كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

عليها وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه وقال الكلبي ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء قلنا لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والإلتئام والنمو والذبول فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر
المسألة الرابعة اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة وإما أن يكون الفلك متحركاً والكوكب ساكناً أما الرأي الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل لأنه يوجب خرق الأفلاك وهو محال وأما الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضاً يوجب الخرق وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم لأن الكواكب تتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك واقفاً فيه والفلك يتحرك فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم في فلك يسبحون والله أعلم
المسألة السادسة احتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله يَسْبَحُونَ قال والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء وبقوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) والجواب إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت الجملة ما محلها قلت النصب على الحال من الشمس والقمر أو لا محل لها لاستئنافها فإن قلت لكل واحد من القمرين فلك على حدة فكيف قيل جميعهم يسبحون في فلك قلت هذا كقولهم كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي كل واحد منهم
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استدل بالأشياء الستة التي شرحناها في الفصل المتقدم وكانت تلك الأشياء من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما نبه به على أن هذه الدنيا جعلها كذلك لا لتبقى وتدوم أو يبقى فيها من خلقت الدنيا له بل خلقها سبحانه وتعالى للإبتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها إلى الآخرة التي هي دار الخلود
فأما قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها قال مقاتل أنا أناساً كانوا يقولون إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لا يموت فنزلت هذه الآية وثانيها كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا أي قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت أفائن مت أنت أيبقى هؤلاء لا وفي معناه قول القائل فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
وثالثها يحتمل أنه لما ظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء جاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت
أما قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ ففيه أبحاث
البحث الأول أن هذا العموم مخصوص فإنه تعالى نفس لقوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية لا تموت والثاني الذوق ههنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازاً عن أصل الإدراك وأما الموت فالمراد منه ههنا مقدماته من الآلام العظيمة لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه وحال وجوده يصير الشخص ميتاً ولا يدرك شيئاً والثالث الإضافة في ذائقة الموت في تقدير الإنفصال لأنه لما يستقبل كقوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ ( المائدة 1 ) و هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 )
أما قوله تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الابتلاء لا يتحقق إلا مع التكليف فالآية دالة على حصول التكليف وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهى وإن كان فيه صعوبة بل ابتلاه بأمرين أحدهما ما سماه خيراً وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من المرادات والثاني ما سماه شراً وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر في المحن فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم
المسألة الثانية إنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في

صورة الاختبار
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) فِتْنَة ً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
المسألة الرابعة احتجت التناسخية بقوله وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فإن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه والجواب أنه مذكور مجازاً
المسألة الخامسة المراد من قوله وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ أنهم يرجعون إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته فبين بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد واستدلت التناسخية بهذه الآية وقالوا إن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه وقد كنا موجودين قبل دخولنا في هذا العالم واستدلت المجسمة بأنا أجسام فرجوعنا إلى الله تعالى يقتضي كون الله تعالى جسماً والجواب عنه قد تقدم في مواضع كثيرة
أما قوله تعالى وَإِذَا رَاكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ قال السدي ومقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أبو سفيان مع أبي جهل فقال أبو جهل لأبي سفيان هذا نبي بني عبد مناف فقال أبو سفيان وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قولهما فقال لأبي جهل ( ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية ) فنزلت هذه الآية ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ والذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلاناً يذكرك فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فهو ذم ومنه قوله تعالى سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( الأنبياء 60 ) والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها
وأما قوله تعالى وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء مع أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت كَافِرُونَ ولا فعل أقبح من ذلك فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون ويحتمل أن يراد بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ القرآن والكتب والمعنى في أعادتهم أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل والثانية إبانة لاختصاصهم به وأيضاً فإن في أعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم
خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَة ً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ

أما قوله تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في المراد من الإنسان قولان أحدهما أنه النوع والثاني أنه شخص معين أما القول الأول فتقريره أنهم كانوا يستعجلون عذاب الله تعالى وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ ( الملك 25 ) فأراد زجرهم عن ذلك فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال لا يبعد منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتمك فإن قيل مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ قلنا لأن العائق كلما كان أشد كانت القدرة عليه مخالفته أكمل فكأنه سبحانه نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة شريفة عالية مرغوب فيها أما القول الثاني وهو أن المراد شخص معين فهذا فيه وجهان أحدهما أن المراد آدم عليه السلام وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم عن مجاهد قال خلق الله آدم عليه السلام بعد كل شيء من آخر نهار الجمعة فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال يا رب استعجل خلقي قبل غروب الشمس قال ليث فذلك قوله تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وعن السدي لما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت له الملائكة قل الحمد لله فقال ذلك فقال الله له يرحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه إلى ثمار الجنة وهذا هو الذي أورث أولاده العجلة وثانيهما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع
المسألة الثانية من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها أما الأولون فلهم فيها أقوال أحدها قول المحققين وهو أن قوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولاً وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي هو نار تشتعل والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول ما أنت إلا أكل ونوم وما هو إلا إقبال وإدبار قال الشاعر أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ( الإسراء 11 ) قال المبرد خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي من شأنه العجلة كقوله خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ( الروم 54 ) أي ضعفاء وثانيها قال أبو عبيد العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا والنخل يثبت بين الماء والعجل

وثالثها قال الأخفش ( من عجل ) أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن ورابعها من عجل أي من ضعف عن الحسن أما الذين قلبوها فقالوا المعنى خلق العجل من الإنسان كقوله وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ ( الأحقاف 20 ) أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب وأيضاً فإن قوله خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز
المسألة الثالثة لقائل أن يقول القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة قلنا استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوماً له كان أولى وأيضاً فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة
أما قوله تعالى ءايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال أحدها أنه هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ولذلك قال فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها وثانيها أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول وثالثها أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم
أما قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 53 ) فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجهين الأول بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ قال صاحب ( الكشاف ) جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضاً ناصراً ينصرهم لقوله تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءنَا ( غافر 29 ) لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه وهذا أبلغ ومثله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( البقرة 165 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 50 ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعاً ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفاً ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي ثم إنه سبحانه ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب رسوله فقال وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون

والمعنى ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد كما استهزأ بك قومك فَحَاقَ أي نزل وأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أي عقوبة استهزائهم وحاق وحق بمعنى كزال وزل وفي هذا تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم
قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَاؤُلا ءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مقرك منى هل لك محيص عنيا والكالىء الحافظ
وأما قوله مّنَ الرَّحْمَنِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في معناه وجوه أحدها مَن يَكْلَؤُكُم مّنَ الرَّحْمَنِ أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه وثانيها من بأس الله في الآخرة وثالثها من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا
المسألة الثانية إنما خص ههنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالىء يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 6 ) إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقيناً للجواب
المسألة الثالثة إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم
أما قوله بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلاً ونهاراً بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالىء لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم

أما قوله تعالى أَمْ لَهُمْ الِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ فاعلم أن الميم صلة يعني ألهم آلهة تكلؤهم من دوننا والتقدير ألهم آلهة من تمنعهم وتم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وهذا خبر مبتدأ محذوف أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات وحماية النفس أولى من حماية الغير فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها وفي قوله وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ قولان الأول قال المازني أصحبت الرجل إذا منعته فقوله وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ من ذلك لا من الصحبة الثاني أن الصحبة ههنا بمعنى النصرة والمعونة وكلها سواء في المعنى يقال صحبك الله ونصرك الله ويقال للمسافر في صحبة الله وفي حفظ الله فالمعنى ولا هم منا في نصرة ولا إعانة والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة كيف يقدر على شيء ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع كل ذلك بقوله بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعني ما حملهم على الإعراض إلا الإغترار بطول المهلة يعني طالت أعمارهم في الغفلة فنسوا عهدنا وجهلوا موقع مواقع نعمتنا واغتروا بذلك
أما قوله تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا فالمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة ونزيدها في ملك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونميت رؤساء المشركين الممتعين بالدنيا وننقص من الشرك بإهلاك أهلم أما كان لهم في ذلك عبرة فيؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع من الله وإرادته فيهم ولا يقدرون على مغالبته ثم قال أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ أي فهؤلاء هم الغالبون أم نحن وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع والمعنى بل نحن الغالبون وهم المغلوبون وقد مضى الكلام في هذه الآية في سورة الرعد وفي تفسير النقصان وجوه أحدها قال ابن عباس ومقاتل والكلبي رضي الله عنهم ننقصها بفتح البلدان وثانيها قال ابن عباس في رواية أخرى يريد نقصان أهلها وبركتها وثالثها قال عكرمة تخريب القرى عند موت أهلها ورابعها بموت العلماء وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر من الأقاويل ما يتعلق بالغلبة فلذلك قال أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ والذي يليق بذلك أنه ينقصها عنهم ويزيدها في بلاد الإسلام قال القفال نزلت هذه الآية في كفار مكة فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء فبين تعالى أن كل ذلك من العبر التي لو استعملوا عقلهم فيها لأعرضوا عن جهلهم
قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَة ٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ

اعلم أنه سبحانه لما كرر في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ أي بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أن ذلك من قبلي بل الله آتيكم به وأمرني بإنذاركم فإذا قمت بما ألزمني ربي فلم يقع منكم القبول والإجابة فالوبال عليكم يعود ومثلهم من حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من إنذاره مع كثرته وتواليه بالصم الذين لا يسمعون أصلاً إذ الغرض بالإنذار ليس السماع بل التمسك به في إقدام على واجب وتحرز عن محرم ومعرفة بالحق فإذا لم يحصل هذا الغرض صار كأنه لم يسمع قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ولا تسمع الصم الدعاء بالتاء والياء أي لا تسمع أنت أو لا يسمع رسول الله أو لا يسمع الصم من أسمع فإن قلت الصم لا تسمع دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر فكيف قال إذا ما ينذرون قلت اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس والأصل ولا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصاممهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامم عن آيات الإنذار ثم بين تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون وهذا هو المراد بقوله وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَة ٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وأصل النفح من الريح اللينة والمعنى ولئن مسهم شيء قليل من عذاب الله كالرائحة من الشيء دون جسمه لتنادوا بالويل واعترفوا على أنفسهم بالظلم قال صاحب ( الكشاف ) في المس والنفحة ثلاث مبالغات لفظ المس وما في النفح من معنى القلة والنزارة يقال نفحته الدابة وهو رمح يسير ونفحه بعطية رضخه ولفظ المرة ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلاً فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ بِالْقِسْطِ وصفها الله تعالى بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيماً وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط وأكد ذلك بقوله فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وههنا مسائل
المسألة الأولى معنى وضعها إحضارها قال الفراء القسط صفة الموازين وإن كان موحداً وهو كقولك للقوم أنتم عدل وقال الزجاج ونضع الموازين ذوات القسط وقوله لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ قال الفراء في يوم القيامة وقيل لأهل يوم القيامة
المسألة الثانية في وضع الموازين قولان أحدهما قال مجاهد هذا مثل والمراد بالموازين العدل ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه يعني أن حسناته تذهب بسيئاته ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه أي أن سيئاته تذهب بحسناته حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما الثاني وهو قول أئمة السلف أنه سبحانه يضع الموازين الحقيقية فتوزن بها الأعمال وعن الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام ويروى ( أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه فلما أفاق قال يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات فقال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة ) ثم على هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان أحدهما أن توزن صحائف الأعمال والثاني يجعل في

كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه سبحانه وتعالى عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك فإن علموا ذلك كان مجرد حكمة كافياً في معرفة أن الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة ألبتة وإن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف لاحتمال أنه سبحانه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلماً فثبت أن وضع الميزان على كلا التقديرين خالٍ عن الفائدة وجوابه على قولنا قوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وأيضاً ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور وللآخر أعظم الغم ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره إذا ثبت هذا فنقول الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب
المسألة الثالثة قال قوم إن هذه الآية يناقضها قوله تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) والجواب أنه لا يكرمهم ولا يعظمهم
المسألة الرابعة إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم ويجوز أن يرجع إلى الموزونات
أما قوله تعالى وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيىء وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء مِثْقَالَ حَبَّة ٍ على كان التامة كقوله تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما أَتَيْنَا بِهَا وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرأ حميد أثبنا بها من الثواب وفي حرف أبي جئنا بها
المسألة الثانية لم أنث ضمير المثقال قلنا لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه
المسألة الثالثة زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة
المسألة الرابعة قالت المعتزلة قوله فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح والجواب الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلاً أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال فالظلم على الله تعالى محال وأيضاً فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية فحينئذ يكون كونه إلهاً من الجائزات لا من الواجبات وذلك يقدح في إلهيته
المسألة الخامسة إن قيل الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال حبة من خردل قلنا الوجه فيه أن

تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار والغرض المبالغة في أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله تعالى
أما قوله تعالى وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال حاسبونا فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَة ِ مُشْفِقُونَ وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر ههنا منها قصصاً
( القصة الأولى قصة موسى عليه السلام )
ووجه الإتصال أنه تعالى لما أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ ( الأنبياء 45 ) أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرَى لّلْمُتَّقِينَ واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال أحدها أنه هو التوراة فكان فرقاناً إذ كان يفرق به بين الحق والباطل وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله وَضِيَاء فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين والمعن أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى القول الثاني أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس رضي الله عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ

( الأنفال 41 ) يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة وثانيها هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد وثالثها فلق البحر عن الضحاك ورابعها الخروج عن الشبهات قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أما قوله تعالى الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ فقال صاحب ( الكشاف ) محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه وفي معنى الغيب وجوه أحدها يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما وثانيها يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها وثالثها يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا وَهُمْ مّنَ عذاب السَّاعَة َ وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال مُشْفِقُونَ فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى ثم قال وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ بركته كثرة منافعه وغزارة علومه وقوله أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ فالمعنى أنه لا إنكار في إتزانه وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهرون التوراة ثم هذا القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره
( القصة الثانية ( قصة ) إبراهيم عليه السلام )
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ فيه مسائل
المسألة الأولى في الرشد قولان الأول أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ قالوا لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول والثاني أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ وفيه قول ثالث وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ودله أيضاً على مصالح نفسه ومصالح قومه وكل ذلك من الرشد

المسألة الثانية احتج أصحابنا في أن الإيمان مخلوق لله تعالى بهذه الآية فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم أجاب الكعبي بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال ولا يقال مثله فيمن ضيع والجواب عنه هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرشد وذلك باطل لأن المسمى إذا كان مركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ صريح أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء رشده كالعدم والعدم ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن
أما قوله تعالى مِن قَبْلُ ففيه وجوه أحدها آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس وابن جرير وثانيها في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل وثالثها يعني حين كان في صلب آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك
أما قوله تعالى وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالاً بديعة وأسراراً عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلاً له وهذا كقولك في رجل كبير أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله
أما قوله تعالى إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ فقال صاحب ( الكشاف ) إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت
أما قوله مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال
المسألة الثانية أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) لم ينو للعاكفين مفعولاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها قال فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قلت لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي على
أما قوله قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد النكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضاً سلكوا

هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فبين أن الباطل لا يصير حقاً بسبب كثرة المتمسكين به فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه ثابتاً على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم فعند ذلك قالوا له أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك فعنده عدل ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيان التوحيد
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض الَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِأالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولاً وبالفعل ثانياً أما الطريقة القولية فهي قوله بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم
أما قوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ففيه وجهان الأول أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم والثاني أنه عليه السلام عنى بقوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم وأما الطريقة الفعلية فهي قوله وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله وقرىء تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فإن قلت ما الفرق بين الباء والتاء قلت إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن

ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته
المسألة الثانية إن قيل لماذا قال لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام وجوابه قال ذلك توسعاً لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها وقيل المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم
المسألة الثالثة في كيفية أول القصة وجهان أحدهما قال السدي كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال تَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ واحتج هذا القائل بقوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ وثانيها قال الكلبي كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه أراني أشتكي غداً فذلك قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ ( الصافات 88 89 ) وأصبح من الغد معصوباً رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال أما والله لأكيدن أصنامكم وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ واعلم أن كلا الوجهين ممكن ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنماً مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير ثم علق الفأس في عنقه
أما قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن قيل لم قال فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً وهذا جمع لا يليق إلا بالناس جوابه من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب اليها ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) جذاذاً قطعاً من الجذ وهو القطع وقرىء بالكسر والفتح وقرىء جذاذاً جمع جذيذ وجذذاً جمع جذة
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ قلنا يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل في التعظيم ويحتمل في الأمرين
وأما قوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيحتمل رجوعهم إلى إبراهيم عليه السلام ويحتمل رجوعهم إلى الكبير أما الأول فتقريره من وجهين الأول أن المعنى أنهم لعلهم يرجعون إلى مقالة إبراهيم ويعدلون عن الباطل والثاني أنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فبكتهم بما أجاب به من قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْئَلُوهُمْ ( الأنبياء 63 ) أما إذا قلنا الضمير راجع إلى الكبير ففيه وجهان الأول أن المعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك وهذا قول الكلبي وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم

فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم والثاني أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكلات
المسألة الرابعة إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها أقصى ما في الباب أن يقال القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه وإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم الجواب أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها ألبتة ضرر فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم من هذا الوجه
أما قوله تعالى قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي ( أن ) من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها وتمادياً في الاستهانة بها
أما قوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج ارتفع إبراهيم على وجهين أحدهما على معنى يقال هو إبراهيم والثاني على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم قال صاحب ( الكشاف ) والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى
قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِأالِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَاؤُلا ءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ قال صاحب ( الكشاف ) على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر فإن قلت ما معنى الاستعلاء في على قلت هو وارد على طريق المثل أي يثبت إثباته في الأعين ثبات الراكب على المركوب أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ففيه وجهان أحدهما أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم وثانيهما وهو قول محمد بن إسحق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله وفيه قول ثالث وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه
أما قوله تعالى قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا فاعلم أن في الكلام حذفاً وهو فأتوا به وقالوا أأنت فعلت طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه فظهر منه ما انقلب الأمر عليهم حتى تمنوا الخلاص منه فقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا وقد علق الفأس على رقبته لكي يورد هذا القول فيظهر جهلهم في عبادة الأوثان فإن قيل قوله بل فعله كبيرهم كذب والجواب للناس فيه قولان أحدهما وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب وذكروا في الاعتذار عنه وجوهاً أحدها أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم إنما قصد تقرير لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة فقلت له بل كتبته أنت كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر وثانيها أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزبنة وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه وثالثها أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب ( الكشاف ) ورابعها أنه كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدىء كبيرهم هذا وخامسها أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدىء فيقول هذا فاسألوهم والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم وسادسها أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين وسابعها قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم القول الثاني وهو قول طائفة من أهل الحكايات أن ذلك كذب واحتجوا بما

روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى قوله إِنّى سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا وقوله لسارة هي أختي ) وفي خبر آخر ( أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال إني كذبت ثلاث كذبات ) ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا الكذب ليس قبيحاً لذاته فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو واعلم أن هذا القول مرغوب عنه أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب )
فأما قوله تعالى إِنّى سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه
وأما قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فقط ظهر الجواب عنه
أما قوله لسارة إنها أختي فالمراد أنها أخته في الدين وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق
أما قوله تعالى فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ففيه وجوه الأول أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة وأنهم على غرور وجهل في ذلك والثاني قال مقاتل فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير وثالثها المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب والأقرب هو الأول
أما قوله تعالى ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ فقال صاحب ( الكشاف ) نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المعنى وجوه أحدها أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا ( في ) المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة وثانيها قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخذالاً مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة عليهم وثالثها قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم
المسألة الثانية قرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود

أما قوله تعالى قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فالمعنى ظاهر قال صاحب ( الكشاف ) أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل فتأفف بهم ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا وهذا هو الأقرب لقوله أَفَتَعْبُدُونَ ولقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاٌّ خْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم وأنهم قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح وقال مجاهد سمعت ابن عمر يقول إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هبرين فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
المسألة الثانية أما كيفية القصة فقال مقاتل لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة وذلك قوله قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ ( الصافات 97 ) ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت إن عافاني الله لأجعلن حطباً لإبراهيم ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوماً فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيداً مغلولاً فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال سبحانه إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح فقال إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم عليه السلام لا حاجة بي إليكم ثم رفع رأسه إلى السماء وقال ( اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري أنت حسبنا ونعم الوكيل ) وقيل إنه حين ألقي في النار قال ( لا إله إلا أنت سبحانك ربك العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار فأتاه جبريل عليه السلام وقال يا إبراهيم هل لك حاجة قال أما إليك فلا قال فاسأل ربك قال حسبي من سؤالي علمه

بحالي فقال الله تعالى قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء 69 ) وقال السدي إنما قال ذلك جبريل عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد ولو لم يتبع برداً سلاماً لمات إبراهيم من بردها قال ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت ثم قال السدي فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً وقال ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها وقال ابن إسحق بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة وقال يا إبراهيم إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه نمروذ يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم قال قم فاخرج فقام يمشي حتى خرج منها فلما خرج قال له نمروذ من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قال ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها فقال نمروذ إني مقرب إلى ربك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال إبراهيم عليه السلام لا يقبل الله منك ما دمت على دينك فقال نمروذ لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام ورويت هذه القصة على وجه آخر وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ثم فتحوا عليه من الغد فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً فقال لهم هاران أبو لوط إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته
المسألة الثالثة إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات ولهذا قيل إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصراً شديداً فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق
أما قوله تعالى قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله تعالى قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً المعنى أنه سبحانه جعل النار برداً وسلاماً لا أن هناك كلاماً كقوله أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ أي يكونه وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه والأكثرون على أنه وجد ذلك القول ثم هؤلاء لهم قولان أحدهما وهو قول سدي أن القائل هو جبريل عليه السلام والثاني وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر وقوله النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة قلنا لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة
المسألة الثانية اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال أحدها أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير وثانيها أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار وثالثها أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه قال المحققون والأول أولى لأن

ظاهر قوله قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها لا أن النار بقيت كما كانت فإن قيل النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة فإذا كانت الحرارة جزء من مسمى النار امتنع كون النار باردة فإذاً وجب أن يقال المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين قلنا المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك فكان مجازنا أولى
أما قوله تعالى كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر بل لا بد من الإعتدال ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه أحدها أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر وثانيها أن بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد وثالثها أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد بل قد انتفع به والتذ ثم ههنا سؤالات
السؤال الأول أو كل النار زالت وصارت برداً الجواب أن النار هو اسم الماهية فلا بد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل بل اختص بتلك النار لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها والمراد خلاص إبراهيم عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق
السؤال الثاني هل يجوز ما روي عن الحسن من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم عليه السلام الجواب الظاهر كما أنه جعل النار برداً جعلها سلاماً عليه حتى يخلص فالذي قاله يبعد وفيه تشتيت الكلام المرتب
السؤال الثالث أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل وسلاماً لأتى البرد عليه والجواب ذلك بعيد لأن برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد فلا يجوز أن يقال كان البرد يعظم لولا قوله سلاماً
السؤال الرابع أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشاً منه في سائر أحواله والجواب لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها ويجوز أن يكون إنما صار أنعم عيشاً هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى
أما قوله تعالى وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاْخْسَرِينَ أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطاً معه وهو ابن أخيه وهو لوط بن هاران إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة ثم قيل إنها مكة وقيل أرض الشام لقوله تعالى إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) والسبب في بركتها أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش وقيل ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلواة وَإِيتَآءَ الزَّكَواة ِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
اعلم أنه تعالى بعد ذكره لإنعامه على إبراهيم وعلى لوط بأن نجاهما إلى الأرض المباركة أتبعه بذكر غيره من النعم وإنما جمع بينهما لأن في كون لوط معه مع ما كان بينهما من القرابة والشركة في النبوة مزيد إنعام ثم إنه سبحانه ذكر النعم التي أفاضها على إبراهيم عليه السلام ثم النعم التي أفاضها على لوط أما الأول فمن وجوه أحدها وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً واعلم أن النافلة العطية خاصة وكذلك النفل ويسمى الرجل الكثير العطايا نوفلاً ثم للمفسرين ههنا قولان الأول أنه ههنا مصدر من وهبنا له مصدر من غير لفظه ولا فرق بين ذلك وبين قوله وَوَهَبْنَا لَهُ هبة أي وهبناهما له عطية وفضلاً من غير أن يكون جزاء مستحقاً وهذا قول مجاهد وعطاء والثاني وهو قول أبي بن كعب وابن عباس وقتادة والفراء والزجاج أن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله ولداً قال رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( الصافات 100 ) فأجاب الله دعاءه ووهب له إسحق وأعطاه يعقوب من غير دعائه فكان ذلك نَافِلَة ً كالشيء المتطوع به من الآدميين فكأنه قال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ إجابة لدعائه ووهبنا له يعقوب نافلة على ما سأل كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض وعلى هذا النافلة يعقوب خاصة
والوجه الأول أقرب لأنه تعالى جمع بينهما ثم ذكر قوله نافلة فإذا صلح أن يكون وصفاً لهما فهو أولى
النعمة الثانية قوله تعالى وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ أي وكلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب أنبياء مرسلين هذا قول الضحاك وقال آخرون عاملين بطاعة الله عز وجل مجتنبين محارمه
والوجه الثاني أقرب لأن لفظ الصلاح يتناول الكل لأنه سبحانه قال بعد هذه الآية وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قوله وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ يدل على أن ذلك الصلاح من قبله أجاب الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين وبكونهم أئمة وبكونهم عابدين ولما مدحهم بذلك ولما أثنى عليهم وإذا ثبت ذلك فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به والثاني أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال زيد فسق فلاناً وضلله وكفره إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس وكما يقال في الحاكم زكى فلاناً وعدله وجرحه إذا حكم بذلك واعلم أن هذه الوجوه مختلة أما اعتمادهم على المدح والذم فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم وأما الحمل على اللطف فباطل لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين فلا بد في هذا التخصيص من

مزيد فائدة وأيضاً فلأن قوله جعلته صالحاً كقوله جعلته متحركاً فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر وأما الحمل على التسمية فهو أيضاً مجاز أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع وههنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم فحينئذ نرجع أيضاً إلى مسألتي الداعي والعلم
النعمة الثالثة قوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وفيه قولان أحدهما أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا الثاني قول أبي مسلم أن هذه الإمامة هي النبوة والأول أولى لئلا يلزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين أحدهما على خلق الأفعال بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً وتقريره ما مضى والثاني على أن الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى لأن الأمر لو لم يكن معتبراً لما كان في قوله بأمرنا فائدة
النعمة الرابعة قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة وذلك من أعظم النعم على الأب قال الزجاج حذف الهاء من إقامة الصلاة لأن الإضافة عوض عنه وقال غيره الإقام والإقامة مصدر قال أبو القاسم الأنصاري الصلاة أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر الله تعالى والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله واعلم أنه سبحانه وصفهم أولاً بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروماً عن النهاية ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضاً وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة
القصة الثالثة قصة لوط عليه السلام
وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
اعلم أنه سبحانه بعد بيان ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السلام لما جمع بينهما من قبل وههنا مسألتان
المسألة الأولى في الواو في قوله وَلُوطاً قولان أحدهما وهو قول الزجاج أنه عطف على قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 73 ) والثاني قول أبي مسلم أنه عطف على قوله إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن ( الأنبياء 51 ) ولا بد من ضمير في قوله وَلُوطاً فكأنه قال وآتينا لوطاً فأضمر ذكره

المسألة الثانية في أصناف النعم وهي أربعة وجوه أحدها الحكم أي الحكمة وعي التي يجب فعلها أو الفصل بين الخصوم وقيل هي النبوة وثانيها العلم واعلم أن إدخال التنوين عليهما يدل على علو شأن ذلك العلم وذلك الحكم وثالثها قوله وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ والمراد أهل القرية لأنهم هم الذين يعملون الخبائث دون نفس القرية ولأن الهلاك بهم نزل فنجاه الله تعالى من ذلك ثم بين سبحانه وتعالى بقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فَاسِقِينَ ما أراده بالخبائث وأمرهم فيما كانوا يقدمون عليه ظاهر ورابعها قوله وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفي تفسير الرحمة قولان الأول أنه النبوة أي أنه لما كان صالحاً للنبوة أدخله الله في رحمته لكي يقوم بحقها عن مقاتل الثاني أنه الثواب عن ابن عباس والضحاك ويحتمل أن يقال إنه عليه السلام لما آتاه الله الحكم والعلم وتخلص عن جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الإلهية وهي بحر لا ساحل له وهي الرحمة في الحقيقة
( القصة الرابعة قصة نوح عليه السلام )
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
أما قوله تعالى إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب ويؤكده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( القمر 10 ) وتارة على التفصيل وهو قوله وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) ويدل عليه أيضاً أن الله تعالى أجابه بقوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم فلذلك قال بعده وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا
المسألة الثانية أجمع المحققون على أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لايجاب إليه فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار وقال آخرون إنه عليه السلام لم يكن مأذوناً له في ذلك وقال أبو أمامة لم يتحسر أحد من خلق الله تعالى كحسرة آدم ونوح فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس وحسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى الله تعالى إليه أن لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري
أما قوله تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فالمراد بالأهل ههنا أهل دينه وفي تفسير الكرب وجوه أحدها أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين وثانيها أنه تكذيب قومه إياه

وما لقي منهم من الأذى وثالثها أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضاً على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق ومن الذي يغرق فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه
أما قوله تعالى وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد تقديره ونصرناه من مكروه القوم وقال تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 29 ) أي يعصمنا من عذابه قال أبو عبيدة من بمعنى على وقال صاحب ( الكشاف ) إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذلياً يدعو على سارق اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه
أما قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فأغرقناهم أجمعين فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم
( القصة الخامسة قصة داود وسليمان عليهما السلام
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَى ْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
اعلم أن قوله تعالى وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون كله نسق على ما تقدم من قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ( الأنبياء 51 ) ومن قوله وَلُوطاً اتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ( الأنبياء 74 ) واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما ثم ذكر ما يختص به كل واحد منهما من النعم أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهي قصة الحكومة ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم

والفهم في قوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره ههنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن وإذا كان العلم مقدماً على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع وهذا قول جمهور المفسرين وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلاً ونهاراً
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أن الحرث هو الزرع وقال بعضهم هو الكرم والأول أشبه بالعرف
المسألة الثالثة احتج من قال أقل الجمع إثنان بقوله تعالى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ مع أن المراد داود وسليمان جوابه أن الحكم كما يضاف إلى الحاكم فقد يضاف إلى المحكوم له فإذا أضيف الحكم إلى المتحاكمين كان المجموع أكثر من الإثنين وقرىء وكنا لحكمهما شاهدين
المسألة الرابعة في كيفية القصة وجهان الأول قال أكثر المفسرين دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئاً فقال داود عليه السلام اذهب فإن الغنم لك فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فأخبراه فقال لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا فأخبر بذلك داود عليه السلام فدعاه وقال كيف كنت تقضي بينهما فقال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه الثاني قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله أن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم كيف قضى بينكما فأخبراه به فقال غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر داود عليه السلام بذلك فدعا سليمان وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين فقال تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ثم ترد الغنم إلى صاحبها فقال داود عليه السلام إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما حكم سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وههنا أمور ولا بد من البحث عنها
السؤال الأول هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا فإن أبا بكر الأصم قال إنهما لم يختلفا ألبتة وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان سليمان عليه السلام الجواب الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على ما رويناه وأيضاً فقد قال الله تعالى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ثم قال فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ والفاء للتعقيب فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا التفهيم وذلك الحكم السابق إما أن يقال اتفقا فيه أو اختلفا فيه فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب
السؤال الثاني سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن

الاجتهاد الجواب الأمران جائزان عندنا وزعم الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزاً منهم في الجملة ولكنه غير جائز في هذه المسألة
أما المأخذ الأول فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ولنذكر ههنا أصول الكلام من الطرفين احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور أحدها قوله تعالى قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) وقوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) وثانيها أن الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقيناً فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد ثالثها أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر ورابعها لو جاز أن يجتهد في الأحكام غير جائز عليه وخامسها أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه وسادسها لو جاز الاجتهاد من الرسول لجاز أيضاً من جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل والجواب عن الأول أن قوله تعالى قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) لا يدل على قولكم لأنه وارد في إبدال آية بآية لأنه عقيب قوله قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ ( يونس 15 ) ولا مدخل للاجتهاد في ذلك وأما قوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) فبعيد لأن من يجوز له الاجتهاد يقول إن الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة وإن لم يكن كذلك على التفصيل وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل والجواب عن الثاني أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الحكم مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه والجواب عن الثالث أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقاً بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم والدليل عليه أنه يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهاداً ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أؤكد والجواب عن الرابع لعله عليه السلام كان ممنوعاً من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذوناً مطلقاً لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد فلا جرم أنه توقف والجواب عن الخامس لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد والجواب عن السادس أن هذا الاحتمال مدفوع باجماع الأمة على خلافه فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه أحدها أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون وعند هذا إما أن يقدم على الفعل والترك معاً وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل أو يرجح

الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس وهي قائمة أيضاً في حق الأنبياء عليهم السلام وهذا يتوجه على جواز الاجتهاد من جبريل عليه السلام وثانيها قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ أمر للكل بالإعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم وثالثها أن الإستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الإعتبار وليس الأمر كذلك لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن قلنا لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الإجتهاد وأيضاً قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالإجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع بالحكم ورابعها قال عليه السلام ( العلماء ورثة الأنبياء ) فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الإجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك هذا تمام القول في هذه المسألة وخامسها أنه تعالى قال عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول لم أذنت لهم وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب
المأخذ الثاني قال الجبائي لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه أحدها أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضاً عن الآخر وثانيها أن اجتهاد داود عليه السلام إن كان صواباً لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام فلما مدحهما بقوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً دل على أنه لم يقع الخطأ من داود وثالثها لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لأن الله تعالى قال وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ورابعها كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد من مع قوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ والجواب عن الأول أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة وعن الثاني لعله كان خطأ من باب الصغائر وعن الثالث بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به وعن الرابع أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال إن داود عليه السلام كان مأموراً من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً فقوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين الأول لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان الثاني أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط
المسألة الثالثة إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي

القولين أولى والجواب الاجتهاد أرجح لوجوه أحدها أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص لأنه لو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه
السؤال الرابع بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد الجواب أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجنى عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به كما قال الشافعي رضي الله عنه فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا
السؤال الخامس على تقدير أن ثبت قطعاً أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون الجواب أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ قال ولو كان الكل مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً واعلم أن الإستدلالين ضعيفان أما الأول فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانامصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا وأما الثاني فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكماً وعلماً بما حكم به بل يجوز أن يكون آتيناه حكماً وعلماً بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيباً في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا
السؤال السادس لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها الجواب قال الحسن البصري هذه الآية محكمة والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة واعلم أن كثيراً من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه وإن كان ليلاً يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه ليلاً كان أو نهاراً إذا لم يكن متعدياً بالإرسال لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جرج العجماء جبار ) واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال ( كانت ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ) وهذا تمام القول في هذه الآية ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين الأول قوله تعالى وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وفيه مسائل

المسألة الأولى في تفسير هذا التسبيح وجهان أحدهما أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه وثانيها قال الكلبي إذا سبح داود أجابته الجبال وثالثها قال سليمان بن حيان كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً القول الثاني وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره وأما المعتزلة فقالوا لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه والأول محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة وما لا يكون حياً عالماً قادراً يستحيل منه الفعل والثاني أيضاً محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ومثله قوله تعالى فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ ( سبإ 10 ) معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه أي سيرى وهو كقوله إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ( المزمل 7 ) أي تصرفاً ومذهباً إذا ثبت هذا فنقول إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضاً ممنوع
المسألة الثانية أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال كيف سخرهن فقال يسبحن والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه فإن قلت لم قدمت الجبال على الطير قلت لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق
أما قوله وَكُنَّا فَاعِلِينَ فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام
الإنعام الثالث قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اللبوس اللباس قال ألبس لكل حالة لبوسها
المسألة الثانية لتحصنكم قرىء بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها فالنون لله عز وجل والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس

المسألة الثالثة قال قتادة أول من صنع الدرع داود عليه السلام وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقاً ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه فقال الصمت حكمة وقليل فاعله قالوا إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين
المسألة الرابعة البأس ههنا الحرب وإن وقع على السوء كله والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من بأسكم أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح
المسألة الخامسة فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه فتوارث الناس عنه ذلك فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام وقال قتادة ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين
الإنعام الأول قوله تعالى وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ أي جعلناها طائعة منقادة له بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة وإن أرادها لينة كانت لينة والله تعالى مسخرها في الحالتين فإن قيل العاصف الشديدة الهبوب وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ فكيف يكون الجمع بينهما والجواب من وجهين الأول أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة الثاني أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً لأجل هبوبها على حكم إرادته
المسألة السادسة قرىء الريح والرياح بالرفع والنصب فيهما فالرفع على الابتداء والنصب للعطف على الجبال فإن قيل قال في دواد وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ وقال في حق سليمان وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وقال فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع وسليمان باللام قلنا يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف إليه بلام التمليك أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا إقناعي
أما قوله إِلَى الاْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ أي إلى المضي إلى بيت المقدس قال الكلبي كانت تسير في اصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه
أما قوله وَكُنَّا بِكُلّ شَى ْء عَالِمِينَ أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا وفي

خلقنا وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة
الإنعام الثاني قوله تعالى وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون
المسألة الثانية قوله وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له فيكون في موضع النصب نسقاً على الريح قال الزجاج ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين أحدهما النسق على الريح وأن يكون المعنى ولسليمان الريح وله من يغوصون له من الشياطين ويجوز أن يكون رفعاً على الابتداء ويكون له هو الخبر
المسألة الثالثة يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ويحتمل أنهم فرقة أخرى ويكون الكل داخلين في لفظة من وإن كان الأول هو الأقرب
المسألة الرابعة ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم لكنه قد روى أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين أحدهما إطلاق لفظ الشياطين والثاني قوله وكنا لهم حافظين فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد وإنما يجب ذلك في الكافر
المسألة الخامسة في تفسير قوله وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وجوه أحدها أنه تعالى وكل بهم جمعاً من الملائكة أو جمعاً من مؤمني الجن وثانيها سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته وثالثها قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء فإن قيل وعن أي شيء كانوا محفوظين قلنا فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه وثانيها قال الكلبي كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه وثالثها كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل
المسألة السادسة سأل الجبائي نفسه وقال كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل وإنما يمكنهم الوسوسة وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزاً لسليمان عليه السلام فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى متنبى النبوة وجعله دلالة لكان كمعجزات الرسل فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه أحدها لم قلت إن الجن من الأجسام ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ويكون الجن منهم فإن قلت لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى قلت هذا ضعيف لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية سلمنا أنه جسم لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا

بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام فإن قال لئلا يفضي إلى التلبيس قلنا التلبيس غير لازم لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعي أن يقول لم لا يجوز أن يقال إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام فأنطق الحجر ولين الحديد وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام أما الهواء فقوله تعالى فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها وقد سخرهم الله تعالى فكان يأمرهم بالغوص في المياه والنار تنطفيء بالماء وهم ما كان يضرهم ذلك وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد
( القصة السادسة قصة أيوب عليه السلام )
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَة ً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفي غيره من ا لقرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان غيره له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفاً لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب ابن أنوص وكان من ولد عيص بن إسحق وكانت أمه من ولد لوط وكان الله تعالى قد اصطفاه وجعله نبياً وكان مع ذلك قد أعطاه من الدنيا حظاً وافراً من النعم والدواب والبساتين وأعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء وكان رحيماً بالمساكين وكان يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وعرفوا فضله قال وهب وإن لجبريل عليه السلام بين يدي الله تعالى مقاماً ليس لأحد من الملائكة مثله في القربة والفضيلة وهو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقاه جبريل عليه السلام ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام ثم من حوله من الملائكة المقربين فإذا شاع ذلك فهم يصلون عليه ثم صلت ملائكة السموات ثم ملائكة الأرض وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيثما أراد ومن هناك وصل إلى

آدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع فكان يصعد بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحجب عند ذلك عن جميع السموات إلا من استرق السمع قال فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب فأدركه الحسد فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه فقال يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك فقال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض الملعون حتى وقع إلى الأرض وجمع عفاريت الشياطين وقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب قال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرقت كل شيء آتى عليه فقال إبليس فأت الإبل ورعاءها فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيوب فوجده قائماً يصلي فلما فرغ من الصلاة قال يا أيوب هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته بإبلك ورعائها فقال أيوب إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه قال إبليس فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها وتركت الناس مبهوتين متعجبين منها فمن قائل يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ومن قائل يقول لو كان إله أيوب يقدر على شيء لمنع من وليه ومن قائل آخر يقول بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوه به ويفجع به صديقه فقال أيوب عليه السلام الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود في التراب وعرياناً أحشر إلى الله تعالى ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً وآجرني فيك ولكن الله علم منك شراً فأخرك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه فقال إبليس فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ورد عليه أيوب الرد الأول فرجع إبليس صاغراً فقال عفريت آخر عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال فاذهب إلى الحرث والثيران فأتاهم فأهلكهم ثم رجع إبليس متمثلاً حتى جاء أيوب وهو يصلي فقال مثل قوله الأول فرد عليه أيوب الرد الأول فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله تعالى وقال يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة المضلة فقال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ولده فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه فاغتنم ذلك إبليس ثم لم يلبث أيوب عليه السلام حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال يا إلهي إنما يهون على أيوب خطر المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك فقال تعالى انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب عليه السلام ساجداً لله تعالى فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وخرج به من فرقه إلى قدمه

ثآليل وقد وقعت فيه حكة لا يملكها وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم بالفخار والحجارة ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير ونتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه فقال يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ويا ليتني كنت عرفت الذنب الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً وسلطت علي ما لو سلطته على جبل لضعف من حمله إلهي تقطعت أصابعي وتساقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ويعيرني بفقري وهلاك أولادي قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله وفي جملة هذا الكلام ليتك لو كرهتني لم تخلقني ثم قال ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه عن حلية الصابرين والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثم قال إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص 44 ) واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وفي مدة بلائه فالرواية الأولى روى ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إيه فقال أحدهما للآخر ذات يوم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذاك فقال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ولم يكشف ما به فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام فقال أيوب ما أدري ما تقولون غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق وفي رواية أخرى أن الرجلين لما دخلا عليه وجدا ريحاً فقالا لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة قال فما شق على أيوب شيء مما ابتلى به أشد مما سمع منهما فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني فصدقه وهما يسمعان ثم خر أيوب عليه السلام ساجداً ثم قال اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال فكشف الله ما به الرواية الثانية قال الحسن رحمه الله مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب وكان أيوب مواظباً على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له ما خبرك قال أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً لله تعالى ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة وما يقربه إلا امرأته وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد لله فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له أين مكركا أين عملك الذي أهلكت به من مضى قال بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي قالوا أدليت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته قال من قبل امرأته قالوا

فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقر به أحد غيرها قال أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال أين بعلك يا أمة الله قالت هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع أن يكون ذلك كله جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال وذكرها جمال أيوب وشبابه قال الحسن رحمه الله فصرخت فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ قال فجاءت تصرخ إلى أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ألا يرحمك أين المال أين الماشية أين الولد أين الصديق أين اللون الحسن أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرماد وتردد فيه الدواب أذبح هذه السخلة واسترح فقال أيوب عليه السلام أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيها ويلك أترين ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة من أعطانا ذلك قالت الله قال فكم متعنا به قالت ثمانين سنة قال فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك والله ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها فذهبت فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال رَبّ إِنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقال ارفع رأسك فقد استجبت لك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه ثم ضرب برجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان ثم كسى حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والولد والمال إلا وقد ضعفه الله تعالى حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب قال فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف ثم إن امرأته قالت هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وإذا بالأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله عنه فأرسل إليها أيوب عليه السلام ودعاها وقال ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت أردت ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة فقال لها أيوب عليه السلام ما كان منك فبكت وقالت بعلي فقال أتعرفينه إذا رأيتيه قالت وهل يخفى على أحد يراها فتبسم وقال أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال إنك أمرتيني أن أذبح سخلة لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين الرواية الثالثة قال الضحاك ومقاتل بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهب رحمه الله بقي في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس لعنه الله ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها أنت صاحبة أيوب قالت نعم قال فهل تعرفيني قالت لا قال أنا إله الأرض أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع مالكما من مال وولد فإن ذلك عندي قال وهب وسمعت أنه قال لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه

من البلاء وفي رواية أخرى بل قال لها لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها فقال لها أيوب أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ثم أقسم لئن عافاني الله لأجدلنك مائة جلدة وقال عند ذلك مَسَّنِى َ الضُّرُّ يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر الرواية الرابعة قال وهب كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام فلم تجد شيئاً فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال مَسَّنِى َ الضُّرُّ الرواية الخامسة قال إسماعيل السدي لم يقل أيوب مسني الضر إلا لأشياء ثلاث أحدها قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك الذي أصابك وثانيها كان لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا فقالت كل فإنه حلال فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت كل فإنه حلال فقال لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم وقيل إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر وقال لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم إن امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها وثالثها حين قالت له امرأته ما قالت فحينئذ دعا الرواية السادسة قيل سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال قد جعلني الله تعالى طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال مسني الضر فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبراً لما صبرت
المسألة الثانية إعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه أحدها قال الجبائي ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه الله عليه لقوله تعالى حكاية عنه مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ وهذا جهل أما أولاً فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام ومن هذا حاله يكون إلهاً وأما ثانياً فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) والواجب تصديق خبر الله تعالى دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لا بد وأن يكون قادراً على خلق الأجسام وهل هذا إلا محض التحكم وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة وثانيها قالوا ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضاً أن يسأل ربه

من قبل نفسه فإن قيل أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره قلنا يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع وثالثها قالوا انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير جائز لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قوله تعالى أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ أي ناداه بأني مسني الضر وقرىء إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناه والضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال
المسألة الرابعة أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فإن قيل أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً والجواب قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( يوسف 86 ) أما قوله وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ فالدليل على أنه سبحانه أَرْحَمُ الرحِمِينَ أمور أحدها أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعاً للرقة الجنسية عن الطبع وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال فكان سبحانه أرحم الراحمين وثانيها أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ثم بعد وصول تلك العطية إليه فلولا أنه سبحانه جعله سبباً للراحة لما حصل النفع بذلك فإذاً رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين وثالثها أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه فكان الراحم هو الحق سبحانه من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه والجواب أن كونه سبحانه ضاراً لا ينافي كونه نافعاً بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة بل لا يسأل عما يفعل
أما قوله تعالى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فإنه يدل على أنه دعا ربه لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعاً منه على سبيل التعريض كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد

وغيرهما ثم فيه قولان أحدهما وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم والثاني روى الليث رضي الله عنه قال أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا والقول الأول أولى لأن قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضاً
وأما قوله تعالى وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والإحتساب وإنما خص العابدين بالذكر ( ى ) لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك
( القصة السابعة )
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضاً من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة أما إسمعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء وصبر في بناء البيت فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام قال ابن عمر رضي الله عنهما ( بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة ) وأما ذوا الكفل ففيه مسائل
المسألة الأولى فيها بحثان
الأول قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير والكفل أيضاً النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه أحدها وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ( إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك فأعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك فقام شاب وقال أنا أتكفل لك بهذا فقال في القوم من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل فقال إن لي غريماً قد مطلني

حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به فذهب وبقي منتظراً حتى فاتته القيلولة ثم أتاه فقال له هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح فأتاه إبليس وعرفه نفسه وقال له حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه فسمي ذا الكفل ) وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة وثالثها قال مجاهد لما كبر اليسع عليه السلام قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثاً يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب وذكر علي كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث قد غلب علي النعاس فلا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت فقال له أتنام والخصوم على الباب فعرفه فقال أنت إبليس قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به
المسألة الثانية قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه أحدها أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقباً وأن يكون اسماً والأقرب أن يكون مفيداً لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء وثانيها أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسمعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته وثالثها أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي
المسألة الثالثة قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين إسرائيل ويعقوب إلياس وذو الكفل عيسى والمسيح يونس وذو النون محمد وأحمد
وأما قوله تعالى كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه وقوله وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا قال مقاتل الرحمة النبوة وقال آخرون بل يتناول جميع أعمال البر والخير
( القصة الثامنة قصة يونس عليه السلام )
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ

اعلم أن هنها مسائل
المسألة الأولى أنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة وقد ذكرنا أن الاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً وبين أن يكون مفيداً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف
المسألة الثانية اختلفوا في أن وقوعه عليه السلام في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء رسالة الله تعالى أو بعده أما القول الأول فقال ابن عباس رضي الله عنه كان يونس عليه السلام وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً فإني ألقى في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال يونس بن متى فإنه قوي أمين فدعا الملك بيونس وأمره أن يخرج فقال يونس هل أمرك الله بإخراجي قال لا قال فهل سماني لك قال لا قال فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هيأوا سفينة فركب معهم فلما تلججت السفينة تكفأت بهم وكادوا أن يغرقوا فقال الملاحون ههنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيها رجل عاص ومن رسمنا أنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأن يغرق ( و ) أحد خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام فقال أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك ثم لما نجاه الله تعالى من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم ثم أوحى الله إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه يونس عليه السلام نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم يونس عليه السلام وقال لملكهم إن الله تعالى أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل فقالوا ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا الله عنكم فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم فقالوا انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شيء وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي فلما آيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت الأغنام والبقر فرفع الله تعالى عنهم

العذاب فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل فعلى هذا القول كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت ودليل هذا القول قوله تعالى في سورة الصافات فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 145 147 ) وفي هذا القول رواية أخرى وهي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم فقال يونس عليه السلام التمس دابة فقال الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة وباقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى فألقاه هناك أما القول الثاني وهو أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم قالوا إنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب فلما كشف العذاب عنهم بعد ما توعدهم به خرج منهم مغاضباً ثم ذكروا في سبب الخروج والغضب أموراً أحدها أنه استحى أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الكذب وثانيها أنه كان من عادتهم قتل الكاذب وثالثها أنه دخلته الأنفة ورابعها لما لم ينزل العذاب بأولئك وأكثر العلماء على القول بأن قصة الحوت وذهاب يونس عليه السلام مغاضباً بعد أن أرسله الله تعالى إليهم وبعد رفع العذاب عنهم
المسألة الثالثة احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه أحدها أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه ويقال هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم فهو أيضاً كان محظوراً لأن الله تعالى قال فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظوراً وثانيها قوله تعالى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله تعالى وثالثها قوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ والظلم من أسماء الذم لقوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) ورابعها أنه لو لم يصدر منه الذنب فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت وخامسها قوله تعالى في آية أخرى فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( الصافات 142 ) والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب وسادسها قوله وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ فإن لم يكن صاحب الحوت مذنباً لم يجز النهي عن التشبه به وإن كان مذنباً فقد حصل الغرض وسابعها أنه قال وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ وقال فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 35 ) فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم وكان موسى من أولي العزم ثم قال في حقه لو كان ابن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي وقال في يونس ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وهذا خارج عن تفسير الآية والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه لكنا نقطع على أنه لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً وأما ما روي أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( الأحزاب 36 ) وقوله فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ

( النساء 65 ) فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها وقرأ أبو شرف مغضباً
أما قوله مغاضبة القوم أيضاً كانت محظورة لقوله تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم وما أمره بأن يبقى معهم أبداً مظاهر الأمر لا يقتضي التكرار فلم يكن خروجه من بينهم معصية وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز من حيث إنه لم يفعله إلا غضباً لله تعالى وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم ولهذا قال تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ كأن الله تعالى أراد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل المنازل وأعلاها والجواب عن الشبهة الثانية وهي التمسك بقوله تعالى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أن نقول من ظن عجز الله تعالى فهو كافر ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه أحدها فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق عليه وهو كقوله تعالى اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ( العنكبوت 12 ) أي يضيق وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الفجر 16 ) أي ضيق وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( الطلاق 7 ) أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر وكان الصلاح خلاف ذلك وثانيها أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى وثالثها أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفراء والزجاج قال الزجاج نقدر بمعنى نقدر يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري ( فظن أن لن نقدر عليه بضم ) النون والتشديد من التقدير وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب ( يقدر عليه ) بالتخفيف على المجهول وروي أنه دخل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه فقال معاوية لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فعرفت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك فقال وما هي قال يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من القدر لا من القدرة ورابعها فظن أن لن نقدر أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر وخامسها أنه استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد وسادسها أن على قول من يقول هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم إنه يرده بالحجة والبرهان والجواب عن الثالث وهو التمسك بقوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فهو أن نقول إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة

التأويل لأنا لو أجريناها على ظاهرها لوجب القول بكون النبي مستحقاً للعن وهذا لا يقوله مسلم وإذا وجب التأويل فنقول لا شك أنه كان تاركاً للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلماً والجواب عن الرابع أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد به المحنة لكن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل لأجل ذنب أنها عقوبة والجواب عن الخامس أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ( البقرة 17 ) وقوله يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( البقرة 257 ) ومنهم من اعتبر أنواعاً مختلفة من الظلمات فإن كان النداء في الليل فهناك ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت وإن كان في النهار أضيف إليه ظلمة أمعاء الحوت أو أن حوتاً ابتلع الحوت الذي هو في بطنه أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة أما قول من قال إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام وإن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات فما قدمناه يغني عن ذلك
أما قوله أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ فالمعنى بأنه لا إله إلا أنت أو بمعنى أي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ) وعن الحسن ما نجاه الله تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم
أما قوله سبحانك فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أنه ظن العجز وإنما قال سُبْحَانَكَ لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جوراً أو شهوة للانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة
أما قوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فالمعنى ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال كنت من الظالمين وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة يدل عليه قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وفيه وجه آخر وهو أنه عليه السلام وصفه بقوله لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ بكمال الربوبية ووصف نفسه بقوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بضعف البشرية والقصور في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال على ما قال المتنبي وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وروى عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لما أراد الله حبس يونس عليه السلام أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً ) فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر فسمع يونس عليه السلام حساً فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا مثله
أما قوله وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذ دعانا كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا روى سعد بن أبي وقاص عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها عبد مسلم قط وهو مكروب إلا استجاب الله دعاءه ) قال صاحب ( الكشاف ) قرى ء

ننجي وننجي ونجى والنون لا تدغم في الجيم ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء فتعسف بارد التعسف
( القصة التاسعة قصة زكريا عليه السلام )
وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ
اعلم أنه تعالى بين انقطاع زكريا عليه السلام إلى ربه تعالى لما مسه الضر بتفرده وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ويكون قائماً مقامه بعد موته فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك وإن انتهت الحال به وبزوجته من كبر وغيره إلى اليأس من ذلك بحكم العادة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان سنه مائة وسن زوجته تسعاً وتسعين
أما قوله وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ففيه وجهان أحدهما أنه عليه السلام إنما ذكره في جملة دعائه على وجه الثناء على ربه ليكشف عن علمه بأن مآل الأمور إلى الله تعالى والثاني كأنه عليه السلام قال ( إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث )
وأما قوله تعالى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ أي فعلنا ما أراده لأجل سؤاله وفي ذلك إعظام له فلذلك تقول العلماء بأن الاستجابة ثواب لما فيه من الإعظام
وأما قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى فهو كالتفسير للاستجابة وفي تفسير قوله وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ثلاثة أقوال أحدها أصلحها للولادة بأن أزال عنها المانع بالعادة وهذا أليق بالقصة والثاني أنه أصلحها في أخلاقها وقد كانت على طريقة من سوء الخلق وسلاطة اللسان تؤذيه وجعل ذلك من نعمه عليه والثالث أنه سبحانه جعلها مصلحة في الدين فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه في كونه داعياً إلى الله تعالى فكأنه عليه السلام سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر لأنه إذا قيل أصلح الله فلاناً فالأظهر فيه ما يتصل بالدين واعلم أن قوله وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ وبين تعالى مصداق ما ذكرناه فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وأراد بذلك زكريا وولده وأهله فبين أنه آتاهم ما طلبوه وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم أنهم يسارعون في الخيرات والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة
أما قوله تعالى وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً قرىء رغباً ورهباً وهو كقوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ

والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين أحدهما الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه والثاني الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفاً من الإثم
( القصة العاشرة قصة مريم عليها السلام )
وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ ءَايَة ً لِّلْعَالَمِينَ
اعلم أن التقدير واذكر التي أحصنت فرجها ثم فيه قولان أحدهما أنها أحصنت فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ( مريم 20 ) والثاني من نفخة جبريل عليه السلام حيث منعته من جيب درعها قبل أن تعرفه والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ
وأما قوله فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا فلقائل أن يقول نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال تعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) أي أحييته وإذا ثبت ذلك كان قوله فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ظاهر الأشكال لأنه يدل على إحياء مريم عليها السلام والجواب من وجوه أحدها معناه فنفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها كما يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي في المزمار في بيته وثانيها فعلنا النفخ في مريم عليها السلام من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها ثم بين تعالى بأخصر الكلام ما خص به مريم وعيسى عليهما السلام من الآيات فقال وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ أما مريم فآياتها كثيرة أحدها ظهور الحبل فيها لا من ذكر فصار ذلك آية ومعجزة خارجة عن العادة وثانيها أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة وهو قوله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وثالثها ورابعها قال الحسن إنها لم تلتقم ثدياً يوماً قط وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى عليه السلام وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها فبين سبحانه أنه جعلهما آية للناس يتدبرون فيما خصا به من الآيات ويستدلون به على قدرته وحكمته سبحانه وتعالى فإن قيل هلا قيل آيتين كما قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ( الإسراء 12 ) قلنا لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل وهنا آخر القصص
إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) الأمة الملة وهو إشارة إلى ملة الإسلام أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي

يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملة واحدة غير مختلفة وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون ونصب الحسن ( أمتكم ) على البدل من هذه ورفع أمة خبراً وعنه رفعهما جميعاً خبرين أو نوى للثاني المبتدأ
أما قوله تعالى وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفات كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ويقول لهم ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى
أما قوله تعالى كُلٌّ إِلَيْنَا راجِعُونَ فقد توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو محاسبهم ومجازيهم وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا يا رسول الله من تلك الفرقة الناجية قال الجماعة الجماعة الجماعة ) فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات وأن في قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الناجية إنها الجماعة إشارة إلى أن هذه أشار بها إلى أمة الإيمان وإلا كان قوله في تعريف الفرقة الناجية إنها الجماعة لغواً إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد وطعن بعضهم في صحة هذا الخبر فقال إن أراد بالثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فلم يبلغ هذا القدر وإن أراد الفروع فإنها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك وقيل أيضاً قد روى ضد ذلك وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة والجواب المراد ستفترق أمتي في حال ما وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال لا يجوز أن يزيد وينقص
فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة ٍ مِّنْ هَاذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر أمر الأمة من قبل وذكر تفرقهم وأنهم أجمع راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ بين أن من جمع بين أن يكون مؤمناً وبين أن يعمل الصالحات فيدخل في الأول العلم والتصديق بالله ورسوله وفي الثاني فعل الواجبات وترك المحظورات فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ أي لا بطلان لثواب عمله وهو كقوله تعالى وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا

( الإسراء 19 ) فالكفران مثل في حرمان الثواب والشكر مثل في إعطائه وقوله فَلاَ كُفْرَانَ المراد نفي الجنس ليكون في نهاية المبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها
وأما قوله تعالى وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ فالمراد وإنا لسعيه كاتبون فقيل المراد حافظون لنجازي عليه وقيل كاتبون إما في أم الكتاب أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة والمراد بذلك ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى
أما قوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ فاعلم أن قوله وَحَرَامٌ خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أو شيء آخر أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعاً كان رجوعهم واجباً فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا أما الأول فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر وأما الثاني فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين الأول أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر أما الآية فقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ( الأنعام 151 ) وترك الشرك واجب وليس بمحرم وأما الشعر فقول الخنساء وإن حراماً لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجباً وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين أحدهما أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن وثانيها لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل الوجه الثاني أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله لاَ يَرْجِعُونَ صلة زائدة كما أنه صلة في قوله مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( الأعراف 12 ) والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَة ً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( يس 50 ) أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان وهذا قول طائفة من المفسرين وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبراً لقوله أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أما إذا جعلناه خبراً لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضاً على هذا أي أنهم لا يرجعون
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن حتى متعلقة بحرام فأما على تأويل أبي مسلم فالمعنى أن رجوعهم إلى الآخرة واجب حتى أن وجوبه يبلغ إلى حيث أنه إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة

أبصار الذين كفورا والمعنى أنهم يكونون أول الناس حضوراً في محفل القيامة فحتى متعلقة بحرام وهي غاية له ولكنه غاية من جنس الشيء كقولك دخل الحاج حتى المشاة وحتى ههنا هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكى هو هذه الجملة من الشرط والجزاء أعني قوله وَإِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فهناك يتحقق شخوص أبصار الذين كفروا وذلك غير جائز لأن الشرط إنما يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل في يوم القيامة والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين قلنا التفاوت القليل يجري مجرى المعدوم وأما على التأويلات الباقية فالمعنى أن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم الساعة
المسألة الثانية قوله حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ المعنى فتح سد يأجوج ومأجوج فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث في فتحت لما حذف المضاف لأن يأجوج ومأجوج مؤنثان بمنزلة القبيلتين وقيل حتى إذا فتحت جهة يأجوج
المسألة الثالثة هما قبيلتان من جنس الإنس يقال الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد
المسألة الرابعة قيل السد يفتحه الله تعالى ابتداء وقيل بل إذا جعل الله تعالى الأرض دكاً زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد
أما قوله تعالى وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ فحشو في أثناء الكلام والمعنى إذا فتحت يأجوج واقترب الوعد الحق شخصت أبصار الذين كفروا والحدب النشز من الأرض ومنه حدبة الأرض ومنه حدبة الظهر وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما مِن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ اعتباراً بقوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ( يس 51 ) وقرىء بضم السين ونسل وعسل أسرع ثم فيه قولان قال أكثر المفسرين إنه كناية عن يأجوج ومأجوج وقال مجاهد هو كناية عن جميع المكلفين أي يخرجون من قبورهم من كل موضع فيحشرون إلى موقف الحساب والأول هو الأوجه وإلا لتفكك النظم وأن يأجوج ومأجوج إذا كثروا على ما روى في ( الخبر ) فلا بد من أن ينشروا فيظهر إقبالهم على الناس من كل موضع مرتفع
أما قوله تعالى وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فلا شبهة أن الوعد المذكور هو يوم القيامة
أما قوله فَإِذَا هِى َ فاعلم أن إذا ههنا للمفاجأة فسمى الموعد وعداً تجوزاً وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( الروم 36 ) فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ولو قيل إِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أو فهي شاخصة كان سديداً أما لفظة هِى َ فقد ذكر النحويون فيها ثلاثة أوجه أحدها أن تكون كناية عن الأبصار والمعنى فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة أبصارهم كني عن الإبصار ثم أظهر والثاني أن تكون عماداً ويصلح في موضعها هو فيكون كقوله إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ ومثله فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وجاز التأنيث لأن الأبصار مؤنثة وجاز التذكير للعماد وهو قول الفراء وقال سيبويه الضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني أن القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك ومعنى الكلام أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم ومن توقع ما يخافونه ويقولون كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة ٍ مّنْ هَاذَا يعني في الدنيا

حيث كذبناه وقلنا إنه غير كائن بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعبادة الأوثان واعلم أنه لا بد قبل قوله يا ويلنا من حذف والتقدير يقولون يا ويلنا
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَاؤُلا ءِ ءَالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ
اعلم أن قوله إِنَّكُمْ خطاب لمشركي مكة وعبدة الأوثان
أما قوله تعالى وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ روي أنه عليه السلام دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأفحمه ثم تلا عليهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية فأقبل عبد الله بن الزبعري فرآهم يتهامسون فقال فيم خوضكم فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عبد الله أما والله لو وجدته لخصمته فدعوه فقال ابن الزبعري أأنت قلت ذلك قال نعم قال قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة ثم روى في ذلك روايتان إحداهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سكت ولم يجب فضحك القوم فنزل قوله تعالى وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 57 58 ) ونزل في عيسى والملائكة إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى ( الأنبياء 101 ) الآية هذا قول ابن عباس الرواية الثانية أنه عليه السلام أجاب وقال بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى ( الأنبياء 101 ) الآية يعني عزيراً والمسيح والملائكة واعلم أن سؤال ابن الزبعري ساقط من وجوه أحدها أن قوله إِنَّكُمْ خطاب مشافهة وكان ذلك مع مشركي مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط وثانيها أنه لم يقل ومن تعبدون بل قال ما تعبدون وكلمة ما لا تتناول العقلاء
أما قوله تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 2 ) فهو محمول على الشيء ونظيره ههنا أن يقال إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعري وثالثها أن من عبد الملائكة لا يدعي أنهم آلهة وقال سبحانه لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا ورابعها هب أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ووعد الله إياهم بكل مكرمة

وهذا هو المراد من قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) وخامسها الجواب الذي ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين فإن قيل الشياطين عقلاء ولفظ ما لا يتناولهم فكيف قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك قلنا كأنه عليه السلام قال لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه وأما ما قيل إنه عليه السلام سكت عند إيراد ابن الزبعري هذا السؤال فهو خطأ لأنه لا أقل من أنه عليه السلام كان يتنبه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون لأنه عليه السلام كان أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ولا يظهر شيء منها له عليه السلام فإن قيل جوزوا أن يسكت عليه السلام انتظاراً للبيان قلنا لما كان البيان حاضراً معه لم يجز عليه السكوت لكي لا يتوهم فيه الانقطاع عن سؤالهم ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعري فقال إن الله تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها واعلم أن هذا ضعيف من وجهين الأول أن القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار الثاني وهو أن الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة وإن صح أن يدخلها فإن خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم
المسألة الثانية الحكمة في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور أحدها أنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب وثانيها أن القوم قدروا أنهم يشفعون لهم في الآخرة في دفع العذاب فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم وثالثها أن إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بعبادها ورابعها قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى ويلزق بعبادها وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها
أما قوله تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ فالمراد يقذفون في نار جهنم فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء فلما رمى بها كرمي الحصباء جعلهم حصب جهنم تشبيهاً قال صاحب ( الكشاف ) الحصب الرمي وقرىء بسكون الصاد وصفاً بالمصدر وقرىء حطب وحضب بالضاد المنقوطة متحركاً وساكناً
أما قوله تعالى أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ فإنما جاز مجيء اللام في لها لتقدمها على الفعل تقول أنت لزيد ضارب كقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ( المؤمنون 8 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ ( المؤمنون 5 ) أي أنتم فيها داخلون والمعنى أنه لا بد وأن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها
أما قوله تعالى لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا فاعلم أن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ بالأصنام أليق لدخول لفظة ما وهذا الكلام بالشياطين أليق لقوله هؤلاء ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام فيغلب بأن يذكروا بعبارة العقلاء ونبه الله تعالى على أن من يرمى إلى النار لا يمكن أن يكون إلهاً وههنا سؤال وهو أن قوله لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا لكنهم وردوها فهم ليسوا آلهة حجة وهذه الحجة إما أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه لأنه كان عالماً بأنها ليست آلهة

وإن ذكرها لغيره فإما أن يذكرها لمن يصدق بنبوته أو لمن يكذب بنبوته فإن ذكرها لمن صدق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة لأن كل من صدق بنبوته لم يقل بإلهية هذه الأصنام وإن ذكرها لمن يكذب بنبوته فذلك المكذب لا يسلم أن تلك الآلهة يردون النار ويكذبونه في ذلك فكان ذكره هذه الحجة ضائعاً كيف كان وأيضاً فالقائلون بآلهيتها لم يعتقدوا فيها كونها مدبرة للعالم وإلا لكانوا مجانين بل اعتقدوا فيها كونها تماثيل الكواكب أو صور الشفعاء وذلك لا يمنع من دخولها في النار وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا المعنى لو كان هؤلاء يعني الأصنام آلهة على الحقيقة ما وردوها أي ما دخل عابدوها النار ثم إنه سبحانه وصف ذلك العذاب بأمور ثلاثة أحدها الخلود فقال وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ يعني العابدين والمعبودين وهو تفسير لقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وثانيها قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ قال الحسن الزفير هو اللهيب أي يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا ورجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفاً قال الخليل الزفير أن يملأ الرجل صدره غماً ثم ينتفس قال أبو مسلم وقوله لهم عام لكل معذب فنقول لهم زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله وَهُمْ فِيهَا يَسْمَعُونَ يرجع إلى المعبودين أي لا يسمعون صراخهم وشكواهم ومعناه أنهم لا يغيثونهم وشبهه سمع الله لمن حده أي أجاب الله دعاءه وثالثها قوله وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ وفيه وجهان أحدهما أنه محمول على الأصنام خاصة على ما حكيناه عن أبي مسلم والثاني أنها محمولة على الكفار ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن الكفار يحشرون صماً كما يحشرون عمياً زيادة في عذابهم وثانيها أنهم لا يسمعون ما ينفعهم لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة وثالثها قال ابن مسعود إن الكفار يجعلون في توابيت من نار والتوابيت في توابيت أخر فلذلك لا يسمعون شيئاً والأول ضعيف لأن أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاٌّ كْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ
اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقي ساكتاً حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جواباً عن سؤاله لأن هذه الآية كالإستثناء من تلك الآية وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن وارداً وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية وإذا ثبت هذا لم يبق ههنا إلا أحد أمرين الأول أن يقال إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين الثاني أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها لا أن

الآية مختصة بهم ومن قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله إِنَّ الَّذِينَ بهؤلاء فقط
أما قوله تعالى سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى فقال صاحب ( الكشاف ) الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمور خمسة أحدها قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون واحتجوا عليه بوجهين الأول قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مرمي 71 ) أثبت الورود وهو الدخول فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج الثاني أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن اخر لأن تحصيل الحاصل محال واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور أحدها أن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك وثانيها أنه تعالى قال أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها وثالثها قوله تعالى لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وقوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ يمنع من ذلك والجواب عن الأول لا نسلم أن ( يقال ) المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب وعن الثاني أنا بينا أن قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار وعن الثالث أن قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا مخصوص بما بعد الخروج
أما قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه الوجه الثاني في تفسير قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة وعلى هذا القول بطل قول من يقول إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة لأن هذه الآية مانعة منه وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) وقد تقدم الصفة الثانية قوله تعالى لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا والحسيس الصوت الذي يحس وفيه سؤالان الأول أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ولو سمعوه لم يتغير حالهم قلنا المراد تأكيد بعدهم عنها لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها السؤال الثاني أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار فكيف لا يسمعون حسيس النار الجواب إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال الصفة الثالثة قوله وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ والشهوة طلب النفس للذة يعني نعيمها مؤبد قال العارفون للنفوس شهوة وللقلوب شهوة وللأرواح شهوة وقال الجنيد سبقت العناية في البداية فظهرت الولاية في النهاية الصفة الرابعة قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وفيه وجوه أحدها أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) وثانيها أنه الموت قالوا إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول لأهل الدارين أتعرفون هذا فيقولون لا فيقول هذا الموت ثم يذبحه ثم ينادي يا أهل الجنة خلود ولا موت أبداً وكذلك لأهل النار

واحتج هذا القائل بأن قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ إنما ذكر بعد قوله وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 25 ) فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت وثالثها قال سعيد بن جبير هو إطباق النارعلى أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة قال القاضي عبد الجبار الأولى في ذلك إنه الفزع من النار عند مشاهدتها لأنه لا فزع أكبر من ذلك فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة وهذا ضعيف لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار
الصفة الخامسة قوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ قال الضحاك هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ويقولون لهم مبشرين هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ
يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَى ِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لِّلْعَالَمِينَ
اعلم أن التقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء أو وتتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء وقرىء يوم تطوى السماء على البناء للمفعول والسجل بوزن العتل والسجل بوزن الدلو وروى فيه الكسر وفي السجل قولان أحدهما أنه اسم للطومار الذي يكتب فيه والكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة فيكون معنى طي السجل للكتاب كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها لأن الطي ضد النشر الذي يكشف والمعنى نطوي السماء كما يطوى الطومار الذي يكتب فيه
القول الثاني أنه ليس اسماً للطومار ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما السجل اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي عن علي عليه السلام وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسم كاتب كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا بعيد لأن كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا معروفين وليس فيهم من سمي بهذا وقال الزجاج هو الرجل بلغة الحبشة وعلى هذه الوجوه فهو على نحو ما يقال كطي زيد الكتاب واللام في للكتاب زائدة كما في قوله ردف لكم وإذا قلنا المراد بالسجل الطومار فالمصدر وهو الطي مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف والتقدير كطي الطاوي السجل وهذا الأخير هو قول الأكثرين

أما قوله تعالى كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء انقطع الكلام عند قوله الكتاب ثم ابتدأ فقال كَمَا بَدَأْنَا ومنهم من قال إنه تعالى لما قال وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) عقبه بقوله يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ فوصف اليوم بذلك ثم وصفه بوصف آخر فقال كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) رحمه الله أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء فإن قلت ما بال خلق منكراً قلت هو كقولك أول رجل جاءني زيد تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى أول خلق أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع
المسألة الثالثة اختلفوا في كيفية الإعادة فمنهم من قال إن الله تعالى يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة ومنهم من قال إنه تعالى يعدمها بالكلية ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى وهذه الآية دلالة على هذا الوجه لأنه سبحانه شبه الإعادة بالإبتداء ولما كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك واحتج القائلون بالمذهب الأول بقوله تعالى وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر 67 ) فدل هذا على أن السموات حال كونها مطوية تكون موجودة وبقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وهذا يدل على أن أجزاء الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض
أما قوله تعالى وَعْداً عَلَيْنَا ففيه قولان أحدهما أن وعداً مصدر مؤكد لأن قوله نُّعِيدُهُ عدة للإعادة الثاني أن يكون المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه مع أن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ أي سنفعل ذلك لا محالة وهو تأكيد لما ذكره من الوعد
أما قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها يعني الزبور كالحلوب والركوب يقال زبرت الكتاب أي كتبته والمزبور بضم الزاي جمع زبر كقشر وقشور ومعنى القراءتين واحد لأن الزبور هو الكتاب
المسألة الثانية في الزبور والذكر وجوه أحدها وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد الزبور هو الكتب المنزلة والذكر الكتاب الذي هو أم الكتاب في السماء لأن فيها كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة وكتب الأنبياء عليهم السلام من ذلك الكتاب تنسخ وثانيها الزبور هو القرآن والذكر هو التوراة وهو قول قتادة والشعبي وثالثها الزبور زبور داود عليه السلام والذكر هو الذي يروى عنه عليه السلام قال كان الله تعالى ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر وعندي فيه وجه رابع وهو أن المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنا عالمين علماً لا يجوز السهو والنسيان علينا فإن من كتب شيئاً والتزمه ولكنه يجوز السهو عليه فإنه لا يعتمد عليه أما من لم يجز عليه السهو والخلف فإذا التزم شيئاً كان ذلك الشيء واجب الوقوع

أما قوله تعالى أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ففيه وجوه أحدها الأرض أرض الجنة والعباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى فالمعنى أن الله تعالى كتب في كتب الأنبياء عليهم السلام وفي اللوح المحفوظ أنه سيورث الجنة من كان صالحاً من عباده وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وهؤلاء أكدوا هذا القول بأمور أما أولاً فقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( الزمر 74 ) وأما ثانياً فلأنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت وغيرهم إذا حصل معهم في الجنة فعلى وجه التبع فأما أرض الدنيا فلأنها للصالح وغير الصالح وأما ثالثاً فلأن هذه الأرض مذكورة عقيب الإعادة وبعد الإعادة الأرض التي هذا وصفها لا تكون إلا الجنة وأما رابعاً فقد روى في الخبر أنها أرض الجنة فإنها بيضاء نقية وثانيها أن المراد من الأرض أرض الدنيا فإنه سبحانه وتعالى سيورثها المؤمنين في الدنيا وهو قول الكلبي وابن عباس في بعض الروايات ودليل هذا القول قوله سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ إلى قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) وقوله تعالى قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( الأعراف 128 ) وثالثها هي الأرض المقدسة يرثها الصالحون ودليله قوله تعالى وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( الأعراف 137 ) ثم بالآخرة يورثها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام
أما قوله تعالى إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ فقوله هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة والبلاغ الكفاية وما تبلغ به البغية وقيل في العابدين إنهم العالمون وقيل بل العاملون والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين لأن العلم كالشجر والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد والثمر بدون الشجر غير كائن
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والإستكبار وكان التوفيق قريناً له قال الله تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء إلى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 ) وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه فإن قيل كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال قلنا الجواب من وجوه أحدها إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ثم هو منتقم من العصاة وقال وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) ثم قد يكون سبباً للفساد وثانيها أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) لا يقال أليس أنه تعالى قال قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ

( التوبة 14 ) وقال تعالى لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ ( الأحزاب 73 ) لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه وثالثها أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وقال أبو هريرة رضي الله عنه ( قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أدع على المشركين قال إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً ) وقال في رواية حذيفة ( إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة ) ورابعها قال عبد الرحمن بن زيد إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) يعني المؤمنين خاصة قال الإمام أبو القاسم الأنصاري والقولان يرجعان إلى معنى واحد لما بينا أنه كان رحمة للكل لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله فأما من أعرض واستكبر فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة لو كان الله تعالى أراد من الكافرين الكفر ولم يرد منهم القبول من الرسول بل ما أراد منهم إلا الرد عليه وخلق ذلك فيهم ولم يخلقهم إلا كذلك كما يقوله أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة وذلك على خلاف هذا النص لا يقال إن رسالته عليه السلام رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم لأنا نقول إن كونه رحمة للجميع على حد واحد وما ذكرتموه للكفار فهو حاصل للمؤمنين أيضاً فإذا يجب أن يكون رحمة للكافرين من الوجه الذي صار رحمة للمؤمنين وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته ( صلى الله عليه وسلم ) كحصولها بعده بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته أعظم لأن بعد بعثته نزل بهم الغم والخوف منه ثم أمر بالجهاد الذي فني أكثرهم فيه فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد والجواب أن نقول لما علم الله سبحانه وتعالى أن أبا لهب لا يؤمن ألبتة وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره إياه بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال فكان قد أمره بالمحال وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل وحينئذ يعود الإلزام ثم نقول لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه قوله أولاً لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين قلنا ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين فدعواك بكون الوجه واحداً تحكم قوله نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل قلنا نعم ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار
المسألة الثالثة تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة قالوا لأن الملائكة من العالمين فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة فوجب أن يكون أفضل منهم والجواب أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 7 ) وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين وكذا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ( الأحزاب 56 )

قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَة ٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بما يكون إعذاراً وإنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم فقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَى َّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد وقد اجتمع المثالان في هذه الآية لأن إِنَّمَا يُوحَى إِلَى َّ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وَإِنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ بمنزلة إنما زيد قائم وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع فإن قيل لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد قلنا المقصود منه المبالغة أما قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء فقال صاحب ( الكشاف ) آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار ومنه قوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( البقرة 279 ) إذا عرفت هذا فنقول المفسرون ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال أبو مسلم الإيذان على السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( الأنفال 58 ) وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك وثانيها أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم لأني بعثت معلماً والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ( طه 134 ) وثالثها على سواء على إظهار وإعلان ورابعها على مهل والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم
أما قوله وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ففيه وجهان أحدهما أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ من يوم القيامة ومن عذاب الدنيا ثم قيل نسخه قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ( الأنبياء 97 ) يعني منهما فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه وثانيها المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب

أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت فلذلك أمره أن يقول إنه لا يعلم قربه أم بعده تبين بذلك أن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة وثالثها أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار وإن كنت لا أدري متى يكون وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه
أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص
أما قوله تعالى وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَة ٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ففيه وجوه أحدها لعل تأخير العذاب عنكم وثانيها لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا وثالثها قال الحسن لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار ورابعها لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة وخامسها أن يكون المراد وإن أدرى لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قل رب أحكم بالحق على الإكتفاء بالكسرة ( ورب احكم ) على الضم ( وربي أحكم ) أفعل التفضيل ( وربي أحكم ) من الإحكام
المسألة الثانية رَبّ احْكُم بِالْحَقّ فيه وجوه أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي بالحق أي بالعذاب كأنه قال اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب وقال قتادة أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 89 ) فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر وثانيها افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم
أما قوله تعالى وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ففيه وجهان أحدهما أي من الشرك والكفر وما تعراضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال قل داعياً لي رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وقل متوعداً للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت أي قل لأصحابك المؤمنين وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل أي من العون على دفع أباطيلهم وثانيها كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وخذلهم قال القاضي إنما ختم الله هذه السورة بقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول

كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً آمين

بداية الجزء الثالث والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة الحج
سبعون وست آيات وهي مكية
إلا ثلاث آيات هذان خصمان إلى قوله صراط الحميد
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتقي كل محرم ويتقي ترك كل واجب وإنما دخل فيه الأمران لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب الله تعالى فيدع لأجله المحرم ويفعل لأجله الواجب ولا يكاد يدخل فيه النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال اتَّقُواْ رَبَّكُمُ فالمراد اتقوا عذاب ربكم
أما قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى الزلزلة شدة حركة الشيء قال صاحب الكشاف ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( سبأ 33 ) وهي الزلزلة المذكورة في قوله إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ( الزلزلة 1 )
المسألة الثانية اختلفوا في وقتها فعن علقمة والشعبي أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا وهي التي يكون معها طلوع الشمس من مغربها وقيل هي التي تكون معها الساعة وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الصور ( إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعقة ونفخة القيام لرب العالمين وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال وترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة وتكون الأرض

كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح ) وقال مقاتل وابن زيد هذا في أول يوم من أيام الآخرة واعلم أنه ليس في اللفظ دلالة على شيء من هذه الأقسام لأن هذه الإضافة تصح وإن كانت الزلزلة قبلها وتكون من أماراتها وأشراطها وتصح إذا كانت فيها ومعها كقولنا آيات الساعة وأمارات الساعة
المسألة الثالثة روى ( أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور والناس بين باك وجالس حزين متفكر فقال عليه السلام ( أتدرون أي ذلك اليوم هو قالوا الله ورسوله أعلم قال ذلك يوم يقول الله لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم وما بعث النار يعني من كم كم فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فعند ذلك يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا وقالوا فمن ينجو يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفاً إلى الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون ألفاً قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله فقال سبقك بها عكاشة ) فخاض الناس في السبعين ألفاً فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قالوا فقال ( هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )
المسألة الرابعة أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب فيلزم أن تكون التقوى واجبة
المسألة الخامسة احتجت المعتزلة بقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة واحتجوا أيضاً بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( البقرة 20 ) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم فالمعدوم شيء واحتجوا أيضاً بقوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( الكهف 23 ) أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولاً غداً والذي يصير مفعولاً غداً يكون معدوماً في الحال فالمعدوم شيء والله أعلم والجواب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها فلا بد من التأويل بالاتفاق ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً وهذا هو الجواب عن البواقي
المسألة السادسة وصف الله تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه الله تعالى أما قوله

تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أموراً ثلاثة أحدها قوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة فإن قيل لم قال مرضعة دون مرضع قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة وقوله عَمَّا أَرْضَعَتْ أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل وثانيها قوله وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام وقال القفال يحتمل أن يقال من ماتت حاملاً أو مرضعة تبعث حاملاً أو مرضعة تضع حملها من الفزع ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله يَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وثالثها قوله وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وفيه مسائل

المسألة الأولى قرىء وترى بالضم تقول أريتك قائماً أو رأيتك قائماً والناس بالنصب والرفع أما النصب فظاهر وأما الرفع فلأنه جعل الناس اسم ما لم يسم فاعله وأنثه على تأويل الجماعة وقرىء سكرى وسكارى وهو نظير جوعى وعطشى في جوعان وعطشان سكارى وسكارى نحو كسالى وعجالى وعن الأعمش سكرى وسكرى بالضم وهو غريب
المسألة الثانية المعنى وتراهم سكارى على التشبيه وَمَا هُم بِسُكَارَى على التحقيق ولكن ما أرهقهم من هول عذاب الله تعالى هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وقال ابن عباس والحسن ونراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب فإن قلت لم قيل أولا ترون ثم قيل ترى على الإفراد قلنا لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها وهي معلقة آخراً بكون الناس على حال من السكر فلا بد وأن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم
المسألة الثالثة إن قيل أتقولون إن شدة ذلك اليوم تحصل لكل أحد أو لأهل النار خاصة قلنا قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون وقيل بل يحصل للكل لأنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله وليس لأحد عليه حق
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أخبر تعالى فيما تقدم عن أهوال يوم القيامة وشدتها ودعا الناس إلى تقوى الله ثم بين في هذه الآية قوماً من الناس الذين ذكروا في الأول وأخبر عن مجادلتهم الثاني أنه تعالى بين أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها فإن من الناس من يجادل في الله بغير علم ثم في قوله وَمِنَ النَّاسِ وجهان الأول أنهم الذين ينكرون البعث ويدل عليه قوله أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) إلى آخر الآية وأيضاً فإن ما قبل هذه الآية وصف البعث وما بعدها في الدلالة على البعث فوجب أن يكون المراد من هذه المجادلة هو المجادلة في البعث والثاني أنها نزلت في النضر بن الحرث كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه أساطير الأولين ويقول ما يأتيكم به محمد كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما
المسألة الثانية هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة فالمجادلة الباطلة هي المراد من قوله مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ( الزخرف 58 ) والمجادلة الحقة هي المراد من قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
المسألة الثالثة في قوله وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ قولان أحدهما يجوز أن يريد شياطين الإنس وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أن يكون المراد بذلك إبليس وجنوده قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس يقال صخرة مرداء أي ملساء ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز حد مثله
أما قوله كُتِبَ عَلَيْهِ ففيه وجهان أحدهما أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب إضلال من عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله والثاني كتب عليه في أم الكتاب واعلم أن هذه الهاء بعد ذكر من يجادل وبعد ذكر الشيطان يحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد منهما فإن رجع إلى من يجادل فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال كتب على من يتبع الشيطان أنه من تولى الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار وذلك زجر منه تعالى فكأنه تعالى قال كتب على من هذا حاله أنه يصير أهلاً لهذا الوعيد فإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي عبد الجبار إذا قيل المراد بقوله كُتِبَ عَلَيْهِ قضى عليه فلا جائز أن يرد إلا إلى من يتبع الشيطان لأنه تعالى لا يجوز أن يقضي على الشيطان أنه يضل ويجوز أن يقضي على من يقبله بقوله قد أضله عن الجنة وهداه إلى النار قال أصحابنا رحمهم الله لما كتب ذلك عليه فلو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً وذلك محال ومستلزم المحال محال فكان لا وقوعه محالاً
المسألة الثانية دلت الآية على أن المجادل في الله إن كان لا يعرف الحق فهو مذموم معاقب فيدل على أن المعارف ليست ضرورية
المسألة الثالثة قال القاضي فيه دلالة على أن المجادلة في الله ليست من خلق الله تعالى وبإرادته وإلا لما كانت مضافة إلى اتباع الشيطان وكان لا يصح القول بأن الشيطان يضله بل كان الله تعالى قد أضله

والجواب المعارضة بمسألة العلم وبمسألة الداعي
المسألة الرابعة قرىء أنه بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب والثاني عطف عليه ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو كأنما كتب عليه هذا الكلام كما يقول كتبت أن الله هو الغني الحميد أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَة ٍ مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاٌّ رْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرض هَامِدَة ً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءَاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ
القراءة قرأ الحسن مّنَ الْبَعْثِ بالتحريك ونظيره الحلب والطرد في الحلب وفي الطرد مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ بجر التاء والراء وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما القراءة المعروفة بالنون في قوله لّنُبَيّنَ وفي قوله وَنُقِرُّ وفي قوله ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ابن أبي عبلة بالياء في هذه الثلاثة أما القراءة بالنون ففيها وجوه أحدها القراءة المشهورة وثانيها روى السيرافي عن داود عن يعقوب ونقر بفتح النون وضم القاف والراء وهو من قر الماء إذا صبه وفي رواية أخرى عنه كذلك إلا أنه بنصب الراء وثالثها ونقر ونخرجكم بنصب الراء والجيم أما القراءة بالياء ففيها وجوه أحدها يقر ويخرجكم بفتح القاف والراء والجيم وثانيها يقر ويخرجكم بضم القاف والراء والجيم وثالثها بفتح الياء وكسر القاف وضم الراء أبو حاتم وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى بفتح الياء أي يتوفاه الله تعالى ابن عمرة والأعمش الْعُمُرُ بإسكان الميم القراءة المعروفة وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وفي حرف عبدالله ومنكم من يتوفى ومنكم من يكون شيوخاً بغير القراءة المعروفة وربت أبو جعفر وربأت أي ارتفعت وروى العمري عنه بتليين الهمزة وقرىء وأنه باعث

المعاني اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين أحدهما الاستدلال بخلقة الحيوان أولاً وهو موافق لما أجمله في قوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 51 ) فكأنه سبحانه وتعالى قال إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث فتذكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولاً قادر على خلقكم ثانياً ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة المرتبة الأولى قوله فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ وفيه وجهان أحدهما إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب لقوله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وقوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه 55 ) والثاني أن خلقة الإنسان من المنى ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعاً للتسلسل إلى النبات والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصح قوله إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ المرتبة الثانية قوله ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان وهو ههنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفاً مع أنه لا مناسبة بينهما ألبتة المرتبة الثالثة قوله ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ العلقة قطعة الدم الجامدة ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة المرتبة الرابعة قوله ثُمَّ مِن مُّضْغَة ٍ مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء فالمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ والمخلقة المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء ثم للمفسرين فيه أقوال أحدها أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تامة الصور والحواس والتخاطيط وثانيهما الناقصة في هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضعة منها ما خلقه إنساناً تاماً بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم وثانيها المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط وهو قول مجاهد وثالثها المخلقة المصورة وغير المخلقة أي غير المصورة وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل واحتجوا بما روى علقمة عن عبدالله قال ( إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً وقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فءن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً وإن قال مخلقة قال يا رب فما صفتها أذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها أشقى أم سعيد فيقول الله سبحانه انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها ) ورابعها قال القفال التخليق مأخوذ من الخلق فما تتابع عليه الأطوار وتوارد عليه الخلق بعد الخلق فذاك هو المخلق لتتابع الخلق عليه قالوا فما تم فهو المخلق وما لم يتم فهو غير المخلق لأنه لم يتوارد عليه التخليقات والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنساناً وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطاً ولم يتكامل فيه الخلقة فإن قيل هلا حملتم ذلك على السقط لأجل قوله وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء وذلك كالدلالة على أن فيه مالا يقره في الرحم وهو السقط فلنا إن ذلك لا يمنع من صحة ما ذكرنا

في كون المضغة مخلقة وغير مخلقة لأنه بعد أن تمم خلقة البعض ونقص خلقة البعض لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقره الله في الرحم وفيه مالا يقره وإن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السقط
أما قوله تعالى لّنُبَيّنَ لَكُمْ ففيه وجهان أحدهما لنبين لكم أن تغيير المضغة إلى المخلقة هو باختيار الفاعل المختار ولولاه لما صار بعضه مخلقاً وبعضه غير مخلق وثانيهما التقدير إن كنتم في ريب من البعث فإنا أخبرناكم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة
أما قوله تعالى وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فالمراد منه من يبلغه الله تعالى حد الولادة والأجل المسمى هو الوقت المضروب للولادة وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أو أربع سنين أو كما شاء وقدر الله تعالى فإن كتب ذلك صار أجلاً مسمى المرتبة الخامسة قوله ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلاً كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ( التحريم 4 ) المرتبة السادسة قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ والأشد كمال القوة والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد وكأنها شدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً لتبلغوا أشدكم فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط وذكر بعضهم أنه ليس بين حال الطفولية وبين ابتداء حال بلوغ الأشد واسطة حتى جوز أن يبلغ في السن ويكون طفلاً كما يكون غلاماً ثم يدخل في الأشد المرتبة السابعة قوله وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً والمعنى أن منكم من يتوفى على قوته وكماله ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم فإن قيل كيف قال لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً مع أنه يعلم بعض الأشياء كالطفل قلنا المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئاً لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي لأجل المبالغة ومن الناس من قال هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وهو ضعيف لأن معنى قوله ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 5 ) هو دلالة على الذم فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ولذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( التين 6 ) فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث الوجه الثاني الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ والاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وانتفخت
أما قوله وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها والله تعالى هو المنبت لذلك لكنه يضاف إليها توسعاً ومعنى مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس والبهجة حسن الشيء ونضارته والبهيج بمعنى المبهج قال المبرد وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنه

سبحانه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أموراً خمسة أحدها قوله ذلك بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ والحق هو الموجود الثابت فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع وحاصلها راجع إلى أن حدوث هذه الأمراض المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع وثانيها قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات وثالثها قوله وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يعني أن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يكون واجب الإنصاف لذاته بالقدرة ومن كان كذلك كان قادراً على جميع الممكنات ومن كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون قادراً على الإعادة ورابعها قوله وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ والمعنى أنه لما أقام الدلائل عى أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه وتعالى قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة في نفسها وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه فلا بد من القطع بوقوعه واعلم أن تحرير هذه الدلالة على الوجه النظري أن يقال الإعادة في نفسها ممكنة والصادق أخبر عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها أما بيان الإمكان فالدليل عليه أن هذه الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات التي كانت قائمة بها حال كونها حية عاقلة والبارىء سبحانه عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات الممكنة وذلك يقتضي القطع بإمكان الإعادة لما قلنا إن تلك الإجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات لأنها لو لم تكن قابلة لها في وقت لما كانت قابلة لها في شيء من الأوقات لأن الأمور الذاتية لا تزول ولو لم تكن قابلة لها في شيء من الأوقات لما كانت حية عاقلة في شيء من الأوقات لكنها كانت حية عاقلة فوجب أن تكون قابلة أبداً لهذه الصفات وأما أن البارىء سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فلأنه سبحانه عالم بكل المعلومات فيكون عالماً بأجزاء كل واحد من المكلفين على التعيين وقادراً على كل الممكنات فيكون قادراً على إيجاد تلك الصفات في تلك الذوات فثبت أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها فإذا أخبر الصادق عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها فهذا هو الكلام في تقرير هذا الأصل فإن قيل فأي منفعة لذكر مراتب خلقة الحيوانات وخلقة النبات في هذه الدلالة قلنا إنها تدل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات وعالم بكل المعلومات ومتى صح ذلك فقد صح كون الإعادة ممكنة فإن الخصم لا ينكر المعاد إلا بناء على إنكار أحد هذين الأصلين ولذلك فإن الله تعالى حيث أقام الدلالة على البعث في كتابه ذكر معه كونه قادراً عالماً كقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا بيان للقدرة وقوله وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يس 79 ) بيان للعلم والله أعلم
ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ

القراءة ثَانِى َ عِطْفِهِ بكسر العين الحسن وحده بفتح العين لِيُضِلَّ قرىء بضم الياء وفتحها القراءة المعروفة وَنُذِيقُهُ بالنون وقرأ زيد بن علي أذيقه المعاني في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن المراد بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ( الحج 3 ) من هم على وجوه أحدها قال أبو مسلم الآية الأولى وهي قوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويتبع كل شيطان مريد واردة في الأتباع المقلدين وهذه الآية واردة في المتبوعين المقلدين فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوعاً وبين ذلك قوله وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة فإن قيل كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً قلنا قد يجادل تصويباً لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد وثانيها أن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحرث وهذه الآية في أبي جهل وثالثها أن هذه الآية نزلت أيضاً في النضر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وفائدة التكرير المبالغة في الذم وأيضاً ذكر في الآية الأولى اتباعه للشيطان تقليداً بغير حجة وفي الثانية مجادلته في الدين وإضلاله غيره بغير حجة والوجه الأول أقرب لما تقدم
المسألة الثانية الآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن على ما مر تقريره
المسألة الثالثة المراد بالعلم العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية وهو كقوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ( الحج 71 ) وقوله ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا ( الأحقاف 4 ) أما قوله ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فاعلم أن ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء كتصعير الخد ولي الجيد وقوله لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فأما القراءة بضم الياء فدلالة على أن هذا المجادل فعل الجدال وأظهر التكبر لكي يتبعه غيره فيضله عن طريق الحق فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير وأما القراءة بفتح الياء فالمعنى أنه لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ثم إنه سبحانه وتعالى شرح حاله في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فيوم بدر روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وأنه قتل يوم بدر وأما الذين لم يخصصوا هذه الآية بواحد معين قالوا المراد بالخزي في الدنيا ما أمر المؤمنون بذمه ولعنه ومجاهدته وأما في الآخرة فقوله وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ثم بين تعالى أن هذا الخزي المعجل وذلك العقاب المؤجل لأجل ما قدمت يداه قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مطالب
الأول دلت الآية على أنه إنما وقع في ذلك العقاب بسبب عمله وفعله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى لكان حينما خلقه الله سبحانه وتعالى استحال منه أن ينفك عنه وحينما لا يخلقه الله تعالى استحال منه أن

يتصف به فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك على خلاف النص
الثاني أن قوله بعد ذلك وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ دليل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب لأجل أن المكلف فعل فعلاً استحق به ذلك العقاب وذلك يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال بكفر آبائهم
الثالث أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النظام وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة
الرابع وهو أن لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم لأن عندهم صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موقوفة على نفي الظلم فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور والجواب عن الكل المعارضة بالعلم والداعي
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة َ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
القراءة قرىء فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ بالنصب والرفع فالنصب على الحال والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وفي حرف عبدالله مِنْ ضَرُّهُ بغير لام واعلم أنه تعالى لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وفي تفسير الحرف وجهان الأول ما قاله الحسن وهو أن المرء في باب الدين معتمدة القلب واللسان فهما حرفا الدين فإذا وافق أحدهما الآخر فقد تكامل في الدين وإذا أظهر بلسانه الدين لبعض الأغراض وفي قلبه النفاق جاز أن يقال فيه على وجه الذم يعبد الله على حرف الثاني قوله عَلَى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون طمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر فإن أحس بغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه وهذا هو المراد فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ لأن الثبات في الدين إنما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الله والخوف من عقابه فأما إذا كان غرضه الخير المعجل فإنه يظهر الدين عند السراء ويرجع عنه عند الضراء فلا يكون إلا منافقاً مذموماً وهو مثل قوله تعالى يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ ( النساء 143 ) وكقوله فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ

( النساء 141 )
المسألة الثانية قال الكلبي نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأن إليه وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عن دينه وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن ومجاهدة وقتادة وثانيها وهو قول الضحاك نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيراً عرفنا أنه حق وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل وثالثها قال أبو سميد الخدري ( أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فقال يا رسول الله أقلني فإني لم أصب من ديني هذا خيراً ذهب بصري وولدي ومالي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إن الإسلام لا يقال إن الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة ) فنزلت هذه الآية
وأما قوله وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ففيه سؤالات الأول كيف قال وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ والخير أيضاً فتنة لأنه امتحان وقال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً والجواب مثل هذا كثير في اللغة لأن النعمة بلاء وابتلاء لقوله فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ( الفجر 15 ) ولكن إنما يطلق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي لأنه لا دين له فلذلك وردت الآية على ما يعتقدونه وإن كان الخير كله فتنة لكن أكثر ما يستعمل فيما يشتد ويثقل
السؤال الثاني إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب ويرتد والجواب المراد أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب في الحقيقة
السؤال الثالث قال مقاتل الخير هو ضد الشر فلما قال فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ كان يجب أن يقول وإن أصابه شر انقلب على وجهه الجواب لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى وإن أصابه شر بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح
أما قوله تعالى خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة َ فذلك لأنه يخسر في الدنيا العزة والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ولا يبقى ماله ودمه مصوناً وأما في الآخرة فيفوته الثواب الدائم ويحصل له العقاب الدائم وَذالِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
أما قوله يَدْعُو مِن اللَّهِ مَالاً يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ فالأقرب أنه المشرك الذي يعبد الأوثان وهذا كالدلالة على أن الآية لم ترد في اليهودي لأنه ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه النفاق وبين تعالى أن ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ وأراد به عظم ضلالهم وكفرهم ويحتمل أن يعني بذلك بعد ضلالهم عن الصواب لأن جميعه وإن كان

يشترك في أنه خطأ فبعضه أبعد من الحق من البعض واستعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً وطالت وبعدت مسافة ضلاله
أما قوله تعالى يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في تفسيره على وجهين أحدهما أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض القول الثاني أن المراد الوثن وأجابوا عن التناقض بأمور أحدها أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال فكذا ههنا نفي الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر وثانيها كأنه سبحانه وتعالى بين في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية لو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضررها أكثر من نفعها وثالثها كان الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها نفع ولا ضرر في الدنيا ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضرركم أعظم من نفعكم
المسألة الثانية اختلف النحويون في إعراب قوله لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ
أما قوله لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فالمولى هو الولي والناصر والعشير الصاحب والمعاشر واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء ثم ذم الرؤساء بقوله لَبِئْسَ الْمَوْلَى والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ
إعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم بن في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه وأما معبودهم

فلا يضر ولا ينفع وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ واحتج أصحابنا في خلق الأفعال بقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قالوا أجمعنا على أنه سبحانه يريد الإيمان ولفظة ما للعموم فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان لقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أجاب الكعبي عنه بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله لا ما يريد أن يفعله غيره والجواب أن قوله ما يريد أعم من قولنا ما يريد أن يفعله ومن قولنا ما يريد أن يفعله غيره فالتقييد خلاف النص
أما قوله مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ فالهاء إلى ماذا يرجع فيه وجهان الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله فيجب البحث ههنا عن أمرين أحدهما أنه من الذي كان يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدًا ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه ما معنى قوله فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ
أما البحث الأول فذكروا فيه وجوهاً أحدها كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت هذه الآية وثانيها قال مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا وثالثها أن حساده وأعداءه كانوا يتوقعون أن لا ينصره الله وأن لا يعليه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك
وأما البحث الثاني فاعلم أن في لفظ السبب قولين أحدهما أنه الحبل وهؤلاء اختلفوا في السماء فمنهم من قال هو سماء البيت ومنهم من قال هو السماء في الحقيقة فقالوا المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله ثم يغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق فلينظر أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه وعلى هذا القول اختلفوا في القطع فقال بعضهم سمى الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء إلا أنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال ابن عباس رضي الله عنه يشد الحبل في عنقه وفي سقف البيت ثم ليقطع الحبل حتى يختنق ويهلك هذا كله إذا حملنا السماء على سقف البيت وهو قول كثير من المفسرين وقال آخرون المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيداً ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك بل الغرض أن يكون ذلك صارفاً له عن الغيظ إلى طاعة الله تعالى وإذا كان كذلك فكل ما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد

ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت لأن ذلك ممكن أما الذين قالوا السبب ليس هو الحبل فقد ذكروا وجهين الأول كأنه قال فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع بذلك السبب المسافة ثم لينظر فإنه يعلم أن مع تحمل المشقة فيما ظنه خاسر الصفقة كأن لم يفعل شيئاً وهو قول أبي مسلم والثاني كأنه قال فليطلب سبباً يصل به إلى السماء فليقطع نصر الله لنبيه ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله فإذا كان ذلك ممتنعاً كان غيظه عديم الفائدة واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه وهو في معنى قوله فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَاء ( الأنعام 35 ) مبيناً بذلك أنه لا حيلة له في الآيات التي اقترحوها القول الثاني أن الهاء في قوله لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ راجع إلى من في أول الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى مذكور إذا أمكن ذلك ومن قال بذلك حمل النصرة على الرزق وقال أبو عبيدة وقف علينا سائل من بني بكر فقال من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما وصفه تعالى في قوله وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ( الحج 11 ) فيبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب التسمية ويجعله مرزوقاً
أما قوله وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فمعناه ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات
أما قوله وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ فقد احتج أصحابنا به فقالوا المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ولأن قوله يَهْدِى مَن يُرِيدُ دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته سبحانه ووضع الأدلة عند الخصم واجب فبقي أن المراد منه خلق المعرفة قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار هذا يحتمل وجوهاً أحدها يكلف من يريد لأن من كلف أحداً شيئاً فقد وصفه له وبينه له وثانيها أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً وثالثها أن يكون المراد أن الله تعالى يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا زاده هدى ثبت على إيمانه كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله إن الله يهدي من قبل لا من لم يقبل والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي والجواب عن الأول أن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عندك واجبان على الله تعالى وقوله يَهْدِى مَن يُرِيدُ يقتضي عدم الوجوب
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ

القراءة قرى حَقّ بالضم وقرىء حقاً أي حق عليه العذاب حقاً وقرىء مُّكْرِمٍ بفتح الراء بمعنى الإكرام واعلم أنه تعالى لما قال وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة أحدها الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها وثانيها الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعيسى وموسى عليهما السلام وثالثها الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم والفلاسفة الذين يثبتون مؤثراً موجباً لا مختاراً فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العام المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترين أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء أو لا يكونوا معترفين بذلك فإما أن يكونوا أتباعاً لمن كان نبياً في الحقيقة أو لمن كان متنبئاً أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون وأما أتباع المتنبىء فهم المجوس وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان وهم المسمون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة
أما قوه إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج هذا خبر لقول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ كما تقول إن أخاك إن الدين عليه لكثير قال جرير إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
المسألة الثانية الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف

أما قوله سبحانه وتعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ففيه أسئلة
السؤال الأول ما الرؤية ههنا الجواب أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه
السؤال الثاني ما السجود ههنا قلنا فيه وجوه أحدها قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( البقرة 74 ) وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )

وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة والجواب من وجوه أحدها أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر فهذا الشخص وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وثانيها أن نقطع قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه الأول أن نقول تقدير الآية ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً الثاني أن يكون قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ والثالث أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب وثالثها أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين فعنى بها في حق العقلاء الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد
السؤال الثالث قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ الاْرْضِ ( الرعد 15 ) لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ الجواب لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجدون طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب القول الثاني في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي قد يتطرق إليها الصدق والكذب أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليفه وتكوينه وعلى هذا تأولوا قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وهذا قول القفال رحمه الله القول الثالث أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ( النحل 48 ) وهو قول مجاهد
وأما قوله كَثِيرٍ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فقال ابن عباس في رواية عطاء وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده وروى عنه أيضاً أنه قال وكثير من الناس في الجنة وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وقال آخرون الوقف على قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ ثم استأنف فقال وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود
وأما قوله تعالى وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرماً لهم ثم بين بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب والله أعلم
هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
القراءة روي عن الكسائي خَصْمَانِ بكسر الخاء وقرىء قُطّعَتْ بالتخفيف كان الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة قرأ الأعمش كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ رُدُّواْ فِيهَا الحسن يُصْهَرُ بتشديد الهاء للمبالغة وقرىء وَلُؤْلُؤاً بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤاً كقوله وحوراً عيناً ولؤلؤاً بقلب الهمزة الثانية واواً واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر ههنا كيفية اختصامهم وفيه مسائل

المسألة الأولى احتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ والجواب الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل هذان فوجان أو فريقان يختصمان فقوله هَاذَانِ للفظ واختصموا للمعنى كقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الخصمين وجوهاً أحدها المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم وأن كل الكفار يدخلون في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما يرجع إلى أهل الأديان الستة فِى رَبّهِمْ أي في ذاته وصفاته وثانيها روى أن أهل الكتاب قالوا نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً فهذه خصومتهم في ربهم وثالثها روى قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري رحمه الله أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وقال علي عليه السلام أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة ورابعها قال عكرمة هما الجنة والنار قالت النار خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة خلقني الله لرحمته فقص الله من خبرهما على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره قوله هَاذَانِ كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ وهذا هو الذي يدل عليه قوله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكماً فبين الله تعالى حكمه في الكفار وذكر من أحوالهم أموراً ثلاثة أحدها قوله قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 ) عن أنس وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذاً من قوله تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ ( إبراهيم 5 ) وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( الكهف 99 ) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع وثانيها قوله يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يصهر به ما في بطونهم والجلود الحميم الماء الحار قال ابن عباس رضي الله عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) وثالثها قوله وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ المقامع السياط وفي الحديث ( لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها ) وأما قوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفاً وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه

أحدها المسكن وهو قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وثانيها الحلية وهو قوله يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضاً شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة وثالثها الملبوس وهو قوله وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ورابعها قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه وجوه أحدها شهادة أن لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله وَمَثَلاً كَلِمَة ً طَيّبَة ً ( إبراهيم 24 ) وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وهو صراط الحميد لقوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) وثانيها قال السدي وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن وثالثها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده ورابعها أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام وهو معنى قوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وعندي فيه وجه خامس وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِراطِ الْحَمِيدِ والتعبير عنها هو المراد من قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أنه تعالى بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمه البيت وعظم كفر هؤلاء فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد لأنهم كانوا يأبون ذلك وفيه إشكال وهو أنه كيف عطف المستقبل وهو قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ الماضي وهو قوله كَفَرُواْ والجواب عنه من وجهين الأول أنه يقال فلان يحسن إلى الفقراء ويعين الضعفاء لا يراد به حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه في جميع أزمنته وأوقاته فكأنه قيل إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وثانيهما قال أبو علي الفارسي التقدير إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون ويدخل فيه أنهم يفعلون ذلك في الحال والمستقبل أما قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني ويصدوهم أيضاً عن المسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدى فكره

رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتالهم وكان محرماً بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل
أما قوله الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي الفارسي أي جعلناه للناس منسكاً ومتعبداً وقوله سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ رفع على أنه خبر مبتدأ مقدم أي العاكف والباد فيه سواء وتقدير الآية المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكاً فالعاكف والبادي فيه سواء وقرأ عاصم ويعقوب سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين والله أعلم
المسألة الثانية العاكف المقيم به الحاضر والبادي الطارىء من البدو وهو النازع إليه من عربته وقال بعضهم يدخل في العاكف القريب إذا جاور ولزمه للتعبد وإن لم يكن من أهله
المسألة الثالثة اختلفوا في أنهما في أي شيء يستويان قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنهما يستويات في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون واحد سبق إلى المنزل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام واحتجوا عليه بالآية والخبر أما الآية فهي هذه قالوا إن أرض مكة لا تملك فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد وأما الخبر فقوله عليه السلام ( مكة مباح لمن سبق إليها ) وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ومذهب أبي حنيفة وإسحق الحنظلي رضي الله عنهم وعلى هذا المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام والمراد منه البلد جائز بدليل قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وههنا قد دل الدليل وهو قوله الْعَاكِفُ لأن المراد منه المقيم إقامة وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل فيجب أن يقال ذكر المسجد وأراد مكة القول الثاني المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس قال عليه السلام ( يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار ) وهذا قول الحسن ومجاهد وقول من أجاز بيع دور مكة وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحق الحنظلي بمكة وكان إسحق لا يرخص في كراء بيوت مكة واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ ( الحج 4 ) فأضيفت الدار إلى مالكها وإلى غير مالكها وقال عليه السلام يوم فتح مكة ( من أغلق بابه فهو آمن ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل ترك لنا عقيل من ربع ) وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما دار السجن أترى أنه اشتراها من مالكها أو من غير مالكها قال إسحق فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي أما الذي قالوه من حمل لفظ المسجد على مكة بقرينة قوله العاكف فضعيف لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكروه ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات
أما قوله وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ففيه مسائل

المسألة الأولى قرىء يُرِدْ بفتح الياء من الورود ومعناه من أتى فيه بإلحاد وعن الحسن ومن يرد إلحاده بظلم والمعنى ومن يرد إيقاع إلحاد فيه فالإضافة صحيحة على الاتساع في الظرف كمكر الليل والنهار ومعناه ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً
المسألة الثانية الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوهاً أحدها أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله تعالى وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في عبدالله بن سعد حيث استسلمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فارتد مشركاً وفي قيس بن ضبابة وقال مقاتل نزلت في عبدالله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافراً فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله يوم الفتح كافراً وثالثها قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد ورابعها دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم وخامسها أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير وسادسها المنع من عمارته وسابعها عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له قسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله وثامنها وهو قول المحققين أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لو أن رجلاً بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم فإن كل عذاب يكون أليماً إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية
المسألة الثالثة الباء في قوله بِإِلْحَادٍ فيه قولاه أحدهما وهو الأولى وهو اختيار صاحب ( الكشاف ) أن قوله بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب أليم يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده الثاني قال أبو عبيدة مجازه ومن يرد فيه إلحاداً والباء من حروف الزوائد
المسألة الرابعة لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ولذلك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
أما قوله تعالى نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فهو بيان الوعيد وفيه مسائل
المسألة الأولى من قال الآية نزلت في ابن خطل قال المراد بالعذاب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتله يوم الفتح ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به
المسألة الثانية أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه

المسألة الثالثة ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية الأول التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين الثاني أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِى َ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَة ِ الاٌّ نْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
اعلم أن قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث الله تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة وههنا سؤالات
السؤال الأول لا شك أن ( أن ) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة الجواب أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعاً له فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير وبقالبه مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام
السؤال الثاني أن إبراهيم لما لم يشرك بالله فكيف قال أن لا تشرك بي الجواب المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكاً ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت
السؤال الثالث البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال وطهر بيتي الجواب لعل ذلك المكان كان صحراء وكانوا يرمون إليها الأقذار فأمر إبراهيم ببناء البيت في ذلك المكان وتطهيره من الأقذار وكانت

معمورة فكانوا قد وضعوا فيها أصناماً فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد وذلك هو التطهير عن الأوثان أو يقال المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك وقول الزور
وأما قوله لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ فقال ابن عباس رضي الله عنهما للطائفين بالبيت من غير أهل مكة وَالْقَائِمِينَ أي المقيمين بها وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي من المصلين من الكل وقال آخرون القائمون وهم المصلون لأن المصلي لا بد وأن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن محيصن وَأَذّن بمعنى أعلم
المسألة الثانية في المأمور قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ قال يا رب وما يبلغ صوتي قال عليك الأذان وعلى البلاغ فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول قال جبريل عليه السلام قل لبيك اللهم لبيك فهو أول من لبى وفي رواية أخرى أنه صعد الصفا فقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهم لبيك وفي رواية أخرى إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب مرتين أو أكثر فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى قال القاضي عبد الجبار يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج دون الجماد فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام القول الثاني أن المأمور بقوله وَأَذّن هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ لا يوجب أن يكون قوله وَأَذّن يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا أي واذكر يا محمد إِذْ بَوَّأْنَا فهو في حكم المذكور فإذا قال تعالى وَأَذّن فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى وَأَذّن وجوهاً أحدها أن الله تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يعلم الناس بالحج وثانيها قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله يَأْتُوكَ دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به وثالثها أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرىء رجال بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ أي ركباناً والضمور الهزال

ضمر يضمر ضموراً والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها وإنما قال يَأْتِينَ أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان والفج الطريق بين الجبلين ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً والعميق البعيد قرأ ابن مسعود معيق يقال بئر بعيدة العمق والمعق
المسألة الثانية المعنى وأذن ليأتوك رجالاً وعلى كل ضامر أي وأذن ليأتوك على هاتين الصفتين أو يكون المراد وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين
المسألة الثالثة بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة )
المسألة الرابعة إنما قال يَأْتُوكَ رِجَالاً لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجاً فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه
أما قوله لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجرو في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو الأولى
المسألة الثانية إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات
المسألة الثالثة كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين قال القفال وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلباً لمرضاة الله تعالى واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته
المسألة الرابعة أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله

أما قوله بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ فقال صاحب ( الكشاف ) البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز
أما قوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعاً على الفقراء فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه هذا فيما كان تطوعاً فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها
أما قوله وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ فلا شبهة في أنه أمر إيجاب والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقيرة الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني
أما قوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ قال الزجاج إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها والمراد ههنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العامة والمراد من القضاء إزالة التفث وقال القفال قال نفطويه سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي
أما قوله وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ فقرىء بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك
أما قوله وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل وسمى البيت العتيق لوجوه أحدها العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن وثانيها لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير ورووه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبدالله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وثالثها لم يملك قط عن ابن عيينة ورابعها أعتق من الغرق عن مجاهد وخامسها بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر

ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاٌّ نْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاٌّ وْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ

قال صاحب ( الكشاف ) ذالِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها وقوله عِندَ رَبّهِ يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة وهو قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ وقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 ) ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً وهذا أقرب وقوله مِنَ الاْوْثَانِ بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان وليس المراد أن بعضها ليس كذلك والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أن الأفك من أفكه إذا صرفه والمفسرون ذكروا في قول الزور وجوهاً أحدها أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم وثانيها شهادة الزور عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائماً واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) وتلا هذه الآية وثالثها الكذب والبهتان ورابعها قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
أما قوله تعالى حُنَفَاء للَّهِ فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به ولذلك قال غير مشركين به وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها وهو قوله وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ قال صاحب ( الكشاف ) إن كان هذا تشبيهاً مركباً فكأنه قيل من أشرك بالله فقد أهلك نسه إهلاكاً ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة وإن كان تشبيهاً مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله كالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المختلفة وقرىء بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرىء الرياح ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال ذلك ومن يعظم شعائر الله واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدى خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين أحدهما أن يختارها عظام الأجسام حساناً جساماً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدى والأضحية والرقبة روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه ( أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال بل أهدها ) ( وأهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ) والوجه الثاني في تعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد وأن يحتفل به ويتسارع فيه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه ولكن لما كان قلبه خالياً عنها لا جرم لا يكون مجداً في أداء الطاعات أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص فإن قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة فالجواب
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَة ِ الاٌّ نْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَواة ِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ

اعلم أن قوله تعالى لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدى الذي فيه منافع إلى وقت النحر ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده والأول هو قول جمهور المفسرين ولا شك أنه أقرب وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب طهورها فأما قوله إلى أجل مسمى ففيه قولان أحدهما أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون لكم فيها أي في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي وهذا القول أولى لأنه تعالى قال لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هدياً وروى أبو هريرة أنه عليه السلام ( مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك ) وروى جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهراً ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا
أما قوله تعالى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ وبالجملة فقوله مَحِلُّهَا يعني حيث يحل نحرها وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله ودليله قوله تعالى فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة قال عليه السلام ( كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر ) قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه
أما قوله تعالى وَلِكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضرباً من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً منسكاً بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع

أما قوله تعالى فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ففي كيفية النظم وجهان أحدهما أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله فَلَهُ أَسْلِمُواْ أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ والمخبت المتواضع الخاشع قال أبو مسلم حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم والخبت هو المطمئن من الأرض وللمفسرين فيه عبارات أحدها المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها المخلصين عن مقاتل ورابعها الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس
ثم وصفهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله ثم لذلك الوجل أثران أحدهما الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وعلى ما يكون من قبل الله تعالى لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة وهو المراد بقوله الَّذِينَ إِذَا وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قرأ الحسن الَّذِينَ إِذَا بالنصب على تقدير النون وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَالْبُدْنَ فيه مسائل
المسألة الأولى البدن جمع بدنة كخشب وخشبة سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألحق البقر بالإبل حين قال ( البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) ولأنه قال

فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة
المسألة الثانية قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف وقرىء بالنصب والرفع كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ والله أعلم
المسألة الثالثة إذا قال لله على بدنة هل يجوز له نحرها في غير مكة قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة ولو قال لله على جزور أنه يذبحه حيث شاء وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدى فإنه تعالى قال هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( يس 39 ) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدى أجاب أبو حنيفة رحمه الله بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن
أما قوله تعالى جَعَلْنَاهَا لَكُمْ فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدي في الحج جاز أن يقول جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ أما قوله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فالكلام فيه ما تقدم في قوله لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ( الحج 33 ) وإذا كان قوله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد الله تعالى بأن فيه خيراً وبأن فيه منافع أما قوله فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ففيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك أما قوله صَوَافَّ فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث وقرىء صوافي أي خوالص لوجه الله تعالى لا تشركوا بالله في التسمية على نحرها أحداً كما كان يفعله المشركون وعن عمرو بن عبيد صوافياً بالتنوين عوضاً عن حرف الإطلاق عند الوقف وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم الله وشعائر دينه وأما قوله فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط ووجبت الشمس وجبة إذا غربت والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها فَكُلُواْ مِنْهَا وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعاً إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال

ابن الأعرابي يقال عروت فلاناً وأعررته وعروته واعتريته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً وقرأ الحسن والمعتري وقرأ أبو رجاء القنع وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع
أما قوله كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدين والدنيا ثم لما بين تعالى هذه النعمة قال بعده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمراد لكي تشكروا قالت المعتزلة هذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يشكروا فدل هذا على أنه يريد كل ما أمر به ممن أطاع وعصى لا كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لم يرد ذلك إلا من المعلوم أن يطيع والكلام عليه قد تقدم غير مرة
أما قوله تعالى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى لما كانت عادة الجاهلية على ما روي في القربان أنهم يلوثون بدمائها ولحومها الوثن وحيطان الكعبة بين تعالى ما هو القصد من النحر فقال لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ فبين أن الذي يصل إليه تعالى ويرتفع إليه من صنع المهدي من قوله ونحره وما شاكله من فرائضه هو تقوى الله دون نفس اللحم والدم ومعلوم أن شيئاً من الأشياء لا يوصف بأنه يناله سبحانه فالمراد وصول ذلك إلى حيث يكتب يدل عليه قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أمور أحدها أن الذي ينتفع به المرء فعله دون الجسم الذي ينتفع بنحره وثانيها أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أوامره وثالثها أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون تقواه فعلاً وإلا لكانت تقواه بمنزلة اللحوم ورابعها أنه لما شرط القبول بالتقوى وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له والجواب أما الأولان فحقان وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم وأما الرابع فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً ولكنه متق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص فوجب أن تكون طاعته مقبولة وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم
المسألة الثالثة كلهم قرأوا يَنَالَ اللَّهَ ويناله بالياء إلا يعقوب فإنه قرأ بالتاء في الحرفين فمن أنث فقد رده إلى اللفظ ومن ذكر فللحائل بين الاسم والفعل ثم قال كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ والمراد أنه إنما سخرها كذلك لتكبروا الله وهو التعظيم بما نفعله عند النحر وقبله وبعده على ما هدانا ودلنا عليه وبينه لنا ثم قال بعده على وجه الوعد لمن امتثل أمره وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ كما قال من قبل وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ ( الحج 34 ) والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى ٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض أَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَة ُ الاٍّ مُورِ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الحج 38 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بالألف ومثله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف فيهما وقرأ حمزة والكسائي وعاصم إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ بالألف وَلَوْلاَ دَفْعُ بغير ألف فمن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم وقال الخليل يقال دفع الله المكروه عنك دفعاً ودافع عنك دفاعاً والدفاع أحسنهما
المسألة الثانية ذكر إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين فلذلك قال بعده إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( الحج 38 ) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته
المسألة الثالثة قال مقاتل إن الله يدافع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قتلهم سراً فنهاهم
المسألة الرابعة هذه الآية بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكف بواثقهم عنهم وهي كقوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ( آل عمران 111 ) وقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 51 ) وقال إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 172 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( الصف 13 )
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( الحج 38 ) فالمعنى أنه سبحانه جعل العلة في أنه يدافع عن

الذين آمنوا أن الله لا يحب صدهم وهو الخوان الكفور أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته ونظيره قوله لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) قال مقاتل أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه
أما قوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم في رواية حفص أَذِنَ بضم الألف والباقون بفتحها أي أذن الله لهم في القتال وقرأ أهل المدينة وعاصم يُقَاتَلُونَ بنصب التاء وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي أَذِنَ بنصب الف ويقاتلون بكسر التاء قال الفراء والزجاج يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل ومن قرأ بفتح التاء فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال
المسألة الثانية في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه
أما قوله يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وقيل نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن في مقاتلتهم
أما قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فذلك وعد منه تعالى بنصرهم كما يقول المرء لغيره إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك
أما قوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبين ذلك الظلم بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين أحدهما أنهم أخرجوهم من ديارهم والثاني أنهم أخرجوهم بسبب أنهم قالوا رَبُّنَا اللَّهُ وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم فإن قيل كيف استثنى من غير حق قولهم رَبُّنَا اللَّهُ وهو من الحق قلنا تقدير الكلام أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ومثله هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ثم بين سبحانه بقوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ أن عادته جل جلاله أن يحفظ دينه بهذا الأمر قرأ نافع لَّهُدّمَتْ بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وههنا سؤالات
السؤال الأول ما المراد بهذا الدفاع الذي أضافه إلى نفسه الجواب هو إذنه لأهل دينه بمجاهدة الكفار فكأنه قال تعالى ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة ولكنه دفع عن

هؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل الدين للعبادة وبناء البيوت لها ولهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام وذكر المفسرون وجوهاً أخر أحدها قال الكلبي يدفع الله بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد وثانيها روى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يدفع الله بالمحسن عن المسيء وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق وبالذي يحج عن الذي لا يحج وعن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ) ثم تلا هذه الآية وثالثها قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة ورابعها قال مجاهد يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص
السؤال الثاني لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين الجواب لأجل ما سألت عنه اختلفوا على وجوه أحدها قال الحسن المراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها وثانيها قول الزجاج ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلي فيه فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه وفي زمن عيسى الصوامع وفي زمن نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المساجد فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ وثالثها بل المراد لهدمت هذه الصوامع في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنها على كل حال يجري فيها ذكر الله تعالى فليست بمنزلة عبادة الأوثان
السؤال الثالث ما الصوامع والبيع والصلوات والمساجد الجواب ذكروا فيها وجوهاً أحدها الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين عن أبي العالية رضي الله عنه وثانيها الصوامع للنصارى وهي التي بنوها في الصحارى والبيع لهم أيضاً وهي التي يبنونها في البلد والصلوات لليهود قال الزجاج وهي بالعبرانية صلوتاً وثالثها الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود عن قتادة ورابعها أنها بأسرها أسماء المساجد عن الحسن أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد
السؤال الرابع الصلوات كيف تهدم خصوصاً على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين الجواب من وجوه أحدها المراد بهدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان إذا قابله بالكفر دون الشكر وثانيها بل المراد مكان الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها وثالثها لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم متقلداً سيفاً ورمحاً وإن كان الرمح لا يتقلد
السؤال الخامس قوله يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً مختص بالمساجد أو عائد إلى الكل الجواب قال الكلبي ومقاتل عائد إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كثيراً والأقرب أنه مختص بالمساجد تشريفاً لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيراً
السؤال السادس لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد الجواب لأنها أقدم في

الوجود وقيل أخرها في الذكر كما في قوله وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ( فاطر 32 ) ولأن أول الفكر آخر العمل فلما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خير الرسل وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال عليه السلام ( نحن الآخرون السابقون )
أما قوله تعالى وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ فقال بعضهم من ينصره بتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله تعالى وقال آخرون بل المراد من يقوم بسائر دينه وإنما قالوا ذلك لأن نصرة الله على الحقيقة لا تصح وإنما المراد من نصرة الله نصرة دينه كما يقال في ولاية الله وعداوته مثل ذلك وفي قوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وعد بالنصر لمن هذه حاله ونصر الله تعالى للعبد أن يقويه على أعدائه حتى يكون هو الظافر ويكون قائماً بإيضاح الأدلة والبينات وبكون بالإعانة على المعارف والطاعات وفيه ترغيب في الجهاد من حيث وعدهم النصر ثم بين تعالى أنه قوي على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين وأنه لا يجوز عليه المنع وهو معنى قوله عَزِيزٌ لأن العزيز هو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده ثم إنه سبحانه وتعالى وصف الذين أذن لهم في القتال في الآية الأولى فقال الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ليس إلا هذا ولأنا لو حلمناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء لأنه ليس كل من كان قادراً على الفعل أتى بهذه الأشياء إذا ثبت هذا فنقول المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ صفة لمن تقدم وهو قوله الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة فإنهم أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن قد ثبت أن الله تعالى مكن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطنة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة وإذا كانوا آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر وجب أن يكونوا على الحق فمن هذا الوجه دلت هذه الآية على إمامة الأربعة ولا يجوز حمل الآية على علي عليه السلام وحده لأن الآية دالة على الجمع وفي قوله وَلِلَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبداً وهو أيضاً يؤكد ما قلناه
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة ٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاٌّ بْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ

إعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره فقال وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم وذكر الله سبعة منهم فإن قيل ولم قال وَكُذّبَ مُوسَى ولم يقل قوم موسى فالجواب من وجهين الأول أن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنوا إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهم القبط الثاني كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسوله وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره
أما قوله تعالى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استفهام تقرير ( ي ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب أليس كان واقعاً قطعاً ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتاً وبالعمارة خراباً ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلا بد من الرضاء والتسليم وإن شق ذلك على القلب واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام فكيف بذلك مع منزلته لكنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غماً فأجرى الله عادته بأن يصبره حالاً بعد حال وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا
وههنا بحث وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم قال الحسن السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين أحدهما أن عند الله حد ( اً ) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه والثاني أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحداً منهم لا يؤمن فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ( يوسف 110 ) أي من إجابة القوم وقوله لنوح وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ( هود 66 ) أي بالعذاب نجينا هوداً واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير قلنا إذا كان رادعاً لغيره وصادعاً له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيراً
أما قوله فَكَأَيّن مّن قُرْبَة ٌ أَهْلَكْنَاهَا ففيه مسائل

المسألة الأولى قال بعضهم المراد من قوله فَكَأَيّن فكم على وجه التكثير وقيل أيضاً معناه ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالاً وإن لم يذكر مفصلاً
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة أَهْلَكْنَاهَا بالنون وقرأ أبو عمرو ويعقوب أهلكتها وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
المسألة الثالثة قوله أَهْلَكْنَاهَا أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب
أما قوله وهي خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ففيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى هذه اللفظة فقال صاحب الكشاف كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله فإن فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها قال ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلاً للاعتبار
السؤال الثاني ما محل هاتين الجملتين من الإعراب أعني وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا الجواب الأولى في محل النصب على الحال والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل قال أبو مسلم المعنى فكأين من قرية أهلكناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية
أما قوله وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة ٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن مُّعَطَّلَة ٍ من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان أحدهما أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني أنه المرفوع المطول والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهراً خالياً بلا ساكن وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ ( الصافات 137 ) والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية روى أبو هريرة رضي الله عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن

آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بحضرموت وإنما سميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ثم وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراً بناها قوم صالح وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم وخرب قصورهم قال الإمام أبو القاسم الإنصاري وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت
أما قوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع فلهذا قال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ هل يدل على الأمر بالسفر الجواب يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا
السؤال الثاني ما معنى الضمير في قوله فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ والجواب هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثاً ومذكراً وفي قراءة ابن مسعود فَإِنَّهُ ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره الأبصار
السؤال الثالث أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر الجواب أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهواً ولكني تعمدته على اليقين وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر
السؤال الرابع هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب الجواب نعم لأن المقصود من قوله قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا العلم وقوله يَعْقِلُونَ بِهَا كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل فوجب جعل القلب محلاً للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيراً بشبه الأعمى
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَى َّ الْمَصِيرُ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

إعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ يدل على ذلك فقال تعالى وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته كَأَلْفِ سَنَة ٍ لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه الوجه الثاني أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله والوجه الثالث أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة
أما قوله وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي وهو تفسير قوله وَإِلَى َّ الْمَصِيرُ فإن قيل فلم قال فيما قبل فَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ ( الحج 45 ) وقال ههنا وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا الأولى بالفاء وهذه بالواو قلنا الأولى وقعت بدلاً عن قوله فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( الحج 44 ) وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ
أما قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فالمعنى أنه تعالى أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار وأن لا يصده ما يكون منهم من الاستعجال للعذاب على سبيل الهزؤ عن إدامة التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه
فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
إعلم أنه تعالى لما بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يجب أن يقول لهم أنا نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم لأن الرجل إنما يكون منذراً بذكر الوعد للمطيعين والوعيد للعاصين فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجمع بين الوصفين وهذا دليل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وبه يبطل قول

المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ويدخل في العمل الصالح أداء كل واجب وترك كل محظور ثم بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم أما المغفرة فإما أن تكون عبارة عن غفران الصغائر أو عن غفران الكبائر بعد التوبة أو عن غفرانها قبل التوبة والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو دلالته على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب وكرمه يحتمل أن يكون للصفات السلبية وهو أن الإنسان هناك يستغني عن المكاسب وتحمل المشاق والذل فيها وارتكاب المآثم والدناءة بسببها وأن يكون للصفات الثبوتية وهو أن يكون رزقاً كثيراً دائماً خالصاً عن شوائب الضرر مقروناً بالتعظيم والتبجيل والأولى جعل الكريم دالاً على كل هذه الصفات فهذا شرح حال المؤمنين وأما حال الكفار فقال وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ والمراد اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ويقال لمن بذل جهده في أمر إنه سعى فيه توسعاً من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً قال صاحب ( الكشاف ) يقال سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه أما المعاجز فيقال عاجزته أي طمعت في إعجازه واختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو للرسول وللمؤمنين والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد أما الذين قالوا المراد معاجزين لله فقد ذكروا وجوهاً أحدها المراد بمعاجزين مغالبين مفوتين لربهم من عذابهم وحسابهم حيث جحدوا البعث وثانيها أنهم يثبطون غيرهم عن التصديق بالله ويثبطونهم بسبب الترغيب والترهيب وثالثها يعجزون الله بإدخال الشبه في قلوب الناس والجواب عن الأول أن من جحد أصل الشيء لا يوصف بأنه مغالب لمن يفعل ذلك الشيء ومن تأول الآية على ذلك فيجب أن يكون مراده أنهم ظنوا مغالبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كان يقوله من أمر الحشر والنشر والجواب عن الثاني والثالث أن المغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى
أما قوله تعالى أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فالمراد أنهم يدومون فيها وشبههم من حيث الدوام بالصاحب فإن قيل إنه عليه السلام في هذه الآية بشر المؤمنين أولاً وأنذر الكافرين ثانياً فكان القياس أن يقال قل يا أيها الناس إنما أنا لكم بشير ونذير قلنا الكلام مسوق إلى المشركين ويا أيها الناس نداء لهم وهم الذين قيل فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( الحج 46 ) ووصفوا بالاستعجال وإنما ألقى ذكر المؤمنين وثوابهم في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأاياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66