيد في بهجة زمانه باستكفاء أولي الوفاء ورفع منازل المعرقين في الولاء إلى غايات السناء وينيل المخلصين من الحباء ما يدل على مواضعهم الخطيرة من الاجتباء ويسند معالي الأمور إلى الأعيان الصدور ويعدق الولايات الخطيرة بمن حسنت منه الآثار والسيرة وأظهر تغاير الأمور ما هو عليه من خلوص النية ونقاء السريرة واستولى على جوامع الفضل وغاياته وقصرت همم الأكفاء عن مماثلته في الغناء ومساواته وألقت إليه المناقب قياد المستسلم المسلم وأعجز تعديد محاسنه البارعة كل ناطق ومتكلم وسمت همته إلى اكتساب الفخار واستكمل فنون المحامد فحصلت لديه حصول الإقتناء والادخار وفاز من كل مأثرة بالنصيب الوافر المعلى وتشوفت إليه الرتب السنية تشوف من رأته لها دون الأكفاء أهلا وكفى المهمات بجنان ثابت وصدر واسع وقربت عليه أفعاله المرضية من الميامن كل بعيد شاسع ووسم جلائل التصرفات بما خلفه بها من مستحسن الآثار وخلصت مشايعته من الأكدار فحل في أميز محل من الإيثار وجارى المبرزين من أرباب الرياسات فسبق وأبر وأحرز جميل رأي ولي نعمته فيما ساء وسر
ولما كنت أيها الأمير المعني بهذا الوصف الرفيع المخصوص من مفاخره بكل رائع بديع الحال من الاصطفاء في أقرب محل وأدناه المرتقي من الرياسة أشمخ مكان وأسناه الأوحد في كل فضيلة ومنقبة الكامل الذي أوجب له الكمال صعود الجد وسمو المرتبة المصلح ما يرد إلى نظره بالتدبير الفائق الشامل ما يعدق به بحزمه الذي لا تخشى معه البوائق المجمع على شكر خصائصه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39