كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

فإن قيل المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره وفي قوله استهزئوا دلالة على ما قلناه الثاني أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم الثالث قال الأصم أنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً قال القاضي يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما قال الداعي إلى الله هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات الرابع معنى الحذر الأمر بالحذر أي ليحذر المنافقون ذلك الخامس أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها والشاك خائف فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم ثم قال صاحب ( الكشاف ) المضير في قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ و تُنَبّئُهُمْ للمؤمنين وفي قوله فِى قُلُوبِهِمْ للمنافقين ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ومعنى تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم
ثم قال قُلْ وهو أمر تهديد كقوله الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ ( التوبة 105 ) إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( التوبة 64 ) أي ذلك الذي تحذرونه فإن الله يخرجه إلى الوجود فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَة ٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَة ً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية أموراً الأول روى ابن عمر أن رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوباً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين فقال واحد من الصحابة كذبت ولأنت منافق ثم ذهب ليخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه الثاني قال الحسن وقتادة لما سار الرسول إلى تبوك

قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات هيهات فعند رجوعه دعاهم وقال أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب الثالث روى أن المتخلفين عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم فقالوا هذا القول الرابع حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك قالوا لم نقل ذلك على سبيل الطعن بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب الخامس اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب وهذا يدل على أن كلمة ( إنما ) تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر
والجواب قال الواحدي أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى والمعنى أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق فأجابهم الرسول بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى فرق بين قولك أتستهزىء بالله وبين قولك أبالله تستهزىء فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) والمقصود ليس نفي الغول بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال فلا بد له من تأويل وفيه وجوه الأول المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله فإن أسماء الله قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها قال تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله وقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ( الأعراف 180 ) فلا يمتنع أن يقال أَبِاللَّهِ ويراد أبذكر الله الثالث لعل المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشأم وقصورها قال بعض المسلمين الله يعينه على ذلك وينصره عليهم ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاماً مشعراً بالقدح في قدرة الله كما هو عادات الجهال والملحدة فكان المراد ذلك
وأما قوله وَءايَاتِهِ فالمراد بها القرآن وسائر ما يدل على الدين وقوله وَرَسُولُهُ معلوم وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء
ثم قال تعالى لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين
القول الأول أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم اعتذرت المنازل إذا درست يقال مررت بمنزل

معتذر والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه
والقول الثاني حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سبباً لقطع اللوم سمي عذراً قال الواحدي والقولان متقاربان لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان
المسألة الثانية أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفراً والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز فثبت أن قولهم إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ما كان عذراً حقيقياً في الإقدام على ذلك الاستهزاء فلما لم يكن ذلك عذراً في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب فقال لاَ تَعْتَذِرُواْ أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم
المسألة الثالثة قوله قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أحكام
الحكم الأول
أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفراً بالله وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال
الحكم الثاني
أنه يدل على بطلان قول من يقول الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب
الحكم الثالث
يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة وإن كانوا منافقين من قبل وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحالاً
الحكم الرابع
يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين
ولقائل أن يقول القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك
قلنا قال الحسن المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه وقال آخرون ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين والقولان متقاربان
ثم قال تعالى إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَة ٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم إِن نَّعْفُ بالنون وكسر الذال وطائفة بالنصب والمعنى أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول إن يعف عن طائفة يعذب طائفة والباقون بالياء وضمها وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث وحكى صاحب ( الكشاف ) عن مجاهد إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ثم قال والوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول سير بالدابة ولا تقول سيرت بالدابة وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهداً لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل إن

ترحم طائفة فأنت كذلك وهو غريب والجيد القراءة العامة إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث
المسألة الثانية ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة استهزأ اثنان وضحك واحد فالطائفة الأولى الضاحك والثانية الهازيان وقال المفسرون لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه وذنب الهازيين أغلظ فلا جرم ما عفا الله عنهما قال القاضي هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام وأيضاً لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل
المسألة الثالثة قالوا ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنساناً واحداً قال الزجاج والطائفة في اللغة أصلها الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأقله الواحد وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الطائفة الواحد فما فوقه وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه الأول أن من اختار مذهباً ونصره فإنه لا يزال يكون ذاباً عنه ناصراً له فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب الثاني قال ابن الأنباري العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) يعني نعيم بن مسعود الثالث لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفاً ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ثم إنه تعالى علل كونه معذباً للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر فقد اشتركتا في الجرم والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز وأيضاً التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله كَانُواْ مُجْرِمِينَ يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ وأيضاً ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل فأوجب التعذيب
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة فقال الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ أي في صفة النفاق كما يقول الإنسان أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقبضون أيديهم قيل من كل خير وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده
ثم قال نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) الثاني النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم
ثم قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي هم الكاملون في الفسق والله أعلم
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِى َ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل في المنافقين والمنافقات أنه نسبهم أي جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه فقال وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ولا شك أن النار المخلدة من أعظم العقوبات
ثم قال هِى َ حَسْبُهُمْ والمعنى أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها
ثم قال وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي ألحق بتلك العقوبة الشديدة الإهانة والذم واللعن
ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ولقائل أن يقول معنى كون العذاب مقيماً وكونه خالداً واحد فكان هذا تكراراً
والجواب ليس ذلك تكريراً وبيان الفرق من وجوه الأول أن لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولاً ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم وقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ يدل على أن لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذاب
ولقائل أن يقول هذا التأويل مشكل لأنه قال في النار المخلدة هِى َ حَسْبُهُمْ وكونها حسباً بمنع من ضم شيء آخر إليه
وجوابه أنها حسبهم في الإيلام والإيجاع ومع ذلك فيضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم والثاني أن المراد بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ العذاب العاجل الذي لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم وما يحذرونه أبداً من أنواع الفضائح
ثم قال كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ واعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وهذا الكاف للتشبيه وهو يحتمل وجوهاً الأول قال الفراء فعلتم كأفعال الذين من قبلكم والمعنى أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك
والوجه الثاني أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة الله تعالى لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم والخلاق النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنها قسم ونصيب لأنه نصب أي ثبت فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم
فإن قيل ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم ذكره في حق الأولين ثالثاً
قلنا الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين

بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة ومثاله أن من أراد أن ينبه بعض الظلمة على قبح ظلمه يقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأنت تفعل مثل ما فعله وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم فقال وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ قال الفراء يريد كخوضهم الذي خاضوا ف الَّذِى صفة مصدر محذوف دل عليه الفعل
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاْخِرَة ِ أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف وفي الآخرة بسبب أنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً منهم فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة محرومين من خيرات الدنيا والآخرة
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم فذكر هؤلاء الطوائف الستة فأولهم قوم نوح والله أهلكهم بالإغراق وثانيهم عاد والله تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم وثالثهم ثمود والله أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة ورابعهم قوم إبراهيم أهلكهم الله بسبب سلب النعمة عنهم وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ وخامسهم قوم شعيب وهم أصحاب مدين ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم والله تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم الحجارة وقال الواحدي المؤتفكات جمع مؤتفكة ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب وتلك القرى ائتفكت بأهلها أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر

واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق وتارة لأجل أن بلاد هذه الطوائف وهي بلاد الشام قريبة من بلاد العرب وقد بقيت آثارهم مشاهدة وقوله أَلَمْ يَأْتِهِمْ وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام
ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف
ثم قال بِالْبَيِّنَاتِ أي بالمعجزات ولا بدَّ من إضمار في الكلام والتقدير فكذبوا فعجل الله هلاكهم
ثم قال فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلماً من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم بل كانوا ظلموا أنفسهم قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ودل على أن فاعل الظلم هو العبد وهو قوله وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مراراً خارجة عن الإحصاء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر على ضد صفات المنافقين ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم فأما صفات المؤمنين فهي قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
فإن قيل ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ فلم ذكر في المنافقين لفظ مِنْ وفي المؤمنين لفظ أَوْلِيَاء
قلنا قوله في صفة المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يدل على أن نفاق الأتباع كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف والأمر في نفسه كذلك لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل

والعادة بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ وقال في المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
واعلم أن الولاية ضد العداوة وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه
واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق فالمنافق على ما وصفه الله تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف والمؤمن بالضد منه والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ والمؤمنون يؤتون الزكاة والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه الله بذلك والمؤمنون بالضد منهم وهو المراد في هذه الآية بقوله وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة فلذلك قال أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وذكر حرف السين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ للتوكيد والمبالغة كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ونظيره سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( مريم 96 ) لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ( النساء 152 )
ثم قال أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء فأولها قوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون فائدة وصفها بأنها عدن أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب وثانيها قوله وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن قال الحسن سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله

وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فقالا على الخبير سقطت سألنا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع ) وعن ابن عباس أنها دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وأقول لعل ابن عباس قال إنها دار المقربين عند الله فإنه كان أعلم بالله من أن يثبت له داراً وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله حدثني عن الجنة ما بناؤها فقال ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وحصاؤها الدر والياقوت فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) وقال ابن مسعود جنات عدن بطنان الجنة قال الأزهري بطنانها وسطها وبطنان الأودية المواضع التي يستنفع فيها ماء السيل واحدها بطن وقال عطاء عن ابن عباس هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنات حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر وقال عبد الله بن عمرو إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب كل على كل باب خمسة آلاف حرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وأقول حاصل الكلام إن في جنات عدن قولان أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول قال صاحب ( الكشاف ) وعدن علم بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ ( مريم 61 )
والقول الثاني أنه صفة للجنة قال الأزهري العدن مأخوذ من قولك عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونا والعرب تقول تركت إبل بني فلان عودان بمكان كذا وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه ومنه المعدن وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن
والنوع الثالث من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ والمعنى أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضياً عنه وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك بل علمه بكونه راضياً عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر والأول باطل لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالاً من ذلك المقصود فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجاً بحصول الوسيلة ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابتهاجاً بالمقصود وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالاً من الابتهاج بالمقصود فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالاً وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة لكن الأمر ليس كذلك لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية
واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معاً كما جمع الله بينهما في هذه الآية

ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفيه وجهان الأول أن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي روحاني وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم الثاني أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين ثم قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والمعنى أن هذا هو الفوز العظيم لاما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة ( هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً )
واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
واعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدم بالثواب الرفيع والدرجات العالية ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وفي الآية سؤال وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته
واعلم أن الناس ذكروا أقوالاً بسبب هذا الإشكال
فالقول الأول أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك وهذا بعيد لأن ظاهر قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ يقتضي الأمر بجهادهما معاً وكذا ظاهر قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ راجع إلى الفريقين
القول الثاني أنه تعالى لما بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يحكم بالظاهر قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر فكانت المحاربة معهم غير جائزة )
والقول الثالث وهو الصحيح أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين فأما كيفية

تلك المجاهد فلفظ الآية لا يدل عليها بل إنما يعرف من دليل آخر
وإذا ثبت هذا فنقول دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة وبترك الرفق ثانياً وبالانتهار ثالثاً قال عبد الله في قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قال تارة باليد وتارة باللسان فمن لم يستطع فليكشر في وجهه فمن لم يستطع فبالقلب وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها قال القاضي وهذا ليس بشيء لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق ثم قال وإنما قال الحسن ذلك لأحد أمرين إما لأن كل فاسق منافق وإما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواماً من المنافقين قالوا كلمات فاسدة ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا وحلفوا أنهم ما قالوا والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوهاً الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فقال الجلاس بن سويد والله لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقاً مع أنهم أشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحضر الجلاس فحلف بالله أنه ما قال فرفع عامر يده وقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت هذه الآية فقال الجلاس لقد ذكر الله التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته الثاني روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وأراد به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل فنزلت هذه الآية الثالث روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار فظهر الغفاري على الجهيني فنادى عبد الله بن أبي يا بني الأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فذكروه للرسول عليه السلام فأنكر عبد الله وجعل يحلف قال القاضي يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع وحمل صيغة الجمع على الواحد خلاف الأصل

فإن قيل لعل ذلك الواحد قال في محفل ورضي به الباقون
قلنا هذا أيضاً خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ثم قال بل الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل وكان عمار بن ياسر آخذاً بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج
فأما قوله وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فلقائل أن يقول إنهم أسلموا فكيف يليق بهم هذا الكلام
والجواب من وجهين الأول المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب لأنهم لما نافقوا فقد أظهروا الإسلام وجنحوا إليه فإذا جاهروا بالحرب وجب حربهم والثاني أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام
وأما قوله وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ المراد إطباقهم على الفتك بالرسول والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم ولم يصلوا إلى مقصودهم
وأما قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ففيه بحثان
البحث الأول أن في هذا الفضل وجهين الأول أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله والثاني روي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى
البحث الثاني أن قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه وهذا كقول الشاعر ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب ثم قال تعالى فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير فأما أنهم تابوا فليس في الآية وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس
ثم قال وَإِن يَتَوَلَّوْا أي عن التوبة يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ أما عذاب الآخرة فمعلوم وأما العذاب في الدنيا فقيل المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة

العذاب وقيل المراد عذاب القبر وَمَا لَهُمْ فِى الاْرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم فلحقه شدة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله إلى آخر الآية والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام ( يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل وادياً بها فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فأخبر بخبره فقال ( يا ويح ثعلبة ) فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فبعث إليه رجلين وقال ( مرا بثعلبة فخذا صدقاته ) فعند ذلك قال لهما ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ فقيل له قد أنزل فيك كذا وكذا فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته فقال إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه فقال عليه الصلاة والسلام ( قد قلت لك فما أطعتني ) فرجع إلى منزله وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أتى أبا بكر بصدقته فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ثم لم يقبلها عثمان وهلك ثعلبة في خلافة عثمان
فإن قيل إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه
قلنا لا يبعد أن يقال إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له

ليعتبر غيره به فلا يمتنع عن أداء الصدقات ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات ثم إنه تعالى آتاه المال وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد وههنا سؤالات
السؤال الأول المنافق كافر والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى
والجواب المنافق قد يكون عارفاً بالله إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام كان كافراً وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر ويقل في أصناف الكفار من ينكره والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً ثم لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً
السؤال الثاني هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة
الجواب منهم من قال كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد يروى عن المعتمر بن سليمان قال أصابتنا ريح شديدة في البحر فنذر قوم منا أنواعاً من النذور ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به فلما قدمت البصرة سألت أبي فقال يا بني ف به وقال أصحاب هذا القول إن قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ كان شيئاً نووه في أنفسهم ألا ترى أنه تعالى قال أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وقال المحققون هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان والدليل عليه قوله عليه السلام ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به ) أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إخبار عن تكلمه بهذا القول وظاهره مشعر بالقول باللسان
السؤال الثالث قوله لَنَصَّدَّقَنَّ المراد منه إخراج مال ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً وقد يكون غير واجب والواجب قسمان قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء كإخراج الزكاة الواجبة وإخراج النفقات الواجبة وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور
إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة فقوله لَنَصَّدَّقَنَّ هل يتناول الأقسام الثلاثة أو ليس الأمر كذلك
والجواب قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة فغير داخلة تحت هذه الآية والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله بَخِلُواْ بِهِ والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم وأما القسمان الباقيان فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية

لا محالة وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة
بقي أن يقال هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وهذا لا يشعر بالنذر لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول
قلنا قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل وهذا القدر لا يوجب الفور فكأنهم قالوا لنصدقن في وقت كما قالوا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في أوقات لزوم الصلاة فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه ولا يقومون بما يقولون والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي
السؤال الرابع ما المراد من الفضل في قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ
والجواب المراد إيتاء المال بأي طريق كان سواء كان بطريق التجارة أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما
السؤال الخامس كيف اشتقاق لَنَصَّدَّقَنَّ
الجواب قال الزجاج الأصل لنتصدقن ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها قال الليث المصدق المعطي والمتصدق السائل قال الأصمعي والفراء هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ
السؤال السادس ما المراد من قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
الجواب الصالح ضد المفسد والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف قال ابن عباس رضي الله عنهما كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن وأقول التقييد لا دليل عليه بل قوله لَنَصَّدَّقَنَّ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة
الصفة الأولى البخل وهو عبارة عن منع الحق

والصفة الثانية التولي عن العهد
والصفة الثالثة الإعراض عن تكاليف الله وأوامره
ثم قال تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركاً لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق في القلب لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثراً في حصول الجهل في القلب أما أولاً فلأن ترك الواجب عدم والجهل وجود العدم لا يكون مؤثراً في الوجود وأما ثانياً فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق وأما ثالثاً فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو كان محرماً شرعاً لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً وأما رابعاً فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وذلك لا يجوز لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه فوجب إسناده إليه فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل والذي يؤكد القول بأن قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً مسند إلى الله جل ذكره أنه قال إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ والضمير في قوله تعالى يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله فَأَعْقَبَهُمْ مسنداً إلى الله تعالى قال القاضي المراد من قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ أي فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة قلنا هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت
المسألة الثانية قال الليث يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك قال الهذلي أودى بني وأعقبوني حسرة
بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
ويقاتل أكل فلان أكلة أعقبته سقماً وأعقبه الله خيراً وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه الله
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به ومذهب الحسن البصري رحمة

الله أنه يوجب النفاق لا محالة وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان ) وعن النبي عليه السلام ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا ) قال عطاء بن أبي رباح حدثني جابر بن عبد الله أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال أتى الحسن رجل فقال له إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين فتوقف الحسن رحمه الله
المسألة الرابعة إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بصدقته فقال إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك وبقي على تلك الحالة وما قبل صدقته أحد حتى مات فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
المسألة الخامسة قال الجبائي إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية بدليل أنه قال في صفة المنافقين إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية قال والذي يقويه قوله عليه السلام ( من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا والقاضي استحسن هذا الكلام وأقول أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ا وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية وفي هذا الخبر لدليل منفصل فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية وذلك ممنوع فنقول لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء كما أن الإدراك هو البلوغ قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ثم نقول لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية بل المقصود أنه تعالى فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي حكمه وقضاءه وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً أي تجازى عليه قال تعالى بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ والمعنى أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب

ثم قال تعالى أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ والسر ما ينطوي عليه صدورهم والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ونظيره قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) وقوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا ( يوسف 80 ) وقوله فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( المجادلة 9 ) وقوله إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 )
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فكيف يمكن الأخفاء منه ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 116 ) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعاً وطبعاً قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف درهم فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي فقال بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت قيل قبل الله دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وجاء عمر بنحو ذلك وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقاً من تمر الصدقة وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوضعه في الصدقات فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ والمطوعون المتطوعون والتطوع التنفل وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج قال الليث الجهد شيء قليل يعيش به المقل قال الزجاج إِلاّ

َ جُهْدَهُمْ وجهدهم بالضم والفتح قال الفراء الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة تقول هذا جهدي أي طاقتي
إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم ثم بين أن الله تعالى سخر منهم
واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة الله قد يكون واجباً كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة وهو المراد من هذه الآية ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنياً فيأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وقد يكون فقيراً فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة وذلك التعيير يحتمل وجوهاً الأول أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه فكيف يتصدق به إلا أن هذا من موجبات الفضيلة كما قال تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وثانيها أن يقولوا أي أثر لهذا القليل وهذا أيضاً جهل لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعاً عند الله من عمل غيره لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا واكتفى بالتوكل على المولى وثالثها أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب وهذا أيضاً جهل لأن سعى الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة
وأما قوله سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ فقد عرفت القانون في هذا الباب وقال الأصم المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا يا رسول الله استغفر لنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأستغفر لكم وأشتغل بالاستغفار لهم فنزلت هذه الآية فترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الاستغفار وقال الحسن كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً فنزلت هذه الآية وروى الأصم أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب

الرسول قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر اجلس يا عدو الله فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة فخرج من المسجد ولم يصل فلقيه رجل من قومه فقال له ما صرفك فحكى القصة فقال ارجع إلى رسول الله يستغفر لك فقال ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ ( المنافقون 5 ) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم
المسألة الثانية إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وروى الشعبي قال دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام ( من أنت ) فقال أنا الحباب بن عبد الله قال بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب هو الشيطان ثم قرأ هذه الآية قال القاضي ظاهر قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب قالوا والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال عليه السلام ( والله لأزيدن على السبعين ) ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( المنافقون 6 ) الآية فكف عنهم
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه
المسألة الرابعة من الناس من قال إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه الله منه ومنهم من قال إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدماً على ذلك الفعل وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه الأول أن المنافق كافر وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه الثاني أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبح والمعصية الثالث أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب الرابع أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردوداً عند الله وذلك يوجب نقصان منصبه الخامس أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة

كفرهم وفسقهم وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين فصار هذا التعليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر ويؤكده أيضاً قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة قال المتأخرون من أهل التفسير السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء هو هذا العدد وقال بعضهم هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة فكأنه قيل إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) وقال عليه السلام ( الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلاً فيه
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك والمخلف المتروك ممن مضى
فإن قيل إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون
والجواب من وجوه الأول أن الرسول عليه السلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين والثاني أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهي قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوّا ( التوبة 83 ) فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين الثالث أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام وقوله بِمَقْعَدِهِمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المدينة فعلى هذا المقعد اسم للمكان وقال مقاتل بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم وعلى هذا هو اسم للمصدر وقوله خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ فيه قولان الأول وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا

قالوا وهو منصوب لأنه مفعول له والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني قال الأخفش إن خِلَافٍ بمعنى خلف وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول الله ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وعلى هذا القول الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجهاً إليها وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقوله وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو
واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد وأيضاً لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار وأيضاً مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المراد من قوله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ
فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أي إن بعد هذه الدار داراً أخرى وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى وأيضاً هذه مشقة منقضية وتلك مشقة باقية وروى صاحب ( الكشاف ) لبعضهم مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
ثم قال تعالى فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة والدليل عليه قوله بعد ذلك جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعنى الآية أنهم وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير لأنه عقاب دائم لا ينقطع والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل فلهذا المعنى قال فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا قال الزجاج قوله جَزَاء مفعول له والمعنى وليبكوا لهذا الغرض وقوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجداً لأفعاله وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالماً مشهور وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مراراً تغني عن الإعادة
فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَة ٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ

واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته لأن خروجهم معه يوجب أنواعاً من الفساد فقال فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أي من المنافقين فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ يريد إن ردك الله إلى المدينة ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه يقال رجعته رجعاً كقولك رددته رداً وقوله إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان بعضهم مخلصين معذورين وقوله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أي للغزو معك فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا إلى غزوة وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذراً من مكرهم وكيدهم وخداعهم فصار هذا المعنى من هذا الوجه جارياً مجرى اللعن والطرد ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمراد منه القعود عن غزوة تبوك يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم فعند ذلك لا نقبلكم ولا نلتفت إليكم وفي اللفظ بحث ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن قوله مَرَّة ٍ في أَوَّلَ مَرَّة ٍ وضعت موضع المرات ثم أضيف لفظ الأول إليها وهو دال على واحدة من المرات فكان الأولى أن يقال أولى مرة
وأجاب عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال هند أكبر النساء ولا يقال هند كبرى النساء
ثم قال تعالى فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ذكروا في تفسير الخالف أقوالاً الأول قال الأخفش وأبو عبيدة الخالفون جمع واحدهم خالف وهو من يخلف الرجل في قومه ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحون والثاني أن الخالفين مفسر بالمخالفين قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفاً وقال الأخفش فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم وقال الليث هذا الرجل خالفة أي مخالف كثير الخلاف وقوم خالفون فإذا جمعت قلت الخالفون
والقول الثالث الخالف هو الفاسد قال الأصمعي يقال خلف عن كل خير يخلف خلوفاً إذا فسد وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد
وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشدداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ

اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوى من أسباب إذلالهم وإهانتهم وهذا الذي ذكره في هذه الآية وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما اشتكى عبد الله بن أبي بن سلول عاده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه لم تعطي قميصك الرجس النجس فقال عليه الصلاة والسلام ( إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً فلعل الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام ) وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف فلما مات جاء ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه ( صل عليه وادفنه ) فقال إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوبه وقال وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه وثانيها آية تحريم الخمر وثالثها آية تحويل القبلة ورابعها آية أمر النسوان بالحجاب وخامسها هذه الآية فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر رضي الله عنه منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدين فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه ( لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً )
فإن قيل كيف يجوز أن يقال إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافراً وقد مات على كفره وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له وأيضاً إذا صلى عليه فقد دعا له وذلك محظور لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه
والجواب لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام غلب على ظنه أنه صار مسلماً فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه فلما نزل جبريل عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه امتنع من الصلاة عليه وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوهاً الأول أن العباس عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طويلاً فكساه عبد الله

قميصه الثاني أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك فقال لا إن لي في رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله له ذلك والثالث أن الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً بقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 ) فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى الرابع أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم الخامس أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من الصالحين وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه السادس لعل الله تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملاً لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض وروى أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين السابع أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) وقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر الله تعالى ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً قال الواحدي مَّاتَ في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل على أحد منهم ميت وقوله أَبَدًا متعلق بقوله أَحَدٌ والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم واعلم أن قوله ولا تصل أبداً يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي والمقصود هو الأول لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ وفيه وجهان الأول قال الزجاج كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه الثاني قال الكلبي لا تقم بإصلاح مهمات قبره وهو من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول الفسق أدنى حالاً من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقاً
والجواب أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد أمر مستقبح في جميع الأديان فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر تنبيهاً على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم
السؤال الثاني أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه
والجواب أن التكاليف مبنية على الظاهر قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر )
السؤال الثالث قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تصريح بكون ذلك النهي معللاً بهذه العلة وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى وهو محال لأن حكم الله قديم وهذه العلة محدثة وتعليل القديم بالمحدث محال
والجواب الكلام في أن تعليل حكم الله تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا بحث طويل ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه

وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أن هذه الآية قد سبق ذكرها بعينها في هذه السورة وذكرت ههنا وقد حصل التفاوت بينهما في ألفاظ فأولها في الآية المتقدمة قال فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء وههنا قال وَلاَ تُعْجِبْكَ بالواو وثانيها أنه قال هناك أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وههنا كلمة لا محذوفة وثالثها أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا حذف اللام وأبدلها بكلمة ءانٍ ورابعها أنه قال هناك وَقَالَ إِنَّمَا وههنا حذف لفظ الحياة وقال فِى الدُّنْيَا فقد حصل التفاوت بين هاتين الآيتين من هذه الوجوه الأربعة فوجب علينا أن نذكر فوائد هذه الوجوه الأربعة في التفاوت ثم نذكر فائدة هذا التكرير
أما المقام الأول فنقول
أما النوع الأول من التفاوت وهو أنه تعالى ذكر قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء في الآية الأولى وبالواو في الآية الثانية فالسبب أن في الآية الأولى إنما ذكر هذه الآية بعد قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب فقال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو
وأما النوع الثاني وهوأنه تعالى قال في الآية الأولى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ فالسبب فيه أن مثل هذا الترتيب يبتدأ بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم
أما النوع الثالث وهو أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه ( أن ) كقوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( البينة 5 ) أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله
وأما النوع الرابع وهو أنه ذكر في الآية الأولى وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وههنا ذكر فِى الدُّنْيَا وأسقط لفظ الحياة تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم

بحقائق القرآن هو الله تعالى
وأما المقام الثاني وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر إلى الاشتغال بالدنيا هو الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى لا جرم أعاد الله قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء في سورة النساء مرتين وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عن الغزو وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد
أما قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد
البحث الثاني قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ قال الواحدي موضع ءانٍ نصب بحذف حرف الجر والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان
البحث الثالث لقائل أن يقول كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال
أجابوا عنه بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب فإن الأمر متوجه عليهم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ وفي أُوْلُواْ الطَّوْلِ قولان الأول قال ابن عباس والحسن المراد أهل السعة في المال الثاني قال الأصم يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم وفي تخصيص أُوْلُواْ الطَّوْلِ بالذكر قولان الأول أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد والثاني أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان

ثم قال تعالى رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وههنا فيه وجهان الأول قال الفراء الْخَوَالِفِ عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء الثاني يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال والخالفة الذي هو غير نجيب قال الفراء ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك والقول الأول أولى لأن أدل على القلة والذلة قال المفسرون وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف
ثم قال وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر صار القلب كالمطبوع على الكفر ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل وإن كان من الله فالمقصود حاصل وقال الحسن الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وقوله فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد
لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه وقوله لَكِنِ فيه فائدة وهي أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً ( الأنعام 89 ) وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( فصلت 38 ) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع أولها قوله وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ واعلم أن لفظ الخيرات يتناول منافع الدارين لأجل أن اللفظ مطلق وقيل الخَيْرَاتِ الحور لقوله تعالى فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ ( الرحمن 70 ) وثانيها قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فقوله لَهُمُ الْخَيْرَاتُ المراد منه الثواب وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه التخلص من العقاب والعذاب وثالثها قوله أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا مثل

الغزو والكرامة والثروة والقدرة والغلبة وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و الْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية
وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وقال لعن الله المعذرين وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر والحاصل أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر ومنه قولهم قد أعذر من أنذر وعلى هذه القراءة فمعنى الآية أن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر قيل هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وإنا بنا جهداً فائذن لنا في التخلف وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا فأذن رسول الله لهم وعن مجاهد نفر من غطفان اعتذروا والذين قرؤوا الْمُعَذّرُونَ بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية
الوجه الأول ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارت التاء ذالاً مشددة والاعتذار قد يكون بالكذب كما في قوله تعالى يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ( التوبة 94 ) فبين كون هذا الاعتذار فاسداً بقوله قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد فقد جاء بعذر صحيح
الوجه الثاني أن يكون الْمُعَذّرُونَ على وزن قولنا مفعلون من التعذير الذي هو التقصير يقال عذراً تعذيراً إذا قصر ولم يبالغ يقال قام فلان قيام تعذير إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه فإن أخذنا بقراءة الخفيف كان الْمُعَذّرُونَ كاذبين وأما إن أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فعلى هذا التقدير يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسرين من قال المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه لما قيل له هذا الكلام قال إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على الله تعالى فهم المرادون بقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والذي قاله أبو

عمرو محتمل إلا أن الأول أظهر وقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان وقرأ أبي كَذَّبُواْ بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال مِنْهُمْ لأنه تعالى كان عالماً بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب فذكر لفظة من الدالة على التبعيض
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط وهم أقسام
القسم الأول الصحيح في بدنه الضعيف مثل الشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء والدليل عليه أنه عطف عليهم المرضى والمعطوف مباين للمعطوف عليه فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم لم يتميزوا عن المرضى
وأما المرضى فيدخل فيهم أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة
والقسم الثالث الذين لا يجدون الأهبة والزاد والراحلة وهم الذين لا يجدون ما ينفقون لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه أما من مال نفسه أو من مال إنسان آخر يعينه عليه فإن لم تحصل هذه القدرة صار كلاً ووبالاً على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال لا حرج على هؤلاء والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لايجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً وهو قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف وعن إثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد

ثم قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى لأن هذه الآية نزلت فيهم ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول لا إله إلا الله وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها كان من المسلمين وقوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ يقتضي نفي جميع المسلمين فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل إلا لدليل منفصل والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل منفصل وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا لدليل منفصل فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلاً معتبراً في الشريعة في تقرير أن الأصل براءة الذمة فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص في واقعة خاصة قضينا بذل النص الخاص تقديماً للخاص على العام وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس قال لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة وعدم الإلزام والتكليف فالقياس إما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص كان إثباتها بالقياس عبثاً والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص وأنه لا يجوز لما ثبت أن النص أقوى من القياس قالوا وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة معلومة ملخصة بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها وذلك لأن السلطان إذا بعث واحداً من عماله إلى سياسة بلدة فقال له أيها الرجل تكليفي عليك وعلى أهل تلك المملكة كذا وكذا وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلاً ثم قال وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل كان هذا تنصيصاً منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالاً لأن باب النفي لا نهاية له بل كفاه في النفي أن يقول ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت فكذا ههنا أنه تعالى لما قال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور وأما فيما وراءه فليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ويكون قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) حقاً ويصير قوله لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) حقاً ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلاً فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وبين كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين فقال وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً
فإن قيل أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ فما الفائدة في إعادته

قلنا الذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة إلا أنهم لم يجدوا المركوب والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال مجاهد هم ثلاثة إخوة معقل وسويد والنعمان بنو مقرن سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون والثاني قال الحسن نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحملونه ووافق ذلك منه غضباً فقال عليه السلام ( والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاهم ذوداً خير الذود فقال أبو موسى ألست حلفت يا رسول الله فقال ( أما أني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين )
والرواية الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) لأن الشقة بعيدة والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده قال صاحب ( الكشاف ) قوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ في أمر الغزو والجهاد وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم قالوا السبيل الذي نفاه عن المحسنين هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين وهو الذي يختص بالجهاد والمعنى أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه ولا عذر لهم ألبتة في التخلف
فإن قيل قوله رَضُواْ ما موقعه
قلنا كأنه استئناف كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا بالدناءة والضعة والانتظام

في جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد هو أن الله طبع على قلوبهم فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا
ثم قال يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه وجب عليه تركه وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار
ثم قال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم فقال تعالى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء أو لا تبقون عليها
ثم قال ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
فإن قيل لماقال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فلم لم يقل ثم تردون إليه وما الفائدة من قوله ثُمَّ
قلنا في وصفه تعالى بكونه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد وفيه تخويف شديد وزجر عظيم لهم
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة
أما قوله سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا فقيل إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم
ثم قال تعالى فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم المدينة ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) قال أهل المعاني هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم فقال إِنَّهُمْ رِجْسٌ والمعنى أن خبث باطنهم رجس روحاني فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية فوجوب الاحتراز عن

الأرجاس الروحانية أولى خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعناه ظاهر ولما بين في الآية أنهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم بين أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم فقال فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ والمعنى أنكم إن رضيتم عنهم مع أن الله لا يرضى عنهم كانت إرادتكم مخالفة لإرادة الله وأن ذلك لا يجوز وأقول إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة وقد أعادها الله ههنا مرة أخرى وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة
الاٌّ عْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَة ُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال العلماء من أهل اللغة يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب كما تقول مجوسي ويهودي ثم يحذف ياء النسبة في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ سواء كان من العرب أو من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق وجوه الأول أنه عليه السلام قال ( حب العرب من الإيمان ) وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية والثاني أنه لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب إنما هم عرب وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب قال عليه السلام ( لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً ) الثالث قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل سموا بالعرب لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة

ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة وحكمة الهند في أوهامهم وحكمة يونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم
المسألة الثانية من الناس من قال الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق حمل على الاستغراق للضرورة قالوا لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها والألف واللام للتعريف فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال
قالوا إذا ثبت هذا فنقول قوله الاْعْرَابُ المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم
المسألة الثالثة أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين
الحكم الأول
أنهم أشد كفراً ونفاقاً والسبب فيه وجوه الأول أن أهل البدو يشبهون الوحوش والثاني استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم والثالث أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدب ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً والرابع أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبياناته الشافية وتأديباته الكاملة كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير ولم يسمع خبره والخامس قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية
الحكم الثاني
قوله وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وقوله أجدر أي أولى وأحق وفي الآية حذف والتقدير وأجدر بأن لا يعلموا وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام وقيل مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمافي قلوب خلقه حَكِيمٌ فيما فرض من فرائضه
ثم قال وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا والمغرم مصدر كالغرامة والمعنى أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتغاء ثوابه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يعني الموت والقتل أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول ويظهر عليكم المشركون ثم إنه أعاده إليهم فقال عَلَيْهِمْ دَائِرَة ُ السَّوْء والدائرة يجوز أن تكون واحدة ويجوز أن تكون صفة غالبة وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة بحيث لا يكون له منها مخلص وقوله السَّوْء قرىء بفتح السين وضمه قال الفراء فتح السين هو الوجه لأنه مصدر قولك ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسماً كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب ولا يجوز ضم السين في قوله مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ( مريم 28 ) ولا في قوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء

( الفتح 12 ) وإلا لصار التقدير ما كان أبوك امرأ عذاب وظننتم ظن العذاب ومعلوم أنه لا يجوز وقال الأخفش وأبو عبيد من فتح السين فهو كقولك رجل سوء وامرأة سوء ثم يدخل الألف واللام فيقول رجل السوء وأنشد الأخفش وكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوماً أحال على الدم
ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه كأنه قيل عليهم دائرة الهزيمة والمكروه وبهم يحيق ذلك قال أبو علي الفارسي لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه
إذا عرفت هذا فنقول المعنى يدور عليهم البلاء والحزن فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أيضاً أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً
واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين فالأول كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول وفيه بحثان الأول قال الزجاج يجوز في القربات ثلاثة أوجه ضم الراء وإسكانها وفتحها الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قربات مفعول ثان ليتخذ والمعنى أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وقال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ فلما كان ما ينفق سبباً لحصول القربات والصلوات قيل إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات وقال تعالى أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ وهذا شهادة من الله تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله إِلا وبحرف التحقيق وهو قوله أَنَّهَا ثم زاد في التأكيد فقال سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد ثم قال أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسيآتهم رَّحِيمٌ بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات وقرأ نافع أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ بضم الراء وهو الأصل ثم خففت نحو كتب ورسل وطنب والأصل هو الضم والإسكان تخفيف

وَالسَّابِقُونَ الاٌّ وَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول وما أعد لهم من الثواب بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها وهي منازل السابقين الأولين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم وذكروا وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة
إذا ثبت هذا فنقول إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وعلي بن أبي طالب وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار لأن هؤلاء

آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم نقول هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة ولم لا يجوز أن يقال إنه تغير عن تلك الحالة وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة
والجواب عن الأول أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه لأن لفظ السابق مطلق فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى قوله المراد منه السبق في الإسلام
قلنا السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى وأيضاً فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان إلا أنا نقول قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة فوجب أن يدخل فيه علي رضي الله عنه وغيره وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد فعلى هذا التقدير يكون أبو بكر من السابقين الأولين وأيضاً قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام ويصير هو قدوة لغيره وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان وعرض الإسلام عليهم ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام وأسلموا على يد الرسول عليه السلام فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام وصار هذا قدوة لغيره وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن وكان جارياً مجرى صبي في داخل البيت فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره فثبت أن الرأس والرئيس في قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ليس إلا أبا بكر أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفاً بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة
قلنا قوله تعالى رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ أو نقول إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم وهو قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ معلل بكونهم سابقين في الهجرة والعلة ما دامت موجودة وجب ترتب المعلول عليها وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم أو نقول إنه تعالى قال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة

التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات وليس لأحد أن يقول المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان لأنا نقول هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح وبين سائر الفرق فرق لأنه تعالى أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب لو صاروا مؤمنين ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء فسقط هذا السؤال فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر وعلى صحة القول بإمامته قطعاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم فقال قوم إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض ومنهم من قال بل يتناول جميع الصحابة لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين وكلمة مِنْ في قوله مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ ليست للتبعيض بل للتبيين أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً كما في قوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول روي عن حميد بن زياد أنه قال قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم وأردت الفتن فقال لي إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت له وفي أي موضع أوجب لهم الجنة قال سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ إلى آخر الآية فأوجب الله لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم قلت وما ذاك الشرط قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه قال حميد بن زياد فكأني ما قرأت هذه الآية قطا
المسألة الثالثة روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ فكان يعطف قوله الأنصار على قوله رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ وكان يحذف الواو من قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ويجعله وصفاً للأنصار وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه قال أبي والله لقد أقرأنيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على هذا الوجه وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة فقال عمر رضي الله عنه صدقت شهدتم وغبنا وفرغتم وشغلنا ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب والتفاوت أن على قراءة عمر يكون التعظيم الحاصل من قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين والله أعلم وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ ( الأنفال 75 ) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى وبأواسط سورة الحشر وهو قوله وَالَّذِينَ ذُرّيَّة ً مّن بَعْدِهِمْ ( الحشر 10 ) وبأول سورة الجمعة وهو قوله وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ( الجمعة 3 )

المسألة الرابعة قوله وَالسَّابِقُونَ مرتفع بالابتداء وخبره قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا وفي مصاحف أهل مكة تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهي قراءة ابن كثير وفي سائر المصاحف تَحْتِهَا من غير كلمة مِنْ
المسألة الخامسة قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم يريد يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم والحكم المشروط بشرط ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاٌّ عْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون المهاجرون والأنصار فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها
وأما قوله وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الزجاج أنه حصل فيه تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق الثاني قال ابن الأنباري يجوز أن يكون التقدير ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر ( من ) لدلالة مِنْ عليها كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) يريد إلا من له مقام معلوم
البحث الثاني يقال مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا والمريد من شياطين الإنس والجن وقد تمرد علينا أي عتا وقال ابن الأعرابي المراد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ وأصل المرود الملاسة ومنه صرح ممرد وغلام أمرد والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة وذلك هو الملاسة

إذا عرفت أصل اللفظ فنقول قوله مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه
ثم قال تعالى لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وهو كقوله لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك
ثم قال سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ وذكروا في تفسير المرتين وجوهاً كثيرة
الوجه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم
الوجه الثاني روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال ( اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق ) فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني عذاب القبر
والوجه الثالث قال مجاهد في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر
والوجه الرابع قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين وقال ستة يبتليهم الله بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره وستة يموتون موتاً
والوجه الخامس قال الحسن يأخذ الزكاة من أموالهم وعذاب القبر
والوجه السادس قال محمد بن إسحق هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة ثم عذابهم في القبور
والوجه السابع أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق النار والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة حياة الدنيا وحياة القبر وحياة القيامة فقوله سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر وقوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة وهي الحياة في القيامة
ثم قال تعالى في آخر الآية ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يعني النار المخلدة المؤبدة
وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان الأول أنهم قوم من المنافقين تابوا عن النفاق والثاني أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق لكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله وَءاخَرُونَ عطف على قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ والعطف يوهم التشريك إلا أنه تعالى وفقهم حتى تابوا فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق
المسألة الثانية روي أنهم كانوا ثلاثة أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وقيل كانوا عشرة فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته فلما قدم من سفره ورآهم موثقين سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم فقال وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً الآية
المسألة الثالثة قوله اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ قال أهل اللغة الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف
فإن قيل الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا
قلنا مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فأما إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في المستقبل وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى كان هذا المجموع توبة إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمفسرون قالوا إن عسى من الله يدل على الوجوب
ثم قال تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً وفيه بحثان
البحث الأول في هذا العمل الصالح وجوه الأول العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه والسيء هو التخلف عن الغزو والثاني العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك والثالث أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم
البحث الثاني لقائل أن يقول قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطاً فما المخلوط به وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق وأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل

واحد منهما كما كان على مذهبنا فإن عندنا القول بالأحباط باطل والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب فقوله تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما لأن الاختلاط صفة للمختلطين وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال فدل على بقاء العملين حال الاختلاط
ثم قال تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول ههنا سؤال وهو أن كلمة عَسَى شك وهو في حق الله تعالى محال وجوابه من وجوه
الوجه الأول قال المفسرون كلمة عسى من الله واجب والدليل عليه قوله تعالى فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ ( المائدة 52 ) وفعل ذلك وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى أو لعل تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول فذكر كلمة عَسَى الفائدة فيه هذا المعنى مع أنه يفيد القطع بالإجابة
الوجه الثاني في الجواب المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الأنكار والإهمال
البحث الثاني قال أصحابنا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق الله تعالى والعقل أيضاً دليل عليه لأن الأصل في التوبة الندم والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلاً للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وأيضاً فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين ثم يصير عظيم الندامة عليه وحال كونه راغباً فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب وحال صيرورته نادماً عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة وعلى تحصيل الرغبة قالت المعتزلة المراد من قوله يتوب الله أنه يقبل توبته
والجواب أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره أما ههنا فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره فكيف يحسن التأويل
البحث الثالث قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل وقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة بل كان مقدمة للتوبة وأن التوبة إنما تحصل بعدها
ثم قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في المراد فقال بعهضم هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة فأوجب الله تعالى أخذها وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية في

حقهم مجرى الكفارة وهذا قول الحسن وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم
والقول الثاني أن الزكوات كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم
والقول الثالث أن هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات وقالوا في الزكاة إنها طهرة أما القائلون بالقول الأول فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها وصارت كلمة أجنبية وذلك لا يليق بكلام الله تعالى وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة قالوا المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ولم تضايقوا فيها لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليماً أولى ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة وأما القائلون بالقول الأول فقالوا إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلث أموالهم وترك الثلثين لأنه تعالى قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ولم يقل خذ أموالهم وكلمة مِنْ تفيد التبعيض واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى
المسألة الثانية هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة
الحكم الأول
أن قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ بل المذكور ههنا قوله صَدَقَة ٍ ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان وإن كان في غاية القلة مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم حتى يكون قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأخذ تلك الصدقة المعلومة فحينئذ يزول الإجمال ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين كيفيتها والصدقة التي بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي أنه أمر

بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض وفي ستة وثلاثين بنت لبون إلى غير ذلك من المراتب فكان قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة وظاهر الآية للوجوب فدل هذا النص على أن أخذها واجب وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثاني
أن قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يقتضي أن يكون المال مالاً لهم ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكاً للمالك في النصاب وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب
وإذا ثبت هذا فنقول إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب فالذي هلك ما كان محلاً للحق بل محل الحق باق كما كان فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان وهذا قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثالث
ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان وهو ظاهر
الحكم الرابع
ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن الشافعي رحمه الله يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً
المسألة الثالثة في قوله تُطَهّرُهُمْ أقوال
القول الأول أن يكون التقدير خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم
القول الثاني أن يكون تطهرهم معلقاً بالصدقة والتقدير خذ من أموالهم صدقة مطهرة وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جارياً مجرى التطهير والله أعلم
إن على هذا القول وجب أن نقول إن قوله وَتُزَكّيهِمْ يكون منقطعاً عن الأول ويكون التقدير خُذِ يا محمد مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها
القول الثالث أن يجعل التاء في تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء تُطَهّرُهُمْ من أطهره بمعنى طهره وتطهرهم بالجزم جواباً للأمر ولم يقرأ تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ إلا بإثبات الياء

ثم قال تعالى وَتُزَكّيهِمْ واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة فقيل التزكية مبالغة في التطهير وقيل التزكية بمعنى الإنماء والمعنى أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء وقيل الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء
ثم قال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ءانٍ بغير واو وفتح التاء على التوحيد والمراد منه الجنس وكذلك في سورة هود أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ بغير واو وعلى التوحيد والباقون صَلَواتَكَ وكذلك في هود على الجمع قال أبو عبيدة والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر ألا ترى أنه قال وَأَنْ أَقِيمُواْ والصلوات جمع قلة تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات قال أبو حاتم هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) ولم يرد القليل وقال وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الثانية احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم فكان وجوب الزكاة مشروطاً بحصول ذلك السكن ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعاً لحاجة الفقير كما في قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( التوبة 60 ) وكما في قوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 )
المسألة الثالثة لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء فإذا قلنا صلى فلان على فلان أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللهم صل عليه فلهذا السبب اختلف المفسرون فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه ادع لهم قال الشافعي رحمه الله والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وقال آخرون معناه أن يقول اللهم صل على فلان ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) ونقل القاضي في ( تفسيره ) عن الكعبي في ( تفسيره ) أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام ومن الناس من أنكر ذلك ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول والشيعة يذكرونه في علي وأولاده واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ورأيت بعضهم قال أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام قال القاضي إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام والدليل عليه أنهم قالوا يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف

الصلاة عليك فقال على وجه التعليم قولوا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي فيتناول علياً ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم والله أعلم
المسألة الخامسة كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع فقلت إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم فقوله سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم إلا أنهم قالوا النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
إذا عرفت هذا فههنا وجهان الأول أن التنكير يدل على الكمال ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) والمعنى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة
إذا ثبت هذا فقوله ( سلام ) لفظة منكرة فكان المراد منه سلام كامل تام وعلى هذا التقدير فقد صارت هذه النكرة موصوفة فصح جعلها مبتدأ وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله ( عليكم ) والتقدير سلام كامل تام عليكم والثاني أن يجعل قوله ( عليكم ) صفة لقوله ( سلام ) فيكون مجموع قوله ( سلام عليكم ) مبتدأ ويضمر له خبر والتقدير سلام عليكم واقع كائن حاصل وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم
إذا عرفت هذا فنقول إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل وأيضاً فقوله ( وعليكم السلام ) يفيد الحصر فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) ومن لطائف قوله ( سلام عليكم ) أنها أكمل من قوله ( السلام عليك ) وذلك لأن قوله ( سلام عليك ) معناه سلام كامل تام شريف رفيع عليك وأما قوله السلام عليك فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية فكان قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام عليك ) ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ ( السلام ) من الله تعالى ورد على سبيل التنكير كقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وقوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وفي القرآن من هذا الجنس كثير أما لفظ ( السلام ) بالألف واللام فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام كقول موسى عليه السلام قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ( مريم 15 ) وهذا السلام من الله تعالى وفي قصة عيسى عليه السلام قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) وهذا كلام عيسى عليه السلام فثبت بهذه الوجوه أن قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام

عليك ) فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر فمنهم من قال الأصل فيها الشر وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان بل نزيد ونقول إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه بل قالوا هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر
إذا ثبت هذا فنقول دفع الشر أهم من جلب الخير ويدل عليه وجوه الأول أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد والثاني أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع لأن الأول فعل والثاني ترك وفعل ما لا نهاية له غير ممكن أما ترك ما لا نهاية له ممكن والثالث أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر وذلك يوجب حصول الألم والحزن وهو في غاية المشقة وأما إذا لم يحصل أيضاً إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر بل على السلامة الأصلية وتحمل هذه الحالة سهل فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام وهو أن يقول ( سلام عليكم ) ومن لطائف قولنا ( سلام عليكم ) أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة والأمر كذلك بحسب العقل وبحسب الشرع أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره كما قال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) والعقل أيضاً يدل عليه وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة فبعضها أرواح خيرة عاقلة وبعضها كدرة خبيثة وبعضها شهوانية وبعضها غضبية ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات تارة في اليقظة وتارة في النوم وأيضاً الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيراً فخير وأن شراً فشر وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوباً بتلك الأرواح المجانسة له فقوله ( سلام عليكم ) إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية ومن لطائف هذا الباب

أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة وقويت وتجردت ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة الأنبياء ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ويقوي روحه يمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره ( سلام عليكم ) حدث بينهما تعلق شديد وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام والله أعلم
المسألة السادسة قوله ءانٍ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ قال الواحدي السكن في اللغة ما سكنت إليه والمعنى أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك وللمفسرين عبارات قال ابن عباس رضي الله عنهما دعاؤك رحمة لهم وقال قتادة وقار لهم وقال الكلبي طمأنينة لهم وقال الفراء إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم وأقول إن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة وترغيب كل العصاة في الطاعة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم قوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ وإن كان بصيغة الاستفهام إلا أن المقصود منه التقرير في النفس ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم
ثم زاده تأكيداً بقوله وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَلَمْ يَعْلَمُواْ بالياء والتاء وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني أَلَمْ يَعْلَمُواْ قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية والثاني أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكم بصحة توبتهم قال ( الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم ) فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة قوله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ في فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم الله ثم قال عقيبه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ وفيه تنبيه على أن كونه إلهاً يوجب قبول التوبة وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين ويمتنع أيضاً أن يكون له شهوة إلى الطاعة ونفرة عن المعصية حتى يقال إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل فالمذنب لا يضر إلا نفسه والمطيع لا ينفع إلا نفسه كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فإن كان الإله رحيماً حكيماً كريماً ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل أو لمعارض أو لمباين
الفائدة الثانية في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيراً كان أو شراً
المسألة الرابعة قالت المعتزلة قبول التوبة واجب عقلاً على الله تعالى وقال أصحابنا قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان أما عقلاً فلا وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه الأول أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم فلو وجب قبول التوبة على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقاً للذم وهذا محال لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملاً بفعل القبول والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى محال الثاني أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقصان حال أما من كان متعالياً عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى الثالث أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية ولو كان ذلك واجباً لما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم
المسألة الخامسة عَنْ في قوله تعالى عَنْ عِبَادِهِ فيه وجهان الأول أنه لا فرق بين قوله عَنْ

عِبَادِهِ وبين قوله من عباده يقال أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك والثاني قال القاضي لعل عَنْ أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت وأقول إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة عَنْ على هذا المعنى والذي أقوله إن كلمة عَنْ وكلمة ( من ) متقاربتان إلا أن كلمة عَنْ تفيد البعد فإذا قيل جلس فلان عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله عَنْ عِبَادِهِ يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعداً عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرة نفسه فلفظة عَنْ كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب
المسألة السادسة قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ فيه سؤال وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ ( خذها من أغنيائهم ) يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لما بين في قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أن الآخذ هو الرسول ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام
والجواب الثاني أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم ( الأنعام 60 ) وأضافه إلى ملك الموت وهو قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت وهو قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل وإلى أتباع ملك الموت يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت فكذا ههنا
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ تشريف عظيم لهذه الطاعة والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال ( إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد ) وقال عليه السلام ( والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله ولما روى الحسن هذين الخبرين قال ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين فمن شاء أحرقه ومن شاء كسره ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهاً بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات وليس بموجد بالمشيئة والاختيار فقال الموجب بالذات إذا لم يكن عالماً بالخيرات ولم يكن قادراً على الإنفاع والإضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين فأي فائدة في عبادته فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول إله العالم موجب بالذات أما إذا كان فاعلاً مختاراً وكان عالماً بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة فقوله وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين فكأنه تعالى قال اجتهدوا في المستقبل فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده
المسألة الثانية دلت الآية على مسائل أصولية
الحكم الأول
إنها تدل على كونه تعالى رائياً للمرئيات لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد هي الإبصار والمعداة إلى مفعولين هي العلم كما تقول رأيت زيداً فقيهاً وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار وذلك يدل على كونه مبصراً للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) يدل على كونه تعالى مبصراً ورائياً للأشياء ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى

المفعول الواحد معناها الإبصار فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار وإلى أعمال الجوارح كالحركات والسكنات فوجب كونه تعالى رائياً للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات فلما قيل له إن صح هذا الاستدلال فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القلوب فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وهم إنما يرون أفعال الجوارح فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب فدخول التخصيص في المعطوف لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال رؤية الله تعالى حاصلة في الحال والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أمر غير حاصل في الحال لأن السين تختص بالاستقبال فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال فقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ولمجيب أن يجيب عنه بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار وأنه غير جائز
المسألة الثالثة في قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سؤال وهو أن عملهم لا يراه كل أحد فما معنى هذا الكلام
والجواب معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل قال عليه السلام ( لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان )
فإن قيل فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين
قلنا فيه وجهان
الوجه الأول أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولاً ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين فكأنه قيل إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق وهو الرسول والمؤمنون
الوجه الثاني في الجواب ما ذكره أبو مسلم أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) الآية والرسول شهيد الأمة كما قال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد
ثم قال تعالى وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وفيه مسائل

المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسرونه والشهادة ما يظهرونه وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم وأقول أيضاً مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فوجب كون العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشهادة فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة
المسألة الثانية إن حملنا قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ على الرؤية فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ جارياً مجرى التفسير لقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ معناه بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا أو بإظهار أضدادها وقوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ معناه ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب
ثم قال فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر وقال حكماء الإسلام المراد من قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الإشارة إلى الثواب الروحاني وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعاً من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملاً لتلك المشاق عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة
وأما قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته وهذا نوع من العذاب الروحاني وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذراً منه والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب
وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاٌّ مْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه إذا أخرته وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله تعالى وقال الأوزاعي لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام
القسم الأول المنافقون الذين مردوا على النفاق

القسم الثاني التائبون وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ وبين تعالى أنه قبل توبتهم
والقسم الثالث الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في هذه الآية والفرق بين القسم الثاني وبين هذا الثالث أو أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال كعب أنا أفره أهل المدينة جملاً فمتى شئت لحقت الرسول فتأخر أياماً وأيس بعدها من اللحوق به فندم على صنيعه وكذلك صاحباه فلما قدم رسول الله قيل لكعب اعتذر إليه من صنيعك فقال لا والله حتى تنزل توبتي وأما صاحباه فاعتذرا إليه عليه السلام فقال ( ما خلفكم عني ) فقالا لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فوقفهم الرسول بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير فأذن لها في ذلك خاصة وجاء رسول من الشأم إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم فقال كعب بلغ من خطيئتي أن طمع في المشركون قال فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره فلما مضى خمسون يوماً نزلت توبتهم بقوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ ( التوبة 117 ) وبقوله تعالى وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ ( التوبة 118 ) الآية وقال الحسن يعني بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ قوماً من المنافقين أرجأهم رسول الله عن حضرته وقال الأصم يعني المنافقين وهو مثل قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ أرجأهم الله فلم يخبر عنهم ما علمه منهم وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً فقال الله تعالى إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن كلمة ( إما ) و ( أما ) للشك والله تعالى منزه عنه وجوابه المراد منه ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذراً وآخرون يقولون عسى الله أن يغفر لهم
المسألة الثانية لا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو وتخلفهم عن الرسول عليه اسلام ثم إنه تعالى لم يحكم بكونهم تائبين بل قال إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أن الندم وحده لا يكون كافياً في صحة التوبة
فإن قيل فما تلك الشرائط
قلنا لعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة ولا مقبولة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية وعند ذلك صحت توبتهم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يعفو عن غير التائب وذلك لأنه قال في حق هؤلاء المذنبين إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين وهو إما التعذيب وإما التوبة وأما العفو عن الذنب من غير التوبة فهو قسم ثالث فلما أهمل الله تعالى ذكره دل على أنه باطل وغير معتبر

والجواب أنا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين بل نقطع بحصول العفو في الجملة وأما في حق كل واحد بعينه فذلك مشكوك فيه ألا ترى أنه تعالى قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقطع بغفران ما سوى الشرك لكن لا في حق كل أحد بل في حق من يشاء فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء عدم العفو على الإطلاق وأيضاً فعدم الذكر لا يدل على العدم ألا ترى أنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) وهم المؤمنون وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 40 41 ) فههنا المذكورون إما المؤمنون وإما الكافرون ثم إن عدم ذكر القسم الثالث لم يدل عند الجبائي على نفيه فكذا ههنا
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراف فالأول على أنه بدل من قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ والثاني أن يكون التقدير ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً
المسألة الثانية قال الواحدي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي الله عنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارون به مسجد قباء وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة
الصفة الأولى ضراراً والضرار محاولة الضر كما أن الشقاق محاولة ما يشق قال الزجاج وانتصب قوله ضِرَارًا لأنه مفعول له والمعنى اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب قال وجائز أن يكون مصدراً محمولاً على المعنى والتقدير اتخذوا مسجداً ضروا به ضراراً
والصفة الثانية قوله وَكُفْراً قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد به ضرراً للمؤمنين وكفراً بالنبي عليه السلام وبما جاء به وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام
الصفة الثالثة قوله وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن

المنافقين قالوا نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نصلي خلف محمد فإن أتانا فيه صلينا معه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة
والصفة الرابعة قوله وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قالوا المراد أبو عامر الراهب والد حنظلة الذي غسلته الملائكة وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاداه لأنه زالت رياسته وقال لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإن ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد قال الزجاج الإرصاد الانتظار وقال ابن قتيبة الإرصاد الانتظار مع العداوة وقال الأكثرون الإرصاد الأعداد قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) وقوله مِن قَبْلُ يعني من قبل بناء مسجد الضرار ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أن الله تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين
واعلم أن قوله وَالَّذِينَ محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن ذكرنا الذين
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قال المفسرون إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

إلى غزوة تبوك قالوا يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال عليه السلام إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية فدعا بعض القوم وقال انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وخربوه ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة وقال الحسن هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاَ تَقُمْ فِيهِ نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه قال ابن جريج فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد وانهار في يوم الاثنين ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني
فإن قيل كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني
قلنا التعليل وقع بمجموع الأمرين أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة ومن الروافض من يقول بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة فزال هذا السؤال واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو قيل إنه مسجد قباء وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه والأكثرون أنه مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال سعيد بن المسيب المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام وذكر أن الرجلين اختلفا فيه فقال أحدهما مسجد الرسول وقال آخر قباء فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا وقال القاضي لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى هو كقول القائل لرجل صالح أحق أن تجالسه فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد
فإن قيل لم قال أحق أن تقوم فيه مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر
قلنا المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى للسبب المذكور
ثم قال تعالى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين أحدهما أنه بني على التقوى وهو الذي تقدم تفسيره والثاني إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا وفي تفسير هذه الطهارة قولان الأول المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه أولها أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه والثاني أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي والثالث أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ولم تحصل نظافة الظاهر

كأن طهارة الباطن لها أثر فكان طهارة الباطن أولى الرابع روى صاحب ( الكشاف ) أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال ( أمؤمنون أنتم ) فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه السلام ( أترضون بالقضاء ) قالوا نعم قال ( أتصبرون على البلاء ) قالوا نعم قال ( أتشكرون في الرخاء ) قالوا نعم قال عليه السلام ( مؤمنون ورب الكعبة ) ثم قال ( يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء ) قالوا نتبع الماء الحجر فقرأ النبي عليه السلام فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ الآية
والقول الثاني أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار
والقول الثالث أنه محمول على كلا الأمرين وفيه سؤال وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز
والجواب أن لفظ النجس اسم للمستقذر وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير فإنه يزول السؤال ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول وهو كون المسجد مبنياً على التقوى فقال أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ وفيه مباحث
البحث الأول البنيان مصدر كالغفران والمراد ههنا المبني وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وقال الواحدي يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً لأنهم قالوا بنيانة في الواحد
البحث الثاني قرأ نافع وابن عامر أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على فعل ما لم يسم فاعله وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس أما قوله عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ أي للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه والرغبة في ثوابه كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله أما قوله مِن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم جُرُفٍ ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق
البحث الثاني قال أبو عبيدة الشفا الشفير وشفا الشيء حرفه ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الشيء هو الجرف وقوله هَارٍ قال الليث الهور مصدر هار الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه وهو جرف هار هائر فإذا سقط فقد انهار وتهور
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق

الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه شَفَا جُرُفٍ هَارٍ كان مشرفاً على السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثالا وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم
ثم قال تعالى لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة وفي كونه سبباً للريبة وجوه الأول أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته الثاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم الثالث أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه الرابع بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد والصحيح هو الوجه الأول
ثم قال إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة أَن تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع فحذفت إحدى التاءين والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله وعن ابن كثير تُقَطَّعَ بفتح الطاء وتسكين القاف قُلُوبِهِمْ بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع وقوله تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي تجعل قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء فحينئذ تزول تلك الريبة والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق وقيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة وقرأ الحسن إِلَى أَن وفي قراءة عبد الله وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ وعن طلحة وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ على خطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو كل مخاطب
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والمعنى عليم بأحوالهم حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القرطبي لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) قالوا فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا قال ( الجنة ) قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية قال مجاهد والحسن ومقاتل ثامنهم فأغلى ثمنهم
المسألة الثانية قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك ولهذا قال الحسن اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة وحقيقة هذا أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه وينفق ماله في سبيل الله أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل فجعل هذا استبدالاً وشراء هذا معنى قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أي بالجنة وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش قال الحسن اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة وقال الصادق عليه الصلاة والسلام ( ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ) وقوله وَأَمْوالَهُمْ يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم وفي الآية لطائف
اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة والعفو عن الذنوب والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات
واللطيفة الثانية أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم والأمر في نفسه كذلك لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال بالجنة وهو التحقيق لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل وهو البدن والمال امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل والمال للإنفاق في طلب رضوان الله فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى والمولى على الدنيا والآخرة على الأولى فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة فالربح حاصل والهم والغم زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ

ثم قال يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قوله يُقَاتَلُونَ فيه معنى الأمر كقوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وقيل جعل يُقَاتَلُونَ كالتفسير لتلك المبايعة وكالأمر اللازم لها قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين والباقون بتقديم الفاعل على المفعول أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وهو كقوله فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 146 ) أي ما وهن من بقي منهم واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا فمنهم من قال هو مختص بالجهاد بالمقاتلة لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ومنهم من قال كل أنواع الجهاد داخل فيه بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي رضي الله عنه ( لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم ولا فساد في ذاته إنما الفساد في الصفة القائمة به وهي الكفر والجهل ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه لا جرم حث الشرع على إبقائه فقال ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات فكان المقام الأول أولى وأفضل
ثم قال تعالى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ قال الزجاج نصب وَعْداً على المعنى لأن معنى قوله بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أنه وعدهم الجنة فكان وعداً مصدراً مؤكداً واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو
فالقول الأول أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن
والقول الثاني المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة كما بين في القرآن
والقول الثالث أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع
ثم قال تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ والمعنى أن نقض العهد كذب وأيضاً أنه مكر وخديعة وكل ذلك من القبائح وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها وقوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد من الله
ثم قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الآية مشتملة على

أنواع من التأكيدات فأولها قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد والثاني أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد وثالثها قوله وَعْداً ووعد الله حق ورابعها قوله عَلَيْهِ وكلمة ( على ) للوجوب وخامسها قوله حَقّاً وهو التأكيد للتحقيق وسادسها قوله فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة وسابعها قوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وهو غاية في التأكيد وثامنها قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وهو أيضاً مبالغة في التأكيد وتاسعها قوله وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ وعاشرها قوله الْعَظِيمِ فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك الأعواض الرفيعة الشريفة ونحن نقول لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب وعندكم واجب والآية ساكتة عن بيان الوجوب
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الاٌّ مِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة وفيه مسألتان
المسألة الأولى في رفع قوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وجوه الأول أنه رفع على المدح والتقدير هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين في قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ هم التائبون الثاني قال الزجاج لا يبعد أن يكون قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وهذا وجه حسن لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين وإذا جعلنا قوله التَّائِبُونَ تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين الثالث التَّائِبُونَ مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله يُقَاتَلُونَ الرابع قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وقوله الْعَابِدُونَ إلى آخر الآية خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال وقرأ أبي وعبد الله التائبين بالياء إلى قوله والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ وفيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك نصباً على المدح الثاني أن يكون جراً صفة للمؤمنين

المسألة الثانية في تفسير هذه الصفات التسعة
فالصفة الأولى قوله التَّائِبُونَ قال ابن عباس رضي الله عنه التائبون من الشرك وقال الحسن التائبون من الشرك والنفاق وقال الأصوليون التائبون من كل معصية وهذا أولى لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر وقد تكون من المعصية وقوله التَّائِبُونَ صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 )
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة أولها احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه وثانيها ندمه على ما مضى وثالثها عزمه على الترك في المستقبل ورابعها أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض فهو ليس من التائبين
والصفة الثانية قوله تعالى الْعَابِدُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ولابن عباس رضي الله عنهما أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية قال الحسن الْعَابِدُونَ هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء وقال قتادة قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم
الصفة الثالثة قوله الْحَامِدُونَ وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا وهم الملائكة لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى وهو دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) وهم المرادون بقوله والحامدون
الصفة الرابعة قوله الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وفيه أقوال
القول الأول قال عامة المفسرين هم الصائمون وقال ابن عباس كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام وقال النبي عليه الصلاة والسلام ( سياحة أمتي الصيام ) وعن الحسن أن هذا صوم الفرض وقيل هم الذين يديمون الصيام وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم وجهان الأول قال الأزهري قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم يمسك عن الأكل فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً الثاني أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة وترك المشتهي وهو الأكل والشرب والوقاع وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد

على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات
والقول الثاني أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم وهو قول عكرمة وعن وهب بن منبه كانت السياحة في بني إسرائيل وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً فقال يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس فلا بد له من الصبر عليها وقد ينقطع زاده فيحتاج إلى التوكل على الله وقد يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين
والقول الثالث قال أبو مسلم السَّائِحُونَ السائرون في الأرض وهو مأخوذ من السيح سيح الماء الجاري والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات
الصفة الخامسة والسادسة قوله الركِعُونَ السَّاجِدونَ والمراد منه إقامة الصلوات قال القاضي وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة وهو قيامه وقعوده والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم
الصفة السابعة والثامنة قوله الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتاب كبير مذكور في علم الأصول فلا يمكن إيراده ههنا وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر بالله والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما دخول الواو في قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ففيه وجوه
الوجه الأول أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) فجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو
الوجه الثاني أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة ثم قال الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ والتقدير أن الموصوفين بالصفات الستة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه هو الجهاد فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا

الوجه الثالث في إدخال الواو على هؤلاء وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ولا تعلق لشيء منها بالغير أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات فأدخل عليها الواو تنبيهاً على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة
الصفة التاسعة قوله وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين أحدهما ما يتعلق بالعبادات والثاني ما يتعلق بالمعاملات أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا بل لمصالح مرعية في الدين وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر وأما المعاملات فهي إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار
والقسم الأول وهو ما يتعلق بجلب المنافع فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية أما المنافع المقصودة بالأصالة فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة فأولها المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه ولما كان الطعام قد يكون نباتاً وقد يكون حيواناً والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح وكتاب الضحايا وثانيها الملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله وهو باب النكاح ومنه أيضاً باب الرضاع ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله وما لا يحل كاستعماله الأواني الذهبية والفضية وطال كلام الفقهاء في هذا الباب وثالثها المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ورابعها المسموعات وهو باب هل يحل سماعه أم لا وخامسها المشمومات وليس للفقهاء فيها مجال وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال والبحث عنها من ثلاثة أوجه الأول الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره أما البيع فهو إما بيع الأعيان أو بيع المنافع وبيع الأعيان فأما أن يكون بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وقيل إنه لا يجوز لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالىء بالكالىء ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة وكتاب الجعالة وكتاب عقد المضاربة وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخد الفيء والغنائم وأخذ الزكوات وغيرها ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء
والنوع الثاني من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما
والنوع الثالث الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار

فنقول أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الإرش وأما المضار الحاصلة في الأموال فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة وأما المضار الحاصلة في الأديان فهي إما الكفر وإما البدعة أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ويدخل فيه أيضاً باب حد القذف وباب اللعان وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه لأنه ربما كان ضعيفاً فلا يلتفت إليه خصمه فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيد الأحكام ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولاً على الغير إلا بالحجة فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية فقال وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وهو يتناول جملة هذه التكاليف
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك فإن أعمال المكلفين قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم ينصفوا لها كتباً وأبواباً وفصولاً ولم يبحثوا عن دقائقها ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ فذكر هذه الصفات التسعة ثم ذكر عقيبها قوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ تنبيهاً على أن البشارة المذكورة في قوله فَاسْتَبْشِرُواْ لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات
فإن قيل ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة
قلنا لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة لطلب العلم والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضاً فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا

القسم على سبيل التفصيل وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال
مَا كَانَ لِلنَّبِى ِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم كما أوجبت البراءة عن أحيائهم والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام ( أي أبويه أحدث به عهداً ) قيل أمك فذهب إلى قبرها ووقف دونه ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ثم زرت وبكيت فقال قد أذن لي فيه فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها الثاني روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ( يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت هذه الآية قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ قال الواحدي وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يفعل ذلك ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه فهذا غير مستبعد في الجملة الثالث يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الرابع يروى أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضيف ويمنح من ماله وأي أبي فقال أمات مشركاً قال نعم قال في ضحضاح من النار فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال ( إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار )

المسألة الثانية قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي فالأول معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين والثاني معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وأيضاً قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز وأيضاً لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته وأيضاً أنه قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئاً بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله واحتج عليه بقول أهل النار رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك وهذا في غاية البعد من وجوه الأول أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون وذلك ممنوع بل نص القرآن يبطله وهو قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 24 ) والثاني أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز لأنه يوجب نقصان منصبه والثالث أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثاً أو معصية وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى وكون سبب النزول ما حكينا يقوي هذا الذي قلناه
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه والثاني أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى الثالث أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس والمقصود أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً فكأنه قيل إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفاً بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى
المسألة الثانية دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه قال تعالى حكاية عنه وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 )

وأيضاً قال عنه رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ ( إبراهيم 41 ) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال أيضاً لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( التوبة 114 ) وفيه قولان الأول أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام والمعنى أن أباه وعده أن يؤمن فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه وترك ذلك الاستغفار الثاني أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن وَعَدَهَا أَبَاهُ بالباء ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين
الوجه الأول المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة فهذا هو الاستغفار فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصراً على الكفر ترك تلك الدعوة
والوجه الثاني في الجواب أن من الناس من حمل قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) على صلاة الجنازة وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين وهو قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ( التوبة 84 ) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ومنه من الصلاة على المشركين سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك وهذا قول غريب
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله فقال بعضهم بالإصرار والموت وقال بعضهم بالإصرار وحده وقال آخرون لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي وعند ذلك تبرأ منه فكان تعالى يقول لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه فكونوا كذلك لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( النساء 125 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة قال إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ وللمفسرين فيه عبارات روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الأواه الخاشع المتضرع ) وعن عمر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الأواه فقال ( الدعاء ) ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه فأنكر عمر فقال عليه الصلاة والسلام ( دعها فإنها أواهة ) قيل يا رسول الله وما الأواهة قال ( الداعية الخاشعة المتضرعة ) وقيل معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها كلما ذكر

لنفسه تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً له وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأواه المؤمن بالخشية وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لما ظهر له إصراره على الكفر فأنتم بهذا المعنى أولى وكذلك وصفه أيضاً بأنه حليم لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما منه المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين وأيضاً فإن أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه فهذا وجه حسن في النظم وقيل المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين ووجوب مباينتهم والاحتراز عن موالاتهم فكأنه قيل إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواماً بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة وفي قوله تعالى لِيُضِلَّ وجوه الأول أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه والثاني قالت المعتزلة المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال واحتجوا بقول الكميت وطائفة قد أكفروني بحبكم

وقال أبو بكر الأنباري هذا التأويل فاسد لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا ضلل يضلل واحتجاجهم ببيت الكميت باطل لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل وليس كل موضع صح فيع فعل صح أفعل ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره ولا يجوز أن يقال أكسره بل يجب فيه الرجوع إلى السماع
والوجه الثالث في تفسير الآية وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحاً ومنهياً عنه وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات وهو قوله أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وبأنه قادر على كل الممكنات وهو قوله لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله فكان التقدير أن من كان عالماً قادراً هكذا لم يكن محتاجاً والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان وإزالة العذر قبيح فوجب أن لا يفعله الله تعالى فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه وهذا يقتضي أنه يقبح من الله تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به
والجواب أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين وإزالة العذر وإزاحة العلة وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب
ثم قال تعالى لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله في ذكر هذا المعنى ههنا فوائد إحداها أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصراً لكم فهم لا يقدرون على إضراركم وثانيها أن القوم من المسلمين قالوا لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم وثالثها أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيداً لي
لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاٌّ نصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ

اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين على ما سيجيء شرحها وهذا يوجب الثناء فكيف يليق بها قوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ
والجواب من وجوه الأول أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل وهو المشار إليه بقوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار ولست أقول عزموا عليه بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
والوجه الثاني في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد والمحن أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها فلهذا السبب قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الثالث في الجواب أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر وكانت الوساوس تقع في قلوبهم فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الرابع لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة
المسألة الثانية في المراد بساعة العسرة قولان
القول الأول أنها مختصة بغزوة تبوك والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته قال جابر حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد أما عسرة

الظهر فقال الحسن كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وأما عسرة الزاد فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وأما عسرة الماء فقال عمر خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة ومن خرج فيها فهو جيش العسرة وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
والقول الثاني قال أبو مسلم يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى وَإِذَا زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) وقوله لَقَدِ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ( آل عمران 152 ) الآية والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول فاعل كَادَ يجوز أن يكون قُلُوبٍ والتقدير كاد قلوب فريق منهم تزيغ ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن والمعنى كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة
البحث الثاني قرأ حمزة وحفص عن عاصم يَزِيغُ بالياء لتقدم الفعل والباقون بالتاء لتأنيث قلوب وفي قراءة عبد الله مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ
البحث الثالث كَادَ عند بعضهم تفيد المقاربة فقط وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم فقيل هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول لكنه صبر واحتسب فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير وقال الأخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
فإن قيل ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة والمقصود منه تعظيم شأنهم
والوجه الثاني أنه إذا قيل عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة ) وهذا معنى قول ابن عباس في قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا

والوجه الثالث أنه قال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ثم إنه تعالى زاد عليه فقال مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس
ثم قال تعالى إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة وقيل إحداهما للرحمة السالفة والأخرى للمستقبلة
وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام كان ذلك دليلاً على تعظيمه وإجلاله وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك
المسألة الثانية إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوهاً أحدها أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه وثانيها لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال خلفهم الرسول وثالثها أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة قول الله تعالى في حقنا وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا ليشير به إلى قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ

المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء خُلّفُواْ أي خلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرأ جعفر الصادق خالفوا وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين
المسألة الرابعة هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع وللناس في هذه القصة قولان
القول الأول أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال الحسن كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفعل وكان للثاني أهل فقال يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل والثالث ما كان له مال ولا أهل فقال مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلحقوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي حبس كعباً ) فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وأنزل قوله وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ فعند ذلك خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال ( الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا ) فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعب توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال ( لا ) قلت فنصفه قال ( لا ) قلت فثلثه قال ( نعم ) واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى قوله حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ قال المفسرون معناه أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً وقيل أكثر ومعنى وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ تقدم تفسيره في هذه السورة
والصفة الثانية قوله وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء ونظر الناس لهم بعين الإهانة
الصفة الثالثة قوله وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) ومن الناس من قال معنى قوله وَظَنُّواْ أي علموا كما في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) والدليل عليه أنه تعالى ذكر

هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه وقال آخرون وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث قال ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار والتقدير حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب عليهم ثم تاب عليهم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك
فإن قيل فما معنى قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ
قلنا فيه وجوه الأول قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يدل على أن التوبة فعل الله وقوله لِيَتُوبُواْ يدل على أنها فعل العبد فهذا صريح قولنا ونظيره فَلْيَضْحَكُواْ مع قوله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وقوله كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مع قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقوله هُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ مع قوله قُلْ سِيرُواْ والثاني المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل والثالث أصل التوبة الرجوع فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك الرابع ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ أي ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها الخامس ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلاً قالوا لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوماً أو أكثر ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً لما جاز ذلك
أجاب الجبائي عنه بأن قال يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر لكنه يقال أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره وأيضاً لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة بل كان على سبيل التشديد في التكليف قال القاضي وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب فالذي يجري عليهم وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين
والجواب أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وكلمة ثُمَّ للتراخي فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولاً عن الظاهر من غير دليل

فإن قالوا الموجب لهذا العدول قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ
قلنا صيغة يقبل للمستقبل وهو لا يفيد الفور أصلاً بالإجماع ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم لا لأجل الوجوب وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلاً على الله قبول التوبة
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فقال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد بقوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أي كونوا على طريقة الصادقين كما أن الرجل إذا قال لولده كن مع الصالحين لا يفيد إلا ذلك سلمنا ذلك لكن نقول إن هذا الأمر كان موجوداً في زمان الرسول فقط فكان هذا أمراً بالكون مع الرسول فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة
والجواب عن الأول أن قوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أمر بموافقة الصادقين ونهى عن مفارقتهم وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فدلت هذه الآية على وجود الصادقين وقوله إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين فنقول إنه عدول عن الظاهر من غير دليل قوله هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام
قلنا هذا باطل لوجوه الأول أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة فكان الأمر في هذا التكليف كذلك والثاني أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء والثالث لما لم يكن الوقت المعين مذكوراً في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حمله على الباقي فأما أن لا يحمل على شيء من الأوقات فيفضي إلى التعطيل وهو باطل أو على الكل وهو المطلوب والرابع وهو أن قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ أمر لهم بالتقوى وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقياً وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن

كان واجب العصمة وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان فوجب حصوله في كل الأزمان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان
قلنا نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان إلا أنا نقول ذلك المعصوم هو مجموع الأمة وأنتم تقولون ذلك المعصوم واحد منهم فنقول هذا الثاني باطل لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق وأنه لا يجوز لكنا لا نعلم إنساناً معيناً موصوفاً بوصف العصمة والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة فثبت أن قوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ليس أمراً بالكون مع شخص معين ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك
المسألة الثانية الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه الأول روي أن واحداً جاء إلى النبي عليه السلام وقال إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك فقال عليه السلام ( اترك الكذب ) فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر فقال إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي وتاب عن الكل الثاني روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت الثالث قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس فالمسلم أولى أن يستنكف منه الرابع من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو فقال أصحابنا المقتضي بقبحه هو كونه مخلاً لمصالح العالم ومصالح النفس وقالت المعتزلة المقتضى لقبحه هو كونه كذباً ودليلنا قوله تعالى رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الحجرات 6 ) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذباً فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذباً لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد واحتج القاضي

على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحاً ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر الله تعالى به إذا كان مصلحة وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلاً لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح فلو فرضتم كون الإنسان خالياً عن هذه العادة وفرضتم استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية إنكم تثبتون امتناع الكذب على الله تعالى بكونه قبيحاً لكونه كذباً فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن الله لزم الدور وهو باطل
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاٌّ عْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه فقال مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ والأعراب الذين كانوا حول المدينة مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار هكذا قاله ابن عباس وقيل بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام والتخصيص تحكم وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول الله في الحر والمشقة وقوله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه وتركته وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه والمعنى ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه

واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضاً بقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وأيضاً بقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( النور 61 الفتح 17 ) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصاً من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت هذا العموم
واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند الله تعالى ثم إنه ذكر أموراً خمسة أولها قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه وثانيها قوله وَلاَ نَصَبٌ ومعناه الإعياء والتعب وثالثها وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال فلان خميص البطن ورابعها قوله وَلاَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد أي أغضبه وخامسها قوله وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً أي أسراً وقتلاً وهزيمة قليلاً كان أو كثيراً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية واختلفوا فقال قتادة هذا الحكم من خواص رسول الله إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر وقال ابن زيد هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون وادياً والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكاً للسيل والجمع الأودية إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير
ثم قال لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه وجهان الأول أن الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح والله تعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح والثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة ً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة ٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَة ٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن أن يقال هذه الآية من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد
أما الاحتمال الأول نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين تبقى طائفة في خدمة الرسول وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار وأيضاً كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قسمين أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد والثاني يكونون مقيمين بحضرة الرسول فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين في التفقه وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين
إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان أحدهما أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار والتقدير فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم
والاحتمال الثاني هو أن يقال التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والشك والنفاق فهذا القول أيضاً محتمل وطعن القاضي في هذا القول قال لأن هذا الحس لا يعد فقهاً في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم وقويت شوكتهم فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من الله تعالى وليس من البشر إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم فالتنبه لفهم هذه الدقائق

واللطائف لا شك أنه تفقه
وأما الاحتمال الثالث وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة ثم أمر الجهاد وهما عبادتان بالسفر بين أيضاً عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر فقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له
ثم قال فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ يعني من الفرق الساكنين في البلاد طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم
فإن قيل أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان
قلنا متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجباً إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلاً على السفر لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر
المسألة الثانية في تفسير الألفاظ المذكورة في هذه الآية ( لولا ) إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل هلا وإنما جاز أن يكون لولا بمعنى هلا لأن هلا كلمتان هل وهو استفهام وعرض لأنك إذا قلت للرجل هل تأكل هل تدخل فكأنك عرضت ذلك عليه و ( لا ) وهو جحد فهلا مركب من أمرين العرض والجحد فإذا قلت هلا فعلت كذا فكأنك قلت هل فعلت ثم قلت معه ( لا ) أي ما فعلته ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب وهكذا الكلام في ( لولا ) لأنك إذا قلت لولا دخلت علي ولولا أكلت عندي فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به لو فعل وهكذا الكلام في ( لوما ) ومنه قوله مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فثبت أن لولا وهلا ولوما ألفاظ متقاربة والمقصود من الكل الترغيب والتحضيض فقوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ أي فهلا فعلوا ذلك
المسألة الثالثة هذه الآية حجة قوية لمن يرى أن خبر الواحد حجة وقد أطنبنا في تقريره في كتاب ( المحصول من الأصول ) والذي نقوله ههنا أن كل ثلاثة فرقة وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحداً فوجب أن يكون الطائفة إما اثنين وإما واحداً ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم لأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ عبارة عن أخبارهم وقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب على قومهم أن يعلموا بأخبارهم وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع قال القاضي هذه الآية لا تدل على وجوب العمل بخبر الواحد لأن الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة ولأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول كما أن الشاهد الواحد يلزمه الشهادة وإن لم يلزم القبول ولأن الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به

والجواب أما قوله الطائفة قد تكون جماعة فجوابه أنا بينا أن كل ثلاثة فرقة فلما أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة لزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً وذلك يبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم
فإن قالوا إنه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ولعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم
قلنا إنه تعالى أوجب على كل طائفة أن يرجعوا إلى قومهم وذلك يقتضي رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ثم إنه تعالى أوجب العلم بقول تلك الطائفة وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول فنقول إنا لا نتمسك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله وَلِيُنذَرُواْ بل بقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ترغيب منه تعالى في الحذر بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار وبهذا الجواب خرج الجواب عن سؤاله الثالث وهو قوله الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة ثم إنها صارت منسوخة بقوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً ( التوبة 36 ) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب منتقلاً إلى الأبعد فالأبعد ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق وإنما قلنا إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه الأول أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع وجب الترجيح

والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم فوجب الابتداء بالأقرب والثاني أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل الثالث أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة الرابع أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر فكان الابتداء بهم أولى الخامس أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم السادس أن دار الإسلام واسعة فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل وحصول المقصود أيسر السابع أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه والقرب سبب السهولة فوجب الابتداء بالأقرب الثامن أنا بينا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب وفي الغزو بالأقرب فالأقرب وفي جميع المهمات كذلك فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له ( كل مما يليك ) فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب
فإن قيل ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً
قلنا ذاك احتمال واحد وما ذكرنا احتمالات كثيرة ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد أما إذا أمكن الجمع بين الكل فلا كلام في أن الأولى هو الجمع فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة
وأما قوله تعالى وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً قال الزجاج فيها ثلاث لغات فتح الغين وضمها وكسرها قال صاحب ( الكشاف ) الغلظة بالكسر الشدة العظيمة والغلظة كالضغطة والغلظة كالسخطة وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم ونظيره قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقوله وَلاَ تَهِنُواْ ( آل عمران 139 النساء 104 ) وقوله في صفحة الصحابة رضي الله عنهم أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ( الفتح 29 ) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظاً
واعلم أن الغلظة ضد الرقة وهي الشدة في إحلال النقمة والفائدة فيها أنها أقوى تأثيراً في الزجر والمنع عن القبيح ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطرداً بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف ولهذا السبب قال وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم فقوله وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً يدل على تقليل الغلظة كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة

واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين وذلك إما بإقامة الحجة والبينة وإما بالقتال والجهاد فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا
ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة فقال وإذا ما أنزلت سورة فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيماناً واختلفوا فقال بعضهم يقول بعض المنافقين لبعض ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق وقال آخرون بل يقولونه لأقوام من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان وقال آخرون بل ذكروه على وجه الهزؤ والكل محتمل ولا يمكن حمله على الكل لأن حكاية الحال لا تفيد العموم ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران وحصل للكافرين أيضاً أمران أما الذي حصل للمؤمنين فالأول هو أنها تزيدهم إيماناً إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند الله والكلام في زيادة الإيمان ونقصانه قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء والثاني ما يحصل لهم من الاستبشار فمنهم من حمله على ثواب الآخرة ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين فقال وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني المنافقين فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإن كال الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة
والأمر الثاني أنهم يموتون على كفرهم فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه واحتج أصحابنا بقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه قالوا إنه تعالى كان عالماً بأن سماع هذه السورة يورث حصول

الحسد والحقد في قلوبهم وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيماناً فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم
قلنا لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة يوجب الكفر والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد فلا يمكنه إزالتها عن نفسه وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير والفعل غير والخلق غير فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفراً على كفره فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجساً على رجس فكان إنزالها سبباً في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر
بقي في الآية مباحث الأول ما في قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ صلة مؤكدة الثاني الاستبشار استدعاء البشارة لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة الثالث قوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يدل على أن الروح لها مرض فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة والله أعلم
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّة ً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ
اعلم أن الله تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون وذلك يدل على عذاب الآخرة بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَوْ لاَ تَرَوْنَ بالتاء على الخطاب للمؤمنين والباقون بالياء خبراً عن المنافقين فعلى قراءة المخاطبة كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر ومن قرأ على المغايبة كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله أَوْ لاَ يَرَوْنَ هذه ألف الاستفهام دخلت على واو العطف فهو متصل بذكر المنافقين وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء

المعنى أنه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا
المسألة الثالثة ذكروا في هذه الفتنة وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً من الله فيصير ذلك سبباً لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند الله الثاني قال مجاهد يُفْتَنُونَ بالقحط والجوع الثالث قال قتادة يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة الرابع قال مقاتل يفضحهم رسول الله بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها ويعظهم فما كانوا يتعظون ولا ينزجرون
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم وسمعوها تأذوا من سماعها ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد أي لو رآكم من أحد وهذا فيه وجوه الأول أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر فعند ذلك قالوا هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جداً والثاني أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها فأرادوا الخروج من المسجد فقال بعضهم لبعض هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يعني إن رأوكم فلا تخرجوا إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد لتتخلصوا عن هذا الإيذاء والثالث هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يمكنكم أن تقولوا نحبه فوجب علينا الخروج من المسجد قال تعالى ثُمَّ انصَرَفُواْ يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن ويجوز أن يراد به ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم
فإن قيل ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً

قلنا في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ وطلبوا الفرار
ثم قال تعالى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم وقال الزجاج أضلهم الله تعالى قالت المعتزلة لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال أَنَّى يُصْرَفُونَ وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان قال القاضي ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة لأنه لو كان كذلك لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول ثم قال هذا الصرف يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد الثاني صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى
والجواب أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جداً وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل بل هومن الله تعالى فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر وذلك الحصول من الله تعالى وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم لكن قولوا قد قضينا الصلاة وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير فإنه تعالى قال فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 )
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف وهو أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو

عائد إليكم وأيضاً فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق وأن الأب مشفق صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان فكذا ههنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند الله فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير ثم قال للرسول عليه السلام فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ وفي تفسيره وجوه الأول يريد أنه بشر مثلكم كقوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) وقوله إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( فصلت 6 ) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس على ما مر تقريره في سورة الأنعام والثاني مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من العرب قال ابن عباس ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات مضرها وربيعها ويمانيها فالمضريون والربيعيون هم العدنانية واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته كأنه قيل لهم كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم لأنه منكم ومن نسبكم والثالث مّنْ أَنفُسِكُمْ خطاب لأهل الحرم وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه
والقول الرابع أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم وقرىء مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من أشرفكم وأفضلكم وقيل هي قراءة رسول الله وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما
الصفة الثانية قوله تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد والعزة هي الغلبة والشدة فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع فحيث لم يدفعها علم أنه كان عاجزاً عن دفعها وأنها كانت غالبة على الإنسان فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال عز علي هذا وأما العنت فيقال عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها ومنه قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) وقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) وقال الفراء مَا في قوله مَا عَنِتُّمْ في موضع رفع والمعنى عزيز عليه عنتكم أي يشق عليه مكروهكم وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه

والصفة الثالثة قوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ معناه شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم وبهذا التقدير لا يحصل التكرار قال الفراء الحريص الشحيح ومعناه أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وهذا بعيد لأنه يوجب الخلو عن الفائدة
والصفة الرابعة والخامسة قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما سماه الله تعالى باسمين من أسمائه بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يكون كذلك وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى
قلنا قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق والمعنى أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد ويفوزوا بالثواب المؤبد
السؤال الثاني لما قال عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فهذا النسق يوجب أن يقال رؤوف رحيم بالمؤمنين فلم ترك هذا النسق وقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ
الجواب أن قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
أما قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يريد المشركين والمنافقين ثم قيل تَوَلَّوْاْ أي أعرضوا عنك وقيل تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة وقيل تولوا عن نصرتك في الجهاد واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه
ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه

فإن قالوا العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى
قلنا وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود و النصارى ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله الْعَظِيمِ بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه قال أبو بكر وهذه القراءة أعجب لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار وإن جعلناه صفة لله سبحانه كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض وكمال العلم والقدرة وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام وقال الحسن هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن وما أنزل بعدهما قرآن وقال أبي بن كعب أحدث القرآن عهد بالله عز وجل هاتان الآيتان وهو قول سعيد بن جبير ومنهم من يقول آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 )
ونقل عن حذيفة أنه قال أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه والله ما تقرؤن ربعها
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا خفاء أن القول به باطل والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده
وهذا آخر تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجميعن

بداية الجزء السابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة يونس
مكية
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه السورة مكية إلا قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فإنها مدنية نزلت في اليهود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
قوله جل جلاله الر وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وعاصم الر بفتح الراء على التفخيم وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر بكسر الراء على الإمالة وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم بين الفتح والكسر واعلم أن كلها لغات صحيحة قال الواحدي الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف
المسألة الثانية اتفقوا على أن قوله الر وحده ليس آية واتفقوا على أن قوله طه وحده آية والفرق أن قوله الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله طه فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده
المسألة الثالثة الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضاً بعض ما قيل قال ابن عباس الر معناه أنا الله أرى وقيل أنا الرب لا رب غيري وقيل الر و حم و ن اسم الرحمن
قوله تعالى تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تِلْكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات ويحتمل أن

يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن وأيضاً فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب كما قال تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 77 78 ) وقال تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) وقال وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 ) وقال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 )
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يقال المراد من لفظة تِلْكَ الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة الر هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء
الاحتمال الثاني أن يقال المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا تِلْكَ إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال وهو أن تِلْكَ يشار بها إلى الغائب وآيات هذه السورة حاضرة فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ تِلْكَ
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
الاحتمال الثالث والرابع أن يقال لفظ تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن والمراد بها هي آيات القرآن الحكيم والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى وفي الآية قولان آخران أحدهما أن يكون المراد من الْكِتَابِ الْحَكِيمِ التوراة والإنجيل والتقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل والمعنى أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بالتوراة والإنجيل فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمداً بإنزال الوحي عليه والثاني وهو قول أبي مسلم أن قوله الر إشارة إلى حروف التهجي فقوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالاً
المسألة الثانية في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه الأول أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة الثاني أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به قال الأعشى وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث قال الأكثرون الْحَكِيمُ بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ( البقرة 213 ) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها

وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ليست إلا القرآن الرابع أن الْحَكِيمُ بمعنى المحكم والأحكام معناه المنع من الفساد فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض الخامس قال الحسن وصف الكتاب بالحكيم لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه فعلى هذا الْحَكِيمُ يكون معناه المحكوم فيه السادس أن الْحَكِيمُ في أصل اللغة عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب فكان وصف القرآن به مجازاً ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالرسالة والوحي فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه الأول قوله تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء يُرَادُ ( ص 5 و 6 ) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحداً لم يبعد أيضاً أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة ا والثاني أن أهل مكة كانوا يقولون إن الله تعالى ما وجد رسولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالبا والثالث أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين أحدهما أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشراً رسولاً كما حكي عن الكفار أنهم قالوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) والثاني أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيراً يتيماً فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ فإن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار لأن يكون ذلك عجباً وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه الأول أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمراً غير ممتنع بل كان مجوزاً في العقول الثاني أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى ( الأعلى 14 15 )

ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به إلا إذا أرسل إليهم رسولاً ومنبهاً فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول وإذا كان ذلك واجباً فكيف يتعجب منه الثالث أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئاً من أزمنة وجود المكلفين منه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ( يوسف 109 ) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير ويؤكده قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ الأعراف 59 ) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام الرابع أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلاً عرفوا نسبه وعرفوا كونه أميناً بعيداً عن أنواع التهم والأكاذيب ملازماً للصدق والعفاف ثم إنه كان أمياً لم يخالط أهل الأديان وما قرأ كتاباً أصلاً ألبتة ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم وذلك يدل على كونه صادقاً مصدقاً من عند الله ويزيل التعجب وهو من قوله هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( الجمعة 2 ) وقال وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ( العنكبوت 48 ) الخامس أن مثل هذا التعجب كان موجوداً عند بعثة كل رسول كما في قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( لأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) إلى قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ ( الأعراف 63 ) السادس أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولاً من البشر أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة
أما الأول فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها
وإذا ثبت هذا فنقول الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى كما قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقال قُل لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( الإسراء 95 )
وأما الثاني فبعيد لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بصفات الخير والتقوى والأمانة وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيماً فقيراً وهذا في غاية البعد لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سبباً لنقصان الحال عنده ولا أن يكون الغنى سبباً لكمال الحال عنده كما قال تعالى وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة كلام فاسد
المسألة الثانية الهمزة في قوله أَكَانَ لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و أَنْ أَوْحَيْنَا اسم كان وعجباً خبره وقرأ ابن عباس عجب فجعله اسماً وهو نكرة و عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا خبره وهو معرفة كقوله يكون مزاجها عسل وماء والأجود أن تكون ( كان ) تامة وأن أوحينا بدلاً من عجب
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ولم يقل أكان عند الناس عجباً والفرق أن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليها وليس في قوله ( أكان عند الناس عجباً ) هذا المعنى
المسألة الرابعة ءانٍ مع الفعل في قولنا أَنْ أَوْحَيْنَا في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره هو

قوله عَجَبًا وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون الأهم والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم وأما ءانٍ في قوله أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس
المسألة الخامسة أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي
المسألة السادسة قوله قَدَمَ صِدْقٍ فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في ( البسيط ) منها وجوهاً قال الليث وأبو الهيثم القدم السابقة والمعنى أنهم قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى القدم كل ما قدمت من خير وقال ابن الأنباري القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد
فإن قيل فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه قَدَمَ صِدْقٍ
قلنا الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة وقال بعضهم المراد مقام صدق وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل قَدَمَ صِدْقٍ على الأعمال الصالحة وبعضهم حمله على الثواب ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد صل لذي العرش واتخذ قدما
بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر والابتداء بقوله قَالَ الْكَافِرُونَ على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين قال القفال وإضمار هذا غير قليل في القرآن
المسألة الثامنة قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ والمراد منه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والباقون لَسَاحِرٌ والمراد به القرآن
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم وكونه معجزاً وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة فاحتاجوا إلى هذا الكلام
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم

ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة ولا حاصل له وقال أخرون أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه وإنما قلنا إنه في غاية الفساد لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان منهم ونشأ بينهم وما غاب عنهم وما خالط أحداً سواهم وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء حتى يقال إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن وإذا كان الأمر كذلك كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد فلهذا السبب ترك جوابه
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين أحدهما إثبات أن لهذاالعالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً لحكم بالأمر والنهي والتكليف والثاني إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين
أما الأول وهو إثبات الإلهية فبقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
وأما الثاني وهو إثبات المعاد والحشر والنشر فبقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس 4 ) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ونهاية الكمال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة وهي إمكان الذوات وإمكان الصفات وحدوث الذوات وحدوث الصفات وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب وتارة في العالم السفلي والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي وتارة في أحوال العالم السفلي والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها وتقريره من وجوه الأول أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر
أما بيان المقام الأول فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية وقد دللنا في الكتب

العقلية على أن كل ما كان قابلاً للقسمة الوهمية فإنه يكون مركباً من الأجزاء والأبعاض ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ولكنه يكون في نفسه شيئاً واحداً كلام فاسد باطل فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم وبعضها حصلت على سطحها وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع
وإذا ثبت هذا فنقول حصول بعضها في الداخل وحصول بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت يجوز أن ينقلب الظاهر باطناً والباطن ظاهراً وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم
الوجه الثاني في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول حركات هذه الأفلاك لها بداية ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر
أما المقام الأول فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزل ينافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً فثبت أن لحركات الأفلاك أولاً وإذا ثبت هذا وجب أن يقال هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة وساكنة وما كانت متحركة وعلى التقديرين فلحركاتها أول وبداية
( وأما المقام الثاني ) وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وترجيح مرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجباً بالذات وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلاً قبل ذلك الوقت ولما بطل هذا ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب
الوجه الثالث في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ولا بد له من مرجح ويعود التقرير الأول فيه فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أن كلمة الَّذِى كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كما إذا قيل لك من زيد فتقول الذي أبوه منطلق فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقاً أمراً معلوماً عند السامع فهنا لما قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام أمراً معلوماً عند السامع والعرب ما كانوا عالمين بذلك فكيف يحسن هذا التعريف

وجوابه أن يقال هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة ولما كان ذلك مشهوراً عندهم والعرب كانوا يخالطونهم فالظاهر أنهم أيضاً سمعوه منهم فلهذا السبب حسن هذا التعريف
السؤال الثاني ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها
والجواب أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً وهو محال وإن كان شيئاً آخر فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان الأول قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح وعلى هذا القول يسقط قول من يقول لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة فسقط هذا السؤال الثاني قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة فعند هذا قال القاضي لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين ثم قال القاضي
فإن قيل فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ثم أجاب وقال أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين أو معهما وإلا لكان خلقهما عبثاً
فإن قيل فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ا
قلنا إنه تعالى لا يخاف الفوت فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ونخاف العجز والقصور قال وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض
فإن قيل أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان فقبل خلق السموات والأرض لا مكان فكيف يمكن وجودهم بلا مكان
قلنا الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى والدليل عليه أن ما يحدث على هذا الوجه فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك

والسؤال الثالث فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون
والجواب قال القاضي الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلا والمدة هذه الأيام المعلومة
ولقائل أن يقول لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف
السؤال الرابع هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها وهذا المعنى مفقود قبل خلقها فكيف يعقل هذا التعريف
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام
ولقائل أن يقول فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم يحصل فيها حدوث العالم وذلك يوجب قدم المدة
وجوابه أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم
السؤال الخامس أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته وقد يراد به النهار وحده فالمراد بهذه الآية أيهما
والجواب الغالب في اللغة أنه يراد باليوم اليوم بليلته
المسألة الثانية أما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ففيه مباحث الأول أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة فنقول هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه بحيث لولا العرش لسقط ونزل كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش وإنه لولا العرش لسقط ونزل وذلك محال لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له والثاني أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال وكل من كان متغيراً كان محدثاً وذلك بالاتفاق باطل الثالث أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظرباً متحركاً وكل ذلك من صفات المحدثات الرابع أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من

الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش
إذا ثبت هذا فنقول العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره فيه قولان
القول الأول وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس المراد منه ذلك بل المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً قال تعالى وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( النحل 68 ) أي يبنون وقال في صفة القرية فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( الحج 45 ) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها وقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) أي بناؤه وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ( الزخرف 12 13 ) قال أبو مسلم فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه فنقول وجب حمل اللفظ عليه ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد والعرش الذي في السماء ليس كذلك وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً ثم قال ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى تخليق ذواتها وقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( النازعات 27 28 ) فذكر أولاً أنه بناها ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها وكذلك ههنا ذكر بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها
والقول الثاني وهو القول المشهور لجمهور المفسرين أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية الجسم العظيم الذي في السماء وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر وهو أن يكون المراد ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش
والقول الثالث أن المراد من العرش الملك يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66