كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

والفتاح والنافع والنفاع والواهب والوهاب فالفاتح يشعر بإحداث سبب الخير والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء
الباب السادس
في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية
واعلم أن القرآن مملوء منه وطريق الضبط فيه أن يقال ذلك السلب إما أن يكون عائدا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأفعال أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا كقولنا إنه ليس جوهرا ولا جسما ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالا ولا محلا واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية ومن جملتها قوله تعالى والله الغني وأنتم الفقراء محمد 38 وقوله وربك الغني ذو الرحمة الأنعام 133 لأن كونه غنيا أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره ومنه أيضا قوله لم يلد ولم يولد الإخلاص 3 وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام أحدها نفي النوم قال تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم البقرة 255 وثانيها نفي النسيان قال تعالى وما كان ربك نسيا مريم 64 وثالثها نفي الجهل قال تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سبأ 3 ورابعها أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شان وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام أحدها أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى وما مسنا من لغوب ق 38 وثانيها أن لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون النحل 40 وثالثها أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل قال تعالى وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب النحل 77 ورابعها نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر قال تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء آل عمران 181 واما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله وهو يطعم ولا يطعم الأنعام 14 وهو يجير ولا يجار عليه المؤمنون 88 وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة - وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد فالقرآن مملوء منه وأما السلوب العائدة إلى الأفعال وهو أنه لا يفعل كذا وكذا - فالقرآن مملوء منه أحدها أنه لا يخلق الباطل قال تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ص 27 وقال تعالى حكاية عن المؤمنين ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا آل عمران 191 وثانيها أنه لا يخلق اللعب قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق وثالثها لا يخلق العبث قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الملك الحق المؤمنون 115 ورابعها أنه لا يرضى بالكفر قال تعالى

ولا يرضى لعباده الكفر الزمر 7 وخامسها أنه لا يريد الظلم قال تعالى وما الله يريد ظلما للعباد غافر 31 وسادسها أنه لا يحب الفساد قال تعالى والله لا يحب الفساد البقرة 205 وسابعها أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم قال تعالى ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم النساء 147 وثامنها أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الإسراء 7 وتاسعها أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه قال تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون الأنبياء 23 وقال تعالى فعال لما يريد هود 107 وعاشرها أنه لا يخلف وعده ووعيده قال تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ق 29 إذا عرفت هذا الأصل فنقول أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية فيحصل من هذا الجنس أيضا أقسام غير متناهية من الأسماء إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب فمنها القدوس والسلام ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص فالقدوس سلب عائد إلى الذات والسلام سلب عائد إلى الصفات وثانيها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير وثالثها الغفار وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين ورابعها الحليم وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة وخامسها الواحد ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش سادسها الغني ومعناه كونه منزها عن الحاجات والضرورات وسابعها الصبور والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه وقس عليه البواقي والله الهادي
الباب السابع
في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية وفيه فصول
الفصل الأول
في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة
والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة الأول القادر قال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم الأنعام 65 وقال في أول سورة القيامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه القيامة 3 وقال في آخر السورة أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى القيامة 40 الثاني القدير قال تعالى تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الملك 1 وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادرا الثالث المقتدر قال تعالى وكان الله على كل شيء مقتدرا الكهف 45 وقال في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 الرابع عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى فقدرنا فنعم القادرون المرسلات 23 واعلم أن لفظ الملك يفيد القدرة أيضا بشرط خاص ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة فالأول المالك قال الله تعالى مالك يوم الدين الفاتحة 3 الثاني الملك قال تعالى فتعالى الله الملك الحق المؤمنون 116 وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس الحشر 23 وقال ملك الناس الناس 2 واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك والسبب فيه أن الملك أعلى شأنا من المالك الثالث مالك الملك قال تعالى قل اللهم مالك الملك الناس 2 الرابع المليك قال تعالى عند مليك مقتدر القمر 55 الخامس لفظ الملك قال تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 وقال تعالى له ملك السماوات والأرض الحديد 2 واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة الأول القوي قال تعالى إن الله لقوي عزيز الحج 74 الثاني ذو القوة قال تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين الذاريات 58
الفصل الثاني
في الأسماء الحاصلة بسبب العلم وفيه ألفاظ الأول العلم وما يشتق منه وفيه وجوه الأول إثبات العلم لله تعالى قال تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه البقرة 255 وقال تعالى ولا تضع إلا بعلمه فاطر 11 وقال تعالى قد أحاط بكل شيء علما الطلاق 12 وقال تعالى إن الله عنده علم الساعة لقمان 34 الاسم الثاني العالم قال تعالى عالم الغيب والشهادة الرعد 9 الثالث العليم وهو كثير في القرآن الرابع العلام قال تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام - إنك أنت علام الغيوب المائدة 116 الخامس الأعلم قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الأنعام 124 السادس صيغة الماضي قال تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم البقرة 187 السابع صيغة المستقبل قال تعالى وما تفعلوا من خير يعلمه الله البقرة 197 وقال والله يعلم ما تسرون وما تعلنون النحل 19 الثامن لفظ علم من باب التفعيل قال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها البقرة 31 وقال في حق الملائكة سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا البقرة 32 وقال وعلمك ما لم تكن تعلم النساء 113 وقال الرحمن علم القرآن الرحمن 2 واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة التاسع لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء وذلك في حق الله تعالى محال اللفظ الثاني من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة وهو كالمرادف للعلم حتى قال بعضهم في حد العلم إنه الخبر إذا عرفت هذا فنقول ورد لفظ الخبير في حق الله تعالى في حد العلم أنه الخبر إذا عرفت هذا فنقول ورد لفظ الخبير في حق الله تعالى كثيرا في القرآن وذلك أيضا يدل على العلم النوع الثالث من الألفاظ الشهود والمشاهدة ومنه الشهيد في حق الله تعالى إذا فسرناه بكونه مشاهدا لها عالما بها أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام النوع الرابع الحكمة وهذه اللفظة قد يراد بها العلم وقد يراد بها أيضا ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي

صفحة فارغة

النوع الخامس اللطيف وقد يراد به العلم بالدقائق وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة
الفصل الثالث
في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام وما يجري مجراه
اللفظ الأول الكلام وفيه وجوه الأول لفظ الكلام قال تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله التوبة 6 الثاني صيغة الماضي من هذا اللفظ قال تعالى وكلم الله موسى تكليما النساء 164 وقال ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمة ربه الأعراف 143 الثالث صيغة المستقبل قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الشورى 51 اللفظ الثاني القول وفيه وجوه الأول صيغة الماضي قال تعالى وإذ قال ربك للملائكة البقرة 30 ونظائره كثيرة في القرآن الثاني صيغة المستقبل قال تعالى إنه يقول إنها بقرة البقرة 68 الثالث القيل والقول قال تعالى ومن أصدق من الله قيلا النساء 122 وقال تعالى ما يبدل القول لدي ق 29 اللفظ الثالث الأمر قال تعالى لله الأمر من قبل ومن بعد الروم 4 وقال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 وقال حكاية عن موسى عليه السلام إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة البقرة 67 اللفظ الرابع الوعد قال تعالى وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن التوبة 111 وقال تعالى وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده يونس 4 اللفظ الخامس الوحي قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الشورى 51 وقال فأوحى إلى عبده ما أوحى النجم 10 اللفظ السادس كونه تعالى شاكرا لعباده قال تعالى فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء 19 وكان الله شاكرا عليما النساء 147
الفصل الرابع
في الإرادة وما يقرب منها
فاللفظ الأول الإرادة قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة 185 اللفظ الثاني الرضا قال تعالى وإن تشكروا يرضه لكم الزمر 7 وقال ولا يرضى لعباده الكفر الزمر 7 وقال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة الفتح 18 وقال في صفة السابقين الأولين رضي الله عنهم ورضوا عنه المجادلة 22 وقال حكاية عن موسى وعجلت إليك رب لترضى طه 84

اللفظ الثالث المحبة قال يحبهم ويحبونه المائدة 54 وقال ويحب المتطهرين البقرة 222 اللفظ الرابع الكراهة قال تعالى كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها الإسراء 38 وقال ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم التوبة 46 قالت الأشعرية الكراهة عبارة عن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة بل هي صفة أخرى سوى الإرادة والله أعلم
الفصل الخامس
في السمع والبصر
قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى 11 وقال تعالى لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير الإسراء 1 وقال تعالى إنني معكما أسمع وأرى طه 46 وقال لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر مريم 42 وقال تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار الأنعام 103
الفصل السادس
في الصفات الإضافية مع السلبية
اعلم أن الأول هو الذي يكون سابقا على غيره ولا يسبقه غيره فكونه سابقا على غيره إضافة وقولنا إنه لا يسبقه غيره فهو سلب فلفظ الأول يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب والآخر هو الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعده غيره والحال فيه كما تقدم أما لفظ الظاهر فهو إضافة محضة لأن معناه كونه ظاهرا بحسب الدلائل وأما لفظ الباطن فهو سلب محض لأن معناه كونه خفيا بحسب الماهية ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب القيوم لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين أحدهما أن لا يكون محتاجا إلى شيء سواه البتة وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته والثاني أن يكون كل ما سواه محتاجا إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه فالأول سلب والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم
الفصل السابع
في الأسماء الدالة على الذات والصفات الحقيقية
والإضافية والسلبية
فمنها قولنا الإله وهذا الاسم يفيد الكل لأنه يدل على كونه موجودا وعلى كيفيات ذلك الوجود أعني كونه أزليا أبديا واجب الوجود لذاته وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام وهل يجوز ذلك في دين الإسلام المشهور أنه لا يجوز وقال

بعضهم إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار يا إله الآلهة وهو بعيد وأما قولنا الله فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات فنقول لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائما مقام تلك الإشارة ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات فإن قالوا الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية والإشارة العقلية قد تتناول السلوب
الفصل الثامن
في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي
من أسماء الذات أو من أسماء الصفات
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه وذلك لأن أهل التشبيه يقولون الموجود إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون حالا في ا لمتحيز أما الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز - فكان خارجا عن القسمين - فذاك محض العدم وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون أما المتحيز فهو منقسم وكل منقسم فهو محتاج فكل متحيز هو محتاج فما لا يكون محتاجا امتنع أن يكون متحيزا وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز إذا عرفت هذا الأصل فنقول ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان فمنها العظيم وذلك لأن أهل التشبيه قالوا معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش ومنها الكبير وما يشتق منه وهو لفظ الأكبر ولفظ الكبرياء ولفظ المتكبر واعلم أني ما رأيت أحدا من المحققين بين الفرق بينهما إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه الأول أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فجعل الكبرياء قائما مقام الرداء والعظمة قائمة مقام الإزار ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالا من صفة العظمة والثاني أن الشريعة فرقت بين الحالين فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمة الصلاة الله أكبر ولم يقل أحد الله أعظم ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة الثالث أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى فقال ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم البقرة 255 وقال في آية أخرى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سبأ 32 إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول - ومن الله الإرشاد

والتعليم - يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيرا سواء استكبره غيره أم لا وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من العلو فمنها قوله تعالى ( العلي ) البقرة 255 ومنها قوله سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 ومنها المتعالي ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الإطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم تعالى لقوله تعالى في أول سورة النحل سبحانه وتعالى عما يشركون النحل 1 إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا معنى علوه وتعاليه كونه موجودا في جهة فوق ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش ومنهم من قال إنه مباين للعرش ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين للعرش ببعد غير متناه وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار فأحدها أنه عظيم بحسب مدة الوجود وذلك لأنه أزلي أبدي وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام وثانيها أنه عظيم في العلم والعمل وثالثها أنه عظيم في الرحمة والحكمة ورابعها أنه عظيم في كمال القدرة وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزها عن صفات النقائص والحاجات إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزها عن كل ما لا يليق بالإلهية فهذا تمام البحث في هذا الباب
الفصل التاسع
في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة
اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة أنا وأنت وهو وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا أنا لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه وأوسط هذه الأقسام قولنا أنت لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضرا فلأجل كونه خطابا للغير يكون دون قوله أنا ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضرا يكون أعلى من قوله هو فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله أنا وأوسطها أنت وأدناها هو وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ أما لفظ أنا فقال في أول سورة النحل أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا النحل 2 وفي سورة طه إنني أنا الله لا إله إلا أنا طه 14 وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت الأنبياء 87 وأما لفظ هو فقد جاء كثيرا في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة 163 وآخرها في سورة المزمل وهو قوله رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا المزمل 9 وأما ورود هذه الكلمة مقرونا باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل يونس 90 ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول أما قوله لا إله إلا أنا فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل وذلك لا يليق إلا بالله - سبحانه - واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله أنا وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به لا سيما في حق الحق تعالى فثبت أن قوله لا إله إلا أنا لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى وأما الدرجة الثانية وهي قوله لا إله إلا أنت فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضرا لا غائبا لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائبا عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة وأما الدرجة الثالثة وهي قوله لا إله إلا هو فهذا يصح من الغائبين واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب وبالعكس وعن هذا قال الشاعر أيا غائبا حاضرا في الفؤاد
سلام على الغائب الحاضر
ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين قل لا إله إلا الله فقال كل بيت أنت حاضره
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم تأتي الناس بالحجج
واعلم أن لفظ هو فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه وبعضها لا يمكن قال مصنف الكتاب وأنا بتوفيق الله كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة هو أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه ولا ينتهي الشرح إليه فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول فيه أسرار الأول أن الرجل إذا قال يا هو فكأنه يقول من أنا حتى أعرفك ومن أنا حتى أكون مخاطبا لك وما للتراب ورب الأرباب وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات فلهذا السبب خاطبه العبد بخطاب الغائبين فقال يا هو والفائدة الثانية أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضا دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم لأن القائل إذا قال يا هو فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا هو صالحا لهما جميعا فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله هو فلما قال يا هو فقد حكم على

صفحة فارغة

كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف كما قال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله يا هو والفائدة الثالثة أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة الله تعالى لأنه إذا قال يا رحمن فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالبا للحصة وكذلك إذا قال يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا فتاح وإذا قال يا ملك فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها وقس عليه سائر الأسماء أما إذا قال يا هو فإنه يعرف أنه هو وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل والفائدة الرابعة أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق إما صفات الجلال وإما صفات الإكرام أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل وهذا فيه دقيقة لأن من خاطب السلطان فقال أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب ويقال إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقا للمخلوقات مرتبا لها على النظم الأكمل وهذا أيضا فيه دقيقة من وجهين الأول لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقا لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالي بطريق في غاية الخسة والدناءة وذلك سوء أدب والثاني أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات إلا أن ههنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتنبه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول يا هو كأن العبد يقول أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي ولا أخاطبك أيضا بلفظة أنت لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ولكني لا أزيد على قولي هو ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته بذاته ويكون إقرارا بأن حضرته أعلى

وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار الفائدة الخامسة في هذا الذكر أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل فثبت أن لفظ هو يفيد الشوق إلى الله تعالى وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والابتهاج والسرور وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة هو تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات الفائدة السادسة في شرح جلالة هذا الذكر واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين المقدمة الأولى أن العلم على قسمين تصور وتصديق أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم البتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة ثم إن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول التصور مقام التوحيد وأما التصديق فإنه مقام التكثير المقدمة الثانية أن التصور على قسمين تصور يتمكن العقل من التصرف فيه وتصور لا يمكنه التصرف فيه أما القسم الأول فهو تصور الماهيات المركبة فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب وهذا التصرف عمل وفكر وتصرف من بعض الوجوه وأما القسم الثاني فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملا يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضا أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وإذا عرفت هذا فنقول قولنا في الحق سبحانه وتعالى يا هو هذا تصور محض خال عن التصديق ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن

جميع جهات التركيب والكثرة فكان قولنا يا هو نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وهو أعظم المقامات الفائدة السابعة أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بالأجزاء الداخلة فيه أو بالأمور الخارجة عنه أما القسم الأول - وهو تعريفه بنفسه - فهو محال لأن المعرف سابق على المعرف فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به وذلك محال وأما القسم الثاني - وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه - فهذا في حق الحق محال لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة وذلك في حق الحق محال وأما القسم الثالث - وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه - فهذا أيضا باطل محال لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئا من أحوال القديم الواجب لذاته لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة الفائدة الثامنة أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطة فيصير غافلا عن كل ما سواه حتى إنه ربما كان جائعا فينسى جوعه وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره فكذلك العبد إذا قال يا هو وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة وعلى فكره الغفله فيصير غائبا عن كل ما سوى تلك الهوية معزولا عن الألتفات إلى شيء سواها وحينئذ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله هو وبلسانه هو فإذا قال العبد هو وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها الفائدة التاسعة من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي أنه قال
من جعل همومه هما واحدا كفاه الله هموم الدنيا والآخرة فكأن العبد يقول همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية ورحمة غير متناهية وحكمة غير متناهية فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى فأنا أجعل همي مشغولا بذكره فقط ولساني مشغولا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة الفائدة العاشرة أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولا عن غيره فكأن العبد يقول كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره فإذا كان هذا لازما فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولا بمعرفة أشرف

المعلومات وأجعل لساني مشغولا بذكر أشرف المذكورات فلهذا السبب أواظب على قوله يا هو الفائدة الحادية عشرة أن الذكر أشرف المقامات قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإذا ثبت هذا فنقول أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين إذا عرفت هذه المقدمة فنقول العبد فقير محتاج والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولا على السؤال فإذا قال الفقير للغني يا كريم كان معناه أكرم وإذ قال له يا نفاع كان معناه طلب النفع وإذا قال يا رحمن كان معناه ارحم فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا عن السؤال والطلب أما إذا قال يا هو كان معناه خاليا عن الإشعار بالسؤال والطلب فوجب أن يكون قولنا هو أعظم الأذكار ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب يا هو يا من لا هو إلا هو يا من لا إله إلا هو يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهار يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان أما القرآن فإنه تعالى قال ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو القصص 88 ثم قال بعده كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 معناه إلا هو فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة وأما البرهان فهو أن من الناس من قال إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها فقلت فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل وإن كانت مفهوما مغايرا فذلك المفهوم المغاير لا بد وأن يكون له ماهية وحينئذ يعود الكلام فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر وينفي الصنع والصانع بالكلية وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت وعند هذا يظهر صدق قولنا لا هو إلا هو أي لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه فثبت أنه لا هو إلا هو والله أعلم
الباب الثامن
في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى وفيه مسائل هل أسماؤه تعالى توقيفية المسألة الأولى اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى
توقيفية أم اصطلاحية قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان واردا في القرآن والأحاديث الصحيحة وقال

آخرون كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز وإلا فلا وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه الاسم غير والصفة غير فاسمي محمد واسمك أبو بكر فهذا من باب الأسماء وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلا فقيها كذا وكذا إذا عرفت هذا الفرق فيقال أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف واحتج الأولون بأن قالوا إن العالم له أسماء كثيرة ثم إنا نصف الله تعالى بكونه عالما ولا نصفه بكونه طبيبا ولا فقيها ولا نصفه بكونه متيقنا ولا بكونه متبينا وذلك يدل على أنه لا بد من التوقيف وأجيب عنه فقيل أما الطبيب فقد ورد
نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له نحضر الطبيب قال الطبيب أمرضني وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة فلهذا السبب سمي ذلك بيانا وتبيينا ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه الأول أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها الثاني أن الله تعالى قال ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180 والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسما حسنا فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكا بهذه الآية الثالث أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثا وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب ففي حق الله أولى أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع فكذلك في حق البارىء تعالى المسألة الثانية اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى ونحن نعد منها صورا فأحدها الاستهزاء قال تعالى الله يستهزئ بهم البقرة 15 ثم أن الاستهزاء جهل والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين البقرة 67 وثانيها المكر قال تعالى ومكروا ومكر الله آل عمران 54 وثالثها الغضب قال تعالى وغضب الله عليهم الفتح 6 ورابعها التعجب قال تعالى بل عجبت ويسخرون الصافات 12 فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوبا إلى الله والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء وخامسها التكبر قال تعالى العزيز الجبار المتكبر الحشر 23 وهو صفة ذم وسادسها الحياء قال تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما البقرة 26 والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح

واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية آثار تصدر عنها في النهاية مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فأحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض وقس الباقي عليه
المسألة الثالثة
رأيت في بعض كتب التذكير أن لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة وألف في الإنجيل وألف في الزبور ويقال ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر وأقول هذا غير مستبعد فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحا بليغا بل نقول كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبها للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه وذلك أنه لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة ثم لما عرف أن كل واحد من هذه الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالا معينا ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا وذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور قال وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها فرأيت في بعض الليالي كأن ملكا نزل من السماء وقال جالينوس إن إلهك يقول لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتابا مفردا وبالغت في شرحه فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى
المسألة الرابعة
أنا نرى في كتب الطلسمات والعزائم أذكارا غير معلومة ورقي غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة وأقول لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقي إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلا لم يكن فيها فائدة وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه وإما أن تكون دالة

على شيء آخر أما الثاني فإنه لا يفيد لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب فبقي أن يقال إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء فنقول ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات لكن لقائل أن يقول إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم وتوجه إلى عالم القدس وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقي المجهولة
المسألة الخامسة
أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة والعاقل لا بد وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة وبعضها قاسية قاهرة وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس وأن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجا معينا وطريقا مبينا في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وبقوله عليه الصلاة والسلام
الأرواح جنود مجندة إذا عرفت هذا فنقول الجنسية علة الضم فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى معين فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعا وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق وإن رآه متأثرا عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وأقول هذا هو المعقول فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسبا لحالة مخصوصة فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلا هينا يسيرا وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء والله الهادي
الباب التاسع
في المباحث المتعلقة بقولنا الله وفيه مسائل لفظ الجلالة علم لا مشتق
المسألة الأولى
المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى وأنه ليس بمشتق البتة وهو قول

الخليل وسيبويه وقول أكثر الأصوليين والفقهاء ويدل عليه وجوه وحجج الحجة الأولى أنه لو كان لفظا مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقا لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين ولو كان كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله توحيدا حقا مانعا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين لأن بتقدير أن يكون الله لفظا مشتقا كان قولنا الله غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة وحينئذ لا يكون قولنا لا إله إلا الله موجبا للتوحيد المحض وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة وأنها ليست من الألفاظ المشتقة الحجة الثانية أن من أراد أن يذكر ذاتا معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات مثل أن يقول زيد الفقيه النحوي الأصولي إذا عرفت هذا فنقول إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولا لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول الله العالم القادر الحكيم ولا يعكسون هذا فلا يقولون العالم القادر الله وذلك يدل على أن قولنا الله اسم علم فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض إبراهيم 1 قلنا ههنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع وحينئذ يزول السؤال لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل فقيل عقيبه زيد ليصير هذا مزيلا لذلك الاشتباه ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية الحجة الثالثة قال تعالى هل تعلم له سميا مريم 65 وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله هل تعلم له سميا فوجب أن يكون المراد اسم العلم فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج الحجة الأولى قوله تعالى وهو الله في السموات الأنعام 3 وقوله هو الله الذي لا إله إلا هو الحشر 22 فإن قوله الله لا بد وأن يكون صفة ولا يجوز أن يكون اسم علم بدليل أنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وهو بكر ويجوز أن يقال هو العالم الزاهد في البلد وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين إن الضمير لا يقع موصوفا ولا صفة وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم الحجة الثانية أن اسم العلم قائم مقام الإشارة فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعا في حقه الحجة الثالثة أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية وإذا كان هذا في حق الله ممتنعا كان القول بإثبات الاسم العلم محالا في حقه

والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى أن يقال هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشارا إليه بالحس أم لا وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة
المسألة الثانية
الذين قالوا إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعا الفرع الأول أن الإله هو المعبود سواء عبد بحق أو بباطل ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق وعلى هذا التفسير لا يكون إلها في الأزل واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب واحد وهو الله تعالى وما سواه ممكن والممكن لا يوجب إلا بالمرجح فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله فثبت أن غاية الإنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى الفرع الثاني أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسخف ويدل عليه وجوه الأول أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود وهذا جهل عظيم الثاني أنه لو قال أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب لم تصح صلاته الثالث أن من عمل عملا لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله ومن كان كذلك لم يكن محبا لله ولم يكن راغبا في عبادة الله وكل ذلك جهل ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول وهو أن يتشرف بخدمة الله لأنه إذا شرع في الصلاة حصلت النية في القلب وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية وحصل الذكر في اللسان وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله فمقصود العبد حصول هذا الشرف الفرع الثالث من الناس من طعن في قول من يقول الإله هو المعبود من وجوه الأول أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة الثاني أنه تعالى إله الجمادات والبهائم مع أن صدور العبادة منها محال الثالث أنه تعالى إله المجانين والأطفال مع أنه لا تصدر العبادة عنها الرابع أن المعبود ليس له بكونه معبودا صفة لأنه لا معنى لكونه معبودا إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان ومعلوم بعلمه ومراد خدمته بإرادته وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى الخامس يلزم أن يقال إنه تعالى ما كان إلها في الأزل الفرع الرابع من الناس من قال الإله ليس عبارة عن المعبود بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا وهذا القول أيضا يرد عليه أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين وأن لا يكون إلها في الأزل ومنهم من قال إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة

عنه واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلها في الأزل ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلها في الأزل التفسير الثاني الإله مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته وبيانه من وجوه الأول أن الكمال محبوب لذاته وما سوى الحق فهو ناقص لذاته لأن الممكن من حيث هو هو معدوم والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته فإذا كان الكامل محبوبا لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوبا لذاته الثاني أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقف عند نفسه بل يبقى متعلقا بغيره لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28 التفسير الثالث أنه مشتق من الوله وهو ذهاب العقل واعلم أن الخلق قسمان واصلون إلى ساحل بحر معرفته ومحرومون فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار فالأولون بادوا في أودية الظلمات والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات التفسير الرابع أنه مشتق من لاه إذا ارتفع والحق سبحانه وتعالى وهو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات لأن الواجب لذاته ليس إلا هو والكامل لذاته ليس إلا هو والأحد الحق في هويته ليس إلا هو والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو وأيضا فهو تعالى مرتفع عن أن يقال إن ارتفاعه بحسب المكان لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض لأجل حصوله في ذلك المكان وما بالذات أشرف مما بالغير فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان التفسير الخامس من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه فالعبد إذا تفكر فيه تحير لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه لأن كل ما سواه فهو محتاج وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضا لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه

التفسير السادس من لاه يلوه إذا احتجب ومعنى كونه محتجبا من وجوه الأول أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول الثاني أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائله عنها فحينئذ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات فحينئذ كان يظهر أن نور الوجود منه لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالا لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره فلهذا قال بعض المحققين سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول ولا يجوز أن يقال محجوبة لأن المحجوب مقهور والمقهور يليق بالعبد أما الحق فقاهر وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب والخلق محجوبون التفسير السابع اشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ويدل عليه أمور الأول أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى فيقول بقلبه ولسانه يا رب يا رب فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة وهذا فعل متناقض لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات والثاني أن الخير والراحة مطلوب من الله والثالث أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات والخلق مشغوفون بالرجوع إليه شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس فقال الأستاذ كنت حدادا عشر سنين وقصارا عشرة أخرى وبوابا عشرة ثالثة فقالوا ما رأيناك فعلت ذلك قال فعلت ولكنكم ما رأيتم أما عرفتم أن القلب كالحديد فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف لا إله إلا الله فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر لا إله إلا الله التفسير الثامن أن اشتقاق لفظ الإله من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى وهو يجير ولا يجار عليه

المؤمنون 88 ولأنه هو المنعم لقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 ولأنه هو المطعم لقوله تعالى وهو يطعم ولا يطعم الأنعام 14 ولأنه هو الموجد لقوله تعالى قل كل من عند الله النساء 78 فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل جبار لها بالقوة والفعل والتكميل فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه وههنا لطائف وفوائد الفائدة الأولى عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه والله الكريم يقول عبادي أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ولكن لا تفروا مني بل أقول ففروا إلى الله الذاريات 50 فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم وأيضا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء وأنا أفعل ضد ذلك الفائدة الثانية قال
إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة وأقول إنه إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين الفائدة الثالثة قال
إن الله عز وجل يقول يوم القيامة للمذنبين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا رب فيقول الله تعالى ولم فيقولون رجونا عفوك وفضلك فيقول الله تعالى إني قد أوجبت لكم مغفرتي الفائدة الرابعة
قال عبد الله بن عمر قال رسول الله إن الله عز وجل ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له هل تنكر من هذا شيئا هل ظلمك الكرام الكاتبون فيقول لا يا رب فيقول الله تعالى فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب فيقول لا يا رب فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم ثم يخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول العبد يا رب كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء الفائدة الخامسة وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر وقالت ابني ابني فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فقال
أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعا من هذه المرأة بابنها فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة المسألة الثالثة في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية بل عبرانية أو سريانية فإنهم يقولون إلها رحمانا ومرحيانا فلما عرب جعل الله الرحمن الرحيم وهذا بعيد ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية والدليل عليه قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله لقمان 25 وقال تعالى هل تعلم

له سميا مريم 65 وأطبقوا على أن المراد منه لفظة الله وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث وأما المنكرون لذلك فلهم قولان قال الكوفيون أصل هذه اللفظة إلاه فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم فصار الالاه فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة فاجتمع لامان فأدغمت الأولى فقالوا الله وقال البصريون أصله لاه فألحقوا بها الألف واللام فقيل الله وأنشدوا كحلفه من أبي رباح
يسمعها لاهه الكبار
فأخرجه على الأصل
المسألة الرابعة
قال الخليل أطبق جميع الخلق على أن قولنا الله مخصوص بالله سبحانه وتعالى وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا أو ينكرونه فيقولون إله كما قال الله تعالى خبرا عن قوم موسى اجعل لنا يعرشون وجاوزنا ببنى إسرءيل البحر فأتوا على قوم تجهلون الأعراف 138
المسألة الخامسة
اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى ونحن نشير إليها ( فالخاصة الأولى ) أنك إذا حذفت الألف من قولك الله بقي الباقي على صورة لله وهو مختص به سبحانه كما في قوله ولله جنود السموات والأرض الفتح 4 ولله خزائن السموات والأرض المنافقون 7 وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة له كما في قوله تعالى له مقاليد السموات والأرض الزمر 63 وقوله له الملك وله الحمد التغابن 1 فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا هو وهو أيضا يدل عليه سبحانه كما في قوله قل هو الله أحد الإخلاص 1 وقوله هو الحي لا إله إلا هو غافر 65 والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فإنك تقول هما هم فلا تبقى الواو فيهما فهذه الخاصية موجودة في لفظ الله غير موجودة في سائر الأسماء وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضا بحسب المعنى فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة وما وصفته بالقهر وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم وما وصفته بالقدرة وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات فثبت أن قولنا الله قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء الخاصية الثانية أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم فلو أن الكافر قال أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم أو إلا الملك أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة والله الهادي إلى الصواب
الباب العاشر
في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم
اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام الذي يكون نافعا وضروريا معا والذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا والذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا والذي لا يكون نافعا ولا يكون ضروريا أما القسم الأول - وهو الذي يكون نافعا وضروريا معا - فإما أن يكون كذلك في الدنيا فقط وهو مثل النفس - فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت وإما أن يكون كذلك في الآخرة وهو معرفة الله تعالى فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد وأما القسم الثاني - وهو الذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا - فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة وأما القسم الثالث - وهو الذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا - فكالمضار التي لا بد منها في الدنيا كالأمراض والموت والفقر والهرم ولا نظير لهذا القسم في الآخرة فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار وأما القسم الرابع - وهو الذي لا يكون نافعا ولا ضروريا - فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بد منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة لكن الموت الأول أسهل من الثاني لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد وكما أن التنفس له أثران أحدهما إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته والثاني إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب كذلك الفكر له أثران أحدهما إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه والثاني إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب وما ذاك إلا بان يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمنا من الآفات واصلا إلى الخيرات والمسرات وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بان تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله وذرة من أنوار إحسانه فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحمانا رحيما فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس وبدن وروح وجسد أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون النحل 78 ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها واعلم أنه لا نهاية لها البتة ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح

صفحة فارغة

العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدرا متناهيا ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضا غير متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء 85 حق وصدق وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذ يظهر لك صدق قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 وحينئذ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك فتفهم شيئا قليلا من معنى قوله الرحمن الرحيم فإن قيل فهل لغير الله رحمة أم لا قلنا الحق أن الرحمة ليست إلا لله ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره وههنا مقامان المقام الأول في بيان أنه لا رحمة إلا لله فنقول الذي يدل عليه وجوه الأول أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضا إلا أن الأعواض أقسام منها جسمانية مثل أن يعطي دينارا ليأخذ كرباسا ومنها روحانية وهي أقسام فأحدها أنه يعطي المال لطلب الخدمة وثانيها يعطى المال لطلب الإعانة وثالثها يعطي المال لطلب الثناء الجميل ورابعها يعطي المال لطلب الثواب الجزيل وخامسها يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب وسادسها يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه وكل هذه الأقسام أعواض روحانية وبالجملة فكل من أعطى فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة ولا يكون جودا ولا هبة ولا عطية أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالا فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى الحجة الثانية أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى الحجة الثالثة أن الإنسان يمكنه الفعل والترك فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب وما ذاك إلا الله تعالى فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى الحجة الرابعة هب أن فلانا يعطي الحنطة ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى فوجب أن يقال المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى المقام الثاني في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم وبيانه من

وجوه الأول أن الإنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق الثاني أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملا تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة فكأنه تعالى يأمرك بان تكتسب لنفسك سعادة الأبد وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده ولا شك أن الحالة الأولى أفضل الثالث أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم وعبودية الله أولى من عبودية غير الله الرابع أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك فقد ينعم عليك حال ما تكون غنيا عن إنعامه وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجا إلى إنعامه وأيضا فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات فإذا ظهرت بك حاجة عرفها وإن طلبت منه شيئا قدر على تحصيله فكان ذلك أفضل الخامس الإنعام يوجب المنة وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل والله أعلم
الباب الحادي عشر
في بعض النكت المستخرجة من قولنا بسم الله الرحمن الرحيم النكتة الأولى مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه فشكا إلى الله تعالى فدله على عشب في المفازة فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه فقال يا رب أكلته أولا فانتفعت به وأكلته ثانيا فازداد مرضي فقال لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي الثانية باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ففعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان الثالثة كان بعض العارفين يرعى غنما وحضر في قطيع غنمة الذئاب وهي لا تضر أغنامه فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الذئب والغنم فقال الراعي من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى الرابعة قوله بسم الله معناه أبدأ باسم الله فأسقط منه قوله أبدأ تخفيفا فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلا على الصفح والإحسان الخامسة روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصرا وأمر أن يكتب بسم الله على بابه

الخارج فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا فقال تعالى يا موسى لعلك تريد إهلاكه أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله السادسة سمى نفسه رحمانا رحيما فكيف لا يرحم
روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا فأعطي قليلا فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له ولم تفعل قال إما أن يجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك السابعة الله إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره الثامنة كثيرا ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئا من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء فكأنه تعالى يقول إن لطاعتك عدوا وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل بسم الله الرحمن الرحيم حتى لا يطمع العدو فيها التاسعة اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين
روي عن النبي أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال اكتب فيه لا إله إلا الله فدفعه إلى النقاش وقال اكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله فكتب النقاش فيه ذلك فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي فرأى النبي فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق فقال يا أبا بكر ما هذه الزوائد فقال أبو بكر يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله وأما الباقي فما قلته وخجل أبو بكر فجاء جبريل عليه السلام وقال يا رسول الله أما اسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد عن اسم الله عز وجل وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى العاشرة
أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة قال بسم الله مجراها ومرساها هود 41 فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة
وأيضا أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة الحادية عشرة إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم الله تعالى في قوله ( إنه من سليمان ) فالجواب من وجوه الأول أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعا على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفا على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان فأخذت الكتاب وقالت إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فقوله ( إنه من سليمان ) من كلام بلقيس لا كلام سليمان الثاني لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب إنه من سليمان وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله بسم الله الرحمن الرحيم كما هو العادة في جميع

الكتب فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه فقالت إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فقالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم الثالث أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ليكون الشتم له لا لله تعالى الثانية عشرة الباء من بسم مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته مرض لبعضهم جار يهودي قال فدخلت عليه للعيادة وقلت له أسلم فقال على ماذا قلت من خوف النار قال لا أبالي بها فقلت للفوز بالجنة فقال لا أريدها قلت فماذا تريد قال على أن يريني وجهه الكريم قلت أسلم على أن تجد هذا المطلوب فقال لي اكتب بهذا خطا فكتبت له بذلك خطا فأسلم ومات من ساعته فصلينا عليه ودفناه فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له يا شمعون ما فعل بك ربك قال غفر لي وقال لي أسلمت شوقا إلي وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى
روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيدا وأراد قتله فقال زيد لم تقتلني قال لأن محمدا يحبك وأنا أبغضه فقال زيد يا رحمن أغثني فسمع المنافق صوتا يقول ويحك لا تقتله فخرج من الخربة ونظر فلم ير أحدا فرجع وأراد قتله فسمع صائحا أقرب من الأول يقول لا تقتله فنظر فلم يجد أحدا فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتا قريبا يقول لا تقتله فخرج فرأى فارسا معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله ودخل الخربة وحل وثاق زيد وقال له أما تعرفني أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عز وجل أدرك عبدي وفي الثانية كنت في السماء الدنيا وفي الثالثة بلغت إلى المنافق وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه
قال السدي أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام فأتوه فقالوا له يا نبي الله لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ولا غني لي عن فضلك قال فصب الله تعالى عليهم المطر فقال لهم سليمان عليه السلام ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم أما قوله الله فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله فإذا مت أقول الله وإذا سئلت في القبر أقول الله وإذا جئت يوم القيامة أقول الله وإذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله وإذا جزت الصراط أقول الله وإذا دخلت الجنة أقول الله وإذا رأيت الله قلت الله النكتة الثالثة عشرة الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فاطر 32 فقال أنا الله

للسابقين الرحمن للمقتصدين الرحيم للظالمين وأيضا الله هو معطي العطاء والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء ومن كمال رحمته كانه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ولو علمته المرأة لجفتك ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار وأنا أعلم كل ذمك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم الرابعة عشرة الله يوجب ولايته قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا البقرة 257 والرحمن يوجب محبته قال الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا مريم 96 والرحيم يوجب رحمته وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب 43 الخامسة عشرة قال عليه الصلاة والسلام
من رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا له تعالى كتب عند الله من الصديقين وخفف عن والديه وإن كانا مشركين
وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة
وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ وإذا غشيت أهلك فقل بسم الله فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة وإذا ركبت السفينة فقل بسم الله والحمد لله يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجابا بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجابا بينك وبين الزبانية في العقبى السادسة عشرة
كتب قيصر إلى عمر رضي الله عنه أن بي صداعا لا يسكن فابعث لي دواء فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم السابعة عشرة قال
من توضأ ولم يذكر اسم الله تعالى كان طهورا لتلك الأعضاء ومن توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهورا لجميع بدنه فإذا كان الذكر على الوضوء طهورا لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهورا للقلب عن الكفر والبدعة الثامنة عشرة طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم فقال ائتوني بالسم القاتل فأتي بطاس من السم فأخذها بيده وقال بسم الله الرحمن الرحيم وأكل الكل وقام سالما بإذن الله تعالى فقال المجوس هذا دين حق التاسعة عشرة
مر عيسى ابن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه يا عيسى كان هذا العبد عاصيا ومذ مات كان محبوسا في عذابي وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولدا وربته حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض

العشرون
سئلت عمرة الفرغانية - وكانت من كبار العارفات - ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب الحادية والعشرون قيل في قوله الرحيم هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر وحشراته والقيامة وظلماته والميزان ودرجاته وقراءة الكتاب وفزعاته والصراط ومخافاته والنار ودركاته الثانية والعشرون كتب عارف بسم الله الرحمن الرحيم وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له أي فائدة لك فيه فقال أقول يوم القيامة إلهي بعثت كتابا وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم فعاملني بعنوان كتابك الثالثة والعشرون قيل بسم الله الرحمن الرحيم تسعة عشر حرفا وفيه فائدتان إحداهما أن الزبانية تسعة عشر فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر الثانية خلق الله تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر الرابعة والعشرون لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها بسم الله الرحمن الرحيم وأيضا السنة أن يقال عند الذبح باسم الله والله أكبر ولا يقال بسم الله الرحمن الرحيم لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان والله تعالى الهادي إلى الصواب
الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء هذه السورة وفيه أبواب
الباب الأول
اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى - فالأول فاتحة الكتاب سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء والثاني سورة الحمد والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد والثالث أم القرآن والسبب فيه وجوه - الأول أن أم الشيء أصله والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر لله تعالى فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم يدل على الإلهيات وقوله مالك يوم الدين يدل على المعاد وقوله إياك نعبد وإياك نستعين يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يدل أيضا على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات

وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن السبب الثاني لهذا الاسم أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة إما الثناء على الله باللسان وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة وإما طلب المكاشفات والمشاهدات فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله ثناء على الله وقوله إياك نعبد وإياك نستعين اشتغال بالخدمة والعبودية إلا أن الابتداء وقع بقوله إياك نعبد وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية ثم قال وإياك نستعين وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله وأما قوله اهدنا الصراط المستقيم فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب أن المقصود من جميع العلوم إما معرفة عزة الربوبية أو معرفة ذلة العبودية فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة ثم من قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته السبب الرابع أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه وهو علم الفروع وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إشارة إلى علم الأصول لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته فقوله رب العالمين يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه ربا للعالمين وقوله الحمد لله إشارة إلى كونه مستحقا للحمد ولا يكون مستحقا للحمد إلا إذا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات ثم وصفه بنهاية الرحمة - وهو كونه رحمانا رحيما - ثم وصفه بكمال القدرة - وهو قوله مالك يوم الدين - حيث لا يهمل أمر المظلومين بل يستوفي حقوقهم من الظالمين وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية وهو قول إياك نعبد ثم مزجه أيضا بعلم الأصول مرة أخرى وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة أولها حصول هداية النور في القلب وهو المراد من قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وثانيها أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى وهو قوله صراط الذين أنعمت عليهم وثالثها أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات وهو قوله غير المغضوب عليهم وعن أوزار الشبهات وهو قوله ولا الضالين فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع

السبب الخامس
قال الثعلبي سمعت أبا القاسم بن حبيب قال سمعت أبا بكر القفال قال سمعت أبا بكر بن دريد يقول الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر قال قيس بن الحطيم - نصبنا أمنا حتى ابذعروا
وصاروا بعد ألفتهم سلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية والعرب تسمي الأرض أما لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ولأنه يقال أم فلان فلانا إذا قصده الاسم الرابع من أسماء هذه السورة السبع المثاني قال الله تعالى ولقد آتيناك سبعاص من المثاني وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه الأول أنها مثنى نصفها ثناء العبد للرب ونصفها عطاء الرب للعبد الثاني سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة الثالث سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الرابع سميت مثاني لأنها سبع آيات كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن الخامس آياتها سبع وأبواب النيران سبعة فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة والدليل عليه ما
روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي يا محمد كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت قال لم يا جبريل قال لأن الله تعالى قال وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر 43 وآياتها سبع فمن قراها صارت كل آية طبقا على باب من أبواب جهنم فتمر أمتك عليها منها سالمين السادس سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى السابع سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له الثامن سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى سبعا من المثاني في سورة الحجر الاسم الخامس الوافية كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم قال الثعلبي وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة الاسم السادس الكافية سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها وأما غيرها فلا يكفي عنها
روي محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها

الاسم السابع الأساس وفيه وجوه - الأول أنها أول سورة من القرآن فهي كالأساس الثاني أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه وذلك هو الأساس الثالث أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بد منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها الاسم الثامن الشفاء
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله فقال هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء وأقول الأمراض منها روحانية ومنها جسمانية والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضا فقال تعالى في قلوبهم مرض البقرة 10 وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة الاسم التاسع الصلاة قال عليه الصلاة والسلام
يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة الاسم العاشر السؤال
روي أن رسول الله حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال من شغله ذكري عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال الذي خلقني فهو يهدين الشعراء 78 إلى أن قال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين الشعراء 83 ففي هذه السورة أيضا وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله الحمد لله - إلى قوله - مالك يوم الدين ثم ذكر العبودية وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين وهو أيضا يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله اهدنا ولم يقل ارزقنا الجنة الاسم الحادي عشر سورة الشكر وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان الاسم الثاني عشر سورة الدعاء لاشتمالها على قوله اهدنا الصراط المستقيم فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء والله أعلم
الباب الثاني
في فضائل هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال الأول أنها مكية
روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ثم قال الثعلبي وعليه أكثر العلماء
وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال أول ما نزل من القرآن

الحمد لله رب العالمين وذلك أن رسول الله أسر إلى خديجة فقال لقد خشيت أن يكون خالطني شيء فقالت وما ذاك قال إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة إذا أتاك النداء فاثبت له فأتاه جبريل عليه السلام وقال له قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال قام رسول الله فقال بسم الله الرحمن الرحيم فقالت قريش دق الله فاك والقول الثاني أنها نزلت بالمدينة
روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد لأن العلماء على خلافه ويدل عليه وجهان الأول أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ومنها قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهي فاتحة الكتاب وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم الثاني أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب القول الثالث قال بعض العلماء هذه السورة نزلت بمكة مرة وبالمدينة مرة أخرى فهي مكية مدنية ولهذا السبب سماها الله بالمثاني لأنه ثنى إنزالها وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها المسألة الثانية في بيان فضلها
عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة وعن الحسين قال أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان ثم أودع علوم الفرقان في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية المسألة الثالثة قالوا هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف وهي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور قال تعالى لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا الفرقان 14 والجيم أول حروف اسم جهنم قال تعالى وإن جهنم لموعدهم أجمعين الحجر 43 وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الأعراف 179 وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه التحريم 8 وقال تعالى إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين النحل 27 وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق قال تعالى لهم فيها زفير وشهيق هود 106 وأيضا الزاي تدل على الزقوم قال تعالى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 43 والشين تدل على الشقاوة قال تعالى فأما الذين شقوا ففي النار هود 106 وأسقط الظاء لقوله انطلقوا إلى ظل ذي

ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب المرسلات 30 وأيضا يدل على لظى قال تعالى كلا إنها لظى نزاعة للشوى المعارج 15 وأسقط الفاء لأنه يدل على الفراق قال تعالى يومئذ يتفرقون الروم 14 وأيضا قال لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى طه 61 فإن قالوا لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فنقول الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر 44 والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم والله أعلم
الباب الثالث
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال الحمد لله فكأن سائلا يقول الحمد لله منبئ عن أمرين أحدهما وجود الإله والثاني كونه مستحقا للحمد فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين فأجاب عن السؤال الأول بقوله رب العالمين وأجاب عن السؤال الثاني بقوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل المسألة الأولى إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظريا والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه فكان قوله رب العالمين إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم ثم فيه لطائف اللطيفة الأولى أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله رب العالمين إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده وفي بقائه إلى إبقائه فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر كما قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الإسراء 44 اللطيفة الثانية أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين بل قال الحمد لله رب العالمين والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا فقال قوم الشيء حال بقائه يستغني عن السبب والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه فقوله رب العالمين تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه أما

افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغني عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه اللطيفة الثالثة أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه فقوله رب العالمين تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله الحمد لله فأولها سورة الأنعام وهو قوله الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور الأنعام 1 واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله رب العالمين لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق ا لسماوات والأرض والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة وثانيها سورة الكهف وهو قوله الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط وقوله في أول سورة الفاتحة رب العالمين إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة وثالثها سورة سبأ وهو قوله الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض سبأ 1 فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العالمين ورابعها قوله الحمد لله فاطر السماوات والأرض فاطر 1 والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها والخلق هو التقدير والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الحمد لله رب العالمين ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسموات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله الحمد لله رب العالمين فهذا هو التنبيه على أن قوله رب العالمين يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم

المسألة الثانية أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضا مشتملة على الدلالة على كونه متعاليا في ذاته عن المكان والحيز والجهة لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية فقوله رب العالمين يدل على كونه ربا للمكان والزمان وخالقا لهما وموجدا لهما ثم من المعلوم أن الخالق لا بد وأن يكون سابقا وجوده على وجود المخلوق ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز متعالية عن الجهة والحيز فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته وذلك محال فقوله رب العالمين يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار المسألة الثالثة هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية لأنه لما كان ربا للعالمين كان خالقا لكل ما سواه والخالق سابق على المخلوق فكانت ذاته موجودة قبل كل محل فكانت ذاته غنية عن كل محل فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبا بالذات بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع فلما حكم بكونه مستحقا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار وإنما عرفنا كونه فاعلا مختارا لأنه لو كان موجبا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ولامتنع وقوع التغير فيها وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقا للحمد المسألة الخامسة لما خلق الله العالم مطابقا لمصالح العباد موافقا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالما فثبت بما ذكرنا أن قوله الحمد لله يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزها عن الحيز والمكان ويدل على كونه منزها عن الحلول في المحل ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة وأما السؤال الثاني - وهو قوله هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء والجواب هو قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين إما أن يكون في السلامة والسعادة وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده فكان رحمانا رحيما وإن كان في المكاره والآفات فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد أو من الله فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين في يوم الدين وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بد وأن يكون مستحقا للحمد الذي لا نهاية له والثناء الذي لا غاية له فظهر

بالبيان الذي ذكرناه أن قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين مرتب ترتيبا لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية واعلم أن الإنسان مركب من جسد ومن روح والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيا بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتيا بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته وتلك الأعمال هي العبادة فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظبا على العبادات وهذه أول درجات سعادة الإنسان وهو المراد بقوله إياك نعبد فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادة والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات وهو المراد من قوله وإياك نستعين ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم وفيه لطائف اللطيفة الأولى أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه ( الأول ) أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان فهما طرفان معوجان والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل ( والثاني ) أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بان الكل بقضاء الله وأما في الأعمال فنقول من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ومن بالغ في تركها وقع في الجمود والصراط المستقيم هو الوسط وهو العفة وأيضا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ومن بالغ في تركها وقع في الجبن والصراط المستقيم هو الوسط وهو الشجاعة اللطيفة الثانية أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية اللطيفة الثالثة قال بعضهم إنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم لم يقتصر عليه بل قال صراط الذين أنعمت عليهم وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق وعقولهم غير وافيه بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات

وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 المسألة الثانية في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر والمحبوب والمكروه وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها إلا أن نقول الشر وإن كان كثيرا إلا أن الخير أكثر والمرض وإن كان كثيرا إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيرا إلا أن الشبع أكثر منه وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائما في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة إذا عرفت هذا فنقول إن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتا حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد من فاعل تولى بناء ذلك البيت ولو أن إنسانا شككنا فيه لم نتشكك فإنه لا بد وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادرا إذ لو كان موجبا بالذات لدام الأثر بدوامه فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيما محسنا فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ومن كان غالب أفعاله راحة وخيرا وكرامة وسلامة كان رحيما محسنا ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضرا في عقل كل أحد فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال ( الحمد لله ) ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول وكأنه قيل لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط بل هو إله كل العالمين وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول فهذا يقتضي كونه ربا للعالمين وإلها للسموات والأرضين ومدبرا لكل الخلائق أجمعين ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بد وأن يكون قادرا على إهلاكها ولا بد وأن يكون غنيا عنها فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال وحينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه وبأي طريق أتوسل إليه فعند هذا ذكر الله ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض فكأنه قال أيها العبد الضعيف أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين لا أضيع عملا من أعمالك فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة

ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء أولها مقام الشريعة وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة وهو قوله إياك نعبد وثانيها مقام الطريقة وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب وهو قوله وإياك نستعين وثالثها أنه يشاهد عالم الشهادة معزولا بالكلية ويكون الأمر كله لله وحينئذ يقول اهدنا الصراط المستقيم ثم إن ههنا دقيقة وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة فلهذا قال صراط الذين أنعمت عليهم ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد بين أيضا أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان فلهذا قال غير المغضوب عليهم وهم الفساق ولا الضالين وهم الكفار ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة أعني الشريعة المدلول عليها بقوله إياك نعبد والطريقة المدلول عليها بقوله وإياك نستعين والحقيقة المدلول عليها بقوله اهدنا الصراط المستقيم - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية المسألة الثالثة في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى جر الخيرات واللذات ودفع المكروهات والمخافات ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوبا بالذات وكان استقراء أحوال هذا العلم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب - صار هذا المعنى سببا لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء شديد الحب لها عظيم الميل والرغبة إليها ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضا أن حب التشبه غالب على طباع الخلق أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعة إلى الفسق وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل

والطلب في قلبه أقوى وأثبت وأيضا فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضا يوجب استحكام هذه الحالة فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدا ثم نقول إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملا شافيا وافيا فيقول هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا الأول باطل لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزا وأقلهم عقلا فعند هذا يظهر له أن تلك الإمارة والرياسة ما حصلت له بقوته وما هيئت له بسبب حكمته وإنما حصلت تلك الإمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال هو الضار وعند هذا لا يحمد أحدا على فعل إلا الله ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله فعند هذا يقول العبد الحمد لله واعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله وذلك هو قوله رب العالمين ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول الرحمن الرحيم فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحة في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال مالك يوم الدين ليس إلا الذي عرفته بأنه الرحمن الرحيم فحينئذ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله وحينئذ ينقطع التفاته عما سوى الله ولا يبقى متعلق القلب بغير الله ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولا بخدمتهما وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلا بخدمة الأمير والوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى فعند هذا يقول إياك نعبد والمعنى إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى فيقول اهدنا الصراط المستقيم ثم إن أهل الدنيا فريقان أحدهما الذين لا يعبدون أحدا إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله والفرقة الثانية الذين يخدمون الخلق ويستعينون بهم ويطلبون الخير منهم فلا جرم العبد يقول إلهي اجعلني في زمرة الفرقة

الأولى وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا والله أعلم
الباب الرابع
في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة
المسألة الأولى أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب ونزيد ههنا وجوها الأول قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر الإسراء 78 والمراد بالقرآن القراءة والتقدير أقم قراءة الفجر وظاهر الأمر للوجوب الثاني
عن أبي الدرداء أن رجلا سأل النبي فقال أفي الصلاة قراءة فقال نعم فقال السائل وجبت فأقر النبي ذلك الرجل على قوله وجبت الثالث عن ابن مسعود أن النبي سئل أيقرأ في الصلاة فقال - عليه الصلاة والسلام -
أتكون صلاة بغير قراءة وهذان الخبران نقلتهما من تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني حجة الأصم قوله - عليه الصلاة والسلام -
صلوا كما رأيتموني أصلي جعل الصلاة من الأشياء المرئية والقراءة ليست بمرئية فوجب كونها خارجة عن الصلاة والجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم المسألة الثانية قال الشافعي - رحمه الله - قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة فإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصح صلاته وبه قال الأكثرون وقال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة لنا وجوه الأول أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 ولقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره النور 63 ولقوله تعالى فاتبعوني يحببكم الله آل عمران 31 ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على الناصية فجعل ذلك القدر من المسح شرطا لصحة الصلاة وههنا نقل أهل العلم نقلا متواترا أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها وهذا من العجائب الحجة الثانية قوله تعالى أقيموا الصلاة البقرة 43 والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان

رسول الله يأتي بها وإذا كان كذلك كان قوله
أقيموا الصلاة جاريا مجرى قوله
أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول والتي أتى بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - هي الصلاة المشتملة على الفاتحة فيكون قوله أقيموا الصلاة أمرا بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلا قاطعا على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحجة الثالثة أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم ويدل عليه أيضا ما
روي في الصحيحين أن النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام -
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ولقوله - عليه الصلاة والسلام -
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرث فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الإطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والإخبار والمعقول الحجة الرابعة أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة إذا ثبت هذا فنقول إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركا سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا النساء 115 فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرأوها لا على اعتقاد الوجوب بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها فنقول أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة فمن لم يأت بالقراءة كان تاركا طريقة المؤمنين في هذا العمل فدخل تحت الوعيد وهذا القدر يكفينا في الدليل ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب الحجة الخامسة
الحديث المشهور وهو أنه - سبحانه وتعالى - قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله - تعالى - حمدني عبدي إلى آخر الحديث وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة فنقول الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة ولازم اللازم لازم فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة الحجة السادسة قوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب قالوا حرف النفي دخل على الصلاة وذلك غير ممكن فلا بد من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال والجواب من وجوه الأول أنه جاء في بعض الروايات لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها وخروجه عن عهدة التكليف بسببها وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره الثاني من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد

ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزءا من الصلاة وهذا هو أول المسألة فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره الثالث هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان أحدهما أقرب إلى الحقيقة والثاني أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب إذا ثبت هذا فنقول المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحا أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحا لكنه لا يكون كاملا فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى الوجه الرابع أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه أحدها أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان والثاني أن جانب الحرمة راجح والثالث أن هذا أحوط الحجة السابعة
عن أبي هريرة عن النبي أنه قال كل صلاة لم يقرا فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام قالوا الخداج هو النقصان وذلك لا يدل على عدم الجواز قلنا بل هذا يدل على عدم الجواز لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح قال لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة وإذا ثبت هذا فنقول فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام الحجة الثامنة نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه عن ابن المنذر أنه روى بإسناده
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والحجة التاسعة
روى رفاعة بن مالك أن رجلا دخل المسجد وصلى فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل علمني الصلاة يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب وجه الدليل أن هذا أمر والأمر للوجوب وأيضا الرجل قال علمني الصلاة فكل ما ذكره الرسول وجب أن يكون من الصلاة فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءا من أجزاء الصلاة الحجة العاشرة
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها قالوا نعم قال فما تقرأوا في صلاتكم قالوا الحمد لله رب العالمين فقال هي هي وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال ما تقرأوا في صلاتكم فقالوا الحمد لله وهذا يدل على أنه كان مشهورا عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة فكان هذا إجماعا معلوما عندهم الحجة الحادية عشرة التمسك بقوله تعالى فاقرؤوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وجه الدليل أن قوله فاقرؤا أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب والثاني يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا وهو

باطل بالإجماع والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل الحجة الثانية عشرة الأمر بالصلاة كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل الحجة الثالثة عشرة قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس ودفع الضرر عن النفس واجب فإن قالوا فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه فيبقى الخوف قلت اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضا فيتقابل هذان الضرران وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف أما تركه فيفيد الخوف فثبت أن الأحوط هو العمل الحجة الرابعة عشرة لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة الحجة الخامسة عشرة أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها والجامع رعاية الاحتياط الحجة السادسة عشرة الأصل بقاء التكليف فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة إما أن يعرف بالنص أو القياس أما الأول فباطل لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وقد بينا أنه دليلنا وأما القياس فباطل لأن التعبدات غالبة على الصلاة وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس الحجة السابعة عشرة لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعا وتركا للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام اتبعوا ولا تبتدعوا ولقوله عليه الصلاة والسلام
وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها الحجة الثامنة عشرة الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل والأول باطل بالإجماع لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة فتعين

الثاني فنقول الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحا في الشرع واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي
عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة ا لكتاب والجواب عن الأول أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا وذلك لأن قوله فاقرؤا ما تيسر من القرآن أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب والثاني يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها وهو باطل بالإجماع والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل ( 1 ) وعن الثاني أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وأيضا لم لا يجوز أن يقال المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا لأنه أحوط ولأنه أفضل والله أعلم المسألة الثالثة لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة فقال أبو حنيفة إذا قرأ آية واحدة كفت مثل قوله آلم وحم والطور ومدهامتان وقال أبو يوسف ومحمد لا بد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة وتجب قراءتها مع الفاتحة وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل ولا يقرأ لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه وإنما قال يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا قال يعلى سألت محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال ما بين الدفتين قرآن قال قلت فلم تسره قال فلم يجبني وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة وقال بعض فقهاء الحنفية تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم فالأولى السكوت عنه

واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل إحداها أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية وثانيتها أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها وثالثتها الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث المسألة الخامسة في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية قال والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق واحتج عليه بان التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنيا ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف وذلك يبطل الإسلام واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال نفي كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف وإن ثبت بالآحاد فحينئذ يصير القرآن ظنيا ثم أورد على نفسه سؤالا وهو أنه لو قال قائل ليس من القرآن عدم فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل لأن الأصل هو العدم واما قولنا إنه قرآن فهو ثبوت فلا بد فيه من النقل ثم أجاب عنه بان قال هذا وإن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل وحينئذ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواترا أو آحادا فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه فهذا آخر ما قيل في هذا الباب والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا إنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي وسقط تهويل القاضي المسألة السادسة في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة وهو قول ابن المبارك والثوري ويدل عليه وجوه - الحجة الأولى
روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت
قرأ رسول الله فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية الحمد لله رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية اهدنا الصراط المستقيم آية صراط

الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية وهذا نص صريح الحجة الثانية
روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال
فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثالثة
روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال قال رسول الله
إلا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري فقلت بلى فقال بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة قلت ببسم الله الرحمن الرحيم قال هي هي فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن الحجة الرابعة
روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي قال له كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة قال أقول الحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
وروى أيضا بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص
وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 قال فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال بسم الله الرحمن الرحيم وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي
أنه قال إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها وبإسناده أيضا
عن أبي هريرة أن النبي قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه مجدني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عز وجل أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وبإسناده
عن أبي هريرة قال كنت مع رسول الله في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال الحمد لله رب العالمين فسمع النبي ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد من تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته وبإسناده
عن طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله

واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله الحجة الخامسة قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول قوله تعالى اقرأ باسم ربك العلق 1 ولا يجوز أن يقال الباء صلة زائدة لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة وإذا كان هذا الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صونا للنص عن التعطيل الحجة السادسة التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن ولما أجمعوا على كتابتها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن الحجة السابعة أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين فوجب جعلها من كلام الله تعالى ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتا واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي الحجة الثامنة أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية واحدة وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال بسم الله ليس بآية منها لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية منها تامة الحجة التاسعة أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق الحجة العاشرة قوله عليه السلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدوا للرسول عليه السلام فقال إن شانئك هو الأبتر الكوثر 3 فلزم أن يقال الصلاة الخالية عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل والنقصان قال بفساد هذه الصلاة وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها

الحجة الحادية عشرة
ما روي أن النبي قال لأبي بن كعب ما اعظم آية في كتاب الله تعالى فقال بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم بل هذا بعض آية فلا بد وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة الحجة الثانية عشرة إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن فأعاد معاوية الصلاة وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها الحجة الثالثة عشرة أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله فوجب أن يجب على رسولنا ذلك وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضا في حقنا وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة أما المقدمة الأولى فالدليل عليها أن نوحا عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها هود 41 وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم الله الرحمن الرحيم فإن قالوا أليس أن قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى قلنا معاذ الله أن يكون الأمر كذلك وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب وكانت قد سمعت باسم سليمان فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم الله الرحمن الرحيم والمقدمة الثانية أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده الأنعام 90 وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق الحجة الرابعة عشرة أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق والقديم الخالق يجب أن يكون سابقا على المحدث المخلوق وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبرا في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضا أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق الحجة الخامسة عشرة أن بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه

مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان من سورة الرحمن وقوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين من سورة المرسلات مكررا في القرآن بخط واحد وصورة واحدة قلنا إن الكل من القرآن الحجة السادسة عشرة
روى أنه كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها هود 41 فكتب بسم الله فنزل قوله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الإسراء 110 فكتب بسم الله الرحمن فلما نزل قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم النمل 30 كتب مثلها وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن ومجموعها من القرآن ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك وذلك يوجب الطعن في القرآن الحجة السابعة عشرة قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته وهل يجوز للجنب قراءته وللمحدث مسه فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واحتج المخالف بأشياء الأول تعلقوا بخبر أبي هريرة وهو أن النبي قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها والثاني أنه تعالى قال
جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد من الصلاة الفاتحة وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد - وللعبد ثلاث آيات ونصف - وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة - أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد آيتان ونصف وذلك يبطل التنصيف المذكور الحجة الثانية
روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة الحجة الثالثة لو كان قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم وذلك بخلاف الدليل والجواب عن الحجة الأولى من وجوه الأول
أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي الثاني
روى أبو داود السختياني ( 1 ) عن

النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي إذا عرفت هذا فنقول قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي يعني في القسمة وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه الثالث أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضا يحتمل النصف في المعنى قال عليه الصلاة والسلام
الفرائض نصف العلم وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان وقال شريح أصبحت ونصف الناس علي غضبان سماه نصفا من حيث أن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون الرابع أن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة وهذا الخبر الذي تمسكوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا لكن المقصود منه بيان شيء آخر فكانت دلائلنا أقوى وأظهر الخامس أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال لعل عائشة جعلت الحمد لله رب العالمين اسما لهذه السورة كما يقال قرأ فلان الحمد لله الذي خلق السموات والمراد أنه قرا هذه السورة فكذا ههنا وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وتأكيد كون الله تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات والله أعلم المسألة السابعة في بيان عدد آيات هذه السورة رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول هذه السورة ثمان آيات فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات وبه فسروا قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 إذا ثبت هذا فنقول الذين قالوا إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية تامة وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى إذا عرفت هذا فنقول الذي قاله الشافعي أولى ويدل عليه وجوه الأول أن مقطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم لأنا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة ق والمتشاكلة كما في سورة القمر وقوله أنعمت عليهم ليس من القسمين فامتنع جعله من المقاطع الثاني أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد وكذلك الاستثناء مع المستثنى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل أما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاما واحدا وآية واحدة وذلك أقرب إلى الدليل الثالث أن المبدل منه في حكم المحذوف فيكون تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالا فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به

والدليل عليه قوله تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا إبراهيم 28 وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم فثبت أنه لا يجوز فصل قوله صراط الذين أنعمت عليهم عن قوله غير المغضوب عليهم بل هذا المجموع كلام واحد فوجب القول بأنه آية واحدة فإن قالوا أليس أن قوله الحمد لله رب العالمين آية واحدة وقوله الرحمن الرحيم آية ثانية ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها بل هي متعلقة بما قبلها قلنا الفرق أن قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ولا كذلك هذا لما بينا أن مجرد قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاما تاما بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فظهر الفرق المسألة الثامنة ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآنا واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي قال في سورة الملك
إنها ثلاثون آية وفي سورة الكوثر إنها ثلاث آيات ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل فإن قالوا لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا أنها بعض آية من سائر السور قلنا هذا غير بعيد ألا ترى أن قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ثم صار مجموع قوله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 آية واحدة فكذا ههنا وأيضا فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور فسقط هذا السؤال المسألة التاسعة يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة وأما الشافعي فإنه قال إنها آية منها ويجهر بها وقال أبو حنيفة ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضا فنقول الجهر بها سنة ويدل عليه وجوه وحجج الحجة الأولى قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة وإذا ثبت هذا فنقول الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية فأما أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا فهذا مفقود في جميع السور وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية الحجة الثانية أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله تعالى فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا البقرة 200 ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرا بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفا منه فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر

الله أولى عملا بقوله فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا الحجة الثالثة هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخرا بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره ولا شك أن هذا مستحسن في العقل فيكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ومما يقوى هذا الكلام أيضا أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره لئلا ينكشف ذلك العيب أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفاؤه ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكرا لله بالتعظيم ولهذا قال عليه السلام
طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول
يا من ذكره شرف للذاكرين ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه ولهذا السبب نقل أن عليا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين الحجة الرابعة ما رواه الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت منا الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير عند الركوع والسجود ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير قال الشافعي إن معاوية كان سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية الحجة الخامسة
روى البيهقي في السنن الكبير عن أبي هريرة قال كان رسول الله يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلى بن أبي طالب فقد اهتدى والدليل عليه قوله عليه السلام
اللهم أدر الحق مع علي حيث دار الحجة السادسة أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بد من إضماره والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات أو ما يجري مجرى هذا المضمر ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة واحتج المخالف بوجوه وحجج
روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين وروى مسلم هذا الخبر

في صحيحه وفيه أنهم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وفي رواية أخرى
ولم أسمع أحدا منهم قال بسم الرحمن الرحيم وفي رواية رابعة
فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثانية
ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وخلف عمر وعثمان فابتدؤا القراءة بالحمد لله رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين وأقول إن أنسا وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا عليا وذلك يدل على إطباق الكل على أن عليا كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم الحجة الثالثة قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية الأعراف 55 واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة الأعراف 205 وبسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله فوجب إخفاؤه وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين والجواب عن خبر أنس من وجوه الأول قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني
روي عن أنس في هذا الباب ست روايات أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات إحداها قوله صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين وثانيتها قوله إنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وثالثتها قوله لم أسمع أحدا منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية وثلاث أخرى تناقض قولهم إحداها ما ذكرنا أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم وثانيتها
روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وثالثتها أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام فلعل أنسا خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى فهذا جواب قاطع في المسألة ثم نقول هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا إلا أن الترجيح معنا وبيانه من وجوه الأول أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وهؤلاء كانوا اكثر علما وقربا من رسول الله من أنس وابن المغفل والثاني أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بان إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي والثالث أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر والعلماء على غير

العلماء والأشراف على الأعراب ولا شك أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل والغالب على الظن أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه وأيضا أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها الإسراء 110 وأيضا فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله وأن أنسا وابن المغفل ما سمعاه الرابع قال الشافعي لعل المراد من قول أنس كان رسول الله يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان قدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة الخامس لعل المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت كما قال تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها الإسراء 110 السادس الجهر كيفية ثبوتية والإخفاء كيفية عدمية والرواية المثبتة أولى من النافية السابع أن الدلائل العقلية موافقة لنا وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه وأما التمسك بقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة الأعراف 205 فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر أما قوله بسم الله الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع فكان الجهر به أولى المسألة العاشرة في تفاريع التسمية وفيه فروع - الفرع الأول قالت الشيعة السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه الفرع الثاني الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان الأول أن التسمية ليست من القرآن وهؤلاء فريقان منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور وهذا الفصل قد صار الآن معلوما فلا حاجة إلى إثبات التسمية فعلى هذا لو لم تكتب لجاز ومنهم من قال إنه يجب إثباتها في المصاحف ولا يجوز تركها أبدا والقول الثاني أنها من القرآن وقد أنزلها الله تعالى ولكنها آية مستقلة بنفسها وليست آية من السورة وهؤلاء أيضا فريقان منهم من قال إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال لا بل أنزلها مرة واحدة وأمر بإثباتها في أول كل سورة والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها وعلى أنها من القرآن ما
روي عن أم سلمة أن النبي كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة وعن إبراهيم بن يزيد قال قلت لعمرو بن دينار إن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن فقال سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها وعن عبد الله بن المبارك أنه قال من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية وروي مثله عن ابن عمر وأبي هريرة

الفرع الثالث القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جني وسفيان الثوري وابن أبي ليلى يقرا التسمية سرا وقال مالك لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرا ولا جهرا وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك الفرع الرابع مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعا عن أبي حنيفة أنه قال إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها قال وإن قرأها مع كل سورة فحسن الفرع الخامس ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة لقوله عليه السلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر الفرع السادس اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم والصحيح عندنا أنه لا يجوز الفرع السابع أجمع العلماء على أن تسمية الله على الوضوء مندوبة وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله
توضأ كما أمرك الله به والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمدا أو سهوا لم تصح صلاته وقال إسحق إن تركها عامدا لم يجز وإن تركها ساهيا جاز الفرع الثامن متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف الحج 36 وقال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الأنعام 121 الفرع التاسع أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول بسم الله فإذا نام قال بسم الله وإذا قام من مقامه قال بسم الله وإذا قصد العبادة قال بسم الله وإذا دخل الدار قال بسم الله أو خرج منها قال بسم الله وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال بسم الله ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول بسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل بسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضا بسم الله وإذا حضر الموقف قال بسم الله فتتباعد عنه النار ببركة قوله بسم الله المسألة الحادية عشرة ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها وقال أبو حنيفة إنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد إنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه لنا حجج ووجوه الحجة الأولى أنه إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى

باللفظ العربي وواظب عليه طول عمره فوجب أن يجب علينا مثله لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي الحجة الثانية أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ الحجة الثالثة أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام
ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار الحجة الرابعة أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين النساء 115 الحجة الخامسة أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن فوجب أن لا يخرج عن العهدة إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 ولقوله عليه السلام للأعرابي
ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه الأول قوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين الشعراء 192 إلى قوله بلسان عربي مبين الشعراء 195 الثاني قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه إبراهيم 4 الثالث قوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا فصلت 44 وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا فيلزم أن يقال إن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن الرابع قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا الإسراء 88 فهذا الكلام المنظوم بالفارسية إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله أو لا عينه ولا مثله والأول معلوم البطلان بالضرورة والثاني باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلا لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتيا بمثل القرآن وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله لا يأتون بمثله الإسراء 88 ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن ولم يأت به فوجب أن يبقى في العهدة الحجة السادسة
ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فنقول هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع وبيانه من وجوه الأول أن أحدا من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن الثاني يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول وذلك باطل الحجة السابعة
روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا قال يا رسول الله إني لا أستطيع أن أحفظ

القرآن كما يحسن في الصلاة فقال
قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح وذلك يبطل قول من يقول أنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت الحجة الثامنة يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاها رحمانا ومرحيانا وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا الحجة التاسعة أنا إذا ترجمنا قوله تعالى فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه الكهف 19 كان ترجمته بفرستيديكي أزشمابانقرة بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست يارة ازان بياورد ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام
إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات لأنه لا قائل بالفرق وأيضا فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى هماز مشاء بنميم القلم 11 إلى قوله عتل بعد ذلك زنيم القلم 12 فإن ترجمتها تكون شتما من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى وكذلك قوله تعالى ادع ( 1 ) لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها البقرة 61 فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى الحجة العاشرة قوله عليه الصلاة والسلام
أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآنا لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة الحجة الحادية عشرة أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة وبقراءة زيد وإنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعا ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين الحجة الثانية عشرة أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان اهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول الحجة الثالثة عشرة لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن

بالفارسية ويصلي بها ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق لأن ذلك يزيل عنهم إتعاب النفس في تعلم اللغة العربية ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية وذلك لا يقوله مسلم الحجة الرابعة عشرة لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية وهذا جائز وذاك غير جائز بيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني قال تعالى وأقم الصلاة لذكري طه 14 وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها محمد 24 فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد فلو كانت القراءة بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة الحجة الخامسة عشرة المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم والفارق ظاهر أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه وذلك من وجهين الأول أن الإعجاز في فصاحته وفصاحته في لفظه والثاني أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر 9 أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن وقراءة الترجمة قراءة القرآن ويدل عليه وجوه الأول
روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الدخان 43 وكان الرجل عجميا فكان يقول طعام اليتيم فقال قل طعام الفاجر ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين الشعراء 196 فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى الأعلى 19 ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث أنه تعالى قال وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به الأنعام 19 ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن والجواب عن الأول أن نقول إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول أنا مؤمن إن شاء الله ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن

مسعود ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا بل تقول إن القائل به شاك في دينه والشاك لا يكون مؤمنا فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة ولعمري هذه المناقضات عجيبة وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به وأن نقول إنه رجع عن هذه المذاهب وأما قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين الشعراء 196 فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين وقوله تعالى لأنذركم الأنعام 19 فالمعنى لأنذركم معناه وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها المسألة الثانية عشرة قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها وقال في القديم تجب القراءة إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال ولنا وجوه الحجة الأولى قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم الحجة الثانية
أنه كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 إلا أن يقال إن كونه مأموما يمنع منه إلا أنه معارضة الحجة الثالثة أنا بينا أن قوله تعالى وأقيموا الصلاة البقرة 43 أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله يفعلها ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة فكان قوله أقيموا الصلاة يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة الحجة الرابعة قوله عليه السلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقد ثبت تقرير وجه الدليل فإن قالوا هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي
قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام قلنا هذا الحديث طعنوا فيه الحجة الخامسة قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي علمه أعمال الصلاة
ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وهذا يتناول المنفرد والمأموم الحجة السادسة
روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال ما لي أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا أي والله قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها قال أبو عيسى الترمذي هذا حديث حسن الحجة السابعة
روى مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله
من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تام قال فقلت يا أبا هريرة إني أكون أحيانا خلف الإمام قال اقرأ بها يا فارسي في نفسك

والاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أن صلاة المقتدي بدون مبرة عن الخداج عند الخصم وهو على خلاف النص الثاني أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة وذلك يؤيد المطلوب الحجة الثامنة
روى أبو هريرة أن النبي قال إن الله تعالى يقول قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي الحجة التاسعة
روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال بعضنا إنا لنصنع ذلك فقال وأنا أقول مالي أنازع القرآن لا تقرؤا شيئا من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها الحجة العاشرة أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها الحجة الحادية عشرة وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة فثبت أن القراءة أحوط فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك الحجة الثانية عشرة إذا بقي المقتدي ساكتا عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلا فوجب أن يكون حال القارئ أفضل منه لقوله عليه الصلاة والسلام
أفضل الأعمال قراءة القرآن وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب لأنه لا قائل بالفرق الحجة الثالثة عشرة لو كان الاقتداء مانعا من القراءة لكان الاقتداء حراما لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة والمانع من العبادة الشريفة محرم فيلزمه أن يكون الاقتداء حراما وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا الأعراف 204 واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم وبالغنا فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير وأما الأخبار فقد ذكروا أخبارا كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها ثم نقول هب أنها صحيحة ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه الأول أن قولنا يوجب الاشتغال بقراءة القرآن وهو من أعظم الطاعات وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر الله ولا شك أن قولنا أولى الثاني أن قولنا أحوط الثالث أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر المسألة الثالثة عشرة قال الشافعي رضي الله عنه
قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في

ركعة بطلت صلاته قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة أحدها قول الأصم وابن علية وهو أن القراءة غير واجبة أصلا والثاني قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القراءة إنما تجب في ركعة واحدة لقوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب والاستثناء من النفي إثبات فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء والثالث قول أبي حنيفة وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة وهو في الأخيرتين بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت وذكر في كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين والرابع نقل ابن الصباغ في كتاب الشامل عن سفيان أنه قال تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين والخامس وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات ولا تجب في جميعها فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات وإن كانت مغربا كفت في ركعتين وإن كانت صبحا وجبت القراءة فيهما معا والسادس وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات ويدل على صحته وجوه الحجة الأولى أنه كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله لقوله تعالى واتبعوه الأعراف 158 الحجة الثانية أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن ثم قال وكذلك فافعل في كل ركعة والأمر للوجوب فإن قالوا قوله
فافعل في كل ركعة راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال قلنا القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال الحجة الثالثة نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب الشامل عن أبي سعيد الخدري أنه قال
أمرنا رسول الله أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة الحجة الرابعة القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها الحجة الخامسة أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت
فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر وإذا ثبت هذا فنقول الركعتان الأوليان أصل والأخريان تبع ومدار الأمر في التبع على التخفيف ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما ولا يجهر بالقراءة فيهما والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى ومذهبنا أحوط فكان أرجح المسألة الرابعة عشرة إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع الفرع الأول قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفا من حروفها عمدا بطلت صلاته أما لو تركها سهوا قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له تركت القراءة قال كيف كان الركوع والسجود قالوا حسنا قال فلا بأس قال الشافعي فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعا ورجع الشافعي عنه في الجديد وقال تفسد صلاته لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين الأول أن الشعبي
روى أن عمر رضي الله عنه أعاد

الصلاة والثاني أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة قال الشافعي هذا هو الظن بعمر الفرع الثاني تجب الرعاية في ترتيب القراءة فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له الأول دون الأخير الفرع الثالث الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة إما أن يحفظ بعضها وإما أن لا يحفظ شيئا منها أما الأول فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب وأما الثاني - وهو أن لا يحفظ شيئا من الفاتحة - فههنا إن حفظ شيئا من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ لقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وإن لم يحفظ شيئا من القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر وهو التكبير والتحميد وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء حجة الشافعي
ما روى رفاعة بن مالك أن رسول الله قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله ثم يكبر فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبر بقي ههنا قسم واحد وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئا من القرآن ولا يحفظ أيضا شيئا من الأذكار العربية وعندي أنه يؤمر بذكر الله تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم المسألة الخامسة عشرة نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن واعلم أن هذا في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذ كان ابن مسعود عالما بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلا في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة والله الهادي للصواب
الباب الخامس
في تفسير سورة الفاتحة وفيه فصول
الفصل الأول
في تفسير قوله تعالى الحمد لله وفيه وجوه الأول ههنا ألفاظ ثلاثة الحمد والمدح والشكر فنقول الفرق بين الحمد والمدح من وجوه الأول أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أن المدح أعم من الحمد الوجه الثاني في الفرق أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان الوجه الثالث في الفرق أن المدح قد يكون منهيا عنه
قال عليه الصلاة والسلام احثوا التراب في وجوه المداحين أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا
قال

من لم يحمد الناس لم يحمد الله الوجه الرابع أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختارا فقوله الحمد لله يدل على كون هذا القائل مقرا بأن إله العالم ليس موجبا بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضا فقوله الحمد لله أولى من قوله الشكر لله لأن قوله الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كان العبد يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم وقيل الحمد على ما دفع الله من البلاء والشكر على ما أعطى من النعماء فإن قيل النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل قلنا فيه وجوه الأول كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما الثاني المنع غير متناه والإعطاء متناه فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى الثالث أن دفع الضرر أهم من جلب النفع فلهذا قدمه الفائدة الثانية أنه تعالى لم يقل أحمد الله ولكن قال الحمد لله وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه أحدها أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده أما لما قال الحمد لله فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا او لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم وثانيها أن قولنا الحمد لله معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد فقولنا الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده وثالثها أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمدا يليق به وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال من أنا حتى أحمده لكنه محمود بجميع حمد الحامدين مثاله ما لو سئلت هل لفلان عليك نعمة فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق فقد حمدته بأكمل المحامد ورابعها أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن فثبت أن قوله الحمد لله

أولى من قوله أحمد الله ونظيره قولنا لا إله إلا الله فإنه لا يدخله التكذيب بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا الله لأنه قد يكون كاذبا في قوله أشهد ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين والله يشهد إن المنافقين لكاذبون المنافقون 1 ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا الله الفائدة الثالثة اللام في قوله الحمد لله يحتمل وجوها كثيرة أحدها الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها الملك كقولك الدار لزيد وثالثها القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان واللام في قولك الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل الفائدة الرابعة قوله الحمد لله ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة الفائدة الخامسة الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف وفيه قولان الأول أنه إن كان مسبوقا بمعهود سابق انصرف إليه وإلا يحمل على الاستغراق صونا للكلام عن الإجمال والقول الثاني أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط إذا عرفت هذه فنقول قوله الحمد لله إن قلنا بالقول الأول أفاد أن كل ما كان حمدا وثناء فهو لله وحقه وملكه وحينئذ يلزم أن يقال إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد والثناء البتة وإن قلنا بالقول الثاني كان معناه أن ماهية الحمد حق لله تعالى وملك له وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله فإن قيل أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية وقال عليه السلام
من لم يحمد الناس لم يحمد الله قلنا إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله الفائدة السادسة أن قوله الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله فكذلك العقل دل عليه وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا إما ثوابا أو ثناء أو توصيل حق أو تخليصا للنفس من خلق البخل وطالب العوض لا يكون منعما فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأن تحصيل الحاصل محال فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا فلا جرم كان مستحقا للحمد فثبت

أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة أحدها أن تكون منفعة والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى وثالثها أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد لله الفائدة السابعة قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر إذا عرفت هذا فنقول وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه الأول أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها الثاني أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر وإذا زال عنه العوائق والحوائل فكل ذلك إنعام من الله تعالى فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه وتلك النعم أيضا توجب الشكر وعلى هذا التقدير فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها وذلك محال والموقوف على المحال محال فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به الثالث أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد لله بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد الله وشكره وبالثناء عليه الرابع أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه ( أحدها ) أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد وثانيها أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك وثالثها أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا الله بل قال الحمد لله لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا

عليه ونقل أن داود عليه السلام قال
يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر فقال يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك الفائدة الثامنة
عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه أو كان عطشانا فأرواه أو كان عريانا فكساه أما إذا قال العبد الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ثم جميع هذه المحامد متناهية وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد الحمد لله رب العالمين فلهذا السبب قال تعالى
انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له أقول ههنا دقيقة أخرى وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية وقوله الحمد لله حمد غير متناه ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه فكأنه تعالى يقول عبدي إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي فثبت أن قول العبد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها الفائدة التاسعة لا شك أن الوجود خير من العدم والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه وقد ثبت أن الوجود نعمة فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح الأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر فإذا قال العبد الحمد لله فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلي بل المراد الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لأحد معك فيها شركة ومنازعة الفائدة العاشرة لقائل أن يقول التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال سبحان الله والحمد لله فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه

محسنا إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاما والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسنا بالعباد إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد وإلا إذا كان قادرا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه وإلا إذا كان غنيا عن كل الحاجات إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات فثبت أن الابتداء بقوله الحمد لله أولى من الابتداء بقوله سبحان الله الفائدة الحادية عشرة الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل لقوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم إبراهيم 7 والعقل أيضا يدل عليه وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى وأبواب معرفته ومحبته وذلك من أعظم النعم فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى ولما كان لا نهاية لدرجات الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة الفائدة الثانية عشرة الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها قيل للسري السقطي كيف يجب الإتيان بالطاعة قال أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله فقيل كيف ذلك قال وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ثم إن نعم الله على العبد كثيرة إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين نعم الدنيا ونعم الدين ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ثم نعم الدين قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب والقسم الثاني أشرف ثم نعم الدنيا قسمان تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم والقسم الثاني أشرف فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقا لموضعه لائقا بسببه الفائدة الثالثة عشرة أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين وأما الثاني فهو قوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ففاتحة العالم مبنية على الحمد

وخاتمته مبنية على الحمد فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير الفائدة الرابعة عشرة من الناس من قال تقدير الكلام قولوا الحمد لله وهذا عندي ضعيف لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه الأول أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقا له وملكا له وهذا كلام تام في نفسه فلا حاجة إلى الإضمار الثاني أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير الثالث ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده اعمل كذا وكذا لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل ثم إذا كان الولد كريما فإنه يجيب ويطيعه وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد فيكون إثمه أقل فكذلك ههنا قال الله تعالى الحمد لله فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا إثمه أقل الفائدة الخامسة عشرة تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد لله أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه الأول أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى واجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد الثاني أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلا فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطن قبيح لقوله تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا آل عمران 188 الثالث أنا قد دللنا على أن قوله الحمد لله يدل ظاهره على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلا وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله الرابع أن قوله الحمد لله مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق فلما بدأ كتابة بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية والخامس أن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن وإلا كانت عبثا وذلك في حقه محال والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة وإما أن تكون من باب التفضل أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين وأما الذي يكون من باب التفضل أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين وأما الذي يكون باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان فنقول هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا الحمد لله وتقريره أن نقول أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد

والمدح السادس قوله الحمد لله يدل على أنه تعالى محمود فنقول استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب وذلك يهدم أصول المعتزلة وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتا له لذاته - فنقول فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا إن قوله الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ولا جور في أقضيته ولا ظلم في أحكامه وعندنا أن الله تعالى كذلك فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ولا جور إلا وهو حكمه ولا عبث إلا وهو صنعه لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد أو على نفسه فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه وذلك باطل قالوا فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا الفائدة السادسة عشرة اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع من الناس من قال إنه ثابت بالسمع لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا الإسراء 15 ولقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل النساء 165 ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق والدليل عليه قوله تعالى الحمد لله وبيانه من وجوه الأول أن قوله الحمد لله يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع الثاني أنه تعالى قال الحمد لله رب العالمين وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم وإذا كان كذلك ثبت أن اسحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده الفائدة السابعة عشرة يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون تحميد الله مغايرا لقولنا الحمد لله فنقول حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب أو فعل اللسان أو فعل الجوارح أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال فهذا هو المراد من الحمد واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام

فريقين الفريق الأول الذين قالوا إنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه واحتجوا عليه بوجوه الأول أن ذلك التحميد إما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أولا وبناء عليه فالأول باطل لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة وذلك يقدح في كمال الكرم فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء وذلك يوجب الظلم الثاني قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر فوجب أن لا يكون مشروعا الثالث أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك وهذا الحمد لا نفع له في حق الله فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد وهذا لا يليق بالحكم الكريم الفريق الثاني قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه الأول أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل والثاني أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم الثالث أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس وذلك مقام نازل والله أعلم
الفصل الثاني
في تفسير قوله رب العالمين وفيه فوائد
الفائدة الأولى اعلم أن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته وإما أن يكون ممكنا لذاته أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم لأن المتكلمين قالوا العالم كل موجود سوى الله وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم إذا عرفت هذا فنقول كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون صفة للمتحيز وإما أن لا يكون متحيزا ولا صفة للمتحيز فهذه أقسام ثلاثة القسم الأول المتحيز وهو إما أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون فإن كان قابلا للقسمة فهو الجسم وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة أما البسيطة فهي العناصر الأربعة وأحدها كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة وثانيها كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى وثالثها كرة الهواء ورابعها كرة النار وأما الأجسام المركبة فهي النبات والمعادن والحيوان على كثرة أقسامها وتباين أنواعها وأما القسم الثاني - وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات - فهي الأعراض والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسا من أجناس الأعراض أما الثالث - وهو الممكن الذي لا يكون متحيزا ولا صفة للمتجيز - فهو

الأرواح وهي إما سفلية وإما علوية أما السفلية فهي إما خيرة وهم صالحو الجن وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته فيكون محتاجا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته وأيضا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المتبقي والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد لله رب العالمين وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رب العالمين الفائدة الثانية المربي على قسمين أحدهما أن يربي شيئا ليربح عليه المربي والثاني أن يربيه ليربح المربي وتربية كل الخلق على القسم الأول لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثوابا أو ثناء والقسم الثاني هو الحق سبحانه كما قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره وبيانه من وجوه الأول ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم الثاني أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر كما قال تعالى وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم الحجر 21 الثالث أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه والحق تعالى بخلاف ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام
إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء الرابع أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط أما الحق تعالى فأنه يعطي قبل السؤال ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم وحال ما كنت جاهلا غير عاقل لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية الخامس أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة السادس أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156 فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين الفائدة الثالثة أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة إما لكونه كاملا في ذاته وفي صفاته منزها عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك وإما لكونه محسنا إليك ومنعما عليك وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان وإما لأجل انك تكون خائفا من قهره وقدرته وكمال سطوته فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى يقول إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين وهو المراد من قوله الحمد لله وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا

الرحمن الرحيم وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين الفائدة الرابعة وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية ونحن نذكر منها أمثلة المثال الأول لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولا ثم مضغة ثانيا ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ثم اتصل البعض بالبعض ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى فحصلت القوة الباصرة في العين والسامعة في الأذن والناطقة في اللسان فسبحان من أسمع بعظم وبصر بشحم وأنطق بلحم واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض وهو عروق الشجرة فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا ثم الثمار ثانيا ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية كما قال تعالى إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا عبس 25 الآيات المثال الثالث أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب يونس 5 ما خلق الله ذلك إلا بالحق وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الأنعام 97 واقرأ قوله ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا - إلى آخر الآية النبأ 6 واعلم انك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة ودلائل رحمته لائحة ظاهرة وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد لله رب العالمين الفائدة الخامسة أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكا ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربا للعالمين ومن عرف ذاتا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها وذلك يدل على أن كونه ربا للعالمين أكمل الصفات والأمر كذلك لأن أكمل المراتب أن يكون تاما وفوق التمام فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام الفائدة السادسة أنه يملك عبادا غيرك كما قال وما يعلم جنود ربك إلا هو المدثر 31 وأنت ليس لك رب سواه ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كان لك ربا غيره فما أحسن هذه

التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض وبالليل عن المخافات من غير عوض واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ويصونه من المخافات بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات فما أكبر هذه التربية وما أحسنها أليس من التربية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال
الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب فلهذا المعنى قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن الأنبياء 42 ما ذاك إلا الملك الجبار والواحد القهار ومقلب القلوب والأبصار والمطلع على الضمائر والأسرار الفائدة السابعة قالت القدرية إنما يكون تعالى ربا للعالمين ومربيا لهم لو كان محسنا إليهم دافعا للمضار عنهم أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه لم يكن ربا ولا مربيا بل كان ضارا ومؤذيا وقالت الجبرية إنما سيكون ربا ومربيا لو كانت النعمة صادرة منه والألطاف فائضة من رحمته ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون ربا للعالمين إليهم محسنا بخلق الإيمان فيهم الفائدة الثامنة قولنا الله أشرف من قولنا رب على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى ثم إن الداعي في أكثر الأمر يقول يا رب يا رب والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها
الفصل الثالث
في تفسير قوله الرحمن الرحيم وفيه فوائد
الفائدة الأولى الرحمن هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد والرحيم هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفا لبعض القوم فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفا فاتبعته تعجبا فنزل في بعض التلال وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه
وروي عن ذي النون أنه قال كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي وصرت بحيث ما ملكت نفسي فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعا واقفا على طرف الوادي فوثب العقرب على ظهر الضفدع واخذ الضفدع يسبح ويذهب فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ونزل العقرب من ظهره واخذ يعدو فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه والأفعى أيضا لدغ العقرب فماتا معا وسلم الإنسان منهما ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته ثم إن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه فعند ذلك تعود أمه إليه ولهذا السبب جاء في أدعية العرب يا رزاق النعاب في عشه فظهر بهذه الأمثلة أن فضل الله عام وإحسانه شامل ورحمته واسعة

واعلم أن الحوادث على قسمين منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك بل يكون في الحقيقة عذابا ونقمة ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة مع أنه يكون في الحقيقة فضلا وإحسانا ورحمة أما القسم الأول فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة وأما القسم الثاني كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة وفي الحقيقة رحمة وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب وفي الباطن راحة ورحمة فالأبله يغتر بالظواهر والعاقل ينظر في السرائر إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذابا وألما في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة وتحقيقه ما قيل في الحكمة إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم الإسراء 7 والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار كما قال تعالى ففروا إلى الله الذاريات 50 وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام فإن موسى كان يبني الحكم عن ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك الكهف 79 فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسرارا خفية وحكما بالغة وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم الفائدة الثانية الرحمن اسم خاص بالله والرحيم ينطلق عليه وعلى غيره فإن قيل فعلى هذا الرحمن أعظم فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى والجواب لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال جئتك لمهم يسير فقال اطلب للمهم اليسير رجلا يسيرا كأنه تعالى يقول لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة ولكن كما علمتني رحمانا تطلب مني الأمور العظيمة فأنا أيضا رحيم فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك كما قال تعالى لموسى
يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك الفائدة الثالثة وصف نفسه بكونه رحمانا رحيما ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال ورحمة منا وكان أمرا مقضيا مريم 21 فتلك الرحمة صارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار الفجار ثم إنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم الله الرحمن الرحيم ومرة في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سببا لخلاص مريم عليها السلام عن

المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سببا لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار الفائدة الرابعة أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه فكأنه تعالى يقول أنا رحمن لأنك تسلم إلي نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة كما قال تعالى وصوركم فأحسن صوركم غافر 64 وأنا رحيم لأنك تسلم إلي طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة الفائدة الخامسة روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروه به فقام ودخل عليه وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أما كان يصلي أما كان يصوم أما كان يزكي فقالوا بلى فقال هل عق والديه فقالوا بلى فقال عليه السلام
هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام هلا عفوت عنه فقالت لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني فقال عليه السلام هاتوا بالحطب والنار فقالت وما تصنع بالنار فقال عليه السلام أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك فقالت عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم فعند ذلك انطلق لسانه وذكر أشهد أن لا إله إلا الله والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار الفائدة السادسة لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فظهر أنه يوم القيامة يقول أمتي أمتي فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 فإن كان أثر الرحمة والواحدة هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم وأيضا روي أنه عليه السلام قال
اللهم اجعل حساب أمتي على يدي ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديونا بدرهمين وأخرج عائشة عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم فرحمتي لا نهاية لها ومعصيتهم متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانيا فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي لأني أنا الرحمن الرحيم الفائدة السابعة قالت القدرية كيف يكون رحمانا رحيما من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه وكيف يكون رحمانا رحيما من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه وقالت الجبرية أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله والله أعلم

الفصل الرابع
في تفسير قوله مالك يوم الدين وفيه فوائد
الفائدة الأولى قوله مالك يوم الدين أي مالك يوم البعث والجزاء وتقريره أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي والموافق والمخالف وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 31 وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ص 8 وقال إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى طه 15 واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا وذلك هو المراد بقوله مالك يوم الدين وبقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - الآية الزلزلة 7
روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك فيقول إلهي ماذا عملت فيقول الله تعالى ألست لما كنت نائما تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك الله ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك وأيضا يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله فلا يثقل مع ذكر الله غيره واعلم أن الواجبات على قسمين حقوق الله تعالى وحقوق العباد أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي وإن حككتها انحدر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها قولي لمولاك أن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال فأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ههنا ما هو أولى وذكر قصة الجدار وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى الفائدة الثانية اختلف القراء في هذه الكلمة فمنهم من قرأ مالك يوم الدين ومنهم من قرأ ملك يوم الدين حجة من قرأ مالك وجوه الأول أن فيه حرفا زائدا فكانت قراءته أكثر ثوابا الثاني أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله الثالث المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى الرابع أن الملك ملك للرعية والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية

فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك الخامس أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكا لذلك المالك باختيار نفسه فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية السادس أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية قال عليه الصلاة والسلام
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولا يجب على الرعية خدمة الملك أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافرا وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيما فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك وحجة من قال إن الملك أولى من المالك وجوه الأول أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك الثاني أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس الناس 1 لفظ الملك فيه متعين ولولا أن الملك أعلى حالا من المالك وإلا لم يتعين الثالث الملك أولى لأنه أقصر والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها بخلاف المالك فإنها أطول فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو وأجاب الكسائي بأن قال إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلا للأمل أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه لا يجزيه لأنه وإن كان ذلك تطويلا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ويجوز أن يموت في تلك الليلة فيقول إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازما على الإتمام وهو المراد ثم نقول إنه يتفرع على كونه ملكا أحكام وعلى كونه مالكا أحكام أخر أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكا فوجوه الأول أن السياسات على أربعة أقسام سياسة الملاك وسياسة الملوك وسياسة الملائكة وسياسة ملك الملوك فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكا واحدا ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك لأن عالما من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ألا ترى إلى قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا لمن أذن له الرحمن وقال صوابا النبأ 38 وقوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه البقرة 255 وقال في صفة الملائكة ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الأنبياء 28 فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين الحكم الثاني من أحكام كونه تعالى ملكا أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء

انتقص ملكهم وقلت خزائنهم أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان بل يزداد بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولدا واحدا لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازما على الكل فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا الحكم الثالث من أحكام كونه ملكا كمال الرحمة والدليل عليه آيات إحداها ما ذكر في هذه السورة من كونه ربا رحمانا رحيما وثانيها قوله تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم الحشر 22 ثم قال بعده هو الله الذي لا إله إلا هو الملك الحشر 23 ثم ذكر بعده كونه قدوسا عن الظلم والجور ثم ذكر بعده كونه سلاما وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ثم ذكر بعده كونه مؤمنا وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه فثبت أن كونه ملكا لا يتم إلا مع كمال الرحمة وثالثها قوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 لما أثبت لنفسه الملك أردفه بان وصف نفسه بكونه رحمانا يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحمانا يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة ورابعها قوله تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس الناس 1 فذكر أولا كونه ربا للناس ثم أردفه بكونه ملكا للناس وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى الحكم الرابع للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم قال تعالى تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا مريم 90 وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى طه 132 فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم الحكم الخامس أنه لما وصف نفسه بكونه ملكا ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال وما ربك بظلام للعبيد فصلت 46 ثم بين كيفية العدل فقال ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الأنبياء 47 فظهر بهذا أن كونه ملكا حقا ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل فإن كان الملك المجازي عادلا كان ملكا حقا وإلا كان ملكا باطلا فإن كان ملكا عادلا حقا حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكا ظالما ارتفع الخير من العالم يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوما وأوغل في الركض وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ووصل إلى بستان فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان أعطني رمانة واحدة فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا مؤذيا فقال أيها الصبي لم صار الرمان هكذا فقال الصبي لعل

ملك البلد عزم على الظلم فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم وقال لذلك الصبي أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى فقال للصبي لم بدلت هذه الحالة فقال الصبي لعل ملك البلد تاب عن ظلمه فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم فلا جرم بقي اسمه مخلدا في الدنيا بالعدل حتى إن من الناس من يروي عن رسول الله أنه قال
ولدت في زمن الملك العادل أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة الحكم الأول قراءة المالك أرجى من قراءة الملك لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم الحكم الثاني الملك وإن كان أغنى من المالك غير ان الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل فلهذا السبب قال الكسائي اقرأ مالك يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة الحكم الثالث أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين الحكم الرابع الملك له هيبة وسياسة والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة الفائدة الثالثة الملك عبارة عن القدرة فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ههنا بحث وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات والأول باطل لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم والثاني باطل أيضا لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد والجواب أن الله تعالى مالك الموجودات وملكها بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر فإن قيل إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا والقيامة غير موجودة في الحال فلا يكون الله مالكا ليوم الدين بل الواجب أن يقال مالك يوم الدين بدليل أنه لو قال أنا قاتل زيد فهذا إقرار ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا قلنا الحق ما ذكرتم إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود

القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال الفائدة الرابعة أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة الله والرب والرحمن والرحيم والمالك والسبب فيه كأنه يقول خلقتك أولا فأنا إله ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين فإن قيل إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة قلنا التقدير كأنه قيل اذكر أني إله ورب مرة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول غافر 3 الفائدة الخامسة قالت القدرية إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يعمله ظلم وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين وقالت الجبرية لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكا لها ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم علمنا أنه خالق لها مقدر لها والله أعلم
الفصل الخامس
في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد
الفائدة الأولى العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتي به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم طريق معبد أي مذلل واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحد سواك والذي يدل على هذا الحصر وجوه الأول أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام واعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به فالمرتبة الأولى - وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع - وإليها الإشارة بقوله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا مريم 9 وقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم - الآية البقرة 28 والمرتبة الثانية - وهي خلق المنتفع به - وإليها الإشارة بقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا البقرة 29 ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم البقرة 29 فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر الوجه الثاني في دلائل هذا الحصر والتعيين وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء الله والرب والرحمن والرحيم ومالك يوم الدين وللعبد أحوال ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل أما الماضي فقد كان معدوما محضا كما قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا البقرة 29 وكان ميتا فاحياه الله تعالى كما قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 وكان جاهلا فعلمه الله كما

قال والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة النحل 78 والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديما أزليا فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوما كان محتاجا إلى الرب الرحمن الرحيم أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عنده أسباب الضرورات فقال الله تعالى أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود أما بعد أن أصرت موجودا فقد كثرت حاجاتك إلي فأنا رب رحمن رحيم وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكتمل إلا بالله وفضله وإحسانه فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر الوجه الثالث في دليل هذا الحصر وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادرا عالما محسنا جوادا كريما حليما وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكا فيه فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبودا للخلق أمر يقيني وأما كون غيره معبودا للخلق فهو أمر مشكوك فيه والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الرابع أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره وأيضا قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الخامس أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكنا لذاته وكل ما كان ممكنا لذاته كان محتاجا فقيرا والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير والشيء ما لم يكن في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى فمستحق العبادات هو الله تعالى فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين الوجه السادس استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة وأرضا بلا دعامة ويسير الشمس والقمر ويسكن القطبين ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق وتارة الهواء وهي الريح وتارة الماء وهو المطر وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد ثم جعل في الأرض أجساما مقيمة لا تسافر وهي الجبال وأجساما مسافرة لا تقيم وهي الأنهار وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمدا عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته وجعل الماء نارا على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا نارا وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ورفع موسى فوق الطور وقال له اخلع ( 1 ) كذا في الأصل واللفظ في الآية 12 من سورة طه فاخلع نعليك نعليك ورفع الطور على موسى وقومه ورفعنا فوقكم الطور

النساء 154 وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله وفار التنور هود 40 وجعل البحر يبسا لموسى عليه السلام فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه الفائدة الثانية قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله فقوله إياك نعبد وإياك نستعين يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف وذلك لأن كل من اتخذ شريكا لله فذلك الشريك إما أن يكون جسما وإما أن لا يكون أما الذين اتخذوا شريكا جسمانيا فذلك الشريك إما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركبا أو بسيطا أما المركب فإما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبودا لأنفسهم وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبودا لأنفسهم وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضا طوائف الطائفة الأولى الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة وهؤلاء هم المانوية والثنوية والطائفة الثانية هم الذين قالوا الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها هؤلاء عبدة الملائكة والطائفة الثالثة الذين قالوا للعالم إلهان أحدهما خير والآخر شر وقالوا مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس وهما أخوان فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس إذا عرفت هذا التفصيل فنقول كل من اتخذ لله شريكا فإنه لا بد وأن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه إما طلبا لنفعه أو هربا من ضرره وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله فلهذا قالوا إياك نعبد وإياك نستعين فكان قوله إياك نعبد وإياك نستعين قائما مقام قوله لا إله إلا الله واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحان الله يدل على كونه كاملا تاما في ذاته وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملا متمما لغيره والشيء لا يكون مكملا متمما لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاما كاملا في ذاته فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا

سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله وإياك نستعين ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر الفائدة الثالثة قال إياك نعبد فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك وفيه وجوه أحدها أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا يحكى أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع رستاقيا جلفا فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مرارا فقيل للرستاقي إنه فلان الأستاذ فانصرع في الحال منه وما ذاك إلا لاحتشامه منه فكذا ههنا عرفه ذاته أولا حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة وثانيها أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولا قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولا معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب فكذا ههنا إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية وثالثها قال الله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات ورابعها أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولا بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولا إياك ثم قلت ثانيا نعبد كان قولك أولا إياك صريحا بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك وخامسها وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته فوجب أن يكون ذكره متقدما على جميع الأذكار فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدما على ذكر الخلق وسادسها قال بعض المحققين من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلي لا إلى البلاء وحينئذ يكون غرقا في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه وكل من كان كذلك كان أبدا في أعلى مراتب السعادات أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلي فكان غرقا في كل الأوقات في الاشتغال بغير الله فكان أبدا في الشقاوة لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفا من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلى بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال ولهذا التحقيق قال لأمة موسى اذكروا نعمتي وقال لأمة محمد عليه السلام اذكروني أذكركم

إذا عرفت هذا فنقول إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقا في مشاهدة نور جلال إياك ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقرا في عين الفردوس كما قال تعالى
لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وسابعها لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونه ولا يعبدون غير الله وثامنها أن هذه النون نون العظمة فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبدا لنا كان ملك الدنيا والآخرة وتاسعها لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبرا ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك فالأول تكبر والثاني تواضع ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله فإن قال قائل جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله نعبد احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله لا جرم حسن تقدم الحمد أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله الفائدة الرابعة لقائل أن يقول النون في قوله نعبد إما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم والأول باطل لأن الشخص الواحد لا يكون جمعا والثاني باطل لأن عند أداء العبادة فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة فالوجه الأول أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها ويدل عليه قوله عليه السلام
التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها ثم نقول إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية الوجه الثاني أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد والمراد منه ذلك الجمع وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله الوجه الثالث أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقا وغربا فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام
من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته

الوجه الرابع كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل إياك نعبد وإياك نستعين الوجه الخامس كأن العبد يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بجهات التقصير ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد وههنا مسألة شرعية وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فالمشتري إما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحدا منها وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض فإما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء وإما أن يقبل الكل وحينئذ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره والتقدير كأن العبد يقول إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني الفائدة الخامسة اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها وبيانه من وجوه الأول أن الكمال محبوب بالذات وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال وهي موجبة أيضا لأكمل السعادات في الزمان المستقبل فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه الثاني أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات - الآية الأحزاب 72 وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا بدليل قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها النساء 58 وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات ولأن أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني قال بعض الصحابة رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا فلما خرج لم يجد ناقته فقال إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي قال الراوي فزدنا تعجبا فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس
يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات الثالث أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة
يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع
وعن رسول

الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن يوسف 31 فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك تمنع القلب عن الشعور بهم فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازي فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى ثم قال أهل التحقيق العبادة لها ثلاث درجات الدرجة الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب أو هربا من العقاب وهذا هو المسمى بالعبادة وهذه الدرجة نازلة ساقطة جدا لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب ومن جعل المطلوب بالذات شيئا من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جدا والدرجة الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته أو يتشرف بقبول تكاليفه أو يتشرف بالانتساب إليه وهذه الدرجة أعلى من الأولى إلا أنها أيضا ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله
والدرجة الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها وخالقا ولكونه عبدا له والإلهية توجب الهيبة والعزة والعبودية توجب الخضوع والذلة وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات هذا هو المسمى بالعبودية وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله فإنه لو قال أصلي لثواب الله أو للهرب من عقابه فسدت صلاته واعلم أن العبادة والعبودية مقام عال شريف ويدل عليه آيات الأولى قوله تعالى في آخر سورة الحجر ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ا لحجر 97 والاستدلال بها من وجهين أحدهما أنه قال واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فأمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أن يأتيه الموت ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة وثانيهما أنه قال ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء التسبيح وهو قوله فسبح والتحميد وهو قوله بحمد ربك والسجود وهو قوله وكن من الساجدين والعبادة وهي قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب وتفيد انشراح الصدر وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق وذلك يوجب زوال ضيق القلب الآية الثانية في شرف العبودية قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الإسراء 1 ولولا أن العبودية أشرف المقامات وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج ومنهم من قال العبودية أشرف من الرسالة لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق وأيضا بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات واللائق بالعبد الانعزال عن التصرفات وأيضا العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة وشتان ما بينهما

الآية الثالثة في شرف العبودية أن عيسى أول ما نطق قال إني عبد الله مريم 30 وصار ذكره لهذه الكلمة سببا لطهارة أمه ولبراءة وجوده عن الطعن وصار مفتاحا لكل الخيرات ودافعا لكل الآفات وأيضا لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة كما قال تعالى ورافعك إلي آل عمران 55 والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروما عن الجنة الآية الرابعة قوله تعالى لموسى عليه السلام إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى طه 14 أمره بعد التوحيد بالعبودية لأن التوحيد أصل والعبودية فرع والتوحيد شجرة والعبودية ثمرة ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر فهذه الآيات دالة على شرف العبودية وأما المعقول فظاهر وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلا عن كمالات الوجود فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولكونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات وعنوان السعادات ومطلع الدرجات وينبوع الكرامات فلهذا السبب قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين وكان علي كرم الله وجهه يقول
كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا وكفى بي شرفا أن تكون لي ربا اللهم إني وجدتك إلها كما أردت فاجعلني عبدا كما أردت
الفائدة السادسة
اعلم أن المقامات محصورة في مقامين معرفة الربوبية ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن ا لرحيم مالك يوم الدين فكون العبد منتقلا من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات وبعدها جاءت معرفة العبودية ولها مبدأ وكمال وأول وآخر أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد بقوله إياك نعبد وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أن لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب وذلك هو المراد بقوله وإياك نستعين ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة وهو قوله اهدنا الصراط المستقيم وهذا ترتيب شريف رفيع عال يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه
الفائدة السابعة
لقائل أن يقول قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فما الفائدة فيه قلنا فيه وجوه الأول أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحمانا رحيما

مالكا ليوم الدين فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد الوجه الثاني إن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 ربنا اغفر لنا الحشر 10 رب هب لي الشعراء 83 رب أرني الأعراف 143 والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضا العبادة خدمة والخدمة في الحضور أولى الوجه الثالث أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء والدعاء في الحضور أولى الوجه الرابع العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقربا إلى الله فينوي حصول القربة ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعا من الثناء على الله فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال إياك نعبد وإياك نستعين
الفصل السادس
في قوله وإياك نستعين
اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ويدل عليه وجوه من العقل والنقل أما العقل فمن وجوه الأول أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد في الطلب فهو من الله تعالى فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانه الله الثاني أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين وما ذاك المعين إلا الله تعالى لأن ذلك المعين لو كان بشرا أو ملكا لعاد الطلب فيه الثالث أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى ولا معنى للإعانة إلا ذلك وأما النقل فيدل عليه آيات أولاها قوله وإياك نستعين وثانيتها قوله استعينوا بالله الأعراف 128 وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكنا من أصل الفعل فتبطل الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد
الفائدة الأولى
لقائل أن يقول الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين فما الحكمة فيه الجواب من وجوه الأول كأن المصلي يقول شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها الثاني كأن الإنسان يقول يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلبا يفر مني فأستعين

بك في إحضاره وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام
قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله الثالث لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له هل لك من حاجة فقال أما إليك فلا فقال سله فقال حسبي من سؤالي علمه بحالي بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ويدي فلا أحركهما وعيني فلا أنظر بهما وأذني فلا أسمع بهما ولساني فلا أتكلم به وكان الخليل مشرفا على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معينا فكذلك لا أريد معينا غيرك فإياك نعبد وإياك نستعين كأنه تعالى يقول أتيت بفعل الخليل وزدت عليه فنحن نزيد أيضا في الجزاء لأنا ثمت قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الأنبياء 69 وأما أنت فقد نجيناك من النار وأوصلناك إلى الجنة وزدناك سماع الكلام القديم ورؤية الموجود القديم وكما أنا قلنا لنار نمروذ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكذلك تقول لك نار جهنم جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي الرابع إياك نستعين أي لا أستعين بغيرك وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك الوجه الخامس قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر
الفصل السابع
في قوله اهدنا الصراط المستقيم وفيه فوائد
الفائدة الأولى لقائل أن يقول المصلي لا بد وأن يكون مؤمنا وكل مؤمن مهتد فالمصلي مهتد فإذا قال اهدنا كان جاريا مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلبا لتحصيل الحاصل وإنه محال والعلماء أجابوا عنه من وجوه الأول المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى
يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول في كل مرة اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فإن قيل إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحا عليه السلام كان أفضل منه والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها الوجه الثاني في الجواب أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط وهما مذمومان والحق هو الوسط ويتأكد ذلك بقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا البقرة 143 وذلك الوسط هو العدل والصواب فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمنا مهتديا أما بعد حصول هذه

الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل الوجه الثالث أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل فقوله اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل الوجه الرابع أنه تعالى قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض الشورى 52 - 53 وقال أيضا لمحمد عليه السلام وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الأنعام 153 وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى الله مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله فقوله اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيى وزكريا عليهما السلام فالمراد بقوله اهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء ولا شك أن هذا مقام شديد هائل لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به إلا أنا نقول أيها الناس لا تخافوا ولا تحزنوا فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال صراط الذين أنعمت عليهم فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول يا إلهي إن والدي رأيته ارتكب الكبائر كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته فأنا أقول اهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلبا لمرتبة التائبين فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم الوجه الخامس كأن الإنسان يقول في الطريق كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق والأعداء إلى طريق ثان والشيطان إلى طريق ثالث وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج والعقل ضعيف والعمر قصير والصناعة طويلة والتجربة خطرة والقضاء عسير وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة والمستقيم السوي الذي لا غلظ فيه
يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله فإذا أعرابي على ناقة له فقال يا شيخ إلى

أين فقال إبراهيم إلى بيت الله قال كأنك مجنون لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل فقال إبراهيم إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها قال وما هي قال إذا نزلت علي بلية ركبت مركب الصبر وإذا نزل علي نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل الوجه السادس قال بعضهم الصراط المستقيم الإسلام وقال بعضهم القرآن وهذا لا يصح لأن قوله صراط الذين أنعمت عليهم بدل من الصراط المستقيم وإذا كان كذلك كان التقدير اهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا ليكون لفظ الصراط مذكرا لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية القول الثاني في تفسير اهدنا أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا ونظيره قوله تعالى ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا آل عمران 8 أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم
الفائدة الثانية
لقائل أن يقول لم قال اهدنا ولم يقل اهدني والجواب من وجهين الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب كان بعض العلماء يقول لتلامذته إذا قرأتم في خطبة السابق ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين إن نويتني في قولك رضي الله عنك فحسن وإلا فلا حرج ولكن إياك وأن تنساني في قولك وعن جماعة المسلمين لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بد وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولا على النبي ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي ثانيا لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه الثاني قال عليه الصلاة والسلام
ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها قالوا يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة قال يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك والثالث كأنه يقول أيها العبد ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولا حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل أهدنا الرابع كأن العبد يقول سمعت رسولك يقول الجماعة رحمة والفرقة عذاب فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت اهدنا الصراط المستقيم ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة قال تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين - الآية النساء 69

الفائدة الثالثة
اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة فكأن العبد يقول اهدنا الصراط المستقيم لوجوه الأول أنه أقرب الخطوط وأقصرها وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم الثاني أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضا في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان الثالث الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه والرابع المستقيم لا يتغير والمعوج يتغير فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم والله أعلم
الفصل الثامن
في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم وفيه فوائد
الفائدة الأولى
في حد النعمة وقد اختلف فيها فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر والذم بمعصية الله فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة وقولنا المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع الفرع الأول اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله النحل 53 ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام أحدها نعمة تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق وثانيها نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من الله تعالى وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة والخالق لذلك المنعم والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير لقمان 14 فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله وثالثها نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا وهي أيضا من الله تعالى لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى الفرع الثاني أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول

الحياة فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة وأما النقل فهو أنه تعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 ثم قال عقيبه هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا البقرة 29 فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة الفرع الثالث اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا فقال بعض أصحابنا ليس لله تعالى على الكافر نعمة وقالت المعتزلة لله على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيويه واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى أنعمت عليهم ولو كان ذلك لكان قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم طلبا لصراط الكفار وذلك باطل فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار فإن قالوا إن قوله الصراط يدفع ذلك قلنا إن قوله صراط الذين أنعمت عليهم بدل من قوله الصراط المستقيم فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم وحينئذ يعود المحذور المذكور والآية الثانية قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما آل عمران 178 وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ومثل هذا لا يكون نعمة بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير فكذا ههنا وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات إحداها قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء البقرة 21 - 22 فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة وثانيها قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم البقرة 28 ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم وثالثها قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 ورابعها قوله تعالى وقليل من عبادي الشكور سبأ 13 وقول إبليس ولا تجد أكثرهم شاكرين الأعراف 17 ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة
الفائدة الثانية
قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين - الآية النساء 69 ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
الفائدة الثالثة قوله أنعمت عليهم يتناول كل من كان لله عليه نعمة وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين فنقول كل نعمة

دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية وهذا يدل على أن المراد من قوله أنعمت عليهم هو نعمة الإيمان فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا الأصل فنقول يتفرع عليه أحكام الحكم الأول أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ولأن الإيمان أعظم النعم فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم الحكم الثاني يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار لأن قوله أنعمت عليهم مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم الحكم الثالث دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين لأنه لو كان الإرشاد واجبا على الله لم يكن ذلك إنعاما لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما وحيث سماه الله تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب الحكم الرابع لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه
الفصل التاسع
في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين وفيه فوائد
الفائدة الأولى
المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى من لعنه الله وغضب عليه المائدة 60 والضالين هم النصارى لقوله تعالى قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل المائدة 77 وقيل هذا ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز عن دينهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله إن الذين كفروا البقرة 6 ثم أتبعه بذكر المنافقين وهوقوله ومن الناس من يقول آمنا البقرة 8 فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله أنعمت عليهم ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله غير المغضوب عليهم ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله ولا الضالين
الفائدة الثانية
لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال

الفائدة الثالثة
قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس 32 ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم ولا الاقتداء بطريقهم ولكانوا خارجين عن قوله أنعمت عليهم ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام
الفائدة الرابعة
الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام واعلم أن هذا على الله تعالى محال لكن ههنا قاعدة كلية وهي أن جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والتكبر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار وأيضا الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب
الفائدة الخامسة
قالت المعتزلة غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من الله تعالى وقال أصحابنا لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين وحينئذ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى وذلك محال
الفائدة السادسة
أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته
الفائدة السابعة
دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله أنعمت عليهم وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين فإن قيل لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة قلنا لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم
الفائدة الثامنة
في الآية سؤال وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم أو محدث فإن كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ويتسلسل وهو محال وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد
الفائدة التاسعة
في الآية سؤال آخر وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وأن

يكون من الضالين فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين والجواب الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه السلام
لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا فقوله صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حد الكمال
الفائدة العاشرة
في الآية سؤال آخر ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم والمردودين فريقين المغضوب عليهم والضالين والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المرادون بقوله أنعمت عليهم فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه النساء 93 وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس 32 وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل والله أعلم
القسم الثاني
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة وفيه فصول
الفصل الأول
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة
اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة وعالم الآخرة عالم الصفا فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع وكالجسم بالنسبة إلى الظل فكل ما في الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل وكل ما في الآخرة فلا بد له في الدنيا من مثال وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بد وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه كما قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين التكوير 21 وأيضا فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات فذاك مطاع العالم الأعلى وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي والمظهر هو الرسول البشري وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا وإذا عرفت هذا فنقول كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله والمؤمنون كل آمن بالله - الآية البقرة 285 ويندرج في أحكام الرسل قوله لا نفرق بين أحد من رسله البقرة 285 فهذه الأربعة

متعلقة بمعرفة المبدأ وهي معرفة الربوبية ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين أحدهما المبدأ والثاني الكمال فالمبدأ هو قوله تعالى وقالوا سمعنا وأطعنا البقرة 285 لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى الله وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله غفرانك ربنا البقرة 285 وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد وهو المراد من قوله وإليك المصير البقرة 285 ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة المبدأ والوسط والمعاد أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة وهي معرفة الله والملائكة والكتب والرسل وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين سمعنا وأطعنا نصيب عالم الأجساد وغفرانك ربنا نصيب عالم الأرواح وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد وهو قوله وإليك المصير فابتداء الأمر أربعة وفي الوسط صار اثنين وفي النهاية صار واحدا ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع فأولها قوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا البقرة 286 وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الأحزاب 41 وقوله واذكر ربك إذا نسيت الكهف 24 وقوله تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 وقوله واذكر اسم ربك المزمل 8 وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الله الرحمن الرحيم وثانيها قوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا البقرة 286 ودفع الإصر - والإصر هو الثقل - يوجب الحمد وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين وثالثها قوله ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به البقرة 286 وذلك إشارة إلى كمال رحمته وذلك هو قوله الرحمن الرحيم ورابعها قوله واعف عنا البقرة 286 لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين وهو قوله مالك يوم الدين وخامسها قوله تعالى واغفر لنا البقرة 286 لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين وسادسها قوله وارحمنا البقرة 286 لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا اهدنا الصراط المستقيم وسابعها قوله أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين البقرة 286 وهو المراد من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في

عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر فلهذا السبب قال عليه السلام
الصلاة معراج المؤمن
الفصل الثاني
في مداخل الشيطان
اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة الشهوة والغضب والهوى فالشهوة بهيمية والغضب سبعية والهوى شيطانية فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه فقوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء العنكبوت 45 المراد آثار الشهوة وقوله ( والمنكر ) المراد منه آثار الغضب وقوله والبغي العنكبوت 45 المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه وبالغضب يصير ظالما لغيره وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى ولهذا قال عليه السلام
الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة ثم لها نتائج فالحرص والبخل نتيجة الشهوة والعجب والكبر نتيجة الغضب والكفر والبدعة نتيجة الهوى فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع - وهو الحسد - وهو نهاية الأخلاق الذميمة كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد وهو قوله ومن شر حاسد إذا حسد الفلق 5 كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس 6 فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس بل قيل الحاسد أشر من إبليس لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا فقال إبليس لو كنت إلها لما جهلتني فلما دخل قال فرعون أتعرف في الأرض شرا مني ومنك قال نعم الحاسد وبالحسد وقعت في هذه المحنة إذا عرفت هذا فنقول أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضا أصل سورة الفاتحة هو التسمية وفيها الأسماء الثلاثة وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية والآيات السبع التي هي الفاتحة في مقابلة الأخلاق السبعة ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى لأن الهوى إله سوى الله يعبد بدليل قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الجاثية 23 وقال تعالى لموسى
يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى ومن عرف أنه رحمن لا يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن لقوله تعالى

الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 ومن عرف أنه رحيم وجب أن يتشبه به في كونه رحيما وإذا صار رحيما لم يظلم نفسه ولم يلطخها بالأفعال البهيمية وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة وذكر معها اسمين آخرين وهما الرب والمالك فالرب قريب من الرحيم لقوله سلام قولا من رب رحيم يس 58 والمالك قريب من الرحمن لقوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 فحصلت هذه الأسماء الثلاثة الرب والملك والإله فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها والتقدير كأنه قيل إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس الناس 1 وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس الناس 2 وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس الناس 3 ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول من قال الحمد لله فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن زال غضبه ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة
الفصل الثالث
في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان
إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد
اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار وتقريره أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال
ربي الذي يحيي ويميت وقال في موضع آخر
الذي خلقني فهو يهدين وقال موسى عليه السلام
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال في موضع آخر
ربكم ورب آبائكم الأولين وقال تعالى في أول سورة البقرة يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون البقرة 21 وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق العلق 1 فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم فهذه الحالة من حيث أنها تعرف العبد وجود الإله دليل ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام فلا جرم هو دليل من وجه وإنعام من وجه والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد

وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء فقوله الحمد لله يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته ورحمته وكمال حكمته وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم فكان قوله الحمد لله دالا على جملة هذه المعاني وأما قوله رب العالمين فهو يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ولا معبود غيره وأما قوله الرحمن الرحيم فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت وأما قوله مالك يوم الدين فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما إذا عرفت هذا ظهر أن قوله الحمد لله يدل على وجود الصانع المختار وقوله رب العالمين يدل على وحدانيته وقوله الرحمن الرحيم يدل على رحمته في الدنيا والآخرة وقوله مالك يوم الدين يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية أما قوله إياك نعبد إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي محصورة في نوعين الأعمال التي يأتي بها العبد والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان أحدهما إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله إياك نعبد والثاني علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله وإياك نستعين وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر وأما الآثار المتفرغة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي وإليه الإشارة بقوله اهدنا الصراط المستقيم ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف الطائفة الأولى الكاملون المحقون المخلصون وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإليهم الإشارة بقوله أنعمت عليهم والطائفة الثانية الذين أخلوا بالأعمال الصالحة وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم والطائفة الثالثة الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة وهم أهل البدع والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين إذا عرفت هذا فنقول استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين أحدهما أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال والثاني أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه وقوله اهدنا الصراط المستقيم إشارة إلى القسم الأول وقوله صراط الذين أنعمت عليهم إشارة إلى القسم الثاني ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة وهم المغضوب عليهم أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة وهم الضالون وهذا آخر السورة وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66