كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

واعلم أن ذلك المانع أمران الأول أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش فأجاب الله عنه بقوله وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً يقال راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل واشتقاقه من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون رغم أنفه يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن الذل
إذا عرفت هذا فنقول المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم والحاصل كأنه قيل يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سبباً لرغم أنوف أعدائك ويكون سبباً لسعة عيشك وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سبباً لرغم أنوف الأعداء أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث أنها صارت سبباً لسعة العيش عليه
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه وربما لا أصل إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ والمعنى ظاهر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل وأما أجر تمام العمل فذلك محال واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية ههنا في معرض الترغيب في الجهاد وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة فقد وجد ثواب الهجرة ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل فلا يصلح مرغباً لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ( وإنما لك امريء ما نوى ) وأيضاً ما روي في قصلاة جندب بن ضمرة أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول اللّهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لو توفي بالمدينة لكان خيراً له فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأنه تعالى قال

فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه أحدها أنه ذكر لفظ الوقوع وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط قال تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 26 ) أي وقعت وسقطت وثانيها أنه ذكر بلفظ الأجر والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة فأما الذي لا يكون مستحقاً فذاك لا يسمى أجراً بل هبة وثالثها قوله عَلَى اللَّهِ وكلمة عَلَى للوجوب قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) والجواب أننا لا ننازع في الوجوب لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإل هية وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم
المسألة الثالثة استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة كما وجب أجره وهذا ضعيف لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر وأيضاً فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء ( الأنفال 41 ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال يالواحدي يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس تقصروا من أقصر وقرأالزهري من قصر وهذا دليل على اللغات الثلاث
المسألة الثانية اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف لأنه ليس صريحاً في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها فلا جرم حصل في الآية قولان الأول أن المراد منه صلاة المسافر وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات فإنها تصير في السفر ركعتين فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء أما المغرب والصبح فلا يدخل فيهما القصر الثاني أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر بل صلاة الخوف وهو قول ابن عباس وجابر بن عبدالله وجماعة قال ابن عباس فرض الله صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا المراد من القصر تقليل الركعات
القول الثاني أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات وهو أن يكتفي في الصلاة

بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود وأن يجوز المشي في الصلاة وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال وهذا ضعيف لأنه يمكن أن يقال إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصلياً أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا وهو أن القصر مشعر بالتخفيف والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة فائماً مقام الركوع والسجود
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوماً عندهم من معنى الآية الثاني أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء ويقتصر عليه فأما أن يؤتى بشيء آخر فذلك لا يسمى قصراً ولا اقتصاراً ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم ليس شيء من ذلك قصراً بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء رخر فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى
الثالث أن مِنْ في قوله مِنَ الصَّلواة ِ للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة
الرابع أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ولهذا المعنى لما صلّى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر ركعتين قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت الخامس أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات لئلا يلزم التكرار والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القصر رخصة فإن شاء المكلف أتم وإن شاء اكتفى على القصر وقال أبو حنيفة القصر واجب فإن صلّى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه الأول أن ظاهر قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ مشعر بعدم الوجوب فإنه لا يقال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ في أداء الصلاة الواجبة بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات بل تخفيف الأعمال
وأعلم أنا بيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره فسقط هذا العذر وذكر صاحب ( الكشاف ) وجهاً آخر فيه فقال إنهم لما ألفوا الاتمام فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى

عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر فيقال له هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الاتمام وجلعته مفسداً لصلاتكم فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلاً فلا يكون هذا الكلام لائقاً به
الحجة الثانية ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت اعتمرت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة إلى مكة فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال أحسنت يا عائشة وما عاب علي وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه
الحجة الثالثة أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز لا على سبيل التعيين جزماً فكذا ههنا واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال فيه ( سدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) فظاهر الأمر للوجوب وعن أبي عباس قال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين
والجواب أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعاً جائزاً إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ولما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصراً في صلاة السفر بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر والله أعلم
المسألة الخامسة زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا إن قوله تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ جملة مركبة من شرط وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض والجزاء هو جواز القصر وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلاً أو قصيراً أقصى ما في الباب أن يقال فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة ومن دار إلى دار إلا أنا نقول
الجواب عنه من وجهين الأول أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض فقد زال الاشكال وإن سمي بذلك فنقول أجمع المسلمون على أنه غير معتبر فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع والعام بعد التخصيص حجة فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر سواء كان قليلاً أو كثيراً والثاني أن قوله وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد ومن المسجد إلى السوق وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطاً لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفراً ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد

فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر أما الفقهاء فقالوا أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر قالوا والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات
فالرواية الأولي ما روي عن عمر أنه قال يقصر في يوم تام وبه قال الزهري والأوزاعي الثانية قال ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر والثالثة قال أنس بن مالك المعتبر خمس فراسخ الرابعة قال الحسن مسيرة ليلتين الخامسة قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير من الكوفة إلى المداين وهي مسيرة ثلاثة أيام وهو قول أبي حنيفة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد السادسة قال مالك والشافعي أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر قال أهل الظاهر اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر فكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط فلهذا سكتوا عن هذه المسألة
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً وإذا لم يكن مسافراً لم يحصل الرخص المشروعة في السفر وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان قال أهل الظاهر الكلام عليه من وجوه الأول أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وهو عندنا غير جائز لوجهين الأول إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم والقرآن مقطوع المتن والخبر مظنون المتن فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز والثاني أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه ) دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتب وجب أن يكون مردوداً
الوجه الثاني في دفع هذه الأخبار وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة إنما قلنا إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلاً متواتراً لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة وإذا كان الأمر كذلك

فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها الثالث أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة وإذا تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن هذا تمام الكلام في هذا الموضع والذي عندي في هذا الباب أن يقال إن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم بدليل أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة وقع الطلاق وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع وهذا يدل على أن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان العموم البتة وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة ( إذا ) للعموم ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة والله أعلم
المسألة السادسة زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطاً بالحوف وهو قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ

والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن قالوا ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوهاً متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام وعندي أنه ليس في هدا غموض وذلك لأتا بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن كلمة ( إن ) وكلمة ( إذا ) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى إِنْ خِفْتُمْ يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن ونحن لا نقول به
فإن قيل فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتاً حال الأمن وحال الخوف فما الفائدة في تقييده بحال الخوف
قلنا إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة ولا تكون محرمة ولا صحيحة والله أعلم ثم يقال لأهل الظاهر إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن إلا أنه بعيد وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم لأنه تعالى قال إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص ولهم أن يقولوا إما أن يقال حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف أو لم يحصل الإجماع فإن حصل الإجماع فنقول خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص والله أعلم
أما قوله إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي تفسير هذه الفتنة قولان الأول خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها الثاني إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة
ثم قال تعالى إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة وإنما قال عَدُوّا ولم يقل أعداء لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع قال تعالى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 )
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً وَاحِدَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ إِنَّ الصَّلَواة َ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً
أعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد بيّن في هذه الآية حالها في الكيفية وفيه مسائل

المسألة الأولى قال أبو يوسف والحسن بن زياد صلاة الخوف كانت خاصة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تجوز لغيره وقال المزني كانت ثابتة ثم نسخت واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين الأول أن قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم لأن كلمة ( إذا ) تفيد الاشتراط الثاني أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة وأما سائر الفقهاء فقالوا لما ثبت هدا الحكم في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) ألا ترى أن قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) لم يوجب كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً به دون غيره من الأمة بعده وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض فاندفع هذا الكلام والله أعلم
المسألة الثانية شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون فيه أقوال الأول أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان وللقوم ركعة وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد الثاني أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين وهذا قول الحسن البصري الثالث أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ثم يبقى الإمام قائماً في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائماً في الركعة الثانية ركعة ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي الرابع أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهم في حكم من خلف الإمام وأما لاثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته وهذا قول عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة فلعله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام أما الواحدي رحمه الله فقال الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة وبين ذلك من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت عند إتيان الثانية وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما

فرغوا منها الثاني أن قوله فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا الآية مطابقة لقولنا لأنه تعالى قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وهذا يدل عى أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة وأجاب الواحدي عنه فقال هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة وليس الأمر كذلك بل هو لطائفتين السجود للأولى والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم
ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ والمعنى فاجعلهم طائفتين فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا يأخذون من السلام ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه ويحتمل أن يكون ذلك أمراً للفريقين بحمل السلام لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط
ثم قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ
يعني غير المصلين مِن وَرَائِكُمْ يحرسونكم وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها
ثم قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي
ثم قال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين قال الواحدي رحمه الله وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة
فإن قيل لم ذكر في الآية الأولى أَسْلِحَتَهُمْ فقط وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم
قلنا لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
ثم قال تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً واحِدَة ً أي بالقتال عن ابي عباس وجابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلّى بأصحابه الظهر ورأى المشركون ذلك فقالوا بعد ذلك بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى فأطلع الله نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) على أسرارهم بهذه الآية
ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ

والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطناً فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء أو لأجل أن الرجل كان مريضاً فيشق عليه حمل السلام فههنا له أن يضع حمل السلاح
ثم قال وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالنيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر لئلا يجترىء العدو عليهم احتيالاً في الميل عليهم واستغناماً منهم لوضع المسلمين أسلحتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله في أول الآية وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فيقتضي أن يكون أمذ السلاح واجباً ثم تأكد هذا بدليل آخر وهو أنه قال ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلاً بسبب وضع السلاح ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحاً نجساً إن أمكنه ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد
المسألة الثانية قال أبو على الجرجاني صاحب النظم قوله تعالى وخذوا حذركم يدل على أنه كان يجوز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين طائفة في وجه العدو وطظائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة وأما حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة والمسلمون كانوا مستقبلين لها فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى خُذُواْ حِذْرَكُمْ يدل على جواز هذه الوجوه والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز والله أعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إن الله تعالى أمر بالحذر وذلك يدل على كون العبد قادراً على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجباً والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وفيه سؤال أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وجوابه أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين فحيهئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ونظيره قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الأنفال 45 )
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ وفيه قولان الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه الثاني أن المراد بالذكر الصلاة يعني صلوا قياماً حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة وقعوداً حال اشتغالكم بالرمي وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالاً وهو أن يصير تقدير الآية فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين أولهما بيان القصر وهو صلاة السفر والثاني صلاة الخوف ثم إن قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ يحتمل نقيض الأمرين فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافراً بل يصير مقيماً وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها ولا تغيروا شيئاً من أحوالها وهيآتها ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً أي فرضاً موقتاً والمراد بالكتاب ههنا المكتوب كأنه قيل مكتوبة موقوتة ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعو والمصدر مذكر ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة يقال وقته ووقته مخففاً وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ ( المرسلات 11 ) بالتخفيف
واعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدّر بأوقات مخصوصة إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات وهي خمسة أحدها قوله تعالى بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) فقوله الصَّلَواتِ يدل على وجوب صلوات ثلاثة وقوله حَافِظُواْ عَلَى يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار فلا بدّ وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة وإلا لم يحصل فيها وسطى فلا بدّ من جعلها خمسة لتحصل الوسطى وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلّت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها وثانيها قوله

تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ ( الإسراء 78 ) فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتاً واحداً وللمغرب والعشاء وقتاً واحداً وثالثها قوله سبحانه فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح ثم قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الروم 18 ) فقوله وَعَشِيّاً المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء وقوله وَحِينَ تُظْهِرُونَ المراد الصلاة الواقعة في محض النهار وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر فكذلك قدم في قوله وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الليل على ثلاة النهار في الذكر فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله وَالْعَصْرِ تشريفاً لها بالإفراد بالذكر ورابعها قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) فقوله طَرَفَى ِ النَّهَارِ يفيد وجوب صلاة الصبح وجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يفيد وجوب المغرب والعشاء وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال لأن الزلف جمع وأقله ثلاثة فلا بدّ وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملاً بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وخامسها قوله تعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ فقوله قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 130 ) إشارة إلى الصبح والعصر وهو كقوله وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) وقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ إشارة إلى المغرب والعشاء وهو كقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وكما احتجوا بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فكذلك احتجوا عليه بقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظراً إلى المعقول وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة أولها مرتبة الحدوث والدخول في الوجود وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء
والمرتبة الثانية مدة الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب
والمرتبة الثالثة مدة الكهولة وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة
المرتبة الخامسة أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنساناً أو غيره من الحيوانات أو النباتات والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس وذلك لأنها

حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذهالأحوال الخمسة لها صلاة فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكراً للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيماً للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة وهو النقصان الخفي ثم لما انقضت مدة الحكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر ونعم ما قال الشافعي رحمه الله أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلاً له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية والله أعلم بأسرار أفعاله
وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال وَلاَ تَهِنُواْ أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ أي في طلب الكفار بالقتال ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال فلما لم يصر خوف الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف صار مانعاً لكم عن قتالهم ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر والمشركين لا يقرون بذلك فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون

في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثواباً عظيماً وعليكم في تركه عقاباً عظيماً أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد وهو المراد من قوله تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) وفي قوله حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وفيه وجه ثالث وهو أنكم تعبدون الإل ه العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجوا ثوابه وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات فلا يصح منهم أن يرجوا من تلك الأصنام ثواباً أو يخافوا منها عقاباً وقرأ الأعرج إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ بفتح الهمزة بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ تعليل
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم
إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في كيفية النظم وجوه الأول أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب
والوجه الثاني في بيان النظم أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة بيّن أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قومه
الوجه الثالث أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بيّن أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق ثم في كيفية الواقعة روايات أحدها أن طعمة سرق درعاً فلما طلبت الدرع منه رمى واحداً من اليهود بتلك السرقة ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية وثانيها أن واحداً وضع عنده درعاً على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد فلما طلبها منه جحدها وثالثها أن المودع لما

طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع واعلم أن العلماء قالوا هذايدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ومما يؤكد ذلك قوله تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 ) ثم روي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطاً هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله أَرَاكَ اللَّهُ إما أن يكون منقولاً بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر والثاني أيضاً باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما الكاف التي هي للخطاب والآخر المفعول المقدر وتقديره بما أراكه الله ولما بطل السمان بقي الثالث وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد
المسألة الثالثة اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ معناه بما أعلمك الله وسمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور وكان عمر يقول لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه وأما الواحد منا فرأيه يكون ظناً ولا يكون علماً
إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص
وإذا عرفت هذا فنقول تفرع عليه مسألتان إحداهما أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى واتبعوه ( الأعراف 158 ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حراماً
والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملاً بالنص في الحقيقة فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملاً بعين النص
أما قوله ولا تكن للخائنين خصيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ولا تكن لأجل الخائنين مخاصماً لمن كان بريئاً عن الذنب يعني لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين
المسألة الثانية قال الواحيد رحمه الله خصمك الذي يخاصمك وجمعه الخصماء وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه والخصم طرف الزاوية وطرف الأشفار وقيل للخصمين خصمان لأن كل

واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى وخصوم السحابة جوانبها
المسألة الثالثة قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام دلّت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه السلاة والسلام فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه
والجواب أن النهي عن الشيء ة يقتضي كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه بل ثبت في الرواية أن قوم طعملاة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب وأن اليهودي برىء عن ذلك الجرم
فإن قيل الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً فلما أمره الله بالاستغفار دلّ على سبق الذنب
والجواب من وجوه الأول لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالستغفار لهذا القدر وحسنات الأبرار سيئات المقربين والثاني لعلّ القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذوراً عند الله فيه الثالث قوله وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ يحتمل أن يكون المراد واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى
وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
والمراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقاً والاختيان كالخيانة يقال خانه واختانه وذكرنا ذلك عند قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 187 ) وءنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم إنهم يختانون أنفسهم لأن من أقدم على المعصية قفد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب فكان ذلك منه خيانة مع نفسه ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره إنه ظلم نفسه
وأعلم أن في الآية تهديداً شديداً وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً قال المفسرون إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أثَيَّمَا

فإن قيل لم قال خَوَّاناً أثَيَّمَا مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد
قلنا علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته وأيضاً طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم
وقيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمة تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر وأعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار يقال استخفيت من فلان أي تواريت منه واستترت قال تعالى وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ ( الرعد 10 ) أي مستتر فقوله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله قال ابن عباس يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله قال الواحدي هذا معنى وليس بتفسير وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم فأما أن يقال الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك وقوله وَهُوَ مَعَهُمْ يريد بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجراً للإنسان عن المعاصي وقوله إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله دبيت طائفة منهم ( النساء 81 ) والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي
فإن قيل كيف سمي التبييت قولاً وهو معنى في النفس
قلنا مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس وعلى هذا المذهب فلا إشكال ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه فأما قوله وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء

ثم قال تعالى
هَاأَنْتُمْ هَاؤُلا ءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
ثم قال تعالى مُحِيطاً هَأَنْتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ها للتنبيه في وَإِذْ أَنتُمْ و هَؤُلاء وهما مبتدأ وخبر جَادَلْتُمْ جملة مبينة لوقوع أُوْلاء اسماً موصولاً بمعنى الذي و جَادَلْتُمْ صلة وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة وجدل الحبل شدة فتلة ورجل مجدول كأنه فتل والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة هذا قول الزجاج وقال غيره سميت المخاصمة جدالاً لأن كل واحد من المخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه
إذا عرفت هذا فنقول هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه وقرأ عبد الله بن مسعود ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه يعني عن طعمة وقوله فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع
ثم قال تعالى أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً فقوله أَمْ مَّن يَكُونُ عطف على الاستفهام السابق والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية والمعنى من الذي يكون محافظاً ومحامياً لهم من عذاب الله
وأعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول
وَمَن يَعْمَلْ سُو ءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً
والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالاً للضرر إلى الغير والضرر سوء حاضر فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه
وأعلم أن هذه الآية دالة على حكمين الأول أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفراً أو قتلاً عمداً أو غصباً للأموال لأن قوله وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ عم الكل الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف وقال بعضهم أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار وقوله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً معناه غفوراً رحيماً له وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه فإنه لا معنى للترغيب

في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك
والنوع الثاني من الكلمات المرغبة في التوبة قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار كأنه تعالى يقول الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزّه عن النفع والضرر ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلبه عند إقدامه على التوبة حَكِيماً تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب
النوع الثالث قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ خَطِي ئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
وذكروا في الخطيئة والإثم وجوهاً الأول أن الخطيئة هي الصغيرة والإثم هو الكبيرة وثانيها الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل وثالثها الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ والإثم ما يحصل بسبب العمد والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ( النساء 111 ) فبيّن أن الإثم ما يكون سبباً لاستحقاق العقوبة
وأما قوله ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فالضمير في بِهِ إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول ثم يرم بأحد هذين المذكورين الثاني أن يكون عائداً إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا الثالث أن يكون عائداً إلى الكسب والتقدير يرم بكسبه بريئاً فدل يكسب على الكسب الرابع أن يكون الضمير راجعاً إلى معنى الخطيئة فكأنه قال ومن يكسب ذنباً ثم يرم به بريئاً
وأما قوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو برىء منه
وأعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب فقوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا وقوله وَإِثْماً مُّبِيناً إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أن سارق ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء فيه وجهان الأول قال القفال رحمه الله وما يضرونك في المستقبل فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل الثاني أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
وأعلم أنا إن فسرنا قوله وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مؤكداً لذلك الوعد يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذوراً في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر
ثم قال تعالى وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
قال القفال رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ما يتعلق بالدين كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وعلى هذا الوجه تقدير الآية أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك
الوجه الثاني أن يكون المراد وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم ثم قال وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل كما قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسرار 85 ) ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلاً ثم أنه سمى ذلك القليل عظيماً حيث قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وسمى جميع الدنيا قليلاً حيث قال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وذلك يدل على غاية شرف العلم

لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله النجوى في اللغة سر بين إثنين يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ويقال نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته والنجوى قد تكون مصدراً بمنزلة المناجاة قال تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون قال تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 )
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ ذكر النحويون في محل مِنْ وجوهاً وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصباً كقوله إِلاَّ أَذًى ( آل عمران 111 ) ويجوز أن يكون رفعاً في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله
إلا اليعافير وإلا العيس
وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف وعلى هذا التقدي يكون مِنْ في محل النجوى لأنه أقيم مقامه ويجوز فيه وجهان إحدهما الخفض بدل من نجواهم كما تقول ما مررت بأحد إلا زيد والثاني النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيداً وهذا استثناء الجنس من الاجنس وأما ان جعلنا النجوى اسماً للقوم المتناجين كان منصوباً على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس ويجوز أن يكون مِنْ في محل الخفض من وجهين أحدهما أن تجلعه تبعاً لكثير على معنى لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة كقولك لا خير في القوم إلا نفر منهم والثاني أن تجعله تبعاً للنجوى كما تقول لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت أتبعت زيداً الجماعة وإن شئت أتبعه القوم والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة والمراد لا خير فما ينتاجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع الأمر بالصدقة والأمر بالمعروف والاصلاح بين الناس وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال وإليه الإشارة بقوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف وإليه الإشارة بقوله بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ وأما إزالة الضرر فإليها

الإشارة بقوله أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ فهو هذا بعينه أما مسعت الله يقول وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر ( 1 2 ) فهو هذا بعينه
ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى لها لوجه الله ولطلب مرضاته فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) وقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وههنا سؤالان
السؤال الأول لم انتصب ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ
والجواب لأنه مفعول له والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله
السؤال الثاني كيف قال إِلاَّ مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ
والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ويجوز أن يراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضاً فعل من الأفعال
وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
أعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ونقب جدار إنسان لأجل السرقة فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية أما الشقاق والمشاققة فقد ذكرنا في سورة البقرة أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر أو عن كون كل واحد منهما فاعلاً فعلاً يقتضي لحوق مشقة بصاحبه وقوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أي من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام قال الزجاج لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره وأظهر من سرقته ما دلّه ذلك على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن دين الإسلام فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تبين له الهدى قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

يعني غير دين الموحدين وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان
ثم قال نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه قال بعضهم هذا منسوخ بآية السيف لا سيما في حق المرتد
ثم قال وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يعني نلزمه جنهم وأصله الصلاء وهو لزوم النار وقت الاستدفاء وَسَاءتْ مَصِيراً انتصب مَصِيراً على التمييز كقولك فلان طاب نفساً وتصبب عرقاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجباً بيان المقدمة الأولى أنه تعالى الحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجباً له لكان ذلك ضماً لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وإنه غير جائز فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجباً وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراماً وإذا كان عدم اتباعهم حراماً كان اتباعهم واجباً لأنه لا خروج عن طرفي النقيض
فإن قيل لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين
وأجيب عن هذا السؤال بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين فوجب كونه متبعاً لهم ولقائل أن يقول الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير وإلا لزم أن يقال الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث أنهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله ومعلوم أن ذلك لا يقال بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين فهذا سؤال قوي على هذا الدليل وفيه أبحاث أُخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثانية دلّت هذه الآية على وجوب عصمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن جميع الذنوب والدليل عليه أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققاً له لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أنه يجب الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في أفعاله إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة لكن المشاقة محرمة فيلزم وجوب الاقتداء في أفعاله

المسألة الرابعة قال بعض المتقدمين كل مجتهد مصيب في الأصول لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطىء واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلاً
وجوابه وهو دلالة ظنية عند من يقول به والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) والقاطع لا يعارضه المظنون
المسألة الخامسة الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى ولو لم يكن تبين الهدى معتبراً في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى
المسألة السادسة الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لو كان الهدى اسماً للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وأنه فاسد
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاٌّ نْعَامِ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة وفي تكرارها فائدتان الأولى أن عمومات الوعيد وعمومات

الوعد متعارضة في القرآن وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين وقد أعاد ههذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد
والفائدة الثانية أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع وقوله وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( النساء 115 ) إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروماً عن رحمتي ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروماً قطع عن رحمة الله ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيداً فلا جرم لا يصير محروماً عن رحمتي وهذه الناسبابت دالة قطعاً على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً سواء حصلت التوبة أو لم تحصل ثم إنه تعالى بيّن كون الشرك ضلالاً بعيداً فقال إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ءانٍ ههنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) و يَدَّعُونَ بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فءنه يدعوه عند احتياجه إليه وقوله إِلاَّ إِنَاثاً فيه أقوال الأول أن المراد هو الألأثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى واللات تأنيث الله والعزى تأنيث العزيز قال الحسن لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها إلا أوثاناً وقراءة ابن عباس إلا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( المرسلات 11 ) قال الزجاج وجائز أن يكون أثن أصلها أثن فأتبعت الضمة الضمة
القول الثاني قوله إِلاَّ إِنَاثاً أي إلا أمواتاً وفي تسمية الأموت إناثاً وجهان الأول أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى تقول هذه الأحجار تعجبني كما تقول هذه المرأة تعجبني الثاني أن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات
القول الثالث أن بعضهم كان يعبد الملائكة وكانوا يقولون الملائكة بنات الله قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاْنثَى ( النجم 27 ) والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السموات والأرض وما بينهما جماداً يسميه بالأنثى
ثم قال وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً قال المفسرون كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم وقال الزجاج المراد بالشيطان ههنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ولا شك أن قائل هذاالقول هو إبليس ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له مارد ومريد قال الزجاج يقال حائط ممرد أي مملس ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء

ثم قال تعالى لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع واعلم أن الشيطان ههنا قد ادعى أشياء أولها قوله لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً الفرض في اللغة القطع والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر والفرض الحز الذي في الوتر والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتماً عليهم قطعاً لعذرهم وكذا قوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً ( البقرة 237 ) أي جعلتم لهن قطعة من المال
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك لأتخذن من عبادك حظاً مقدراً معيناً وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس )
فإن قيل النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عدداً من حزب الله
أما النقل فقوله تعالى في صفة البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) وقال حاكياً عن الشيطان لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 ) وحكي عنه أيضاً أنه قال لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) ولا شك أن المخلصين قليلون
وأما العقل فهو أن الفساق والكفار أكثر عدداً من المؤمنين المخلصين ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس
إذا ثبت هذا فنقول لم قال لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر وإنما يتناول الأقل
والجواب أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس وثانيها وَلاَضِلَّنَّهُمْ يعني عن الحق قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا
فالأصل الأول المضل هو الشيطان وليس المضل هو الله تعالى قالوا وإنما قلنا أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ونظيره قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) وأيضاً أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلاً للناس في معرض الذم له وذلك يمنع من كون الإل ه موصوفاً بذلك
والأصل الثاني وهو أن أهل السنة يقولون الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال
والجواب أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة وأيضاً أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب

جداً فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى ( القصص 39 ) وتارة يظهر التردد فيه حيث قال رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني أن قول هؤلاء الكفار نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ولا بدّ من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله وثالثها قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال وَلامَنّيَنَّهُمْ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق وطلب الأماني يورث شيئين الحرص والأمل والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل ) والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة ورابعها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ البتك القطع وسيف باتك أي قاطع والتبتيك التقطيع قال الواحدي رحمه الله التبتيك ه هنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها وقال آخرون المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكاً في عبادة الأثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق خامسها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وللمفسرين ههنا قولان الأول أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة وفي تقرير هذا القول وجهان الأول أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
والوجه الثاني في تقرير هذا القول أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً أو الحرام
القول الثاني حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحسن المراد ما روى عبدالله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله الواصلات والواشمات ) قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا الثاني روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله ههنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً عوروا عين فحلها الثالث قال ابن زيد هو التخنث وأقول يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه التشوش والنقصان والبطلان فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين وضرر الدين هو

قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية فهذا مرض روحاني من جنس التشوش وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى ومن المعلوم أن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر وهي متوجهة إلى عالم القيامة فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لا بدّ من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييراً للخلقة وهو كما قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً واعلم أن أحداً لا يختار أن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان ولياً لنفسه وترك ولاية الله تعالى وإنما قال خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة والجمع بينهما محال عقلاً فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق
ثم قال تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور والغرور هو أن يظن الأنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع أحوال الدنيا كذلك والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده ويستولي على أعدائه ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره وإن طال فربما لم يجد مطلوبه وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بدّ وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاماً وأعظم تأثيراً في حصول الغم والحسرة فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب

وفي الآية وجه آخر وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذاً إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً المحيص المعدل والمفر قال الواحدي رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أنه لا بدّ لهم من ورودها الثاني التخليد الذي هو نصيب الكفار وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله وَلاَ يَجِدُونَ عائد إلى الذين تقدم ذكرهم وهم الذين قال الشيطان لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والأظهر أن الذي يكون نصيباً للشيطان هم الكفار
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع
ثم قال وَعْدَ اللَّهِ حَقّا قال صاحب ( الكشاف ) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه كأنه قال وعد وعداً وحقاً مصدر مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً
ثم قال وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً وهو توكيد ثالث بليغ وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه وقرأ حمزة والكسائي أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً باشمام الصاد الزاي وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو قَصْدُ السَّبِيلِ ( النحل 9 ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( الحجر 94 ) والقيل مصدر قال قولاً وقيلاً وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى
لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِى ِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُو ءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الأمنية أفعولة من المنية وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى ( الحج 52 )
المسألة الثانية بَعِيدٍ لَّيْسَ فعل فلا بدّ من اسم يكون هو مسنداً إليه وفيه وجوه الأول ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى ( النساء 122 ) الآية بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب أي

ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح الثاني ليس وضع الدين على أمانيكم الثالث ليس الثواب والعقاب بأمانيكم والوجه الأول أولى لأن إسناد لَّيْسَ إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور
المسألة الثالثة الخطاب في قوله لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ خطاب مع من فيه قولان الأول أنه خطاب مع عبدة الأوثان وأمانيهم أن لا يكون هناك جشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن هُوَ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فلا يعذبنا وقولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 )
القول الثاني أنه خطاب مع المسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم وقال المسلمون نبيّنا خاتم النبيّين وكتابنا ناسخ الكتب فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات وليس لقائل أن يقول هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا الجواب عنه من وجهين الأول أن العام بعد التخصيص حجة والثاني أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر أما القرآن فهو قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا ( المائدة 38 ) سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قرأ هذه الآية فقال أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه فقال يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام ( أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه )
الوجه الثاني في الجواب هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم لقيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول
أما القرآن فقوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )

وأما الخبر فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً فكيف الجزاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويلٌ لمن غلبت آحاده أعشاره )
وأما المعقول فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل فيبقى حينئذٍ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة
الوجه الثالث في الجواب أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ اثْنَى ْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية وقولهم خرج عن كونه مؤمناً فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن مثل قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ إلى قوله فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً وقال الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 187 ) سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمناً وقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ ( التحريم 8 ) سماه مؤمناً حال ما أمره بالتوبة فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان مؤمناً كان قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة فوجب أن يكون قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ مخصوصاً بأهل الكفر
الوجه الرابع في الجواب هب أن النص يعم المؤمن والكافر ولكن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) أخص منه والخاص مقدم على العام ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان
المسألة الثانية دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يتناول جميع المحرمات فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله يُجْزَ بِهِ يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا
قلنا إنه لا بدّ وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون نتعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم ههنا أكمل ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ) وإذا كان كذلك امتنع أن يقال إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة دلت الآية على أن العبد فاعل ودلت أيضاً على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد وذلك من وجهين أحدهما أنه لما كان عملاً للعبد امتنع كونه عملاً لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد

بقادرين والثاني أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله وأعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قالت المعتزلة دلت الآية على نفي الشفاعة والجواب من وجهين الأول أنا قلنا أنا هذه الآية في حق الكفار والثاني أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى ثم قال تعالى
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
قال مسروق لما نزل قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) قال أهل الكتاب للمسلمين نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية إلى قوله وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعاً على أن الدخول مضاف إليهم وكلاهما حسن والأول أحسن لأنه أفخم ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق وَلاَ يُظْلَمُونَ وأما القراءة الثانية فهي مطابقة لقوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ( الزخرف 70 ) ولقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( الحجر 46 ) ( ق 34 ) والله أعلم
المسألة الثانية قالوا الفرق بين مِنْ الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمناً استحق الثواب
وأعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلداً في النار بل ينقل إلى الجنة وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا ثبت هذا فنقول إن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلّى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار فأما أن يدخل الجنة ثم ينقل إلى لانار فذلك باطل بالإجماع أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه والله أعلم

المسألة الثالثة النقير نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة
فإن قيل كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقال وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 )
والجواب من وجهين الأول أن يكون الراجع في قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ عائداً إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعاً والثاني أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ مُّحِيطاً
أعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمناً شرح الإيمان وبين فضله من وجهين أحدهما أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى والثاني وهو أنه الذين الذي كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام
أما الوجه الأول فأعلم أن دين الإسلام مبين على أمرين الاعتقاد والعمل أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع والوجه أحسن أعضاء الإنسان فالإنسان إذا عرف بقلبه ربن وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله وأما العمل فإليه الإشارة بقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض وأيضاً فقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يفيد الحصر معناه أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق وأظهار التبري من الحول والقوة وأيضاً ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم أنهم من أولاد الأنبياء والنصارى كانوا يقولون ثالث ثلاثة فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله وأما المعتزلة فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا لله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله

وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام وهو أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( الأنعام 19 ) وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوء الله ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام قد كان قريباً من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) ولما ثبت أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام كان قريباً من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولاً عند الكل
وأما قوله حَنِيفاً ففيه بحثان الأول يجوز أن يكون حالاً للمتبوع وأن يكون حالاً للتابع كما إذا قلت رأيت راكباً فإنه يجوز أن يكون الراكب حالاً للمرئي والرائي
البحث الثاني الحنيف المائل ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها لأن ما سواه باطل والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيداً من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريباً من الباطل الذي يجانسه وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلاً عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة
فإن قيل ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم وعلى هذا التقدير لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة وأنتم لا تقولون بذلك
قلنا يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد عليه الصلاة والسلام مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة
ثم قال تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجهان الأول أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلاً كان جديراً بأن يتبع خلقه وطريقته والثاني أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفاً ثم قال عقيبه وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلاً لأنه كان عالماً بذلك الشرع آتياً بتلك التكاليف ومما يؤكد هذا قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماماً للخلق لأنه أتم تلك الكلمات
وإذ ثبت هذا فنقول لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلاً لله تعالى بسبب أنه كان عاملاً بتلك الشريعة كان هذا تنبيهاً على أن من عمل بهذا الشرع لا بدّ وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين

فإن قيل م موقع قوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً
قلنا هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب ونظيره ما جاء في الشعر من قوله
والحوادث جمة
والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام والأمر ههنا كذلك على ما بيناه
المسألة الثانية ذكروا في اشتقاق الخليل وجوهاً الأول أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة
قيل لما طلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماماً للخلق ورسولاً إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه
الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل أنه الذي يوافقك في خلالك أقول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تخلفوا بأخلاق الله ) فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغاً لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف
الوجه الثالث قال صاحب ( الكشاف ) إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله كما أخبر الله عنه بقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 )
الوجه الرابع الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله وهذا القول ضعيف لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلاً مع الله امتنع أن يقال إنه يسد الخلل ومن هاهنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها الأول أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقاً قالت امرأته هذا من عند خليلك المصري فقال إبراهيم بل هو من خليلي الله والثاني قال شهر بن حوشب هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام اذكره مرة أخرى فقال لا أذكره مجاناً فقال لك مالي كله فذكره الملك بصوت أشجى من الأول فقال اذكره مرة ثالثة ولك أولادي فقال الملك أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلاً الثالث روى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه وظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلاً سميناً وقربه إليهم وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فنزل هذا الوصف وأقول فيه عندي وجه آخر وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئاً مشرقاً علوياً قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية

والجلايا الإلهية صار مثل هذا الإنسان متوغلاً في عالم القدس والطهارة متبرئاً عن علائق الجسم والحس ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلاّ الله ولا يسمع إلاّ الله ولا يتحرك إلاّ بالله ولا يسكن إلاّ بالله ولا يمشي إلا بالله فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية وتخلل فيها وغاص في جواهرها وتوغل في ماهياتها فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقاً بأنه خليل لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه وإليه الإشارة بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في دعائه ( اللّهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً وفي عصبي نوراً )
المسألة الثالثة قال بعض النصارى لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معين على سبيل الاعزاز والتشريف فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الاعزاز والتشريف
وجوابه أن الفرق أن كونه خليللاً عبارة عن المحبة المفرطة وذلك لا يقتضي الجنسية أما الابن فإنه مشعر بالجنسية وجلّ الإل ه عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجوه الأول أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين وكيف يعقل ذلك وله ملك السماوات والأرض وما كان كذلك فكيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى البشر الضعيف وإنما اتخذه خليلاً بمحض الفضل والإحسان والكرم ولأنه لما كان مخلصاً في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف والحاصل أن كونه خليلاً يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام والثاني أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعاً كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد فبيّن هاهنا أنه إل ه المحدثات وموجد الكائنات والممكنات ومن كان كذلك كان ملكاً مطاعاً فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه الثالث أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلاّ عند حصول أمرين أحدهما القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات والثاني العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء فدل على كمال قدرته بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وعلى كمال علمه بقوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً الرابع أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له وذلك لأنه له ما في السماوات وما في الأرض ويجري هذا مجرى قوله إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) ومجرى قوله لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله كذا هاهنا يعني إذا كان كل من في السماوات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلاهيته فكيف يعقل أن يقال إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلاً يخرجه عن عبودية الله وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأنه ذهب مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنيس ذكر بما

المسألة الثالثة قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء فيه وجهان أحدهما المردا منه الإحاطة في العلم والثاني المراد منه الإحاطة بالقدرة كما في قوله لعالى مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( الفتح 21 ) قال القائلون بهذا القول وليس لقائل أن يقول لما دل قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كمال القدرة فلو حملنا قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً على كمال القدرة لزم التكرار وذلك لأنا نقول إن قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لا يفيد ظاهره إلاّ كونه تعالى قادراً مالكاً لكل ما في السماوات وما في الأرض ولا يفيد كونه قادراً على ما يكون خارجاً عنهما ومغايراً لهما فلما قال وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً دل على كونه قادراً على ما لا نهاية له من المقدورات خارجاً عن هذه السماوات والأرض على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه فهذا تقرير هذا القول إلاّ أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإل هية والوفاء بالوعد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم فلا بدّ من ذكرهما معاً وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادراً ثم بعد العلم بكونه قادراً يعلم كونه عالماً لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم ولا شك أن الأول مقدم على الثاني
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إل هيته ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلاّ إذا كان مقروناً بالوعد والوعيد والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلاّ عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق
إذا عرفت هذا فنقول إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاستفتاء طلب الفتوى يقال استفتيت الرجل في المسألة فإفتاني إفتاء وفتياً وفتوى وهما إسمان موضوعان موضع الافتاء ويقال أفتيت فلاناً في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بِقُرْءانٍ سِمَانٍ ( يوسف 46 ) ومعنى الافتاء إظهار المشكل وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قوياً فتياً
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين الأول أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئاً من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة فهذه الآية نزلت في توريثهم والثاني أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثالثة اعمل أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهم وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء
أما قوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ففيه الأول أنه رفع بالابتداء والتقدير قل الله يفتيكم في النساء والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً وذلك المتلو في الكتاب هو قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 )
وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم وكما جاز هذا جاز أيضاً أن يقال إن كتاب الله أفتى بكذا
القول الثاني أن قوله وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مبتدأ و فِى الْكِتَابِ خبره وهي جملة معترضة والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله ونظيره في تعظيم القرآن قوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 )
القول الثالث أنه مجرور على القسم كأنه قيل قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب والقسم أيضاً بمعنى التعظيم
والقول الرابع أنه عطف على المجرور في قوله فِيهِنَّ والمعنى قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء قال الزجاج وهذا الوجه بعيد جداً نظراللً إلى اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضاً فيما يتلى من الكتاب ومعلوم أنه ليس المراذ ذلك وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل بقي هاهنا سؤالان
السؤال الأول بم تعلق قوله فِى يَتَامَى النّسَاء

قلنا هو في الوجه الأول صلة يُتْلَى أي يتلى عليكم في معناهن وأما في سائر الوجوه فبدل من فِيهِنَّ
السؤال الثاني الإضافة في يَتَامَى النّسَاء ما هي
الجواب قال الكوفيون معناه في النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الجمعة وحق اليقين وقال البصريون إضافة الصفة إلى الاسم غير جائز فلا يقال مررت بطالعة الشمس وذلك لأن الصفة والموصوف شيء واحد وإضافة الشيء إلى نفسه محال وهذا التعليل ضعيف لأن الموصوف قد يبقى بدون الوصف وذلك يدل على أن الموصوف غير الصفة ثم أن البصريين فرعوا على هذا القول وقالوا النساء في الآية غير اليتامى والمراد بالنساء أمهات اليتامى أضيفت إليهن أولادهن اليتامى ويدل عليه أن الآية نزلت في قصة أم كحة وكانت لها يتامى
ثم قال الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ قال ابن عباس يريد ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار وعلى قول الباقين المراد بقوله مَا كُتِبَ لَهُنَّ الصداق
ثم قال تعالى وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ قال أبو عبيدة هذا يحتمل الرغبة والنفرة فإن حملته على الرغبة كان المعنى وترغبون في أن تنكحوهن وإن حملته على النفرة كان المعنى وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه ا ا بهذه الآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة ولا حجة لهم فيها لاحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن والدليل على صحة قولنا أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغب أمها في المال فجاؤا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قدامة أنا عمها ووصي أبيها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلاّ بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة وذلك لا يدل على الجواز
ثم قال تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وهو مجرور معطوف على يتامى النساء كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء وإنما يورثون الرجال الذين بلغوا إلى القيام بالأمور العظيمة دون الأطفال والنساء
ثم قال تعالى وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وهو مجرور معطوف على المستضعفين وتقدير الآية وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستشعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء
وَإِنِ امْرَأَة ٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

اعلم أن هذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية شبيهة بقوله وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ( التوبة 6 ) وقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ( الحجزات 9 ) وهاهنا ارتفع امْرَأَتُ بفعل يفسره خَافَتْ وكذا القول في جميع الآيات التي تلوناها والله أعلم
المسألة الثانية قال بعضهم خافت أي علمت وقال آخرون ظنت وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة بل المراد نفس الخوف إلاّ أن الخوف لا يحصل إلاّ عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف وتلك الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لامرأته إنك دميمة أو شيخة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة والبعل هو الزوج والأصل في البعل هو السيد ثم سمي الزوج به لكونه الكسيد للزوجة ويجمع البعل على بعولة وقد سبق هذا في سورة البقرة في قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض ونشوز الرجل في حق المرأة أن يعرض عنها ويعبس وجهه في وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهم بطلاقها فقالت لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة فقال الزوج إن كان الأمر فهو أصلح لي والثاني أنها نزلت في قصة سودة بنت زمعة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يطلقها فالتمست أن يمسكها ويجعل نوبتها لعائشة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ولم يطلقها والثالث روي عن عائشة أنها قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم
المسألة الرابعة قوله نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة والإيذاء وذلك لأن هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة
ثم قال تعالى فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي يُصْلِحَا بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح والباقون يصالحا بفتح الياء والصاد والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح ويصالحا في الأصل هو يتصالحا فسكنت التاء وأدغمت في الصاد ونظيره قوله إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا ( الأعراف 38 ) أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا

إذا عرفت هذا فنقول من قرأ يُصْلِحَا فوجهه أن الاصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ( البقرة 182 ) وقال أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( النساء 114 ) ومن قرأ يصالحا وهو الاختيار عند الأكثرين قال أن يصالحا معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله فلا جناح عليهما أن صالحا وانتصب صلحاً في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال تصالحا ولكنه ورد كما في قوله سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) وقوله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( المزمل 8 ) وقول الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقاً له وحق المراأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء
إذا عرفت هذا فنقول هذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو أسقطت عنه القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزاً
ثم قال تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه
وأما إذا قلنا إنه يفيد العموم فهاهنا بحث وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملاً ويخرج عن الإفادة فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول من الناس من حمل قوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على الاستغراق ومنهم من حمله على المعهود السابق يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة والأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا اللفظ على المعهود السابق أولى فاندفع استدلالهم والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة اعتراض وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ إلاّ أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً قوله فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا فقوله لاَّ جُنَاحَ يوهم أنه رخصة والغاية فيه ارتفاع الإثم فبيّن تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض أما قوله تعالى وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ
فأعلم أن الشح هو البخل والمراد أن الشح جعل

كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها يعني أن النفوس مطبوعة على الشح ثم يحتمل أن يكن المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها
ثم قال تعالى وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه وجوه الأول أنه خطاب مع الأزواج يعني إن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهمتوهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيراً وهو يشيبكم عليه الثاني أنه خطاب للزوج والمرأة يعني وأن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم الثالث أنه خطاب لغيرهما يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما وحكى صاحب الكشاف أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه يوماً ثم قالت الحمد لله فقال مالك فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
ثم قال تعالى وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ وفيه قولان الأول لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا ملكفين به قالت المعتزلة فهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز الوقوع وقد ذكرنا أن الاشكال لازم عليهم في العلم وفي الدواعي الثاني لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال
ثم قال فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل روى الشافعي رحمة الله عليه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقسم ويقول ( هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك )
ثم قال تعالى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ يعين تبقى لا أيما ولا ذات بعل كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة وفي الحديث ( من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شفيه مائل ) وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمال فقالت عائشة إلى كل أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عمر بمثل هذا فقالوا لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهن بغيره فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعدل بيننا قي القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعاً

ثم قال تعالى وَإِن تُصْلِحُواْ بالعدل في القسم وَتَتَّقُواْ الجور فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض
وقيل المعنى وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجاً عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
ثم قال تعالى وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ
وأعلم أنه تعالى ذكر جواز الصلح إن أرادا ذلك فإن رغبا في المفارقة فالله سبحانه بيّن جوازه بهذه الآية أيضاً ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول ويعيش أهنأ من عيشه الأول
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من سعته وصف نفسه بكونه واسعاً وءنما جاز وصف الله تعالى بذلك لأنه تعالى واسع الرزق واسع الفضل واسع الرحمة واسع القدرة واسع العلم فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لاختص ذلك بذلك المذكور ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دلّ على أنه واسع في جميع الكمالات وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة والرحمة والفضل والجود والكرم وقوله حَكِيماً قال ابن عباس يريد فيما حكم ووعظ وقال الكلبي يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً

وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلاً من سعته وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعاً فقال وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يعني من كان كذلك فإنه لا بدّ وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة الثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من العضف والقصور بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وفيه مسائل
المسأالة الأولى المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل بل هو وصية الله في الأولين والآخرين
المسألة الثانية قوله مِن قَبْلِكُمْ فيه وجهان الأول أنه متعلق بوصينا يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب والثاني أنه متعلق بأوتوا يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك وقوله وَإِيَّاكُمْ بالعطف على الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية والمراد اليهود والنصارى
المسألة الثالثة قوله أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ كقولك أمرتك الخير قال الكسائي يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا ويقال ألم آمرك أن ائت زيداً وأن تأتي زيداً قال تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( الأنعام 14 ) وقال إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ ( النمل 91 )
ثم قال تعالى وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً قوله وَإِن تَكْفُرُواْ عطف على قوله اتَّقُواْ اللَّهَ والمعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وفيه وجهان الأول أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحق كل عاقل أن يكون منقاداً لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه والثاني أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سمواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه وكان مع ذلك غنياً عن خلقهم وعن عبادتهم ومستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
فإن قيل ما الفائدة في تكرير قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
قلنا إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور فأولها أنه تعالى قال وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) والمراد منه كونه تعالى جواداً متفضلاً فذكر عقيبه قوله وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم وثانيها قال وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والمراد منه أنه تعالى منزّه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين فلا يزذاذ جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات فذكر عقيبه قوله فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ

والغرض منه تقرير كونه غنياً لذاته عن الكل وثالثها قال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادراً على جميع المقدورات وإذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني ثم يذكره ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال وأيضاً فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذٍ لكون تخليق السموات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالب جليلة فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده لا جرم كان في غاية الحسن والكمال وقوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع المقدورات فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل
ثم قال تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة ولو كان عاقلاً لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل
قلنا تقرير الكلام فعند الله ثواب الدينا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال الآية بما قبلها وجوه الأول أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله وبالجملة فكأنه قيل إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله وءن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت ( صلى الله عليه وسلم ) لا لنفسك ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف فكانت هذه الآية تأكيداً لما تقدم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف أو السبعالذي غاية أمره إيذاء حيوان الثالث أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 ) وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سيل الله وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل أحد بل وعلى أنفسهم فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف
المسألة الثانية القوام مبالغة من قائم والقسط العدل فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل وقوله شُهَدَاء للَّهِ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران الأول أن يقر نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجباً إلزام الحق والثاني أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره
المسألة الثالثة في نصب شُهَدَاء ثلاثة أوجه الأول على الحال من قَوَّامِينَ والثاني أنه خبر على أن كُونُواْ لها خبران والثالث أن تكون صفة لقوامين
المسألة الرابعة إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه الأول أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولاً ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانياً تنبيهاً على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير الثاني أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير وهو الذي عليه الحق ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع

الضرر عن الغير الثالث أن القيام بالقسط فعل والشهادة قول والفعل أقوى من القول
فإن قيل ءنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) فقدم الشهادة على القيام بالقسط وههنا قدم القيام بالقسط فما الفرق
قلنا شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقاً للمخلوقات وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعياً للعدل وميايناً للجور ومعلوم أنه ما لم يكون الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة فثبت أن الواجب في قوله شَهِدَ اللَّهُ أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب ههنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي والله أعلم
ثم قال تعالى إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا أي إن يكن المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير فالله أولى بأمورهما ومصالحهما وكان من حق الكلام أن يقال فالله أولى به لأن قوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ أي الله أولى بالفقير والغني وفي قراءة أبي فالله أولى بهم وهو راجع إلى قوله أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وقرأ عبد الله إن يكن غني أو فقير على ( كان ) التامة
ثم قال تعالى فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفيه بصفة العدل وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر فتقدير الآية فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا
ثم قال تعالى وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور وَإِن تَلْوُواْ بواوين وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا وأما قراءة تلووا ففيه وجهان أحدهما أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم لواه حقه إذا مطله ودفعه الثاني أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله ومنه يقال التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيهاً بالشيء المنفتل وأما تلوا ففيه وجهان الأول أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيراً فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته والحاصل إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها والثاني قال الفرّاء والزجاج يجوز أن يقال تلوا أصله تلووا ثم قبلت الواو همزة ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار وَإِن تَلْوُواْ وهذا أضعف الوجهين وأما قوله فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً

وفي مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنها متصلة بقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وذلك لأن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإسمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية وثانيهما أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان
المسألة الثانية أعلم أن ظاهر قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل ولا شك أنه محال فلهذا السبب ذكر المفسرون في وجوهاً وهي منحصرة في قولين الأول أن المراد بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ المسلمون ثم في تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه وحاصله يرجع إلى هذا المعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل ونظيره قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) مع أنه كان عالماً بذلك وثانيها يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال وثالثها يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية ورابعها يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا وخامسها روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما بمواه من الكتب والرسل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا
القول الثاني أن المخاطبين بقوله ءامَنُواْ ليس هم المسلمون وفي تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن الخطاب مع اليهود والنصارى والتقدير يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وثانيها أن الخطاب مع المنافقين والتقدير يا أيها الذين آمنوا باللسان رمنوا بالقلب ويتأكد هذا بقوله تعالى مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( المائدة 41 ) وثالثها أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره والتقدير يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضاً آخره ورابعها أنه خطاب للمشركين تقديره يا أيها الذين آمنوا بالّلات والعزى آمنوا بالله وأكثر العلماء رجّحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ على ما لم يسم فاعله والباقون ( نزل وأنزل ) بالفتح فمن ضم فحجته قوله تعالى لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وقال في آية أخرى وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ ( الأنعام 114 ) ومن فتح فحجته قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقوله وَأَنزَلْنَا الذّكْرِ وقال بعض العلماء كلاهما حسن إلا أن الضم إفخم كما في قوله وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 )

المسألة الرابعة اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء أولها بالله وثانيها برسوله وثالثها بالكتاب الذي نزل على رسوله ورابعها بالكتاب الذي أنزل من قبل وذكر في الكفر أموراً خمسة فأولها الكفر بالله وثانيها الكفر بملائكته وثالثها الكفر بكتبه ورابعها الكفر برسله وخامسها الكفر باليوم الآخر
ثم قال تعالى فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب وفي مراتب الكفر قلب القضية
الجواب لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدماً على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدماً على الكتاب
السؤال الثاني لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر
والجواب أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله
السؤال الثالث كيف قيل لأهل الكتب وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ مع أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة الثاني أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان هو المعجزة فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعناً في المعجزة وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( النساء 150 151 )
السؤال الرابع لم قال نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنزَلَ مِنَ قَبْلُ
والجواب قال صاحب ( الكشاف ) لأن القرآن نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله وأقول الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ ( آل عمران 3 4 )
السؤال الخامس قوله وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ لفظ مفرد وأي الكتب هو المراد منه
الجواب أنه اسم جنس فيصلح للعموم

إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية
واعلم أن فيها أقوالاً كثيرة الأول أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيماناً صحيحاً معتبراً فهذا هو المراد بقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق فكذا ههنا الثاني قال بعضهم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام الثالث قال آخرون المراد المنافقون فالإيمان الأول إطهارهم الإسلام وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) قال القفال رحمة الله عليه وليس المراد بيان هذا العدد بل المراد ترددهم كما قال مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( النساء 143 ) قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الرابع قال قوم المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ( آل عمران 72 ) وقوله ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام
المسألة الثانية دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فوجب أن يكون الإيمان أيضاً كذلك لأنهما ضدان متنافيان فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوهاً

الأول أنهم ماتوا على كفرهم الثاني أنهم ازدادوا كفراً بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان الثالث أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه
ثم قال تعالى كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وفيه سؤالان الأول أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطاً بما قبل التوبة يأو بما بعدها والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية والثاني أيضاً باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفورة ولو كان ذلك بعد ألف مرة فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم
والجواب عنه من وجوه الأول أنا لا نحمل قوله إِنَّ الَّذِينَ على الاستغراق بل نحمله على المعهود السابق والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني أن الكلام خرج على الغالب المعتاد وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه الثالث أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر وقول السائل إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة
قلنا إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) خصهما بالذكر لأجل التشريف وكذلك قوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الثاني في قوله لِيَغْفِرَ لَهُمْ اللام للتأكيد فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يفيد نفي التأكيد وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي فما الوجه فيه
والجواب أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي
ثم قال تعالى وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً قال أصحابنا هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافاً للمعتزلة وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة
ثم قال تعالى بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة ثم قال وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب وهو المراد من قوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وقوله بُشّرَ تهكم بهم والعرب تقول تحيتك الضرب وعتابك السيف

ثم قال تعالى
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
الَّذِينَ نصب على الذم بمعنى أريد الذين أو رفع بمعنى هم الذين واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون المنافقون وبالكافرين اليهود وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض إن أمر محمد لا يتم فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم
ثم قال تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ قال الواحدي أصل العزة في اللغة الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة غزاز ويقال قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد يأن يهلك وعز الهم اشتد ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل
إذا عرفت هذا فنقول إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
فإن قيل هذا كالمناقض لقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقين 8 )
قلنا القدرة الكاملة لله وكل من سواه فباقداره صار قادراً وبإعزازه صار عزيزاً فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعاً لله ثم قال تعالى
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
قال المفسرون إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به فأنزل الله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون فقال تعالى مخاطباً للمنافقين إنه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا

والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد به سماع الاستهزاء قال الكسائي وهو كما يقال سمعت عبدالله يلام وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما قال الكسائي فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر والاستهزاء
ثم قال إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ
والمعنى أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر قال أهل العلم هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل ههنا هذا إذا كان الجالس راضياً بذلك الجلوس فأما إذا كان ساخطاً لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة
ثم إنه تعالى حقق كون المنافقين مثل الكافرين في الكفر فقال إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
يريد كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة وأراد جامع بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين استخفافاً من اللفظ وهو مراد في الحقيقة
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
إعلم أن قوله الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين وإما نصب على الذم وقوله يَتَرَبَّصُونَ أي ينتظرون ما يحدث من خير أو شر فإن كان لكم فتح أي ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم أي فأعطونا قسماً من الغنيمة وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب أي ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم يقال استحوذ على فلان أي غلب عليه وفي تفسير هذه

الآية وجهان الأول أن يكون بمعنى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئاً من ذلك ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا نصيباً مما أصبتم الثاني أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطعموه أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون ألسنا غلبنانكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى أمركم فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم
فإن قيل لم سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكفار نصيباً
قلنا تعظيماً لشأن المؤمنين واحتقاراً لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة
ثم قال تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي بين المؤمنين والمنافقين والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة
ثم قال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً وفيه قولان الأول وهو قول علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ الثاني أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل الثالث هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل وللشافعي رحمه الله مسائل منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بداء الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً بدلالة هذه الآية ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواة ِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ قد مرّ تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا ( البقرة 9 ) قال الزجاج في تفسير هذه الآية يُخَادِعُونَ اللَّهَ أي يخادعون رسول الله أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله وَهُوَ أي مجازيهم بالعقاب على خداعهم قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه تعالى خادعهم الآخرة وذلك أنه تعالى يعطيهم نوراً كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة ودليله قوله تعالى مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( البقرة 17 )
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا

كسالى أي متثاقلين متباطئين وهو معنى الكسل في اللغة وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها في الحال ولا يرجون بها ثواباً ولا من تركها عقاباً فكان الداعي للترك قوياً من هذه الوجوه والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس والداعي إلى الفعل متى كان كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور قال صاحب ( الكشاف ) قرىء كُسَالَى بضم الكاف وفتحها جمع كسلان كسكارى في سكران
ثم قال تعالى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً والمعنى أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين
فإن قيل ما معنى المرآة وهي مفاعلة من الرؤية
قلنا إن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل وفي قوله وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً وجوه الأول أن المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلاً لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلقون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس الثاني أن المراد بذكر الله أنهم كانوا في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وهو الذي يظهر مثل التكبيرات فأما الذي يخفى مثل القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها الثالث المراد أنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات سواء كان ذلك الوقت وقت الصلاة أو لم يكن وقت الصلاة إلا قليلاً نادراً قال صاحب ( الكشاف ) وهكذا نرى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولكن حديث الدنيا يستغرق به أيامه وأوقاته لا يفتر عنه الرابع قال قتادة إنما قيل إلا قليلاً لأن الله تعالى لم يقبله وما رده الله تعالى فكثيره قليل وما قبله الله فقليله كثير ثم قال تعالى
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى مذبذبين إما حال من قوله يراؤن أو من قوله لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) ويحتمل أن يكون منصوباً على الذم
المسألة الثانية مذبذبين أي متحيرين وحقيقة المذبدب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه
وأعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل وإذا كان الفعل تبعاً للداعي والداعي تبعاً للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في

الميل والرغبة وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتاً راسخاً فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( إبراهيم 27 ) وقال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ( الفجر 26 )
المسألة الثالثة قرأ ابن عباس مُّذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى وفي مصحف عبد الله بن مسعود متذبذبين وعن أبي جعفر مذبذبين بالدال المهملة وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى فلا يبقون على دبة واحدة والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب
المسألة الرابعة قوله بَيْنَ ذالِكَ أي بين الكفر والإيمان أو بين الكافرين والمؤمنين وكلمة ذالِكَ يشار به إلى الجماعة وقد تقدم تقريره في تفسير قوله عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 ) وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 139 ) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا إن قوله مُّذَبْذَبِينَ يقتضي فاعلاً قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين وذلك ليس باختيار العبد فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلاً ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا وإذا كانت تلك الذبذبة لا بدّ لها من فاعل وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى فثبت أن الكل من الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز
قلنا ءن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين وذم المنافقين في بضع عشرة آية وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين الأول أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله مُّذَبْذَبِينَ يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعلى وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله والثاني أنه تصريح بأن الله تعالى تعالى أضله عن الدين قالت المعتزلة معنى هذا الإضلال سلب الألطاف أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مراراً

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قوله تعالى سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى لما ذم المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والسبب فيه أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نتولى فقال المهاجرين فنزلت هذه الآية
والوجه الثاني ما قاله القفال رحمه الله وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
فإن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطاناً مبيناً على كونكم منافقين والمراد أتريدن أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاٌّ سْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام فالدرك ما يلحق به من الطبقة وظاهره أن جهنم طبقات والظاهر أن أشدها أسفلها قال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بضع
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فِى الدَّرْكِ بسكون الراء والباقون بفتحها قال الزجاج هما لغتان مثل الشمع والشمع إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالاً قال أبو حاتم جمع الدرك أدراك كقولهم جمل وأجمل وفرس وأفرس وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب
المسألة الثالاثة قال ابن الأنباري إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل وقال في آل فرعون النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) فأيهما أشد عذاباً المنافقون أم آل فرعون وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل وقد اجتمع فيه الفريقان
المسألة الرابعة لما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه مثله في الكفر وضم إليه نوع آخر من

الكفر وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار
ثم قال تعالى وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وهذا تهديد لهم واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة قالوا إنه تعالى خصّ المنافقين بهذا التهديد ولو كان ذلك حاصلاً في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجراً عن النفاق من حيث أنه نفاق وليس هذا استدلالاً بدليل الخطاب بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجراً عنه من حيث إنه نفاق ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أموراً أربعة أولها التوبة وثانيها إصلاح العمل فالتوبة عن القبيح وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن وثالثها الاعتصام بالله وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعاً أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها ورابعها الإخلاص والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولاً بترك القبيح وثانياً بفعل الحسن وثالثاً أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى ورابعاً أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصاً وأن لا يمتزج به غرض آخر فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل فأولئك مؤمنون ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم فقال وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى
مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى أيعذبكم لأجل التشفي أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غنى لذاته عن الحاجات منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وإنما المقصود منه حمل

مفاتيح الغيب ـ شركة التراث

المكلفين على فعل الاحسن والاحتراز عن القبيح فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على قولنا وذلك لأنها دالة على أنه سبحانه ما خلق خلقاً لأجل التعذيب والعقاب فإن قوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ صريح في أنه لم يخلق أحداف لغرض التعذيب وأيضاً الآية تدل على أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وليس ذلك فعلاً لله تعالى وإلا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إذا خلق الشكر والإيمان فيكم ومعلوم أن هذا غير منتظم وقد سبق الجواب عن هذه الكلمات
المسألة الثالثة قال أصحابنا دلت هذه الآية على أنه لا يعذب صاحب الكبيرة لأنا نفرض الكلام فيمن شكر ورمن ثم أقدم على الشرب أو الزنا فهذا وجب أن لا يعاقب بدليل قوله تعالى مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ فإن قالوا لا نسلم أن صاحب الكبيرة نؤمن قلنا ذكرنا الوجوه الكثيرة في هذا الكتاب على أنه مؤمن
المسألة الرابعة في تقدم الشكر على الإيمان وجهان الأول أنه على التقديم والتأخير أي إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات الثاني إذا قلنا الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل الثالث أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكراً مجملاً ثم إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان ذلك الشكر المجمل مقدماً على الإيمان فلهذا قدمه عليه في الذكر
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً لأنه تعالى لما أمرهم بالشكر سمى جزاء الشكر شكراً على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في حقه تعالى كونه مثيباً على الشكر والمراد من كونه عليماً أنه عالم بجميع الجزئيات فلا يقع الغلط له ألبتة فلا جرم يوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّو ءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك التسر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( أذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس ) وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم الثاني أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا أخلصوا صاروا من المؤمنين فيحتمل أنه كان يثوب بعضهم ويخلص في توبته

ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته فلما قال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ علمنا أنه لا يريد ذلك وأيضاً لو كان خالقاً لأفعال العباد لكان مريداً لها ولو كان مريداً لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول وإنه خلاف الآية
والجواب المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل وعلى هذا الوجه يصح أن يقال إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أهل العلم إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا غير الجهر أيضاً ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ ( النساء 94 ) والتبين واجب في الطعن والإقامة فكذا ههنا
المسألة الرابعة في قوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ قولان وذلك لأنه إما ى ن يكون استثناءً منقطعاً أو متصلاً
القول الأول أنه استثناء متصل وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير إلا جهر من ظلم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه الثاني قال الزجاج المصدر ههنا أقيم مقام الفاعل والتقدير لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم
القول الثاني إن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته
المسألة الخامسة المظلوم ماذا يفعل فيه وجوه الأول قال قتادة وابن عباس لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه الثاني قال مجاهد إلا أن يخبر بظلم ظالمه له الثالث لا يجوز إظهار الأحوال المتسورة المكتومة لأن ذلك يصير سبباً لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم الرابع قال الحسن إلا أن ينتصر من ظالمه قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه فإن رجلاً شتمه فسكت مراراً ثم رد عليه فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو بكر شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت قال إن ملكاً كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان فنزلت هذه الآية
المسألة السادسة قرأ جماعة من الكبار الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إَلاَّ مَن ظَلَمَ بفتح الظاء وفيه وجهان الأول أن قوله لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ كلام تام وقوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ كلام منقطع عما قبله والتقدير لكن من ظلم فدعوه وخلوه وقال الفرّاء والزجاج يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداء الثاني أن يكون الاستثناء متصلاً والتقدير إَلاَّ مَن

ظَلَمَ فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه ويعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستوراً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره
إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُو ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
أعلم أن معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر
ثم قال تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً وفيه وجوه الأول أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن الثاني أن الله كان عفواً لمن عفا قديراً على إيصال الثواب إليه الثالث قال الكلبي إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
أعلم أنه تعالى لما تكلم على طريقة المنافقين عاد يتكلم على مذاهب اليهود والنصارى ومناقضاتهم وذكر في آخر هذه السورة من هذا الجنس أنواعاً
النوع الأول من أباطيلهم إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض فقال إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فإن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلاً أي واسطة وهي الإيمان بالبعض دون البعض
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وفيه مسائل

المسألة الأولى في خبر ءانٍ قولان أحدهما أنه محذوف كأنه قيل جمعوا المخازي والثاني هو قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ والأول أحسن لوجهين أحدهما أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب وإذا ذكر بقي مقتصراً على المذكور والثاني أنه رأس الآية والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلاً عن المبتدأ
المسألة الثانية أنهم إنما كانوا كافرين حقاً لوجهين الأول أن الدليل الذي يدل على نبوّة البعض ليس إلاّ المعجز وإذا كان دليلاً على النبوّة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوّة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوّة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم
فإن قيل هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الالزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلاً به فإلزام الكفر غير والتزام الكفر غير والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر
قلنا الإلزام إذا كان خفياً بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم أما إذا كان جلياً واضحاً لم يبقَ بين الالزام والالتزام فرق والثاني وهو أن قبول بعض الأنبياء أن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفراً بكل الأنبياء
المسألة الثالثة في قوله حَقّاً وجهان الأول أنه انتصب على مثل قولك زيد أخوك حقاً والتقدير أخبرتك بهذا المعنى إخباراً حقاً والثاني أن يكون التقدير أولئك هم الكافرون كفراً حقاً طعن الواحدي فيه وقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل المعنى أولئك هم الكافرون كفراً كاملاً ثابتاً حقاً يقيناً
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إنما قال وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعداً إلاّ أن أحداً لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويدل عليه وجهان الأول صحة الاستثناء والثاني قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 )
إذا عرفت هذا فتقدير الآية ولم يفرقوا بين أثنين منهم أو بين جماعة
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان وإلاّ لم تصلح هذه

الآية لأن تكون ترغيباً في الإيمان وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية حفص يُؤْتِيهِمْ بالياء والضمير راجع إلى اسم الله والباقون بالنون وذلك أولى لوجهين أحدهما أنه أفخم والثاني أنه مشاكل لقوله وَأَعْتَدْنَا ( الأحزاب 31 )
المسألة الرابعة قوله تعالى سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخراً
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود فإنهم قالوا إن كنت رسولاً من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح وقيل طلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنك رسول الله وقيل كتاباً نعاينه حين ينزل وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت
واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت كأنه قيل إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ وهذه

القصة قد فسرناها في سورة البقرة واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك
ثم قال تعالى ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين والمراد بالبينات من قوله مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أمور أحدها أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات فإن الصاعقة وإن كانت شيئاً واحداً إلاّ أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة وثانيها أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم وثالثها أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل وكل لذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق
ثم قال فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ يعني لم نستأصل عبدة العجل يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه وفيه بشارة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التنبيه والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم فأحدها أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم وفيه وجوه الأول أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق الثاني أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا وصار المعنى ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين الثالث أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وثانيها قوله وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ومضى بيانه في سورة البقرة وثالثها قوله وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ فيه وجهان الأول لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان أي ظلمه وجاوز الحد ومنه قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً ( الأنعام 108 ) الثاني لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قال لهم اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق
المسألة الثانية قرأ نافع لاَ تَعْدُواْ ساكنة العين مشددة الدال وأراد لا تعتدوا وحجته قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ ( البقرة 65 ) فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا

كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة وقيل لهم ويقولون إن المد يصير عوضاً عن الحركة وروى ورش عن نافع لاَ تَعْدُواْ بفتح العين وتشديد الدال وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين والباقون تَعْدُواْ بضم الدال وسكون العين حقيقة
المسألة الثالثة قال القفال الميثاق الغليط هو العهد المؤكد غاية التوكيد وذلك بين فيما يدعونه من التوراة ثم قال تعالى
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَأايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق الباء في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم قولان الأول أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا لعنادهم وسخطنا عليهم والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن الثاني أن متعلق الباء هو قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ بدل من قوله فِيمَا نَقْضِهِم
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان أحدهما أن من قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ إلى قوله فَبِظُلْمٍ الآيتين بعيد جداً فجعل أحدهما بدلاً عن الآخر بعيد الثاني أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جداً لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم قلوبنا غلف أعظم الذنوب وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة
المسألة الثانية اتفقوا على أن ( ما في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ صلة زائدة والتقدير فبنقضهم ميثاقهم وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 )
المسألة الثالثة أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور أولها نقض الميثاق وثانيها كفرهم بآيات الله والمراد منه كفرهم بالمعجزات وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله وثالثها قتلهم الأنبياء بغير حق وذكرنا تفسيره في سورة البقرة ورابعها قولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ وذكر القفال فيه وجهين أحدهما أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا فكذبوا الأنبياء بهذا القول والثاني أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون نظيره ما حكى الله في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 )

ثم قال تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها وهذا يليق بمذهبنا وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية وهذا يليق بمذهب المعتزلة إلاّ أن الوجه الأول أولى وهو المطابق لقوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل البتة
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
وخامسها قوله وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
اعلم أنهم لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر والقدح في وجود الصانع المختار فالقوم لا شك أنهم أولاً أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب وثانياً نسبوا مريم إلى الزنا فالمراد بقوله وَبِكُفْرِهِمْ هو إنكارهم قدرة الله تعالى وبقوله وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً نسبتهم إياها إلى الزنا ولما حصل التغير لا جرم حسن العطف وإنما صار هذا الطعن بهتاناً عظيماً لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلّ على براءتها من كل عيب نحو قوله وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ( مريم 25 ) ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلاً منفصلاً عن أمه فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( النور 16 ) وذلك يدل على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم عليها السلام
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
وسادسها قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك وهذا يدل على أنهك كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم
فإن قيل اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن

الفاعلة فكيف قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكقول كفار قريش لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجز 6 ) والثاني أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ وفي الآية سؤالان
السؤال الأول قوله شُبّهَ مسند إلى ماذا إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبّه به وليس بمشبه وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر
والجواب من وجهين الأول أنه مسند إلى الجار والمجرور وهو كقولك خيل إليه كأنه قيل ولكن وقع لهم الشبه الثاني أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله وَمَا قَتَلُوهُ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكوراً بهذا الطريق فحسن إسناد شُبّهَ إليه
السؤال الثاني أنه إن جاز أن يقال أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة فإنا إذا رأينا زيداً فلعله ليس بزيد ولكنه ألقى شبه زيد عليه وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك وثوقاً به وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنا نقول لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة وأيضاً ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر والطعن فيه يوجب الطعن في نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردوداً
والجواب اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً
الأول قال كثير من المتكلمين إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس وبهذا الطريق زال السؤال لا يقال إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً لأنا نقول إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب
والطريق الثاني أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه الأول أن اليهود لما علموا أنه

حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه الثاني وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى الثالث أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي فقال واحد منهم أنا فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى عليه السلام الرابع كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام وكان منافقاً فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال تعالى أَعْلَمُ أَنَّ فِى قَوْلُهُ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ قولين الأول أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة النسطورية والملكانية واليعقوبية
أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول قالوا لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن وءما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه لا يقال فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص لأنا نقول إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة
وأما الملكانية فقالوا القتل والصلب وصلا إلى الاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة
وقالت اليعقوبية القتل واللصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب وهو المراد من قوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ
القول الثاني أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود وفيه وجهان الأول أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره الثاني قال السدي إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من

الحواريين في بيت فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فذلك اختلافهم فيه
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا العمل بالقياس اتباع للظن واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ لا يَخْرُصُونَ ( الأنعام 116 ) وقال في آية أخرى وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( يونس 36 ) وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم
والجواب لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً لا مظنوناً وهذا الكلام له غور وفيه بحث
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
واعلم أن هذا اللفظ يحتمل وجهين أحدهما يقين عدم القتل والآخر يقين عدم الفعل فعلى التقدير الأول يكون المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام بلحين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا والاحتمال الأول أولى لأنه تعالى قال بعده بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل
أما قوله بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو والكسائي بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بإدغام اللام في الراء والباقون بترك الإدغام حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى ترك الإدغام
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بقوله تعالى بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ في إثبات الجهة
والجواب المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( البقرة 210 ) وقال تعالى وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 100 ) وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة وقال إبراهيم إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 )
المسألة الثالثة رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية ونظير هذه الآية قوله في آل عمران إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب

ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
والمراد من العزة كمال القدرة ومن الحكمة كمال العلم فنبجه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمعتذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي وهو نظير قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) فإن الإسراء وإن كان متعذراً بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه ثم قال تعالى
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بيّن تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداواته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
واعلم أن كلمة ءانٍ بمعنى ( ما ) النافية كقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) فصار التقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام
والجواب من وجهين الأول ما روي عن شهر بن حوشب قال قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به فيقول آمنت أنه عبدالله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبدالله فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان فاستوى الحجاج جالساً وقال عمن نقلت هذا فقلت حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال لقد أخذتها من عين صافية وعن ابن عباس أنه فسّره كذلك فقال له عكرمة فإن خر من سفق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به ويدل عليه قراءة أُبي إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحداً يصلح للجميع قال صاحب ( الكشاف ) والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان
والوجه الثاني في الجواب عن أصل السؤال أن قوله قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى والمراد أن

أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لا بدّ وأن يؤمنوا به قال بعض المتكلمين إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبياً ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء وهذا الاشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعند مبعثه انتهت تلك المدة فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قيل يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكذلك كل نبي شاهد على أمته ثم قال تعالى
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما شرح فضائح أعمال اليهود وقبائح الكافرين وأفعالهم ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما تشديده عليهم في الدنيا فهو أنه تعالى حرّم عليهم طيبات كانت محللة لهم قبل ذلك كما قال تعالى في موضع آخر وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) ثم إنه تعالى بيّن ما هو كالعلة الموجبة لهذه التشديدات
واعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين الظلم للخلق والإعراض عن الدين الحق أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ونظيره قوله تعالى سَمَّاعُونَ الْكَذِبَ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( المائدة 43 ) فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدنم ذكره من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم
لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من ذلك عبدالله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و يُؤْمِنُونَ خبره وأما قوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ففيه أقوال الأول روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها
واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه الثاني وهو قول البصريين أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة قالوا إذا قلت مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد ولك أن تنصبه على تقدير أعني وءن شئت رفعت على تقدير هو الكريم وعلى هذا يقال جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية أعني المقيمين اللاة وهم المؤتون الزكاة طعن الكسائي في هذا القول وقال النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وههنا لم يتم الكلام لأن قوله لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ منتظر للخبر والخبر هو قوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
والجواب لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله أُوْلَائِكَ لأنا بينا أن الخبر هو قوله يُؤْمِنُونَ وأيضاً لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر وما الدليل على امتناعه فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية
والقول الثالث وهو اختيار الكسائي وهو أن المقيمين خفض بالعطف على ( ما ) في قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمعنى والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة ثم عطف على قوله وَالْمُؤْمِنُونَ قوله وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة قال تعالى في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذكر أعداداً منهم وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 73 ) وقيل المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون فقوله يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يعني يؤمنون بالكتب وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ يعني يؤمنون بالرسل الرابع جاء في مصحف عبدالله بن مسعود إِلَى الصَّلَواة ِ بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي
المسألة الثانية اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام الأول العلماء بأحكام الله تعالى فقط والثاني العلماء بذات الله وصفات الله فقط والثالث العلماء بأحكام الله وبذات الله أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتاليفه وشرائعه وأما الثاني فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة وأما الثالث فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء )
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصفهم

بكونهم راسخين في العلم ثم شرح ذلك فبيّن أولاً كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة والزكاة أشرف الطاعات المالية ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والعلم بالمعاد هو المراد من قوله وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة ثم أخبر عنهم بقوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد وللجاج وحكى أنواعاً كثيرة من فضائحهم وقبائحهم وامتد الكلام إلى هذا المقام شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ والمعنى أنا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين وما أنزل الله على كل واحد من أنواع المعجزات عليهم علمنا أن هذه الشبهة زائلة وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل وتحقيق القول فيه أن

إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزاً آخر وهذا الجواب المذكور ههنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني أنك إنما ادعيت الرسالة والرسول لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه وذلك قد حصل وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود وهو المقصود الأصلي من هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) أي أشار إليهم وقال وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى ( المائدة 111 ) وقال وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام
المسألة الثالثة قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام ثم قال تعالى وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ ثم خصّ بعض النبيّين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى عليه السلام إثنا عشر ولم يذكر موسى معهم وذلك لأن اليهود قالوا إن كنت يا محمد نبياً فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الأثنى عشر كلهم كانوا أنبياءً ورسلاً مع أن واحداً منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله وهذا إلزام حسن قوي
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الزبور الكتاب وكل كتاب زبور وهو مفعول بمعنى مفعول كالرسول والركوب والحلوب وأصله من زبرت بمعنى كتبت وقد ذكرنا ما فيه عند قوله جَاءوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( آل عمران 184 )
المسألة الخامسة قرأ حمزة زَبُوراً بضم الزاي في كل القرآن والباقون بفتحها حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل ثم استعمل في المفعول كقولهم ضرب الأمير ونسج فلان فصار اسماً ثم جمع على زبر كشهود وشهد والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب فعلى هذا الزبور الكتاب والزبر بضم الزاي الكتب أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر والقراءة بها أكثر
ثم قال تعالى وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ

وأعلم أنه انتصب قوله رُسُلاً بمضمر يفسره قوله قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل
ثم قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف الطعن في نبوّة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب لا على هذا الوجه وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقال بعضهم وكلم الله معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وهذا تفسير باطل
ثم قال تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله رُسُلاً وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الأوجه أن ينتصب على المدح والثاني أنه انتصب على البدل من قوله وَرُسُلاً الثالث أن يكون التقدير أوحينا إليهم رسلاً فيكون منصوباً على الحال والله أعلم
المسألة الثانية أعلم أن هذا الكلام أيضاً جواب عن شبهة اليهود وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتمّ المطلوب وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوباف في الألواح أو لم يكن وبأن يكون نازلاً دفعة واحدة أو منجماً مفرقاً بل لو قيل إن إنزال الكتاب منجماً مفرقاً أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف أما إذا نزل الكتاب منجماً مفرقاً لم يكن كذلك بل ينزل التكاليف شيئاً فشيئاً وجزءاً فجزءاً فحينئذٍ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا لجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك فكان اقتراح اليهود في أنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحاً فاسداً وهذا أيضاً جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن ثم ختم الآية بقوله وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار وللجاج والله أعلم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات ونظيره قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسرار 15 ) وقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )

المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب وأن الذي يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل وذلك يبطل قول أهل السنة
والجواب المراد لئلا يكون للناس على لله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم قالت المعتزلة وتدل هذه الآية أيضاً على أن تكليق ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذراً فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحاً لأن يكون عذراً كان أولى وجوابه المعرضة بالعلم والله أعلم
لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى أعلم أن قوله لَكِنِ لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق وفي ذلك المستدرك قولان الأول أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء ( النساء 153 ) وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتاباً نازلاً عليهم من السماء فكأنه قيل إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء الثاني أنه تعالى لما قال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( النساء 163 ) قال القوم نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
المسألة الثانية شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته فكان ذلك معجزاً وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي يشهد لك بالنبوّة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك
ثم قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة فصار قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ جارياً مجرى قول القائل كتبت بالقلم وقطعت بالسكين والمراد من قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفشل والعلم إذا صنف كتاباً واستقصى في تحريره إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا ههنا والله أعلم

المسألة الثانية قال أصحابنا دلت الآية على أن لله تعالى علماً وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال
ثم قال وَالْمَلَئِكَة ُ يَشْهَدُونَ وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد به بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول والمقصود كأنه قيل يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك ومن صدقه ربّ العالمين وملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وهم هؤلاء اليهود
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً والمعنى وكفى الله شهيداً وقد سبق الكلام في مثل هذا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
أعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم لو كان رسولاً لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى وقولهم إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة وقولهم إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود وقوله قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً وذلك لأن أشد الناس ضلالاً من كان ضالاً ويعتقد في نفسه أنه محق ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه ثم إنه يبل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات فلهذا قال تعالى في حقهم قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ محمداً بكتمان ذكر بعثته وصلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وأعلم أنا إن حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة ثم قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انتصب خالدين على الحال والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه

بمنزلة نعاقبهم خالدين وانتصب أَبَدًا على الظرف وكان ذلك على الله يسيراً والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئاً بعد شيء إلى غير النهاية يسيراً عليه وإن كان معتذراً على غيره
ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
أعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة اليهود على الوجوه الكثيرة وبيّن فساد طريقتهم ذكر خطاباً عاماً يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فقال يَسِيراً يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ مِن رَّبّكُمْ وهذا الحق فيه وجهان الأول أنه جاء بالقرآن القرآن معجز فيلزم أنه جاء بالحق من ربه والثاني أنه جاء بالدعوة إلى عبادة الله والاعراض عن غيره والعقل يدل على أن هذا هو الحق فيلزم أنه جاء بالحق من ربه
ثم قال تعالى يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ يعين فآمنوا يكن ذلك الإيمان خيراً لكم مما أنتم فيه أي أحمد عقبة من الكفر وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء ويحتمل أن يكون المراد فإن ( صلى الله عليه وسلم ) ما في السموات والأرض ومن كان كذلك كان قادراً على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم ويحتمل أن يكون المراد أنكم إن كفرتم فله ملك السموات والأرض وله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي عليماً لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء و حَكِيماً لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن وهو كقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم فلهذا قال النصارى لا تغلوا في دينكم وقوله ولا تقولوا على الله إلا الحق يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه ونزهوه عن هذه الأحوال ولما منهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده
وأما وقوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فاعلم أنا فسرنا الكلمة في قوله تعالى إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح آل عمران 45 والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون آل عمران 59 وأما قوله وروح منه ففيه وجوه الأول أنه جرت عادة الناتس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح والمراد من قوله منه التشريف والتفضيل كما يقال هذه نعمة من الله والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة الثاني أنه كانم سببا لحياة الخلق في أديانهم ومن كان كذلك وصف بأنه روح قال تعالى في صفة القرآن وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا الشورى 52 الثالث روح منه أي رحمة منه قيل في تفسير قوله تعالى وأيدهم بروح منه المجادلة 22 أي برحمة منه وقال عليه الصلاة والسلام { إنما رحمة مهداة } فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه الرابع أن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا الخامس قوله روح أدخل التنكير في لفظ روح وذلك يفيد التعظيم فكان المعنى وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية وقوله منه إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم

ثم قال تعالى فآمنوا بالله ورسله أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها
ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم زفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجواهر ثلاثة بالأقانيم
واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا والذي يتحصل منه أهم أثبوت ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات غلا أنهم في الحقيقة يثبتون دوات متعددة قائمة بأنفسها وذلك محض الكفر فلهذا المعنى قال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة فهذا لا يمكن إنكاره وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك فلو كان القول بتعدد الصفات كفرا لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه تعالى قادرا أو حيا
المسألة الثانية قوله ثلاثة خبر مبتدأ محذوف ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه الأول ما ذكرناه أي ولا تقولوا الأقاليم ثلاثة الثاني قال الزجاج ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون إن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة والدليل عليه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله المائدة 116 الثالث قال الفراء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة الكهف 22 زذلك لأن عيسى بن مريم مع الله تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما ألهين وبالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى
ثم قال تعالى انتهوا خير لكم وقد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله فآمنوا خيرا لكم النساء 170
ثم أكد التوحيد بقوله إنما الله إله واحد ثم نزه نسه عن الولد بقوله سبحانه أن يكون له ولد ودلائل تنزيه الله عن الولد فد ذكرناها في سورة آل عمران وفي سورة مريم على الاستقصاء وقرأ الحسن إن يكون بكسر الهمزة من أن ورفع النون من يكون أي سبحانه ما يكون له ولد وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان
ثم قال تعالى له ما في السموات والأرض
واعلم أنه سبحانه في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السموات وما في الأرض فقال في مريم إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا مريم 93 والمعنى من كان مالكا لكل السموات والأرض ولكل ما فيها كان مالكا لعيسى ولمريم لأنهما كانا في السموات وفي الأرض وما كانا أعظم من عيرهما في الذوات والصفات وإذا كان مالكا لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكا

لهما أولى وإذا كانا مملوكين له فكيف مع هذا توهم كونهما له ولدا وزوجة
ثم قال وكفى بالله وكيلا والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات كان كافيا في الإلهية ولو فرضنا إلها معه آخر معه لكان معطلا لا فائدة فيه وذلك نقص والناقص لا يكون إلها
ثم قال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج لن يستنكف أي لن يأنف وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك فتأويل لن يستنكف أي لن يتنغص ولن يمتنع وقال الأزهري سمعت المنذري يقول سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال هو من النكف يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف والنكف أن يقال له سوء واستنكف إذا وفع ذلك السوء عنه
المسألة الثانية روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي سيء قلت قالوا تقول إنه عبد الله ورسوله قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله فنزلت هذه الآية وأنا أقول إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله ولا يجوز أن يكون ابنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى
المسألة الثالثة استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم البقرة 34 وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة والذي نقول ههنا إنا نسلن أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر كيف ويقال إن جبريل قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر وهذه الآية لا تدل على ذلك البتة وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العلم وفي هذه القدرة من البشر ونحن نقول بموجبه فأما أن يقال المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية سؤال وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير ولا

الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز
والجواب فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين والثاني أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قول عبدا لله عليه على طريق الإيجاز
المسألة الخامسة قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيد الله على التصغير
المسألة السادسة قوله ولا الملائكة المقربون يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله وإذا قال ربك للملائكة البقرة 30
ثم قال تعالى ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا والمعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين
فقال فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ثم ذكر آخرا عقاب المستنكفين المستكبرين
فقال وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا والمعنى ظاهر لا إشكال فيه وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين لأنهم إذا رأوا أولا ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
واعلم أنه تعالى لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجااب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام فقال نَصِيراً يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه برهاناً لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل والنور المبين هو القرآن وسماه نوراً لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولاً وكون القرآن كتاباً حقاً أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووعدهم عليه بالثواب فقال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزع الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً فوعد بأمور ثلاثة الرحمة

والفضل والهداية قال ابن عباس الرحمة الجنة والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً يريد ديناً مستقيماً
وأقول الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيهاً على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَة ً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلاً للأول ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين قال أهل العلم إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة والأخرى في الصيف وهي هذه الآية ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد ثم قال إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد
واعلم أن ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث الأول أن ظاهر الآية يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن فإن كان له بنت فإن الأخت تأخذ النصف الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد وذلك أن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع الثالث أن قوله وَلَهُ أُخْتٌ المراد منه الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم قد بيّن الله حكمه في أول السورة بالإجماع
ثم قال تعالى وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد إلاّ أن هذا الأخ من الأب والأم أو من الأب أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث
ثم قال تعالى فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ

وهذه الآية دالة على أن الأخت المذكورة ليست هي الأخت من الأم فقط وروي أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته ألا أن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض فأولها في الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام
ثم قال تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وفيه وجوه الأول قال البصريون المضاف هاهنا محذوف وتقديره يبين الله لكمم كراهة أن تضلوا إلاّ أنه حذف المضاف كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) الثاني قال الكوفيون حرف النفي محذوف والتقدير يبين الله لكم لئلا تضلوا ونظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) أي لئلا تزولا الثالث قال الجرجاني صاحب ( النظم ) يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجنبوها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ فيكون بيانه حقاً وتعريفه صدقاً
واعلم أن في هذه الصورة لطيفة عجيبة وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ( النساء 1 ) وهذا دال على سعة القدرة وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإل هية والجلالة والعزة وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاً للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف
قال المصنف فرغت من تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة خمس وتسعين وخمسمائة

سورة المائدة
مدنية وآياتها مائة وعشرون
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاٌّ نْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ في الآية مسائل
المسألة الأولى يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ( البقرة 177 ) والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام والعهد إلزام والعقد التزام على سبيل الأحكام ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان فلهذا قال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق
واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية وكما في قوله وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( المائدة 89 ) وتارة عهوداً قال تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( النحل 91 ) وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلاً وتركاً

المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا وقال أبو حنيفة رحمه الله بل يصح حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد ونذر ذبح الولد وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد والآتي بالمركب يكون آتياً بكل واحد من مفرديه فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزماً للصوم والذبح
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ولقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 ) ولقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ف بنذرك ) أقصء ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح واقعاً في الولد إلاّ أن العام بعد التخصيص حجة وحجة الشافعي رحمه الله أن هذا نذر في المعصية فيكون لغواً لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا نذر في معصية الله )
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رحمه الله خيار المجلس غير ثابت وقال الشافعي رحمه الله ثابت حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا )
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله الجمع بين الطلقات حرام وقال الشافعي رحمه الله ليس بحرام حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم
قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ
إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر والأنعام هي الإبل والبقر والغنم قال تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء إلى قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ( النحل 5 8 ) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 71 72 ) وقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ

إلى قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وإلى قوله وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( للأنعام 142 144 ) قال الواحدي رحمه الله ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء
إذا عرفت هذا فنقول في لفظ الآية سؤالات الأول أن البهيمة اسم الجنس والأنعام اسم النوع فقوله بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يجري مجرى قول القائل حيوان الإنسان وهو مستدرك الثاني أنه تعالى لو قال أحلت لكم الأنعام لكان الكلام تاماً بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( الحج 30 ) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية الثالث أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان ولفظ الأنعام بلفظ الجمع فما الفائدة فيه
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان وهذه الإضافة بمعنى مِنْ كخاتم فضة ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا نفس الشيء وذاته وعينه الثاني أن المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة الثاني أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال هذا من بهيمة الأنعام وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمه
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم
المسألة الثانية قالت الثنوية ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح والقبيح لا يرضى به الإل ه الرحيم الحكيم فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله قالوا والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها وهذا كالمكابرة في الضروريات وقالت المعتزلة لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً قالوا والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة فكذلك القول في الذبح وقال أصحابنا إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثالثة قال بعضهم قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ مجملل لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بدّ من إضمار فعل وليس إضمار بعض

الأفعال أولى من بعض فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة إلاّ أن قوله تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( النحل 5 ) دل على أن المراد بقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ ألحق به نوعين من الاستثناء الأول قوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً أيضاً إلاّ أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ( المائدة 3 ) ووجه هذا أن قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة
النوع الثاني من الاستثناء قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها فعرفنا أن ما كان منها صيداً فإنه حلال في الإحلال فون الإحرام وما لم يكن صيداً فإنه حلال في الحالين جميعاً والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما يقال أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم كما يقال أجنب فهو مجنب وجنب ويستوي فيه الواحد والجمع يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب قال تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ ( المائدة 65 )
وأعلم أنا إذا قلنا أحرم الرجل فله معنيان الأول هذا والثاني أنه دخل الحرم فقوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ يشتمل على الوجهين فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرماً بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء
المسألة الثالثة أعلم أن ظاهر لآية يقتضي أن لصيد حرام على المحرم ونظير هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ فإن إِذَا للشرط والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء إلا أنه تعالى بيّن في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فصارت هذه الآية بياناً لتلك الآيات المطلقة
المسألة الرابعة انتصب غَيْرِ على الحال من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ كما تقول أحل لكم الطعام غير معتدين فيه قال الفرّاء هو مثل قولك أحل لك الشيء لا مفرطاً فيه ولا متعدياً والمعنى أحلت لكم بهيمة

الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذ كنتم محرمين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض فلو قال قائل ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ
قوله تعالى حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ
أعلم أنه تعالى لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ
وأعلم أن الشعائر جمع والأكثرون على أنها جمع شعيرة وقال ابن فارس واحدها شعارة والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة والمشعرة المعلمة والأشعار الأعلام وكل شيء أشعر فقد أعلم وكل شيء جعل علماً على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدايا واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله وفيه قولان الأول قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين ويقرب منه قول الحسن شعائر الله دين الله والثاني أن المراد منه شيء خاص من التكاليف وعلى هذا القول فذكروا وجوهاً الأول المراد لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد والثاني قال ابن عباس إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ الثالث قال الفراء كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما فأنزل الله تعالى لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتما الرابع قال بعضهم الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى وهو قول أبي عبيدة قال ويدل عليه قوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( الحج 36 ) وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى والعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه
ثم قال تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه
وأعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه قال تعالى إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ( التوبة 36 ) فقيل هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب فقوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يجوز أن يكون إشارة إلى

جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة
ثم قال تعالى وَلاَ الْهَدْى َ قال الواحدي الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة واحدها هدية بتسكين الدال ويقال أيضاً هدية وجمعها هدى قال الشاعر
حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات ونظير هذه الآية قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) وقوله وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( الفتح 25 )
ثم قال تعالى وَلاَ الْقَلَائِدَ والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة وفي التفسير وجوه الأول المراد منه الهدى ذوات القلائد وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) كأنه قيل والقلائد منها خصوصاً الثاني أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى ولا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) فهنى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها الثالث قال بعضهم كانت العرب في الجاهلية موظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه إلا أن يكون مشعراً بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم أو محرماً بعمرة إلى البيت فحينئذٍ لا يتعرض له فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى
ثم قال وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ أي قوماً قاصدين المسجد الحرام وقرأ عبد الله ولا آمي البيت الحرام على الإضافة
ثم قال تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حميد بن قيس الأعرج تَبْتَغُونَ بالتاء على خطاب المؤمنين
المسألة الثانية في تفسير الفضل والرضوان وجهان الأول يبتغون فضلاً من ربهم بالتجارة المباحة لهم في جحهم كقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( البقرة 198 ) قالوا نزلت في تجاراتهم أيام الموسم والمعنى لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم فابتغاء الفضل للدنيا وابتغاء الرضوان للآخرة قال أهل العلم إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة

والوجه الثاني أن المراد بفضل الله الثواب وبالرضون أن يرضى عنهم وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما فيجوز أن يوصف بذلك بناءً على ظنه قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ ( طه 97 ) وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 )
المسألة الثالثة ااختلف الناس فقال بعضهم هذه الآية منسوخة لأن قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام وذلك منسوخ بقوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( البقرة 28 ) وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وقال الشعبي لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية وقال قوم آخرون من المفسرين هذه الآية غير منسوخة وهؤلاء لهم طريقان الأول أن الله تعالى أمرن في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين والدليل عليه أول الآية وآخرها أما أول الآية فهو قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار وأما رخر ااية فهو قوله يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا
ثم قال تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وفي مسائل
المسألة الأولى قريء وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل وقريء بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء
المسألة الثانية هذه الآية متعلقة بقوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع
المسألة الثالثة ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا بالإباحة وكذا في قوله فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ ( الجمعة 10 ) ونظيره قول القائل لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذا معطوف على قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ إلى قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به وليس للناس أن يعين بعضهم بعضاً على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضاً على ما فيه البر والتقوى فهذا هو المقصود من الآية

المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) جَرَمَ يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد وتارة إلى إثنين تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه ويقال أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولهم أكسبته ذنباً وعليه قراءة عبد الله وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين والثاني أن تعتدوا والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه
المسألة الثالثة الشنآن البغض يقال شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ
ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها ويقال رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان ويقال شنآن بغير صرف وفعلان قد جاء وصفاً وقد جاء مصدراً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى والباقون بالفتح قالوا والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفاً قال الواحدي ومما جاء مصدراً كقولهم لويته حقه ليانا وشنان في قول أبي عبيدة وأنشد للأحوص
وإن غاب فيه ذو الشنان وفندا
فقوله ذو الشنان على التخفيف كقولهم إني ظمان وفلان ظمان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها
المسألة الخامسة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن صَدُّوكُمْ بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف يعني لأن صدوكم قال محمد بن جرير الطبري وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة وهذه السورة نزلت بعد الحديبية وكان هذا الصد متقدماً لا محالة على نزول هذه الآية
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ والمراد منه التهديد والوعيد يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئاً من محارمه إن الله شديد العقاب لا يطيق أحد عقابه
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاٌّ زْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ
إعلم أنه تعالى قال في أول السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ ( المائدة 1 ) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم وهي أحد عشر نوعاً الأول الميتة وكانوا

يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله
وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول لأن الدم جوهر لطيف جداً فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة والثاني الدم قال صاحب ( الكشاف ) كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف فالله تعالى حرم ذلك عليهم والثالث لحم الخنزير قال أهل العلم الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي فلا بدّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان الرابع ما ى هل لغير الله به والإهلال رفع الصوت ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك والخامس المنخنقة يقال خنقة فاختنق والخنق والاختناق انعصار الحلق
وأعلم أن المنخنقة على وجوه منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها ومنها ما يخنق بحبل الصائد ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام
وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه والسادس الموقوذة وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات وهي أيضاً في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها السابع المتردية والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك قال تعالى لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ( الليل 11 ) أي وقع في النار ويقال فلان تردى من السطح فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت وهذا أيضاً من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم والثامن النطيحة وهي المنطوحة إلى أن ماتت وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما وهذا أيضاً داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم
وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل
فإن قيل لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة كقولهم كف خضيب ولحية دهين وعين كحيل
قلنا إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة والتاسع قوله

وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ذَكَّيْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها مثل الأسد وما دونه ويجوز التخفيف في سبع فيقال سبع وسبعة وفي رواية عن أبي عمرون السبع بسكون الباء وقرأ ابن عباس وأكيل السبع
المسألة الثانية قال قتادة كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى وفي الآية محذوف تقديره وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له وإنما الحكم للباقي
المسألة الثالثة أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه ومنه الذكاء في السن وقيل جري المذكيات غلاب أي جري المسنات التي قد أسنت وتأويل تمام السن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها
إذا عرفت هذا الأصل فنقول الاستثناء المذكور في قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ فيه أقوال الأول أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله وَالْمُنْخَنِقَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك إو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه
والقول الثاني أن هذا الاستثناء مختص بقوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
والقول الثالث أنه استثناء منقطع كأنه قيل لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال
والقول الرابع أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعاً أيضاً العاشر من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى النصب يحتمل أن يكون جمعاً وأن يكون واحداً فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه الأول أن واحده نصاب فقولنا نصاب ونصب كقولنا حما وحمر الثاني أن واحده النصب فقولنا نصب ونصب كقولنا سقف وسقف ورهن ورهن وهو قول ابن الأنباري والثالث أن واحدة النصبة قال الليث النصب جمع النصبة وهي علامة تنصب لقوم أما إن قلنا أن النصب واحد فجمعه أنصاب قفولنا نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب قال الأزهري وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه
لعاقبة والله ربك فاعبدا المسألة الثانية من الناس من قال النصب هي الأوثان وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وذلك هو الذبح على اسم الأثان ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه وقال ابن جريج النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا

ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظنون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينكره فأنزل الله تعالى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ( الحج 37 )
واعلم أن مَا في قوله وَمَا ذُبِحَ في محل الرفع لأنه عطف على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
واعلم أن قوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فيه وجهان أحدهما وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب والثاني وما ذبح للنصب و ( اللام ) و ( على ) يتعاقبان قال تعالى فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) أي فسلام عليك منهم وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) أي فعليها
النوع الحادي عشر قوله تعالى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاْزْلاَمِ قال القفال رحمه الله ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح وكانوا قد كتبوا على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح الثاني قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه والأزلام قداح الميسر والقول الأول اختيار الجمهور
المسألة الثانية الأزلام القداح واحدها زلم ذكره الأخفش وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت ويقال رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفاً قليل العلائق ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته وما أحسن ما زلم سهمه أي سواه ويقال لقوائم البقر أزلام شبهت بالقداح للطافتها
ثم قال تعالى ذالِكُمْ فِسْقٌ وفيه وجهان الأول أن يكون راجعاً إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصراً عليه والثاني أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم فمن خالف فيه راداً على الله تعالى كفر
فإن قيل على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقاً أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب الفأل وهذا أيضاً من جملة الفأل فلم صار فسقاً
قلنا قال الواحدي إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام لقوله تعالى وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ( لقمان 34 ) وقال قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( النمل 65 ) وروى أبو الدرداء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة )
ولقائل أن يقول لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلباً لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم

التعبير غيباً أو كفراً لأنه طلب للغيب ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفراً لأنه طلب للغيب ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً ومعلوم أن ذلك كله باطل وأيضاً فالآيات إنما وردت في العلم والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علماً وإنما يستفيد من ذلك ظناً ضعيفاً فلم يكن ذلك داخلاً تحت هذه الآيات وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم فلهذا السبب كان ذلك فسقاً وكفراً وهذا القول عندي أولى وأقرب
قوله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله ذالِكُمْ فِسْقٌ والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ونظيره قوله كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ولا باليوم يومك الذي أنت فيه
والقول الثاني أن المراد به يوم نزول هذه الآية وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفات على ناقته العضباء
المسألة الثانية قوله يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة والثاني يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان وهو قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهذا القول أولى

المسألة الثالثة قال قوم الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أن قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقتضي أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أن الدين الذي كان ( صلى الله عليه وسلم ) مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوهاً الأول أن المراد من قوله أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهراً كلياً اليوم كمل ملكنا وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصاً الثاني أن المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز الثالث وهو الذي ذكره القفال وهو المختار أن الدين ما كان ناقصاً البتة بل كان أبداً كاملاً يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم وأما في رخر زمان المبعث فأنزل الله سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
المسألة الثانية قال نفاة القياس دلت الآية على أن القياس بالطل وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملاً وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثاً وإن كان على خلافه كان باطلاً
أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بياناً لكل الأحكام وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالاً للدين قال نفاة القياس الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحداً والمخالف يكون مستحقاً للعقاب وينقض

قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكيناً لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالاً للدين بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات قال مثبتو القياس إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالاً للدين ويكون كل مكلف قاطعاً بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة وذلك لأنه تعالى بيّن أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين وأكد ذلك بقوله فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصاً عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) نصاً واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه ولما لم يكن الأمر كذلك بل لم يجر لهذا النص ذكر ولا ظهر منه خبر ولا أثر علمنا أن ادعاء هذا النص كذب وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصاً عليه بالإمامة
المسألة الرابعة قال أصحاب الآثار إنه لما نزلت هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قرب وفاته وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً ومما يؤكد ذلك ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فكان ذلك دليلاً على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره
المسألة الخامسة قال أصحابنا دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضاً منه
واعلم أنا سواء قلنا الدين عبارة عن العمل أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر
وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز
ثم قال تعالى وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام
واعلم أن هذه الآية أيضاً دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى وذلك لأنا نقول الدين الذي هو الإسلام نعمة وكل نعمة فمن الله فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله
إنما قلنا إن الإسلام نعمة لوجهين الأول الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم الحمد لله على نعمة الإسلام

والوجه الثاني أنه تعالى قال في هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ذكر لفظ النعمة مبهمة والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ
قلنا أما الأول فقد عرف بقوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فحمل هذه الآية عليه أيضاً يكون تكريراً
وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماماً للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة فثبت أن دين الإسلام نعمة
وإاذ ثبت هذا فنقول كل نعمة فهي من الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده
ثم قال تعالى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
ثم قال تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار ومن قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض وقع في البين والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة والمخمصة المجاعة قال أهل اللغة الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن يقال رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات وقوله غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ أي غير متعمد وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ( البقرة 182 ) أي ميلاً فقوله غير مُتَجَانِفٍ أي غير مائل وغير منحرف ويجوز أن ينتصب غَيْرِ بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف ويجوز أن ينصب بقوله اضْطُرَّ ويكون المقدر متأخراً على معنى فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذاً وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصياً بسفره وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) وقوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وهذا أيضاً متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في السؤال معنى القول فلذلك وقع بعده مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كأنه قيل يقولون لك ماذا أحل لهم وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك بل إنما يقولون ماذا أحل لنا بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم بل هو بيان لكيفية الواقعة
المسألة الثانية قال الواحدي مَاذَا إن جعلته اسماً واحداً فهو رفع بالابتداء وخبره أَحَلَّ وإن شئت جعلت مَا وحدها اسماً ويكون خبرها ذَا و أَحَلَّ من صلة ذَا لأنه بمعنى ما الذي أحل لهم
المسألة الثالثة أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال وأكد هذه الآية بقوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وبقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 )
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ والحلال المأذون فيه يسمى أيضاً طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات وإلا لصار تقدير الآية قل أحل لكم المحلللات ومعلوم أن هذا ركيك فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى فصار التقدير أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلاً كبيراً وقانون مرجوعاً إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب والعلم به ضروري وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح وعند أبي حنيفة حرام حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ فوجب أن يحل لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ويدل أيضاً على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر وقد حصل ذلك في الخيل فوجب أن تكون مذكاة فوجب أن تحل لعموم قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضاً حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسياً فهي مذكاة وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءاً من ماهية الذكاة وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكناً فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ومنها أن لحم الحمر الأهلية

مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر
ثم قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول أن فيها إضماراً والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه وهو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الثاني أن يقال إن قوله وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ ابتداء كلام وخبره هو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار
المسألة الثانية في الجوارح قولان أحدهما أنها الكواسب من الطير والسباع واحدها جارحة سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب قال تعالى الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ ( الجاثية 21 ) أي اكتسبوا وقال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 ) أي ما كسبتم والثاني أن الجوارح هي التي تجرح وقالوا أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل
المسألة الثالثة نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله وتمسكوا بقوله تعالى مُكَلّبِينَ قَالُواْ لاِنْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به كالفهد والسباع من الطير مثل الشاهين والباشق والعقاب قال الليث سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى مُكَلّبِينَ من وجوه الأول أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه الثاني أن كل سبع فإنه يسمى كلباً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد ) الثالث أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة يقال فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه والرابع هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز وهو غير مذكور في الآية والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة لأنه تعالى قال وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لعدي بن حاتم ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ) قال الشافعي رحمه الله والكلب لا يصير معلماً إلاّ عند أمور وهي إذا أرسل استرسل وإذا أخذ حبس ولا يأكل وإذا دعاه أجابه وإذا أراده لم يفر منه فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ولم يذكر رحمه الله فيه حداً معيناً بل قال أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات وقال الحسن البصري رحمه الله يصير معلماً بمرة واحدة وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلماً بتكرير ذلك مرتين وهو قول أحمد رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يصير معلماً بثلاث مرات

المسألة الخامسة الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم ومؤدب صاحب التأديب قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء مكلبين بالتخفيف وأفعل وفعل يشتركان كثيراً
المسألة السادسة انتصاب مكلبين على الحال من عَلِمْتُمُ
فإن قيل ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم
قلنا فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم
ثم قال تعالى اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعمل أنه إذا كان الكلب معلماً ثم صاد صيداً وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال وجرح الجارحة الكذبح وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة وكذا في السهم والرمح أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم لا يجوز أكله لأنه ميتة وقال آخرون يحل لدخوله تحت قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهذا كله إذا لم يأكل فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل وهو أظهر أقوال الشافعي قالوا لأنه أمسك الصيد على نفسه والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه ويدل عليه أيضاً ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعدي ابن حاتم ( إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئاً فإنما أمسك على نفسه وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية مِنْ في قوله مِمَّا أَمْسَكْنَ فيه وجهان الأول أنه صلة زائدة كقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ( الأنعام 141 ) والثاني أنه للتبعيض وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل الثاني أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالاً قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وفيه أقوال الأول أن المعنى سم الله إذا أرسلت كلبك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ) وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله عَلَيْهِ عائد إلى مَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ أي سموا عليه عند إرساله

القول الثاني الضمير عائد إلى ما أمسكن يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته الثالث أن يكون الضمير عائداً إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله على الأكل روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمر بن أبي سلمة ( سم الله وكل مما يليك )
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامداً يحل أكله فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام وإن حملناه على الأول والثالني كان المراد من الأمر الندب توفيقاً بينه وبين النصوص الدالة على حله وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 )
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم ثم أعاد ذكره في هذه الآية والغرض من ذكره أنه قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا ومنها إحلال الطيبات والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة
ثم قال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة الأول أنه الذبائح يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر وبه أخذ الشافعي رحمه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله
والوجه الثاني أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية والثالث أن المراد جميع المطعومات والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه أحدها أن الذبائح هي التي تصير طعاماً بفعل الذابح فحمل قوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ على الذبائح أولى وثانيها أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة وثالثها ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66