كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وإنما قلنا إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب فإن قيل لم يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ ( البقرة 52 ) والمراد ليس إسقاط العقاب بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها وكذا قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب والجواب العفو أصله من عفا أثره أي أزاله وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) وليس المراد منه التأخير بل الإزالة وكذا قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم بل الإسقاط المطلق ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير الحجة الثالثة الآيات الدالة على كونه تعالى رحماناً رحيماً والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب والأول باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم والأول باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهراً وتكليفاً لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة والثاني باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى ألبتة رحمة ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى فإنه لا يقال إن السلطان رحمه بل يقال زاد في الإنعام عليه فكذا ههنا أما القسم الثاني وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيماً علينا لأجل أنه ما ظلمنا فبقي أنه إنما يكون رحيماً لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن ترك عقابهم واجب فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة فإن قيل لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة قلنا أما الأول فإنه يفيد كونه رحيماً في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا وأما الثاني فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا

قول المعتزلة الوعيدية إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر
الحجة الرابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) فنقول ( لمن يشاء ) لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة وإنما قلنا لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ معناه أنه لا يغفره تفضلاً لا أنه لا يغفره استحقاقاً دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاماً منتظماً ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقاً امتنع كونهما مرادين بالآية وثانيها أنه لو كان قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة وثالثها أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون للمغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما نحن فلا نقول ذلك ورابعها أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى الشرك وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبل التوبة إلا أن غفران كل هذه الثلاثة يحمل قسمين لأنه يحتمل أن يغفر كلها لكل أحد وأن يغفر كلها للبعض دون البعض فقوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة ثم قوله لِمَن يَشَاء يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا فإن قيل لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم إذا ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء لا يقال كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيداً للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة أما الوجوه الثلاثة الأول فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما الوجه الرابع فلا نسلم أن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ

( كل ) و ( بعض ) على البدل عليه مثل أن يقال ويغفر كل ما دون ذلك ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم لما صح ذلك سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية والجواب عن الأول أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( النساء 48 116 ) الآية قوله لم قلتم إن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم قلنا لأن قوله ( ما ) تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهية ماهية واحدة وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم أما قوله آيات الوعيد أخص من هذه الآية قلنا لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو
الحجة الخامسة أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن ثم نقول لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق والترجيح معناه من وجوه أحدها أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع وقد دللنا على صحته في أصول الفقه و ثانيها أن قوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولاً به في الباقي وثالثها قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 165 ) ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ثم زاد عليه فقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( البقرة 261 ) وأما في جانب السيئة فقال وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة و رابعها أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ فقوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( النساء 122 ) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقاً
أما قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) الآية يتناول الوعد والوعيد و خامسها قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( النساء 110 111 ) والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له ولم يقل ومن يكسب إثماً فإنه يجد الله معذباً معاقباً بل قال فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ

أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) ولم يقل وإن أسأتم أسأتم لها فكأنها تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح و سادسها أنا قد دللنا على أن قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد ولم يذكر شيئاً من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد لا في سورة واحدة ولا في سورتين فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم و سابعها أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد و ثامنها أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً غفاراً وأن له الغفران والمغفرة وأنه تعالى رحيم كريم وأن له العفو والإحسان والفضل والإفضال والأخبار الدالة على هذه الأشياء قد بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك مما يؤكد جانب الوعد وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد وتاسعها أن هذا الإنسان أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد الذي له عبد ثم أتى عبده بأعظم الطاعات وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع المولى تلك المعصية المتوسطة على الطاعة العظيمة لعد ذلك السيد لئيماً مؤذياً فكذا ههنا فلما لم يجز ذلك على الله ثبت أن الرجحان لجانب الوعد وعاشرها قال يحيى بن معاذ الرازي إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ا إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي وإلا فالكفر أعظم من الإيمانا فإن يكن كذلك فلا أقل من رجاء العفو وهو كلام حسن الحادي عشر أنا قد بينا بالدليل أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل قالت المعتزلة ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه أولها هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقاً للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقاً للثواب وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحاً على جانب الوعد أما بيان أنه يلعن فالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ( النساء 93 ) وكذا قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الأعراف 44 ) وأما الإجماع فظاهر وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( المائدة 33 ) وإذا ثبت كون الفاسق موصوفاً بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم ومن كان مستحقاً لهما دائماً ومتى استحقهما دائماً امتنع أن يبقى مستحقاً للثواب لأن

الثواب والعقاب متنافيان فالجمع بين استحقاقهما محال وإذا لم يبق مستحقاً للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد وثانيها أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام وثالثها أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد فكان جانب الوعيد أولى قلنا الجواب عن الأول من وجوه الأول كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضاً وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم قال الله تعالى وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا الثاني فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس الثالث أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالاً ولكن امتحاناً فثبت أن قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( المائدة 38 ) مشروط بعدم التوبة فلم لا يجوز أيضاً أن يكون مشروطاً بعدم العفو والرابع أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافياً وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزياً وكافياً فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما فأما أن يقال العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة أو يقال العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لا يتناول الكفر وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) ( الأحزاب 36 ) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم
الحجة السادسة أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وهو نص في المسألة فإن قيل هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة وأنتم لا تقولون بهذا المذهب فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه سلمنا ذلك لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين أحدهما أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص الثاني أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ( الزمر 54 ) والإنابة هي التوبة فدل على أن التوبة شرط فيه والجواب عن الأول أن قوله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة فيكون هذا قطعاً بالغفران لا محالة وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها والاعتراض عليه من وجوه

الأول أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل الثاني أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفاً بالمعصية وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصياً لله بقلبه ولسانه وجوارحه فأما المسلم الذي يكون مطيعاً لله بقلبه ولسانه ويكون عاصياً لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحق إحاطة الخطيئة بالعبد ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال إنه محيط به وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافراً إذا ثبت هذا فنقول قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار الثالث أن قوله تعالى فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل فوجب حمله على أنهم يستحقون النار ونحن نقول بموجبه لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية وهي أن الشرط ههنا أمران أحدهما اكتساب السيئة والثاني إحاطة تلك السيئة بالعبد والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصل أحدهما وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد وذلك لفوائد أحدها ليظهر بذلك عدله سبحانه لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان وثانيها أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق وثالثها أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان وههنا مسائل
المسألة الأولى العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان فلهذا حسن أن يقول وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والجواب أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله آمن دليلاً على صدور كل تلك الأعمال منه والله أعلم

المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فإن قيل قوله تعالى وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات فلا يندرج تحت الآية قلنا قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات لكن قولنا آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات والمعتبر في الآية هو القدر المشترك فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد بقي قولهم إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلاً لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ للحصر فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلاً لم يدخل تحت هذا الحكم والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة فهذا التكليف لا محالة من النعم ثم إنه تعالى بين ههنا أنه كلفهم بأشياء التكليف الأول قوله تعالى لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( يعبدون ) بالياء والباقون بالتاء ووجه الياء أنهم غيب أخبر عنهم ووجه التاء أنهم كانوا مخاطبين والاختيار التاء قال أبو عمرو ألا ترى أنه جل ذكره قال وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا فدلت المخاطبة على التاء
المسألة الثانية اختلفوا في موضع ( يعبدون ) من الأعراب على خمسة أقوال

القول الأول قال الكسائي رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت ( أن ) رفع الفعل كما قال طرفة ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه ( أن ) وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم
القول الثاني موضعه رفع على أنه جواب القسم كأنه قيل وإذا أقسمنا عليهم لا يعبدون وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش
القول الثالث قول قطرب أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصباً كأنه قال أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله
القول الرابع قول الفراء أن موضع ( لا تعبدون ) على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا ( البقرة 233 ) بالرفع والمعنى على النهي والذي يؤكد كونه نهياً أمور أحدها قوله أَقِيمُواْ وثانيها أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي لاَّ تَعْبُدُواْ وثالثها أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه
القول الخامس التقدير أن لا تعبدوا تكون ( أن ) مع الفعل بدلاً عن الميثاق كأنه قيل أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم
المسألة الثالثة هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة فقوله لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها
التكليف الثاني قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال بم يتصل الباء في قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وعلام انتصب قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول قال الزجاج انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحساناً والثاني قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان وإلى الوالدين كأنه قيل وأحسنوا إلى الوالدين الثالث قيل بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا
المسألة الثانية إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه أحدها أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود بل بالتربية فقط فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى

وثانيها أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر وثالثها أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضاً ألبتة بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً مالياً ولا ثواباً فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى الرابع أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين الخامس كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد كما قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) السادس أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى
المسألة الثالثة اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله في هذه الآية وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم وهكذا الاستدلال بقوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وثانيها قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا الآية وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما ثم إنه تعالى قال في آخر الآية وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ( الإسراء 23 24 ) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم وثالثها أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 )
المسألة الرابعة اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما ألبتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين
التكليف الثالث قوله تعالى وَذِى الْقُرْبَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم وغير المحرم ولا يدخل الأب والابن لأنهما لا يعرفان بالقريب ويدخل الأحفاد والأجداد وقيل لا يدخل الأصول والفروع وقيل بدخول الكل وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية فيتسع نسلهم وكلهم

أقارب فلو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا فلهذا قال الشافعي رضي الله عنه يرتقي إلى أقرب جد ينتسب هو إليه ويعرف به وإن كان كافراً وذكر الأصحاب في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي رضي الله عنه فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطلب وبني عبد مناف وإن كانوا أقارب لأن الشافعي ينتسب في المشهور إلى شافع دون عبد مناف قال الشيخ الغزالي وهذا في زمان الشافعي أما في زماننا فلا ينصرف إلا إلى أولاد الشافعي رضي الله عنه ولا يرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا أما قرابة الأم فإنها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر لأنهم لا يعدون ذلك قرابة أما لو قال لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم
المسألة الثانية اعلم أن حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى فلهذا أخر الله ذكره عن الوالدين وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الرحم سجنة من الرحمن فإذا كان يوم القيامة يقول أي رب إني ظلمت إني أسيء إلي إني قطعت قال فيجيبها ربها ألا ترضين أني أقطع من قطعك وأصل من وصلك ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب
التكليف الرابع قوله تعالى وَالْيَتَامَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليتيم الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وجمعه أيتام ويتامى كقولهم نديم وندامى ولا يقال لمن ماتت أمه إنه يتيم قال الزجاج هذا في الإنسان أما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه
المسألة الثانية اليتيم كالتالي لرعاية حقوق الأقارب وذلك لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه والإنسان قلما يرغب في صحبة مثل هذا وإذا كان هذا التكليف شاقاً على النفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين
التكليف الخامس قوله تعالى وَالْمَسَاكِينُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( والمساكين ) واحدها مسكين أخذ من السكون كأن الفقر قد سكنه وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه واحتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وعند الشافعي رضي الله عنه الفقير أسوأ حالاً لأن الفقير اشتقاقه من فقار الظهر كأن فقاره انكسر لشدة حاجته وهو قول ابن الأنباري واحتجوا عليه بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ ( الكهف 79 ) جعلهم مساكين مع أن السفينة كانت ملكاً لهم
المسألة الثانية إنما تأخرت درجتهم عن اليتامى لأن المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى ولأن المسكين أيضاً يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته واليتيم ليس كذلك فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين

المسألة الثالثة الإحسان إلى ذي القربى واليتامى لا بد وأن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير
التكليف السادس قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي ( حسناً ) بفتح الحاء والسين على معنى الوصف للقول كأنه قال قولوا للناس قولاً حسناً والباقون بضم الحاء وسكون السين واستشهدوا بقوله تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) وبقوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء ( النحل 11 ) وفيه أوجه الأول قال الأخفش معناه قولاً ذا حسن الثاني يجوز أن يكون حسناً في موضع حسناً كما تقول رجل عدل الثالث أن يكون معنى قوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا أي ليحسن قولكم نصب على مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام الأول الرابع حسناً أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه
المسألة الثانية يقال لم خوطبوا بقولوا بعد الإخبار والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) وثانيها فيه حذف أي قلنا لهم قولوا وثالثها الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل قلت لا تعبدوا وقولوا
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المخاطب بقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا من هو فيحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسناً ويحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله ثم قال لموسى وأمته قولوا للناس حسناً والكل ممكن بحسب اللفظ وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه
المسألة الرابعة منهم من قال إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين أما مع الكفار والفساق فلا والدليل عليه وجهان الأول أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً والثاني قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم ثم إن القائلين بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القتال ومنهم من قال إنه دخله التخصيص وعلى هذا التقدير يحصل ههنا احتمالان أحدهما أن يكون التخصيص واقعاً بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسناً والثاني أن يقع بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف فعلى الوجه الأول يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب وعلى الثاني يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره وأنه لا حاجة إلى التخصيص وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهرون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون وكذلك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) وقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقوله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) أما الذي تمسكوا به أولاً من أنه يجب لعنهم وذمهم فلا يمكنهم القول الحسن معهم قلنا أولاً لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنعام 108 ) سلمنا أنه يجب لعنهم لكن

لا نسلم أن اللعن ليس قولاً حسناً بيانه أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعاً في حقهم فكان ذلك اللعن قولاً حسناً ونافعاً كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسناً ونافعاً من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح سلمنا أن لعنهم ليس قولاً حسناً ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن بيانه أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقاً للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ومستحقاً للتحقير بسبب كفره وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم وأما الذي تمسكوا به ثانياً وهو قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فالجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه وهو المراد بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس )
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن كما قال تعالى لموسى وهارون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) الآية وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا
المسألة السادسة ظاهر الآية يدل على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً عليهم في دينهم وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ولأنه تعالى ذمهم على التولي عنه وذلك يفيد الوجوب والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه وروي عن ابن عباس أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق وهذا ضعيف لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزكاة كان التصدق واجباً ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون به
التكليف السابع والثامن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى وقد تقدم تفسيرهما
واعلم أنه تعالى لما شرح أنه أخذ الميثاق عليهم في هذه التكاليف الثمانية بين أنه مع إنعامه عليهم بأخذ الميثاق عليهم بكل ذلك ليقبلوا فتحصل لهم المنزلة العظمى عند ربهم تولوا وأساءوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الدلائل والمواثيق عليهم وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي لأن الإقدام على مخالفة الله تعالى بعد أن بلغ الغاية في البيان والتوثق يكون أعظم من المخالفة مع الجهالة واختلفوا فيمن المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ على ثلاثة أوجه أحدها أنه من تقدم من بني

إسرائيل وثانيها أنه خطاب لمن كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم وثالثها المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ من تقدم بقوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ومن تأخر أما وجه القول الأول أنه إذا كان الكلام الأول في المتقدمين منهم فظاهر الخطاب يقتضي أن آخره فيهم أيضاً إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلاً منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه أما وجه القول الثاني أن قوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق وما تقدم حكاية وهو بسلفهم الغائبين أليق فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأسلموا فهذا محتمل وأما وجه القول الثالث فهو أنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالاً على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ مختصاً بمن في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعرضتم عنه وكفرتم به فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه
وأما قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه وجوه أحدها أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أنه خطاب مع أسلافهم وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم وثالثها أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه
أما قوله تعالى لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ففيه إشكال وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه والجواب عنه من أوجه أحدها أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان وثقل عليه أمر من الأمور فيقتل نفسه فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفاً به وثانيها المراد لا يقتل بعضكم بعضاً وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسباً وديناً وهو كقوله تعالى فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وثالثها أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه

ورابعها لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم وخامسها لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم
أما قوله تعالى وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ ففيه وجهان الأول لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم الثاني المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك
أما قوله تعالى ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ففيه وجوه أحدها وهو الأقوى أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها وثانيها اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً وثالثها وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ورابعها الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته فإن قيل لم قال أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ والمعنى واحد قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم الثاني أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون الثالث أنه للتأكيد
ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلا ءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْى ٌ فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء ففيه إشكال لأن قوله أَنتُمْ للحاضرين و هَؤُلاء للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب وجوابه من وجوه أحدها تقديره ثم أنتم يا هؤلاء وثانيها تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين وثالثها أنه بمعنى الذي وصلته ( تقتلون ) وموضع تقتلون رفع إذا كان خبراً ولا موضع له إذا كان صلة قال الزجاج ومثله في الصلة قوله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) يعني وما تلك التي بيمينك ورابعها هؤلاء تأكيد لأنتم والخبر ( تقتلون ) وأما قوله تعالى تَقْتُلُونَ

أَنفُسَكُمْ فقد ذكرنا فيه الوجوه وأصحها أن المراد يقتل بعضكم بعضاً وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو
أما قوله تعالى تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( تظاهرون ) بتخفيف الظاء والباقون بالتشديد فوجه التخفيف الحذف لإحدى التاءين كقوله وَلاَ تَعَاوَنُواْ ووجه التشديد إدغام التاء في الظاء كقوله تعالى اثَّاقَلْتُمْ ( التوبة 38 ) والحذف أخف والادغام أدل على الأصل
المسألة الثانية اعلم أن التظاهر هو التعاون ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان
المسألة الثالثة الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة فإن قيل أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى والجواب أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق
المسألة الرابعة الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة
أما قوله تعالى وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم والكسائي ( أسارى تفادوهم ) بالألف فيهما وقرأ حمزة وحده بغير ألف فيهما والباقون ( أسارى ) بالألف و ( تفدوهم ) بغير ألف و ( الأسرى ) جمع أسير كجريح وجرحى وفي أسارى قولان أحدهما أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى والثاني جمع أسير وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى وقال الأسارى الذين في وثاق والأسرى الذين في اليد كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة وأنكر ثعلب ذلك وقال علي ابن عيسى الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز
المسألة الثانية تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له يقال فداه فدية وتفادوهم من المفاداة
المسألة الثالثة جمهور المفسرين قالوا المراد من قوله تُفَادُوهُمْ وصف لهم بما هو طاعة وهو

التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرماً عليكم ثم عنده تخرجونه من الأسر قال أبو مسلم والمفسرون إنما أتوا من جهة قوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليهم والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض وكلا القولين يحتمل لفظ المفادة لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه والأخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب لأن عود قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات
المسألة الرابعة قال بعضهم الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالوا كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا وقال آخرون ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ففي قوله وَهُوَ وجهان الأول أنه ضمير القصة والشأن كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم الثاني أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيداً لأنه فصل بينهما بكلام فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم ثم أعيد ذكر إخراجهم مبيناً للأول
أما قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فقد اختلف العلماء فيه على وجهين أحدهما أخراجهم كفر وفداؤهم إيمان وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج ولم يذمهم على الفداء وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية فلم سماها كفراً مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه وثالثهما المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ فأصل الخزي الذل والمقت يقال أخزاه الله إذا مقته وأبعده وقيل أصله الاستحياء فإذا قيل أخزاه الله كأنه قيل أوقعه موقعاً يستحيا منه وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم واختلفوا في هذا الخزي على وجوه أحدها قال الحسن المراد الجزية والصغار وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صح هذا الوجه لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم وثانيها إخراج بني النضير من ديارهم وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في

زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله ( خزي ) يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى
أما قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ ففيه سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود فكيف قال في حق اليهود يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ والجواب المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا فلفظ ( الأشد ) وإن كان مطلقاً إلا أن المراد أشد من هذه الجهة
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبية وجه الأول البناء على أول الكلام أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ووجه الثاني البناء على أنه آخر الكلام واختيار الخطاب لأن عليه الأكثر ولأنه أدل على المعنى لتغليب الخطاب على الغيبة إذا اجتمعا
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها
أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى
أما قوله تعالى فَلا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في دخول الفاء في قوله فَلاَ يُخَفَّفُ قولان أحدهما العطف على اشْتَرَوُاْ والقول الآخر بمعنى جواب الأمر كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم والأول أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار
المسألة الثانية بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم لأنه لو انقطع لكان قد خف وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في

كل وقت أو في بعض الأوقات فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ففيه وجهان الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحداً لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا والأول أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم ولذلك قال فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل أنفسهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها
وأما قوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ الرُّسُلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قفينا أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء أي بعد نحو ذنبه من الذنب ونظيره قوله ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ( المؤمنون 44 )
المسألة الثانية روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها قال القاضي إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولاً لا شريعة معه أصلاً تبين العقليات لهذه العلة فكذا القول في مسألتنا فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة

جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى والجواب لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله وبالجملة فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى فلم قال إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا
المسألة الثالثة هؤلاء الرسل هم يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزيز وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له وليس كذلك عيسى لأن شرعة نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام
المسألة الثانية قيل عيسى بالسريانية أيشوع ومريم بمعنى الخادم وقيل مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة قلت لزير لم تصله مريمة
المسألة الثالثة في البينات وجوه أحدها المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس وثانيها أنها الإنجيل وثالثها وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى
أما قوله تعالى تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وأيدناه قرأ ابن كثير ( القدس ) بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهما لغتان مثل رعب ورعب
المسألة الثانية اختلفوا في الروح على وجوه أحدها أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه الأول أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلو مرتبته عند الله تعالى الثاني سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولى لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم الثالث أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل الرابع سمي جبريل عليه السلام روحاً لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات وثانيها المراد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله وثالثها أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورابعها أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه

تعظيماً له وتشريفاً كما يقال بيت الله وناقة الله عن الربيع وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان
واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الانجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخلوق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم والانجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه أحدها لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراً لطيف فكانت المشابهة أتم فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى وثانيها أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه وثالثها أن قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني قويناه والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز فكان ذلك أولى ورابعها وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء
أما قوله تعالى أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فهو نهاية الذم لهم لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم
أما قوله تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ فلقائل أن يقول هلا قيل وفريقاً قتلتم وجوابه من وجهين أحدهما أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب الثاني أن يراد فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة وقال عليه السلام عند موته ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ) والله أعلم
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة

بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها وثانيها روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام وثالثها غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك أما المعتزلة فإنهم اختاروا الوجه الأول ثم قالوا هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول فكان لا يكذبهم الله بقوله بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور قالوا وهذا يدل على أن معنى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً وقوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ( يس 8 9 ) ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر قالوا ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هئلاء القوم صادقين في ذلك ولو كانوا صادقين لما ذمهم بل كان الذي حكاه عنهم إظهاراً لعذرهم ومسقطاً للومهم
واعلم أنا بينا في تفسير الغلف وجوهاً ثلاثة فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلت إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم
أما قوله تعالى بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ففيه أجوبة أحدها هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولاً ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم وثانيها المراد من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد فلم يجد منها شيئاً قوياً فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول وثالثها لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( الأنعام 20 ) ( البقرة 146 ) إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر
أما قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره ثلاثة أوجه أحدها أن القليل صفة المؤمن أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم وثانيها أنه صفة الإيمان أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل وثالثها معناه لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال قليلاً ما يفعل بمعنى لا يفعل ألبتة قال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قليلاً ما تنبت يريدون ولا تنبت شيئاً والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم
المسألة الثانية في انتصاب ( قليلاً ) وجوه أحدها فإيماناً قليلاً ما يؤمنون ( وما ) مزيدة وهو إيمانهم

ببعض الكتاب وثانيها انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون وثالثها فصاروا قليلاً ما يؤمنون
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا نوع من قبائح اليهود أما قوله تعالى كِتَابٌ فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن أما قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات
المسألة الثانية قرىء مُصَدّقاً على الحال فإن قيل كيف جاز نصبها عن النكرة قلنا إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف كِتَابٌ بقوله مِنْ عِندِ اللَّهِ
المسألة الثالثة في جواب ( لما ) ثلاثة أوجه أحدها أنه محذوف كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) فإن جوابه محذوف وهو لكان هذا القرآن عن الأخفش والزجاج وثانيها أنه على التكرير لطول الكلام والجواب كفروا به كقوله تعالى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إلى قوله تعالى أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 35 ) عن المبرد وثالثها أن تكون الفاء جواباً للما الأولى وَكَفَرُواْ بِهِ جواباً للما الثانية وهو كقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) ( طه 133 ) الآية عن الفراء
أما قوله تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي سبب النزول وجوه أحدها أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي وثانيها كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم عن ابن عباس وثالثها كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب عن أبي مسلم ورابعها نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث عن ابن عباس وقتادة والسدي وخامسها نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمداً في التوراة وأنه

مبعوث وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث
أما قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته وفيه سؤال وهو أن التوراة نقلت نقلاً متواتراً فأما أن يقال إنه حصل فيها نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل أعني بيان أن الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظره في السنة الفلانية في المكان الفلاني أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً فكيف قال الله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ والجواب أن الوصف المذكور في التوراة كان وصفاً إجمالياً وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار
المسألة الثانية يحتمل أن يقال كفروا به لوجوه أحدها أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله تعالى محمداً من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول وثانيها اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار وثالثها لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به
المسألة الثالثة أنه تعالى كفرهم بعد ما بين كونهم عالمين بنبوته وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط
أما قوله تعالى فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فالمراد الإبعاد من خيرات الآخرة لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعوناً فإن قيل أليس أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) وقال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص على أنا بينا فيما قبل أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن والله أعلم
بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أن البحث عن حقيقة بئسما لا يحصل إلا في مسائل
المسألة الأولى أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا ( علم ) إلا أن ما كان ثانيه

حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات الأول على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني والثاني اتباع الأول للثاني وهو أن يكون بكسر النون والعين وكذا يقال فخذ بكسر الفاء والخاء وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه ههنا لكون الحرف الحلقي مستتبعاً لما يجاوره الثالث إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء الرابع أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء
واعلم أن هذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازماً لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد ففداء لبني قيس على
ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم
نعم الساعون في الأمر المبر
المسألة الثانية أنهما فعلان من نعم ينعم وبئس ويبأس والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما فيقال نعمت وبئست والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء ويحتج بقول حسان ابن ثابت رضي الله عنه ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته
من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابياً بشر بمولودة فقيل له نعم المولود مولودتك فقال والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية
المسألة الثالثة اعلم أن ( نعم وبئس ) أصلان للصلاح والرداءة ويكون فاعلهما اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً والمظهر على وجهين الأول نحو قولك نعم الرجل زيد لا تريد رجلاً دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق والثاني نحو قولك نعم غلام الرجل زيد أما قوله فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل كان ذلك لأجل أن قوله ( وصاحب الركب ) قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم وأما المضمر فكقولك نعم رجلاً زيد الأصل نعم الرجل رجلاً زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه ورجلاً نصب على التمييز مثله في قولك عشرون رجلاً والمميز لا يكون إلا نكرة ألا ترى أن أحداً لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا نعم الرجل بالنصب لكان نقضاً للغرض إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار إذ كان ( نعم رجلاً ) يدل على الجنس الذي فضل عليه

المسألة الرابعة إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ مؤخراً كأنه قيل زيد نعم الرجل أخرت زيداً والنية به التقديم كما تقول مررت به المسكين تريد المسكين مررت به فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلاً تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه والوجه الآخر أن يكون زيد في قولك نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل نعم الرجل قيل من هذا الذي أثنى عليه فقيل زيد أي هو زيد
المسألة الخامسة المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأعراف 177 ) محذوفاً وتقديره ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وإذ قد لخصنا هذه المسائل فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ( ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم ( أن يكفروا )
المسألة الثانية في الشراء ههنا قولان أحدهما أنه بمعنى البيع وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته قيل نعم ما اشترى ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك يملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك الوجه الثاني وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها فذمهم الله تعالى وقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ثم إنه تعالى بين تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال بَغِيّاً وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلاناً حسداً تنبيهاً بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلاً لا بغياً
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد
أما قوله تعالى فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ففيه مسائل

المسألة الأولى في تفسير الغضبين وجوه أحدها أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين أحدهما ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولاً في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة الثاني ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ ( المائدة 64 ) إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وغير ذلك من أنواع كفرهم وهو قول عطاء وعبيد بن عمير الثالث أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظم وهو قول أبي مسلم الرابع الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي
المسألة الثانية الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك
المسألة الثالثة أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة
أما قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم
المسألة الثانية العذاب في الحقيقة لا يكون مهيناً لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه فإن قيل العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف قلنا كون العذاب مقروناً بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلاً عليه
المسألة الثالثة قال قوم قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه لا عذاب إلا للكافرين ثم بعد تقرير هذه المقدمة احتج بهذه الآية فريقان أحدهما الخوارج قالوا ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر فيلزم أن يقال الفاسق كافر وثانيها المرجئة قالوا ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر وثبت أن الفاسق ليس بكافر فوجب القطع بأنه لا يعذب وفساد هذين القولين لا يخفى

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من قبائح أفعالهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ يعني به اليهود بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ أي بكل ما أنزل الله والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة ( ما ) بمعنى الذي تفيد العموم قالوا لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة ( ما ) تفيد العموم لما حسن هذا الذم ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض
أما قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول ما دل عليه قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ أنه لما ثبتت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات التي ظهرت عليه إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجباً لا محالة وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال الثاني ما دل عليه قوله مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ وتقريره من وجهين الأول أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علماً ولا استفاد من أستاذ فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل الثاني أن القرآن يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته وإلا لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة بل مكذباً لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
أما قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه سبحانه وتعالى بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقاً في

ادعاء النبوة فإن قتله كفر وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز
المسألة الثالثة قوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه أحدها أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين وثانيها أنهم ما أقدموا على ذلك وثالثها أنه لا يتأتى فيه من قبل فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه فإن قيل قوله ءامَنُواْ خطاب لهؤلاء الموجودين وَلَمْ تَقْتُلُونَ حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما قلنا معناه أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين
المسألة الرابعة يقال كيف جاز قوله لم تقتلون من قبل ولا يجوز أن يقال أنا أضربك أمس والجواب فيه قولان أحدهما أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله ويحك لم تكذب كأنك قلت لم يكن هذا من شأنك قال الله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ( البقرة 102 ) ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة والثاني كأنه قال لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ
اعلم أن تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووصفهم بالعناد والتكذيب ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم بل يزيد عليه أعاد ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البينات وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التكذيب والإنكار
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

اعلم أن في الإعادة وجوهاً أحدها أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب وثانيها أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وذلك يدل على نهاية لجاجهم
أما قوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول قال أبو مسلم وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 177 ) وكقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز
أما قوله تعالى وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى واشربوا في قلوبهم حب العجل وفي وجه هذا الاستعارة وجهان الأول معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب وقوله فِى قُلُوبِهِمْ بيان لمكان الإشراف كقوله وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) الثاني كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال
المسألة الثانية قوله وَاشْرَبُواْ يدل على أن فاعلاً غيرهم فعل بهم ذلك ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان معجب بنفسه الثاني أن المراد من أشرب أي زينة عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر
أما قوله تعالى بِكُفْرِهِمْ فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى
أما قوله قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ ( هود 87 ) وكذلك إضافة الإيمان إليهم
المسألة الثانية الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 )
أما قوله تعالى إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه أحدها أنه لا يجوز أن يقال على طريق الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح الزام الثاني عليه وثانيها ما حكى الله عنهم في قوله وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وفي قوله نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وفي قوله وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 89 ) وثالثها اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون لأن النسخ غير جائز في شرعهم وأن سائر الفرق مبطلون ورابعها اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الله احتج على فساد قولهم بقوله قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنازعته معهم بالجدال والقتال ومن كان في النعم القليلة المنغصة ثم إن تيقن أنه بعد الموت لا بد وأن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة فإنه لا بد وأن يكون راغباً في الموت لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوباً فوجب أن يكون هذا الإنسان راضياً بالموت متمنياً له فثبت أن الدار الآخرة لو كانت لهم خالصة لوجب أن يتمنوا الموت ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا الموت بل لن يتمنوه أبداً وحينئذ يلزم قطعاً بطلان ادعائهم في قولهم إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس
فإن قيل لا نسلم أنه لو كانت لهم الدار الآخرة خالصة لوجب أن يتمنوا الموت قوله لأن نعيم الآخرة مطلوب ولا سبيل إليه إلا بالموت والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوباً قلنا قلنا الذي يتوقف عليه المطلوب يجوز أن يكون مطلوباً نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب إلا أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة وما كانوا يطيقونها فلا جرم ما تمنوا الموت

السؤال الثاني أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقولوا إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر فإن كان الأمر كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك ونرى أمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال وبعد الموت فإنكم تتخلصون إلى نعيم الجنة فوجب أن ترضوا بقتلكما
السؤال الثالث لعلهم كانوا يقولون الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً لأنهم كانوا وعيدية أو لأنهم جوزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً فلأجل هذا ما تمنوا الموت وليس لأحد أن يدفع هذا السؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة لأن كل يوم من أيام القيامة كألف سنة مما تعدون فكانت هذه الأيام وإن كانت قليلة بحسب العدد لكنها طويلة بحسب المدة فلا جرم ما تمنوا الموت بسبب هذا الخوف
السؤال الرابع أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن تمني الموت فقال ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي ) وأيضاً قال الله تعالى في كتابه يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( الشورى 18 ) فكيف يجوز أن ينهي عن الاستعجال ثم إنه يتحدى القوم بذلك
السؤال الخامس أن لفظ التمني مشترك بين التمني الذي هو المعنى القائم بالقلب وبين اللفظ الدال على ذلك المعنى وهو قول القائل ليتني مت لليهود أن يقولوا إنك طلبت منا التمني والتمني لفظ مشترك فإن ذكرناه باللسان فله أن يقول ما أردت به هذا اللفظ وإنما أردت به المعنى الذي في القلب وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب فله أن يقول كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه
السؤال السادس هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنوا الموت فلم قلتم إنهم ما تمنوا الموت والاستدلال بقوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ضعيف لأن الاستدلال بهذا إنما يصح لو ثبت كون القرآن حقاً والنزاع ليس إلا فيه الجواب قوله ( أولاً ) كون الموت متضمناً للألم يكون كالصارف عن تمنيه قلنا كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل بأن المنفعة الحاصلة بسبب الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر ههنا كذلك قوله ثانياً إنهم لو قلبوا الكلام على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمه أن يرضى بالقتل قلنا الفرق بين محمد عليه السلام وبينهم أن محمداً كان يقول إني بعثت لتبليغ الشرائع إلى أهل التواتر وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق قوله ثالثاً كانوا خائفين من عقاب الكبائر قلنا القوم ادعوا كون الآخرة خالصة لهم وذلك يؤمنهم من امتزاج ثوابها بالعقاب قوله رابعاً نهى عن تمني الموت قلنا هذا النهي طريقة الشرع فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات روي أن علياً رضي الله عنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بزي المحاربين فقال يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه يسقط الموت وقال عمار رضي الله عنه بصفين

الآن ألاقي الأحبة < / 1 }
محمداً وحزبه
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الأوقات تمنى الموت على أن هذا النهي مختص بسبب مخصوص فإنه عليه الصلاة والسلام حرم أن يتمنى الإنسان الموت عند الشدائد لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضاء بما قسم الله فأين هذا من التمني الذي يدل على صحة النبوة قوله خامساً إنهم ما عرفوا أن المراد هو التمني باللسان أو بالقلب قلنا التمني في لغة العرب لا يعرف إلا ما يظهر ( منه ) كما أن الخبر لا يعرف إلا ما يظهر بالقول والذي في القلب من ذلك لا يسمى بهذا الاسم وأيضاً فمن المحال أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لهم تمنوا الموت ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره قوله سادساً ما الدليل على أنه ما وجد التمني قلنا من وجوه أحدها أنه لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً لأنه أمر عظيم فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهراً والموافق طوعاً لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه وثالثها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً ) وقال ابن عباس لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة فهذا آخر الكلام في تقرير هذا الاستدلال ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فالمراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة
وأما قوله تعالى عَندَ اللَّهِ فليس المراد المكان بل المنزلة ولا بعد أيضاً في حمله على المكان فلعل اليهود كانوا مشبهة فاعتقدوا العندية المكانية فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها
وأما قوله تعالى خَالِصَة ٌ فنصب على الحال من الدار الآخرة أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى و ( الناس ) للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله إلا من كان هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد ههنا معهود
وأما قوله مّن دُونِ النَّاسِ فالمراد به سوى لا معنى المكان كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً هذا لك من دون الناس
وأما قوله تعالى فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ففيه مسألتان

المسألة الأولى هذا أمر معلق على شرط مفقود وهو كونهم صادقين فلا يكون الأمر موجوداً والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم
المسألة الثانية في هذا التمني قولان أحدهما قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب والثاني أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ
أما قوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ فخبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر بأنهم لا يأتون بذلك فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي
وأما قوله تعالى أَبَدًا فهو غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان
وأما قوله تعالى بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فبيان للعلة التي لها لا يتمنون ( الموت ) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلَيْهِ بِالظَّالِمينَ فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر فإن قيل إنه تعالى قال ههنا وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا وقال في سورة الجمعة وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً فلم ذكر ههنا ( لن ) وفي سورة الجمعة ( لا ) قلنا إنهم في هذه السورة ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ ( لن ) لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ ( لا ) لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى

الحياة فقال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ
أما قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ فهو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله وجدت زيداً ذا حفاظ ومفعولاه ( هم ) و ( أحرص ) وإنما قال عَلَى حَيَواة ٍ بالتنكير لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي ( على الحياة ) أما الواو في قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ففيه ( ثلاثة أقول )
أحدها أنها واو عطف والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك هو أسخى الناس ومن حاتم هذا قول الفراء والأصم فإن قيل ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس قلنا بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقياً باعظم التوبيخ فإن قيل ولم زاد حرصهم على حرص المشركين قلنا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك
القول الثاني أن هذه الواو واو استئناف وقد تم الكلام عند قوله ( على حياة ) ( و ) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لاَ مُقَامَ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 )
القول الثالث أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ثم فسر هذه المحبة بقوله يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وهو قول أبي مسلم والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ على ثلاثة أقوال قيل المجوس لأنهم كانوا يقولون لملكهم عش ألف نيروز وألف مهرجان وعن ابن عباس هو قول الأعاجم زي هزارسال وقيل المراد مشركوا العرب وقيل كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لأنا بينا أن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب
أما قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ فالمراد أنه تعالى بين بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت
أما قوله تعالى وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في أن قوله وَمَا هُوَ كناية عماذا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه كناية عن ( أحدهم ) الذي جرى ذكره أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره وثانيها أنه ضمير لما دل عليه ( يعمر ) من مصدره و ( أن يعمر ) بدل منه وثالثها أن يكون مبهماً و ( أن يعمر ) موضحه

المسألة الثانية الزحزحة التبعيد والإنحاء قال القاضي والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ولو قال تعالى وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فاعلم أن البصر قد يراد به العلم يقال إن لفلان بصراً بهذا الأمر أي معرفة وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها وكلاً الوصفين يصحان عليه سبحانه إلا أن من قال إن في الأعمال ما لا يصح أن يرى هذا البصر على العلم لا محالة والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله تعالى قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أموراً أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان فقال عليه السلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) قال صدقت يا محمد فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة فقال صدقت فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه فقال أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له قال صدقت فقال أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه فقال عليه السلام ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان الإبل وألبانها فقالوا نعم فقال له بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله قال جبريل قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر وما مبدأ هذه العداوة فقال ابن صوريا مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس فلا فائدة في قتله ثم إنه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا فلذلك نتخذه عدواً وأما ميكائيل

فإنه عدو جبريل فقال عمر فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وثانيها روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأرى آثاره في كتابكم ثم سألهم عن جبريل فقالوا ذاك عدونا يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم وما منزلتهما من الله قالوا أقرب منزلة جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدواً لجبريل فقال عمر لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو لأحدهما كان عدواً للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدواً الله ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد وافقك ربك يا عمر ) قال عمر لقد رأيتني في دين بعد ذلك أصلب من الحجر وثالثها قال مقاتل زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات
واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة وتقرير هذا من وجوه أولها أن الذي نزله جبريل من القرآن بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله وعداوة الله كفر فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر وثانيها أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة وثالثها أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نقرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه
المسألة الثانية من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود إن جبريل عدوهم قالوا لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحداً من سلفهم لم يقل بذلك واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق ولأن جهلهم كان شديداً وهم الذين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 )
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير ( جبريل ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزاً والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة

المسألة الرابعة قال بعضهم جبريل معناه عبد الله ف ( جبر ) عبد و ( إيل ) الله وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم قال أبو علي السوسي هذا لا يصح لوجهين أحدهما أنه لا يعرف من أسماء الله ( أيل ) والثاني أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً
أما قوله تعالى فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ففيه سؤالات
السؤال الأول الهاء في قوله تعالى ( فإنه ) وفي قوله ( نزله ) إلى ماذا يعود الجواب فيه قولان أحدهما أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ( فاطر 45 ) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله قال صاحب ( الكشاف ) إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته وثانيهما المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه
السؤال الثاني القرآن إنما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فما السبب في قوله نزله على قلبك الجواب هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أداه إلى أمته فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظاً جاز أن يقال نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه
السؤال الثالث كان حق الكلام أن يقال على قلبي والجواب جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل قل ما تكلمت به من قولي من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك
السؤال الرابع كيف استقام قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جزاء للشرط والجواب فيه وجهان الأول أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكوراً فكيف تليق به العداوة والثاني أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك لأنه نزل عليك الكتاب برهاناً على نبوتك ومصداقاً لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه
أما قوله تعالى بِإِذُنِ اللَّهِ فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيرة بالعلم لوجوه أولها أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن وثانيها أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم وثالثها أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة
أما قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن

القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قيل أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب فلم صار بأن يكون مصدقاً لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها قلنا الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع
أما قوله تعالى وَهَدَى فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ولما كان الأول مقدماً على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى فإن قيل ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل الجواب من وجهين الأول أنه تعالى إنما خصهم بذلك لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ والثاني أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين فلهذا خصهم الله به
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد وجب أن يكون عدواً لله تعالى بين في هذه الآية أن من كان عدواً لله كان عدواً له فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو وذلك محال على الله تعالى والجواب أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به وذلك محال على الله تعالى بل المراد منه أحد وجهين إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الأحزاب 57 ) لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم
السؤال الثاني لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة الجواب لوجهين الأول أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة الثاني أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما فلا جرم نص على اسميهما واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل وإذا ثبت هذا فنقول يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه أحدها أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً فوجب أن يكون مستقبحاً شرعاً

لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وثانيها أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل وثالثها قوله تعالى في صفة جبريل مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ذكره يوصف المطاع على الإطلاق وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل وفيه لغة أخرى ميكئيل على وزن ميكعيل وميكئيل كميكعيل قال ابن جنى العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه
المسألة الثالثة الواو في جبريل وميكال قيل واو العطف وقيل بمعنى أو يعني من كان عدواً لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين
المسألة الرابعة عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر
وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم قال ابن عباس إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى الأظهر أن المراد من الآيات البينات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وقال بعضهم لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة ومن تمنى الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ونبوع الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر قال القاضي الأولى تخصيص ذلك بالقرآن لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل كانت أخص بالقرآن والله أعلم
المسألة الثانية الوجه في تسمية القرآن بالآيات وجوه أحدها أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات وثانيها أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب وثالثها أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة فإن قيل الدليل لا يكون إلا بيناً فما معنى وصف الآيات بكونها بينة وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها

أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علماً وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه قلنا التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة
المسألة الثالثة الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً
أما قوله وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكفر بها من وجهين أحدهما جحودها مع العلم بصحتها والثاني جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه
المسألة الثانية الفسق في اللغة خروج الإنسان عما حد له قال الله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد ( إذا صار إليه ) فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد فإن قيل أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور قلنا إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر وكذلك الفسق إنما يقال إذا عظم التعدي إذا ثبت هذا فنقول في قوله إِلاَّ الْفَاسِقُونَ وجهان أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى الثاني أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا واو عطف دخلت عليه همزة الاستفهام وقيل الواو زائدة وليس بصحيح لأنه مع صحة معناه لا يجوز أن يحكم بالزيادة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات والبينات

وكلما عاهدوا وقرأ أبو السماك بسكون الواو على أن الفاسقون بمعنى الذين فسقوا فكأنه قيل وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة وقرىء عوهدوا وعهدوا
المسألة الثالثة المقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت ودل بقول أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك
المسألة الرابعة في العهد وجوه أحدها أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى وثانيها أن العهد هو الذي كانوا يقولون قبل مبعثه عليه السلام لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وثالثها أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه ورابعها أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحداً من الكافرين فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق قال القاضي إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية لكن لا يجوز قصر الآية عليه بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى
المسألة الخامسة إنما قال نَّبَذَهُ فَرِيقٌ لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه قولان الأول أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم والثاني لا يؤمنون أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه
وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة أو مصدقاً لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة

أما قوله تعالى نَبَذَ فَرِيقٌ فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه
أما قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ففيه قولان أحدهما أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه قال هذا القائل الدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم عند قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الثاني المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه
أما قوله تعالى كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ فقيل إنه التوراة وقيل إنه القرآن وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه الثاني أنه قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن فإن قيل كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به قلنا إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة
أما قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فدلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة لأنه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ

اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه
أما قوله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَاتَّبِعُواْ حكاية عمن تقدم ذكره وهم اليهود ثم فيه أقوال أحدها أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثانيها أنهم الذين تقدموا من اليهود وثالثها أنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر ورابعها أنه يتناول الكل وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره إذ لا دليل على التخصيص قال السدي لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحر
المسألة الثانية ذكروا في تفسير تَتْلُواْ وجوهاً أحدها أن المراد منه التلاوة والإخبار وثانيها قال أبو مسلم ( تتلوا ) أي تكذب على ملك سليمان يقال تلا عليه إذا كذب وتلا عنه إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران والأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر إلا أن المخبر يقال في خبره إذا كان كذباً إنه تلا فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال فيه روي عن فلان بل يقال روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن فلان وذلك لا يليق إلا بالأخبار والتلاوة ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف
المسألة الثالثة اختلفوا في الشياطين فقيل المراد شياطين الجن وهو قول الأكثرين وقيل شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقيل هم شياطين الإنس والجن معاً أما الذين حملوه على شياطين الجن قالوا إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره وأما الذين حملوه على شياطين الإنس قالوا روي في الخبر أن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى ( ما تتلوا الشياطين ) واحتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف محققاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان فإن قيل إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله على شياطين الجن قلنا الفرق أن الذي يفعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن نزيد في

كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفياً فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان
المسألة الرابعة أما قوله عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ فقيل في ملك سليمان عن ابن جريج وقيل على عهد ملك سليمان والأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان
المسألة الخامسة اختلفوا في المراد بملك سليمان فقال القاضي إن ملك سليمان هو النبوة أو يدخل فيه النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة وإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر وقد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولاً على ملكه في الحقيقة والأصح عندي أن يقال إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان
المسألة السادسة السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه أحدها أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم وثانيها أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر وثالثها أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسراراً عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم
أما قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر قيل فيه أشياء أحدها ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً فأنزل الله هذه الآية وثانيها أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه وثالثها أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولاً بالسحر فقال تعالى يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه
المسألة الأولى في البحث عنه بحسب اللغة فنقول ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد
ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع والآخر نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال

فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ويحتمل أيضاً أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر والسحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها ( توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين سحري ونحري ) وقوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( الشعراء 153 ) يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( الشعراء 154 ) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) وقال فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ( الأعراف 116 ) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة
المسألة الثانية اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 66 ) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( طه 66 ) وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد روي أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال لعمرو خبرني عن الزبرقان فقال مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان هو والله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من البيان لسحراً ) فسمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته فإن قيل كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبيء عنه سحراً وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفى لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر قلنا إنما سماه سحراً لوجهين الأول أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب فمن هذا الوجه سمي سحراً لا من الوجه الذي ظننت الثاني أن المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً فذلك يشبه السحر من هذا الوجه
المسألة الثالثة في أقسام السحر اعلم أن السحر على أقسام الأول سحر الكلدانيين والكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم في مذهبهم أما المعتزلة فقد اتفقت كلمتهم على أن غير الله تعالى لا يقدر على خلق الجسم والحياة واللون والطعم واحتجوا بوجوه ذكرها القاضي ولخصها في تفسيره وفي سائر كتبه ونحن ننقل تلك الوجوه وننظر فيها أولها وهو النكتة العقلية التي عليها يعولون أن كل ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فلو كان غير الله فاعلاً للجسم والحياة لكان ذلك الغير متحيزاً وذلك المتحيز لا بد وأن يكون قادراً بالقدرة إذ لو كان قادراً لذاته لكان كل جسم كذلك بناء على أن الأجسام متماثلة لكن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم

والحياة ويدل عليه وجهان الأول أن العلم الضروري حاصل بأن الواحد منا لا يقدر على خلق الجسم والحياة ابتداء فقدرتنا مشتركة في امتناع ذلك عليها فهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك ههنا إلا كوننا قادرين بالقدرة وإذا ثبت هذا وجب فيمن كان قادراً بالقدرة أن يتعذر عليه فعل الجسم والحياة الثاني أن هذه القدرة التي لنا لا شك أن بعضها يخالف بعضاً فلو قدرنا قدرة صالحة لخلق الجسم والحياة لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدرة للبعض فلو كفى ذلك القدر من المخالفة في صلاحيتها لخلق الجسم والحياة لوجب في هذه القدرة أن يخالف بعضها بعضاً وأن تكون صالحة لخلق الجسم والحياة ولما لم يكن كذلك علمنا أن القادر بالقدرة لا يقدر على خلق الجسم والحياة وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى بل يجوز فيها أنهم أتوا بها من طريق السحر وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه وثالثها أنا لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر على خلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب لكنا نرى من يدعي السحر متوصلاً إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد فعلمنا كذبه وبهذا الطريق نعلم فساد ما يدعيه قوم من الكيمياء لأنا نقول لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذهب ذهباً لكان إما أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال فكان ينبغي أن يغنوا أنفسهم بذلك عن المشقة والذلة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكنين من ذلك بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك لأنه أنفع لهم من فتح البلاد الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز وفي علمنا بانصراف النفوس والهمم عن ذلك دلالة على فساد هذا القول قال القاضي فثبت بهذه الجملة أن الساحر لا يصح أن يكون فاعلاً لشيء من ذلك واعلم أن هذه الدلائل ضعيفة جداً أما الوجه الأول فنقول ما الدليل على أن كل ما سوى الله إما أن يكون متحيزاً وإما قائماً بالمتحيز أما علمتم أن الفلاسفة مصرون على إثبات العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة وزعموا أنها في أنفسها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز فما الدليل على فساد القول بهذا فإن قالوا لو وجد موجود هكذا لزم أن يكون مثلاً لله تعالى قلنا لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في الأسلوب لا يقتضي الاشتراك في الماهية سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يقدر على ذلك لذاته قوله الأجسام متماثلة فلو كان جسم كذلك لكان كل جسم كذلك قلنا ما الدليل على تماثل الأجسام فإن قالوا إنه لا معنى للجسم إلا الممتد في الجهات الشاغل للأحياز ولا تفاوت بينها في هذا المعنى قلنا الامتداد في الجهات والشغل للأحياز صفة من صفاتها ولازم من لوازمها ولا يبعد أن تكون الأشياء المختلفة في الماهية مشتركة في بعض اللوازم سلمنا أنه يجب أن يكون قادراً بالقدرة فلم قلتم إن القادر بالقدرة لا يصح منه خلق الجسم والحياة قوله لأن القدرة التي لنا مشتركة في هذا الامتناع وهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك سوى كوننا قادرين بالقدرة قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة فلا نسلم أن الامتناع حكم معلل وذلك لأن الامتناع عدمي والعدم لا يعلل سلمنا أنه أمر وجودي ولكن من مذهبهم أن كثيراً من الأحكام لا يعلل فلم

لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك سلمنا أنه معلل فلم قلتم إن الحكم المشترك لا بد له من علة مشتركة أليس أن القبح حصل في الظلم معللاً بكونه ظلماً وفي الكذب بكونه كذباً وفي الجهل بكونه جهلاً سلمنا أنه لا بد من علة مشتركة لكن لا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة فلم لا يجوز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم تكون خارجة عن ذلك الوصف فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك وأما الوجه الأول وهو أنه ليست مخالفة تلك القدرة لبعض القدر أشد من مخالفة بعض هذه القدر للبعض فنقول هذا ضعيف لأنا لا نعلل صلاحيتها لخلق الجسم بكونها مخالفة لهذه القدر بل لخصوصيتها المعينة التي لأجلها خالفت سائر القدر وتلك الخصوصية معلوم أنها غير حاصلة في سائر القدر ونظير ما ذكروه أن يقال ليست مخالفة الصوت للبياض بأشد من مخالفة السواد للبياض فلو كانت تلك المخالفة مانعة للصوت من صحة أن يرى لوجب لكون السواد مخالفاً للبياض أن يمتنع رؤيته
ولما كان هذا الكلام فاسداً فكذا ما قالوه والعجب من القاضي أنه لما حكى هذه الوجوه عن الأشعرية في مسألة الرؤية وزيفها بهذه الأسئلة ثم إنه نفسه تمسك بها في هذه المسألة التي هي الأصل في إثبات النبوة والرد على من أثبت متوسطاً بين الله وبيننا أما الوجه الثاني وهو أن القول بصحة النبوات لا يبقى مع تجويز هذا الأصل فنقول إما أن يكون القول بصحة النبوات متفرعاً على فساد هذه القاعدة أو لا يكون فإن كان الأول امتنع فساد هذا الأصل بالبناء على صحة النبوات وإلا وقع الدور وإن كان الثاني فقد سقط هذا الكلام بالكلية وأما الوجه الثالث فلقائل أن يقول الكلام في الإمكان غير ونحن لا نقول بأن هذه الحالة حاصلة لكل أحد بل هذه الحالة لا تحصل للبشر إلا في الأعصار المتباعدة فكيف يلزمنا ما ذكرتموه فهذا هو الكلام في النوع الأول من السحر
النوع الثاني من السحر سحر أصحاب الأوهام والنفس القوية قالوا اختلف الناس في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا ) ما هو فمن الناس من يقول إنه هو هذه البنية ومنهم من يقول إنه جسم صار في هذه البنية ومنهم من يقول بأنه موجود وليس بجسم ولا بجسماني أما إذا قلنا إن الإنسان هو هذه البنية فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة فلم لا يجوز أن يتفق في بعض الأعصار الباردة أن يكون مزاجه مزاجاً من الأمزجة في ناحية من النواحي يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا والمتعذرة وهكذا الكلام إذا قلنا الإنسان جسم سار في هذه البنية أما إذا قلنا إن الإنسان هو النفس فلم لا يجوز أن يقال النفوس مختلفة فيتفق في بعض النفوس إن كانت لذاتها قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغائبة فهذا الاحتمال مما لم تقم دلالة على فساده سوى الوجوه المتقدمة وقد بان بطلانها ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أولها أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه وثانيها اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام و ثالثها حكى صاحب الشفاء عن ( أرسطو ) أن طبائع الحيوان أن الدجاجة إذ تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ثم قال صاحب الشفاء وهذا يدل

على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية ورابعها أجمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثاراً وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وحكمة مخصوصة وخامسها أنك لو أنصفت لعلمت أن المبادىء القريبة للأفعال الحيوانية ليست إلا التصورات النفسانية لأن القوة المحركة المغروزة في العضلات صالحة للفعل وتركه أو ضده ولن يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح وما ذاك إلا تصور كون الفعل جميلاً أو لذيذاً أو تصور كونه قبيحاً أو مؤلماً فتلك التصورات هي المبادىء لصيرورة القوى العضلية مبادىء للفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت كذلك بالقوة وإذا كانت هذه التصورات هي المبادىء لمبادىء هذه الأفعال فأي استبعاد في كونها مبادىء لأفعال أنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار وسادسها التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادىء قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى أنه يفيده سخونة قوية
يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة وإذا جاز كون التصورات مبادىء لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادىء لحدوث الحوادث خارج البدن وسابعها أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضاً يحقق إمكان ما قلناه إذا عرفت هذا فنقول النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم ( السماء ) كانت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذه البدن فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظراً إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشعلت بالجانب الأول اشتغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال تتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين فإن ( ذا الفن ) الواحد يكون أقوى من ذي الفنين ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لا بد وأن يفرغ خاطره عما عداها فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى

الثاني فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فإنى تلتفت إلى الجانب الآخر فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح وأما الرقى فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضاً بالأمور المناسبة لذلك الغرض فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض وهكذا القول في الدخن قالوا فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير بل ههنا نوعان آخران الأول أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير الثاني أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى
النوع الثالث من السحر الاستعانة بالأرواح الأرضية واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم ثم قال الخلف منهم هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة والبحر بالنسبة إلى القطرة والسلطان بالنسبة إلى الرعية قالوا وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد فهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن
النوع الرابع من السحر التخيلات والأخذ بالعيون وهذا الأخذ مبني على مقدمات إحداها أن أغلاط البصر كثيرة فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً وذلك يدل على

أن الساكن يرى متحركاً والمتحرك يرى ساكناً والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً والذبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة والشخص الصغير يرى في الضباب عظيماً وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيماً فإذا فارقته وارتفعت عنه صغرت وأما رؤية العظيم من البعيد صغيراً فظاهر فهذه الأشياء قد هدت العقول إلى أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة وثانيها أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ما فأما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً ثم أدركت بعده محسوساً آخر وهكذا فإنه يختلط البعض بالبعض ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض وذلك فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارات فإن الحس يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان وثالثها أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان آخر ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما هو أكبر منها إن كان بوجهه أثر أو بجبهته أو بسائر أعضائه التي تقابل المرآة وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئاً مما في المرآة إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة فيبقى ذلك العمل خفياً لتفاوت الشيئين أحدهما اشتغالهم بالأمر الأول والثاني سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله فهذا هو المراد من قولهم إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً فإن البصر يفيد البصر كلالاً واختلالاً وكذا الظلمة الشديدة وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالاً واختلالاً والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر
النوع الخامس من السحر الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى مثل فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر وكفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه أحد ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية حتى يفرق فيها ضحك السرور وبين ضحك الخجل وضحك الشامت فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال وهو أن يجر ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسباباً

معلومة نفيسة من اطلع عليها قدر عليها إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيراً شديداً لا يصل إليه إلا الفرد بعد الفرد لا جرم عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر ومن هذا الباب عمل ( أرجعيانوس ) الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه وذلك أنه اتفق له أنه كان مجتازاً بفلاة من الأرض فوجد فيها فرخاً من فراخ البراصل والبراصل هو طائر عطوف وكان يضمر صغيراً حزيناً بخلاف سائر البراصل وكانت البراصل تجيئه بلطائف الزيتون فتطرحها عنده فيأكل بعضها عند حاجته ويفضل بعضها عن حاجته فوقف هذا الموسيقار هناك وتأمل حال ذلك الفرخ وعلم أن في صفيره المخالف لصفير البراصل ضرباً من التوجع والاستعطاف حتى رقت له الطيور وجاءته بما يأكله فتلطف بعمل آلة تشبه الصفارة إذا استقبل الريح بها أدت ذلك الصفير ولم يزل يجرب ذلك حتى وثق بها وجاءته البراصل بالزيتون كما كانت تجيء إلى ذلك الفرخ لأنها تظن أن هناك فرخاً من جنسها فلما صح له ما أراد أظهر النسك وعمد إلى هيكل أورشليم وسأل عن الليلة التي دفن فيها ( أسطرخس ) الناسك القيم بعمارة ذلك الهيكل فأخبر أنه دفن في أول ليلة من آب فاتخذ صورة من زجاج مجوف على هيئة البرصلة ونصبها فوق ذلك الهيكل وجعل فوق تلك الصورة قبة وأمرهم بفتحها في أول آب وكان يظهر صوت البرصلة بسبب نفوذ الريح في تلك الصورة وكانت البراصل تجيء بالزيتون حتى كانت تمتلىء تلك القبة كل يوم من ذلك الزيتون والناس اعتقدوا أنه من كرامات ذلك المدفون ويدخل في الباب أنواع كثيرة لا يليق شرحها في هذا الموضع
النوع السادس من السحر الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية البلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله وقلت فطنته واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب والباطل بالحق
النوع السابع من السحر تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل حينئذ ما يشاء وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار
النوع الثامن من السحر السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس فهذا جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه والله أعلم
المسألة الرابعة في أقوال المسلمين في أن هذه الأنواع هل هي ممكنة أم لا أما المعتزلة فقد اتفقوا على إنكارها إلا النوع المنسوب إلى التخيل والمنسوب إلى إطعام بعض الأدوية المبلدة والمنسوب إلى التضريب والنميمة فأما الأقسام الخمسة الأول فقد أنكروها ولعلهم كفروا من قال بها وجوز وجودها وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا وأما الفلاسفة والمنجمون والصابئة فقولهم على ما سلف تقريره

واحتج أصحابنا على فساد قول الصابئة إنه قد ثبت أن العالم محدث فوجب أن يكون موجده قادراً والشيء الذي حكم العقل بأنه مقدور إنما يصح أن يكون مقدوراً لكونه ممكناً والإمكان قدر مشترك بين كل الممكنات فأذن كل الممكنات مقدور لله تعالى ولو وجد شيء من تلك المقدورات بسبب آخر يلزم أن يكون ذلك السبب مزيلاً لتعلق قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحادث سبباً لعجز الله وهو محال فثبت أنه يستحيل وقوع شيء من الممكنات إلا بقدرة الله وعنده يبطل كل ما قاله الصابئة قالوا إذا ثبت هذا فندعي أنه يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة فقد احتجوا على وقوع هذا النوع من السحر بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في هذه الآية وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه وأما الأخبار فهي واردة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) متواترة وآحاداً أحدها ما روي أنه عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال ( إنه ليخيل إلى أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله ) وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر تحت راعوفة البئر فلما استخرج ذلك زال عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك العارض وأنزل المعوذتان بسببه وثانيها أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت لها إني ساحرة فهل لي من توبة فقالت وما سحرك فقالت صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت فقالا لي اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعل وجئت إليهما فقلت قد فعلت فقالا لي ما رأيت لما فعلت فقلت ما رأيت شيئاً فقالا لي أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت فرأيت كأن فارساً مقنعاً بالحديد قد خرج من فرجي فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا إيمانك قد خرج عنك وقد أحسنت السحر فقلت وما هو قالا ما تريدين شيئاً فتصوريه في وهمك إلا كان فصورت في نفسي حباً من حنطة فإذا أنا بحب فقلت أنزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلاً فقلت انطحن فانطحن من ساعته فقلت أنخبز فانخبز وأنا لا أريد شيئاً أصوره في نفسي إلا حصل فقالت عائشة ليس لك توبة وثالثها ما يذكرونه من الحكايات الكثيرة في هذا الباب وهي مشهورة أما المعتزلة فقد احتجوا على إنكاره بوجوه أحدها قوله تعالى وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( الفرقان 8 ) وثانيها قوله تعالى في وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ولو صار عليه السلام مسحوراً لما استحقوا الذم بسبب هذا القول وثالثها أنه لو جاز ذلك من السحر فكيف يتميز المعجز عن السحر ثم قالوا هذه الدلائل يقينية والأخبار التي ذكرتموها من باب الآحاد فلا تصلح معارضة لهذه الدلائل
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لعموم قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً
المسألة السادسة في أن الساحر قد يكفر أم لا اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا روي

عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق وأيضاً قال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ وهذا أيضاً يقتضي أن يكون السحر على الإطلاق كفراً وحكي عن الملكين أنهما لا يعلمان أحداً السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو يدل على أن السحر كفر على الإطلاق قلنا حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فتحملها على سحر من يعتقد إلهية النجوم
المسألة السابعة في أنه هل يجب قتلهم أم لا أما النوع الأول وهو أن يعتقد في الكواكب كونها آلهة مدبرة والنوع الثاني وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفاً بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال فلا شك في كفرهما فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) أما النوع الثالث وهو أن يعتقد أن الله تعالى أجرى عادته بخلق الأجسام والحياة وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقي وتدخين بعض الأدوية فالساحر يعتقد أنه يمكن الوصول إلى استحداث الأجسام والحياة وتغيير الخلقة بهذا الطريق وقد ذكرنا عن المعتزلة أنه كفر قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه الاستدلال بالمعجز على صدق الأنبياء وهذا ركيك لأنه يقال الفرق هو أن مدعي النبوة إن كان صادقاً في دعواه أمكنه الإتيان بهذه الأشياء وإن كان كاذباً تعذر عليه ذلك فبهذا يظهر الفرق إذا ثبت أنه ليس بكافر وثبت أنه ممكن الوقوع فإذا أتى الساحر بشيء من ذلك فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر لأنه حكم على المحظور بكونه مباحاً وإن اعتقد حرمته فعند الشافعي رضي الله عنه أن حكمه حكم الجناية إن قال إني سحرته وسحري يقتل غالباً يجب عليه القود وإن قال سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد وإن قال سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله لأنه ثبت بإقراره إلا أن تصدقه الكاملة فحينئذ العاقلة تجب عليهم هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه وروى الحسن بن زياد عن

أبي حنيفة رحمه الله أنه قال يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد شهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن كان كذلك إذا قتل قتل واحتج أصحابنا بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر فهو فسق فإن لم يكن جناية على حق الغير كان الحق هو التفصيل الذي ذكرناه الثاني أن ساحر اليهود لا يقتل لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ( لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأخبار أحدها ما روى نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير إذنه وثانيها ما روى عمرو بن دنيار أنه ورد كتاب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر وثالثها قال علي بن أبي طالب إن هؤلاء العرافين كهان العجم فمن أتى كاهناً يؤمن له بما يقول فقد برىء مما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة فإن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة وأما سائر أنواع السحر أعني الإتيان بضروب الشعبذة والآلات العجيبة المبنية على ضروب الخيلاء والمبنية على النسب الهندسية وكذلك القول فيمن يوهم ضروباً من التخويف والتقريع حتى يصير من به السوداء محكم الاعتقاد فيه ويتمشى بالتضريب والنميمة ويحتال في إيقاع الفرقة بعد الوصلة ويوهم أن ذلك بكتابة يكتبها من الاسم الأعظم فكل ذلك ليس بكفر وكذلك القول في دفن الأشياء الوسخة في دور الناس وكذا القول في إيهام أن الجن يفعلون ذلك وكذا القول فيمن يدس الأدوية المبلدة في الأطعمة فإن شيئاً من ذلك لا يبلغ حد الكفر ولا يوجب القتل ألبتة فهذا هو الكلام الكلي في السحر والله الكافي والواقي ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر وعلى أن السحر أيضاً كفر ولمن منع ذلك أن يقول لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر فإن قيل هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر فلو كان تعليم السحر كفراً لزم تكفير الملكين وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضاً فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحراً فهو كفر قلنا اللفظ المشترك لا يكون عاماً في جميع مسمياته فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات فهذا السحر كفر والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام

وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على ما قال تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ وأيضاً فبتقدير أن يقال إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفراً إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيقته وكونه صواباً فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفراً وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزاً عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق
المسألة الثامنة قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد ( لكن ) و ( الشياطين ) بالنصب على أنه اسم ( لكن ) والباقون ( لكن ) بالتخفيف و ( الشياطين ) بالرفع والمعنى واحد وكذلك في الأنفال وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ( الأنفال 17 ) والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن والوجه فيه أن ( لكن ) بالتخفيف يكون عطفاً فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام والمشددة لا تكون عطفاً لأنها تعمل عمل ( إن )
أما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله وَمَا أَنَزلَ فيه وجهان الأول أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول أنه عطف على ( السحر ) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضاً وثانيها أنه عطف على قوله مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ أي واتبعوا الذي تلته الشياطين ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما وثالثها أن موضعه جر عطفاً على ( ملك سليمان ) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلاً عليهما واحتج عليه بوجوه الأول أن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزله هو الله تعالى وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك الثاني أن قوله وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ يدل على أن تعليم السحر كفر فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر وذلك باطل الثالث كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى الرابع أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجاً آخر يخالف قول أكثر المفسرين فقال كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ توكيداً لبعثهم على القبول والتمسك وكانت طائفة تتمسك وأخرى

تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه فهذا تقرير مذهب أبي مسلم الوجه الثاني أن يكون ( ما ) بمعنى الجحد ويكون معطوفاً على قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ كأنه قال لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فرد الله عليهم في القولين قوله وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ جحد أيضاً أي لا يعلمان أحداً بل ينهيان عنه أشد النهي
أما قوله تعالى حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلاناً بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا أي ما أمرت به بل حذرته عنه
وأعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها وذلك لأن عطف قوله وَمَا أَنَزلَ على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل أما قوله لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى قلنا تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانياً إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فالجواب أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق قوله ثالثاً إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة قلنا لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله قوله رابعاً إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه قلنا فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهياً عنه وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأموراً به
المسألة الثانية قرأ الحسن ( ملكين ) بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلفوا فقال الحسن كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر وقيل كانا رجلين صالحين من الملوك والقراءة المشهورة بفتح اللام وهما كانا ملكين نزلا من السماء وهاروت وماروت اسمان لهما وقيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام وقيل غيرهما أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه أحدها أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر وثانيها كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( الأنعام 8 ) وثالثها لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو غير جائز ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنساناً بل ملكاً من الملائكة وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) والجواب في الأصل أنا سنبين وجه الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر وعن

الثاني أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام وعن الثالث أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنساناً كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه
المسألة الثالثة إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما فروي عن ابن عباس أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة فقال لهم اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما فاختاروا هاروت وماروت وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم وإلا بعد أن يشربا الخمر فامتنعا أولاً ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا فإن اردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر ثم لهم في الزهرة قولان أحدهما أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض إلى أن كان ما كان فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما والقول الثاني أن المرأة فاجرة من أهل الأرض وواقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت به وعرجت إلى السماء وكان اسمها ( بيدخت ) فمسخها الله وجعلها هي الزهرة واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مبقولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك بل فيه ما يبطلها من وجوه الأول ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي وثانيها أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره فكيف يبخل عليهما بذلك وثالثها أن من أعجب الأمور قولهم إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول السبب في إنزالهما وجوه أحدها أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة في السحر وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد وثانيها أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر

متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر والناس كانوا جاهلين بماهية السحر فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض وثالثها لا يمتنع أن يقال السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم أو مندوباً فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله ورابعها أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً لأن الذي لا يكون متصوراً امتنع النهي عنه وخامسها لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن وسادسها يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكاً
المسألة الخامسة ( هاروت وماروت ) عطف بيان للملكين علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع على هما هاروت وماروت
أما قوله تعالى وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي كقولهم فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له ( إنما نحن فتنة ) أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة
أما قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين الأول أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافراً وإذا صار كافراً بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما الثاني أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر لكن ذكر هذه الصورة تنبيهاً على سائر الصور فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة فنبه

الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى
أما قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه
أما قوله تعالى إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل وفيه وجوه أحدها قال الحسن المراد منه التخلية يعني السحر إذا سحر إنساناً فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر وثانيها قال الأصم المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذاناً لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذناً لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن وكذلك قوله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ ( التوبة 3 ) أي إعلام وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) معناه فاعلموا وقوله عَلَى سَوَاء سَوَّاهُ ( الأنبياء 109 ) يعني أعلمتكم وثالثها أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ورابعها أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً والكفر يقتضي التفريق فإن هذا حكم شرعي وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى
أما قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه أحدها أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله وثانيها أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا وثالثها أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال
المسألة الثانية قال الأكثرون ( الخلاق ) النصيب قال القفال يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ومعناه التقدير ومنه خلق الأديم ومنه يقال قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا وقال آخرون الخلاق الخلاص ومنه قول أمية بن أبي الصلت يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم
إلا سرابيل قطران وأغلال
بقي في الآية سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله وَلَقَدْ عَلِمُواْ ثم نفاه عنهم في قوله لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ والجواب من وجوه أحدها أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون وهذا جواب الأخفش وقطرب وثانيها لو سلمنا كون القوم واحداً ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر

علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها وثالثها لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار صُمّاً إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه صنعت ولم تصنع
وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَة ٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ ( البقرة 102 ) أتبعه بالوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية
أما قوله تعالى ءامَنُواْ فاعلم أنه تعالى لما قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر قال من بعد وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ يعني بما نبذوه من كتاب الله فإن حملت ذلك على القرآن جاز وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز وإن حملته على الأمرين جاز والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات
أما قوله تعالى لَمَثُوبَة ٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ففيه وجوه أحدها أن الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الإسمية لما في الجملة الإسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها فإن قيل هلا قيل لمثوبة الله خير قلنا لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم وثانيها يجوز أن يكون قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن قال ابن عباس وكان يخاطب في التوراة بقوله يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ

( البقرة 61 ) وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة وأيضاً فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات
المسألة الثانية أنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ويأذن في الأخرى ولذلك فإن عند الشافعي رضي الله عنه لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية فلا يبعد أن يمنع الله من قوله راعِنَا ويأذن في قوله انظُرْنَا وإن كانتا مترادفتين ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله راعِنَا لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها كان المسلمون يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا تلا عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي ( راعينا ) ومعناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا المؤمنين يقولون راعنا إفترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله انظُرْنَا ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 ) وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه فقالوا أولستم تقولونها فنزلت هذه الآية وثانيها قال قطرب هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية فلا جرم نهى الله عنها وثالثها أن اليهود كانوا يقولون راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها ورابعها أن قوله ( راعنا ) مفاعلة من الرعي بين اثنين فكان هذا اللفظ موهماً للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهاهم الله تعالى عنه وبين أن لا بد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ( النور 63 ) وخامسها أن قوله ( راعنا ) خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره وليس في ( انظرنا ) إلا سؤال الانتظار كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه وسادسها أن قوله ( راعنا ) على وزن عاطنا من المعاطاة ورامنا من المراماة ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحق فالراعن اسم فاعل من الرعونة فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم عياذاً بك أي أعوذ عياذاً بك فقولهم راعنا أي فعلت رعونة ويحتمل أنهم أرادوا به صرت راعنا أي صرت ذا رعونة فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة وسابعها أن يكون المراد لا تقولوا قولاً راعنا أي قولاً منسوباً إلى الرعونة بمعنى راعن كتامر ولابن
أما قوله تعالى وَقُولُواْ انظُرْنَا ففيه وجوه أحدها أنه من نظره أي انظره قال تعالى انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( الحديد 13 ) فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعاذة فإن قيل أفكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعجل عليهم حق يقولون هذا فالجواب من وجهين أحدهما أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه اسمع أو سمعت الثاني أنهم فسروا قوله تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوحي وأخذ القرآن فقيل له لا

تحرك به لسانك لتعجل به فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام وثانيها ( انظرنا ) معناه ( انظر ) إلينا إلا أنه حذف حرف ( إلى ) كما في قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) والمعنى من قومه والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى وثالثها قرأ أبي بن كعب ( أنظرنا ) من النظرة أي أمهلنا
أما قوله تعالى وَاسْمَعُواْ فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر فلا يجوز وقوع الأمر به فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة أحدها فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وثانيها اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا وثالثها اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول ومعنى ( العذاب الأليم ) قد تقدم
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وههنا مسألتان
المسألة الأولى ( من ) الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشكرون والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( البينة 1 ) والثانية مزبده لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية
المسألة الثانية الخير الوحي وكذلك الرحمة يدل عليه قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء
مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام فقالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه فنزلت هذه الآية والكلام في الآية مرتب على مسائل
المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء وقال القفال إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت ونسخت الشمس الظل إذا عدم لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه وقال تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ( الحج 52 ) أي يزيله ويبطله والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول وقال تعالى هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعاً للاشتراك والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضاً ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير والثاني أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين والباقون بفتحهما أما قراءة ابن عامر ففيها وجهان أحدهما أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد والثاني أنسخته جعتله ذا نسخ كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلاً أقبروا فلاناً أي اجعلوه ذا قبر قال تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( عبس 21 ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخير ومنه إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ ( التوبة 37 ) ومنه سمي بيع الأجل نسيئة وقال أهل اللغة أنسأ الله أجله ونسأ في أجله أي أخر وزاد وقال عليه الصلاة والسلام ( من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه ) والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 155 ) أي فترك وقال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) أي نتركهم كما تركوا والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز لأن المنسي يكون متروكاً فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقرىء ننسها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول وقرأ عبد الله ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة ما ننسخ من آية أو ننسكها

المسألة الثالثة ( ما ) في هذه الآية جزائية كقولك ما تصنع أصنع وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين فقوله ( ننسخ ) شرط وقوله ( نأت ) جزاء وكلاهما مجزومان
المسألة الرابعة اعلم أن التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله والفعل المنقول عنهما ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخاً لحكم العقل لأن العقل ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخاً للحكم الشرعي لأن المعجز ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخاً لم يكن مثل حكم الأمر ثابتاً
المسألة الخامسة النسخ عندنا جائز عقلاً واقع سمعاً خلافاً لليهود فإن منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوزه عقلاً لكنه منع منه سمعاً ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه لأن الدلائل دلت على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ وأيضاً قلنا على اليهود إلزامان الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك ( إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلاً بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين واحتج منكروا النسخ بأن قالوا إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام فاللفظ الدال على تلك الشريعة إما أن يقال إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام فإن بين فيها ثبوتها على الدوام ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً وإنه غير جائز على الشرع وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط ألبتة ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلاً في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما زال الوثوق عنه في كل الصور فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ذكر اللفظ الدال على الدوام ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة قلنا هذا ضعيف لوجوه

أحدها أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه سفه وعبث وثانيها على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاً لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر وإلا فلعل القرآن عورض ولم تنقل معارضته ولعل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر فنقول لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى عليهما السلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر ومعلوماً لهم بالضرورة ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً بل يكون ذلك انتهاء للغاية
وأما القسم الثالث وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ولم يبين فيه كونه دائماً أو كونه غير دائم فنقول قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار وإنما يفيد المرة الواحدة فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخاً للأمر الأول فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا والاستدلال به أيضاً ضعيف لأن ( ما ) ههنا تفيد الشرط والجزاء وكما أن قولك ومن جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ( النحل 101 ) وقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 ) والله تعالى أعلم
المسألة السادسة اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن وقال أبو مسلم بن بحر إنه لم يقع واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أجاب أبو مسلم عنه بوجوه الأول أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية الوجه الثاني المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب الوجه الثالث أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد

بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن بل هو عام في جميع الدلائل وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً وذلك في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ( البقرة 240 ) ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلاً بالكلية
الحجة الثالثة أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 ) ثم نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد والجواب لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى فَإِذَا لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ( المجادلة 13 )
الحجة الرابعة أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 65 66 )
الحجة الخامسة قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر الجواب أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخاً
الحجة السادسة قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ( النحل 101 ) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل والجواب أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله
المسألة السابعة المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معاً أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما

يروى عن عمر أنه قال كنا نقرأ آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) وروي ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معاً فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم ويروى أيضاً أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه
المسألة الثامنة اختلف المفسرون في قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا فمنهم من فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوهاً أحدها ما ننسخ من آية وأنتم تقرءونه أو ننسها أي من القرآن ما قرىء بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معاً فإن قيل وقوع هذا النسيان ممنوع عقلاً وشرعاً أما العقل فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع وأما النقل فلقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) والجواب عن الأول من وجهين الأول أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسياً عن الصدور الجواب الثاني أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام ويروى فيه خبر أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها والجواب عن الثاني أنه معارض بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 ) وبقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ( الكهف 24 )
القول الثاني ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما أما قوله تعالى أَوْ نُنسِهَا فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله
القول الثالث ما ننسخ من آية أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة
القول الرابع ما ننسخ من آية وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معاً أو ننسها أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة بل هي باقية في التلاوة فأما من قال بالقول الثاني ما ننسخ من آية أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها نؤخرها وأما قراءة ( ننسها ) فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها
وأما قوله مّنْ ءايَة ٍ فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه

أما قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ففيه قولان أحدهما أنه الأخف والثاني أنه الأصلح وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه فإن قيل لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به قلنا الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول والثاني بالعكس منه فزال السؤال واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ
المسألة الأولى قال قوم لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله وذلك صريح في وجوب البدل والجواب لم لا يجوز أن يقال المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا إلى البدل
المسألة الثانية قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ينافي كونه أثقل لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر إذا عرفت هذا فنقول أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال الإنسان ما آخذ منك من ثواب آتيك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نَأْتِى بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أن المأتي به خير من الآية والسنة لا تكون خيراً من القرآن ورابعها أنه قال أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها أن قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث ) وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم قال الشافعي رضي الله عنه أما الأول فضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) كان قرآناً فلعل النسخ إنما وقع به وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم

أما قوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فتنبيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه أحدها أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين لكن ذلك محال لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المنسوخ والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديماً وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق وثانيها أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض وما كان كذلك لا يكون قديماً وثالثها أن قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلاً من الأول وما كان داخلاً تحت القدرة وكان فعلاً كان محدثاً أجاب الأصحاب عنه بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث قالت المعتزلة ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات وما لا ينفك عن هذه التعلقات ( محدث ) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثاً أجاب الأصحاب أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه وكذلك علم الله كان متعلقاً بأن العالم سيوجد فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلاً وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثاً لأنه لو كان قديماً لما زال وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثاً فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام
المسألة العاشرة احتجوا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ عقبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره

وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق وهذا هو مذهب أصحابنا وإنه إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل أو لعقاب يندفع قال القفال ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة وأما الولي والنصير فكلاهما فعيل بمعنى فاعل على وجه المبالغة ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن الملك غير القدرة فقال إنه تعالى قال أولاً أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم قال بعده أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة والكلام في حقيقة الملك والقدرة قد تقدم في قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْألُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
المسألة الأولى ( أم ) على ضربين متصلة ومنقطعة فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة لما جمعته أي كما أن ( أو ) مفرقة لما جمعته تقول اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً فإذا قلت اضرب أحدهم قلت اضرب زيداً أو عمراً والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام لأنها بمعنى بل والألف كقول العرب إنها الإبل أم شاء كأنه قال بل هي شاء ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( الأحقاف 8 ) أي بل يقولون قال الأخطل كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب به على وجوه أحدها أنهم المسلمون وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم واستدلوا عليه بوجوه الأول أنه قال في آخر الآية وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين الثاني أن قوله أَمْ تُرِيدُونَ يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله لاَ تَقُولُواْ راعِنَا ( البقرة 104 ) فكأنه قال وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم الثالث أن المسلمين كانوا يسألون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه الرابع سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة القول الثاني أنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد قال إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من قريش فقال يا محمد والله ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى

عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه وقال له بقية الرهط فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك فنؤمن بك عند ذلك فأنزل الله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً أن يأتيكم الآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا أرنا الله جهرة وعن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه السلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة فقال نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا
القول الثالث المراد اليهود وهذا القول أصح لأن هذه السورة من أول قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ( البقرة 40 47 ) حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأن الآية مدنية ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله فإذا سأله كا متبدلاً كفراً بالإيمان
المسألة الثالثة ليس في ظاهر قوله أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال بل المرجع فيه إلى الروايات التي ذكرناها في أنهم سألوا والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ولم يكن ذلك كفراً فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال
المسألة الخامسة ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة وثانيها لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله عن أبي مسلم وثالثها لما أمر ونهى قال أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى
المسألة السادسة سَوَاء السَّبِيلِ وسطه قال تعالى فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ أي وسط الجحيم والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه إنه ضل سواء السبيل
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من كيد اليهود مع المسلمين وذلك لأنه روي أن فنحاص ابن

عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبراه فقال أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية واعلم أنا نتكلم أولاً في الحسد ثم نرجع إلى التفسير
المسألة الأولى في ذم الحسد ويدل عليه أخبار كثيرة الأول قوله عليه السلام ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) الثاني قال أنس ( كنا يوماً جالسين عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار ينظف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه في شماله فسلم فلما كان الغد قال عليه السلام مثل ذلك فطلع ذلك الرجل وقال في اليوم الثالث مثل ذلك فطلع ذلك الرجل فلما قام النبي عليه السلام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني تأذيت من أبي فأقسمت لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تذهب بي إلى دارك فعلت قال نعم فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله ولا يقوم حتى يقوم لصلاة الفجر غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مرت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذاك قال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لم أجد على أحد من المسلمين في نفسي عيباً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هي التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ) الثالث قال عليه السلام ( دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين ) الرابع قال ( إنه سيصيب أمتي داء الأمم قالوا ما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج ) الخامس أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغبط بمكانه وقال إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال أحدثك من عمله ثلاثاً كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة السادس قال عليه السلام ( إن لنعم الله أعداء قيل وما أولئك قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) السابع قال عليه السلام ( ستة يدخلون النار قبل الحساب الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد )
أما الآثار فالأول حكي أن عوف بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال إني أريد أن أعظك بشيء إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أسكنه الله في جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم قرأ اهْبِطَا مِنْهَا ( طه 123 ) وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) الثاني

قال ابن الزبير ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار الثالث قال رجل للحسن هل يحسد المؤمن قال ما أنساك بني يعقوب إلا أنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولساناً الرابع قال معاوية كل الناس أقدر على رضاه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة الخامس قيل الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً ولا ينال عند الفزع إلا شدة وهولاً وعند الموقف إلا فضيحة ونكالاً
المسألة الثانية في حقيقة الحسد إذا أنعم الله على أخيك فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة أما الأول فحرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر يستعين بها على الشر والفساد فلا يضرك محبتك لزوالها فإنك ما تحب زوالها من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها يتوسل بها إلى الفساد والشر والأذى والذي يدل على أن الحسد ما ذكرنا آيات أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فأخبر أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 ) وثالثها قوله تعالى إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ( آل عمران 120 ) وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة متلازمان ورابعها ذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف وعبر عما في قلوبهم بقوله قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ( يوسف 8 9 ) فبين تعالى أن حسدهم له عبارة عن كراهتهم حصول تلك النعمة له وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مّمَّا أُوتُواْ ( الحشر 9 ) أي لا تضيق به صدورهم ولا يغتمون فأثنى الله عليهم بعدم الحسد وسادسها قال تعالى في معرض الإنكار مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 54 ) وسابعها قال الله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ ( البقرة 213 ) إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( الشورى 14 ) قيل في التفسير حسداً وثامنها قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فأنزل الله العلم ليؤلف بينهم على طاعته فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد أن ينفرد بالرياسة وقبول القول وتاسعها قال ابن عباس كانت اليهود قبل مبعث النبي عليه السلام إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا تنصرنا فكانوا ينصرون فلما جاء النبي عليه السلام من ولد إسماعيل عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ( البقرة 19 ) إلى قوله أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا ( البقرة 90 ) أي حسداً وقالت صفية بنت حيي للنبي عليه السلام جاء أبي وعمي من عندك فقال أبي لعمي ما تقول فيه قال أقول إنه النبي الذي بشر به موسى عليه السلام قال فما ترى قال أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد أما المنافسة فليست بحرام وهي مشتقة من النفاسة والذي يدل على أنها ليست بحرام وجوه أولها قوله تعالى وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 26 ) وثانيها قوله تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها وثالثها قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه

الله مالاً فأنفقه في سبيل الله ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ) وهذا الحديث يدل على أن لفظ الحسد قد يطلق على المنافسة ثم نقول المنافسة قد تكون واجبة ومندوبة ومباحة أما الواجبة فكما إذا كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فههنا يجب عليه أن يكون له مثل ذلك لأنه إن لم يحب ذلك كان راضياً بالمعصية وذلك حرام وأما إن كانت تلك النعمة من الفضائل المندوبة كالإنفاق في سبيل الله والتشمير لتعليم الناس كانت المنافسة فيها مندوبة وأما إن كانت تلك النعمة من المباحات كانت المنافسة فيها من المباحات وبالجملة فالمذموم أن يحب زوالها عن الغير فأما أن يحب حصولها له وزوال النقصان عنه فهذا غير مذموم لكن ههنا دقيقة وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان أحدهما أن يحصل له مثل ما حصل للغير والثاني أن يزول عن الغير ما لم يحصل له فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر فههنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشخص لأزالها فهو صاحب الحسد المذموم وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك ولعل هذا هو المراد من قوله عليه السلام ( ثلاث لا ينفك المؤمن منهن الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهم مخرج إذا حسدت فلا تبغ ) أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به فهذا هو الكلام في حقيقة الحسد وكله من كلام الشيخ الغزالي رحمة الله عليه
المسألة الثالثة في مراتب الحسد قال الغزالي رحمه الله هي أربعة الأولى أن يحب زوال تلك النعمة وإن كان ذلك لا يحصل له وهذا غاية الحسد والثانية أن يحب زوال تلك النعمة عنه إلا وذلك مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جملة أو ولاية نافذة نالها غيره وهو يحب أن تكون له فالمطلوب بالذات حصوله له فأما زواله عن غيره فمطلوب بالعرض الثالثة أن لا يشتهي عنها بل يشتهي لنفسه مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها لكي لا يظهر التفاوت بينهما الرابعة أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين والثالثة منها مذمومة وغير مذمومة والثانية أخف من الثالثة والأول مذموم محض قال تعالى وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم
المسألة الرابعة ذكر الشيخ الغزالي رحمة الله عليه للحسد سبعة أسباب
السبب الأول العداوة والبغضاء فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وذلك الغضب يولد الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عن التشفي بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان فمهما أصاب عدوه آفة وبلاء فرح ومهما أصابته نعمة ساءته وذلك لأنه ضد مراده فالحسد من لوازم البغض والعداوة ولا يفارقهما وأقصى الإمكان في هذا الباب أن لا يظهر تلك العداوة من نفسه وأن يكره تلك الحالة من نفسه فأما أن يبغض إنساناً ثم تستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله الكفار به إذ قال هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 120 ) وكذا قال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل

السبب الثاني التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً ترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك فيريد زوال ذلك المنصب عنه وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد يرضى بمساواته ولكنه لا يرضى بترفعه عليه
السبب الثالث أن يكون في طبيعته أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض ومن هذا الباب كان حسد أكثر الكفار للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطيء له رؤوسنا فقالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وقال تعالى يصف قول قريش أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ( الأنعام 53 ) كالاستحقار بهم والأنفة منهم
السبب الرابع التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ قالوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( إبراهيم 10 ) وقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( المؤمنون 47 ) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) وقالوا متعجبين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ ( الفرقان 21 ) وقال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ( الأعراف 63 69 )
السبب الخامس الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده ومن هذا الباب تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد المال والكرامة وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذ كان غرضهما نيل المال والقبول عندهم
السبب السادس حب الرياسة وطلب الجاه نفسه من غير توسل به إلى مقصوده وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته وزوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة من شجاعة أو علم أو زهد أو ثروة ويفرح بسبب تفرده
السبب السابع شح النفس بالخير على عباد الله فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا بكبر ولا بطلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته ويقال البخيل من بخل بمال غيره فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه لا عداوة ولا رابطة وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث النفس ورذالة جبلته في الطبع لأن سائر أنواع الحسد يرجى زواله لإزالة سببه وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد ويقوى قوة لا يقوى صاحبها معها على الإخفاء والمجاملة بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد واحد منها
المسألة الخامسة في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ولأنه يتكبر ولأنه

عدو لغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض والمنازعة مظنة المنافرة والمنافرة مؤدية إلى الحسد فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم والتاجر يحسد التاجر بل الاسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسريَّة زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق وبالجملة فأصل الحسد العداوة وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل لا يجمع إلا متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهم نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها أقول والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات وضد المحبوب مكروه ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضاً لكونه منازعاً في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا الله سبحانه ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة أحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله وهي بحر واسع لا ضيق فيها وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملء القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أما إذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله لم يمنع ذلك أن يمتلىء قلب غيره وأن يفرح به فلذلك وصفهم الله تعالى بعدم الحسد فقال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( الحجر 47 )
المسألة السادسة في الدواء المزيل للحسد وهو أمران العلم والعمل أما العلم ففيه مقامان إجمالي وتفصيلي أما الإجمالي فهو أن يعلم أن كل ما دخل في الوجود فقد كان ذلك من لوازم قضاء الله وقدره لأن الممكن ما لم ينته إلى الواجب لم يقف ومتى كان كذلك فلا فائدة في النفرة عنه وإذا حصل الرضا بالقضاء زال الحسد وأما التفصيلي فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا وأنه ليس فيه على المحسود ضرر في الدين والدنيا بل ينتفع به في الدين والدنيا أما أنه ضرر عليك في الدين فمن وجوه أحدها أنك بالحسد كرهت حكم الله ونازعته في قسمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في خلقه بخفي حكمته وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وثانيها أنك إن غششت رجلاً من المؤمنين فارقت أولياء الله في حبهم الخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وثالثها العقاب العظيم المرتب عليه في الآخرة وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك بسبب الحسد لا تزال تكون في الغم والكمد وأعداؤك لا يخليهم الله من أنواع النعم فلا تزال تتعذب بكل نعمة

تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى أبداً مغموماً مهموماً فقد حصل لك ما أردت حصوله لأعدائك وأراد أعداؤك حصوله لك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فسعيت في تحصيل المحنة لنفسك ثم إن ذلك الغم إذا استولى عليك أمرض بدنك وأزال الصحة عنك وأوقعك في الوساوس ونغص عليك لذة المطعم والمشرب وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد وأن يدوم إلى أجل قدرة الله فإن كان كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت لي وتزول عن المحسود بحسدي وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك فلو زالت النعمة بالحسد لم يبق لله عليك نعمة لا في الدين ولا في الدنيا وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا أيضاً جهل فإن كل واحد من حمقى الحساد يشتهي أن يختص بهذه الخاصية ولست أولى بذلك من الغير فنعمة الله عليك في أن لم يزل النعمة بالحسد مما يجب شكرها عليك وأنت بجهلك تكرهها وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه فهي هدايا يهديها الله إليه أعني أنك تهدي إليه حسناتك فإنك كلما ذكرته بسوء نقل إلى ديوانه حسناتك وازدادت سيئاتك فكأنك اشتهيت زوال نعم الله عنه إليك فأزيلت نعم الله عنك إليه ولم تزل في كل حين وأوان تزداد شقاوة وأما منفعته في الدنيا فمن وجوه الأول أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وكونهم مغمومين معذبين ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد بل العاقل لا يشتهي موت عدوه بل يريد طول حياته ليكون في عذاب الحسد لينظر في كل حين وأوان إلى نعم الله عليه فيتقطع قلبه بذلك ولذلك قيل لا مات أعداؤك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
الثاني أن الناس يعلمون أن المحسود لا بد وأن يكون ذا نعمة فيستدلون بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من عند الله بأنواع الفضائل والمناقب وأعظم الفضائل مما لا يستطاع دفعه وهو الذي يورث الحسد فصار الحسد من أقوى الدلائل على اتصاف المحسود بأنواع الفضائل والمناقب الثالث أن الحاسد يصير مذموماً بين الخلق ملعوناً عند الخالق وهذا من أعظم المقاصد للمحسود الرابع وهو أنه سبب لازدياد مسرة إبليس وذلك لأن الحاسد لما خلا عن الفضائل التي اختص المحسود بها فإن رضي بذلك استوجب الثواب العظيم فخاف إبليس من أن يرضى بذلك فيصير مستوجباً لذلك الثواب فلما لم يرض به بل أظهر الحسد فاته ذلك الثواب واستوجب العقاب فيصير ذلك سبباً لفرح إبليس وغضب الله تعالى الخامس أنك عساك تحسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطىء في دين الله وتكشف خطأه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك وأي مرتبة أخس من هذه وقد ظهر من هذه الوجوه أيها الحاسد أنك بمثابة من يرمي حجراً إلى عدوه ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزداد غضبه فيعود ويرميه ثانياً أشد من الأول فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ويعود ثالثاً فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل الأحوال والوبال راجع إليه دائماً

وأعداؤه حواليه يفرحون به ويضحكون عليه بل حال الحاسد أقبح من هذا لأن الحجر العائد لم يفوت إلا العين ولو بقيت لفاتت بالموت وأما حسده فإنه يسوق إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن يبقى له عين ويدخل بها النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فما أزالها عنه ثم أزال نعمة الحاسد تصديقاً لقوله تعالى وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأ من قلبه نار الحسد وأما العمل النافع فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له وإن حمله على قطع أسباب الخير عنه كلف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه فمهما عرف المحسود ذلك طاب قلبه وأحب الحاسد وذلك يفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين الأول أن المسحود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد فحينئذ يصير الحاسد محباً للمحسود ويزول الحسد حينئذ الثاني أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على سبيل التكلف يصير ذلك بالآخرة طبعاً له فيزول الحسد عنه
المسألة السابعة اعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه فكيف يعاقب عليه وأما الذي في وسعه أمران أحدهما كونه راضياً بتلك النفرة والثاني إظهار آثار تلك النفرة من القدح فيه والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجر أسباب المحبة إليه فهذا هو الداخل تحت التكليف ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا فالمراد أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا بشبهة يلقيها إليه لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء والثاني في باب الدين بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة
أما قوله تعالى حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان إنما كان لأجل الحسد قال الجبائي عني بقوله كَفَّارٌ حَسَدَ مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى وإن كفرهم هو فعلهم لا من خلق الله فيهم والجواب أن قوله مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فيه وجهان أحدهما أنه متعلق ب ( ود ) على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق الثاني أنه متعلق بحسد أي حسد عظيم منبعث من عند أنفسهم أما قوله تعالى فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان

احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا لأن ذلك كفر فوجب حمله على أحد أمرين الأول أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) وقوله وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً ( المزمل 10 ) ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وذكروا فيه وجوه أحدها أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن وثانيها أنه قوة الرسول وكثرة أمته وثالثها وهو قول أكثر الصحابة والتابعين إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين إما الإسلام وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار فلهذا قال العلماء إن هذه الآية منسوخة بقوله تعلاى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ( الحج 39 ) وقلده سيف فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر وههنا سؤالان السؤال الأول كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً فكذا ههنا الجواب أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ويحل محل قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ إلى أن أنسحه عنكم السؤال الثاني كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة والجواب أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شراً وقتالاً
القول الثاني في التفسير قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حسن الاستدعاء واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره

بداية الجزء الرابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َوَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود ثم عقبه بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى تنبيهاً على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات ثم قال بعده وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه ثم قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير وتحذير من خلافه الذي هو الشر وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة وجب أن يوصف بذلك وعلى هذا الوجه قال تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الحج 77 )
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين واعلم أن اليهود لا تقول في النصارى إنها تدخل الجنة ولا النصارى في اليهود فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال

وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ولا يصح في الكلام سواه مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ونظيره قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) والهود جمع هائد كعائذ وعوذ وبازل وبزل فإن قيل كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر قلنا حمل الاسم على لفظ ( من ) والخبر على معناه كقراءة الحسن إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقرأ أبي بن كعب إِلاَّ مَن كَانَ يَهُودِيّا أَوْ نَصْرَانِيّا أما قوله تعالى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ فالمراد أن ذلك متمنياتهم ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقاً في نفسه فإن قيل لم قال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ أمنية واحدة قلنا أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم وقوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ متصل بقوله لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى و تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ اعتراض قال عليه الصلاة والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وقال علي رضي الله عنه ( لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي )
أما قوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى هات صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر
المسألة الثانية دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفياً أو إثباتاً فلا بد له من الدليل والبرهان وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر من ادعى شيئاً بلا شاهد
لا بد أن تبطل دعواه
أما قوله تعالى بَلَى ففيه وجوه الأول أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة الثاني أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً الثالث كأنه قيل لهم أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإسلام وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة فأما معنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فهو إسلام النفس لطاعة الله وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه أحدها لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى وثانيها أن الوجه قد يكنى به عن النفس قال الله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 20 ) وثالثها أن اعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذباً زلالا
فيكون المرء واهباً نفسه لهذا الأمر باذلالها وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه ومعنى ( لله ) أي خالصاً لله لا يشوبه شرك

فلا يكون عابداً مع الله غيره أو معلقاً رجاءه بغيره وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة وموضع قوله وَهُوَ مُحْسِنٌ موضع حال كقولك جاء فلان وهو راكب أي جاء فلان راكباً ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه يعني به الثواب العظيم ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل واعلم أنه تعالى وحد أولاً ثم جمع ومثله قوله وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ ( النجم 26 ) ثم قال شَفَاعَتُهُمْ وقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( الأنعام 25 ) وقال في موضع آخر يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ( يونس 42 ) ( الإسراء 47 ) وقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ( محمد 16 ) ولم يقل خرج واعلم أنا لما فسرنا قوله مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بالإخلاص فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل
المسألة الأولى في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وقال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم ) وفي الإسرائيليات أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له إن الله قبل صدقتك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به
المسألة الثانية الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه وهي الإرادة فهذه الإرادة هي النية والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن إذا عرفت هذا فنقول الباعث على الفعل إما أن يكون أمراً واحداً وإما أن يكون أمرين وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلاً بالبعث أو لا يكون واحد منهما مستقلاً بذلك أو يكون أحدهما مستقلاً بذلك دون الآخر فهذه أقسام أربعة الأول أن يكون الباعث واحداً وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع فلما رآه قام من مكانه فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع وما في ترك الهرب من الضرر فهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً الثاني أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها لكونه رفيقاً له وكونه فقيراً مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء واسم هذا موافقة الباعث الثالث أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد لكن المجموع مستقل واسم هذا مشاركة الرابع أن يستقل أحدهما ويكون الآخر معاضداً مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم واسم هذا معاونة

المسألة الثالثة في تفسير قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن النية سر والعمل علن وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيراً من نفس الصلاة وثانيها النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم والدائم خير من المنقطع وهذا ليس بشيء لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل وأيضاً فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة والأعمال تدوم وثالثها أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده وهو ضعيف إذ العمل بلا نية لا خير فيه وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية ورابعها أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله وهو ضعيف لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور لا تكون نية جازمة ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق وإذا كان كذلك ثبت أن النية لا تنفك البتة عن الفعل فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل وبيانه من وجوه أولها أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله وتطهيره عما سوى الله والنية صفة القلب والفعل ليس صفة القلب وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب فلا جرم نية المؤمن خير من عمله وثانيها أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقياداً له وإنما يراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة وثالثها أن القلب أشرف من الجسد ففعله أشرف من فعل الجسد فكانت النية أفضل من العمل
المسألة الرابعة اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام طاعات ومعاصي ومباحات أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية كالذي يطعم فقيراً من مال غيره أو يبني مسجداً من مال حرام الثاني الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى فإن نوى الرياء صارت معصية وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة أولها أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من قعد في المسجد فقد زار الله وحق على المزور إكرام زائره ) وثانيها أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون حال الإنتظار كمن هو في الصلاة وثالثها إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء كما لا ينبغي فإن الإعتكاف كف وهو في معنى الصوم وهو نوع ترهب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( رهبانية أمتي القعود في المساجد ) ورابعها صرف القلب ولاسر بالكلية إلى الله تعالى وخامسها إزالة ما سوى الله عن القلب وسادسها أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر وسابعها أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة أهل الدين وثامنها أن يترك الذنوب حياء من الله فهذا طريق تكثير النيات وقس به سائر الطاعات
القسم الثالث سائر المباحات ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات فما أعظم خسران من يغفل عنها ولا يصرفها إلى القربات وفي الخبر من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا أو إظهار التفاخر بكثرة المال أو

رياء الخلق أو ليتودد به إلى قلوب النساء فكل ذلك يجعل التطيب معصية وإن كان القصد إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب
المسألة الخامسة اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام أو كقول الفارغ نويت أن أعشق بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضاً صحيحاً لا عاجلاً ولا آجلاً لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات وقد يتعذر في بعضها
المسألة السادسة اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حباً لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى ْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية وبين قول كل فريق منهم في الآخر وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى وههنا مسائل

المسألة الأولى قوله لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم أقل من لا شيء ونظيره قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ ( المائدة 68 ) فإن قيل كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى وذلك قول فيه فائدة قلنا الجواب من وجهين الأول أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولاً باطلاً يحبط ثواب الأول فكأنهم ما أتوا بذلك الحق الثاني أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه وهي ما يتصل بباب النبوات
المسألة الثانية روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل وقالت النصارى لهم نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة
المسألة الثالثة اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام ولا يجب لما نقل في سبب الآية أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر
أما قوله تعالى وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ قالوا وللحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام
أما قوله تعالى كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالماً لكي يصح هذا الفرق فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف فكيف حال من لايعلم واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن ثم اختلفوا فيمن هم الذين لا يعلمون على وجوه أولها أنهم كفار العرب الذين قالوا إن المسلمين ليسوا على شيء فبين تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنصارى وهم يقرأون الكتب لا ينبغي أن يقبل ويلتفت إليه فقول كفار العرب أولى أن لا يلتفت إليه وثانيها أنه إذا حملنا قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على الذين كانوا حاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حملنا قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على المعاندين وعكسه أيضاً محتمل وثالثها أن يحمل قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على علمائهم ويحمل قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على عوامهم فصلا بين خواصهم وعوامهم والأول أقرب لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يجب أن يكون غيرهم
أما قوله تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ففيه أربعة أوجه أحدها قال الحسن يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار وثانيها حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب وثالثها يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً وهو قول الزجاج ورابعها يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه والله أعلم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء أعني مجرد بيان أن من فعل كذا فإن الله يفعل به كذا بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد وسعى في خرابها ثم أن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية إلا أنهم اختلفوا في أن الذين منعوا من عمارة المسجد وسعوا في خرابه من هم وذكروا فيه أربعة أوجه أولها قال ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى البقية وأحرق التوراة ولم يزل بيت المقدس خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر وثانيها قال الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وبعض النصارى أعانه على ذلك بغضاً لليهود
قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن هذان الوجهان غلطان لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر فكيف أعانوا على تخريبه وثالثها أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله بمكة وألجؤه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجداً عند داره فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم وقيل إن قوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( الإسراء 110 ) نزلت في ذلك فمنع من الجهر لئلا يؤذى وطرح أبو جهل العذرة على ظهر لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقيل ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئاً ويصلون له تذللاً وخشوعاً ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه وألسنتهم بالذكر له وجميع جسدهم بالتذلل لعظمته وسلطانه ورابعها قال أبو مسلم المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية واستشهد بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الفتح 25 ) وبقوله وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الأنفال 34 ) وحمل قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بما يعلى الله من يده ويظهر من كلمته كما قال في المنافقين لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم وهو أن يقال أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة

ولعلهم سعوا أيضاً في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه وهذا التأويل أولى مما قبله وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود والنصارى وذكر أيضاً بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرازي فلم يبق إلا ما قلناه
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط فقيل لهم كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال جرى ذكر مشركي العرب في قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ( البقرة 113 ) وقيل جرى ذكر جميع الكفار وذمهم فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين
المسألة الثالثة قوله مَسَاجِدَ اللَّهِ عموم فمنهم من قال المراد به كل المساجد ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة وقالوا قد كان لأبي بكر رضي الله عنه مسجد بمكة يدعو الله فيه فخربوه قبل الهجرة ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية فإن قيل كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد قلنا فيه وجوه أحدها هذا كمن يقول لمن آذى صالحاً واحداً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وثانيها أن المسجد موضع السجود فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجداً واحداً بل مساجد
المسألة الرابعة قوله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في محل النصب واختلفوا في العامل فيه على أقوال الأول أنه ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ الثاني قال الأخفش يجوز أن يكون على حذف ( من ) كأنه قيل منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه الثالث أن يكون على البدل من مساجد الله الرابع قال الزجاج يجوز أن يكون على معنى كراهة أن يذكر فيها اسمه والعامل فيه ( منع )
المسألة الخامسة السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين أحدهما منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريباً والثاني بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه التخريب لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريباً له وقيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر
المسألة السادسة ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم وفيه إشكال لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل وكذا الزنا وقتل النفس أعظم من هذا الفعل والجواب عنه أقصى ما في الباب أنه عام دخله التخصيص فلا يقدح فيه
أما قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ فاعلم أن في الآية مسائل

المسألة الأولى ظاهر الكلام أن الذين آمنوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلا خائفين وأما من يجعله عاماً في الكل فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً أحدها ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال الهيبة وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليهم ويمنعوا المؤمنين منها والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم وثانيها أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لايدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل أن لم يسلم وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه ألا لا يحجن بعد العام مشرك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب فحج من العام الثاني ظاهراً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام وهذا هو تفسير أبي مسلم في حمل المنع من المساجد على صدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسجد الحرام عام الحديبية ويحمل هذا الخوف على ظهور أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وغلبته لهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته وثالثها أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصغار والذل بالجزية والإذلال ورابعها أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجة لأن كل ذلك يتضمن الخوف والدليل عليه قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وخامسها قال قتادة والسدي قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بمعنى أن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضرباً وهذا التأويل مردود لأن بيت المقدس بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا وسادسها أن قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 53 )
أما قوله تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ فقد اختلفوا في الخزي فقال بعضهم ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد وقال آخرون بالجزية في حق أهل الذمة وبالقتل في حق أهل الحرب واعلم أن كل ذلك محتمل فإن الخزي لا يكون إلا ما يجري مجرى العقوبة من الهوان والإذلال فكل ما هذه صفته يدخل تحته وذلك ردع من الله تعالى عن ثباتهم على الكفر لأن الخزي الحاضر يصرف عن التمسك بما يوجبه ويقتضيه وأما العذاب العظيم فقد وصفه الله تعالى بما جرى مجرى النهاية في المبالغة لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم فبين أنهم يستحقون العقاب العظيم وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في أحكام المساجد وفيه وجوه الأول في بيان فضل المساجد ويدل عليه القرآن والأخبار والمعقول أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) أضاف المساجد إلى ذاته يلزم الاختصاص ثم أكد ذلك الاختصاص بقوله فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وثانيها قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ

مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل عمارة المسجد دليلاً على الإيمان بل الآية تدل بظاهرها على حصر الإيمان فيهم لأن كلمة إنما للحصر وثالثها قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( النور 36 ) ورابعها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالاً من المشرك لأن قوله ومن أظلم يتناول المشرك لأنه تعالى قال يتناول المشرك لأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان وأما الأخبار فأحدها ما روى الشيخان في صحيحيهما أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه فقال عثمان رضي الله عنه سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من بنى لله مسجداً بنى الله له كهيئته في الجنة ) وفي رواية أخرى ( بنى الله له بيتاً في الجنة ) وثانيها ما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) واعلم أن هذا الخبر تنبيه على ما هو السر العقلي في تعظيم المساجد وبيانه أن الأمكنة والأزمنة إنما تتشرف بذكر الله تعالى فإذا كان المسجد مكاناً لذكر الله تعالى حتى أن الغافل عن ذكر الله إذا دخل المسجد اشتغل بذكر الله والسوق على الضد من ذلك لأنه موضع البيع والشراء والإقبال على الدنيا وذلك مما يورث الغفلة عن الله والأعراض عن التفكر في سبيل الله حتى أن ذاكر الله إذا دخل السوق فإنه يصير غافلاً عن ذكر الله لا جرم كانت المساجد أشرف المواضع والأسواق أخس المواضع الثاني في فضل المشي إلى المساجد ( أ ) عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والأخرى ترفع درجته ) رواه مسلم ( ب ) أبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح ) أخرجاه في الصحيح ( ج ) أبي بن كعب قال كان رجل ما أعلم أحداً من أهل المدينة ممن يصلى إلى القبلة أبعد منزلاً منه من المسجد وكان لا تخطئه الصلوات مع الرسول عليه السلام فقيل له لو اشتريت حماراً لتركبه في الرمضاء والظلماء فقال والله ما أحب أن منزلي بلزق المسجد فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فسأله فقال يا رسول الله كيما يكتب أثري وخطاي ورجوعي إلى أهلي وإقبالي وإدباري فقال عليه الصلاة والسلام ( لك ما احتسبت أجمع ) أخرجه مسلم ( د ) جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم ( أنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد فقالوا نعم قد أردنا ذلك قال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ) رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في حقهم إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( يس 12 ) ( ه ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إلى المسجد مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجراً ممن يصليها ثم ينام ) أخرجاه في الصحيح ( و ) عقبة بن عامر الجهني أنه عليه السلام قال ( إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والقاعد الذي يرعى الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع ) ( ز ) عن سعيد بن المسيب قال حضر رجلاً من الأنصار الموت فقال لأهله من في البيت فقالوا

أهلك وأما أخوتك وجلساؤك ففي المسجد فقال ارفعوني فأسنده رجل منهم إليه ففتح عينيه وسلم على القوم فردوا عليه وقالوا له خيراً فقال إني مورثكم اليوم حديثاً ما حدثت به أحداً منذ سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) احتساباً وما أحدثكموه اليوم إلا احتساباً سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد يصلي في جماعة المسلمين لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة ولم يضع رجله اليسرى إلا حط الله عنه بها خطيئة حتى يأتي المسجد فإذا صلى بصلاة الإمام انصرف وقد غفر له فإن هو أدرك بعضها وفاته بعض كان كذلك ) ( ح ) عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال ( من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ولم ينقص ذلك من أجرهم شيئاً ) ( ط ) أبو هريرة قال عليه السلام ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه أبو مسلم ( ي ) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لداود بن صالح هل تدري فيم نزلت الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) قال قلت لا يا ابن أخي قال سمعت أبا هريرة يقول لم يكن في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة ( يا ) بريدة قال عليه السلام ( بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة ) قال النخعي كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة موجبة ( يب ) قال الأوزاعي كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد عليه السلام والتابعون بإحسان لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله ( يج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( من بنى لله بيتاً يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتاً في الجنة من دور ياقوت ( يد ) أبو ذر قال عليه السلام ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ) ( يه ) أبو سعيد الخدري قال عليه السلام ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ) ( التوبة 18 ) ( يو ) عن بعض أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم قالوا إن المساجد بيوت الله وأنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها ( يز ) أنس قال عليه السلام ( إن عمار بيوت الله هم أهل بيوت الله ) ( يح ) أنس قال عليه السلام ( يقول الله تعالى كأني لأهم بأهل الأرض عذاباً فإذا نظرت إلى عمار بيوتي والمتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت عنهم ) ( يط ) عن أنس قال عليه السلام ( إذا أنزلت عاهة من السماء صرفت عن عمار المساجد ) ( ك ) كتب سلمان إلى أبي الدرداء يا أخي ليكن بيتك المساجد فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( المسجد بيت كل تقي وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله تعالى ) ( كا ) قال سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام إن المساجد أوتاداً من الناس وإن لهم جلساء من الملائكة فإذا فقدوهم سألوا عنهم وإن كانوا مرضى عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم ( كب ) الحسن قال عليه السلام ( يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة ) ( كج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( إن للمنافقين علامات يعرفون بها تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول لا يقربون المساجد إلا هجراً ولا الصلاة إلا دبراً لا يتألفون ولا يؤلفون خشب بالليل سحب بالنهار ) ( كد ) أبو سعيد الخدري وأبو هريرة قال عليه السلام ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا

في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) هذا حديث أخرجه الشيخان في الصحيحين ( كه ) عقبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من خرج من بيته إلى المسجد كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها عشر حسنات والقاعد في المسجد ينتظر الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين حتى يرجع إلى بيته ) ( كو ) روى عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق بن الحكم قال سمعت سعيد بن المسيب وسأله أبي أحضور الجنازة أحب إليك أم القعود في المسجد قال من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان والجلوس في المسجد أحب إلي تسبح الله وتهلل وتستغفر والملائكة تقول آمين اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإذا فعلت ذلك فقل اللهم اغفر لسعيد بن المسيب الثالث في تزيين المساجد ( أ ) ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام ( ما أمرت بتشييد المساجد ) والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ ( النساء 78 ) وهي التي يطول بناؤها ( ب ) أمر عمر ببناء مسجد وقال للبناء أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ( ج ) روى أن عثمان رأى أثرجة من جص معلقة في المسجد فأمر بها فقطعت ( د ) قال أبو الدرداء إذا حليتم مصاحفكم وزينتم مساجدكم فالدمار عليكم ( ه ) قال أبو قلابة غدونا مع أنس بن مالك إلى الزواية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس لو صلينا في هذا المسجد فقال بعض القوم حتى نأتي المسجد الآخر فقال أنس أي مسجد قالوا مسجد أحدث الآن فقال أنس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد ولا يعمرونها إلا قليلاً ) الرابع في تحية المسجد في الصحيحين عن أبي قتادة السلمي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) واعلم أن القول بذلك مذهب الحسن البصري ومكحول وقول الشافعي وأحمد وإسحق وذهب قوم إلى أنه يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي الخامس فيما يقول إذا دخل المسجد روت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبيها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال قال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ) السادس في فضيلة القعود في المسجد لانتظار الصلاة ( أ ) أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث ) وروي أن عثمان بن مظعون أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال ائذن لي في الاختصاء فقال عليه الصلاة والسلام ( ليس منا من خصي أو اختصى إن خصاء أمتي الصيام ) فقال يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) فقال يا رسول الله ائذن لي في الترهب فقال ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة ) السابع في كراهية البيع والشراء في المسجد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيه وعن أن يتحلق الناس في المساجد

يوم الجمعة قبل الصلاة واعلم أنه كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد وبه يقول أحمد وإسحق وعطاء بن يسار وكان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة وكان لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم رحبة إلى جنب المسجد سماها البطحاء وقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوتاً فليخرج إلى هذه الرحبة واعلم أن الحديث الذي رويناه يدل على كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك ) قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من أمور معاملات الناس واقتضاء حقوقهم وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد وكان بعضهم يرى أن لا يتصدق على السائل المتعرض في المسجد وورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال عمر فيمن لزمه حد أخرجاه من المسجد ويذكر عن علي رضي الله عنه مثله وقال معاذ بن جبل إن المساجد طهرت من خمس من أن يقام فيها الحدود أو يقبض فيها الخراج أو ينطق فيها بالأشعار أو ينشد فيها الضالة أو تتخذ سوقاً ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ولاعن عمر عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد الثامن في النوم في المسجد في الصحيحين عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وعن ابن شهاب قال كان ذلك من عمر وعثمان وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد مثل جوازها في البيت إلا الانبطاح فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه وقال أنها ضجعة يبغضها الله وعن نافع أن عبد الله كان شاباً أعزب لا أهل له فكان ينام في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد وقال ابن عباس لا تتخذوه مبيتاً أو مقيلاً التاسع في كراهية البزاق في المسجد عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) وفي الصحيح عن أبي ذر قال عليه الصلاة والسلام ( عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساويء أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن ) وفي الحديث ( إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار ) أي ينضم وينقبض فقال بعضهم المراد أن كونه مسجداً يقتضي التعظيم والقاء النخامة يقتضي التحقير وبينهما منافاة فعبر عليه الصلاة والسلام عن تلك المنافاة بقوله لينزوي وقال آخرون أراد أهل المسجد وهم الملائكة وفي الصحيحين عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه

فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجليه فيدفنه ) وعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده وقال ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبزقن أحدكم في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه قال ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) أخرجه البخاري في صحيحه العاشر في الثوم والبصل في الصحيحين عن أنس وابن عمر وجابر قال عليه الصلاة والسلام ( من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس ) وعن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا ) وأن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بقدر فيه خضر فوجد لها ريحاً فسأل فأخبر بما فيه من البقول فقال ( قربوها إلى بعض من كان حاضراً وقال له كل فإني أناجي من لا تناجي ) أخرجاه في الصحيحين الحادي عشر في المساجد في الدور عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببناء المسجد في الدور وأن ينظف ويطيب أنس بن مالك قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد ومعه أصحابه إذ جاء أعرابي فبال في المسجد فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مه مه فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تزرموه ) ثم دعاه فقال ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من العذرة والبول والخلاء إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة ) ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدلو من ماء فصبوا عليه
المسألة الثانية اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد فجوزه أبو حنيفة مطلقاً وأباه مالك مطلقاً وقال الشافعي رضي الله عنه يمنع من دخول الحرم والمسجد الحرام احتج الشافعي بوجوه أولها قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) قال الشافعي قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة إما على المسجد فقط أو على الحرم كله وعلى التقديرين فالمقصود حاصل لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً فإن قيل المراد به الحج ولهذا قال بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا لأن الحج إنما يفعل في السنة مرة واحدة قلنا هذا ضعيف لوجوه أحدها إنه ترك للظاهر من غير موجب الثاني ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام الثالث أنه تعالى لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو عرفة الرابع الدليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( التوبة 28 ) فأراد به الدخول للتجارة وثانيها قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المسجد وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلا ما قام عليه الدليل فإن قيل هذه الآية مخصوصة بمن خرب بيت المقدس أو بمن منع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العبادة في الكعبة وأيضاً فقوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ليس المراد منه خوف الإخراج بل خوف الجزية والإخراج قلنا الجواب عن الأول أن قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ظاهر في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف

الظاهر وعن الثاني أن الظاهر قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ يقتضي أن يكون ذلك الخوف إنما حصل من الدخول وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول بل من شيء آخر فسقط كلامهم وثالثها قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وعمارتها تكون بوجهين أحدهما بناؤها وإصلاحها والثاني حضورها ولزومها كما تقول فلان يعمر مسجد فلان أي يحضره ويلزمه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) وذلك لقوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل حضور المساجد عمارة لها ورابعها أن الحرم واجب التعظيم لقوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة ) فصونه عما يوجب تحقيره واجب وتمكين الكفار من الدخول فيه تعريض للبيت للتحقير لأنهم لفساد اعتقادهم فيه ربما استخفوا به وأقدموا على تلويثه وتنجيسه وخامسها أن الله تعالى أمر بتطهير البيت في قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) والمشرك نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والتطهير على النجس واجب فيكون تبعيد الكفار عنه واجباً وسادسها أجمعنا على أن الجنب يمنع منه فالكافر بأن يمنع منه أولى إلا أن هذا مقتضى مذهب مالك وهو أن يمنع عن كل المساجد واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأمور الأول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قدم عليه وفد يثرب فأنزلهم المسجد الثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ) وهذا يقتضي إباحة الدخول الثالث الكافر جاز له دخول سائر المساجد فكذلك المسجد الحرام كالمسلم والجواب عن الحديثين الأولين أنهما كانا في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالآية وعن القياس أن المسجد الحرام أجل قدراً من سائر المساجد فظهر الفرق والله أعلم
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في سبب نزول هذه الآية الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة أما القول الأول فهو أقوى لوجهين أحدها أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة وثانيهما أن ظاهر قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) إلا هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه
أحدها أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبين تعالى أن

المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن الله تعالى جعلها قبلة فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة وثانيها أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت الآية رداً عليهم وهو قول ابن عباس وهو نظير قوله قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وثالثها قول أبي مسلم وهو أن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال إن الجنة له لا لغيره فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ورابعها قال بعضهم إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة وهو قول قتادة وابن زيد وخامسها أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد وسادسها ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس وسابعها أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يوميء برأسه نحو المدينة فمعنى الآية فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقد صادفتم المطلوب إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الفضل غني فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج فإن قيل فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب قلنا إن قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مشعر بالتخيير والتخيير لا يثبت إلا في صورتين أحدهما في التطوع على

الراحلة وثانيهما في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها لأن في هذين الوجهين المصلي مخير فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير وقول من يقول إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية وهم كانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم بل لأنه أفضل وأولى بعيد لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصاً في الشريعة ولو كان الأمر كما قالوا لم يثبت ذلك الاختصاص وأيضاً فكان يجب أن يقال إن بيت المقدس صار منسوخاً بالكعبة فهذه الدلالة تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله قالوا وحمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه يعم كل مصل وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولاً على التطوع دون الفرض وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص وأقصى ما في الباب أن يقال إن على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ من الجهات المأمور بها فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال لأنه من المحال أن يقول تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بحسب ميل أنفسكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا
القول الثاني وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضاً وجوه أولها أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نظير قوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( الرحمن 33 ) فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم وهو نظير وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ( غافر 7 ) وقوله وَسِعَ كُلَّ شَى ْء عِلْماً ( طه 98 ) أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه وثانيها قال قتادة إن النبي عليه السلام قال ( إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ) فنزل قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ ( آل عمران 199 ) فقالوا إنه كان يصلي إلى غير القبلة أنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق وهو نحو قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) وثالثها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66