كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

أو تلك بالاستفهام وكما في قوله هَاذَا رَبّى ( الأنعام 77 78 ) والتقدير أهذا ربي وقيل أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً لأنهم قالوا لا بد لنا من أجر والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة
المسألة الثانية لقائل أن يقول هلا قيل وجاء السحرة فرعون قالوا )
وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذ جاؤه
فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجراً أي جعلا على الغلبة
فإن قيل قوله وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف وما المعطوف عليه
وجوابه أنه معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب كأنه قال إيجاباً لقولهم إن لنا لأجراً نعم إن لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي قال المتكلمون وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم وهو حصول القربة
المسألة الثالثة الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فلم لم يقبلوا التراب ذهباً ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب والله أعلم
قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِى َ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قال الفراء والكسائي في باب ( أما وإما ) إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة وإذا كانت مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه وأما الخمر فلا تشربوها وأما زيد فقد خرج
وأما النوع الثاني فتقول إذا كنت مشترطاً إما تعطين زيداً فإنه يشكرك قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ ( الأنفال 57 ) وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو وتقول في التخيير لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها والفرق بين إما إذا أتت للشك وبين أو أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو فصار الشك فيهما جميعاً فأول الإسمين في ( أو ) يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ألا ترى أنك تقول قام أخوك وتسكت ثم تشك فتقول أو أبوك وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول ءانٍ في قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ وسقوطها من قوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التوبة 106 ) فقال الفراء أدخل ءانٍ في أَمَّا في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب كقول القائل اختر ذا أو ذا كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ليس فيه أمر بالتخيير ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا فلذلك لم يكن فيه ( أن ) والله أعلم
المسألة الثانية قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ يريد عصاه وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر والأمر بالكفر كفر وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا
والجواب عنه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا الثاني أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي وعلم موسى عليه السلام أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها يقول له هات وقل واذكرها وبالغ في تقريرها ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة

فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه قال القاضي لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه قال الواحدي بل المراد سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها
وأما قوله وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فالمعنى أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي قال المبرد استرهبوهم أرهبوهم والسين زائدة قال الزجاج استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عز وجل إليه مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ قال المحققون إن هذا غير جائز لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف
فإن قيل أليس أنه تعالى قال فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى ( طه 67 )
قلنا ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً وقيل سبعين ألفاً وقيل بضعة وثلاثين ألفاً واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال يريد وألهمنا موسى أن أَلْقِ عَصَاكَ
ثم قال فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه حذف وإضمار والتقدير فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ تَلْقَفْ
المسألة الثانية قرأ حفص عن عاصم تَلْقَفْ ساكنة اللام خفيف القاف والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام وروي عن ابن كثير تَلْقَفْ بتشديد القاف وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء أما من خفف فقال ابن السكيت اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته ورجل لقف سريع الأخذ وقال اللحياني ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى

المسألة الثالثة قال المفسرون لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى
المسألة الرابعة قوله مَا يَأْفِكُونَ فيه وجهان الأول معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه قال ابن عباس رضي الله عنهما مَا يَأْفِكُونَ يريد يكذبون والمعنى أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة مَا موصوله والثاني أن يكون مَا مصدرية والتقدير فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك
ثم قال تعالى فَوَقَعَ الْحَقُّ قال مجاهد والحسن ظهر وقال الفراء فتبين الحق من السحر قال أهل المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لوكان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد فلما فقدت ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره لا لأجل السحر فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر قال القاضي قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً
فإن قيل قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يدل على قوة هذا الظهور فكان قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ تكريراً من غير فائدة ا
قلنا المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي فعند ذلك ظهرت الغلبة فلهذا قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ لأنه لا غلبة أظهر من ذلك وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلاً قال الواحدي لفظة مَا في قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يجوز أن تكون بمعنى ( الذي ) فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر كأنه قيل بطل عملهم والله أعلم
وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قال المفسرون إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر بلهو أمر إلهي فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى قال المتكلمون وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر علموا أنه من المعجزات الإلهية لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال لأنهم كانوا يقولون لعله أكمل منا في علم السحر فقدر على ما عجزنا عنه فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله تعالى وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قالوا دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين وما ذاك إلا الله رب العالمين فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى قال مقاتل ألقاهم الله تعالى ساجدين وقال المعتزلة الجواب عنه من وجوه الأول أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين فصار كأن ملقياً ألقاهم الثاني قال الأخفش من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين الثالث أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود إلا أنا نقول إن ذلك الملقي هو أنفسهم
والجواب أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال ثم أن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسنداً إلى الله تعالى والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً أنهم صاروا ساجدين ثم ذكر بعده أنهم قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدماً على السجود وجوابه من وجوه الأول أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكراً لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان وعلامة أيضاً على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع
الوجه الثاني لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول
المسألة الرابعة احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي إن أولئك السحرة لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ لم يتم إيمانهم فلما قالوا رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا
وأجاب العلماء عنه بأنهم لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا رَبّ مُوسَى قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا وَهَارُونَ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا

برب العالمين وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهرون وقيل خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِأايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية حفص أَمِنتُمْ بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه وَالشُّعَرَاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي أَءمِنتُمْ بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام قال الفراء أما قراءة حفص أَمِنتُمْ بلفظ الخبر من غير مد فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم وأما القراءة بالهمزتين فأصله أَءمِنتُمْ على وزن أفعلتم
المسألة الثانية اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام
فالشبهة الأولى قوله إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ والمعنى أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق
والشبهة الثانية أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه

السلام أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق قال الساحر لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما فهذا هو قول فرعون إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام قال القاضي وقوله قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره ثم قال وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين
أما قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لا شبهة في أنه ابتداء وعيد ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل بل فسره فقال لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى وأما الصلب فمعروف فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه الأول أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لأفرادهم بالذكر والثاني أن قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده الثالث ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا هو الأظهر مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام وقال آخرون إنه لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه وهو قولهم لفرعون وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم بل يقتضي خلاف ذلك وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل يقال نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء وقد مر عند قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( المائدة 59 ) قال ابن عباس يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا والمراد ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى
ثم قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا معنى الإفراغ في اللغة الصب يقال درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب وأصله من إفراغ الإناء وهو

صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإلأناء قال مجاهد المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أكمل من قوله أنزل علينا صبراً لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه
والفائدة الثانية أن قوله صَبْراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على الكمال والتمام أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) أي على حياة كاملة تامة
والفائدة الثالثة إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه قال القاضي إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر وذلك معلوم في الأدعية
والجواب هذا عدول عن الظاهر ثم الدليل يأباه وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل فيكون الكل من الله تعالى
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ووجه الاستدلال به ظاهر والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق
المسألة الثانية احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد فقال إنهم قالوا أولاً مِنَّا إِلا أَنْ ثم قالوا ثانياً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر والله أعلم
وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه بل خلى سبيله فقال قومه له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وقوله لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك

أما قوله وَيَذَرَكَ فالقراءة المشهورة فيه وَيَذَرَكَ بالنصب وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قوله وَيَذَرَكَ عطفاً على قوله لِيُفْسِدُواْ لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته فكأنه تركهم لذلك وثانيها أنه جواب للاستفهام بالواو وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والآخاء
والتقدير أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك قال الزجاج والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى وثالثها النصب بإضمار أن تقديره أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ بالرفع عطفاً على أَتَذَرُ بمعنى أتذره ويذرك أي انطلق له وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك وقرأ الحسن وَيَذَرَكَ بالجزم وقرأ أنس ونذرك بالنون والنصب أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها
وأما قوله وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قال أبو بكر الأنباري كان ابن عمر ينكر قراءة العامة ويقرأ إلاهتك أي عبادتك ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد قال ابن عباس أما قراءة العامة وَءالِهَتَكَ فالمراد جمع إله وعلى هذا التقدير فقد اختلفوا فيه فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ورب هذه الأصنام فذلك قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى وقال الحسن كان فرعون يعبد الأصنام وأقول الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب وأما المجدي في هذا العلم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه فقوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم وقوله مَا عَلِمْتُ بِكُمْ مّنَ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم
واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام وحبسه وإنزال أنواع العذاب به فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفاً من موسى عليه السلام ولكنه قال سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير سَنُقَتّلُ بفتح النون والتخفيف والباقون بضم النون والتشديد على التكثير يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام
المسألة الثانية أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل

رهطه وشيعته وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ والمقصود منه ترك موسى وقومه لا من عجز وخوف ولو أراد به البطش لقدر عليه كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه واختلف المفسرون فمنهم من قال كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه فعند ذل فال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما فالأول الاستعانة بالله تعالى والثاني الصبر على بلاء الله وإنما أمرهم أولاً بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء ا تعالى وتقديره واستعداده بمشاهدة قضاء الله خفف عليه أنواع البلاء وأما الذان بشر بهما فالأول قوله إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه وذلك معنى الإرث وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف والثاني قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فقيل المراد أمر الآخرة فقط وقيل المراد أمر الدنيا فقط وهو الفتح والظفر والنصر على الأعداء وقيل المراد مجموع الأمرين وقوله لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة
قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوم موسى عليه السلام لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك لأن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم فقالوا هذا الكلام
فإن قيل أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم

والجواب أن موسى عليه السلام لما جاء وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور فلما رأوا أنها ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة بل استكشافاً لكيفية ذلك الوعد والله أعلم
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام عَسَى رَبُّكُمْ قال سيبويه عَسَى طمع وإشفاق قال الزجاج وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب
ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن لفظ عَسَى ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم وهو على الله محال وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الانتظار وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الرؤية ويجب حمل اللفظ ههنا عليها قال الزجاج أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم
فإن قيل إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال لأن الفاء في قوله فَيَنظُرَ للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى
قلنا تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى والله أعلم
وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الأعراف 129 ) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالاً بعد حال إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيهاً للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل خوفاً من نزول هذه المحن بهم فقال وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي السنة على معنيين أحدهما يراد بها الحول والعام والآخر يراد بها الجدب وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف ) وقول عمر رضي الله عنه إنا لا نقع في عام السنة فلما كانت السنة يعني بها الجدب اشتقوا منها كما يشتق من الجدب ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو زيد بعض العرب تقول هذه سنين ورأيت سنيناً فتعرب النون ونحوه قال الفراء ومنه قول الشاعر
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج السنين في كلام العرب الجدوب يقال مستهم السنة ومعناه جدب السنة وشدة السنة
إذا عرفت هذا فنقول قال المفسرون وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ يريد الجوع والقحط عاماً بعد عام فالسنون لأهل البوادي وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لأهل القرى
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله والدليل عليه قوله تعالى وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ( ا ) سراء 67 ) وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ( فصلت 51 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر
أجاب الواحدي عنه بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم لأن ذلك على الله تعالى محال بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان فكذا ههنا والله أعلم
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ قال ابن عباس يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة وَقَالُواْ لَنَا هَاذِهِ أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه وقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ

يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أي يتشاءموا به ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله يَطَّيَّرُواْ هو في الأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ في الطائر قولان
القول الأول قال ابن عباس يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه فالطائر ههنا الشؤم ومثله قوله تعالى في قصة ثمود قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ قال الفراء وقد تشاءمت اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا قال الأزهري وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها والتطير ببارحها ونعيق غربانها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة فقال لا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتفاءل ولا يتطير وأصل الفأل الكلمة الحسنة وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد فأثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله ولا بد من ذكر فرق بين البابين والأقرب أن يقال إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير وحركات البهائم فإن أرواحها ضعيفة فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال
القول الثاني في تفسير الطائر قال أبو عبيدة بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ أي حظهم وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه أي حصل له ذلك السهم
واعلم أن على كلا القولين المعنى أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن الكل من الله تعالى وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطونها عن قضاء الله تعالى وتقديره والحق أن الكل من الله لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلاً بكمال الله تعالى
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَة ٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ

اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أنواع الجهالة والضلالة وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم وقالوا لموسى إنا لا نقبل شيئاً منها ألبتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة مَهْمَا قولان الأول أن أصلها ( ماما ) الأولى هي ( ما ) الجزاء والثانية هي التي تزاد توكيداً للجزاء كما تزاد في سائر حروف الجزاء كقولهم إما ومما وكيفما قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ( الأنفال 59 ) وهو كقولك إن تثقفنهم ثم أبدلوا من ألف ( ما ) الأولى ( ها ) كراهة لتكرار اللفظ فصار ( مهما ) هذا قول الخليل والبصريين والثاني وهو قول الكسائي الأصل ( مه ) التي بمعنى الكف أي أكفف دخلت على ( ما ) التي للجزاء كأنهم قالوا أكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا
المسألة الثانية قال ابن عباس أن القوم لما قالوا لموسى مهما أتيتنا بآية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها ألبتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلاً ونهاراً سبتاً إلى سبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحراً واحداً فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك فأزال ا لله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط فقالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد فأرسل الله عليهم الجراد فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فأكلت النبات فصرخ أهل مصر فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم فقالوا هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل سبتاً إلى سبت فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه فأرسل الله عليها ريحاً حارة فأحرقتها واحتملتها الريح فألقتها في البحر فلم يؤمنوا فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك فخرج من البحر مثل الليل الدامس ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع فصرخوا إلى موسى عليه السلام وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك فدعا الله تعالى فأمات الضفادع وأرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر ثم أظهروا الكفر والفساد فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دماً فلم يقدروا على الماء العذب وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دماً ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم فقال فرعون لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) إلى آخر الآية فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين وقد وقع في أكثرها اختلافات أما الطوفان فقال الزجاج الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطبقاً بالقوم كلهم كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة فإنه يقال له طوفان وكذلك القتل الذريع طوفان والموت الجارف طوفان وقال الأخفش هو فعلان من

الطوف لأنه يطوف بالشيء حتى يعم قال وواحده في القياس طوفانه وقال المبرد الطوفان مصدر مثل ( الرجحان والنقصان ) فلا حاجة إلى أن يطلب له واحداً
إذا عرفت هدا فنقول الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس وقد روى عطاء عنه أنه قال الطوفان هو الموت وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبراً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الطوفان هو الموت ) وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما وأما الجراد فهو معروف والواحدة جرادة ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه وقال اللحياني أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها وأما القمل فقد اختلفوا فيه فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له وهي بنات الجراد وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم فقالوا قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم وعزة فرعون لا نؤمن بك أبداً وقرأ الحسن وَالْقُمَّلَ بفتح القاف وسكون الميم يريد القمل المعروف وأما الدم فما ذكرناه ونقل صاحب ( الكشاف ) أنه قيل سلط الله عليهم الرعاف وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات
وأما قوله تعالى مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ففيه وجوه أحدها مّفَصَّلاَتٍ أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وثانيها مّفَصَّلاَتٍ أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد قال المفسرون كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت وبين العذاب إلى العذاب شهر فهذا معنى قوله مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ قال الزجاج وقوله ءايَاتُ منصوبة على الحال وقوله فَاسْتَكْبَرُواْ يريد عن عبادة الله وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ مصرين على الجرم والذنب ونقل أيضاً أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر
فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها وأيضاً فقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق
والجواب أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة وعلم من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن أحداً منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفراً وعناداً فظهر الفرق والله أعلم

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ( البقرة 59 ) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلاً بهم وقال سعيد بن جبير الرّجْزَ معناه الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ الرّجْزَ لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها وأما غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبياً مجاب الدعوة ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره فمن هذا الوجه يظهر أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل
وأما قوله تعالى حكاية عنهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ فقال صاحب ( الكشاف ) ما في قوله بِمَا عَهِدَ عِندَكَ مصدرية والمعنى بعهده عندك وهو النبوة وفي هذه الباء وجهان
الوجه الأول أنها متعلقة بقوله ادْعُ لَنَا رَبَّكَ والتقدير ادْعُ لَنَا متوسلاً إليه بعهده عندك
والوجه الثاني في هذه الباء أن تكون قسماً وجوابها قوله لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أي أقسمنا بعهد الله عندك لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وقوله وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ كانوا قد أخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد فوعدوا موسى عليه السلام على دعائه بكشف العذاب عنهم الإيمان به والنخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين شاء وقوله فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ المعنى أنا ما أزلنا عنهم العذاب مطلقاً وما كشفنا عنهم الرجز في جميع الوقائع بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين وعند ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به وقوله إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث وبادروه ولم يؤخروه كما كشفنا عنهم نكثوا

فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
واعلم أن المعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب واليم البحر قال صاحب ( الكشاف ) اليم البحر الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب وقوله وَكَانُواْ عَنَّا غَافِلِينَ اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله انتَقَمْنَا والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج قال لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم
فإن قيل الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة
قلنا المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها
فإن قيل أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما
قلنا ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معاً دلالة على نفي ما عداه والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
اعلم أن موسى عليه السلام كان قد ذكر لبني إسرائيل قوله عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 129 ) فههنا لما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا

والمراد من ذلك الاستضعاف أنه كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة واختلفوا في معنى مشارق الأرض ومغاربها فبعضهم حمله على مشارق أرض الشام ومصر ومغاربها لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون لعنه الله وأيضاً قوله الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا المراد باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام
والقول الثاني المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس وقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ قيل المراد من وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ إلى قوله مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 6 ) والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت على بني إسرائيل مضت عليهم واستمرت من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك وقيل معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله بِمَا صَبَرُواْ أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج وقرأ عاصم في رواية وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبّكَ الْحُسْنَى ونظيره مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( النجم 18 ) وقوله وَدَمَّرْنَا قال الليث الدمار الهلاك التام يقال دمر القوم يدمرون دماراً أي هلكوا وقوله مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس يريد الصانع وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ قال الزجاج يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني قيل وما كانوا يعرشون من الجنات ومنه قوله تعالى جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ ( الأنعام 141 ) وقيل وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وفرعون وقرىء يعرشون بالكسر والضم وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح قال صاحب ( الكشاف ) وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً منه وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَة ٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبساً بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوماً يعكفون على عبادة أصنامهم جهلوا وارتدوا وقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولا

شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف
أما قوله تعالى يَعْلَمُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ يقال جاوز الوادي إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره عبر به وقرىء جوزنا بمعنى أجزنا يقال أجاز المكان وجوزه بمعنى جازه الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قال الزجاج يواظبون عليها ويلازمونها يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه عكف يعكف ويعكف ومن هذا قيل لملازم المسجد متعكف وقال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالريف قال ابن جريج كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وخالقاً ومدبراً لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقاً للعالم ومدبراً له ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 )
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول لم كان هذا القول كفراً فنقول أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام
فإن قيل فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم
قلنا بل من بعضهم لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها والقادر على هذه الآشياء ليس إلا الله تعالى فوجب أن لا تليق العبادة إلا به
فإن قالوا إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة
قلنا فعلى هذا التقدير لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنما جعلوها كالقبلة وذلك ينافي قولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن مَا في قوله كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة ويجوز أن تكون موصولة وفي قولهم لَهُمْ ضمير يعود إليه و ءالِهَة ً بدل من ذلك الضمير تقديره كالذي هو لهم آلهة
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ قال الليث التبار الهلاك يقال تبر الشيء يتبر تباراً والتتبير الإهلاك ومنه قوله تعالى تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ويقال للذهب

المنكسر المتفتت التبر فقوله مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي مهلك مدمر وقوله وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قيل البطلان عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سبباً لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سبباً لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب والله أعلم
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوهاً أولها أنه حكم عليهم بالجهل فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وثانيها أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك وثالثها أنه قال وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعاً في الدنيا والدين ورابعها ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ والمعنى أن الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الله الذي يكون قادراً على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم وهو المراد من قوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره قال الواحدي رحمه الله يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيت له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ ( التوبة 47 ) أي يبغون لكم وفي انتصاب قوله إِلَهاً وجهان أحدهما الحال كأنه قيل أطلب لكم غير الله معبوداً ونصب غَيْرِ في هذا الوجه على المفعول به الثاني أن ينصب إِلَهاً على المفعول به وَغَيْرُ على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول أبغيكم إلها غير الله وقوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فيه قولان الأول المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم الثاني أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ومثاله رجل تعلم علماً واحداً وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ

واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى والله أعلم
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وَقَالَ مُوسَى لاًّخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وَعَدَنَا بغير ألف والباقون واعَدْنَا بالألف على المفاعلة وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة
المسألة الثانية اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية
فإن قيل وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر وأيضاً فقوله فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً كلام عار عن الفائدة لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين
قلنا أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب
والوجه الثاني في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي وكلمه أيضاً فيه فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة
والوجه الثالث ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه والدليل عليه قوله تعالى وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى

فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة
والوجه الرابع قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى فصار الوعد مختلفاً لاختلاف حال الحاضرين والله أعلم
والجواب عن السؤال الثاني أنه تعالى إنما قال أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً إزالة التوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمة بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام
أما قوله تعالى فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه بحثان
البحث الأول الفرق بين الميقات وبين الوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدرة مقدر أولاً
والبحث الثاني قوله أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد
وأما قوله وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ فقوله هَارُونَ عطف بيان لأخيه وقرىء بالضم على النداء اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى كن خليفتي فيهم وَأَصْلَحَ وكن مصلحاً أو وَأَصْلَحَ ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه
فإن قيل إن هرون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة فكيف جعله خليفة لنفسه فإن شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة
قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة
فإن قيل لما كان هرون نبياً والنبي لا يفعل إلا الأصلاح فكيف وصاه بالإصلاح
قلنا المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) والله أعلم
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ

اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية
المسألة الأولى دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ومنهم من قال كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون انفقوا على أنه يجب كونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه وذلك أني قلت يوماً إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كان حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيداً ألبتة والثاني يوجب كونها حادثة لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه والثاني حادث لأن كل ما كان وجوده متأخراً عن وجوده غيره فهو حادث فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان الأول أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية الثاني أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير وهو قول المعتزلة
أما القول الثاني وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام فقالت الأشعرية إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا وكما لا يتعذر رؤية ذاته مع أن ذاته ليست جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام ألبتة فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى
المسألة الثانية اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول لأن قوله تعالى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يداً على نفي الحكم عما عداه وقال القاضي بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضاً كلام الله تعالى قال لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضاً فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بد من ظهور هذا المعنى لغيره
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه الأول أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها وحيث سألها

علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى قال القاضي الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة أحدها ما قاله الحسن وغيره أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفاً بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السمع وثانيها أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) فسأل موسى الرؤية لا لنفسه فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم وثالثها أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية ومنهم من يقول بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته وإن كانت من فعله كما نقوله في معرفة أهل الآخرة وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي ورابعها المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية قال أصحابنا أما الوجه الأول فضعيف ويدل عليه وجوه الأول إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة وذلك باطل بإجماع المسلمين الثاني أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئياً يوجب تجويز كونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافراً وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل علماً بديهياً ضرورياً ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلاً لموسى عليه السلام لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنوناً وذلك كفر بإجماع الأمة فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالماً بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلاً والله أعلم
وأما التأويل الثاني وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه فهو أيضاً فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ولقال الله تعالى لن يروني فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل والثاني أنه لو كان هذا السؤال طلباً للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) منعهم عنه بقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) والثالث أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئاً من تلك الدلائل ألبتة مع أن ذكرها كان فرضاً مضيقاً كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام وأنه لا يجوز والرابع أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا

بنبوة موسى عليه السلام أو ما آمنوا بها فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ
وأما التأويل الثالث فبعيد أيضاً ويدل عليه وجوه الأول أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمراً أنظر إلى أمرك ثم حذف المفعول والمضاف إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا وهو قوله أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى ( الأعراف 143 ) فسوف تراني فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف الثاني أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة والثالث أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد الرابع أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك فثبت أن هذا القول فاسد وأما التأويل الرابع وهو أن يقال المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه فهو أيضاً بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لكان الواجب أن يقول أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة
الحجة الثانية من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله فإنه يقول له هذا لا يؤكل ولا يقول له لا تأكل ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله فلما قال تعالى لَن تَرَانِى ولم يقل لا أرى علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية
الحجة الثالثة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة إنما قلنا إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل بدليل قوله تعالى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها لأنه لما كان ذلك الشرط أمراً جائز الوجود لم يلزم من فرض وقوعه محال فبتقدير حصول ذلك الشرط إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل
فإن قيل إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال حركته محال فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول لا على شرط جائز الحصول فلم يلزم

صحة ما قلتموه والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال إنه حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان ساكناً أو متحركاً فإن كان الأول لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقراً ولما لم يكن مستقراً كان متحركاً فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان متحركاً لا ساكناً فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقراً حال كونه ساكناً فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية هو كون الجبل مستقراً حال كونه متحركاً وأنه شرط محال
والجواب هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجوداً كان واجب الوجود ولو أخذته بشرط كونه معدوماً كان واجب العدم فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجوداً أو كونه معدوماً كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطاً في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطاً أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه والله أعلم
الحجة الرابعة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وهذا التجلي هو الرؤية ويدل عليه وجهان الأول إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء وأبصار الشيء أيضاً يجلي لذلك الشيء إلا أن الأبصار في كونه مجلياً أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى الثاني أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود فثبت أن قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئاً إلا أنا نقول لا يمتنع أن يقال إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى والدليل عليه أنه تعالى قال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ ( سبأ 10 ) وكونه مخاطباً بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية أمنا المعتزلة فقالوا إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها فلا حاجة هنا إلى ذكرها وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه الأول التمسك بقوله تعالى لَن تَرَانِى وتقرير الاستدلال أن يقال إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله ألبتة لا في الدنيا ولا في القيامة ومتى ثبت هذا ثبت أن أحداً لا يراه ألبتة ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى فهذه مقدمات ثلاثة
أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه الأول ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة ( لن ) للتأبيد قال

الواحدي رحمه الله هذه دعوى باطلة على أهل اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح وقال أصحابنا الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ( البقرة 95 ) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة والثاني أن قوله لَن تَرَانِى يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضاً ضعيف لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه الثالث أن قوله لن أفعل كذا يفيد تأكيد النفي ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ( الحج 73 ) وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية والجواب أن لَنْ لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِى نفياً لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة
أما المقدمة الثانية فقالوا القائل اثنان قائل يقول إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضاً يراه وقائل ينفي الرؤية عن الكل أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل
وأما المقدمة الثالثة فهي أن كل من نفي الوقوع نفي الصحة فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية
الحجة الثانية للقوم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر عند سؤالها صعقاً
والحجة الثالثة أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك وهذه الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيهاً له عن الرؤية فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة
والحجة الرابعة قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن أصحابنا قالوا الرؤية كانت جائزة إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه فهذا جملة الكلام في هذه الآية والله أعلم بالصواب
المسألة الرابعة في البحث عن هذه الآية نقل عن ابن عباس أنه قال جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قال صاحب ( الكشاف ) ثاني مفعولي أَرِنِى محذوف أي أَرِنِى نفسك أَنظُرْ إِلَيْكَ وفي لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول النظر إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى

جانب المرئي التماساً لرؤيته وعلى التقدير الأول يكون المعنى أرني حتى أراك وهذا فاسد وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين أحدهما أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى والثاني أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد
والجواب أن قوله أَرِنِى معناه اجعلني متمكناً من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك
السؤال الثاني كيف قال لَن تَرَانِى ولم يقل لن تنظر إلي حتى يكون مطابقاً لقوله أَنظُرْ إِلَيْكَ
والجواب أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه
والسؤال الثالث كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله
والجواب المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية
أما قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فقال الزجاج تَجَلَّى أي ظهر وبان ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ وقوله جَعَلَهُ دَكّا قال الزجاج يجوز دَكّاً بالتنوين و دَكَّاء بغير تنوين أي جعله مدقوقاً مع الأرض يقال دككت الشيء إذا دققته أدكه دكاً والدكاء والدكاوات الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة فعلى هذا الدك مصدر والدكاء اسم ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله جَعَلَهُ دَكّا أنه قال دكه دكاً مصدر مؤكد ويجوز جعله ذا دك قال ومن قرأ دَكَّاء ممدوداً أراد جعله دكاء أي أرضاً مرتفعة وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال جعله تراباً وقوله وَخَرَّ موسَى صَعِقًا قال الليث الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان والصعقة الغشية يقال صعق الرجل وصعق فمن قال صعق فهو صعق ومن قال صعق فهو مصعوق ويقال أيضاً صعق إذا مات ومنه قوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( الزمر 68 ) فسروه بالموت ومنه قوله يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون قال صاحب ( الكشاف ) صعق أصله من الصاعقة ويقال لها الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه
إذا عرفت هذا فنقول فسر ابن عباس قوله تعالى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا بالغشي وفسره قتادة بالموت والأول أقوى لقوله تعالى فَلَمَّا أَفَاقَ قال الزجاج ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من موته ولكن يقال للذي يغشى عليه أنه أفاق من غشيه لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ( البقرة 56 )
أما قوله قَالَ سُبْحَانَكَ أي تنزيهاً لك عن أن يسألك غيرك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إِلَيْكَ وفيه وجهان الأول تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية في الدنيا الثاني تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية بغير إذنك وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا أو يقال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك

قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية وهذا أيضاً أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة
واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله اصْطَفَيْتُكَ أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس يريد فضلتك على الناس ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قرأ ابن كثير ونافع برسالتي على الواحد والباقون النَّاسِ بِرِسَالَاتِي على الجمع وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى ومن قرأ برسالتي فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر فيجوز إفرادها في موضع الجمع وإنما قال إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ولم يقل على الخلق لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام
فإن قيل كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيراً من الناس قد ساواه في الرسالة
قلنا إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجوع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص ههنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الكلام بغير واسطة سبباً لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالاً وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ يعني فخذ هذه النعمة ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والله أعلم
وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاٌّ لْوَاحِ مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ

اعلم أنه تعالى لما بين أنه خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة فقال وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ نقل صاحب ( الكشاف ) عن بعضهم أن موسى خر صعقاً يوم عرفة وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح وقيل سبعة وقيل إنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام وقيل من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء وقال الحسن كانت من خشب نزلت من السماء وقال وهب كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى عليه السلام وأما كيفية الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور
واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه
وأما قوله من كل شيء فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله مِن كُلّ شَى ْء وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين أحدهما مَّوْعِظَة ٌ والأخر تَفْصِيلاً لما يجب أن يعلم من الأحكام فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد ولما قرر ذلك أولاً أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام فقال وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ولما شرح ذلك قال لموسى فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ أي بعزيمة قوية ونية صادقة ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقاً ليكون في هذا التفصيل فائدة ولذلك قال بعض المفسرين إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره وقال بعضهم بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء وإن كان مشاركاً لقومه فيما عداه وفي قوله وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
سؤال وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به وظاهر قوله يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا يقتضي أن فيه ما لبس بأحسن وإنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً الأول أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ( الزمر 55 ) وقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 )
فإن قالوا فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن فقد منع من الأخذ بذلك الحسن وذلك يقدح في كونه حسناً فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض
الوجه الثاني في الجواب قال قطرب يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ( العنكبوت 45 ) وقول الفرزدق بيتا دعائمه أعز وأطول
الوجه الثالث قال بعضهم الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات

وأما قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ففيه وجهان الأول أن المراد التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى وعلى هذا التقدير فيه وجهان الأول قال ابن عباس والحسن ومجاهد دار الفاسقين هي جهنم أي فليكن ذكر جهنم حاضراً في خاطركم لتحذروا أن تكونوا منهم والثاني قال قتادة سأدخلكم الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال وقال الكلبي دَارَ الْفَاسِقِينَ هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى
والقول الثاني أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم والله أعلم

بداية الجزء الخامس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَى ِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( الأعراف 145 ) ذكر في هذه الآية ما يعاملهم به فقال سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وذلك ظاهر وقالت المعتزلة لا يمكن حمل الآية على ما ذكرتموه ويدل عليه وجوه
الوجه الأول قال الجبائي لا يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته لأن قوله سَأَصْرِفُ يتناول المستقبل وقد بين تعالى أنهم كفروا فكذبوا من قبل هذا الصرف لأنه تعالى وصفهم بكونهم متكبرين في الأرض بغير الحق وبأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً فثبت أن الآية دالة على أن الكفر قد حصل لهم في الزمان الماضي فهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله
الوجه الثاني أن قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ مذكور على وجه العقوبة على التكبر والكفر فلو كان المراد من هذا الصرف هو كفرهم لكان معناه أنه تعالى خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ومعلوم أن العقوبة على الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز فثبت أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر

الوجه الثالث أنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه فكيف يمكن أن يقول مع ذلك فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الإسراء 94 الكهف 55 ) فثبت أن حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن فوجب حملها على وجوه أخرى
فالوجه الأول قال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به وهو شبيه بقوله بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة
والوجه الثاني في التأويل ما ذكره الجبائي فقال سأصرف هؤلاء المتكبرين على نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدين للأنبياء والمؤمنين وإنما يصرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله
والوجه الثالث أن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات فحينئذ يصرفهم الله عنها
والوجه الرابع أن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها فإذا علم الله ذلك منه صح من الله تعالى أن يصرفه عنه
والوجه الخامس نقل عن الحسن أنه قال إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه فالمراد من قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي هؤلاء فهذا جملة ما قيل في هذا الباب وظهر أن هذه الآية ليس فيها دلالة قوية على صحة ما يقول به في مسألة خلق الأعمال والله أعلم
المسألة الثانية معنى يتكبرون أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبراً وقال بعضهم التكبر إظهار كبر النفس على غيرها وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد وصفة مدح في الله جل جلاله لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق وفي حق غيره باطل
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله بِغَيْرِ الْحَقّ لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة
أما قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي الرُّشْدِ بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين وفرق أبو عمرو بينهما فقال الرُّشْدِ بضم الراء الصلاح لقوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا ( النساء 6 )

أي صلاحاً و الرُّشْدِ بفتحهما الاستقامة في الدين قال تعالى مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً ( الكهف 66 ) وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد مثل الحزن والحزن والسقم والقسم وقيل الرُّشْدِ بالضم الاسم وبالفتحتين المصدر
البحث الثاني سَبِيلَ الرُّشْدِ عبارة عن سبيل الهدى والدين الحق والصواب في العلم والعمل و سَبِيلَ الْغَى ّ ما يكون مضاداً لذلك ثم بيّن تعالى أن هذا الصرف إنما كان لأمرين أحدهما كونهم مكذبين بآيات الله والثاني كونهم غافلين عنها والمراد أنهم واظبوا على الإعراض عنها حتى صاروا بمنزلة الغافل عنها والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاٌّ خِرَة ِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ( الأعراف 146 ) بين حال أولئك المكذبين فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب لأن فيهم من يعمل بعض أعمال البر فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبراً أو متواضعاً أو كان قليل الإحسان أو كان كثير الإحسان فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَة ِ يعني بذلك جحدهم للميعاد وجرأتهم على المعاصي فبين تعالى أن أعمالهم محبطة والكلام في حقيقة الإحباط قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه حذف والتقدير هل يجزون إلا بما كانوا يعملون أو على ما كانوا يعملون واحتج أصحابنا بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم في أن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد أن لا يفعل الواجب وإن لم يصدر منه فعل عند ذلك الواجب قالوا هذه الآية تدل على أنه لا جزاء إلا على العمل وليس ترك الواجب بعمل فوجب أن لا يجازي عليه فثبت أن الجزاء إنما حصل على فعل ضده وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء فسقط الاستدلال
وأجاب أصحابنا عن هذا الجواب بأن الجزاء إنما سمي جزاء لأنه يجزي ويكفي في المنع من المنهي وفي الحث على المأمور به فإن ترتب العقاب على مجرد ترك الواجب كان ذلك العقاب كافياً في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء فثبت أنه لا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء والله أعلم
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ

اعلم أن المراد من هذه الآية قصة اتخاذ السامري العجل وفيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حُلِيّهِمْ بكسر الحاء واللام وتشديد الياء للاتباع كدلي والباقون حُلِيّهِمْ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي كثدي وثدي وقرأ بعضهم مِنْ حُلِيّهِمْ على التوحيد والحلي اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة
المسألة الثانية قيل إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل فجمع السامري تلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلاهاً يعبدونه فصاغ السامري عجلاً ثم اختلف الناس فقال قوم كان قد أخذ كفاً من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلاهكم وإلاه موسى وقال أكثر المفسرين من المعتزلة إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوف مخصوص يشبه خوار العجل وقال آخرون إنه جعل ذلك التمثال أجوب وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار قال صاحب هذا القول والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال ثم ألقى إلى الناس أن هذا العجل إلاههم وإلاه موسى بقي في لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول لم قيل وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً والمتخذ هو السامري وحده
والجواب فيه وجهان الأول أن الله نسب الفعل إليهم لأن رجلاً منهم باشره كما يقال بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد والثاني أنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم اجتمعوا عليه
السؤال الثاني لم قال مِنْ حُلِيّهِمْ ولم يكن الحلي لهم وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية
والجواب أنه تعالى لما أهلك قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الدخان 25 ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( الشعراء 58 ) وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ ( الدخان 27 28 )
السؤال الثالث هؤلاء الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم
والجواب أن قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً يفيد العموم قال الحسن

كلهم عبدوا العجل غير هارون واحتج عليه بوجهين الأول عموم هذه الآية والثاني قول موسى عليه السلام في هذه القصة رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى قال خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدل على من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك وقال آخرون بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 )
السؤال الرابع هل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً على ما قاله بعضهم أو بقي ذهباً كما كان قبل ذلك
والجواب الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين الأول قوله تعالى عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم ومنهم من نازع في ذلك وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك
والحجة الثانية أنه تعالى أثبت له خواراً وذلك إنما يتأتى في الحيوان وأجيب عنه بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه وقرأ علي رضي الله عنه ( جؤار ) بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح فهذا ما قيل في هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلاهاً بقوله أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد وكل من كان كذلك كان إما جماداً وإما حيواناً عاجزاً وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلاهية واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلماً ولا هادياً إلى السبيل لم يكن إلاهاً لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلماً فمن لا يكون متكلماً لم يصح منه الأمر والنهي والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلاهاً وقالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلاهاً أن يكون هادياً إلى الصدق والصواب فمن كان مضلاً عنه وجب أن لا يكون إلاهاً
فإن قيل فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي يجوز أن يتخذ إلاهاً وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلهاً فلا فائدة فيما ذكرتم
والجواب من وجهين الأول لا يبعد أن يكون ذلك شرطاً لحصول الإلهية فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية الثاني أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إلاه والخلق لا يقدرون على الهداية إنما يقدرون على وصف الهداية فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى
واعلم أنه ختم الآية بقوله وَكَانُواْ ظَالِمِينَ أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل والله أعلم

وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ أنه اشتد ندمهم على عبادة العجل واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة
فالوجه الأول قال الزجاج معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعاً في اليد فكذا ههنا
والوجه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فيصير ندمه مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها
والوجه الثالث أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ولهذا قالوا سقط المطر ويقال سقط من يدك شيء وأسقطت المرأة فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب وأن ذلك العمل يورثه شرفاً ورفعة فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلاً فاسداً فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل وسقط من فوق إلى تحت فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ كان ذلك منه سقطة شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن بقي أن يقال فما الفائدة في ذكر اليد فنقول اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث إن بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي
والوجه الرابع حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج يقال منه سقطت الأرض كما يقال من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره
والوجه الخامس قال بعض العلماء النادم إنما يقال له سقط في يده لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد والعاجز في حكم الساقط فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع ضلت يده ورجله

والوجه السادس إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم كقوله وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( 71 ) أي عليها والله أعلم
ثم قال تعالى وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى ف قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم وقرىء ( لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا ) بالتاء وَرَبُّنَا بالنصب على النداء وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِى َ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا لا يمنع من أن يكون قد عرف

خبرهم من قبل في عبادة العجل ولا يوجب ذلك لجواز أن يكون عند الرجوع ومشاهدة أحوالهم صار كذلك فلهذا السبب اختلفوا فيه فقال قوم إنه عند هجومه عليهم عرف ذلك وقال أبو مسلم بل كان عارفاً بذلك من قبل وهذا أقرب ويدل عليه وجوه الأول أن قوله تعالى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا يدل على أنه حال ما كان راجعاً كان غضبان أسفاً وهو إنما كان راجعاً إلى قومه قبل وصوله إليهم فدل هذا على أنه عليه السلام قبل وصوله إليهم كان عالماً بهذه الحالة الثاني أنه تعالى ذكر في سورة طه أنه أخبره بوقوع تلك الواقعة في الميقات
المسألة الثانية في الأسف قولان الأول أن الأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء وعطاء عن ابن عباس واختيار الزجاج واحتجوا بقوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) أي أغضبونا والثاني وهو أيضاً قول ابن عباس والحسن والسدي إن الآسف هو الحزين وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن أبا بكر رجل أسيف أي حزين قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل أسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وقد كان تعالى قال له إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ( طه 85 )
أما بقوله بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى فمعناه بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي وهذا الخطاب إنما يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه ويدل عليه قوله اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى ( الأعراف 142 ) وعلى التقدير الأول يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله وعلى هذا التقدير الثاني يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى وههنا سؤالات
السؤال الأول أين ما يقتضيه ( بئس ) من الفاعل والمخصوص بالذم
والجواب الفاعل مضمر يفسره قوله مَا خَلَفْتُمُونِى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم
السؤال الثاني أي معنى لقوله مِن بَعْدِى بعد قوله خَلَفْتُمُونِى
والجواب معناه من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كانت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأمنعهم من عبادة البقر حين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين
وأما قوله أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ فمعنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته هكذا قاله الواحدي
ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة فلم قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) قال ابن عباس المعنى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له وقال الحسن وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات

وقال عطاء يريد أعجلتم سخط ربكم وقال الكلبي أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجباً له وهو أمران الأول أنه قال وَأَلْقَى يريد التي فيها التوراة ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه ثم أنه ألقاها دل ذلك على شدة الغضب لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش روي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يرحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه على ذلك متمسك بما في يده )
ولقائل أن يقول ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه لجراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام
والأمر الثاني من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب
قوله تعالى رَبّكُمْ وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب الصحيح وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة
فإن قيل فلماذا قال ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى
قلنا الجواب عنه أن هرون عليه السلام خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل فقال له ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وما أطاعوني في ترك عبادة العجل وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام
وأما قوله تعالى ابْنَ أُمَّ فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ابْنَ أُمَّ بكسر الميم وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الأضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة كقوله فَبَشّرْ عِبَادِ والباقون بفتح الميم في السورتين وفيه قولان أحدهما أنهما جعلا اسماً واحداً وبنى لكثرة أصحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر وثانيهما أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
وقوله إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء يعني أصحاب العجل ولا تجعلني مع القوم الظالمين الذين عبدوا العجل أي لا تجعلني شريكاً لهم في عقوبتك لهم على فعلهم فعند هذا قال موسى عليه السلام رَبّ اغْفِرْ لِى أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة وَلاخِى في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ

واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حال من عبد العجل
واعلم أن المفعول الثاني من مفعولي الاتخاذ محذوف والتقدير اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأول أن المراد بالذين اتخذوا العجل هم الذين باشروا عبادة العجل وهم الذين قال فيهم سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وعلى هذا التقدير ففيه سؤال وهو أن أولئك الأقوام تاب الله عليهم بسبب أنهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة عن ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا
والجواب عنه أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمراد بقوله وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا هو أنهم قد ضلوا فذلوا
فإن قالوا السين في قوله سَيَنَالُهُمْ للاستقبال فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا
قلنا هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا فكان هذا الكلام سابقاً على وقوعهم في القتل وفي الذلة فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار
والطريق الثاني أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان
الوجه الأول أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باتخاذ العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم عليهم بأنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ في الآخرة وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا كما قال تعالى في صفتهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ ( لبقرة 61 )
والوجه الثاني أن يكون التقدير إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ أي الذين باشروا ذلك سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ أي سينال أولادهم ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه

أما قوله تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا قال مالك بن أنس ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولاً وذلك بأن يتركها أولاً ويرجع عنها ثم يؤمن بعد ذلك وثانياً يؤمن بالله تعالى ويصدق بأنه لا إله غيره إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران لأن قوله وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ يتناول الكل والتقدير أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين والله أعلم
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاٌّ لْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أقوال
القول الأول أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وكذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فلما زال الغضب صار كأنه سكت
والقول الثاني وهو قول عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة
القول الثالث المراد بالسكوت السكون والزوال وعلى هذا جاز سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ولا يجوز صمت لأن سَكَتَ بمعنى سكن وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام وذلك لا يجوز في الغضب
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هرون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال فيه رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( الأعراف 151 ) وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه
المسألة الثالثة قوله أَخَذَ الاْلْوَاحَ المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى وَأَلْقَى الالْوَاحَ ( الأعراف 15 ) وظاهر هذا يدل على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله وَفِى نُسْخَتِهَا النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتاباً عن كتاب

حرفاً بعد حرف قلت نسخت ذلك الكتاب كأنك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني قال ابن عباس لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى فعلى هذا قوله وَفِى نُسْخَتِهَا أي وفيما نسخ منها وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضاً تكون نسخاً على هذا التقدير وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً أي هُدًى من الضلالة وَرَحْمَة ً من العذاب لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يريد الخائفين من ربهم
فإن قيل التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله لِرَبّهِمُ
قلنا فيه وجوه الأول أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( يوسف 43 ) الثاني أنها لام الأجل والمعنى للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة الثالث أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول وإن كان الفعل متعدياً كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة وألقى يده وألقى بيده وفي القرآن أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) وفي موضع آخر وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ فعلى هذا قوله لِرَبّهِمُ اللام صلة وتأكيد كقوله رَدِفَ لَكُم وقد ذكرنا مثل هذا في قوله وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 )
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره وأصل اختار اختير فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً نحو قال وباع ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفاً فاستويا في اللفظ وتحقيق الكلام فيه أن نقول إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك وصالحة للفعل ولضده وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدراً لأحد الجانبين دون الثاني وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعاً زائداً وصلاحاً راجحاً فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحاً على الترك فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيراً من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلاً فلما كان صدور الفعل

عن الحيوان موقوفاً على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً من تركه لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلاً اختيارياً والله أعلم
فإن قيل إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور
فنقول إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيراً لا شراً وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
المسألة الثانية قال جماعة النحويين معناه واختار موسى من قومه سبعين فحذفت كلمة ( من ) ووصل الفعل فنسب يقال اخترت من الرجال زيداً واخترت الرجال زيداً وأنشدوا قول الفرزدق ومنا الذي اختار الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني من ذلك قولك اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر أستغفر الله ذنباً لست أحصيه
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والله أعلم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله سَبْعِينَ رَجُلاً عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات
المسألة الثالثة ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات
المسألة الرابعة هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر فيه أقوال للمفسرين
القول الأول إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام ودخل فيه وقال للقوم ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه

افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية فقال موسى عليه السلام رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فالمراد منه قولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً
والقول الثاني أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل وثانيها أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل وثالثها أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور الأول أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عوداً إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها فأما ما ذكر بعض القصة ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى فإنه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب والأولى صون كلام الله تعالى عنه الثاني أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر إلا أنهم قَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا فلما لم يقل موسى كذلك بل قال أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية الثالث أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقاً وأنه جعل الجبل دكاً وأما الميقات المذكور في هذه الآية فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة وكيف يقال أخذته الرجفة وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ( الأعراف 143 ) فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات فلما قال في هذه الآية وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات
وجوابه أن هذا الدليل ضعيف ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى والله أعلم
والوجه الثالث في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن موسى وهرون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل فنام هرون فتوفاه الله تعالى فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هرون فاختار موسى قومه سبعين رجلاً وذهبوا إلى هرون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والله أعلم

المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الرجفة فقيل إنها رجفة أوجبت الموت قال السدي قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك فأحياهم الله تعالى فمعنى قوله لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا فقال لربه لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني
والقول الثاني أن تلك الرجفة ما كانت موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم وتنقصم ظهورهم وخاف موسى عليه السلام الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة
أما قوله أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فقال أهل العلم إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم فيجب تأويل الآية وفيه بحثان الأول أنه استفهام بمعنى الجحد وأراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول أتهين من يخدمك أي لا تفعل ذلك الثاني قال المبرد هو استفهام استعطاف أي لا تهلكنا
وأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فقال الواحدي رحمه الله الكناية في قوله هِى َ عائدة إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا وعصمت قوماً عنها فثبتوا على الحق ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى فقال تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ثم قال الواحدي وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر قالت المعتزلة لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ولأنه تعالى قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرجفة ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها فوجب حمل هذه الآية على التأويل فأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فالمعنى امتحانك وشدة تعبدك لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها
وأما قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ففيه وجوه الأول تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن أو إن آمن لكن لا يصبر عليه والثاني أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك والتقدير تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء والثالث أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى وضلال من ضل جاز أن يضافا إليه
واعلم أن هذه التأويلات متسعة والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه وتقريرها من وجوه الأول أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر إلا لأجل داعية مرجحة وخالق تلك الداعية هو الله تعالى وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى الثاني أن أحداً من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمناً محقاً وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى الثالث أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل امتنع أن يخص أحد

الاعتقادين بالتحصيل والتكوين لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلاً وذلك يقتضي كون الشيء مشروطاً بنفسه وأنه محال فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ واعلم أن قوله أَنتَ وَلِيُّنَا يفيد الحصر ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء وقوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا المراد منه أن إقدامه على قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ جراءة عظيمة فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل أو دفعاً للربقة الخسيسة عن القلب وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض بل لمحض الفضل والكرم فوجب القطع بكونه خَيْرُ الْغَافِرِينَ والله أعلم
وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاٌّ خِرَة ِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا من بقية دعاء موسى ( صلى الله عليه وسلم ) عند مشاهدة الرجفة فقوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً معناه أنه قرر أولاً أنه الأولى له إلا الله تعالى وهو قوله أَنتَ وَلِيُّنَا ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران أحدهما دفع الضرر والثاني تحصيل النفع ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر وهو قوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ وقوله وَاكْتُبْ أي وجب لنا والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً
واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء فذكر السبب الأول أولاً وهو كونه تعالى ولياً له وفرع عليه طلب هذه الأشياء ثم ذكر بعده السبب الثاني وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قال المفسرون هُدْنَا أي تبنا ورجعنا إليك قال

الليث ( الهود ) التوبة وإنما ذكر هذا السبب أيضاً لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين كونه إلهاً ورباً وولياً وكوننا عبيداً له تائبين خاضعين خاشعين فالأول عهد عزة الربوبية والثاني عهد ذلة العبودية فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما ولما حكى الله تعالى دعاء موسى عليه السلام ذكر بعده ما كان جواباً لموسى عليه السلام فقال تعالى قال عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه وقرأ الحسن مِنْ أَسَاء من الإساءة واختار الشافعي هذه القراءة وقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء فيه أقوال كثيرة قيل المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقيل الوجود خير من العدم وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصل إليه رحمته وأقل المراتب وجوده وقيل الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب وما بالعرض مرجوح مغلوب وقال المعتزلة الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير لأنه إن كان منتفعاً أو متمكناً من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء وقال أصحابنا قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء
أما قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا
فاعلم أن جميع تكاليف الله محصورة في نوعين الأول التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها والاتقاء منها وهذا النوع إليه الإشارة بقوله لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ والثاني الأفعال وتلك التكاليف إما أن تكون متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه
أما القسم الأول فهو الزكاة وإليه الإشارة بقوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ
وأما القسم الثاني فيدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أما العلم فالمعرفة وأما العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ويدخل فيها الصلاة وإلى هذا المجموع الإشارة بقوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 2 3 )
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الأُمِّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاٌّ غْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أن من صفة من تكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بالآيات ضم إلى ذلك أن يكون من صفته اتباع النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ واختلفوا في ذلك فقال بعضهم المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وقال في قوله وَالإِنجِيلَ أن المراد سيجدونه مكتوباً في الإنجيل لأن من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل وقال بعضهم بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام الرسول فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا الرسول النبي الأمي والقول الثاني أقرب لأن اتباعه قبل أن بعث ووجد لا يمكن فكأنه تعالى بين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى ومن هذه صفته في أيام الرسول إذا كان مع ذلك متبعاً للنبي الأمي في شرائعه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بصفات تسع
الصفة الأولى كونه رسولاً وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف
الصفة الثانية كونه نبياً وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى
الصفة الثالثة كونه أمياً قال الزجاج معنى الامّى ّ الذي هو على صفة أمة العرب قال عليه الصلاة والسلام ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه أمياً قال أهل التحقيق وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والثاني أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( العنكبوت 48 ) الثالث أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين

هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات
الصفة الرابعة قوله تعالى الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وهدا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم النفرات والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته
الصفة الخامسة قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج يجوز أن يكون قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ أنه يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وأقول مجامع الأمر بالمعروف محصورة في قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخضوع والخشوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأن الانتفاع مشروط بالحياة ومع هذا فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله تعالى ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاٌ قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إن الله تعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب إظهار الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه بر الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أن قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ والمراد منه أضداد الأمور المذكورة وهي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين
الصفة السابعة قوله تعالى وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ من الناس من قال المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد لوجهين الأول أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ محض التكرير الثاني أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل
الصفة الثامنة قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ قال عطاء عن ابن عباس يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ وأقول كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم والأصل في المضار الحرمة فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا

لدليل منفصل وعلى هذا الأصل فرع الشافعي رحمه الله تحريم بيع الكلب لأنه روى عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كتاب الصحيحين أنه قال ( الكلب خبيث وخبيث ثمنه ) وإذا ثبت أن ثمنه خبيث وجب أن يكون حراماً لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً الخمر محرمة لأنها رجس بدليل قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) إلى قوله رِجْسٌ والرجس خبيث بدليل إطباق أهل اللغة عليه والخبيث حرام لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ
الصفة التاسعة قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع والباقون عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ على الواحد قال أبو علي الفارسي الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه يدل على ذلك إضافته وهو مفرد إلى الكثرة كما قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( البقرة 20 ) ومن جمع أراد ضروباً من العهود مختلفة والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما في قوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 )
المسألة الثانية الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله والمراد منه أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة وقوله وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ المراد منه الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضار الخاطئة وتتبع العروف من اللحم وجعلها الله أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع عن الفعل وقيل كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعاً لله تعالى فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة لأن كل ما كان ضرراً كان إصراً وغلاً وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضرر ولا ضرار ) في الإسلام ولقوله عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وهو أصل كبير في الشريعة
واعلم أنه لما وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التسع قال بعده فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ قال ابن عباس يعني من اليهود وَعَزَّرُوهُ يعني وقروه قال صاحب ( الكشاف ) أصل التعزير المنع ومنه التعزير وهو الضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح
ثم قال تعالى وَنَصَرُوهُ أي على عدوه وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وقيل الهدى والبيان والرسالة وقيل الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور
فإن قيل كيف يمكن حمل النور ههنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد وإنما أنزل مع جبريل
قلنا معناه إنه أنزل مع نبوته لأن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قَالَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة

قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِى ِّ الأُمِّى ِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين للرسول النبي الأمي حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وفي هذه الكلمة مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق وقال طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية وهم أتباع عيسى الأصفهاني أن محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب وغير مبعوث إلى بني إسرائيل ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية لأن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس
ثم قال إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وهذا يقتضي كونه مبعوثاً إلى جميع الناس وأيضاً فما يعلم بالتواتر من دينه أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى كل العالمين فأما أن يقال إنه كان رسولاً حقاً أو ما كان كذلك فإن كان رسولاً حقاً امتنع الكذب عليه ووجب الجزم بكونه صادقاً في كل ما يدعيه فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق وجب كونه صادقاً في هذا القول وذلك يبطل قول من يقول إنه كان مبعوثاً إلى العرب فقط لا إلى بني إسرائيل
وأما قول القائل إنه ما كان رسولاً حقاً فهذا يقتضي القدح في كونه رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم فثبت أن القول بأنه رسول إلى بعض الخلق دون بعض كلام باطل متناقض
إذا ثبت هذا فنقول قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا من الناس من قال إنه عام دخله التخصيص ومنهم من أنكر ذلك أما الأولون فقالوا إنه دخله التخصيص من وجهين الأول أنه رسول إلى الناس إذاكانوا من جملة المكلفين فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولاً إليهم وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ) والثاني أنه رسول الله إلى كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف العالم لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر معجزاته فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته ومن الناس من أنكر القول بدخول التخصيص في الآية من هذين الوجهين
أما الأول فتقريره أن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب وهذا الخطاب لا يتناول إلا المكلفين وإذا كان كذلك فالناس الذين دخلوا تحت قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ليسوا إلا المكلفين من الناس وعلى هذا التقدير فلم

يلزم أن يقال إن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عام دخله التخصيص
وأما الثاني فلأنه يبعد جداً أن يقال حصل في طرف من أطراف الأرض قوم لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وخبر معجزاته وشرائعه وإذا كان ذلك كالمستبعد لم يكن بنا حاجة إلى التزام هذا التخصيص
المسألة الثانية هذه الآية وإن دلت على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق بل يجب الرجوع في أنه هل كان في غيره من الأنبياء من كان مبعوثاً إلى كل الخلق أم لا إلى سائر الدلائل فنقول تمسك جمع من العلماء في أن أحداً غيره ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق لقوله عليه الصلاة والسلام ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي )
ولقائل أن يقول هذا الخبر لا يتناول دلالته على إثبات هذا المطلوب لأنه لا يبعد أن يكون المراد مجموع هذه الخمسة من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يحصل لأحد سواه ولم يلزم من كون هذا المجموع من خواصه كون واحد من آحاد هذا المجموع من خواصه وأيضاً قيل إن آدم عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع أولاده وعلى هذا التقدير فقد كان مبعوثاً إلى جميع الناس وأن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كان إلا ذلك القوم
أما قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة
الأصل الأول إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وذلك لأن أجسام السموات والأرض تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده أو إن حصل له مؤثر لكن كان ذلك المؤثر موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكناً
والأصل الثاني إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان وأرسل أحد الإلهين نبياً إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقاً له بل كان مخلوقاً للإله الثاني وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته فكان بعثة الرسول إليه وإيجاب الطاعة عليه ظلماً وباطلاً أما إذا ثبت أن الإله واحد فحينئذ يكون جميع الخلق عبيداً له ويكون تكليفه في الكل نافذاً وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازماً فثبت أن ما لم

يثبت كون الإله تعالى واحداً لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكليف جائزاً
والأصل الثالث إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثاً ولغواً وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله يُحْى ِ وَيُمِيتُ لأنه لما أحيا أولاً ثبت كونه قادراً على الإحياء ثانياً فيكون قادراً على الإعادة والحشر والنشر وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاماً عظيماً فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ليكون قيامه بتلك الطاعة قائماً مقام الشكر عن الإحياء الأول وأيضاً لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني فحينئذ يكون قادراً على إيصال الجزاء إليه
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه وأيضاً إنه منعم على الكل بأعظم النعم وأيضاً إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام في أنه يحسن منه تكليف الخلق أما بحسب السبب الأول فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وعلى أن هذا الإله واحد وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ وهذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه لما بين أولاً أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن أردفه بذكر أن محمداً رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولاً ثم حصوله ثانياً ثم إنه بدأ بقوله مَّا كَانَ لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه والأصل يجب تقديمه فلهذا السبب بدأ بقوله مَّا كَانَ ثم أتبعه بقوله وَرَسُولِهِ النَّبِى ّ الامّى ّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبياً حقاً وتقريره أن معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت على نوعين
النوع الأول المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها وأشرفها أنه كان رجلاً أمياً لم يتعلم من أستاذ ولم يطالع كتاباً ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه مع أنه كان رجلاً أمياً لم يلق أستاذاً ولم يطالع كتاباً من أعظم المعجزات وإليه الإشارة بقوله النَّبِى ّ الامّى ّ

والنوع الثاني من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى ألا ترى أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً مخالفاً للمعتاد لا جرم سماه الله تعالى كلمة فكذلك المعجزات لما كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى وهذا النوع هو المراد بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبياً صادقاً من عند الله
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرق الأمر والنهي والترغيب والترهيب وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك فثبت أن لفظ وَاتَّبِعُوهُ يتناول القسمين وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ دليلاً على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل الشيء الذي أتي به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجباً عليه ويحتمل أيضاً أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا كان ذلك تركاً لمتابعته ونقضاً لمبايعته والآية تدل على وجوب متابعته فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا
قلنا المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل قيل إنه تابعه عليه ولو لم يأت به قيل إنه خالفه فيه فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب فنقول حال الدواعي والعزائم غير معلوم وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي لكونها أموراً مخفية عنا وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها فزالت هذه الشبهة وتقريره أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل
إذا عرفت هذا فنقول إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال
قلنا إن هذا العمل فعله أفضل من تركه وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ نعمل أن الرسول قد أتى به في الجملة لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك والمشكوك لا يعارض المعلوم فثبت أنه

عليه السلام أتى بالجانب الأفضل ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية وَاتَّبِعُوهُ فهذا أصل شريف وقانون كلي في معرفة الأحكام دال على النصوص لقوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 ) فوجب علينا مثله لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
وأما قوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ففيه بحثان أحدهما أن كلمة ( لعل ) للترجي وذلك لا يليق بالله فلا بد من تأويله والثاني أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة
وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
واعلم أنه تعالى لما وصف الرسول وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من اتبع الحق وهدى إليه وبين أنهم جماعة لأن لفظ الأمة ينبىء عن الكثرة واختلفوا في أن هذه الأمة متى حصلت وفي أي زمان كانت فقيل هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا والاعتراض عليه بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة يمكن الجواب عنه بأنه لما كانوا مختلفين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقيل إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك وقال السدي وجماعة من المفسرين إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط في جملة الإثني عشر فما صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ثم هؤلاء اختلفوا منهم من قال إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن ومنهم من قال إنهم الآن على دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يستقبلون الكعبة وتركوا السبت وتمسكوا بالجمعة لا يتظالمون ولا يتحاسدون ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد وقال بعض المحققين هذا القول ضعيف لأنه إما أن يقال وصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو ما وصل إليهم هذا الخبر
فإن قلنا وصل خبره إليهم ثم إنهم أصروا على اليهودية فهم كفار فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وإن قلنا بأنهم لم يصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا بعيد لأنه لما وصل خبرهم إلينا مع أن الدواعي لا تتوفر على نقل أخبارهم فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمد عليه الصلاة والسلام مع أن الدنيا قد امتلأت من خبره وذكره
فإن قالوا أليس إن يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم
قلنا هذا ممنوع فمن أين عرف أنه لم يصل خبرنا إليهم فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
إذا عرفت هذا فنقول قوله يَهْدُونَ بِالْحَقّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال

الزجاج العدل الحكم بالحق يقال هو يقضي بالحق ويعدل وهو حكم عادل ومن ذلك قوله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء ( النساء 129 ) وقوله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ( الأنعام 152 )
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل أحدهما أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطاً وقد تقدم هذا في سورة البقرة أو المراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلاً من أولاد يعقوب فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج وقوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض وقرىء وَقَطَّعْنَاهُمُ بالتخفيف وههنا سؤالان
السؤال الأول مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل اثني عشر سبطاً
والجواب المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط فوضع أسباطاً موضع قبيلة
السؤال الثاني قال اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا مع أن السبط مذكر لا مؤنث
الجواب قال الفراء إنما قال ذلك لأنه تعالى ذكر بعده أُمَمًا فذهب التأنيث إلى الأمم
ثم قال ولو قال اثني عشر لأجل أن السبط مذكر كان جائزاً وقال الزجاج المعنى وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ فرقة أَسْبَاطًا فقوله أَسْبَاطًا نعت لموصوف محذوف وهو الفرقة وقال أبو علي الفارسي ليس قوله أَسْبَاطًا تمييزاً ولكنه بدل من قوله اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ
وأما قوله أُمَمًا قال صاحب ( الكشاف ) هو بدل من اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بمعنى وقطعناهم أمما لأن كل سبط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى ولا تكاد تأتلف وقرىء اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بكسر الشين
النوع الثاني من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ وهذه القصة أيضاً قد تقدم ذكرها في سورة البقرة قال الحسن ما كان إلا حجراً اعترضه وإلا عصاً أخذها
واعلم أنهم كانوا ربما احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب

بعصاه الحجر وكانوا يريدونه مع أنفسهم فيأخذوا منه قدر الحاجة وقوله فَانبَجَسَتْ قال الواحدي فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره يقال بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر هذا قول أهل اللغة ثم قال والانبجاس والانفجار سواء وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور ههنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة وقال آخرون الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء ولما ذكر تعالى أنه كيف كان يسقيهم ذكر ثانياً أنه ظلل الغمام عليهم وثالثا أنه أنزل عليهم المن والسلوى ولا شك أن مجموع هذه الأحوال نعمة عظيمة من الله تعالى لأنه تعالى سهل عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه ودفع عنهم مضار الشمس
ثم قال كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ والمراد أقصر أنفسهم على ذلك المطعوم وترك غيره
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وفيه حذف وذلك لأن هذا الكلام إنما يحسن ذكره لو أنهم تعدوا ما أمرهم الله به وذلك إما بأن تقول إنهم ادخروا مع أن الله منعهم منه أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله عنه أو لأنهم سألوا غير ذلك مع أن الله منعهم منه ومعلوم أن المكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه فلذلك وصفهم الله تعالى به ونبه بقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وذلك أن المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلا نفسه حيث سعى في صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِي ئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه لقصة أيضاً مذكورة مع الشرح والبيان في سورة البقرة
بقي أن يقال إن ألفاظ هذه الآية تخالف ألفاظ الآية التي في سورة البقرة من وجوه الأول في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) وههنا قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ والثاني أنه قال في سورة البقرة فَكُلُواْ بالفاء وههنا وَكُلُواْ بالواو والثالث أنه قال في سورة البقرة رَغَدًا وهذه الكلمة غير مذكورة في هذه السورة والرابع أنه قال في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وقال ههنا على التقديم والتأخير والخامس أنه قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وقال ههنا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ والسادس أنه قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وههنا حذف

حرف الواو والسابع أنه قال في سورة البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وقال ههنا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ والثامن أنه قال في سورة البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقال ههنا بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة
أما الأول وهو أنه قال في سورة البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وقال ههنا اسْكُنُواْ فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولاً ثم سكونها ثانياً
وأما الثاني فهو أنه تعالى قال في البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ بالفاء وقال ههنا اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة كما يوجد بعضها ينعدم فإنه إنما يكون داخلاً في أول دخوله وأما ما بعد ذلك فيكون سكوناً لا دخولاً
إذا ثبت هذا فنقول الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده فلهذا قال ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معه لا عقيبه فظهر الفرق
وأما الثالث وهو أنه ذكر في سورة البقرة رَغَدًا وما ذكره هنا فالفرق الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم ذكر فيه قوله رَغَدًا وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة فلا جرم ترك قوله رَغَدًا فيه
وأما الرابع وهو قوله في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي سورة الأعراف على العكس منه فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير
وأما الخامس وهو أنه قال في سورة البقرة خَطَايَاكُمْ وقال ههنا خَطِيئَاتِكُمْ فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع
وأما السادس وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ بالواو وههنا حذف الواو فالفائدة في حذف الواو أنه استئناف والتقدير كان قائلاً قال وماذا حصل بعد الغفران فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
وأما السابع وهو الفرق بين قوله أَنزَلْنَا وبين قوله أَرْسَلْنَا فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله فَانبَجَسَتْ وبين قوله فَانفَجَرَتْ
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله يَظْلِمُونَ وبين قوله يَفْسُقُونَ فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة وتمام العلم بها عند الله تعالى

وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذه القصة أيضاً مذكورة في سورة البقرة وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى واسألهم المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء الأول أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهاً لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمعجزاته ليس شيئاً حدث في هذا الزمان بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلاً في أسلافهم من الزمان القديم
والفائدة الثانية أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة وغير ذاهل عن دقائقها ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً أمياً لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان كان ذلك جارياً مجرى المعجز
المسألة الثانية الأكثرون على أن تلك القرية أيلة وقيل مدين وقيل طبرية والعرب تسمى المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن وقوله الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى ذالِكَ لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 196 ) وقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ يعني يجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه وقرىء يَعْدُونَ بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و يَعْدُونَ من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و السَّبْتِ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ويؤكده أيضاً قراءة عمر بن عبد العزيز يَوْمٍ وقرىء وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ بضم الباء وقرأ على رضى الله عنه لاَ يَسْبِتُونَ بضم الياء من أسبتوا وعن الحسن لاَ يَسْبِتُونَ على البناء للمفعول وقوله إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ نصب بقوله يَعْدُونَ والمعنى سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان وقوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع ودار شارعة أي دنت من الطريق ونجوم شارعة أي دنت من المغيب وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها قال ابن عباس ومجاهد إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد

فيه وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل وذلك بلاء ابتلاهم الله به فذلك معنى قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ وقوله كَذالِكَ نَبْلُوهُم أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن ذل الكفر والمعصية فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّة ٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّو ءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن قوله وَإِذْ قَالَتِ معطوف على قوله إِذْ يَعْدُونَ وحكمه حكمه في الأعراب وقوله أُمَّة ٌ مّنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين ما كانوا يقلعون عن وعظهم وقوله لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا لتماديهم في الشر وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفعهم وقوله قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قرأ حفص عن عاصم مَعْذِرَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب مَعْذِرَة ً فقال الزجاج معناه نعتذر معذرة وأما من رفع فالتقدير هذه معذرة أو قولنا معذرة وهي خبر لهذا المحذوف
البحث الثاني المعذرة مصدر كالعذر وقال أبو زيد عذرته أعذره عذراً ومعذرة ومعنى عذره في اللغة أي قام بعذره وقيل عذره يقال من يعذرني أي يقوم بعذري وعذرت فلاناً فيما صنع أي قمت بعذره فعلى هذا معنى قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر
قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين وقال الأزهري المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر وأقيم مقام الاعتذار كأنهم قالوا موعظتنا اعتذار إلى ربنا فأقيم الاسم مقام الاعتذار ويقال اعتذر فلان اعتذاراً وعذراً ومعذرة من ذنبه فعذرته وقوله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب

إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية قولان
القول الأول أن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب ومنهم من لم يفعل ذلك وهذا القسم الثاني صاروا قسمين منهم من وعظ الفرقة المذنبة وزجرهم عن ذلك الفعل ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم لم تعظوهم مع العلم بأن الله مهلكهم أو معذبهم يعني أنهم قد بلغوا في الإصرار على هذا الذنب إلى حد لا يكادون يمنعون عنه فصار هذا الوعظ عديم الفائدة عديم الأثر فوجب تركه
والقول الثاني أن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة أقدمت على الذنب وفرقة أحجموا عنه ووعظوا الأولين فلما اشتغلت هذه الفرقة بوعظ الفرقة المذنبة المتعدية المقدمة على القبيح فعند ذلك قالت الفرقة المذنبة للفرقة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ بزعمكم قال الواحدي والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ خطاباً من الفرقة الناهية للفرقة المعتدية لقالوا وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أما قوله فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ يعني أنهم لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين المقدمين على فعل المعصية
واعلم أن لفظ الآية يدل على أن الفرقة المتعدية هلكت والفرقة الناهية عن المنكر نجت أما الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ فقد اختلف المفسرون في أنهم من أي الفريقين كانوا فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توقف فيه ونقل عنه أيضاً هلكت الفرقتان ونجت الناهية وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئاً قال الحسن الفرقة الساكتة ناجية فعلى هذا نجت فرقتان وهلكت الثالثة واحتجوا عليه بأنهم لما قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ دل ذلك على أنهم كانوا منكرين عليهم أشد الإنكار وأنهم إنما تركوا وعظهم لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ ولا ينتفعون به
فإن قيل إن ترك الوعظ معصية والنهي عنه أيضاً معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ
قلنا هذا غير لازم لأن النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين ثم ذكر أنه تعالى أخذهم بعذاب بئيس والظاهر أن هذا العذاب غير المسخ المتأخر ذكره وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفي هذه اللفظة قراآت أحدها بَئِيسٍ بوزن فعيل قال أبو علي وفيه وجهان الأول أن يكون فعيلاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد والآخر ما قاله أبو زيد وهو أنه من البؤس وهو الفقر يقال بئس الرجل يبأس بؤساً وبأساً وبئيساً إذا افتقر فهو بائس أي فقير فقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي ذي بؤس والقراءة الثانية بِئْسَ بوزن حذر والثالثة بيس على قلب الهمزة ياء كالذيب في ذئب والرابعة بيئس على فيعل والخامسة بيس كوزن ريس على قلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها والسادسة بيس على تخفيف بيس كهين في هين وهذه القراآت نقلها صاحب ( الكشاف ) ثم بين تعالى أنهم مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا

فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ
وفيه مباحث
البحث الأول العتو عبارة عن الإباء والعصيان وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا لأنهم أبوا عما نهوا عنه ومعلوم أنه ليس المراد ذلك فلا بد من إضمار والتقدير فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ثم حذف المضاف وإذا أبوا ترك المنهي كان ذلك ارتكاباً للمنهى
البحث الثاني من الناس من قال إن قوله عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً ليس من المقال بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك قال وفيه دلالة على أن قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) هو بمعنى الفعل لا الكلام وقال الزجاج أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع فيكون أبلغ
واعلم أن حمل هذا الكلام على هذا بعيد لأن المأمور بالفعل يجب أن يكون قادراً عليه والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة
البحث الثالث قال ابن عباس أصبح القوم وهم قردة صاغرون فمكثوا كذلك ثلاثاً فرآهم الناس ثم هلكوا ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شباب القوم صاروا قردة والشيوخ خنازير وهذا القول على خلاف الظاهر واختلفوا في أن الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم ولا دلالة في الآية عليه والكلام في المسخ وما فيه من المباحثات قد سبق بالاستقصاء في سورة البقرة والله أعلم
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة قال سيبويه أذن أعلم وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ( الأعراف 44 ) وقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن أي أعلم ولفظة تفعل ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئاً ليس فيه بل معناه فعل فقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن كما في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( يونس 18 ) معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن اللام في قوله لَيَبْعَثَنَّ جواب القسم لأن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ جار مجرى القسم في كونه جازماً بذلك الخبر
البحث الثاني الضمير في قوله عَلَيْهِمْ يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( الأعراف 166 )

لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف ثم اختلفوا فقال بعضهم المراد نسلهم والذين بقوا منهم وقال آخرون بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية وقال الأكثرون هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى شريعته وهذا أقرب لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وزجرهم عن البقاء على اليهودية لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا
البحث الثالث لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية فأما الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فخارجون عن هذا الحكم
أما قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم هو أخذ الجزية وقيل الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ وقيل القتل والقتال وقيل الإخراج والإبعاد من الوطن وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز وأن الذل يلزمهم والصغار لا يفارقهم ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخباراً صدقاً عن الغيب فكان معجزاً والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ثم دانوا بإلهيته فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر وذلك خلاف هذه الآية واحتج بعض العلماء على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ ( آل عمران 112 ) إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جداً واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم فقال بعضهم الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم وهذا القائل حمل قوله لَيَبْعَثَنَّ على نحو قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية وترك المنع فكذلك البعثة وهذا القائل قال المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في الإيمان بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

واعلم أن قوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 167 ) المراد جملة اليهود ومعنى قطعناهم أي فرقناهم تفريقاً شديداً فلذلك قال بعده وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة وهذا هو الغالب من حال اليهود ومعنى قطعناهم فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم
ثم قال مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق وقال ابن عباس ومجاهد يريد الذين أدركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنوا به وقوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ أي ومنهم قوم دون ذلك والمراد من أقام على اليهودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ من يكون صالحاً إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب
قلنا أن قوله بعد ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح
أما قوله وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات وهي النعم والخصب والعافية والسيئات هي الجدب والشدائد قال أهل المعاني وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب وقوله يَرْجِعُونَ يريد كي يتوبوا
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاٌّ دْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
اعلم أن قوله فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره أن الأول ممدوح والثاني مذموم وإذا كان كذلك فيجب أن يكون المراد فخلف من بعد الصالحين منهم الذين تقدم ذكرهم خلف قال الزجاج الخلف ما أخلف عليك مما أخذ منك فلهذا السبب يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف ويقال فيه أيضاً خلف وقال أحمد بن يحيى الناس كلهم يقولون خلف صدق وخلف سوء وخلف للسوء لا غير وحاصل

الكلام أن من أهل العربية من قال الخلف والخلف قد يذكر في الصالح وفي الرديء ومنهم من يقول الخلف مخصوص بالذم قال لبيد وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنهم من يقول الخلف المستعمل في الذم مأخوذ من الخلف وهو الفساد يقال للردىء من القول خلف ومنه المثل المشهور سكت ألفاً ونطق خلفاً وخلف الشيء يخلف خلوفاً وخلفاً إذا فسد وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته وقوله يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وأما العرض بسكون الراء فما خالف العين أعني الدراهم والدنانير وجمعه عروض فكان كل عرض عرضاً وليس كل عرض عرضاً والمراد بقوله عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وفي قوله هَاذَا الاْدْنَى تخسيس وتحقير و الاْدْنَى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون سيغفر لنا
ثم قال وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ والمراد الأخبار عن إصرارهم على الذنوب وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أي التوراة أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وقيل المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار وذلك قول باطل
فإن قيل فهذا القول يدل على أن حكم التوراة هو أن صاحب الكبيرة لا يغفر له
قلنا أنهم كانوا يقطعون بأن هذه الكبيرة مغفورة ونحن لا نقطع بالغفران بل نرجو الغفران ونقول إن بتقدير أن يعذب الله عليها فذلك العذاب منقطع غير دائم
ثم قال تعالى وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه
ثم قال وَالدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به وقرأ أبو بكر عن عاصم يُمَسّكُونَ مخففة والباقون بالتشديد أما حجة عاصم فقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( البقرة 229 ) وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( الأحزاب 37 ) وقوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ( المائدة 4 ) قال الواحدي والتشديد أقوى لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة ولأنه يقال أمسكته وقلما يقال أمسكت به
إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ قولان
القول الأول أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والمعنى إنا لا نضيع أجرهم وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) وهذا الوجه حسن لأنه لما ذكر وعيد من ترك التمسك بالكتاب أردفه بوعد من تمسك به

والقول الثاني أن يكون مجروراً عطفاً على قوله الَّذِينَ يَتَّقُونَ ويكون قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ زيادة مذكورة لتأكيد ما قبله
فإن قيل التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردت بالذكر
قلنا إظهاراً لعلو مرتبة الصلاة وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال أبو عبيدة أصل النتق قلع الشيء من موضعه والرمي به يقال نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبه وامرأة ناتق ومنتاق إذا كثر ولدها لأنها ترمي بأولادها رمياً فمعنى نَتَقْنَا الْجَبَلَ أي قلعناه من أصله وجعلناه فوقهم وقوله كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ قال ابن عباس كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال وهذه القصة مذكورة في سورة البقرة وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ( الأعراف 171 ) قال المفسرون علموا وأيقنوا وقال أهل المعاني قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوه وهذا هو الأظهر في معنى الظن ومضى الكلام فيه عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) روى أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة
ثم قال تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي وقلنا خذوا ما آتيناكم أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ من الأوامر والنواهي أي واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب ويجوز أن يراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ ( الرحمن 33 ) واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لعلكم تتقون ما أنتم عليه
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّة ً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع توابعها على أقصى الوجوه ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين وفي تفسير هذه الآية قولان الأول وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عنها فقال ( إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة ) وقال مقاتل ( إن الله مسح صفحة ظهر آدم سوداء كهيئة الذر فقال يآدم هؤلاء ذريتك
ثم قال لهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرة والكلبي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذريته قوماً لهم نور فقال يا رب من هم فقال الأنبياء ورأى واحداً هو أشدهم نوراً فقال من هو قال داود قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة وكان عمر آدم ألف سنة فلما تم عمر آدم تسعمائه وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه فقال بقي من أجلي أربعون سنة فقال ألست قد وهبته من ابنك داود فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها أما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه
الحجة الأولى لهم قالوا قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ لا شك أن قوله مِن ظُهُورِهِمْ يدل من قوله وَإِذْ أَخَذَ فيكون المعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم وعلى هذا التقدير فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً
الحجة الثانية أنه لو كان المرا أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال مِن ظُهُورِهِمْ بل كان يجب أن يقول من ظهره لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد وكذلك قوله ذُرّيَّتُهُم لو كان آدم لقال ذريته

الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا وهذا الكلام يليق بأولا آدم لأنه عليه السلام ما كان مشركاً
الحجة الرابعة أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلاً فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة وجب القول بمقتضاه فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ
الحجة الخامسة أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع
الحجة السادسة أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام
الحجة السابعة قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان
الحجة الثامنة قال الكعبي إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات
وأجاب الزجاج عنه فقال لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ( النمل 18 ) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ( الأنبياء 79 ) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا

الحجة التاسعة أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا كذلك فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال وأما الثاني وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم
الحجة العاشرة قوله تعالى فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 5 6 ) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة
قلنا هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل
الحجة الحادية عشرة هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع بقي القول الأول فنقول إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات أولها وقت الميثاق وثانيها في الدنيا وثالثها في القبر ورابعها في القيامة وأنه حصل له الموت ثلاث مرات موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول وموت في الدنيا وموت في القبر وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 )
الحجة الثانية عشرة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنين 12 ) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب وذلك باطل لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة والعلقة والمضغة ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة وهو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وقوله قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ( عبس 17 18 ) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان ولذلك نظائر منها قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )

ومنها قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني
قال سل من يدقني
فإن الذي ورايي
ما خلاني ورايي
وقال الشاعر امتلأ الحوض وقال قطنى
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام فوجب حمل الكلام عليه فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين وهذا القول الثاني لاطعن فيه البتة وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافياً لصحة القول الأول إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا
فإن قال قائل فما المختار عندكم فيه
قلنا ههنا مقامان أحدهما أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر والثاني أن بتقدير أن يصح القول به فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية
أما المقام الأول فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع
أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن
قلنا خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها
فإن قالوا فإذا جوزتم هذا فجوزوا أن يقال إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدانا
قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان وأقل وقت فلم يبعد حصول النسيان فيه والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه فقد ظهر الفرق
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام قلنا عندنا البنية ليست شرطاً لحصول الحياة والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ قابل للحياة والعقل فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهراً فرداً فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا الإنسان جوهر فرد وجزء لا يتجزأ في البدن على ما هو مذهب بعض القدماء وأما إذا قلنا الإنسان هو النفس الناطقة وإنه جوهر غير متحيز ولا حال في المتحيز فالسؤال زائل

وأما الوجه الثالث وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا
فجوابنا أن نقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأيضاً أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف فكذا ههنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف وقيل أيضاً إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين
وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخد الميثاق من الذر فهل يمكن جعله تفسيراً لألفاظ هذه الآية فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولاً دافعة لذلك لأن قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ فقد بينا أن المراد منه وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم وأيضاً لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم أجاب الناصرون لذلك القول بأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن فنقول ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضاً ما يدل على بطلانه إلا أن الخبر قد دل عليه فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر وعلى هذا التقدير فلا منافاه بين الأمرين ولا مدافعة فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن بقدر الإمكان فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر و ذرياتهم بالألف على الجمع والباقون وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم على الواحد قال الواحدي الذرية تقع على الواحد والجمع فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله مَا هَاذَا بَشَرًا وعلى الجمع كقوله أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( التغابن 6 ) وقوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال إن الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه وإن كان جميعاً فجمعه أيضاً حسن لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت نحو الطرقات والجدرات وهو اختيار يونس أما قوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فنقول أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها وأما على قول من أنكره قال إنها محمولة على التمثيل والمعنى أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وشهدت بها عقولهم فصار ذلك جارياً مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته أما قوله شَهِدْنَا ففيه قولان
القول الأول أنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا بَلَى قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله قَالُواْ بَلَى لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا وقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ تقريره أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار لئلا يقولوا ما

أقررنا فأسقط كلمة ( لا ) كما قال وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) يريد لئلا تميد بكم هذا قول الكوفيين وعند البصريين تقريره شهدنا كراهة أن يقولوا
والقول الثاني أن قوله شَهِدْنَا من بقية كلام الذرية وعلى هذا التقرير فقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ متعلق بقوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ والتقدير وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله شَهِدْنَا لأن قوله أَن يَقُولُواْ متعلق بما قبله وهو قوله وَأَشْهَدَهُمْ فلم يجز قطعه منه واختلف القراء في قوله أَن يَقُولُواْ أو تقولوا فقرأ أبو عمرو بالياء جميعاً لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لّئَلاَّ يَقُولُواْ وِقْراً رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى
أما قوله أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ قال المفسرون المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك وهو المراد من قوله أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ والحاصل أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل قالوا معنى الآية إنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ فما نبهنا عليه منبه أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء
ثم قال وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ والمعنى أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وهو المراد من قوله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقيل أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد وفي الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعم فقال كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته ويقال أيضاً إنه كان نبياً من أنبياء الله فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافراً وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( آمن شعره وكفر قلبه ) يريد أن شعره كشعر المؤمنين وذلك أنه يوحد الله في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار وقيل نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد بن المسيب وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحسن والأصم وقيل هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم
فإن قال قائل فهل يصح أن يقال إن المذكور في هذه الآية كان نبياً ثم صار كافراً
قلنا هذا بعيد لأنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف والدرجات العالية والمناقب العظيمة فمن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر
أما قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ففيه قولان
القول الأول ( آتيناه آياتنا ) يعني علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عالماً بها فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي خرج من محبة الله إلى معصيته ومن رحمة الله إلى سخطه ومعنى انسلخ خرج منها يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه
والقول الثاني ما ذكره أبو مسلم رحمه الله فقال قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي بيناها فلم يقبل وعرى منها وسواء قولك انسلخ وعرى وتباعد وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا ( النساء 47 ) وقال في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون فأعرض وأبى وكان عادياً ضالاً متبعاً للشيطان

واعلم أن حاصل الفرق بين القولين هو أن هذا الرجل في القول الأول كان عالماً بدين الله وتوحيده ثم خرج منه وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها والقول الأول أولى لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها وأيضاً فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالماً بدين الله تعالى ثم خرج منه إلى الكفر والضلال
أما قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ففيه وجوه الأول أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له والثاني قال عبد الله بن مسلم فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي أدركه يقال أتبعت القوم أي لحقتهم قال أبو عبيدة ويقال أتبعت القوم مثال أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ويقال ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم أي حتى أدركتهم وقوله فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين قال أهل المعاني المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى وخاب في الآخرة والأولى فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قال أصحابنا معناه ولو شئنا رفعناه للعمل بها فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته ولفظة لَوْ تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان وقد يريد الكفر وقال المعتزلة لفظ الآية يحتمل وجوهاً أخرى سوى هذا الوجه فالأول قال الجبائي معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن نكرمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان الثاني لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً وجبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره
والجواب عن الأول أن حمل الرفعة على الأماتة بعيد وعن الثاني أنه تعالى إذا منعه منه قهراً لم يكن ذلك موجباً للثواب والرفعة
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ قال أصحاب العربية أصل الإخلاد اللزوم على الدوام وكأنه قيل لزم الميل إلى الأرض ومنه يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به قال مالك بن سويد بأبناء حي من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قال ابن عباس وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ يريد مال إلى الدنيا وقال مقاتل بالدنيا وقال الزجاج سكن إلى الدنيا قال الواحدي فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا وذلك لأن الدنيا هي الأرض لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض وإنما يقوى ويكمل بها فالدنيا كلها هي الأرض فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض ونقول لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ إلا أن قوله وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ معناه أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى فلا جرم وقع في هاوية الردى وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا

الرجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ) أو لفظ هذا معناه
ثم قال تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث قال الليث اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهو الكلب اللاهث وفي تقرير هذا التمثيل وجوه الأول أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء وفي حال الراحة وفي حال العطش وفي حال الري فكان ذلك عادة منه وطبيعة وهو مواظب عليه كعادته الأصلية وطبيعته الخسيسة لا لأجل حاجة وضرورة فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا ويلقى نفسه فيها كانت حاله كحال ذلك اللاهث حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح لمجرد نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة لا لأجل الحاجة والضرورة والثاني أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة البتة فكذلك الأنسان الحريص لا يزال حرصه البتة
أما قوله تعالى إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضاً لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له
فإن قيل ما محل قوله إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث
قلنا النصب على الحال كأنه قيل كمثل الكلب ذليلاً لاهثاً في الأحوال كلها
ثم قال تعالى ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال

ثم قال فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يريد يتعظون
سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال بعد تمثيلهم بالكلب ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا وزجر بذلك عن الكفر والتكذيب أكده في باب الزجر بقوله تعالى سَاء مَثَلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال ساءت الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح وساءه يسوءه مساءة قال النحويون تقديره ساء مثلاً مثل القوم انتصب مثلاً على التمييز لأنك إذا قلت ساء جاز أن تذكر شيئاً آخر سوى مثلاً فلما ذكرت نوعاً فقد ميزته من سائر الأنواع وقولك القوم ارتفاعه من وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون قولك ساء مثلاً خبره والثاني أنك لما قلت ساء مثلاً قيل لك من هو قلت القوم فيكون رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف وقرأ الجحدري ساء مثل القوم
البحث الثاني ظاهر قوله سَاء مَثَلاً يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكفر والدعوة إلى الإيمان فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلب اللاهث
أما قوله تعالى وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ فإما أن يكون معطوفاً على قوله كَذَّبُواْ فيدخل حينئذ في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب وإما تقديم المفعول فهو للاختصاص كأنه قيل وخصوا أنفسهم بالظلم وما تعدى أثر ذلك الظلم عنهم إلى غيرهم
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله وأن الضلال من الله تعالى وعند هذه اضطربت المعتزلة وذكروا في التأويل وجوهاً كثيرة الأول وهو الذي ذكره الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة فهو المهتدي في الدنيا السالك طريقة الرشد فيما كلف فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والثاني

قال بعضهم إن في الآية حذفاً والتقدير من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر الثالث أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتدياً فهو المهتدي لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك الوصف الممدوح ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والرابع أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة قد دلت على أن الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه الأول أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله الثاني أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد الثالث أن كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره ثم نقول
أما التأويل الأول فضعيف لأنه حمل قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى على الاهتداء إلى الحق في الدنيا وذلك يوجب ركاكة في النظم بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يكون الكلام حسن النظم
وأما الثاني فإنه التزام لإضمار زائد وهو خلاف اللفظ ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة
وأما الثالث فضعيف لأن قول القائل فلان هدى فلاناً لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتدياً وقياس هذا على قوله فلان ضلل فلاناً وكفره قياس في اللغة وأنه في نهاية الفساد والرابع أيضاً باطل لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار فحمل الآية على هذا التأويل بعيد والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( الأعراف 178 ) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل ويجوز حذفها طلباً للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب فطرت بمنصلي في يعملات
دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضاً كخوف ريش حمامة نجدية
مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء
وأما قوله وَمَن يُضْلِلِ يريد ومن يضلله الله ويخذله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي خسروا الدنيا والآخرة

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وتقريره من وجوه الأول أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان الله الثاني أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلاً وخبره الصدق كذباً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال فعدم دخولهم في النار محال ومن علم كون الشيء محالاً امتنع أن يريده فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية الثالث أن القار على الكفر إن لم يقدر على الإيمان فالذي خلق فيه القدرة على الكفر فقد أراد أن يدخله في النار وإن كان قادراً على الكفر وعلى الإيمان معاً امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل وإن حصل من قبله تعالى فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر فقد خلقه للنار قطعاً الرابع أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار فحينئذ حصل مراد العبد ولم يحصل مراد الله تعالى فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل والخامس أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى
فإن قالوا العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح
فنقول فعلى هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ قالت المعتزلة لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم لأن كثيراً من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة والخير والصلاح قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الفتح 8 9 ) وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) وقال وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ( الفرقان 50 ) وقال هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( الحديد 9 ) وقال وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( الحديد 25 )

وقال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( إبراهيم 10 ) وقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وأمثال هذه الآيات كثيرة ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ على ظاهره
الوجه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا مخلوقين للنار ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان
الوجه الثالث وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلاً لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم كالقطرة في البحر وكان كمن دفع إلى إنسان حلواً مسموماً فإنه لا يكون منعماً عليه فكذا ههنا ولما كان القرآن مملوأ من كثرة نعمة الله على كل الخلق علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم
الوجه الرابع أن المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه
الوجه الخامس لو أنه تعالى خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم
الوجه السادس أن قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ متروك الظاهر لأن جهنم اسم لذلك الموضع المعين ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مراداً منه فثبت أنه لا بد وأن يقال إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف فكأنه قال ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر فيجب بناؤها على قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ لأن ظاهرها يصح دون حذف
الوجه السابع أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار فكان قولنا أولى فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها فوجب المصير فيه إلى التأويل وتقريره أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والأنس هي الدخول في نار جهنم جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك لكنهم لما قالوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ وأيضاً قال تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ( يونس 88 ) وأيضاً قال تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وهم ما التقطوه لهذا الغرض إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ وأما الشعر فأبيات قال

وللموت تغدوا الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال له ملك ينادي كل يوم
لدوا للموت وابنو للخراب
وقال وأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثاً وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة فهي معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 178 ) وهو صريح مذهبنا وما بعد هذه الآية وهو قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 182 183 ) ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفاً جداً
أما قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة
والجواب أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عافل من نفسه ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور حبك الشيء يعمي ويصم

إذا ثبت هذا فنقول إن أقواماً من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب ( مناقب الشافعي ) رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص وإن أهلكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن سعد بالرضا شقي بالسخط وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع وإن وجد مالاً أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أجهده الجوع قعد به الضعف فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب ( الأحياء ) فصلاً في تقرير مذهب الجبر
ثم قال فإن قيل إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري ثم قال وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئته وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه ما أظنك أن تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار
المسألة الثانية احتج العلماء بقوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا على أن محل العلم هو القلب لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم
أما قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة ومتشاركة أيضاً في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام
ثم قال بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل والإنسان أعطي القدرة

على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها فلهذا السبب قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال حكيم الشعراء الروح عند إله العرش مبدؤه
وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله بَلْ هُمْ أَضَلُّ وجوه أخرى فقيل لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع وقال مقاتل هم أخطأ طريقاً من الأنعام لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه وقال الزجاج بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب وقيل إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها وقيل لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد فأما إذا كان معها مرشد قلماتضل وهؤلاء الكفاء قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال عطاء عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب
وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أمر بعده بذكر الله تعالى فقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى مذكور في سور أربعة أولها هذه السورة وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيَّامًا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 11 ) وثالثها في أول طه وهو قوله اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) ورابعها في آخر الحشر وهو قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الحشر 24 )
إذا عرفت هذا فنقول الاْسْمَاء ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين عدم

افتقاره إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتاباً كبيراً كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه ( بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات ) من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه ونحن نذكر ههنا لمعاً ونكتاً منها فنقول إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة
الوجه الأول أن نقول الاسم إما أن يكون اسماً للذات أو لجزء من أجزاء الذات أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء وكل ما كان كذلك فهو ممكن فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء
وأما اسم الصفة فنقول الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب عن هذه الثلاثة وهي أربعة لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول الوجود صفة أو قولنا واحد عند من يقول الوحدة صفة ثانية وكقولنا حي فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا مذكور ومعلوم وأما الصفة السلبية فكقولنا القدوس السلام وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة فكقولنا عالم وقادر فإن العلم صفة حقيقية وله تعلق بالمعلوم والقادر فإن القدرة صفة حقيقية ولها تعلق بالمقدور وأما الصفة الحقيقية مع السلبية فكقولنا قديم أزلي لأنه عبارة عن موجود لا أول له وأما الصفة الإضافية مع السلبية فكقولنا أول فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب فكقولنا حكيم فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات نسب وإضافات وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب
إذا عرفت هذا فنقول السلوب غير متناهية والإضافات أيضاً غير متناهية فكونه خالقاً للمخلوقات صفة إضافية وكونه محيياً ومميتاً إضافات مخصوصة وكونه رازقاً أيضاً إضافة أخرى مخصوصة فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى لأن مقدوراته غير متناهية ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله أكثر ولما كان هذا بحراً لا ساحل له ولا نهاية له فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى
النوع الثاني في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع ما يجب ويجوز ويستحيل على الله تعالى ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة
والنوع الثالث في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية أو معنوية أو كانت من صفات الأفعال

والنوع الرابع في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى أو لا يجوز أما القسم الأول فهو كقولنا الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايراً لمعناها في حق العباد وأما القسم الثاني فهو كقولنا الله الرحمن أما القسم الأول فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ويا خالق السموات والأرضين
النوع الخامس في تقسيم أسماء الله أن يقال من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده كقولنا يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا مميت وضار فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع
النوع السادس في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحاً ومؤثراً ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة والأول باطل وإلا لدام العالم بدوامه وذلك باطل فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحاً على سبيل الصحة ليس إلا كونه تعالى قادراً فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحاً هو كونه قادراً ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادراً عالماً وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حياً علمنا من كونه قادراً عالماً كونه حياً فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض
المسألة الثانية قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يفيد الحصر ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه وأما ما سوى ذلك الواحد فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف فالله سبحانه كامل لذاته وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه فكل كمال وجلال وشرف فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته ولغيره على سبيل العارية والذي لغيره من ذاته فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله وأن كل ما سواه فهو غرق في بحر الفناء والنقصان
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال لا أطلق على ذات الله تعالى

اسم الشيء قال لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفاً ورتبة وجلالة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئاً قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعاً في كونه في نفسه حقيقة وذاتاً وموجوداً إنما النزاع وقع في محض اللفظ وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا فأما قولنا إنه منشىء الأشياء فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقاً ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل فالأول قوله تعلى لَّيْسَ مِن شَى ْء ( الشورى 11 ) معناه ليس مثل مثله شيء ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل نفسه فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء كان هذا تصريحاً بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء وليس لقائل أن يقول ( الكاف ) في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ حرف زائد لا فائدة فيه لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد
الحجة الثانية قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 102 الرعد 16 غافر 62 ) ولو كان تعالى داخلاً تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادراً ألحقوا ذلك الأكثر بالكل وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم وأطلقوا لفظ الكل عليه وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم
وإذا عرفت هذا فنقول إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور
الحجة الثالثة هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله وما رأينا أحداً من السلف قال في دعائه ياشيء فوجب الامتناع منه والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 ) وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود فسقط الكلام فيه
فإن قال قائل فقولنا موجود ومذكور وذات ومعلوم ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى فنقول الحق في هذا الباب التفصيل وهو أنا نقول ما المراد من قولك إنه تعالى شيء وذات وحقيقة إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء فهو كذلك من غير شك ولا شبهة وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا فنقول لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة وما رأينا ولا سمعنا أن أحداً يقول يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء

والدعاء واجباً لله تعالى والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع وهي تفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال وأيضاً فلو قيل ولله الذوات لكان باطلاً ولما قال وَللَّهِ الاسْمَاء كان حقاً وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى
المسألة السادسة قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء وعرف بالدليل أن له إلهاً ورباً خالقاً موصوفاً بتك الصفات الشريفة المقدسة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب ( المنهاج ) لأبي عبد الله الحليمي وأحسن ما فيه أن يكون مستحضراً لأمرين أحدهما عزة الربوبية والثانية ذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة وأنا أذكر لهذا المعنى مثالاً وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس وجميع الحيوانات وجميع أصناف النبات والمعادن والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السموات على سعتها وعظمها وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها ويقول الله أكبر ويشير بقوله الله إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود ورتبها بما لها من الصفات والنعوت وبقوله أكبر أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال إنه أكبر من هذه الأشياء فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

أما قوله تعالى وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة يُلْحِدُونَ ووافقه عاصم والكسائي في النحل قال الفراء يُلْحِدُونَ و يُلْحِدُونَ لغتان يقال لحدت لحداً وألحدت قال أهل اللغة معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد قال ابن السكيت الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال قد ألحد في الدين ولحد وقال أبو عمرو من أهل اللغة الإلحاد العدل عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر قال الواحدي رحمه الله والأجود قراءة العامة لقوله تعالى وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ( الحج 25 ) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم ملحد ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد
المسألة الثانية قال المحققون الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه الأول إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ومن ذلك أنهم سموا أصناماً لهم باللات والعزى والمناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز واشتقاق مناة من المنان وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن والثاني أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به مثل تسمية من سماه أباً للمسيح وقول جمهور النصارى أب وابن وروح القدس ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيهاً مستحقاً للذم وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب قال أصحابنا وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ثم لا يجوز أن يقال يا خالق الديدان والقرود والقردان بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار وأن يقال يا خالق الأرض والسموات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة والثالث أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه فإنه ربما كان مسماه أمراً غير لائق بجلال الله فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء
فإن قال قائل هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق
قلنا الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره أن لفظ ( علم ) ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم وأيضاً ورد قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب وأما في حق الأنبياء فقد ورد في حق آدم عليه السلام وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصياً غاوياً وورد في حق موسى عليه السلام إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيراً والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة
ثم قال تعالى سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله قالت المعتزلة الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله

وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ فأخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون للنار أتبعه بقوله وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ليبين أيضاً أن كثيراً منهم مخلوقان للجنة واعلم أنه تعالى ذكر في قصة موسى قوله وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فلما أعاد الله تعالى هذا الكلام ههنا حمله أكثر المفسرين على أن المراد منه قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روى قتادة وابن جريج عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها هذه الأمة وروى أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( هذه فيهم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها ) وعن الربيع بن أنس أنه قال قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فقال ( إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم ) وقال ابن عباس يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل لأنه لا يخلو إما أن يكون المراد زمان وجود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الزمان الذي نزلت فيه هذه الآية أو المراد أنه قد حصل زمان من الأزمنة حصل فيه قوم بالصفة المذكورة أو المراد ما ذكرنا أنه لا يخلو زمان من الأزمنة عن قوم موصوفين بهذه الصفة والأول باطل لأنه قد كان ظاهراً لكل الناس أن محمداً وأصحابه على الحق فحمل الآية على هذا المعنى يخرجه عن الفائدة والثاني باطل أيضاً لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه قد حصل زمان ما في الأزمنة الماضية حصل فيه جميع من المحقين فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أدل على أنه ما خلا زمان عن قوم من المحقين وأن إجماعهم حجة وعلى هذا التقدير فهذا يدل على أن إجماع سائر الأمم حجة
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى وما عليهم من الوعيد فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وهذا يتناول جميع المكذبين وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد أهل مكة وهو بعيد لأن صفة العموم يتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه
وأما قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم مات بعضهم عقيب بعضهم ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطراً وانهماكاً في الفساد وتمادياً في الغي ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ثم

يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى ( اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ( مريم 46 ) أي طويلاً ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل فمعنى وَأُمْلِى لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة وقوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ قال ابن عباس يريد إن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى وذلك ضد ما يقوله المعتزلة
أجاب أبو علي الجبائي بأن المراد من الاستدراج أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون استدراجاً لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال ويجوز أن يكون عذاب الآخرة قال وقد قال بعض المجبرة المراد سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون قال وذلك فاسد لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل لأن السين في قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم يفيد الاستقبال ولا يجب أن يكون المراد أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر فالمراد إذن ما قلناه ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفراً آخر والكفر هو فعله وإنما يعاقبه بفعل نفسه
وأما قوله وَأَمْلَى لَهُمْ فمعناه أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني وهذا معنى قوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ لأن كيده هو عذابه وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون
والجواب عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم معناه ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تمادياً في الذنب والكفر زادهم الله نعمة وخيراً في الدنيا فيصير فوزهم بلذات الدنيا سبباً لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعداً عن الرجوع إلى طاعة الله هذه حالة نشاهدها في بعض الناس وإذا كان هذا أمراً محسوساً مشاهداً فكيف يمكن إنكاره الثاني هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب إلا أن هذا أيضاً يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتواً وكفراً وفساداً واستحقاق العقاب الشديد فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صوناً له عن هذا العقاب أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف أو أن لا يخلقه إلا في الجنة صوناً له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار كما شرحه في الآية المتقدمة وهي قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ( الأعراف 179 )

وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوأ من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب والله أعلم
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّة ٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي طلباً لتحصيل تلك الرؤية بالبصر فكذلك الرؤية بالبصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب طلباً لذلك الانكشاف والتجلي وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته فقوله تعالى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفاناً حقيقياً تاماً وفي اللفظ محذوف والتقدير أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة والجنة حالة من الجنون كالجلسة والركبة ودخول ( من ) في قوله مّن جِنَّة ٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين الأول أن فعله عليه السلام كان مخالفاً لفعلهم وذلك لأنه عليه السلام كان معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة مشتغلاً بالدعوة إلى الله فكان العمل مخالفاً لطريقتهم فاعتقدوا فيه أنه مجنون قال الحسن وقتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذا من قريش فقال يا بني فلان يا بني فلان وكان يحذرهم بأس الله وعقابه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح طول هذه الليلة فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال الثاني أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه وتعرض له حالة شبيهة بالغشي فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها وكان حسن الخلق طيب العشرة مرضي الطريقة نقي السيرة مواطباً على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير دلائل التوحيد لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد

أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
فقال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ واعلم أن دلائل ملكوت السموات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة وقد فصلناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
ثم قال وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر ودليل قاهر على التوحيد ولنقرر هذا المعنى بمثال فنقول إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وأيضاً فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون وكل ما كان كذلك فهو محدث وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصاً بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وتعالى وأيضاً أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام لا بد وأن يكون من الجائزات والجائز لا بد له من مرجح وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البحث الأول فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية واعتبارات غير متناهية وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) ولفظة ءانٍ في قوله وَأَنْ عَسَى هي المخففة من الثقيلة تقديره وأنه عسى والضمير ضمير الشأن والمعنى لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار وإذا كان هذا الاحتمال قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة والمبادرة إلى هذه الرؤية سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف 185 ) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه

التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة
المطلب الأول أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال والدليل على أن الأمر كذلك قوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ
والمطلب الثاني أن أمر النبوة متفرع على التوحيد والدليل عليه أنه لما قال إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد ولولا أن الأمر كذلك لما كان إلى هذا الكلام حاجة
والمطلب الثالث تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ على أن القرآن ليس قديماً قالوا لأن الحديث ضد القديم وأيضاً فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب ولذلك يقال إن هذا الشيء حديث وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده ويقال في الكلام إنه حديث لأنه يحدث حالاً بعد حال على الأسماع
وجوابنا عنه أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها
المطلب الرابع أن النظر في ملكوت السموات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها أن يقال كل ما سوى الله تعالى فهو إما أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز أو لا متحيزاً ولا حالاً في المتحيز أما المتحيز فإما أن يكون بسيطاً وإما أن يكون مركباً أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي ويدخل فيه أيضاً الجنة والنار والبيت المعمور والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام وأما السفلية فهي طبقات العناصر الأربعة ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض فيقرب أجناسها من أربعين جنساً ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز فهو قسمان لأنه إما أن يكون متعلقاً بأجسام بالتدبير والتحريك وهو المسمى بالأرواح وإما أن لا يكون كذلك وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش كما قال تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ويتلوها سكان الكرسي وإليهم الإشارة بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ ( البقرة 255 ) ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السموات السبع وإليهم الأشارة بقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ( الصافات 1 3 ) ومن صفاتهم أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه له ألف

ألف عالم وراء هذا العالم وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش وكرسي أعلى من هذا الكرسي وسموات أوسع من هذه السموات وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته بعد أن سمع قوله وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) ونعم ما قال أبو العلاء المعري يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
اعلم أنه تعالى عاد في هذه الآية مرة أخرى إلى نعت أحوال الضالين المكذبين فقال مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ واعلم أن استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله مثل ما سبق في الآية السالفة وتأويلات المعتزلة وجوابنا عنها مثل ما تقدم فلا فائدة في الإعادة وقوله وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ رفع بالاستئناف وهو مقطوع عما قبله وقرأ أبو عمرو ( ويذرهم ) بالياء ورفع الراء لتقدم اسم الله سبحانه وقرأ حمزة والكسائي بالياء والحزم ووجه ذلك فيما يقول سيبويه إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله فَلاَ هَادِيَ لَهُ لأن موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط فحمل ( ويذرهم ) على موضع الذي هو جزم
يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن في نظم الآية وجهين الأول أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة الثاني أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) باعثاً بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق فيصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك السائل من هو قال ابن عباس إن قوماً من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن وقتادة إن قريشاً قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة

فاذكر لنا متى الساعة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق
المسألة الثالثة أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى وفي اشتقاقه قولان المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال أَيَّانَ سؤال عن الزمان وأين سؤال عن المكان فكيف يكون أحدهما مأخوذاً من الآخر والثاني وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه لأن معناه أي وقت ولفظة أي فعل من أويت إليه لأن البعض آو إلى مكان الكل متسانداً إليه هكذا قال ابن جني وقرأ السلمي إيان بكسر الهمز
المسألة الرابعة مرساها ( المرسي ) ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) أي إجراؤها وإرساؤها والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا إذا ثبت قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) فكان الرسو ليس اسماً لمطلق الثبات بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلاً ومنه إرساء الجبل وإرساء السفينة ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة بدليل قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 ) لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الحج 7 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) ولما سأل جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال متى الساعة فقال عليه السلام ( ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال المحققون والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذر منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره والمعنى لا يظهرها في وقتها المعين إِلاَّ هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو
ثم قال تعالى ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وأيضاً وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) ووصف عذابها بالشدة فقال وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( الحج 2 )
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في تفسير قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجوه قال الحسن ثقل مجيئها على السموات والأرض لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض وتبطل الجبال والبحار وقال أبو بكر الأصم إن هذا اليوم ثقيل جداً على أهل السماء والأرض لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب وقال قوم إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد وقال السدي

ثَقُلَتْ أي خفيت في السموات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها وقال قوم ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم
ثم قال لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً وهذا أيضاً تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الساعة تفجأ الناس فالرجل يصلح موضعه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ( وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك )
ثم قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الحفي وجوه الأول الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفياً والحفي الكلام واللقاء الحسن ومنه قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي باراً لطيفاً يجيب دعائي إذا دعوته فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشاً قالت لمحمد عليه السلام إن بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة فقال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم
والقول الثاني حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها وعلى هذا القول حَفِى ٌّ فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة أي استقصى فقوله كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها قال صاحب ( الكشاف ) هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب وإحفاء البقل استئصاله وأحفى في المسألة إذا ألحف وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به وعلى هذا التقدير فالقولان الأولان متقاربان
المسألة الثانية في قوله عَنْهَا وجهان الأول أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله ( بها ) لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه والثاني أن يكون التقدير يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ بِهَا
المسألة الثالثة قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانياً يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها فلم يلزم التكرار
أجاب عن الأول بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي

وأجاب عن الثاني بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه أحدها ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق
قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِى َ السُّو ءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن قوله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ونظيره قوله تعالى في سورة يونس وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ ( يونس 48 49 ) الثاني روي أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة فأنزل الله تعالى هذه الآية الثالث قال بعضهم لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال انظروا أي ناقتي فقال عبدالله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال عليه السلاة والسلام ( إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة ) فوجدها على ما قال فأنزل الله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ خَيْرًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل وبين أن كل من كان عبداً كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة وهذا العلم واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ والإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه وتقريره ما ذكرناه مراراً أن القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً

للكفر وإن كانت صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلاً عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريداً للكفر فثبت أن على جميع التقادير لا يملك العبد لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله
أجاب القاضي عنه بوجوه الأول أن ظاهر قوله قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وإن كان عاماً بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا يا محمد ألايخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله والمراد بالنفع تملك الأموال وغيرها والمراد بالضر وقت القحط والأمراض وغيرها الثاني المراد لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فيما يتصل بعلم الغيب والدليل على أن المراد ذلك قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ الثالث المراد لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عدم علمه بالغيب بقوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ واختلفوا في المراد من هذا الخير فقيل المراد منه جلب منافع الدنيا وخيراتها ودفع آفاتها ومضراتها ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب وقيل المراد منه ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك وقيل المراد منه ما يتصل بالجواب عن السؤالات والتقدير لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير
والجواب عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره
أما قوله وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء ففيه قولان
القول الأول قال الواحدي رحمه الله تم الكلام عند قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ثم قال وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء أي ليس بي جنون وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ وهذا القول عندي بعيد جداً ويوجب تفكك نظم الآية
والقول الثاني إنه تمام الكلام الأول والتقدير ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدر الله عليه ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه قولان أحدهما أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلاأنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والثاني أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيراً وبشيراً للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون فلهذا السبب خصهم الله بالذكر وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )

هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وهي نفس آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا آدم حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاها وقال إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً والمراد به الحرث هذا تمام القصة
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة الثاني أنه تعالى قال بعده أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( الأعراف 191 ) وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق شيئاً ولم يقل ما لا يخلق شيئاً لأن العاقل إنما يذكر بصيغة ( من ) لا بصيغة ( ما ) الرابع أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم الخامس أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحرث فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من

قبله فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه
إذا عرفت هذا فنقول في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد
التأويل الأول ما ذكره القفال فقال إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لالائك ونعمائك فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام
ثم قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله عن ذلك الشرك وهذا جواب في غاية الصحة والسداد
التأويل الثاني بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم آل قصي والمراد من قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ قصي وَجَعَلَ مِنْهَا جنس مِنْهَا زَوْجَهَا عربية قرشية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد اللات وجعل الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك
التأويل الثالث أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ثم قال فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ثم قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ثم يقال لذلك المنعم أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي على التبعيد فكذا ههنا
الوجه الثاني في الجواب أن نقول أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فنقول التقدير فلما آتاهما

ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما آتاهما أي فيما آتى أولادهماونظيره قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي واسأل أهل القرية
فإن قيل فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء
قلنا لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله جَعَلاَ المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع وهو قوله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
الوجه الثالث في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام إلا أنه قيل إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق ثم بدا لهم في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
الوجه الرابع في التأويل أن نقول سلمنا صحة تلك القصة المذكورة إلا أنا نقول إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم يقال في المثل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان كتابة عبد وده فلان قال الشاعر وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ الآية وفيها مباحث
البحث الأول قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله خُلِقَ مِنْهَا زَوْجَهَا المراد حواء قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم قالوا والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضم وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم ولم لا نقول إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء وأيضاً الذي يقال إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح بقي أن يقال إذا لم نقل بذلك فما المراد من كلمة

مِنْ في قوله وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا فنقول قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه وأخرى بحسب نوعه قال عليه الصلاة والسلام ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع وقال عليه الصلاة والسلام ( في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ) والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنساناً مثله قوله فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي جامعها والغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشاها وتغشاها إذا علاها وذلك لأنه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ومثله يجللها وهو يشبه التغطي واللبس قال تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ وقوله حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا قالوا يريد النطفة والمني والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر والحمل بكسر الحاء ما حمل على ظهر أو على الدابة وقوله فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالماء والحمل على سبيل الخفة والمراد أنها كانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن يعمر فَمَرَّتْ بِهِ بالتخفيف وقرأ غيره تُحَرّكْ بِهِ من المرية كقوله أَفَتُمَارُونَهُ وفي قراءة أخرى أَفَتُمَارُونَهُ معناه وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت فيه فَلَمَّا أَثْقَلَت أي صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا يعني آدم وحواء لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً أي ولداً سوياً مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لآلائك ونعمائك فَلَمَّا ءاتَاهُمَا الله صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عَنْهُ شُرَكَاء بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر عَنْهُ بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء أو يقال معناه أحدثا لله إشراكاً في الولد ومن قرأ للَّهِ شُرَكَاء فحجته قوله أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه ليس المراد بقوله فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكره من قصة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكلية وكان ذلك غاية الفساد في النظم والترتيب بل المراد ما ذكرناه في سائر الأجوبة من أن المقصود من الآية السابقة الرد على عبدة الأوثان وفي الآية مسائل

المسألة الأولى المقصود من هذه الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ معناه أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئاً وهم يخلقون أي وهم مخلوقون يعني الأصنام
فإن قيل كيف وحد يَخْلُقُ ثم جمع فقال وَهُمْ يُخْلَقُونَ وأيضاً فكيف ذكر الواو والنون في جمع غير الناس
والجواب عن الأول أن لفظ مَا تقع على الواحد والاثنين والجمع فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظاهر لفظها ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين فوحد قوله يَخْلُقُ رعاية لحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وَهُمْ يُخْلَقُونَ رعابة لجانب المعنى
والجواب عن الثاني وهو أن الجمع بالواو والنون في غير من يعقل كيف يجوز فنقول لما اعتقد عابدوها أنها تعقل وتميز فورد هذا اللفظ بناء على ما يعتقدونه ويتصورونه ونظيره قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) وقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
المسألة الثانية قوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله قالوا لأنه تعالى طعن في إلهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئاً وهذا الطعن إنما يتم لو قلنا إن بتقدير أنها كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلهيتها وهذا يقتضي أن كل من كان خالقاً كان إلهاً فلو كان العبد خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه
أما قوله تعالى وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها والنصر المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها
ثم قال وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه
ثم قال وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر فكذا لا يصح فيه إذا دعى إلى الخير الأتباع ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه ثم قوى هذا الكلام بقوله سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ وهذا مثل قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل وههنا عطف الاسم على الفعل لأن قوله أَدَعَوْتُمُوهُمْ جملة فعلية وقوله أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ جملة إسمية
واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الإسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة وتلك الفائدة هي أن

صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالاً بعد حال وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار
إذا عرفت هذا فنقول إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ وفيه سؤال وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات وجوابه من وجوه الأول أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ولذلك قال فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال إِنَّ الَّذِينَ ولم يقل التي
والجواب الثاني أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم جعلتم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) ثم أكد هذا البيان بقوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة وعن قوة الحياة وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام البتة وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة هذا هو الوجه في

تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجهاً لهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى فقالوا إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم لأن الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة وإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم واشتغال الأفضل الأكمل بعبادة الأخس الأدون جهل فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال
الوجه الثاني في الجواب أن المقصود من ذكر هذا الكلام تقرير الحجة التي ذكرها قبل هذه الآية وهي قوله وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( الأعراف 192 ) يعني كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر ثم قرر تعالى ذلك بأن هذه الأصنام لم يحصل لها أرجل ماشية وأيد باطشة وأعين باصرة وآذان سامعة ومتى كان الأمر كذلك لم تكن قادرة على الإنفاع والإضرار فامتنع كونها آلهة أما إله العالم تعالى وتقدس فهو وإن كان متعالياً عن هذه الجوارح والأعضاء إلا أنه موصوف بكمال القدرة على النفع والضرر وهو موصوف بكمال السمع والبصر فظهر الفرق بين البابين
أما قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ قال الحسن إنهم كانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي بوجه من الوجوه وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في كيدوني والباقون حذفوها ومثله في قوله كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ قال الواحدي والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي وقد حذفوا هذه الياآت إذا كانت في القوافي كقوله يلمس الإحلاس في منزله
بيديه كاليهودي الممل
والذين أثبتوها فلأن الأصل هو الإثبات ومعنى قوله فَلاَ تُنظِرُونِ أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركائكم
إِنَّ وَلِيِّى َ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66