كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

البحث الثاني قال بعضهم الحرج بكسر الراء الضيق والحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية وحكى الواحدي في هذا الباب حكايتين إحداهما روى عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال هل ههنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قال الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس كذلك قلب الكافر والثانية روى الواحدي عن أبي الصلت الثقفي قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية ثم قال ائتوني برجل من كنانة جعلوه راعياً فأتوا به فقال له عمر يا فتى ما الحرجة فيكم قال الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير
أما قوله تعالى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء ففيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير يَصْعَدُ ساكنة الصاد وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف وتشديد الصاد بمعنى يتصاعد والباقون إِلَيْهِ يَصْعَدُ بتشديد الصاد والعين بغير ألف أما قراءة ابن كثير يَصْعَدُ فهي من الصعود والمعنى أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف الصعود إلى السماء فكما أن ذلك التكليف ثقيل على القلب فكذلك الإيمان ثقيل على قلب الكافر وأما قراءة أبي بكر يصاعد فهو مثل يتصاعد وأما قراءة الباقين إِلَيْهِ يَصْعَدُ فهي بمعنى يتصعد فأدغمت التاء في الصاد ومعنى يتصعد يتكلف ما يثقل عليه
البحث الثاني في كيفية هذا التشبيه وجهان الأول كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه وعظم وصعب عليه وقويت نفرته عنه فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته عنه والثاني أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء
أما قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه بحثان
البحث الأول الكاف في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه بشيء وفيه وجهان الأول التقدير أن يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم والثاني قال الزجاج التقدير مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس
البحث الثاني اختلفوا في تفسير الرّجْسَ فقال ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقال مجاهد الرّجْسَ مالا خير فيه وقال عطاء الرّجْسَ العذاب وقال الزجاج الرّجْسَ اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر فقال لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً منهم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله فتقوم القدرية وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره وقال هذا الحديث من أقوى ما يدل على أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدراً

وخلقاً لأن الذين يقولون هذا القول هم خصماء الله لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا وأنت الذي خلقته فينا وإرادته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له وما يسرت لنا غيره فهؤلاء لا بد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة أما الذين قالوا إن الله مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة فلا يكونون خصماء الله بل يكونون منقادين لله هذا كلام القاضي وهو عجيب جداً وذلك لأنه يقال له يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصماً لله تعالى أما الذين يكونون خصماء لله فهم المعتزلة وتقريره من وجوه الأول أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى والثاني أن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة فذلك العبد يقول أيها الإله إياك ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولاً عن الإلهية والحاصل أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة فهذا هو الخصومة أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى فهذا لا يكون خصماً
والوجه الثالث في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوماً من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس وجلس في بعض الجوانب مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد والثاني كان في غاية الكفر والفسق والثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم فقال الجبائي أما الزاهد ففي درجات الجنة وأما الكافر ففي دركات النار وأما الصبي فمن أهل السلامة قال قولي له لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه فقال الجبائي لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين فقال الجبائي يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوحب النار فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب فقال أبو الحسن قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار فقال يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم

الراحمين كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي قال الراوي فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي فلما نظر رأى أبا الحسن فعلم أن هذه المسألة منه لا من العجوز ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال فقال نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم ثم قال وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا فقال البصريون التكليف محض التفضل والإحسان وهو غير واجب على الله تعالى وقال البغداديون إنه واجب على الله تعالى قال فإن فرعنا على قول البصريين فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلاً عليك بمثله وأما إن فرعنا على قول البغداديين فالجواب أن يقال إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحساناً في حقه ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعياً منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري بل سعياً منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله إنما لزمت على قول المعتزلة وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب وليس للعبد أن يقول لربه لم فعلت كذا أو ما فعلت كذا فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة لا أهل السنة وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا ثم نقول
أما الجواب الأول وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل فيجوز أن يخص به بعضاً دون بعض فنقول هذا الكلام مدفوع لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى لأن الإيصال إلى هذا الثاني ليس فعلاً شاقاً على الله تعالى ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولاً فليكن مقبولاً ههنا وإن لم يكن مقبولاً لم يكن مقبولاً البتة في شيء من المواضع وتبطل كلية مذهبكم فثبت أن هذا الجواب فاسد
وأما الجواب الثاني فهو أيضاً فاسد وذلك لأن قولنا تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبداً في حق الكل وأنه باطل بل معناه أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف فوجب أن يترك تكليفه وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر وإن لم يجب ههنا لم يجب هنالك وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلاً قبيحاً عند

ذلك التكليف ولا يجب عليه تركه إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف فهذا محض التحكم فثبت أن الجواب الذي استخرجه أبو الحسين بلطيف فكره ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف وظهر أن خصماء الله هم المعتزلة لا أصحابنا والله أعلم
وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَاذَا إشارة إلى مذكور تقدم ذكره وفيه قولان الأول وهو الأقوى عندي أنه إشارة إلى ما ذكره وقرره في الآية المتقدمة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فوجب كون الفعل من الله تعالى وذلك يوجب التوحيد المحض وهو كونه تعالى مبدئاً لجميع الكائنات والممكنات وإنما سماه صراطاً لأن العلم به يؤدي إلى العلم بالتوحيد الحق وإنما وصفه بكونه مستقيماً لأن قول المعتزلة غير مستقيم وذلك لأن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف فإن توقف على المرجح لزم أن يقال الفعل لا يصدر عن القادر إلا عند انضمام الداعي إليه وحينئذ يتم قولنا ويكون الكل بقضاء الله وقدره ويبطل قول المعتزلة وإما أن لا يتوقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على مرجح وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصنع والصانع وإبطال القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر فأما القول بأن هذا الرجحان يحتاج إلى المؤثر في بعض الصور دون البعض كما يقوله هؤلاء المعتزلة فهو معوج غير مستقيم إنما المستقيم هو الحكم بثبوت الحاجة على الإطلاق وذلك يوجب عين مذهبنا فهذا القول هو المختار عندي في تفسير هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً إشارة إلى كل ما سبق ذكره في كل القرآن قال ابن عباس يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيماً وقال ابن مسعود يعني القرآن والقول الأول أولى لأن عود الإشارة إلى أقرب المذكورات أولى
وإذا ثبت هذا فنقول لما أمر الله تعالى بمتابعة ما في الآية المتقدمة وجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى إذا ذكر شيئاً وبالغ في الأمر بالتمسك به والرجوع إليه والتعويل عليه وجب أن يكون من المحكمات فثبت أن الآية المتقدمة من المحكمات وأنه يجب إجراؤها على ظاهرها ويحرم التصرف فيها بالتأويل
المسألة الثانية قال الواحدي انتصب مستقيماً على الحال والعامل فيه معنى ( هذا ) وذلك لأن ( ذا ) يتضمن معنى الإشارة كقولك هذا زيد قائماً معناه أشير إليه في حال قيامه وإذا كان العامل في الحال

معنى الفعل لا الفعل لم يجز تقديم الحال عليه لا يجوز قائماً هذا زيد ويجوز ضاحكاً جاء زيد
أما قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
فنقول أما تفصيل الآيات فمعناه ذكرها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر والله تعالى قد بين صحة القول بالقضاء والقدر في آيات كثيرة من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة وأما قوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فالذي أظنه والعلم عند الله أنه تعالى إنما جعل مقطع هذه الآية هذه اللفظة لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا لمرجح فكأنه تعالى يقول للمعتزلي أيها المعتزلي تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك بالكلية في مسألة القضاء والقدر
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيىء لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم فقال لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وفي هذه الآية تشريفات
النوع الأول قوله لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ وهذا يوجب الحصر فمعناه لهم دار السلام لا لغيرهم وفي قوله دَارُ السَّلَامِ قولان
القول الأول أن السلام من أسماء الله تعالى فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى كما قيل للكعبة بيت الله تعالى وللخليفة عبد الله
والقول الثاني أن السلام صفة الدار ثم فيه وجهان الأول المعنى دار السلامة والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة وسفاه وسفاهة ولذاذ ولذاذة ورضاع ورضاعة الثاني أن السلام جمع السلامة وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها
إذا عرفت هذين القولين فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين الأول أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى والثاني أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز وإنما وصف بذلك لأنه

تعالى ذو السلام فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى
النوع الثاني من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله عِندَ رَبّهِمْ وفي تفسيره وجوه
الوجه الأول المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة ونظيره قوله تعالى جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من ذلك
الوجه الثاني وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله عِندَ رَبّهِمْ يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ونظيره قوله تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 )
الوجه الثالث أنه قال في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وقال في صفة المؤمنين في الدنيا أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي وقال أيضاً أنا عند ظن عبدي بي وقال في صفتهم يوم القيامة فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقال في دارهم لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وقال في ثوابهم جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ( البينة 8 ) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية
النوع الثالث من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله وَهُوَ وَلِيُّهُم والولي معناه القريب فقوله عِندَ رَبّهِمْ يدل على قربهم من الله تعالى وقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يدل على قرب الله منهم ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة وأيضاً فقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يفيد الحصر أي لا ولي لهم إلا هو وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو وأن النافع والضار ليس إلا هو وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو وأنه لا مبدىء للكائنات والممكنات إلا هو فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه وما كان توكلهم إلا عليه وما كان أنسهم إلا به وما كان خضوعهم إلا له فلما صاروا بالكلية لا جرم قال تعالى وَهُوَ وَلِيُّهُم وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل فإن العمل لا بد منه وتحقيق القول فيه أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً فكما أن الهيآت النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن مثل ما إذا تصور أمراً مغضباً ظهر الأثر عليه في البدن فيسخن البدن ويحمى فكذلك الهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار وليكون الوعيد مذكوراً بعد الوعد وفيه مسائل
المسألة الأولى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ منصوب بمحذوف أي واذكر يوم نحشرهم أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته
المسألة الثانية الضمير في قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول يعودإلى المعلوم لا إلى المذكور وهو الثقلان وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم والثاني أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ( الأنعام 112 )
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير يوم نحشرهم جميعاً فنقول يا معشر الجن فيكون هذا القائل هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتاً وبياناً لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم وقال الزجاج التقدير فيقال لهم يا معشر الجن لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار بدليل قوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( البقرة 174 )
أما قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ فنقول هذا لا بد فيه من التأويل لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول
أما قوله وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ فالأقرب أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً فكذلك قال للإنس توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول والمشاركة حاصلة بين الفريقين فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس وهو قولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم ثم

ههنا قولان الأول أن قولهم استمتع بعضنا ببعض المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان
القول الأول أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيبيت آمناً في نفسه فهذا استمتاع الإنس بالجن وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن وذلك الجني يقول قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ ( الجن 6 )
والوجه الثاني في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم فهذا استمتاع الجن بالإنس وأما استمتاع الإنس بالجن فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم وهذا القول اختيار الزجاج قال وهذا أولى من الوجه المتقدم والدليل عليه قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي قليل
والقول الثاني أن قوله تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ هو كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر أما استمتاع بعض الإنس ببعض فهو أمر ظاهر فوجب حمل الكلام عليه وأيضاً قوله تعالى وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ كلام الإنس الذين هم أولياء الجن فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض
ثم قال تعالى حكاية عنهم وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا فالمعنى أن ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى أجل معين ووقت محدود ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات فقال بعضهم هو وقت الموت وقال آخرون هو وقت التخلية والتمكين وقال قوم المراد وقت المحاسبة في القيامة والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وفيهم المقتول وغير المقتول
ثم قال تعالى قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى المقام والمقر والمصير ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله خَالِدِينَ فِيهَا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجوه الأول أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار الثاني المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير وروي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم الثالث

قال ابن عباس استثنى الله تعالى قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول يجب أن تكون ( ما ) بمعنى ( من ) قال الزجاج والقول الأول أولى لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هو يوم القيامة
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا منذ يبعثون إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم الرابع قال أبو مسلم هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم فكأنهم قالوا وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كقوله تعالى أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ ( الأنعام 6 ) وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام أن يقولوا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا ما سميت لنا من الأجل إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك بكفره وضلاله
واعلم أن هذا الوجه وإن كان محتملاً إلا أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ هذه الآية ولما أمكن إجراء الآية على ظاهرها فلا حاجة إلى هذا التكلف
ثم قال إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وكأنه تعالى يقول إنما حكمت لهؤلاء الكفار بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو علي الفارسي قوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله خَالِدِينَ فِيهَا حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فقوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ معناه النار أهل أن تقيموا فيها خالدين
وَكَذالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
المسألة الأولى في الآية فوائد
الفائدة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه فقال وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً والدليل على أن الأمر كذلك أن القدرة صالحة للطرفين أعني العداوة والصداقة فلولا حصول الداعية إلى الصداقة لما حصلت الصداقة وتلك الداعية لا تحصل إلا بخلق الله تعالى قطعاً للتسلسل فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو الذي يولي بعض الظالمين بعضاً وبهذا التقرير تصير هذه الآية دليلاً لنا في مسألة الجبر والقدر
الفائدة الثانية أنه تعالى لما بين في أهل الجنة أن لهم دار السلام بين أنه تعالى وليهم بمعنى الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة فكذلك لما بين حال أهل النار ذكر أن مقرهم ومثواهم النار ثم بين أن أولياءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وهذه مناسبة حسنة لطيفة

الفائدة الثالثة كاف التشبيه في قوله وَكَذالِكَ نُوَلّى تقتضي شيئا تقدم ذكره والتقدير كأنه قال كما أنزلت بالجن والإنس الذين تقدم ذكرهم العذاب الأليم الدائم الذي لا مخلص منه كَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً
الفائدة الرابعة وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لأن الجنسية علة الضم فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث وكذا القول في الأرواح الطاهرة فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية والله أعلم
المسألة الثانية الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم وأيضاً الآية تدل على أنه لا بد في الخلق من أمير وحاكم لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح كان أولى قال علي رضي الله عنه لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله أو جائر فقال نعم يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت وروي أن أبا ذر سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإمارة فقال له ( إنك ضعيف وإنها أمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) وعن مالك بن دينار جاء في بعض كتب الله تعالى أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم
أما قوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فالمعنى نولي بعض الظالمين بعضاً بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم والمراد منه ما بينا أن الجنسية علة للضم
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة المعشر كل جماعة أمرهم واحد ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة والجمع المعاشر وقوله رُسُلٌ مّنكُمْ اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا فقال الضحاك

أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) قال المفسرون السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس
إذا ثبت هذا المعنى فهذا السبب حاصل في الجن فوجب أن يكون رسول الجن من الجن
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنه ما كان من الجن رسول البتة وإنما كان الرسل من الأنس وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية فالكلام عليه من وجوه الأول أنه تعالى قال يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضاً من أبعاض ذلك المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن الثاني لا يبعد أن يقال إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به كما قال تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( الأحفاق 29 ) فأولئك الجن كانوا رسل الرسل فكانوا رسلاً لله تعالى والدليل عليه أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ( ي س 14 ) وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ماهو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة فكان المقصود حاصلاً
الوجه الثالث في الجواب قال الواحدي قوله تعالى رُسُلٌ مّنكُمْ أراد من أحدكم وهو الأنس وهو كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل
أما قوله يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِى فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف فلذلك قالوا شهدنا على أنفسنا
فإن قالوا ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
قلنا يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون وأخرى يجحدون وذلك يدل على شدة

خوفهم واضطراب أحوالهم فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه
ثم قال تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر فكأنه تعالى يقول وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا
ثم قال تعالى وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر ومن الناس من حمل قوله وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر ومقصودهم دفع التكرار عن الآية وكيفما كان فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة
ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير الأمر ذلك
وأما قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ففيه وجوه أحدها أنه تعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم وكلمة ( أن ) ههنا هي التي تنصب الأفعال وثانيها يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث والتقدير لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وثالثها أن يجعل قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ بدلاً من قوله ذالِكَ كقوله وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 )
وأما قوله بِظُلْمٍ ففيه وجهان الأول أن يكون المعنى وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه والثاني أن يكون المراد وما كان ربك مهلك القرى ظلماً عليهم وهو كقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( هود 117 ) في سورة هود فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلاً للكفار وعلى الثاني يكون عائداً إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أليق بقولنا لأن القول الثاني يوهم أنه

تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر عندنا كذلك لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله وأما المعتزلة فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني قال إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالماً لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا فوصف بكونه ظالماً مجازاً وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
وأما قوله وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة قالوا لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول والمعتزلة قالوا إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع لأنه تعالى قال أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فهذا الظلم إما أن يكون عائداً إلى العبد أو إلى الله تعالى فإن كان الأول فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة وإنما يكون الفعل ظلماً قبل البعثة لو كان قبيحاً وذنباً قبل بعثة الرسل وذلك هو المطلوب وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحاً من الله تعالى وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاماً كلياً فقال وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ وفي الآية قولان
القول الأول أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ عام في المطيع والعاصي والتقدير
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات فتارة يكون في درجة ناقصة وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر
والقول الثاني أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم وقوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل أيضاً على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر وذلك لأنه

تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة وعلم تلك الدرجة بعينها وأثبت تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمر الملائكة المقربين فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم ولصار ذلك العلم جهلاً ولصار ذلك الإشهاد كذباً وكل ذلك محال فثبت أن لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون وإذا كان الأمر كذلك فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّة ِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة كاملة ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين الأول إلى بيان كونه تعالى غنياً فنقول إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه لأنه لو كان محتاجاً لكان مستكملاً بذلك الفعل والمستكمل بغيره ناقص بذاته وهو على الله محال وأيضاً فكل إيجاب أو سلب يفرض فإن كان ذاته كافية في تحققه وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته وإن لم تكن كافية فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير والموقوف على الغير ممكن لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ يفيد الحصر معناه أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك لأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت بهذا

البرهان القاطع صحة قوله سبحانه وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وأما إثبات أنه ذُو الرَّحْمَة ِ فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات إما بحسب الأحوال الجسمانية وإما بحسب الأحوال الروحانية فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه وبإيجاده وتكوينه ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيراً فالصحيح أكثر منه والجائع وإن كان كثيراً فالشبعان أكثر منه والأعمى وإن كان كثيراً إلا أن البصير أكثر منه فثبت أنه لا بد من الاعتراف بحصول الرحمة والراحة وثبت أن الخير أغلب من الشر والألم والآفة وثبت أن مبدأ تلك الراحات والخيرات بأسرها هو الله تعالى فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو ذُو الرَّحْمَة ِ
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ يفيد الحصر فإن معناه أنه لا رحمة إلا منه والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه والرحمة داخلة فيما سواه فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت أنه لا رحيم إلا هو
فإن قال قائل فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده وكذلك سائر أنواع الرحمة
فالجواب أن كلها عند التحقيق من الله ويدل عليه وجوه الأول لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة لما أقدم على الرحمة فلما كان موجد تلك الداعية هو الله كان الرحيم هو الله ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه ثم ينقلب رؤوفاً رحيماً عطوفاً فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعاً للتسلسل وبالقرآن وهو قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ( الأنعام 110 ) فثبت أنه لا رحمة إلا من الله والثاني هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء وإلا فكيف الانتفاع فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة والثالث أن كل من أعطى غيره شيئاً فهو إنما يعطي لطلب عوض وهو إما الثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفع الرقة الجنسية عن القلب وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلاً فكان تعالى هو الرحيم الكريم فثبت بهذه البراهين اليقينية القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو فإذا ثبت أنه غني عن الكل ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين وإذا ثبت أنه ذو الرحمة ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب ولا الثواب على الطاعات إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان كما قال في آية أخرى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام فمما لا يليق بهذا الموضع
المسألة الثانية أما المعتزلة فقالوا هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلاً منزهاً عن فعل القبيح وعلى كونه رحيماً محسناً بعباده أما المطلوب الأول فقال تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم

بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح
أما المقدمة الأولى فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة أولها أن في الحوادث ما يكون قبيحاً نحو الظلم والسفه والكذب والغيبة وهذه المقدمة غير مذكورة في الآية لغاية ظهورها وثانيها كونه تعالى عالماً بالمعلومات وإليه الإشارة بقوله قبل هذه الآية وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وثالثها كونه تعالى غنياً عن الحاجات وإليه الإشارة بقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وإذا ثبت مجموع هذه المقدمات الثلاثة ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنياً عنها فإذا ثبت هذا امتنع كونه فاعلاً لها لأن المقدم على فعل القبيح إنما يقدم عليه إما لجهله بكونه قبيحاً وإما لاحتياجه فإذا كان عالماً بالكل امتنع كونه جاهلاً بقبح القبائح وإذا كان غنياً عن الكل امتنع كونه محتاجاً إلى فعل القبائح وذلك يدل على أنه تعالى منزه عن فعل القبائح متعال عنها فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحداً فلما كلف عبيده الأفعال الشاقة وجب أن يثيبهم عليها ولما رتب العقاب والعذاب على فعل المعاصي وجب أن يكون عادلاً فيها فبهذا الطريق ثبت كونه تعالى عادلاً في الكل
فإن قال قائل هب أن بهذا الطريق انتفى الظلم عنه تعالى فما الفائدة في التكليف
فالجواب أن التكليف إحسان ورحمة على ما هو مقرر في ( كتب الكلام ) فقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ إشارة إلى المقام الأول وقوله ذُو الرَّحْمَة ِ إشارة إلى المقام الثاني فهذا تقرير الدلائل التي استنبطها طوائف العقلاء من هذه الآية على صحة قولهم
واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري يقول نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي فإذا تأملت علمت أن أحداً لم يصف الله إلا بالتعظيم والإجلال والتقديس والتنزيه ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة وهي قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء أما قوله إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضاً ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف وأما قوله وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت وأما قوله مَا يَشَاء فالمراد منه خلق ثالث ورابع واختلفوا فقال بعضهم خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع وقال أبو مسلم بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقاً ثالثاً مخالفاً للجن والإنس قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأن القوم

يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي النواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّة ِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها وقرأ القراء كلهم ذُرّيَّة ِ بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال قال الكسائي هما لغتان
ثم قال تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ قال الحسن أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الوعد مخصوص بالأخبار عن الثواب وأما الوعيد فهو مخصوص بالأخبار عن العقاب فقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتياً ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب
قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أنه لما بين بقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار فقال قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالألف على الجمع في كل القرآن والباقون عَلَى مَكَانَتِكُمْ قال الواحدي والوجه الإفراد لأنه مصدر والمصادر في أكثر الأمر مفردة وقد تجمع أيضاً في بعض الأحوال إلا أن الغالب هو الأول
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة فقوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أيضاً أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا

تنحرف عنه إِنّى عَامِلٌ أي أنا عامل على مكانتي التي عليها والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فأني ثابت على الإسلام وعلى مضارتكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيناله العاقبة المحمودة وطريقة هذا الأمر طريقة قوله اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد
البحث الثالث من في قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين الأول أنه نصب لوقوع العلم عليه الثاني أن يكون رفعاً على معنى تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار كقوله تعالى لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( الكهف 12 )
البحث الرابع قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار وذلك مشكل
قلنا العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له كما يقال له الكثرة ولهم الظفر وفي ضده يقال عليكم الكثرة والظفر
البحث الخامس قرأ حمزة والكسائي مَّن يَكُونُ بالياء وفي القصص أيضاً والباقون بالتاء في السورتين قال الواحدي العاقبة مصدر كالعافية وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فكقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ ( المؤمنون 41 ) ومن ذكر فكقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) وقال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وفي آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والغرض منه بيان أن قوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ تهديد وتخويف لا أنه أمر وطلب ومعناه أن هؤلاء الكفار لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاٌّ نْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين قبح طريقتهم في إنكارهم البعث والقيامة ذكر عقيبه أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى كلماتهم فمن جملتها أنهم يجعلون لله من حروثهم كالتمر والقمح ومن أنعامهم كالضأن والمعز والإبل والبقر نصيباً فقالوا هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يريد بكذبهم
فإن قيل أليس أن جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا لله

قلنا إفرازهم النصيبين نصيباً لله ونصيباً للشيطان هو الكذب قال الزجاج وتقدير الكلام جعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد وهو قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونها عليها
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ وفي تفسيره وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الصبيان والمساكين ولا يأكلون منه البتة ثم إن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا إنه فقير الثاني قال الحسن والسدي كان إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل الثالث قال مجاهد المعنى أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه الرابع قال قتادة إذا أصابهم القحط استعانوا بما لله ووفروا ما جعلوه لشركائهم الخامس قال مقاتل إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة لها وقالوا لو شاء زكى نصيب نفسه وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بد لآلهتنا من نفقة فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة فذلك قوله فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ يعني من نماء الحرث والأنعام فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يعني المساكين وإنما قال إِلَى اللَّهِ لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله وما كان لله فهو يصل إليهم ثم إنه تعالى ذم هذا الفعل فَقَالَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وذكر العلماء في كيفية هذه الإساءة وجوهاً كثيرة الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانب الله تعالى وهو سفه الثاني أنهم جعلوا بعض النصيب لله وجعلوا بعضه لغيره مع أنه تعالى الخالق للجميع وهذا أيضاً سفه الثالث أن ذلك الحكم حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع فكان أيضاً سفهاً الرابع أنه لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز النصيب لكل حجر ومدر الخامس أنه لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها أيضاً على الانتفاع بذلك النصيب فكان إفراز النصيب لها عبثاً فثبت بهذا الوجوه أنه سَاء مَا يَحْكُمُونَ والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب وأن يصير ذلك سبباً لتحقيرهم في أعين العقلاء وأن لا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة
وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة ومذاهبهم الباطلة وقوله وَكَذالِكَ عطف على قوله وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ أي كما فعلوا ذلك فكذلك زين لكثير منهم شركاؤهم قتل الأولاد والمعنى أن جعلهم لله نصيباً وللشركاء نصيباً نهاية في الجهل بمعرفة الخالق المنعم وإقدامهم على قتل أولاد أنفسهم نهاية في الجهالة والضلالة وذلك يفيد التنبيه على أن أحكام هؤلاء وأحوالهم يشاكل بعضها بعضاً في الركاكة والخساسة
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفاً من الفقر أو من التزويج وهو المراد من هذه الآية واختلفوا في المراد بالشركاء فقال مجاهد شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وأضيفت الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها كقوله تعالى أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وقال الكلبي كان لآلهتهم سدنة وخدام وهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله وعلى هذا القول الشركاء هم السدنة سموا شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وحده زُيّنَ بضم الزاء وكسر الياء وبضم اللام من قَتْلَ و أَوْلَادُهُمْ بنصب الدال شُرَكَائِهِمْ بالخفض والباقون زُيّنَ بفتح الزاي والياء قَتْلَ بفتح اللام أَوْلَادُهُمْ بالجر شُرَكَاؤُهُمْ بالرفع أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم إلا أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد وهو مكروه في الشعر كما في قوله فزججتها بمزجة
زج القلوص أبي مزاده
وإذا كان مستكرهاً في الشعر فكيف في القرآن الذي هو معجز في الفصاحة قالوا والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكَائِهِمْ مكتوباً بالياء ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب وأما القراءة المشهورة فليس فيها إلا تقديم المفعول على الفاعل ونظيره قوله لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( الأنعام 158 ) وقوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) والسبب في تقديم المفعول هو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى وموضع التعجب ههنا إقدامهم على قتل أولادهم فلهذا السبب حصل هذا التقدير
ثم قال تعالى لِيُرْدُوهُمْ والإرداء في اللغة الإهلاك وفي القرآن إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ( الصافات 56 ) قال ابن عباس ليردوهم في النار واللام ههنا محمولة على لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ( الأنعام 137 ) أي ليخلطوا لأنهم كانوا على دين إسمعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قال أصحابنا إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى قالت المعتزلة إنه محمول على مشيئة الإلجاء وقد سبق ذكره مراراً فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( الأنعام 112 )

وهذا على قانون قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وقوله وَمَا يَفْتَرُونَ يدل على أنهم كانوا يقولون إن الله أمرهم بقتل أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول
وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأولها إن قالوا هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فقوله حِجْرٍ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات وأصل الحجر المنع وسمى العقل حجراً لمنعه عن القبائح وفلان في حجر القاضي أي في منعه وقرأ الحسن وقتادة حِجْرٍ بضم الحاء وعن ابن عباس حَرَجٌ وهو من الضيق وكانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء
والقسم الثاني من أنعامهم الذي قالوا فيه وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد مر تفسيره في سورة المائدة
والقسم الثالث أَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام وقيل لا يحجوم عليها ولا يلبون على ظهورها
ثم قال افْتِرَاء عَلَيْهِ فانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء
ثم قال تعالى سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد
وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة ٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَة ً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذا نوع رابع من أنواع قضاياهم الفاسدة كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهو خالص لذكور لا تأكل منها الأناث وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث سيجزيهم وصفهم والمراد منه الوعيد إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق
المسألة الثانية ذكر ابن الأنباري في تأنيث خَالِصَة ٌ ثلاثة أقوال قولين للفراء وقولاً للكسائي أحدها أن الهاء ليست للتأنيث وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا راوية وعلامة ونسابة والداهية والطاغية كذلك يقول هو خالصة لي وخالص لي هذا قول الكسائي
والقول الثاني أن مَا في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ عبارة عن الأجنة وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خبره الذي هو خَالِصَة ٌ لمعناه وذكر في قوله وَمُحَرَّمٌ على اللفظ والثالث أن يكون مصدراً والتقدير ذو خالصة كقولهم عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخص نعمة
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وَأَنْ تَكُنْ بالتاء و مَيْتَة ً بالنصب وقرأ ابن كثير يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالرفع وقرأ أبو بكر عن عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب والباقون يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالنصب أما قراءة ابن عامر فوجهها أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثاً في اللفظ وأما قراءة ابن كثير فوجهها أن قوله مَيْتَة ً اسم يَكُنِ وخبره مضمر والتقدير وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة وذكر لأن الميتة في معنى الميت قال أبو علي لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي ولا يحتاج الكون إلى خبر لأنه بمعنى حدث ووقع وأما قراءة عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب فالتقدير وإن تكن المذكور ميته فأنث الفعل لهذا السبب وأما قراءة الباقين وَإِن يَكُنْ بالياء مَيْتَة ً بالنصب فتأويلها وإن يكن المذكور ميتة ذكروا الفعل لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ وهو مذكر وانتصب قوله مَيْتَة ً لما كان الفعل مسنداً إلى الضمير
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم وهو الخسران والسفاهة وعدم العلم وتحريم

ما رزقهم الله والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم
أما الأول وهو الخسران وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله فقد خسر خسراناً عظيماً لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا والعقاب العظيم في الآخرة أما الذم في الدنيا فلأن الناس يقولون قتل ولده خوفاً من أن يأكل طعامه وليس في الدنيا ذم أشد منه وأما العقاب في الآخرة فلأن قرابة الولادة أعظم موجبات المحبة فمع حصولها إذا أقدم على إلحاق أعظم المضار به كان ذلك أعظم أنواع الذنوب فكان موجباً لأعظم أنواع العقاب
والنوع الثاني السفاهة وهي عبارة عن الخفة المذمومة وذلك لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والفقر وإن كان ضرراً إلا أن القتل أعظم منه ضرراً وأيضاً فهذا القتل ناجز وذلك الفقر موهوم فالتزام أعظم المضار على سبيل القطع حذراً من ضرر قليل موهوم لا شك أنه سفاهة
والنوع الثالث قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فالمقصود أن هذه السفاهة إنما تولدت من عدم العلم ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح
والنوع الرابع تحريم ما أحل الله لهم وهو أيضاً من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات ويستوجب بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العذاب والعقاب
والنوع الخامس الافتراء على الله ومعلوم أن الجراءة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب وأكبر الكبائر
والنوع السادس الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا
والنوع السابع أنهم ما كانوا مهتدين والفائدة فيه أنه قد يضل الإنسان عن الحق إلا أن يعود إلى الاهتداء فبين تعالى أنهم قد ضلوا ولم يحصل لهم الاهتداء قط فثبت أنه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم وذلك نهاية المبالغة
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ
واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة وهو قوله وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ( الأنعام 99 ) فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع وهي الزرع والنخل وجنات من أعناب والزيتون والرمان وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب ثم النخل ثم الزرع ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفي هذه الآية مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ثم ذكر في الآية المتقدمة انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم وذكر في هذه الآية كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فأذن في الانتفاع بها وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم وههنا أذن في الانتفاع بها وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء والأول أولى بالتقديم فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها
المسألة الثانية قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ أي خلق يقال نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه وقوله جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا عطفت العيدان التي يرسل عليها قضبان الكرم والواحد عرش والجمع عروش ويقال عريش وجمعه عرش واعترش العنب العريش اعتراشاً إذا علاه
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ أقوال الأول أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً والثاني المعروشات العنب الذي يجعل لها عروش وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطاً على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ والثالث المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علواً لقوة ساقه عن التعريش والرابع المعروشات ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس واهتموا به فعرشوه وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ مما أنبته الله تعالى وحشياً في البراري والجبال فهو غير معروش وقوله

وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزَّرْعَ ههنا بجميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ أي لكل شيء منها طعم غير طعم الآخر والأكل كل ما أكل وههنا المراد ثمر النخل والزرع ومضى القول في فِى الاْكُلِ عند قوله فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ( البقرة 265 ) وقوله مُخْتَلِفًا نصب على الحال أي أنشأه في حال اختلاف أكله وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله وأكل ثمره
الجواب أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأها قبل ذلك أيضاً وأيضاً نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان لأن اختلاف أكله مقدر كما تقول مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي مقدراً للصيد به غداً وقرأ ابن كثير ونافع أَكَلَهُ بتخفيف الكاف والباقون أَكَلَهُ في كل القرآن وأما توحيد الضمير في قوله مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ فالسبب فيه أنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعاً كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) والمعنى إليهما وقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 )
وأما قوله مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فقد سبق تفسيره في الآية المتقدمة
ثم قال تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها وهو انتفاع المكلفين بها فقال كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ واختلفوا ما الفائدة منه فقال بعضهم الإباحة وقال آخرون بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف وقال بعضهم بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل وإما التصدق وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير قال تعالى وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 )
البحث الثاني تمسك بعضهم بقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ بأن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله كُلُواْ خطاب عام يتناول الكل فصار هذا جارياً مجرى قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وأيضاً يمكن التمسك به على أن الأصل عدم وجوب الصدقة وأن من ادعى إيجابه كان هو المحتاج إلى الدليل فيتمسك به في أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى وفي أن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام
البحث الثالث قوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ يدل على أن صيغة الأمر قد ترد في غير موضع الوجوب وفي غير موضع الندب وعند هذا قال بعضهم الأصل في الاستعمال الحقيقة فوجب جعل هذه الصيغة مفيدة لرفع الحجر فلهذا قالوا الأمر مقتضاه الإباحة إلا أنا نقول نعلم بالضرورة من لغة العرب أن هذه الصيغة تفيد ترجيح جانب الفعل وأن حملها على الإباحة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل
أما قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ ففيه أبحاث
البحث الأول قرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم حَصَادِهِ بفتح الحاء والباقون بكسر الحاء قال

الواحدي قال جميع أهل اللغة يقال حصاد وحصاد وجداد وجداد وقطاف وقطاف وجذاذ وجذاذ وقال سيبويه جاؤا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال وربما قالوا فيه فعال
البحث الثاني في تفسير قوله وَهُوَ الَّذِى ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس في رواية عطاء يريد به العشر فيما سقت السماء ونصف العشر فيما سقي بالدواليب وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك
فإن قالوا كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وأيضاً هذه السورة مكية وإيجاب الزكاة مدني
قلنا لما تعذر إجراء قوله وَهُوَ الَّذِى على ظاهره بالدليل الذي ذكرتم لا جرم حلمناه على تعلق حق الزكاة به في ذلك الوقت والمعنى اعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء
والجواب عن السؤال الثاني لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة بل لا نزاع أن الآية المدنية وردت بإيجابها إلا أن ذلك لا يمنع أنها كانت واجبة بمكة وقيل أيضاً هذه الآية مدنية
والقول الثاني أن هذا حق في المال سوى الزكاة وقال مجاهد إذا حصدت فحضرت المساكين فاطرح لهم منه وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه وإذا كربلته فاطرح لهم منه وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته
والقول الثالث أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ هذا وهذا قول سعيد بن جبير والأصح هو القول الأول والدليل عليه أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية لئلا تبقى هذه الآية مجملة وقد قال عليه الصلاة والسلام ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) فوجب أن يكون المراد بهذا الحق حق الزكاة
البحث الثالث قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهو العنب والنخل والزيتون والرمان يدل عى وجوب الزكاة في الكل وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما كان يقوله أبو حنيفة رحمه الله
فإن قالوا لفظ الحصاد مخصوص بالزرع فنقول لفظ الحصد في أصل اللغة غير مخصوص بالزرع والدليل عليه أن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل وأيضاً الضمير في قوله حصاده يجب عوده إلى أقرب المذكورات وذلك هو الزيتون والرمان فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الرابع قال أبو حنيفة رحمه الله العشر واجب في القليل والكثير وقال الأكثرون إنه لا يجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ يقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فإذا كان ذلك الحق هو الزكاة وجب القول بوجوب الزكاة في القليل والكثير
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ فاعلم أن لأهل اللغة في تفسير الإسراف قولين الأول قال ابن الأعرابي السرف تجاوز ما حد لك الثاني قال شمر سرف المال ما ذهب منه من غير منفعة

إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه أقوال الأول أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف لأنه جاء في الخبر ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فأنزل الله تعالى قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ أي ولا تعطوا كله والثاني قال سعيد بن المسيب لا تُسْرِفُواْ أي لا تمنعوا الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول مجاوزة في الإعطاء والثاني مجاوزة في المنع الثالث قال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا أيضاً من باب المجاوزة لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له الرابع قال الزهري معناه لا تنفقوا في معصية الله تعالى قال مجاهد لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً وهذا المعنى أراده حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا على القول الثاني في معنى السرف فإن من أنفق في معصية الله فقد أنفق فيما لا نفع فيه
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر لأن كل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار والدليل عليه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم ( المائدة 18 ) فدل هذا على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار
وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَة َ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية فقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الواو ) في قوله وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا توجب العطف على ما تقدم من قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ والتقدير وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش وأقربها إلى التحصيل وجهان الأول أن الحمولة ما تحمل الأثقال والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش والثاني الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها
ثم قال تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يريد ما أحلها لكم قالت المعتزلة إنه تعالى أمر بأكل الرزق ومنع من أكل الحرام ينتج أن الرزق ليس بحرام
ثم قال وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية خُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين قال الزجاج وفي خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ثلاثة أوجه بضم الطاء وفتحها وبإسكانها ومعناه طرق الشيطان أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان
ثم قال تعالى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ أي بين العداوة أخرج آدم من الجنة وهو القائل لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 )
ثم قال تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وفيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله ثَمَانِيَة ٌ وجهان الأول قال الفراء انتصب ثمانية بالبدل من قوله حَمُولَة ً وَفَرْشًا والثاني أن يكون التقدير كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج
البحث الثاني الواحد إذا كان وحده فهو فرد فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجاً وهما زوجان بدليل قوله خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) وبدليل قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
ثم قال وَمِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم قال الزجاج وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة ويجمع الضأن أيضاً على الضئين بكسر الضاد وفتحها وقوله وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قرىء وَمِنَ الْمَعْزِ بفتح العين والمعز ذوات الشعر من الغنم ويقال للواحد ماعز وللجمع معزى فمن قرأ الْمَعْزِ بفتح العين فهو جمع ماعز مثل خادم وخدم وطالب وطلب وحارس وحرس ومن قرأ بسكون العين فهو أيضاً جمع ماعز كصاحب وصحب وتاجر وتجر وراكب وركب وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ نصب الذكرين بقوله حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله قال المفسرون إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين ذكراً وأنثى

ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراماً وإن كان حرم الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراماً وقوله أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ تقديره إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية وهو عندي بعيد جداً لأن لقائل أن يقول هب أن هذه الأنواع الأربعة أعني الضأن والمعز والإبل والبقر محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاماً أو سائر الاعتبارات كما أنا إذا قلنا أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكراً وجب أن يحرم كل حيوان ذكر وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى ولما لم يكن هذا الكلام لازماً علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجهاً صحيحاً فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان أحدهما أن يقال إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعرفون شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم وثانيهما أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول وحاصل الكلام من هذه الآية أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة ولما بين ذلك قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس يريد عمرو بن لحي لأنه هو الذي غير شريعة إسمعيل والأقرب أن يكون هذا محمولاً على كل من فعل ذلك لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة فالتخصيص تحكم محض قال المحققون إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق قال القاضي ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم
وجوابه أنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها وقال أصحابنا المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان والكلام في ترجيح أحذ القولين على الآخر معلوم

قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ وَاسِعَة ٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب فقال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة إِلا أَن تَكُونَ بالتار مَيْتَة ً بالنصب على تقدير إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء مَيْتَة ً بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أي إلا أن يكون المأكول ميتة أو إلا أن يكون الموجود ميتة
المسألة الثانية لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي قال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلا مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات ثم ذكر أموراً أربعة أولها الميتة وثانيها الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها الفسق وهو الذي أهل به لغير الله فقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول إني لا أجد فيما أوحي إلي محرماً من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة
واعلم أن هذه السورة مكية فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غفور رحيم ( النحل 115 )

وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضاً أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فكلمة إِنَّمَا في الآية المدنية مطابقة لقوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا إلا كذا وكذا في الآية المكية ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر
فإن قال قائل فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات ويلزم عليه أيضاً تحليل الخمر وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها
قلنا هذا لا يلزمنا من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه الآية أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجساً فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله وإذا كان هذا مذكوراً في الآية كان السؤال ساقطاً والثاني أنه تعالى قال في آية أخرى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث والنجاسات خبائث فوجب القول بتحريمها الثالث أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكاً بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات وأما الخمر فالجواب عنه أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله رِجْسٌ وتحت قوله وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تحريمه وبقوله تعالى فَاجْتَنِبُوهُ وبقوله وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطحية
فالجواب عنه من وجوه أولها أنها ميتات فكانت داخلة تحت هذه الآية وثانيها أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية وثالثها أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية
فإن قال قائل المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها
أجابوا عنه من وجوه أحدها أن المعنى لا أجد محرماً مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية وثانيها أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص

عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك وثالثها هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد ورابعها أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ولقائل أن يقول هذه الأجوبة ضعيفة
أما الجواب الأول فضعيف لوجوه أحدها لا يجوز أن يكون المراد من قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا لما حسن استثناؤها ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه وثانيها أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل وثالثها أنه تعالى قال في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ وذكر هذه الأشياء الأربعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر
وأما جوابهم الثاني وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً إلا هذه الأربعة
فجوابه من وجوه أولها أن قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ( البقرة 173 ) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وثانيها أنه لما ثبت بمقضتى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الاْربعة كان هذا اعترافاً بحل ما سواها فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخاً ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلاً لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال إنه وإن كان ثابتاً إلا أنه زال ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال
وأما جوابهم الثالث وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد فنقول ليس هذا من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة وقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وكذا وكذا تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعاً لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتاً في أول الشريعة بمكة وفي آخرها بالمدينة ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز

وأما جوابهم الرابع فضعيف أيضاً لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ يتناول كل ما كان وحياً سواء كان ذلك الوحي قرآناً أو غيره وأيضاً فقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ يزيل هذا الاحتمال فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله ومن السؤالات الضعيفة أن كثيراً من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما استخبثه العرب فهو حرام ) وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال ( يعافه طبعي ) ثم إن هذا الاستقذار ما صار سبباً لتحريم الضب وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئاً وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم
المسألة الثالثة اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة فأولها الميتة ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) وثانيها الدم المسفوح والسفح الصب يقال سفح الدم سفحاً وسفح هو سفوحاً إذا سال وأنشد أبو عبيدة لكثير أقول ودمعي واكف عند رسمها
عليك سلام الله والدمع يسفح
قالن ابن عباس يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما يخرج من الأوداج عند الذبح وعلى هذا التقدير فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدري يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس به إنما نهى عن الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها قوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وهو منسوق على قوله إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا فسمى ما أهل لغير الله به فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال فلان كرم وجود إذا كان كاملاً فيهما ومنه قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 )
وأما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة وقوله عقيب ذلك فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يدل على حصول الرخصة ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة وهي نوعان الأول أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر وفيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي في الظفر لغات ظفر بضم الفاء وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال
البحث الثاني قال الواحدي اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس أنه الإبل فقط وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه الإبل والنعامة وهو قول مجاهد وقال

عبد الله بن مسلم إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ثم قال كَذالِكَ قال المفسرون وقال وسمى الحافر ظفراً على الاستعارة وأقول أماحمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً والثاني أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما
وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين الأول أن قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة والثاني أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا فائدة فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين وعند هذا نقول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فوجب أن لا يكون مقبولاً وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة
النوع الثاني من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة قوله تعالى وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم ثم في الآية قولان الأول إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع أولها قوله إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا قال ابن عباس إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه وقال قتادة إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم وبهذا التقدير لو حلف لا يأكل الشحم وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين
والاستثناء الثاني قوله تعالى أَوِ الْحَوَايَا قال الواحدي وهي المباعر والمصارين واحدتها حاوية وحوية قال ابن الأعرابي هي الحوية أو الحاوية وهي الدوارة التي في بطن الشاة وقال ابن السكيت يقال حاوية وحوايا مثل رواية وروايا
إذا عرفت هذا فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة
والاستثناء الثالث قوله وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قالوا إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين وقال ابن جريج كل شحم في القائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنيين يقول إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم وعلى هذا التقدير فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية
القول الثاني في الآية أن قوله أَوِ الْحَوَايَا غير معطوف على المستثنى بل على المستثنى منه والتقدير حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا

ودخلت كلمة ( أو ) كدخولها في قوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا
ثم قال تعالى ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ والمعنى أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ونظيره قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى وِإِنَّا لَصَادِقُونَ أي في الأخبار عن بغيهم وفي الأخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم قال القاضي نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم
فالجواب أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب ويمكن أيضاً أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غير مستبعد
ثم قال تعالى فَإِن كَذَّبُوكَ يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ واسِعَة ٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء الوقت عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني الذين كذبوك فيما تقول والله أعلم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَى ْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات فيقولون لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه

فالوجه الأول أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً
والوجه الثاني أنه تعالى قال كَذَّبَ وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب وأما القراءة بالتشديد فلا يمكن حملها على أن القول استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة كَذَّبَ بالتخفيف وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم فإنه كذبه بهذا الطريق لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا عليه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة
الوجه الثالث في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب
المذهب الرابع قوله تعالى قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ وَقَالُواْ لَنَا ولا شك أنه استفهام على سبيل الأنكار وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة وهذا يدل على فساد هذا المذهب لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً
الوجه الخامس قوله تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ مع أنه تعالى قال في سائر الآيات إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا
والوجه السادس قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ والخرص أقبح أنواع الكذب وأيضاً قال تعالى قُتِلَ الْخَرصُونَ
والوجه السابع قوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وتقريره أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى وإذا شاء الله منا ذلك فكيف يمكننا تركه وإذا كنا عاجزين عن تركه فكيف يأمرنا بتركه وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء فقال تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وذلك من وجهين
الوجه الأول أنه تعالى أعطاكم عقولاً كاملة وأفهاماً وافية وآذاناً سامعة وعيوناً باصرة وأقدركم على الخير والشر وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضاً بالضرورة وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة ا بل لله الحجة البالغة عليكم

والوجه الثاني أنكم تقولون لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى لكنه قد غلبنا الله وقهرناه وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً وذلك يقدح في كونه إلهاً
فأجاب تعالى عنه بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً كلام باطل فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه الآية
والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات وأجبنا عنها بأجوبه واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة
وإذا ثبت هذا فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ثم ذكر عقيبه كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره كان التكليف عبثاً فكانت دعوى الأنبياء باطلة ونبوتهم ورسالتهم باطلة ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع
فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء فيكون الحاصل أن هذا الاستدلال باطل وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل
فإن قالوا هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى كَذالِكَ كَذَّبَ بالتسديد وأما إذا قرأناه بالتخفيف فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان الأول أنا نمنع صحة هذه القراءة والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم لوقع التناقض ولخرج القرآن عن كونه كلاماً لله تعالى ويندفع هذا التناقض بأن لا تقبل هذه القراءة فوجب المصير إليه الثاني سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية ومما يقوي ما ذكرناه

ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول لا قدر فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( ي س 12 ) وقال ابن عباس أول ما خلق الله القلم قال له اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة وقال صلوات الله عليه ( المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة )
المسألة الثانية زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح فلا يجوز أن يقال قمت وزيد وذلك لأن المعطوف عليه أصل والمعطوف فرع والمضمر ضعيف والمظهر قوي وجعل القوي فرعاً للضعيف لا يجوز
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إن جاء الكلام في جانب الأثبات وجب تأكيد الضمير فنقول قمت أنا وزيد وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا فعطف قوله وَلاَ ى َابَاؤُنَا على الضمير في قوله مَا أَشْرَكْنَا إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف قال في جامع الأصفهاني إن حرف العطف يجب أن يكون متأخراً عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا مَا أَشْرَكْنَا نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا حتى تكون كلمة لا مقدمة على حرف العطف أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة لا وحينئذ يعود المحذور المذكور
فالجواب أن كلمة لا لما أدخلت على قوله ءابَاؤُنَا كان ذلك موجباً إضمار فعل هناك لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم وذلك هو الإشراك فكان التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
المسألة الثالثة احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فكلمة ( لو ) في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم وما هداهم أيضاً وتقريره بحسب الدليل العقلي أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان الله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان فلو شاء الأيمان منه فقد شاء الفعل من غير قدرة على الفعل وذلك محال ومشيئة المحال محال وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة
فإن قلنا أنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة ومجموعهما موجب للفعل فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان وإذا امتنع ذلك منه امتنع أن يريده الله منه لأن إرادة المحال محال ممتنع فثبت أن ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضاً فبطل قولهم من كل الوجوه أوما قوله تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل

عليه هذا الظاهر فكيف يصار إليه ثم نقول هذا الدليل باطل من وجوه الأول أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار فنحن نقول التقدير لو شاء الهداية لهداكم وأنتم تقولون التقدير لو شاء الهداية على سبيل الإلجار لهداكم فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحاً الثاني أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزاً عن تحصيل مراده لأن مراده هو الإيمان الاختياري وأنه لا يقدر البتة على تحصيله فكان القول بالعجز لازماً الثالث أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء أما الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة وإرادة لازمة فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب فإن وجب فهي الداعية الضرورية وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق وإن لم تجب ترتب الفعل عليها فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفاً عنها وتارة غير متخلف فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية وقد فرضناه كذلك وهذا خلف ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبراً إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل على الكفار جميع أنواع حجهم بين أنه ليس لهم على قولهم شهود البتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هَلُمَّ كلمة دعوة إلى الشيء والمعنى هاتوا شهداءكم وفيه قولان الأول أنه يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى قال تعالى قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وقال وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا واللغة الثانية يقال للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللاثنين هلما وللجمع هلمن والأول أفصح
المسألة الثانية في أصل هذه الكلمة قولان قال الخليل وسيبويه أنها ( ها ) ضمت إليها ( لم ) أي جمع وتكون بمعنى أدن يقال لفلان لمة أي دنو ثم جعلتا كالكلمة الواحدة والفائدة في قولنا ( ها ) استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر إلا أنه لما كثر استعماله حذف عنه الألف على سبيل التخفيف كقولك لم أبل ولم أر ولم تك وقال الفراء أصلها ( هل ) أم أرادوا ( بهل ) حرف الاستفهام

وبقولنا ( أم ) أي أقصد والتقدير هل قصد والمقصودمن هذا الاستفهام الأمر بالقصد كأنك تقول أقصد وفيه وجه آخر وهو أن يقال كان الأصل أن قالوا هل لك في الطعام أم أي قصد ثم شاع في الكل كما أن كلمة ( تعالى ) كانت مخصوصة بصورة معينة ثم عمت
المسألة الثالثة أنه تعالى نبه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه ومعنى هَلُمَّ أحضروا شهداءكم
ثم قال فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ تنبيهاً على كونهم كاذبين ثم بين تعالى أنه إن وقعت منهم تلك الشهادة فعن اتباع الهوى فأمر نبيه أن لا يتبع أهواءهم ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخرة وكانوا ممن ينكرون البعث والنشور وزاد في تقبيحهم بأنهم يعدلون بربهم فيجعلون له شركاء والله أعلم
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد ما يقول الكفار أن الله حرم علينا كذا وكذا أردفه تعالى ببيان الأشياء التي حرمها عليهم وهي الاْشياء المذكورة في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( تعال ) من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان لمن هو أسفل منه ثم كثر وعم وما في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ منصوب وفي ناصبه وجهان الأول أنه منصوب بقوله اتْلُ والتقدير أتل الذي حرمه عليكم والثاني أنه منصوب بحرم والتقدير أتل الأشياء التي حرم عليكم
فإن قيل قوله ءانٍ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً كالتفصيل لما أجمله في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهذا باطل لأن ترك الشرك والإحسان بالوالدين واجب لا محرم
والجواب من وجوه الأول أن المراد من التحريم أن يجعل له حريماً

معيناً وذلك بأن بينه بياناً مضبوطاً معيناً فقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه أتل عليكم ما بينه بياناً شافياً بحيث يجعل له حريماً معيناً وعلى هذا التقرير فالسؤال زائل والثاني أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ كما يقال عليكم السلام أو أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم ابتدأ فقال أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً بمعنى لئلا تشركوا والتقدير أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئاً الثالث أن تكون ( أن ) في قوله أَن لا تُشْرِكُواْ مفسرة بمعنى أي وتقدير الآية أتل ما حرم ربكم عليكم أي لا تشركوا أي ذلك التحريم هو قوله لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
فإن قيل فقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً معطوف على قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً فوجب أن يكون قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً مفسراً لقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فيلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراماً وهو باطل
قلنا لما أوجب الإحسان إليهما فقد حرم الإساءة إليهما
المسألة الثانية أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمور خمسة أولها قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 )
والطائفة الثانية من المشركين عبدة الكواكب وهم الذين حكى الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
والطائفة الثالثة الذين حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وهم القائلون بيزدان وأهرمن
والطائفة الرابعة الذين جعلوا لله بنين وبنات وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف قال ههنا أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
النوع الثاني من الأشياء التي أوجبها ههنا قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإنما ثنى بهذا التكليف لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر
النوع الثالث قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ والمراد منه النهي عن الوأد إذ كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه تعالى إذا كان متكفلاً برزق الوالد والولد فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله فكذلك القول في حال الولد قال شمر أملق لازم ومتعد يقال أملق الرجل فهو مملق إذا افتقر فهذا لازم وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده والإملاق الفساد

والنوع الرابع قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال ابن عباس كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلون ذلك سراً فنهاهم الله عن الزنا علانية وسراً والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضاً ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل وفي قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس وذلك باطل لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعاً من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيماً لأمر الله تعالى وخوفاً من عذابه ورغبة في عبوديته
والنوع الخامس قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ
واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين إحداهما أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم كقوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ والثانية أنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش
إذا عرفت هدا فنقول قوله إِلاَّ بِالْحَقّ أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم يصدر منها والحديث أيضاً موافق له وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) والقرآن دل على سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 )
والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول فقال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ثم أتبعه بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر والتأمل والاجتهاد
فالنوع الأولى من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) والمعنى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له ثم إن كان القيم فقيراً محتاجاً أخذ بالمعروف وإن كان غنياً فاحترز عنه كان أولى فقوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ معناه كمعنى قوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 )
وأما قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله وأما معنى الأشد وتفسيره قال الليث الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة قال الفراء الأشد وأحدها شد في القياس ولم أسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة والشديد الرجل القوي وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء
والنوع الثاني قوله تعالى وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم يقال درهم واف وكيل واف وأوفيته حقه ووفيته إذا أتممته وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئاً وقوله وَالْمِيزَانَ أي الوزن بالميزان وقوله بِالْقِسْطِ أي بالعدل لا بخس ولا نقصان
فإن قيل إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصاه وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة
واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن أما التحقيق فغير واجب قال القاضي إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه بل قالوا يخلق الكفر فيه ويريده منه ويحكم به عليه ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر والداعية الموجبة له ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق

النوع الثالث من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى واعلم أن هذا أيضاً من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط والأمر والنهي فقط قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة قريبة من الأفهام ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ونقصان عن القدر الواجب ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد
والنوع الرابع من هذه التكاليف قوله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه فيكون ذلك الحلف خفياً ويكون بره وحنثه أيضاً خفياً ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
فإن قيل فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وخاتمة هذه الآية بقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قلنا لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال فلهذا السبب قال لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تَذَكَّرُونَ بالتخفيف والباقون تذكرن بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد

بداية الجزء الرابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَاذَا بفتح الألف وسكون النون وقرأ حمزة والكسائي وَأَنْ بكسر الألف وتشديد النون أما قراءة ابن عامر فأصلها وَأَنَّهُ هَاذَا صِراطِي والهاء ضمير الشأن والحديث وعلى هذا الشرط تخفف قال الأعشى في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي قد علموا أنه هالك وأما كسر ءانٍ فالتقدير أَتْلُ مَا حَرَّمَ ( الأنعام 151 ) وأتل إِنَّ هَذَا صِراطِي بمعنى أقول وقيل على الاستئناف وأما فتح أن فقال الفراء فتح ءانٍ من وقوع أتل عليها يعني وأتل عليكم إِنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا قال وإن شئت جعلتها خفضاً والتقدير ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن هذا صراطي قال أبو علي من فتح ءانٍ فقياس قول سيبويه أنه حملها على قوله فَاتَّبَعُوهُ والتقدير لأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه كقوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً ( المؤمنون 52 ) وقال سيبويه لأن هذه أمتكم وقال في قوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) والمعنى ولأن المساجد لله
المسألة الثانية القراء أجمعوا على سكون الياء من صِراطِي غير ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن كثير وابن عامر سراطي بالسين وحمزة بين الصاد والزاي والباقون بالصاد صافية وكلها لغات قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الأعمش وَهَاذَا صِراطِي وفي مصحف عبد الله وَهَاذَا صِراطُ رَبُّكُمْ وفي مصحف أبي وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ

المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به أجمل في آخره إجمالاً يقتضي دخول ما تقدم فيه ودخول سائر الشريعة فيه فقال وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فدخل فيه كل ما بينه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من دين الإسلام وهو المنهج القويم والصراط المستقيم فاتبعوا جملته وتفصيله ولا تعدلوا عنه فتقعوا في الضلالات وعن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه خط خطاً ثم قال هذا سبيل الرشد ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وعن ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار
ثم قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ أي بالكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي والضلالات
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن كل ما كان حقاً فهو واحد ولا يلزم منه أن يقال إن كل ما كان واحداً فهو حق فإذا كان الحق واحداً كان كل ما سواه باطلاً وما سوى الحق أشياء كثيرة فيجب الحكم بأن كل كثير باطل ولكن لا يلزم أن يكون كل باطل كثيراً بعين ما قررناه في القضية الأولى
ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن قوله ثُمَّ ءاتَيْنَا فيه وجوه الأول التقدير ثم إني أخبركم بعد تعديد المحرمات وغيرها من الأحكام إن آتينا موسى الكتاب فذكرت كلمة ( ثم ) لتأخير الخبر عن الخبر لا لتأخير الواقعة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) والثاني أن التكاليف التسعة المذكورة في الآية المتقدمة التكليف لا يجوز اختلافها بحسب اختلاف الشرائع بل هي أحكام واجبة الثبوت من أول زمان التكليف إلى قيام القيامة وأما الشرائع التي كانت التوبة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فتقدير الآية أنه تعالى لما ذكرها قال ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب الثالث أن فيه حذفاً تقديره ثم قل يا محمد إنا آتينا موسى فتقديره اتل ما أوحى إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى
أما قوله تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ففيه وجوه الأول معناه تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن أي على كل من كان محسناً صالحاً ويدل عليه قراءة عبد الله عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ والثاني المراد تماماً للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة بالتبليغ وفي كل ما أمر به والثالث تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه على وجه التتميم وقرأ يحيى بن يعمر عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ أي على الذي هو أحسن بحذف المبتدأ كقراءة من قرأ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً ( البقرة 26 )

بالرفع وتقدير الآية على الذي هو أحسن ديناً وأرضاه أو يقال المراد آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب أي على الوجه الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي أتم له الكتاب على أحسنه ثم بين تعالى ما في التوراة من النعم في الدين وهو تفصيل كل شيء والمراد به ما يختص بالدين فدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) دينه وشرعه وسائر الأدلة والأحكام إلا ما نسخ منها ولذلك قال وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ والهدى معروف وهو الدلالة والرحمة هي النعمة لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي لكي يؤمنوا بلقاء ربهم والمراد به لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب
وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُو ءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
اعلم أن قوله وَهَاذَا كِتَابٌ لا شك أن المراد هو القرآن وفائدة وصفه بأنه مبارك أنه ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين أو المراد أنه كثير الخير والنفع
ثم قال فَاتَّبَعُوهُ والمراد ظاهر
ثم قال وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا وفيه ثلاثة أقوال قيل اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة وقيل اتقوا لترحموا أي ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل اتقوا لترحموا جزاء على التقوى
ثم قال تعالى أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وفيه وجوه
الوجه الأول قال الكسائي والفراء والتقدير أنزلناه لئلا تقولوا ثم حذف الجار وحرف النفي كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وقوله رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) أي لئلا
والوجه الثاني وهو قول البصريين معناه أنزلناه كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار ( لا ) فإنه لا يجوز أن يقال جئت أن أكرمك بمعنى أن لا أكرمك وقد ذكرنا تحقيق هذه المسألة في آخر سورة النساء

والوجه الثالث قال الفراء يجوز أن يكون ( إن ) متعلقة باتقوا والتأويل واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب
البحث الثاني قوله أَن تَقُولُواْ خطاب لأهل مكة والمعنى كراهة أن يقول أهل مكة أنزل الكتاب وهو التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا وهم اليهود والنصارى وإن كنا ( إن ) هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وأنه كنا عن دراستهم لغافلين والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم وقوله وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أي لا نعلم ما هي لأن كتابهم ما كان بلغتنا ومعنى أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم مفسر للأول في أن معناه لئلا يقولوا ويحتجوا بذلك ثم بين تعالى قطع احتجاجهم بهذا وقال فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وهو القرآن وما جاء به الرسول وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ
فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير
قلنا القرآن بينة فيما يعلم سمعاً وهو هدى فيما يعلم سمعاً وعقلاً فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف وقد بينا أن معنى رَحْمَة ً أي أنه نعمة في الدين
ثم قال تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ والمراد تعظيم كفر من كذب بآيات الله وصدف عنها أي منع عنها لأن الأول ضلال والثاني منع عن الحق وإضلال
ثم قال تعالى سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوء الْعَذَابِ وهو كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِى َ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ
قرأ حمزة والكسائي يَأْتِيهِمُ بالياء وفي النحل مثله والباقون تَأْتِيَهُمُ بالتاء
واعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر وإزاحة للعلة وبين أنهم لا يؤمنون ألبتة وشرح أحوالاً توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( الأنعام 158 ) ومعنى ينظرون ينتظرون وهل استفهام معناه النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة

وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرب أو مجيء الآيات القاهرة من الرب
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا حكاية عنهم وهم كانوا كفاراً واعتقاد الكافر ليس بحجة والثاني أن هذا مجاز ونظيره قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ( النحل 26 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والثالث قيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال وأقربها قول الخليل صوات الله عليه في الرد على عبدة الكواكب لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته لأن على هذا التقدير يصير هذا عين قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ فوجب حمله على أن المراد منه إتيان الرب
قلنا الجواب المعتمد أن هذا حكاية مذهب الكفار فلا يكون حجة وقيل يأتي ربك بالعذاب أو يأتي بعض آيات ربك وهو المعجزات القاهرة
ثم قال تعالى يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة عن البراء بن عازب قال كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تتذاكرون قلنا نتذاكر الساعة قال ( إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن ) وقوله لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ صفة لقوله نَفْساً وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك
ثم قال تعالى قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ وعيد وتهديد
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
قرأ حمزة والكسائي فارقوا بالألف والباقون الَّذِينَ فَرَّقُواْ ومعنى القراءتين عند التحقيق واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وأنكر بعضاً فقد فارقه في الحقيقة وفي الآية أقوال
القول الأول المراد سائر الملل قال ابن عباس يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون

أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعاً أي فرقاً وأحزاباً في الضلالة وقال مجاهد وقتادة هم اليهود والنصارى وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وكذلك اليهود وهم أهل كتاب واحد واليهود تكفر النصارى
والقول الثاني أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضاً كما قال تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ( البلقرة 85 ) وقال أيضاً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
والقول الثالث قال مجاهد إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْء فيه قولان الأول أنت منهم بريء وهم منك برآء وتأويله إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الإباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم والثاني لست من قتالهم في شيء قال السدي يقولون لم يؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ وهذا بعيد لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ
ثم قال إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي فيما يتصل بالأمهال والأنظار والاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ والمراد الوعيد
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم الحسنة قول لا إله إلا الله والسيئة هي الشرك وهذا بعيد بل يجب أن يكون محمولاً على العموم إما تمسكاً باللفظ وإما لأجل أنه حكم مرتب على صف مناسب له فيقتضي كون الحكم معللاً بذلك الوصف فوجب أن يعم لعموم العلة
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله حذفت الهاء من عشر والأمثال جمع مثل والمثل مذكر لأنه أريد عشر حسنات أمثالها ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها وحذف الموصوف كثير في الكلام ويقوي هذا قراءة من قرأ عشر أمثالها بالرفع والتنوين
المسألة الثالثة مذهبنا أن الثواب تفضل من الله تعالى في الحقيقة وعلى هذا التقدير فلا إشكال في الآية أما المعتزلة فهم فرقوا بين الثواب والتفضل بأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة ثم إنهم على تقريع مذاهبهم اختلفوا فقال بعضهم هذه العشرة تفضل والثواب غيرها وهو قول الجبائي قال لأنه لو كان الواحد ثواباً وكانت التسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل وذلك لا

يجوز لأنه لو جاز أن يكون التفضل مساوياً للثواب في الكثرة والشرف لم يبق في التكليف فائدة أصلاً فيصير عبثاً وقبيحاً ولما بطل ذلك علمنا أن الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر وفي التعظيم من التفضل وقال آخرون لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثواباً وتكون التسعة الباقية تفضلاً إلا أن ذلك الواحد يكون أوفر وأعظم وأعلى شأناً من التسعة الباقية
المسألة الرابعة قال بعضهم التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد بل أراد الإضعاف مطلقاً كقول القائل لئن أسديت إلي معروفاً لإكافئنك بعشر أمثاله وفي الوعيد يقال لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً ولا يريد التحديد فكذا ههنا والدليل على أنه لا يمكن حمله على التحديد قوله تعالى مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ( البقرة 261 )
ثم قال تعالى وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا أي الأجزاء يساويها ويوازيها روى أبو ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو عفو فالويل لمن غلب آحاده أعشاره ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها وإن عملها فسيئة واحدة ) وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعتهم ولا يزاد على عقاب سيئاتهم في الآية سؤالان
السؤال الأول كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ
جوابه أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة
السؤال الثاني إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتارة جعل بدلاً عن صيام أيام قلائل وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة
جوابه إن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه
السؤال الثالث إذا أحدث في رأس إنسان موضحتين وجب فيه إرشان فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب فالمساواة غير معتبرة
وجوابه إن ذلك من تعبدات الشرع وتحكماته
السؤال الرابع أنه يجب في مقابلة تفويت أكثر كل واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء وجبت دية واحدة وذلك يمتنع القول من رعاية المماثلة
جوابه أنه من باب تحكمات الشريعة والله أعلم

قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما علم رسوله أنواع دلائل التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والنافين للقضاء والقدر ورد على أهل الجاهلية في أباطيلهم أمره أن يختم الكلام بقوله إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وذلك يدل على أن الهداية لا تحصل إلا بالله وانتصب ديناً لوجهين أحدهما على البدل من محل صراط لأن معناه هداني ربي صراطاً مستقيماً كما قال وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( الفتح 2 ) والثاني أن يكون التقدير الزموا ديناً وقوله فيما قال صاحب ( الكشاف ) القيم فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم وقرأ أهل الكوفة قيماً مكسورة القاف خفيفة الياء قال الزجاج هو مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر والحول والشبع والتأويل ديناً ذا قيم ووصف الدين بهذا الوصف على سبيل المبالغة وقوله مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فقوله مِلَّة َ بدل من قوله دِينًا قِيَمًا وحينفاً منصوب على الحال من إبراهيم والمعنى هداني ربي وعرفني ملة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفية ثم قال في صفة إبراهيم وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه فقوله قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أنه يؤديه مع الأخلاص وأكده بقوله لاَ شَرِيكَ لَهُ وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالأخلاص
أما قوله وَنُسُكِى فقيل المراد بالنسك الذبيحة بعينها يقول من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ ( الكوثر 2 ) وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث وعلى هذا التأويل فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح وقوله وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى أي حياتي وموتي لله

واعلم أنه تعالى قال إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فأثبت كون الكل لله والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى فإن ذلك محال بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسراً بكونهما واقعين بخلق الله وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى وقرأ نافع محياي ساكنة الياء ونصبها في مماتي وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل لأن فيه جمعاً بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم ومنهم من قال إنه لغة لبعضهم وحاصل الكلام أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على أنه لا شريك له في الخلق والتقدير ثم يقول وبذلك أمرت أي وبهذا التوحيد أمرت
ثم يقول أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أي المستسلمين لقضاء الله وقدره ومعلوم أنه ليس أولاً لكل مسلم فيجب أن يكون المراد كونه أولاً لمسلمي زمانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالتوحيد المحض وهو أن يقول إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى إلى قوله لاَ شَرِيكَ لَهُ أمره بأن يذكر ما يجري مجرى الدليل على صحة هذا التوحيد وتقريره من وجهين الأول أن أصناف المشركين أربعة لأن عبدة الأصنام أشركوا بالله وعبدة الكواكب أشركوا بالله والقائلون بيزدان وأهرمن وهم الذين قال الله في حقهم وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ أشركوا بالله والقائلون بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته أشركوا أيضاً بالله فهؤلاء هم فرق المشركين وكلهم معترفون أن الله خالق الكل وذلك لأن عبدة الأصنام معترفون بأن الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما في العالم من الموجودات وهو الخالق للأصنام والأوثان بأسرها وأما عبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها وموجدها وأما القائلون بيزدان وهرمن فهم أيضاً معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله سبحانه وأما القائلون بالمسيح والملائكة فهم معترفون بأن الله خالق الكل فثبت بما ذكرنا أن طوائف المشركين أطبقوا واتفقوا على أن الله خالق هؤلاء الشركاء
إذا عرفت هذا فالله سبحانه قال له يا محمد قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا رباً غير الله تعالى أقروا بأن الله خالق تلك الأشياء وهل يدخل في العقل جعل المربوب شريكاً للرب وجعل العبد شريكاً للمولى وجعل المخلوق شريكاً للخالق ولما كان الأمر كذلك ثبت بهذا الدليل أن اتخاذ رب غير الله تعالى قول فاسد ودين باطل

الوجه الثاني في تقرير هذا الكلام أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وثبت أن الواجب لذاته واحد فثبت أن ما سواه ممكن لذاته وثبت أن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى رباً لكل شيء
وإذا ثبت هذا فنقول صريح العقل يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكاً للرب وجعل المخلوق شريكاً للخالق فهذا هو المراد من قوله قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 164 ) ثم إنه تعالى لما بين بهذا الدليل القاهر القاطع هذا التوحيد بين أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى ثم بين تعالى أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم فيه ولا آمر إلا الله تعالى فهو قوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( الأنعام 164 )
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن في قوله جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وجوهاً أحدها جعلهم خلائف الأرض لأن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم وثانيها جعلهم يخلف بعضهم بعضاً وثالثها أنهم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها
ثم قال وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ في الشرف والعقل والمال والجاه والرزق وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى متعال عن هذه الصفات وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو المراد من قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( المائدة 48 ) وقد ذكرنا أن حقيقة الابتلاء والامتحان على الله محال إلا أن المراد هو التكليف وهو عمل لو صدر من الواحد منا لكان ذلك شبيهاً بالابتلاء والامتحان فسمى لهذا الاسم لأجل هذه المشابهة ثم إن هذا المكلف إما أن يكون مقصراً فيما كلف به وإما أن يكون موفراً فيه فإن كان الأول كان نصيبه من التخويف والترهيب وهو قوله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ( الأنعام 165 ) ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب وإن كان الثاني وهو أن يكون موفراً في تلك الطاعات كان نصيبه من التشريف والترغيب هو قوله وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أي يغفر الذنوب ويستر العيوب في الدنيا بستر فضله وكرمه ورحمته وفي الآخرة بأن يفيض عليه أنواع نعمه وهذا الكلام بلغ في شرح الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه وهذا آخر الكلام في تفسير سورة الأنعام والحمد لله الملك العلام

سورة الأعراف
مكية إلا من آية 163 إلى غاية آية 170 فمدنية
وآياتها 206 نزلت بعد ص
ال م ص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
في الأية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المص أنا الله أفصل وعنه أيضاً أنا الله أعلم وأفصل قال الواحدي وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل والجمل إذا كانت ابتداء وخبراً فقط لا موضع لها من الإعراب فقوله أنا الله أعلم لا موضع لها من الأعراب فقوله ( أنا ) مبتدأ وخبره قوله ( الله ) وقوله ( أعلم ) خبر بعد خبر وإذا كان المعنى المص أنا الله أعلم كان أعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها وقال السدي المص على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور قال القاضي ليس هذا اللفظ على قولنا أنا الله أفصل أولى من حمله على قوله أنا الله أصلح أنا الله أمتحن أنا الله الملك لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو موجود في قولنا أنا الله أصلح وإن كانت العبرة بحرف الميم فكما أنه موجود في العلم فهو أيضاً موجود في الملك والامتحان فكان حمل قولنا المص على ذلك المعنى بعينه محض التحكم وأيضاً فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق وأما قول بعضهم إنه من أسماء الله تعالى فأبعد لأنه ليس جعله إسماً لله تعالى أولى من جعله اسماً لبعض رسله من الملائكة أو الأنبياء لأن الاسم إنما يصير اسماً للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح وذلك مفقود ههنا بل الحق أن قوله المص اسم لقب لهذه السورة وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في

المسميات بل هي قائمة مقام الإشارات ولله تعالى أن يسمي هذه السورة بقوله المص كما أن الواحد منا إذا حدث له ولد فإنه يسميه بمحمد
إذا عرفت هذا فنقول قوله المص مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر أي السورة المسما بقولنا المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ
فإن قيل الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هوأن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته وما لم نعرف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله لزم الدور
قلنا نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار وانقضى من عمره أربعون سنة ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى فثبت بهذا الدليل العقلي أن المص كتاب أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من عند ربه وإلهه
المسألة الثانية احتج القائلون بخلق القرآن بقوله كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلاً والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وذلك لا يليق بالقديم فدل على أنه محدث
وجوابه أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة والله أعلم
فإن قيل فهب أن المراد منه الحروف إلا أن الحروف أعراض غير باقية بدليل أنها متوالية وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول
والجواب أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ ثم إن الملك يطالع تلك النقوش وينزل من السماء إلى الأرض ويعلم محمداً تلك الحروف والكلمات فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها
المسألة الثالثة الذين أثبتوا لله مكاناً تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية وكلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية فقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد وذلك يدل على أنه تعالى مختص بجهة فوق لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل
وجوابه لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل
ثم قال تعالى فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ وفي تفسير الحرج قولان الأول الحرج الضيق والمعنى لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ والثاني فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ أي شك

منه كقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( يونس 94 ) وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب
ثم قال تعالى لِتُنذِرَ بِهِ هذه ( اللام ) بماذا تتعلق فيه أقوال الأول قال الفراء إنه متعلق بقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ على التقديم والتأخير والتقدير كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه
فإن قيل فما فائدة هذا التقديم والتأخير
قلنا لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ الثاني قال ابن الأنباري اللام ههنا بمعنى كي والتقدير فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك الثالث قال صاحب ( النظم ) اللام ههنا بمعنى أن والتقدير لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به والعرب تضع هذه اللام في موضع ( أن ) قال تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وفي موضع أخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( الصف 8 ) وهما بمعنى واحد والرابع تقدير الكلام أن هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله حافظاً له وناصراً لم يخف أحداً وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال
ثم قال وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد مواعظ للمصدقين قال الزجاج وهو اسم في موضع المصدر قال الليث الذّكْرَى اسم للتذكرة وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لتنذر به ولتذكر ويجوز أن يكون رفعاً بالرد على قوله كِتَابٌ والتقدير كتاب حق وذكرى ويجوز أيضاً أن يكون التقدير وهو ذكرى ويجوز أن يكون خفضاً لأن معنى لتنذر به لأن تنذر به فهو في موضع خفض لأن المعنى للإنذار والذكرى
فإن قيل لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين
قلنا هو نظير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول إنذار وتخويف فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم وإلى منبه ينبههم وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها نوع ذهول وغفلة فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في حق طائفة أخرى والله أعلم

اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى والمرسل وهو الرسول والمرسل إليه وهو الأمة فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليه وهم الأمة بمتابعة الرسول فقال اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الحسن يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله
واعلم أن قوله اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ يتناول القرآن والسنة
فإن قيل لماذا قال أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ وإنما أنزل على الرسول
قلنا إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل
إذا عرفت هذا فنقول هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض
فإن قالوا لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله فَاعْتَبِرُواْ ( الحشر 2 ) كان العمل بالقياس عملاً بما أنزل الله
قلنا هب أنه كذلك إلا أنا نقول الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قالوا معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ولقائل أن يقول الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره
أما الأول فهو الذي أمر الله باتباعه
وأما الثاني فهو الذي نهى الله عن اتباعه فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز إتباعه
إذا ثبت هذا فنقول إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس فقالوا الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله الله تعالى فوجب أن لا يجوز
فإن قالوا لما دل قوله فاعتبروا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملاً بما أنزله الله تعالى

أجيب عنه بأن العمل بالقياس لو كان عملاً بما أنزله الله تعالى لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملاً بما أنزله الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
وأجاب عنه مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون
وأجاب الأولون بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 115 ) وعموم قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وعموم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ) وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة فرع عن التمسك بالعمومات والفرع لا يكون أقوى من الأصل
فأجاب مثبتو القياس بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في أثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح والله أعلم
المسألة الثالثة الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فلو جعلنا القرآن طاعناً في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر قَلِيلاً مَّا يَتَذَكَّرُونَ ( النمل 62 ) بالياء تارة والتاء أخرى وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال والباقون بالتاء وتشديد الذال قال الواحدي رحمه الله تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر فالمعنى قليلاً تذكركم وأما قراءة ابن عامر يَتَذَكَّرُونَ بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب وأما قراءة حمزة والكسائي وحفص خفيفة الذال شديدة الكاف فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة والله أعلم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا من الابتغاء من قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا ( آل عمران 85 )
وَكَم مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ

اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها قال وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيداً ضربته والنصب جيد عربي أيضاً كقوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
المسألة الثانية قيل في الآية محذوف والتقدير وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه أحدها قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا والبأس لا يليق إلا بالأهل وثانيها قوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فعاد الضمير إلى أهل القرية وثالثها أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم ورابعها أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم
فإن قيل فلماذا قال أهلكناها أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ ( الطلاق 8 ) فرده على اللفظ ثم قال أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( الأحزاب 25 ) فرده على المعنى دون اللفظ ولهذا السبب قال الزجاج ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صواباً وقال بعضهم لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها ولأن على هذا التقدير يكون قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا محمولاً على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا يقتضي أن يكون الإهلاك متقدماً على مجيء البأس وليس الأمر كذلك فإنّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه الأول المراد بقوله أَهْلَكْنَاهَا أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا وثانيها كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( المائدة 6 ) وثالثها أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال وارداً فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس فإن قالوا السؤال باق لأن الفاء في قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا فاء التعقيب وهو يوجب المغايرة فنقول الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ) فالفاء في قوله فيغسل للتفسير لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير لذلك الإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم فكان ذكر البأس تفسيراً لذلك الإهلاك الرابع قال الفراء لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً فكذا ههنا وقوله بَيَاتًا قال الفراء يقال بات الرجل يبيت بيتاً وربما قالوا بياتاً قالوا وسمي البيت لأنه يبات فيه قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَيَاتًا مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه بحثان
البحث الأول أنه حال معطوفة على قوله بَيَاتًا كأنه قيل فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين قال الفراء وفيه واو مضمرة والمعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ولو قيل كان صواباً وقال الزجاج أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف

فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز ولو قلت جاءني زيد راجلاً وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف
البحث الثاني كلمة ( أو ) دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهاراً وفي القيلولة قولان قال الليث القيلولة نومة نصف النهار وقال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل عليه إن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له أما ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون والمقصود أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم إمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق إمارة فلا تغتروا بأحوالكم
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ قال أهل اللغة الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء ومقام الدعاء حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين قال ابن عباس فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا أنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك قال ابن الأنباري فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإسارة وقوله إِلاَّ أَن قَالُواْ الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعاً بكان ويكون قوله دَعْوَاهُمْ نصباً كقوله فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( النمل 56 ) وقوله فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ ( الحشر 17 ) وقوله مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن ( الجاثية 25 ) قال ويجوز أن يكون أيضاً على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعاً وإن قالوا نصباً كقوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) على قراءة من رفع البر والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيداً أخوك قال الزجاج إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله دَعْوَاهُمْ في موضع رفع أن يقول فَمَا كَانَتْ دَعْوَاهُمْ فلما قال كان دل على أن الدعوى في موضع نصب ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانت رفعاً فتقول كان دعواه باطلاً وباطلة والله أعلم
فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ وأمر الأمة بالقبول والمتابعة وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا أتبعه بنوع آخر من التهديد وهو أنه تعالى

يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة
الوجه الثاني أنه تعالى لما قال فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( الأعراف 5 ) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم وبين أن هذا السؤل لا يختص بأهل العقاب بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب
المسألة الثانية الذين أرسل إليهم هم الأمة والمرسلون هم الرسل فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين ونظير هذه الآية قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 )
ولقائل أن يقول المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ فإذا كان يقصه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال
والجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير والمقصود منه التقريع والتوبيخ
فإن قيل فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة
قلنا لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة التحق التقصير بكليته بالأمة فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم
ثم قال تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائباً عن أحوالهم بل كان عالماً بها وما خرج عن علمه شيء منها وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالماً بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالماً بالجزئيات امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمراً ناهياً مثيباً معاقباً ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالماً بجميع المعلومات
المسألة الثالثة قوله تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم وأن قول من يقول إنه لا علم لله قول باطل
فإن قيل كيف الجمع بين قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) وقوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( القصص 78 )
قلنا فيه وجوه أحدها أن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتم عنها وثانيها أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) قال الشاعر

ألستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لا يسأل أحداً لأجل الاستفادة والاسترشاد ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم ونظيره قوله تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات 27 ) ثم قال فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضاً والدليل عليه قول فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ( القلم 30 ) وقوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( القلم 30 ) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضاً على سبيل الشفقة واللطف لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام
والوجه الثالث في الجواب أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال وعن بعضها بعدم السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلاً أو مرسلاً إليهم ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار
المسألة الخامسة الآية تدل على كونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة لأنه تعالى قال وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ولو كان تعالى على العرش لكان غائباً عنا
فإن قالوا نحمله على أنه تعالى ما كان غائباً عنهم بالعلم والإحاطة
قلنا هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة
فإن قالوا فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات فقد قلتم أيضاً بكونه غائباً
قلنا هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة وذلك مشروط بكونه مختصاً بمكان وجهة فأما الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة وكان ذلك محالاً في حقه امتنع وصفه بالغيبة والحضور فظهر الفرق والله أعلم
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضاً وزن الأعمال وفي الآية مسائل

المسألة الأولى الْوَزْنَ مبتدأ و يَوْمَئِذٍ ظرف له و الْحَقّ خبر المبتدأ ويجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ الخبر و الْحَقّ صفة للوزن أي والوزن الحق أي العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل
المسألة الثانية في تفسير وزن الأعمال قولان الأول في الخبر أنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها ثم قال ابن عباس أما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون قال وهذا كما قال في سورة الأنبياء وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ( الأنبياء 47 ) وأما كيفية وزن الأعمال على هذا القول ففيه وجوه أحدهما أن أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة وأعمال الكافر بصورة قبيحة فتوزن تلك الصورة كما ذكره ابن عباس والثاني أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما يوزن يوم القيامة فقال ( الصحف ) وهذا القول مذهب عامة المفسرين في هذه الآية وعن عبد لله بن سلام أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يوضع في الأخرى فترجح ) وعن الحسن بينما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم واضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها قد أغفى فسالت الدموع من عينها فقال ( ما أصابك ما أبكاك ) فقالت ذكرت حشر الناس وهل يذكر أحد أحداً فقال لها ( يحشرون حفاة عراة غرلاً ) لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) لا يذكر أحد أحداً عند الصحف وعند وزن الحسنات والسيئات وعن عبيد بن عمير يأتى بالرجل العظيم الأكول الشروب فلا يكون له وزن بعوضة
والقول الثاني وهو قول مجاهد والضحاك والأعمش أن المراد من الميزان العدل والقضاء وكثير من المتأخرين ذهبوا إلى هذا القول وقالوا حمل لفظ الوزن على هذا المعنى سائغ في اللغة والدليل عليه فوجب المصير إليه وأما بيان أن حمل لفظ الوزن على هذا المعنى جائز في اللغة فلأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالكيل والوزن في الدنيا فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل ومما يقوي ذلك أن الرجل إذا لم يكن له قدرة ولا قيمة عند غيره يقال إن فلاناً لا يقيم لفلان وزناً قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) ويقال أيضاً فلان استخف بفلان ويقال هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه أي يعادله ويساويه مع أنه ليس هناك وزن في الحقيقة قال الشاعر قد كنت قبل لقائكم ذا قوة
عندي لكل مخاصم ميزانه
أراد عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه فجعل الوزن مثلاً للعدل
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى فقط والدليل عليه أن الميزان إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان لأن أعمال العباد أعراض وهي قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وأيضاً فبتقدير بقائها كان وزنها محالاً وأما

قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقراً بذلك فإن كان مقراً بذلك فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب وإن لم يكن مقراً بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه ألبتة أجاب الأولون وقالوا إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات وآخرون قالوا بل بظهور رجحان في الكفة
المسألة الثالثة الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) وقال في هذه الآية فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر قال الزجاج إنما جمع الله الموازين ههنا فقال فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ولم يقل ميزانه لوجهين الأول أن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد فيقولون خرج فلان إلى مكة على البغال والثاني أن المراد من الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ولقائل أن يقول هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل
وأما قوله تعالى وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه الآية فيها مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية فإنه غير موجود
المسألة الثانية قال أكثر المفسرين المراد من قوله وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الكافر والدليل عليه القرآن والخبر والأثر أما القرآن فقوله تعالى فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ولا معنى لكون الإنسان ظالماً بآيات الله إلا كونه كافراً بها منكراً لها فدل هذا على أن المراد من هذه الآية أهل الكفر وأما الخبر فما روي أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حجرته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت فيقول ( أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها ) وهذا الخبر رواه الواحدي في ( البسيط ) وأما جمهور العلماء فرووا ههنا

الخبر الذي ذكرناه من أنه تعالى يلقى في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال القاضي يجب أن يحمل هذا على أنه أتى بالشهادتين بحقهما من العبادات لأنه لو لم يعتبر ذلك لكان من أتى بالشهادتين يعلم أن المعاصي لا تضره وذلك إغراء بمعصية الله تعالى
ولقائل أن يقول العقل يدل على صحة ما دل عليه هذا الخبر وذلك أن العمل كلما كان أشرف وأعلى درجة وجب أن يكون أكثر ثواباً ومعلوم أن معرفة الله تعالى ومحبته أعلى شأناً وأعظم درجة من سائر الأعمال فوجب أن يكون أوفى ثواباً وأعلى درجة من سائر الأعمال وأما الأثر فلأن ابن عباس وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر
وإذا ثبت هذا الأصل فنقول إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنه تعالى حصر أهل موقف القيامة في قسمين أحدهما الذين رجحت كفة حسناتهم وحكم عليهم بالفلاح والثاني الذين رجحت كفة سيئاتهم وحكم عليهم بأنهم أهل الكفر الذين كانوا يظلمون بآيات الله وذلك يدل على أن المؤمن لا يعاقب ألبتة ونحن نقول في الجواب أقصى ما في الباب أنه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلا أنه تعالى ذكره في سائر الآيات فقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) والمنطوق راجح على المفهوم فوجب المصير إلى إثباته وأيضاً فقال تعالى في هذا القسم فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ونحن نسلم أن هذا لا يليق إلا بالكافر وأما العاصي المؤمن فإنه يعذب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو في الحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال وانقطاع والله أعلم
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم ثم خوفهم بعذاب الدنيا وهو قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الأعراف 4 ) ثم خوفهم بعذاب الآخرة من وجهين أحدهما السؤال وهو قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ( الأعراف 6 ) والثاني بوزن الأعمال وهو قوله وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ( الأعراف 8 ) رغبهم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام في هذه الآية بطريق آخر وهو أنه كثرت نعم الله عليهم وكثرة النعم توجب الطاعة فقال وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فقوله مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش والمراد من المعايش وجوه المنافع وهي على قسمين منها ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثماء وغيرها ومنها ما يحصل بالاكتساب وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه فيكون الكل إنعاماً من الله تعالى وكثرة الانعام لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد ثم بين تعالى أنه مع هذا

الإفضال والانعام عالم بأنهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وهذا يدل على أنهم قد يشكرون والأمر كذلك وذلك لأن الإقرار بوجود الصانع كالأمر الضروري اللازم لجبلة عقل كل عاقل ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه إنما التفاوت في أن بعضهم قد يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر
المسألة الثانية روى خارجة عن نافع أنه همز معائش قال الزجاج جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز معائش خطأ وذكروا أنه إنما يجوز جعل الياء همزة إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف فأما فِيهَا مَعَايِشَ فمن العيش والياء أصلية وقراءة نافع لا أعرف لها وجهاً إلا أن لفظة هذه الياء التي هي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصارت هذه الكلمة مشابهة لقولنا صحيفة فجعل قوله معائش شبيهاً لقولنا صحائف فكما أدخلوا الهمزة في قولنا صحائف فكذا في قولنا معائش على سبيل التشبيه إلا أن الفرق ما ذكرناه أن الياء في معيشة أصلية وفي صحيفة زائدة
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب الأمم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام بالتخويف أولاً ثم بالترغيب ثانياً على ما بيناه والترغيب إنما كان لأجل التنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق فبدأ في شرح تلك النعم بقوله يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ثم أتبعه بذكر أنه خلق أبانا آدم وجعله مسجوداً للملائكة والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات ونظيره أنه تعالى قال في أول سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) فمنع تعالى من المعصية بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وعلل ذلك المنع بكثرة نعمه على الخلق وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ثم أتبع تلك المنفعة بأن جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة والمقصود من الكل تقرير أن مع هذه النعم العظيمة لا يليق بهم التمرد والجحود فكذا في هذه السورة ذكر تعالى عين هذا المعنى بغير هذا الترتيب فهذا بيان وجه النظم على أحسن الوجوه
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن في سبعة مواضع أولها في سورة البقرة وثانيها في هذه السورة وثالثها في سورة الحجر ورابعها في سورة بني إسرائيل وخامسها في سورة الكهف وسادسها في سورة طه وسابعها في سورة ص

إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية سؤال وهو أن قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن
ثم قال بعده ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ وكلمة ثُمَّ تفيد التراخي فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال الأول أن قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي خلقنا أباكم آدم وصورناكم أي صورنا آدم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) وهو قول الحسن ويوسف النخوي وهو المختار وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره فنقول إن آدم عليه السلام أصل البشر فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيرة قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ( البقرة 63 ) أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام ويقال قتلت بنو أسد فلاناً وإنما قتله أحدهم قال عليه السلام ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وإنما قتله أحدهم وقال تعالى مخاطباً لليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذَا وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ ءالِ ( الأعراف 141 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم فكذا ههنا الثاني أن يكون المراد من قوله خَلَقْنَاكُمْ آدم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وهذا قول مجاهد فذكر أنه تعالى خلق آدم أولاً ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم
الوجه الثالث خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر
والوجه الرابع أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير كما قررناه في هذا الكتاب وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله خَلَقْنَاكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم وقوله صَوَّرْنَاكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبز أنه تعالى قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه
المسألة الثالثة ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال أحدها أن المراد منها مجرد التعظيم لانفس السجدة وثانيها أن المراد هو السجدة إلا أن المسجود له هو الله تعالى فآدم كان كالقبلة وثالثها أن المسجود له هو آدم وأيضاً ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السموات والعرش أو المراد ملائكة الأرض ففيه خلاف وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة

المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أنه تعالى استثنى إبليس من الملائكة فوجب كونه منهم وقد استقصينا أيضاً هذه المسألة في سورة البقرة وكان الحسن يقول إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور والملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ولا يعصون وليس كذلك إبليس فقد عصى واستكبر والملائكة ليسوا من الجن وإبليس من الجن والملائكة رسل الله وإبليس ليس كذلك وإبليس أول خليقة الجن وأبوهم كما أن آدم ( صلى الله عليه وسلم ) أول خليقة الإنس وأبوهم قال الحسن ولما كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه الله تعالى وكان اسم إبليس شيئاً آخر فلما عصى الله تعالى سماه بذلك وكان مؤمناً عابداً في السماء حتى عصى ربه فأهبط إلى الأرض
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
قوله سبحانه وتعالى قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود فإن ذلك الأمر قد تناول إبليس وظاهر هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تدل على أن الأمر ليس كذلك وأما الاستثناء فقد أجبنا عنه في سورة البقرة
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن كلمة لا صلة زائدة والتقدير ما منعك أن تسجد ا وله نظائر في القرآن كقوله لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) معناه أقسم وقوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الحديد 29 ) أي يرجعون وقوله لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أي ليعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين
والقول الثاني أن كلمة لا ههنا مفيدة وليست لغواً وهذا هو الصحيح لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان الأول أن يكون التقدير أي شيء منعك عن ترك السجود ا ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود ا كقول القائل لمن ضربه ظلماً ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ا والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور وما امتنعت من ضربي الثاني قال القاضي ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد ا لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها

المسألة الثالثة احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب فقالوا إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجباً للذم
فإن قالوا هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك
قلنا قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ مذكور في معرض التعليل والمذكور في قوله إِذْ أَمَرْتُكَ هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمراً مخصوصاً في صورة مخصوصة وإذا كان كذلك وجب أن يكون ترك الأمر من حيث أنه أمر موجباً للذم وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب
المسألة الرابعة احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال ولو كان الأمر لا يفيد الفور لمااستوجب هذا الذم بترك السجود في الحال
المسألة الخامسة اعلم أن قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي وهو أنه قال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ومعناه أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه ومن كان خيراً من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدونا ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ بأن قال خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل فوجب كون إبليس خيراً من آدم أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وأيضاً فالنار قوية التأثير والفعل والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال وأيضاً فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت والحياة أشرف من الموت وأيضاً فنضج الثمار متعلق بالحرارة وأيضاً فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلاً في هذين الوقتين وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحاً في العقول فهذا هو تقرير لشبهة إبليس فنقول هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة أولها أن النار أفضل من التراب فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة وأما المقدمة الثانية وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل فهذا هو محل النزاع والبحث لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر والنور من الظلمة والظلمة من النور وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه وأيضاً فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر

المسألة السادسة احتج من قال أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزاً لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) خطاب عام يتناول جميع الملائكة ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئاً إلا أنه خصص عموم قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ بهذا القياس فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل وحيث استحق الذم الشديد عليه علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وأيضاً ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فوصف تعالى إبليس بكونه متكبراً بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس أنه قال كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه وقاس وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس
فإن قيل القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض أولى وأقوى لأن النور أشرف من النار وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم إنه باطل فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحداً ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود فهذا قياس مناسب وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لما استوجب الذم العظيم فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز والله أعلم

المسألة السابعة قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ لا يليق إلا بالله سبحانه
وأما قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
وأما قوله قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة ص على سبيل الاستقصاء
إذا ثبت هذا فنقول إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ( الأعراف 143 ) وقال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس وإن لم توجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام
والجواب أن بعض العلماء قال إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة قالوا لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة ومنهم من قال إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام ألا ترى أنه تعالى قال لموسى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ( طه 13 ) وقال له وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) وهذا نهاية الإكرام
المسألة الثامنة قوله تعالى فَاهْبِطْ مِنْهَا قال ابن عباس يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم وقال بعض المعتزلة أنه إنما أمر بالهبوط من السماء وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا أي في السماء قال ابن عباس يريد أن أهل السموات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين والصغار الذلة قال الزجاج إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيهاً على صحة ما قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) وقال بعضهم لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار والله أعلم
قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قوله تعالى قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يدل على أنه طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل قال إنك من المنظرين ثم ههنا قولان الأول أنه تعالى أنظره إلى النفخة الأولى لأنه تعالى قال في آية أخرى إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 37 38 ) والمراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحياء كلهم وقال آخرون لم يوقت الله له أجلاً بل قال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ وقوله في الأخرى إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المراد منه الوقت المعلوم في علم الله تعالى قالوا والدليل على صحة هذا القول أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أن الله تعالى أخر أجله إلى الوقت الفلاني لأن ذلك المكلف يعلم أنه متى تاب قبلت توبته فإذا علم أن وقت موته هو الوقت الفلاني أقدم على المعصية بقلب فارغ فإذا قرب وقت أجله تاب عن تلك المعاصي فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري مجرى الإغراء بالقبيح وذلك غير جائز على الله تعالى
وأجاب الأولون بأن تعريف الله عز وجل كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك فلم يكن ذلك الإعلام موجباً إغراءه بالقبيح ومثاله أنه تعالى عرف أنبياءه أنهم يموتون على الطهارة والعصمة ولم يكن ذلك موجباً إغراءهم بالقبيح لأجل أنه تعالى علم منهم سواء عرفهم تلك الحالة أو لم يعرفهم هذه الحالة أنهم يموتون على الطهارة والعصمة فلما كان لا يتفاوت حالهم بسبب هذا التعريف لا جرم ما كان ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية قول إبليس فِيمَا أَغْوَيْتَنِى يدل على أنه أضاف إغواءه إلى الله تعالى وقوله في آية أخرى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) يدل على أنه أضاف إغواء العباد إلى نفسه فالأول يدل على كونه على مذهب الجبر والثاني يدل على كونه على مذهب القدر وهذا يدل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة أو يقال أنه كان يعتقد أن الإغوار لا يحصل إلا بالمغوي فجعل نفسه مغوياً لغيره من الغاوين ثم زعم أن المغوي له هو الله تعالى قطعاً للتسلسل واختلف الناس في تفسير هذه الكلمة أما أصحابنا فقالوا الإغواء إيقاع الغي في القلب والغي هو الاعتقاد الباطل وذلك يدل على أنه كان يعتقد أن الحق والباطل إنما يقع في القلب من الله تعالى أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما أن يفسروا الغي بما ذكرناه والثاني أن يذكروا في تفسيره وجهاً آخر
أما الوجه الأول فلهم فيه أعذار الأول أن قالوا هذا قول إبليس فهب أن إبليس اعتقد أن خالق الغي والجهل والكفر هو الله تعالى إلا أن قوله ليس بحجة الثاني قالوا إن الله تعالى لما أمر بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر غيه وكفره فجاز أن يضيف ذلك الغي إلى الله تعالى بهذا المعنى وقد يقول القائل لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضر بك عنده الثالث قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ والمعنى إنك بما لعنتني بسبب آدم فإنا لأجل هذه العداوة ألقى الوساوس في قلوبهم الرابع رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أي خيبتني من جنتك عقوبة على عملي لأقعدن لهم

الوجه الثاني في تفسير الإغواء الإهلاك ومنه قوله تعالى فُسُوقٌ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي هلاكاً وويلاً ومنه أيضاً قولهم غوى الفصيل يغوي غوى إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه ويشارف الهلاك والعطب وفسروا قوله إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ( هود 34 ) إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم الحق فهذه جملة الوجوه المذكورة
واعلم أنا لا نبالغ في بيان أن المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس وأنه ليس بحجة إلا أنا نقيم البرهان اليقيني على أن المغوي لإبليس هو الله تعالى وذلك لأن الغاوي لا بد له من مغو كما أن المتحرك لا بد له من محرك والساكن لا بد له من مسكن والمهتدي لا بد له من هاد فلما كان إبليس غاوياً فلا بد له من مغوي والمغوي له إما أن يكون نفسه أو مخلوقاً آخر أو الله تعالى والأول باطل لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والثاني باطل وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور والثالث هو المقصود والله أعلم
المسألة الثالثة الباء في قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى فيه وجوه الأول إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم ولما كانت الباء باء القسم كانت اللام جواب القسم مِنكُمْ وَمَا بتأويل المصدر و أَغْوَيْتَنِى صلتها والثاني أن قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضاً أسعى في إغوائهم الثالث قال بعضهم مَا في قوله فِيمَا أَغْوَيْتَنِى للاستفهام كأنه قيل بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ وفيه إشكال وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على ( ما ) الاستفهامية قليل
المسألة الرابعة قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لا خلاف بين النحويين أن ( على ) محذوف والتقدير لأقعدن لهم على صراطك المستقيم قال الزجاج مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن وإلقاء كلمة ( على ) جائز لأن الصراط ظرف في المعنى فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة في قولك آتيك غداً وفي غد
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فيه أبحاث
البحث الأول المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواطبة لا يفتر عنها ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها
والبحث الثاني إن هذه الآية تدل على أنه كان عالماً بالدين الحق والمنهج الصحيح لأنه قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق
البحث الثالث الآية تدل على أن إبليس كان عالماً بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وأيضاً كان عالماً بالدين الحق ولولا ذلك لما قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ

وإذا ثبت هذا فكيف يمكن أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالاً وغواية وبكونه مضاداً للدين الحق ومنافياً للصراط المستقيم فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقاً فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده
واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضده هو الحق فكان إنكاره إنكاراً بمحض اللسان فكان ذلك كفر عناد ومنهم من قال لا بل كفره كفر جهل وقوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به في زعم الخصم وفي اعتقاده والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم وكان تعالى عالماً بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فثبت بهذا أن إنظار إبليس وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع أن يمهله وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلاً ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك قالت المعتزلة اختلف شيوخنا في هذه المسألة فقال الجبائي إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً والدليل عليه قوله تعالى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 162 163 ) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه
والجواب أما قول أبي علي فضعيف وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساوياً لحاله عند عدم هذا التذكير وهذا التزيين والدليل عليه العرف فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين والعلم به ضروري وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضاً لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائه في المفسدة وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة فكيف يمكنه أن يحتج

به والذي يقرره غاية التقرير أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه ألبتة إما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً والله أعلم بالصواب
أما قوله تعالى ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في ذكر هذه الجهات الأربع قولان
القول الأول أن كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألقى إليهم أن الدنيا قديمة أزلية وثانيها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ والمعنى أفترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني أقوى رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها فهي بين أيديهم وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها وثالثها وهو قول الحاكم والسدي مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة وإنما فسرنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بالدنيا لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويشاهدها وأما الآخرة فهي تأتي بعد ذلك ورابعها مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ في تكذيب الأنبياء والرسل الذين يكونون حاضرين وَمِنْ خَلْفِهِمْ في تكذيب من تقدم من الأنبياء والرسل
وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ففيه وجوه أحدها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَن شَمَائِلِهِمْ في أنواع المعاصي وثانيها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَن شَمَائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل وثالثها عَنْ أَيْمَانِهِمْ يعني أفترهم عن الحسنات وَعَن شَمَائِلِهِمْ أقوى دواعيهم في السيئات قال ابن الأنباري وقول من قال الإيمان كناية عن الحسنات والشمائل عن السيئات قول حسن لأن العرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك يريد اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وروى أبو عبيد عن الأصمعي أنه يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشمال فهذا تلخيص ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الجهات الأربع أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوهاً أخرى أولها وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية فإحداها القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها وإليه الإشارة بقوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
والقوة الثانية القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ

والقوة الثالثة الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن
والقوة الرابعة الغضب وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه حقيقي شريف وثانيها أن قوله لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة وأما الأفعال مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح وَمِنْ خَلْفِهِمْ المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل وإنما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لشبهات التشبيه لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها فهي حاضرة بين يديه فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساوياً لهذا الشاهد وإنما جعلنا قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل لأن التشبيه عين التعطيل فلما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات وَعَن شَمَائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات وثالثها نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ( طه 82 ) وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فاقرأ وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( والقصص 83 ) وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ( سبأ 54 )
والقول الثاني في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة وتقدير الآية ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام ) فقال له تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل ويقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب
فإن قيل فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم
قلنا أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن وأما في الظاهر فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة والله أعلم
المسألة الثانية أنه قال مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة مِنْ

ثم قال وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة عَنْ ولا بد في هذا الفرق من فائدة فنقول إذا قال القائل جلس عن يمينه معناه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غير ملتصق به قال تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان ولم يحضر في القدام والخلف ملكان والشيطان يتباعد عن الملك فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة عَنْ لأجل أنها تفيد البعد والمباينة وأيضاً فقد ذكرنا أن المراد من قوله مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الخيال والوهم والضرر الناشىء منهما هو حصول العقائد الباطلة وذلك هو حصول الكفر وقوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ الشهوة والغضب والضرر الناشىء منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية وذلك هو المعصية ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم لأن عقابه دائم أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة عَنْ تنبيهاً على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة قال القاضي هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ وفيه سؤال وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال له على سبيل القطع واليقين وقال آخرون إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً ( سبأ 20 ) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ فقال الحق ما يطابق ذلك وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وفيه وجه آخر وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة واثنان الشهوة والغضب وسبعة هي القوى الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية وأما العقل فهو قوة واحدة وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفاً جداً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ والله أعلم
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ

اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال أَخْرَجَ مِنْهَا من الجنة أو من السماء مذؤوماً قال الليث ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار وقال الفراء ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاماً وقال ابن الأنباري المذؤم المذموم قال ابن قتيبة مذؤماً مذموماً بأبلغ الذم قال أمية وقال لإبليس رب العباد
أن اخرج دحيراً لعيناً ذؤما
وقوله مَذْمُومًا مَّدْحُورًا الدحر في اللغة الطرد والتبعيد يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وبعده ومنه قوله تعالى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً ( الصافات 8 9 ) وقال أمية وبإذنه سجدوا لآدم كلهم
إلا لعيناً خاطئاً مدحوراً
وقوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه لام القسم وجوابه قوله لاَمْلاَنَّ قال صاحب ( الكشاف ) روى عصمة عن عاصم لَّمَن تَبِعَكَ بكسر اللام بمعنى لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ هذا الوعيد وهو قوله لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وقيل إن لأملأن في محل الابتداء وَلَمَنِ تَبِعَكَ خبره قال أبو بكر الأنباري الكناية في قوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ عائد على ولد آدم لأنه حين قال وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) كان مخاطباً لولد آدم فرجعت الكناية إليهم قال القاضي دلت هذه الآية على أن التابع والمتبوع معنيان في أن جهنم تملأ منهما ثم أن الكافر تبعه فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار وجوابه أن المذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه وليس في الآية أن كل من تبعه فإنه يدخل جهنم فسقط هذا الاستدلال ونقول هذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم
وَيَاأادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل أحدها أن قوله اسْكُنْ أمر تعبد أو أمر إباحة وإطلاق من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف وثانيها أن زوج آدم هو حواء ويجب أن نذكر أنه تعالى كيف خلق حواء وثالثها أن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض ورابعها أن قوله فَكُلاًّ أمر إباحة لا أمر تكليف وخامسها أن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي تنزيه أو نهي تحريم وسادسها أن قوله هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ المراد شجرة واحدة بالشخص أو النوع وسابعها أن تلك الشجرة أي شجرة كانت وثامنها أن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً وتاسعها أنه ما المراد من قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ وهل يلزم من كونه ظالماً بهذا القربان الدخول تحت قوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وعاشرها أن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم عليه السلام أو بعدها فهذه المسائل العشرة قد سبق تفصيلها وتقريرها في سورة البقرة فلا نعيدها والذي بقي علينا من هذه الآية حرف واحد

وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا ( البقرة 35 ) بالواو وقال ههنا فَكُلاًّ بالفاء فما السبب فيه وجوابه من وجهين الأول أن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وفي سورة الأعراف ذكر النوع
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ
يقال وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وبه سمي صوت الحلي وسواساً وهو فعل غيرمتعد كقولنا ولولوت المرأة وقولنا وعوع الذئب ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف وسوس إليه وآدم كان في الجنة وإبليس أخرج منها
والجواب قال الحسن كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له وقال أبو مسلم الأصفهاني بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية ودخلت الحية في الجنة فتلك القصة الركيكة مشهورة وقال آخرون إن آدم وحواء ربما قرباً من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فيقرب فيقرب أحدهما من الآخر وتحصل الوسوسة هناك
السؤال الثاني أن آدم عليه السلام كان يعرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله
والجواب لا يبعد أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام

السؤال الثالث لم قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
والجواب معنى وسوس له أي فعل الوسوسة لأجله والله أعلم
أما قوله تعالى لِيُبْدِيَ لَهُمَا في هذا اللام قولان أحدهما أنه لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وذلك لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتها وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط الثاني لا يبعد أيضاً أن يقال إنه لام الغرض ثم فيه وجهان أحدهما أن يجعل بدو العورة كناية عن سقوط الحرمة وزوال الجاه والمعنى أن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم زوال حرمته وذهاب منصبه والثاني لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من بعض الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وذلك يدل على نهاية الضرر وسقوط الحرمة فكان يوسوس إليه لحصول هذا الغرض وقوله مَا فيه مباحث
البحث الأول ما وري مأخوذ من المواراة يقال واريته أي سترته قال تعالى يواري سوأة أخيه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي لما أخبره بوفاة أبيه ( اذهب فواره )
البحث الثاني السوأة فرج الرجل والمرأة وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان قال ابن عباس رضي الله عنهما كأنهما قد ألبسا ثوباً يستر عورتهما فلما عصيا زال عنهما ذلك الثوب فذلك قوله تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا
البحث الثالث دلت هذه الآية على أن كشف العورة من المنكرات وإنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول وقوله وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) يمكن أن يكون هذا الكلام ذكره إبليس بحيث خاطب به آدم وحواء ويمكن أيضاً أن يكون وسوسة أوقعها في قلوبهما والأمران مرويات إلا أن الأغلب أنه كان ذلك على سبيل المخاطبة بدليل قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ومعنى الكلام أن إبليس قال لهما في الوسوسة إلا أن تكون ملكين وأراد به أن تكونا بمنزلة الملائكة إن أكلتما منها أو تكونا من الخالدين إن أكلتما فرغبهما بأن أوهمهما أن من أكلها صار كذلك وإنه تعالى إنما نهاهما عنها لكي لا يكونا بمنزلة الملائكة ولا يخلدا وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف أطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة متواضعين ساجدين له معترفين بفضله والجواب من وجوه الأول أن هذا المعنى أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وسكان العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبتة لآدم ولو كانوا سجدوا له لكان هذا التطميع فاسداً مختلاً وثانيها نقل الواحدي عن بعضهم أنه قال إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أن يصير مثل الملك في البقاء وأقول هذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير المطلوب من الملائكة هو الخلود وحينئذ لا يبقى فرق بين قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ( الأعراف 20 ) وبين قوله أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 )

والوجه الثاني قال الواحدي كان ابن عباس يقرأ ملكين ويقول ما طمعا في أن يكونا ملكين لكنهما استشرفا إلى أن يكونا ملكين وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك ويدل على هذا قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 20 ) وأقول هذا الجواب أيضاً ضعيف وبيانه من وجهين الأول هب أنه حصل الجواب على هذه القراءة فهل يقول ابن عباس إن تلك القراءة المشهورة باطلة أو لا يقول ذلك والأول باطل لأن تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يمكن الطعن فيها وأما الثاني فعلى هذا التقدير الإشكال باق لأن على تلك القراءة يكون بالتطميع قد وقع في أن يصير بواسطة ذلك الأكل من جملة الملائكة وحينئذ يعود السؤال
والوجه الثاني أنه تعالى جعل سجود الملائكة والخلق له في أن يسكن الجنة وأن يأكل منها رغداً كيف شاء وأراد ولا مزيد في الملك على هذه الدرجة
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النبوة
والجواب من وجوه الأول أنا إذا قلنا إن هذه الواقعة كانت قبل النبوة لم يدل على ذلك ولأن آدم حين طلب الوصول إلى درجة الملائكة ما كان من الأنبياء وعلى هذا التقدير فزال الاستدلال والثاني إن بتقدير ( أن ) تكون هذه الواقعة وقعت في زمان النبوة فلعل آدم عليه السلام رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والشدة أو في خلقة الذات بأن يصير جوهراً نورانياً وفي أن يصير من سكان العرش والكرسي وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال
السؤال الثالث نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن في قوله إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وفي قوله وقاسمهما قال عمر وقلت للحسن فهل صدقاه في ذلك فقال الحسن معاذ الله لو صدقاه لكانا من الكافرين ووجه السؤال إنه كيف يلزم هذا التكفير بتقدير أن يصدقا إبليس في ذلك القول
والجواب ذكروا في تقرير ذلك التكفير أنه عليه السلام لو صدق إبليس في الخلود لكان ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفر ولقائل أن يقول لا نسلم أنه يلزم من ذلك التصديق حصول الكفر وبيانه من وجهني الأول أن لفظ الخلود محمول على طول المكث لا على الدوام وعلى هذا الوجه يندفع ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن الخلود مفسر بالدوام إلا أنا نسلم أن اعتقاد الدوام يوجب الكفر وتقريره أن العلم بأنه تعالى هل يميت هذا المكلف أو لا يميته علم لا يحصل إلا من دليل السمع فلعله تعالى ما بين في وقت آدم عليه السلام أنه يميت الخلق ولما لم يوجد ذلك الدليل السمعي كان آدم عليه السلام يجوز دوام البقاء فلهذا السبب رغب فيه وعلى هذا التقدير فالتكفير غير لازم
السؤال الرابع ثبت بما سبق أن آدم وحواء لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفيرهما فهل يقولون إنهما صدقاه فيه قطعاً وإن لم يحصل القطع فهل يقولون إنهما ظنا أن الأمر كما قال أو ينكرون هذا الظن أيضاً

والجواب أن المحققين أنكروا حصول هذا التصديق قطعاً وظناً بل الصواب أنهما إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال
السؤال الخامس قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ هذا الترغيب والتطميع وقع في مجموع الأمرين أو في أحدهما
والجواب قال بعضهم الترغيب كان في مجموع الأمرين لأن أدخل في الترغيب وقيل بل هو على ظاهره على طريقة التخيير
ثم قال تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين
فإن قيل المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً أي حالفته وتقاسما تحالفاً ومنه قوله تعالى تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ( النمل 49 )
قلنا فيه وجوه الأول التقدير أنه قال أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين فجعل ذلك مقاسمة بينهم والثاني أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها الثالث أنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم
إذا عرفت هذا فنقول قال قتادة حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقوله إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي قال إبليس إني خلقت قبلكما وأنا أعلم أحوالاً كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي أرشدكما
ثم قال تعالى فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين أحدهما أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال دلاه إذا أطعمه الثاني فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور والأصل فيه دللهما من الدل والدالة وهي الجرأة
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي غرهما باليمين وكان آدم يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له إنهم يخدعونك فقال من خدعنا بالله انخدعنا له
ثم قال تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل لأن الذائق قد يكون ذائقاً من دون أكل
ثم قال تعالى بَدَتْ لَهُمَا أي ظهرت عوراتهما وزال النور عنهما سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ قال الزجاج معنى طفق أخذ في الفعل يَخْصِفَانِ أي يجعلان ورقة على ورقة ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا قال عطاء بلغني أن الله ناداهما أفراراً مني يا آدم قال بل

حياء منك يا رب ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك في جنتي في جواريا
ثم قال وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قال ابن عباس بين العداوة حيث أبى السجود وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 )
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة وقد ذكرنا هناك أن هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم من آدم عليه السلام إلا أنا نقول هذا الذنب إنما صدر عنه قبل النبوة وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
اعلم أن هذا الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس وإذا كان كذلك فقوله اهْبِطُواْ يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول ألبتة وقوله فِيهَا تَحْيَوْنَ الكناية عائدة إلى الأرض في قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ والمراد في الأرض تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون إلى البعث والقيامة قرأ حمزة والكسائي تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية وقرأ ابن عامر ههنا وفي الزخرف بفتح التاء وفي الروم والجاثية بضم التاء والباقون جميع ذلك بضم التاء
يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
في نظم الآية وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض لهما مستقراً بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا

الوجه الثاني أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر
فإن قيل ما معنى إنزال اللباس
قلنا إنه تعالى أنزل المطر وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس فصار كأنه تعالى أنزل اللباس وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء ومنه قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( الحديد 25 ) وأما قوله وَرِيشًا ففيه بحثان
البحث الأول الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً يزينكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) وقال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ( النحل 6 )
البحث الثاني روي عن عاصم رواية غير مشهورة ورياشاً وهو مروي أيضاً عن عثمان رضي الله عنه والباقون سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل رياش جمع ريش وكذياب وذيب وقداح وقدح وشعاب وشعب وقيل هما واحد كلباس ولبس وجلال وجل روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش وقال ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى وَلِبَاسُ التَّقْوَى فيه بحثان
البحث الأول قرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِبَاسُ بالنصب عطفاً على قوله لِبَاساً والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله ذالِكَ مبتدأ وقوله خَيْرٌ خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مبتدأ وقوله ذالِكَ صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى ومعنى قولنا صفة أن قوله ذالِكَ أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير
البحث الثاني اختلفوا في تفسير قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى والضابط فيه أن منهم من حمله على نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره
أما القول الأول ففيه وجوه أحدها أن المراد أن اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى وثانيها أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب وثالثها المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات
والقول الثاني أن يحمل قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج لباس التقوى الإيمان وقال ابن عباس لباس التقوى العمل الصالح وقيل هو السمت الحسن

وقيل هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً من الثياب والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً وقال معبدهو الحياء وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى ليس إلا هذه الأشياء أما قوله ذالِكَ خَيْرٌ قال أبو علي الفارسي معنى الآية وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ ( الأعراف 26 ) لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به قال وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ( النحل 112 ) وقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ معناه من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون عظيم النعمة فيه
يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيهاشدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان
البحث الأول قال الكعبي هذه الآية حجة على من نسب خروج آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها فيقال له لم قلتم أن كون هذا العمل منسوباً إلى الشيطان يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى ولم لا يجوز أن يقال إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله تعالى ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر كان منسوباً إلى الشيطان
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج آدم وحواء من الجنة عقوبة لهما على تلك الزلة وظاهر قوله إِنّى جَاعِلُكَ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود فكيف الجمع بين الوجهين

وجواب أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمري والله أعلم
ثم قال يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأن كان بسبب منه فأسند إليه كما تقول أنت فعلت هذا لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب وإن لم يباشره وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه
البحث الثاني اللام في قوله لِيُرِيَهُمَا لام العاقبة كما ذكرنا في قوله لِيُبْدِيَ لَهُمَا قال ابن عباس رضي الله عنهما يرى آدم سوأة حواء وترى حواء سوأة آدم
البحث الثالث اختلفوا في اللباس الذي نزع منهما فقال بعضهم إنه النور وبعضهم التقى وبعضهم اللباس الذي هو ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس يقتضيه والمقصود من هذا الكلام تأكيد التحذير لبني آدم لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد فكيف يكون حال آحاد الخلق ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول إِنَّهُ يَرَاكُمْ يعني إبليس هُوَ وَقَبِيلُهُ أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 )
البحث الثاني قال أبو عبيدة عن أبي زيد ( القبيل ) الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتي وجمعه قبل والقبيلة بنو أب واحد وقال ابن قتيبة قبيله أصحابه وجنده وقال الليث هُوَ وَقَبِيلُهُ أي هو ومن كان من نسله
البحث الثالث قال أصحابنا إنهم يرون الأنس لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في أن يرى بعض الجن بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم فعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقوف عند المعتزلة إما على زيادة كثافة أجسام الجن أو على زيادة قوة أبصار الإنس
البحث الرابع قوله تعالى مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن لأن قوله مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا وأرادوا لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جنى صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص وأيضاً فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه ويتأكد هذا بقوله مَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى

( إبراهيم 22 ) قال مجاهد قال إبليس اعطينا أربع خصال نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى
ثم قال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فقد احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم قال الزجاج ويتأكد هذا النص بقوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) قال القاضي معنى قوله جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن قال ومعنى قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ هو أنا خلينا بينهم وبينهم كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل إنه أرسل عليه كلبه
والجواب أن القائل إذا قال إن فلاناً جعل هذا الثوب أبيض أو أسود لم يفهم منه أنه حكم به بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنه تعالى حكم بذلك لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذباً وهو محال فالمفضي إلى المحال محال فكون العبد قادراً على خلاف ذلك وجب أن يكون محالاً وأما قوله أن قوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضاً ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضاً ويشتم بعضهم بعضاً ثم إن زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعضهم عن البعض لا يقال أنه أرسل بعضهم على البعض بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا ههنا والله أعلم
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء والأولى أن يحكم بالتعميم والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة فيدخل فيه جميع الكبائر واعلم أنه ليس المراد منه أن القرم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها فإن ذلك لا يقوله عاقل بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات وإن الله أمرهم بها ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين أحدهما أنا وجدنا عليها آباءنا والثاني أن الله أمرنا بها

أما الحجة الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد طريقاً حقاً للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقاً ومعلوم أنه باطل ولما كان فساد هذا الطريق ظاهراً جلياً لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه
وأما الحجة الثانية وهي قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فقد أجاب عنه بقوله تعالى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها وأقول للمعتزلة أن يحتجوا بهذه الآية على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه ثم إنه تعالى نهى عنه لكونه مشتملاً على ذلك الوجه لأن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء إشارة إلى أنه لما كان ذلك موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر الله به وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايراً لتعلق الأمر والنهب به وذلك يفيد المطلوب
وجوابه يحتمل أنه لما ثبت بالاستقراء أنه تعالى لا يأمر إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهي إلا عما يكون مفسده لهم فقد صح هذا التعليل لهذا المعنى والله أعلم
ثم قال تعالى أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه بحثان
البحث الأول المراد منه أن يقال إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء
أما الأول فمعلوم الفساد بالضرورة
وأما الثاني فباطل على قولكم لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش وهم كانوا ينكرون أصل النبوة وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً وإنه باطل
البحث الثاني نفاة القياس قالوا الحكم المثبت بالقياس مظنون وغير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذم والسخرية أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وجواب مثبتي القياس عن أمثال هذه الدلالة قد ذكرناه مراراً والله أعلم
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه عائدة إليه في ذاته ثم أنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه وجوابه ما سبق ذكره
المسألة الثانية قال عطاء والسدي بِالْقِسْطِ بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً وقال ابن عباس هو قول لا إله إلا الله والدليل عليه قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها أنه أمر بالقسط وهو قول لا إله إلا الله وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له وثانيها أنه أمر بالصلاة وهو قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنه لقائل أن يقول أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ خبر وقوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز وجوابه التقدير قل أمر ربي بالقسط وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
البحث الثاني في الآية قولان أحدهما المراد بقوله أَقِيمُواْ هو استقبال القبلة والثاني أن المراد هو الإخلاص والسبب في ذكر هذين القولين أن إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة والأقرب هو الأول لأن الإخلاص مذكور من بعد ولو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنه قال وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين وذلك لا يستقيم
فإن قيل يستقيم ذلك إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط
قلنا لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً لم يجز قصره على أحدهما خصوصاً مع قوله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يعم كل ما يسمى ديناً
إذا ثبت هذا فنقول قوله عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن بل نعتبر القبلة فكان المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم لاأصلي إلا في مسجد قومي
ولقائل أن يقول حمل لفظ الآية على هذا بعيد لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد
وأما قوله وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة وسماها دعاء لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع

الإخلاص ونطيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) ثم قال تعالى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وفيه قولان
القول الأول قال ابن عباس كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم مؤمناً أو كافراً تَعُودُونَ فبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة أعمله بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته الشقاوة وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة
والقول الثاني قال الحسن ومجاهد كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وهذا يجري مجرى التفسير لقوله كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وذلك يوجب ما قلناه قال القاضي هذا القول باطل لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف لأن جوابه أن يقال كما بدأكم بالإيمان والكفر والسعادة والشقاوة فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة ( القسط ) وهي كلمة لا إله إلا الله ثم أمر بالصلاة ثانياً ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال إنما تظهر في الدار الآخرة ونظيره قوله عالى في ( طه ) لموسى عليه السلام إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 14 15 )
ثم قال تعالى فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وفيه بحثان
البحث الأول احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى قالت المعتزلة المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب قال القاضي لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم إذ العبد لا يستحق لأن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أن قوله فَرِيقًا هَدَى إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى والثاني نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً والكذب على الله محال والمفضي إلى المحال محال فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه والله أعلم
البحث الثاني انتصاب قوله وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل

فإن قيل كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء فنقول عندنا مجموع القدرة والداعي يوجب الفعل والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله
ثم قال تعالى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ قال ابن عباس يريد ما بين لهم عمرو بن لحي وهذا بعيد بل هو محمول على عمومه فكل من شرع في باطل فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً أو لم يحسب ذلك وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلا لما ذمهم بذلك والله أعلم
يَابَنِى ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا خَالِصَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب لا جرم أتبعه بذكرهما وأيضاً لما أمر بإقامة الصلاة في قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 29 ) وكان ستر العورة شرطاً لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة وقالوا لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها لتستتر به عن الحمس وهم قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك وكانوا يصلون في ثيابهم ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً فقال المسلمون يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ( البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا )
المسألة الثانية المراد من الزينة لبس الثياب والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) يعني الثياب وأيضاً فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة وأيضاً أنه تعالى قال في الآية المتقدمة قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا

فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة وأيضاً فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة ههنا لبس الثوب الذي يستر العورة وأيضاً فقوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب وكل ما سوى اللبس فغير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة وههنا سؤالان
السؤال الأول إنه تعالى عطف عليه قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر إباحة أيضاً
وجوابه أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه وأيضاً فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الحكم
السؤال الثاني أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري
والجواب أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة وجب أن تفسد الصلاة عند تركه لأن تركه يوجب ترك المأمور به وترك المأمور به معصية والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول
المسألة الثالثة تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد فقالوا أمرنا بالصلاة في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ( يونس 87 ) والصلاة عبارة عن الدعاء وقد أتى بها والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملاً بقوله تعالى خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة فوجب أن يكون كافياً في صحة الصلاة
وجوابنا أن الألف واللام في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ينصرفان إلى المعهود السابق وذلك هو عمل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد والله أعلم
أما قوله تعالى وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل وكانوا لا يأكلون الدسم يعظمون بذلك حجهم فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة
والقول الثاني أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لفساد قولهم في هذا الباب

واعلم أن قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ مطلق يتناول الأوقات والأحوال ويتناول جميع المطعومات والمشروبات فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل والعقل أيضاً مؤكد له لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة
وأما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ ففيه قولان
القول الأول أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه
والقول الثاني وهو قول أبي بكر الأصم أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتركوا الانتفاع بها وأيضاً أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضاً أشياء أحلها الله تعالى لهم وذلك إسراف
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وهذا نهاية التهديد لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروماً عن الثواب لأن معنى محبة الله تعالى العبد أيصاله الثواب إليه فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب ومتى لم يحصل الثواب فقد حصل العقاب لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف لا يثاب ولا يعاقب
ثم قال تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذه الآية ظاهرها استفهام إلا أن المراد منه تقرير الإنكار والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار وفي الآية قولان
القول الأول أن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين
والقول الثاني أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه ويدخل تحتها المركوب ويدخل تحتها أيضاً أنواع الحلي لأن كل ذلك زينة ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلاً تحت هذا العموم ويدخل تحت الطيبات من الرزق كل ما يستلذ ويشتهي من أنواع المأكولات والمشروبات ويدخل أيضاً تحته التمتع بالنساء وبالطيب وروي عن عثمان بن مظعون أنه أتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال غلبني حديث النفس عزمت على أن أختصي فقال ( مهلاً يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام ) قال فإن نفسي تحدثني بالترهب قال ( إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال تحدثني نفسي بالسياحة ) فقال ( سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ) فقال إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك فقال ( الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك ) فقال إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال ( إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها قال ( إن المسلم

إذا غشى أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعاً ورحمة يوم القيامة ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال ( مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب قال ( مهلاً فإن جبريل أمرني بالطيب غباً وقال لا تتركه يوم الجمعة ) ثم قال ( يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه إلا ما خصه الدليل فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ
المسألة الثانية مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به وجب أن يكون حلالاً وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالاً فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع وهذا أصل معتبر في كل الشريعة لأن كل واقعة تقع فإما أن يكون النفع فيها خالصاً أو راجحاً أو الضرر يكون خالصاً أو راجحاً أو يتساوى الضرر والنفع أو يرتفعا أما القسمان الأخيران وهو أن يتعادل الضرر والنفع أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان وإن كان النفع خالصاً وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصاً وإن كان الضرر خالصاً كان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً فكان تركه نفعاً خالصاً فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة ثم إن وجدنا نصاً خالصاً في الواقعة قضينا في النفع بالحل وفي الضرر بالحرمة وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلاً تحت النص ثم قال نفاة القياس فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقل به وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس قالوا وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافياً ببيان كل أحكام الشريعة ولا حاجة معه إلى طريق آخر فهذا تقرير قول من يقول القرآن واف ببيان جميع الوقائع والله أعلم
وأما قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد
فإن قيل هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم
قلنا فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأن الكفرة تبع لهم كقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ( البقرة 126 ) والحاصل أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة أما في الدنيا فإنها تكون مكدرة مشوبة

المسألة الثانية قرأ نافع خَالِصَة ٌ بالرفع والباقون بالنصب قال الزجاج الرفع على أنه خبر بعد خبر كما تقول زيد عاقل لبيب والمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي ويجوز أن يكون قوله خَالِصَة ٌ خبر المبتدأ وقوله لِلَّذِينَ ءامَنُواْ متعلقاً بخالصة والتقدير هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب فعلى الحال والمعنى أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية والله أعلم
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أسكن حمزة الياء من رَبّى والباقون فتحوها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات فحرم أولاً الفواحش وثانياً الإثم واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه الأول أن الفواحش عبارة عن الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية أنه حرم الكبائر والصغائر وطعن القاضي فيه فقال هذا يقتضي أن يقال الزنا والسرقة والكفر ليس بإثم وهو بعيد
القول الثاني أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد والإثم اسم لما يجب فيه الحد وهذا وإن كان مغايراً للأول إلا أنه قريب منه والسؤال فيه ما تقدم
والقول الثالث أن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة وعلى هذا القول اختيار القاضي
والقول الرابع أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسماً لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( النساء 22 ) ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك وإذا قيل فلان فحاش فهم أنه يشتم الناس بألفاط الوقاع فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط

إذا ثبت هذا فنقول في قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ على هذا التفسير وجهان الأول يريد سر الزنا وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة وما ظهر منها بأن يقع علانية والثاني أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة وَمَا بَطَنَ الدخول وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر لأنه تعالى قال في صفة الخمر وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ( البقرة 219 ) وبهذا التقدير فإنه يظهر الفرق بين اللفظين
النوع الثالث من المحرمات قوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ فنقول أما الذين قالوا المراد بالفواحش جميع الكبائر وبالإثم جميع الذنوب قالوا إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيهاً على أنهما أقبح أنواع الذنوب كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ ( الأحزاب 7 ) ومنك ومن نوح وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر قالوا البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً أو مالاً أو عرضاً وأيضاً قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت
فإن قيل البغي لا يكون إلا بغير الحق فما الفائدة في ذكر هذا الشرط
قلنا أنه مثل قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( الإسراء 33 ) والمعنى لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج من أن يكون بغياً
والنوع الرابع من المحرمات قوله تعالى وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطاناً وجوابه المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة ولا سلطان ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك فوجب أن يكون القول به باطلاً على الإطلاق وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل
والنوع الخامس من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 28 ) وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كلمة ( إنما ) تفيد الحصر فقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ كذا وكذا يفيد الحصر والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء
والجواب إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه وإن حملنا الفاحشة على الزنا والإثم على الخمر
قلنا الجنايات محصورة في خمسة أنواع أحدها الجنايات على الأنساب وهي إنما تحصل بالزنا وهي المراد بقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ وثانيها الجنايات على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله الإِثْمِ وثالثها الجنايات على الأعراض ورابعها الجنايات على النفوس وعلى الأموال وإليهما الإشارة بقوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ وخامسها الجنايات على الأديان وهي من وجهين أحدها الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ

وثانيها القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء وكانت البواقي كالفروع والتوابع لا جرم جعل تعالى ذكرها جارياً مجرى ذكر الكل فأدخل فيها كلمة ( إنما ) المفيدة للحصر
السؤال الثاني الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه فصار تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهو كلام خال عن الفائدة والجواب كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه وعلى هذا التقدير فيسقط السؤال والله أعلم
وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف بين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي
المسألة الثانية اعلم أن الأجل هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة وفي هذه الآية قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة
والقول الثاني أن المراد بهذا الأجل العمر فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه والقول الأول أولى لأنه تعالى قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل ولكل أحد أجل وعلى القول الثاني إنما قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان ومعلوم من حالها التقارب في الأجل لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأيضاً فالقول الأول يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك
المسألة الثالثة إذا حملنا الآية على القول الثاني لزم أن يكون لكل أحد أجل لا يقع فيه التقديم والتأخير فيكون المقتول ميتاً بأجله وليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت لأن هذايقتضي خروجه تعالى عن كونه قادراً مختاراً وصيرورته كالموجب لذاته وذلك في حق الله تعالى ممتنع بل المراد أنه تعالى أخبر أن الأمر يقع على هذا الوجه
المسألة الرابعة قوله تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ المراد أنه لا يتأخر عن ذلك الأجل

المعين لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة إلا أنه تعالى ذكر الساعة لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات
فإن قيل ما معنى قوله وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فإن عند حضور الأجل امتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم عليه
قلنا يحمل قوله فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ على قرب حضور الأجل تقول العرب جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك تارة والتأخر عنه أخرى
يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال التكليف وبين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بين أنهم بعد الموت كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب وقوله إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي أن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء وهو قوله فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وإنما قال رسل وإن كان خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام لأنه تعالى أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم وإنما قال مّنكُمْ لأن كون الرسول منهم أقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات أحدها أن معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة وثانيها أن معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في أنها حصلت بقدرة الله تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وثالثها ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس بخلاف ما لا يكون من الجنس فإنه لا يحصل معه الألفة
وأما قوله يَقُصُّونَ عَلِيمٌ ءايَاتِي فقيل تلك الآيات هي القرآن وقيل الدلائل وقيل الأحكام والشرائع والأولى دخول الكل فيه لأن جميع هذه الاْشياء آيات الله تعالى لأن الرسل إذا جاؤا فلا بد وأن يذكروا جميع هذه الأقسام ثم قسم تعالى حال الأمة فقال فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لأن الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهى الله تعالى عنه ودخل في قوله وَأَصْلَحَ أنه أتي بكل ما أمر به
ثم قال تعالى في صفته فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي بسبب الأحوال المستقبلة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي بسبب الأحوال الماضية لأن الإنسان إذا جوز وصول المضرة إليه في الزمان المستقبل خاف وإذا تفكر فعلم

أنه وصل إليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي حصل الحزن في قلبه لهذا السبب والأولى في نفي الحزن أن يكون المراد أن لا يحزن على ما فاته في الدنيا لأن حزنه على عقاب الآخرة يجب أن يرتفع بما حصل له من زوال الخوف فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة أولى فبين تعالى أن حاله في الآخرة تفارق حاله في الدنيا فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن ألبتة واختلف العلماء في أن المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف وحزن عند أهوال يوم القيامة فذهب بعضهم إلا أنه لا يلحقهم ذلك والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وذهب بعضهم إلى أن يلحقهم ذلك الفزع لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) أي من شدة الخوف
وأجاب هؤلاء عن هذه الآية بأن معناه أن أمرهم يؤل إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض لا بأس عليك أي أمرك يؤل إلى العافية والسلامة وإن كان في الوقت في بأس من علته ثم بين تعالى أن الذين كذبوا بهذه الآيات التي يجيء بها الرسل وَاسْتَكْبَرُواْ أن أنفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقد تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار لأنه تعالى بين أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار وكلمة هُمْ تفيد الحصر فذلك يقتضي أن من لا يكون موصوفاً بذلك التكذيب والاستكبار لا يبقى مخلداً في النار والله أعلم
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ يرجع إلى قوله والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وقوله فَمَنْ أَظْلَمُ أي فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله مالم يقله أو كذب ما قاله والأول هو الحكم بوجود ما لم يوجد والثاني هو الحكم بإنكار ما وجد والأول دخل فيه قول من أثبت الشريك لله سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو عن الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت البنات والبنين لله تعالى ويدخل فيه قول من أضاف الأحكام الباطلة إلى الله تعالى والثاني يدخل فيه قول من أنكر كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول من أنكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )

ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ واختلفوا في المراد بذلك النصيب على قولين أحدهما أن المراد منه العذاب والمعنى ينالهم ذلك العذاب المعين الذي جعله نصيباً لهم في الكتاب ثم اختلفوا في ذلك العذاب المعين فقال بعضهم هو سواد الوجه وزرقة العين والدليل عليه قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) وقال الزجاج هو المذكور في قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) وفي قوله يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ( الجن 17 ) وفي قوله إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ ( غافر 71 ) فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم
والقول الثاني أن المراد من هذا النصيب شيء سوى العذاب واختلعوا فيه فقيل هم اليهود والنصارى يجب لهم علينا إذا كانوا أهل ذمة لنا أن لا تتعدى عليهم وأن ننصفهم وأن نذب عنهم فذلك هو معنى النصيب من الكتاب وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي ما سبق لهم في حكم الله وفي مشيئته من الشقاوة والسعادة فإن قضى الله لهم بالختم على الشقاوة أبقاهم على كفرهم وإن قضى لهم بالختم على السعادة نقلهم إلى الإيمان والتوحيد وقال الربيع وابن زيد يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت وانقرضت وفرغوا منها جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ واعلم أن هذا الاختلاف إنما حصل لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ ولفظ ( النصيب ) مجمل محتمل لكل الوجوه المذكورة وقال بعض المحققين حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بين أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا وأيضاً فقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يدل على أن مجيء الرسل للتوفي كالغاية لحصول ذلك النصيب فوجب أن يكون حصول ذلك النصيب متقدماً على حصول الوفاة والمتقدم على حصول الوفاة ليس إلا العمر والرزق
أما قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل وسيبويه لا يجوز إمالة ( حتى ) و ( ألا ) و ( أما ) وهذه ألفات ألزمت الفتح لأنها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حبلى وهدى إلا أن حَتَّى كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى وقال بعض النحويين لا يجوز إمالة حَتَّى لأنها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف
المسألة الثانية قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ فيه قولان
القول الأول المراد هو قبض الأرواح لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى قال ابن عباس الموت قيامة الكافر فالملائكة يطالبونهم بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ والتهديد وهؤلاء الرسل هم ملك الموت وأعوانه
والقول الثاني وهو قول الحسن وأحد قولي الزجاج أن هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا أي ملائكة العذاب يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار على معنى أنهم يستكملون عدتهم حتى لا ينفلت منهم أحد

المسألة الثالثة قوله أَيْنَمَا كُنتُمْ معناه أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم من دون الله ولفظة ( ما ) وقعت موصولة بأين في خط المصحف قال صاحب ( الكشاف ) وكان حقها أن تفصل لأنها موصولة بمعنى أين الآلهة الذين تدعون
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ضَلُّواْ عَنَّا أي بطلوا وذهبوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين عند معاينة الموت
واعلم أن على جميع الوجوه فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر لأن التهويل يذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتسدد في الاحتراز عن التقليد
قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّ ولَاهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاٌّ خْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار
أما قوله تعالى قَالَ ادْخُلُواْ ففيه قولان الأول إن الله تعالى يقول ذلك والثاني قال مقاتل هو من كلام خازن النار وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ ففيه وجهان
الوجه الأول التقدير ادخلوا في النار مع أمم وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الأضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا في النار وأما المجاز فلأنا حملنا كلمة ( في ) على ( مع ) لأنا قلنا معنى قوله فِى أُمَمٍ أي مع أمم
والوجه الثاني أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز والتقدير ادخلوا في أمم في النار ومعنى الدخول في الأمم الدخول فيما بينهم وقوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ أي تقدم زمانهم

زمانكم وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة بل يدخل الفوج بعد الفوج فيكون فيهم سابق ومسبوق ليصح هذا القول ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً فيتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) والمراد بقوله أُخْتَهَا أي في الدين والمعنى أن المشركين يلعنون المشركين وكذلك اليهود تلعن اليهود والنصارى النصارى وكذا القول في المجوس والصابئة وسائر أديان الضلالة وقوله حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الأولى والأخرى قولان الأول قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها والثاني أخراهم منزلة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء
المسألة الثانية ( اللام ) في قوله لاِخْرَاهُمْ لام أجل والمعنى لأجلهم ولإضلالهم إياهم قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم لأنهم ما خاطبوا أولاهم وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام
أما قوله تعالى رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فالمعنى أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين أحدهما بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل
والوجه الثاني بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم فيصير ذلك تشبيهاً بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال
ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ وفي الضعف قولان
القول الأول قال أبو عبيدة ( الضعف ) هو مثل الشيء مرة واحدة وقال الشافعي رحمه الله ما يقارب هذا فقال في رجل أوصى فقال اعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي قال يعطي مثله مرتين
والقول الثاني قال الأزهري ( الضعف ) في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين وجائز في كلام العرب أن تقول هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة والدليل عليه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ( سبأ 37 ) ولم يرد به مثلاً ولا مثلين بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله لقوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له
وأما مسألة الشافعي رحمه الله فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له والقدر المتيقن في الوصية هو المثل والباقي مشكوك فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين

أما قوله تعالى قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم يَعْلَمُونَ بالياء على الكناية عن الغائب والمعنى ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر فيحمل الكلام على كل لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن كان المراد من قوله لِكُلّ ضِعْفٌ أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه فذلك غير جائز لأنه ظلم وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً
والجواب أن عذاب الكفار يزيد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم فكذلك تجيب أولاهم أخراهم فقال وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ أي في ترك الكفر والضلال وإنا متشاركون في استحقاق العذاب
ولقائل أن يقول هذا منهم كذب لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه فكانوا ضالين ومضلين وأما الأتباع والسفلة فهم وإن كانوا ضالين إلا أنهم ما كانوا مضلين فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر
وجوابه أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة وعندنا أن ذلك جائز وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
أما قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعاً
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض ويلعن بعضهم بعضاً كان ذلك سبباً لوقوع الخوف الشديد في القلب
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ

اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الأعراف 36 ) ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هى أصول الدين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات والمشركون ينكرون دلائل التوحيد ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد فقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يتناول الكل ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ
أما قوله تعالى لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو لاَ تُفَتَّحُ بالتاء خفيفة وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 44 ) فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم
المسألة الثانية في قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء أقوال قال ابن عباس يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) ومن قوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقال السدي وغيره لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء وتفتح لأرواح المؤمنين ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء
والقول الثالث أن الجنة في السماء فالمعنى لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة
والقول الرابع لا تنزل عليهم البركة والخير وهو مأخوذ من قوله فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( القمر 11 ) وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة أما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السموات وذلك يدل على أن السموات موضع بهجة الأرواح وأماكن سعادتها ومنها تنزل الخيرات والبركات وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات ولما كان الأمر كذلك كان قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء من أعظم أنواع الوعيد والتهديد
أما قوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( الولوج ) الدخول والجمل مشهور و ( السم ) بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين سَمّ بالضم وقال صاحب ( الكشاف ) يروي سَمّ بالحركات الثلاث وكل ثقب في البدن لطيف فهو ( سم ) وجمعه سموم ومنه قيل السم القاتل لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى

القلب و الْخِيَاطِ ما يخاط به قال الفراء ويقال خياط ومخيط كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر جسم الجمال وأحلام العصافير
فجسم الجمل أعظم الأجسام وثقب الإبرة أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان هذا شرطاً محالاً وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوساً منه قطعاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن عباس الْجَمَلُ بوزن القمل وسعيد بن جبير الْجَمَلُ بوزن النغر وقرىء الْجَمَلُ بوزن القفل و الْجَمَلُ بوزن النصب و الْجَمَلُ بوزن الحبل ومعناها القلس الغليظ لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه
المسألة الثالثة القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية فقالوا إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة ألبتة بين أيضاً أنهم يدخلون النار فقال لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ( المهاد ) جمع مهد وهو الفراش قال الأزهري أصل المهد في اللغة الفرش يقال للفراش مهاد لمواتاته والغواشي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف وقيل اشتقاقها من الجهمة وهي الغلظ يقال رجل جهم الوجه غليظه وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب قال المفسرون المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن غواش على وزن فواعل فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع والجمع أثقل من الواحد وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه فزاده ذلك ثقلاً ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل وصار غواش بوزن جناح فدخله

التنوين لنقصانه عن هذا المثال
أما قوله وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ قال ابن عباس يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهاً وعلى هذا التقدير فالظالمون ههنا هم الكافرون
( 42 )
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 82 ) وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وقال قوم موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف كأنه قيل لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها وإنما حذف العائد للعلم به
المسألة الثانية معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة والدليل عليه أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه لأن الله تعالى كذبهم في ذلك وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى لكان ذلك تكليف ما لا يطاق لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فذلك تكليفه بما لا يطاق لأنه أمر بتحصيل الحاصل وذلك غير مقدور وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضاً تكليف ما لا يطاق لأن على هذا التقدير لا قدرة للعبد على تكوين

ذلك الفعل وتحصيله قالوا وأيضاً إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق ثبت فساد هذين الأصلين
والجواب أنا نقول وهذا الإشكال أيضاً وارد عليكم لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال والثاني باطل لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجباً فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمراً بتحصيل الحاصل وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمراف بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاً فيكون أمراً بالجمع بين النقيضين وهو محال فكل ما تجعلونه جواباً عن هذا السؤال فهو جوابنا عن كلامكم والله أعلم
وأما قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه والغل العقد قال أهل اللغة وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب أي يدخل ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ويقال انغل في الشيء وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد
إذا عرفت هذا فنقول لهذه الآية تأويلان
القول الأول أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ
والقول الثاني أن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة قال صاحب ( الكشاف ) هذا التأويل أولى من الوجه الأول حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضاً مفارقة لحال أهل النار
فإن قالوا كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجات العالية ويرى نفسه محروماً عنها عاجزاً عن تحصيلها ثم أنه لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها فإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يعيدهم الله تعالى ولا يخلق فيهم شهوة الأكل والشرب والوقاع ويغنيهم عنها
قلنا الكل ممكن والله تعالى قادر عليه إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس فظهر الفرق بين البابين
ثم إنه تعالى قال تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ والمعنى أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم بالذات العظيمة وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ من رحمة الله وفضله وإحسانه وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66